الرافعي
2009-12-28, 07:48 PM
المــرأة والمــيــراث
مصطفى صادق الرافعي
وحي القلم ج3 ص281-283
قرأت في المقطم كلمة للكاتب المعروف سلامة موسى فيما يزعمه إجابات مختصرة عن اعتراضات تهافت بها رأيه في الدعوة إلى مساواة المرأة بالرجل في الميراث ، وهو ينصح لمن يريد أن يناقشه أن يقرأ نص محاضرته في السياسة الأسبوعية .
وقد رجعت إلى نص المحاضرة فإذا الكاتب هو هو في ضعف تفكيره وسوء تقليده ، يكاد لا يميز بين الرأي الصحيح الثابت في نفسه لأنه قائم على حكمته الباعثة عليه ، وبين الرأي المتغير في كل نفس بحسبها لأنه قائم على منزع أو غفلة أو مرض في النفس .
ترى الكاتب لا يدعو إلا إلى تقليد أوروبا ، وتكاد عباراته في ذلك لا تحصى ويقول إن "المصلح المثمر عندنا هو مقلد لأوروبا لا غش في تقليده" ، فليس إلا أوروبا وتقليدها وإذا لم يكن في أوروبا قرآن ولا إسلام فالإصلاح المثمر عند الكاتب ألا يبقى من ذلك شيء . . .
"مقلد أوروبا لا غش في تقليده" ، وما هو الغش في التقليد ؟ هو أن تستعمل رأيك وفكرك فتدع وتأخذ على بينه في الحالين ، وأن تأبى أن تحمل على طبيعتك الشرقية ما لا تصلح عليه ولا تقوم به ؛ وإذا انقلبت أوروبا شيوعية أو إباحية وجب ألا نغش في التقليد ... وإذا كانت الشمس لا تطلع ستة أشهر في بعض جهات أوروبا وتطلع في مصر كل يوم وجب أن يكون المصري أعمى ستة أشهر ...
والظاهر أن الكاتب يقول بالتقليد لأنه طبيعي فيه ... ورأيه في الميراث إنما هو ترجمة ... لعمل مصطفى كمال ، وإن كان مصطفى كمال قد أصلح الترك في سنوات كما يقولون ؛ فبرهان التاريخ لا يخضع للمشنقة ولا لمحاكم الاستقلال ولا يأتي إلا في وقته الذي سيأتي فيه ، وسيرى الناس يومئذ ما يكون وهمًا مما يكون حقيقة .
ويرد الكاتب على رأي الأستاذ الأخلاقي رئيس تحرير المقطم في خشيته أن يقتصر الإصلاح على القشور دون اللباب ، فيقول إنه "معتقد أن الأمة التي تشرع في اتخاذ المدنية الحديثة يجب أن تبدأ بالقشور ... لأنها أسهل عليها من اللباب بل هي لا تستطيع غير ذلك" . أكذلك بدأت اليابان ؟ . وهل كل الطباع كطبيعة بعض الناس ، تستطيع أن تعتلف قشور المدنية ... وتنصرف إلى مداقها وسفاسفها ؟
ولا ريب أن حضرته لا يفهم الدين الإسلامي لأنه ليس من أهله ، فهو يقرنا على ذلك ، وهو بذلك يقرنا على أنه متطفل في اقتراحه ؛ وإن الذي يقرأ في محاضرته قوله: "إن الطبقة الغنية هي التي تقرر ديانة الأمة ..." يستيقن أنه لا يفهم دينًا من الأديان ، وأنه قصير النظر في أمور الاجتماع وأبواب السياسة ؛ وأنه يمينه وشماله وأمامه ووراءه إن هي إلا جهات الزمام الذي ينقاد فيه ؛ فلا شخصية له ، وإنما يتابع وينقاد للآراء التي يترجم منها بلا نقد ولا تمييز .
إن ميراث البنت في الشريعة الإسلامية لم يقصد لذاته ، بل هو مترتب على نظام الزواج فيها ، وهو كعملية الطرح بعد عملية الجمع لإخراج نتيجة صحيحة من العملين معًا ، فإذا وجب للمرأة أن تأخذ من ناحية وجب عليها أن تدع من ناحية تقابلها ؛ وهذا الدين يقوم في أساسه على تربية أخلاقية عالية ينشئ بها طباعًا ويعدل بها طباعًا أخرى ، كما بيناه في مقالنا المنشور في مقتطف هذا الشهر – فهو يربأ بالرجل أن يطمع في مال المرأة أو يكون عالة عليها ؛ فمن ثم أوجب عليه أن يمهرها وأن ينفق عليها وعلى أولادها ، وأن يدع لها رأيها وعملها في أموالها ، لا تحد إرادتها بعمله ولا بأطماعه ولا بأهوائه ؛ وكل ذلك لا يقصد منه إلا أن ينشأ الرجل عاملاً كاسبًا معتمدًا على نفسه مشاركًا في محيطه الذي يعيش فيه ، قويًا في أمانته ، منزهًا في مطامعه ، متهيئًا لمعالي الأمور ، فإن الأخلاق كما هو مقرر يدعو بعضها إلى بعض ، ويعين شيء منها على شيء يماثلها ، ويدفع قويها ضعيفها ، ويأنف عاليها من سافلها ؛ وقد قلنا مرارًا إنه لا يجوز لمتكلم أن يتكلم في حكمة الدين الإسلامي إلا إذا كان قوي الخلق ، فإنه من لا يكون الشيء في طبعه لا يفهمه إلا فهم جدل لا فهم اقتناع .
للمرأة حق واجب في مال زوجها ، وليس للرجل مثل هذا الحق في مال زوجه ؛ والإسلام يحث على الزواج ، بل يفرضه ؛ فهو بهذا يضيف إلى المرأة رجلاً ويعطيها به حقًا جديدًا ، فإن هي ساوت أخاها في الميراث مع هذه الميزة التي انفردت بها انعدمت المساواة في الحقيقة ، فتزيد وينقص ؛ إذ لها حق الميراث وحق النفقة وليس له إلا مثل حقها في الميراث إذا تساويا .
فإن قلت كما يقول سلامة موسى إن في الحق أن تنفق المرأة على الرجل وأن تدفع له المهر ثم تساويه في الميراث ، قلنا : إذا تقرر هذا وأصبح أصلاً يعمل به بطل زواج كل الفقيرات وهن سواد النسوة ، إذ لا يملكن ما يمهرن به ولا ما ينفقن منه ؛ وهذا ما يتحاماه الإسلام لأن فيه فساد الاجتماع وضياع الجنسين جميعًا ؛ وهو مفض بطبيعته القاهرة إلى جعل الزواج للساعة ولليوم وللوقت المحدود ... ولإيجاد لقطاء الشوارع ، بدلاً من أن يكون الزواج للعمر وللواجب ولتربية الرجل على احتمال المسؤولية الاجتماعية بإيجاد الأسرة وإنشائها والقيام عليها والسعي في مصالحها .
من هنا وجب أن ينعكس القياس إذا أريد أن تستقيم النتيجة الاجتماعية التي هي الغاية لا من حق الرجل ولا من حق المرأة بل من حق الأمة ؛ وما نساء الشوارع ونساء المعامل في أوروبا إلا من نتائج ذلك النظام الذي جاء مقلوبًا ، فهن غلطات البيوت المتخربة والمسؤولية المتهدمة ، وهن الواجبات التي ألقاها الرجال عن أنفسهم فوقعت حيث وقعت !
وإذا انزاحت مسؤولية المرأة عن الرجل انزاحت عنه مسؤولية النسل ، فأصبح لنفسه لا لأمته ؛ ولو عم هذا لمسخ الاجتماع وأرع فيه الهرم وأتى عليه الضعف ، وأصبحت الحكومات هي التي تستولد الناس على الطريقة التي تستنسخ بها البهائم ، وقد بدأ بعض كتاب أوروبا يدعون حكوماتهم إلى هذا الذي ابتلوا به ولا يدرون سببه وما سببه إلا ما بيّنا آنفًا .
ثم إن هناك حكمة سامية ، وهي أن المرأة لا تدع نصف حقها في الميراث لأخيها يفضلها به – بعد الأصل الذي نبهنا إليه – إلا لتعين بهذا العمل في البناء الاجتماعي ؛ إذ تترك ما تتركه على أنه لامرأة أخرى ، هي زوج أخيها ؛ فتكون قد أعانت أخاها على القيام بواجبه للأمة ، وأسدت للأمة عملاً آخر أسمى منه بتيسير زواج امرأة من النساء .
فأنت ترى أن مسألة الميراث هذه متغلغلة في مسائل كثيرة لا منفردة بنفسها ، وأنها أحكم الحكمة إذا أريد بالرجل رجل أمته وبالمرأة امرأة أمتها ، فأما إذا أريد رجل نفسه وامرأة نفسها ، وتقرر أن الاجتماع في نفسه حماقة ، وأن الحكومة خرافة ، وأن الأمة ضلالة ، فحينئذ لا تنقلب آية الميراث وحدها بل تنقلب الحقيقة .
ومما نعجب له أن سلامة موسى يتكلم في محاضرة كأن كل الوالدين ذوو مال وعقار ، فنصف الأمة على هذا محروم نصف حقه وكأنه لا يعرف أن السواد الأعظم من الناس لا يترك ما يورث ، لا على الربع ولا على النصف ؛ وأن كثيرًا ممن يموتون عن ميراث لا يحيا ميراثهم إلا أيامًا من بعدهم ، ثم يذهب في الديون ، إذ لا تركة مع دين ، وكثيرون لا يسمن ميراثهم ولا يغني ، فلم تبق إلا فتات معينة من كل أمة لا يجوز أن تنقلب من أجلها تلك الحكمة الاجتماعية التي هي من حظ الأمة كلها لقيام بعض الأخلاق عليها كما بسطناه .
ومما تشمئز له النفوس الكريمة قول المترجم في محاضرته : فلو كانت الفتيات يرثن مثل إخوتهن الذكور ، لكان (في ثروتهن) إغراء للشبان على الزواج ...
إن الدين الإسلامي لا يعرف مثل هذا الإسفاف في الخلق ولا يقره ، بل هو يهدمه هدمًا ويوجب على كل رجل أن يحمل قسطه من المسؤولية ما دام مطيقًا إن كره أو رضي ، ولعمري إن تلك الكلمة وحدها من كاتبها لهي أدل من اسم المحل على بضاعة المحل ...
مصطفى صادق الرافعي
وحي القلم ج3 ص281-283
قرأت في المقطم كلمة للكاتب المعروف سلامة موسى فيما يزعمه إجابات مختصرة عن اعتراضات تهافت بها رأيه في الدعوة إلى مساواة المرأة بالرجل في الميراث ، وهو ينصح لمن يريد أن يناقشه أن يقرأ نص محاضرته في السياسة الأسبوعية .
وقد رجعت إلى نص المحاضرة فإذا الكاتب هو هو في ضعف تفكيره وسوء تقليده ، يكاد لا يميز بين الرأي الصحيح الثابت في نفسه لأنه قائم على حكمته الباعثة عليه ، وبين الرأي المتغير في كل نفس بحسبها لأنه قائم على منزع أو غفلة أو مرض في النفس .
ترى الكاتب لا يدعو إلا إلى تقليد أوروبا ، وتكاد عباراته في ذلك لا تحصى ويقول إن "المصلح المثمر عندنا هو مقلد لأوروبا لا غش في تقليده" ، فليس إلا أوروبا وتقليدها وإذا لم يكن في أوروبا قرآن ولا إسلام فالإصلاح المثمر عند الكاتب ألا يبقى من ذلك شيء . . .
"مقلد أوروبا لا غش في تقليده" ، وما هو الغش في التقليد ؟ هو أن تستعمل رأيك وفكرك فتدع وتأخذ على بينه في الحالين ، وأن تأبى أن تحمل على طبيعتك الشرقية ما لا تصلح عليه ولا تقوم به ؛ وإذا انقلبت أوروبا شيوعية أو إباحية وجب ألا نغش في التقليد ... وإذا كانت الشمس لا تطلع ستة أشهر في بعض جهات أوروبا وتطلع في مصر كل يوم وجب أن يكون المصري أعمى ستة أشهر ...
والظاهر أن الكاتب يقول بالتقليد لأنه طبيعي فيه ... ورأيه في الميراث إنما هو ترجمة ... لعمل مصطفى كمال ، وإن كان مصطفى كمال قد أصلح الترك في سنوات كما يقولون ؛ فبرهان التاريخ لا يخضع للمشنقة ولا لمحاكم الاستقلال ولا يأتي إلا في وقته الذي سيأتي فيه ، وسيرى الناس يومئذ ما يكون وهمًا مما يكون حقيقة .
ويرد الكاتب على رأي الأستاذ الأخلاقي رئيس تحرير المقطم في خشيته أن يقتصر الإصلاح على القشور دون اللباب ، فيقول إنه "معتقد أن الأمة التي تشرع في اتخاذ المدنية الحديثة يجب أن تبدأ بالقشور ... لأنها أسهل عليها من اللباب بل هي لا تستطيع غير ذلك" . أكذلك بدأت اليابان ؟ . وهل كل الطباع كطبيعة بعض الناس ، تستطيع أن تعتلف قشور المدنية ... وتنصرف إلى مداقها وسفاسفها ؟
ولا ريب أن حضرته لا يفهم الدين الإسلامي لأنه ليس من أهله ، فهو يقرنا على ذلك ، وهو بذلك يقرنا على أنه متطفل في اقتراحه ؛ وإن الذي يقرأ في محاضرته قوله: "إن الطبقة الغنية هي التي تقرر ديانة الأمة ..." يستيقن أنه لا يفهم دينًا من الأديان ، وأنه قصير النظر في أمور الاجتماع وأبواب السياسة ؛ وأنه يمينه وشماله وأمامه ووراءه إن هي إلا جهات الزمام الذي ينقاد فيه ؛ فلا شخصية له ، وإنما يتابع وينقاد للآراء التي يترجم منها بلا نقد ولا تمييز .
إن ميراث البنت في الشريعة الإسلامية لم يقصد لذاته ، بل هو مترتب على نظام الزواج فيها ، وهو كعملية الطرح بعد عملية الجمع لإخراج نتيجة صحيحة من العملين معًا ، فإذا وجب للمرأة أن تأخذ من ناحية وجب عليها أن تدع من ناحية تقابلها ؛ وهذا الدين يقوم في أساسه على تربية أخلاقية عالية ينشئ بها طباعًا ويعدل بها طباعًا أخرى ، كما بيناه في مقالنا المنشور في مقتطف هذا الشهر – فهو يربأ بالرجل أن يطمع في مال المرأة أو يكون عالة عليها ؛ فمن ثم أوجب عليه أن يمهرها وأن ينفق عليها وعلى أولادها ، وأن يدع لها رأيها وعملها في أموالها ، لا تحد إرادتها بعمله ولا بأطماعه ولا بأهوائه ؛ وكل ذلك لا يقصد منه إلا أن ينشأ الرجل عاملاً كاسبًا معتمدًا على نفسه مشاركًا في محيطه الذي يعيش فيه ، قويًا في أمانته ، منزهًا في مطامعه ، متهيئًا لمعالي الأمور ، فإن الأخلاق كما هو مقرر يدعو بعضها إلى بعض ، ويعين شيء منها على شيء يماثلها ، ويدفع قويها ضعيفها ، ويأنف عاليها من سافلها ؛ وقد قلنا مرارًا إنه لا يجوز لمتكلم أن يتكلم في حكمة الدين الإسلامي إلا إذا كان قوي الخلق ، فإنه من لا يكون الشيء في طبعه لا يفهمه إلا فهم جدل لا فهم اقتناع .
للمرأة حق واجب في مال زوجها ، وليس للرجل مثل هذا الحق في مال زوجه ؛ والإسلام يحث على الزواج ، بل يفرضه ؛ فهو بهذا يضيف إلى المرأة رجلاً ويعطيها به حقًا جديدًا ، فإن هي ساوت أخاها في الميراث مع هذه الميزة التي انفردت بها انعدمت المساواة في الحقيقة ، فتزيد وينقص ؛ إذ لها حق الميراث وحق النفقة وليس له إلا مثل حقها في الميراث إذا تساويا .
فإن قلت كما يقول سلامة موسى إن في الحق أن تنفق المرأة على الرجل وأن تدفع له المهر ثم تساويه في الميراث ، قلنا : إذا تقرر هذا وأصبح أصلاً يعمل به بطل زواج كل الفقيرات وهن سواد النسوة ، إذ لا يملكن ما يمهرن به ولا ما ينفقن منه ؛ وهذا ما يتحاماه الإسلام لأن فيه فساد الاجتماع وضياع الجنسين جميعًا ؛ وهو مفض بطبيعته القاهرة إلى جعل الزواج للساعة ولليوم وللوقت المحدود ... ولإيجاد لقطاء الشوارع ، بدلاً من أن يكون الزواج للعمر وللواجب ولتربية الرجل على احتمال المسؤولية الاجتماعية بإيجاد الأسرة وإنشائها والقيام عليها والسعي في مصالحها .
من هنا وجب أن ينعكس القياس إذا أريد أن تستقيم النتيجة الاجتماعية التي هي الغاية لا من حق الرجل ولا من حق المرأة بل من حق الأمة ؛ وما نساء الشوارع ونساء المعامل في أوروبا إلا من نتائج ذلك النظام الذي جاء مقلوبًا ، فهن غلطات البيوت المتخربة والمسؤولية المتهدمة ، وهن الواجبات التي ألقاها الرجال عن أنفسهم فوقعت حيث وقعت !
وإذا انزاحت مسؤولية المرأة عن الرجل انزاحت عنه مسؤولية النسل ، فأصبح لنفسه لا لأمته ؛ ولو عم هذا لمسخ الاجتماع وأرع فيه الهرم وأتى عليه الضعف ، وأصبحت الحكومات هي التي تستولد الناس على الطريقة التي تستنسخ بها البهائم ، وقد بدأ بعض كتاب أوروبا يدعون حكوماتهم إلى هذا الذي ابتلوا به ولا يدرون سببه وما سببه إلا ما بيّنا آنفًا .
ثم إن هناك حكمة سامية ، وهي أن المرأة لا تدع نصف حقها في الميراث لأخيها يفضلها به – بعد الأصل الذي نبهنا إليه – إلا لتعين بهذا العمل في البناء الاجتماعي ؛ إذ تترك ما تتركه على أنه لامرأة أخرى ، هي زوج أخيها ؛ فتكون قد أعانت أخاها على القيام بواجبه للأمة ، وأسدت للأمة عملاً آخر أسمى منه بتيسير زواج امرأة من النساء .
فأنت ترى أن مسألة الميراث هذه متغلغلة في مسائل كثيرة لا منفردة بنفسها ، وأنها أحكم الحكمة إذا أريد بالرجل رجل أمته وبالمرأة امرأة أمتها ، فأما إذا أريد رجل نفسه وامرأة نفسها ، وتقرر أن الاجتماع في نفسه حماقة ، وأن الحكومة خرافة ، وأن الأمة ضلالة ، فحينئذ لا تنقلب آية الميراث وحدها بل تنقلب الحقيقة .
ومما نعجب له أن سلامة موسى يتكلم في محاضرة كأن كل الوالدين ذوو مال وعقار ، فنصف الأمة على هذا محروم نصف حقه وكأنه لا يعرف أن السواد الأعظم من الناس لا يترك ما يورث ، لا على الربع ولا على النصف ؛ وأن كثيرًا ممن يموتون عن ميراث لا يحيا ميراثهم إلا أيامًا من بعدهم ، ثم يذهب في الديون ، إذ لا تركة مع دين ، وكثيرون لا يسمن ميراثهم ولا يغني ، فلم تبق إلا فتات معينة من كل أمة لا يجوز أن تنقلب من أجلها تلك الحكمة الاجتماعية التي هي من حظ الأمة كلها لقيام بعض الأخلاق عليها كما بسطناه .
ومما تشمئز له النفوس الكريمة قول المترجم في محاضرته : فلو كانت الفتيات يرثن مثل إخوتهن الذكور ، لكان (في ثروتهن) إغراء للشبان على الزواج ...
إن الدين الإسلامي لا يعرف مثل هذا الإسفاف في الخلق ولا يقره ، بل هو يهدمه هدمًا ويوجب على كل رجل أن يحمل قسطه من المسؤولية ما دام مطيقًا إن كره أو رضي ، ولعمري إن تلك الكلمة وحدها من كاتبها لهي أدل من اسم المحل على بضاعة المحل ...