الهزبر
2008-01-07, 03:58 PM
السلام عليكم.
الفلسـفة اللغـوية
بقلم: د.علي جمعة
مفتي الديـــــــار المصريــة
المنشور بجريدة الأهرام المصرية -الأثنين 16 أبريل 2007
تلعب الفلسفة اللغوية دورا مهما جدا في فهم التراث, بعد فهم التصور الكلي الذي سيطر علي الأذهان تلقيا وأداء وفهما للكون والإنسان والحياة, فاللغة موروث وليست مخترعا, أي إن وضع الألفاظ بإزاء المعاني أمر يرثه الإنسان ولا يصطنعه, ومن أجل ذلك كان لابد عليه أن يدرك ذلك الوضع, فيفهم دلالات الألفاظ, وقد اهتم المسلمون القدماء جدا بهذه القضية: قضية دلالات الألفاظ.
ودلالات الألفاظ جعلتهم يتكلمون عن قضية الجذور اللغوية التي هي موجودة في المعاجم, لبناء النظام الصرفي الذي يخرج من هذه الجذور الفعل الماضي, والمضارع والأمر, واسم الفاعل واسم المفعول, والمصدر, والصفة المشبهة, واسمي المكان والزمان... وسائر أنواع التصاريف اللغوية التي تستعمل في مواطن شتي, وهذا درسوه بتفصيل كبير جدا, وكشفوا من خلال هذه الدراسات أشياء كثيرة, نسميها الفلسفة اللغوية.
والحقيقة أن دراسة هذه الفلسفة اللغوية بمثل هذه الخطوات التي سوف نتعرض لها يجعل الإنسان أكثر فهما سواء للنصوص الشرعية أو للكتابات التراثية. ولنبدأ من المكون الأساس للكلمة وهو الحرف. والحرف له نوعان: حروف المباني, وحروف المعاني.
حروف المباني:
حروف المباني ثمانية وعشرون حرفا في لغة العرب, وكانت قديما مصوغة في صورة تسمي الأبجدية, لأنها كانت تبدأ بكلمة أبجد:( أبجد هوز حطي كلمن, سعفص قرشت ثخذ ضظغ), ثم تم تطويرها فيما بعد, حتي وصلنا إلي نظام يسمي النظام الهجائي أو الألفبائي, وهو النظام الذي تعلمنا عليه حديثا( أ, ب, ت, هــ, و, ي), وسمي الهجائي لأنها الحروف التي نتهجي الكلمة بها.. هذه الحروف تسمي حروف المباني, وهي لا معني لها, فالألف وحدها لا معني لها في اللغة العربية!
وبالمناسبة, تشترك اللغات السامية في اثنين وعشرين حرفا, وتنفرد العربية عن بعض اللغات السامية في ستة حروف. والأبجدية أيضا كانت تشير إلي هذا فمن( أبجد) حتي( قرشت) هذه هي الاثنان والعشرون حرفا التي تشترك فيها العربية مع العبرية والآرامية والسريانية والحبشية وهكذا. أما( ثخذ ضظغ) فتنفرد بها العربية عن اللغات الأخري. ولذلك يسمون هذه الحروف الستة بـ الحروف الروادف, لأنها مردفة أي ملحقة, وهذه الاثنان والعشرون حرفا المشتركة ـ تقريبا ـ هي الحروف اللاتينية أيضا, مع إسقاط الحاء وإضافة الثاء.
فهذه حروف المباني التي يهتم بها الذين يدرسون الأداء الصوتي ودارسو التجويد. وقد صنفها القدماء واستنبطوا لها صفات ومخارج, وحقا ومستحقا: الحق يعني إخراج الحرف من مخرجه الخاص به: من الحلق ومن وسط اللسان, ومن طرف اللسان, ومن مجموعة الأسنان, ومن الشفتين, ومن الخيشوم أو الأنف. والمستحق مراعاة موضع الحرف من الحروف المجاورة له وأثر نطق الحروف علي بعضها بعضا ولهذا, فإن من الإعجاز أن القرآن الكريم ورد إلينا بالأداء الصوتي نفسه الذي تركه لنا رسول الله صلي الله عليه وسلم, أي بالطريقة الصوتية المعينة التي تجعل كل حرف له اعتبار, وهناك جدول يحفظه رجال التجويد, وله أداءات مفردة, وأداءات مركبة, ثم يتراكب ثم نتعلم علم التجويد في أحكام التنوين والنون الساكنة وأحكام الميم والراء واللام, وحروف المد.. وغير ذلك.
فحروف المباني ـ وإن لم تكن لها معان في ذاتها ـ فإن الأداء الصوتي الصحيح لها هو من الضرورة بمكان في ثقافة أمية اعتادت علي نقل تراثها مشافهة, ونقلت بهذه الطريقة كتاب الله عز وجل وحديث رسوله صلي الله عليه وسلم, وقد ارتبطت بذلك فنون الفصاحة والخطابة والبيان في التراث الإسلامي, وهي فنون لاتزال لها مكانتها, بل وتعد من المهارات الاجتماعية والسياسية التي تدرس ويعني بها في الحضارات المختلفة.
حروف المعاني:
وهي الحروف التي يؤدي كل واحد منها معني معينا, وهي في اللغة العربية تسعون حرفا, علي خمسة أقسام:
منها ما هو حرف واحد مثل: الواو, الباء, الكاف, الفاء, اللام, ومنها ما هو حرفان مثل: من, في, عن, لن, إن, ومنها ما هو مكون من ثلاثة حروف مثل: إلي, علي, ثم, إن, ومنها المكون من أربعة مثل: لعل, كأن, ومنها ما هو من خمسة مثل: لكن( وهي تنطق: لاكن بألف مد, لا تكتب, وبشدة علي النون). وليس هناك ما هو مكون من أكثر من خمسة أحرف.
وهذه التسعون حرفا إما أن لها عملا أو ليس لها عمل, أي إما أن تؤثر فيما بعدها, أو لا تؤثر, فبعضها يجر, وبعضها ينصب, وبعضها يجزم, وبعضها لا عمل له ولا أثر, لكن الأثر شيء والمعني شيء آخر, فهذه الحروف تستعمل في ستة وخمسين معني, والمعاني الستة والخمسون منها: الابتداء, والغاية, الانتهاء, والتبعيض, والظرفية, والاستعلام, والاستفهام, والقسم, والتحضيض, والتمني, والترجي, والتأكيد, وهكذا.
وعندما نرسم جدولا فيه الحروف التسعون بصورة رأسية تقابلها الوظائف الست والخمسون بصورة أفقية, نجد أن الحرف الواحد قد يدل علي معني أو اثنين أو حتي قد يدل علي نحو خمسة عشر معني! فمثلا الباء تدل علي أشياء كثيرة منها: المصاحبة, الملابسة, الابتداء, الظرفية, السببية..
الفلسـفة اللغـوية
بقلم: د.علي جمعة
مفتي الديـــــــار المصريــة
المنشور بجريدة الأهرام المصرية -الأثنين 16 أبريل 2007
تلعب الفلسفة اللغوية دورا مهما جدا في فهم التراث, بعد فهم التصور الكلي الذي سيطر علي الأذهان تلقيا وأداء وفهما للكون والإنسان والحياة, فاللغة موروث وليست مخترعا, أي إن وضع الألفاظ بإزاء المعاني أمر يرثه الإنسان ولا يصطنعه, ومن أجل ذلك كان لابد عليه أن يدرك ذلك الوضع, فيفهم دلالات الألفاظ, وقد اهتم المسلمون القدماء جدا بهذه القضية: قضية دلالات الألفاظ.
ودلالات الألفاظ جعلتهم يتكلمون عن قضية الجذور اللغوية التي هي موجودة في المعاجم, لبناء النظام الصرفي الذي يخرج من هذه الجذور الفعل الماضي, والمضارع والأمر, واسم الفاعل واسم المفعول, والمصدر, والصفة المشبهة, واسمي المكان والزمان... وسائر أنواع التصاريف اللغوية التي تستعمل في مواطن شتي, وهذا درسوه بتفصيل كبير جدا, وكشفوا من خلال هذه الدراسات أشياء كثيرة, نسميها الفلسفة اللغوية.
والحقيقة أن دراسة هذه الفلسفة اللغوية بمثل هذه الخطوات التي سوف نتعرض لها يجعل الإنسان أكثر فهما سواء للنصوص الشرعية أو للكتابات التراثية. ولنبدأ من المكون الأساس للكلمة وهو الحرف. والحرف له نوعان: حروف المباني, وحروف المعاني.
حروف المباني:
حروف المباني ثمانية وعشرون حرفا في لغة العرب, وكانت قديما مصوغة في صورة تسمي الأبجدية, لأنها كانت تبدأ بكلمة أبجد:( أبجد هوز حطي كلمن, سعفص قرشت ثخذ ضظغ), ثم تم تطويرها فيما بعد, حتي وصلنا إلي نظام يسمي النظام الهجائي أو الألفبائي, وهو النظام الذي تعلمنا عليه حديثا( أ, ب, ت, هــ, و, ي), وسمي الهجائي لأنها الحروف التي نتهجي الكلمة بها.. هذه الحروف تسمي حروف المباني, وهي لا معني لها, فالألف وحدها لا معني لها في اللغة العربية!
وبالمناسبة, تشترك اللغات السامية في اثنين وعشرين حرفا, وتنفرد العربية عن بعض اللغات السامية في ستة حروف. والأبجدية أيضا كانت تشير إلي هذا فمن( أبجد) حتي( قرشت) هذه هي الاثنان والعشرون حرفا التي تشترك فيها العربية مع العبرية والآرامية والسريانية والحبشية وهكذا. أما( ثخذ ضظغ) فتنفرد بها العربية عن اللغات الأخري. ولذلك يسمون هذه الحروف الستة بـ الحروف الروادف, لأنها مردفة أي ملحقة, وهذه الاثنان والعشرون حرفا المشتركة ـ تقريبا ـ هي الحروف اللاتينية أيضا, مع إسقاط الحاء وإضافة الثاء.
فهذه حروف المباني التي يهتم بها الذين يدرسون الأداء الصوتي ودارسو التجويد. وقد صنفها القدماء واستنبطوا لها صفات ومخارج, وحقا ومستحقا: الحق يعني إخراج الحرف من مخرجه الخاص به: من الحلق ومن وسط اللسان, ومن طرف اللسان, ومن مجموعة الأسنان, ومن الشفتين, ومن الخيشوم أو الأنف. والمستحق مراعاة موضع الحرف من الحروف المجاورة له وأثر نطق الحروف علي بعضها بعضا ولهذا, فإن من الإعجاز أن القرآن الكريم ورد إلينا بالأداء الصوتي نفسه الذي تركه لنا رسول الله صلي الله عليه وسلم, أي بالطريقة الصوتية المعينة التي تجعل كل حرف له اعتبار, وهناك جدول يحفظه رجال التجويد, وله أداءات مفردة, وأداءات مركبة, ثم يتراكب ثم نتعلم علم التجويد في أحكام التنوين والنون الساكنة وأحكام الميم والراء واللام, وحروف المد.. وغير ذلك.
فحروف المباني ـ وإن لم تكن لها معان في ذاتها ـ فإن الأداء الصوتي الصحيح لها هو من الضرورة بمكان في ثقافة أمية اعتادت علي نقل تراثها مشافهة, ونقلت بهذه الطريقة كتاب الله عز وجل وحديث رسوله صلي الله عليه وسلم, وقد ارتبطت بذلك فنون الفصاحة والخطابة والبيان في التراث الإسلامي, وهي فنون لاتزال لها مكانتها, بل وتعد من المهارات الاجتماعية والسياسية التي تدرس ويعني بها في الحضارات المختلفة.
حروف المعاني:
وهي الحروف التي يؤدي كل واحد منها معني معينا, وهي في اللغة العربية تسعون حرفا, علي خمسة أقسام:
منها ما هو حرف واحد مثل: الواو, الباء, الكاف, الفاء, اللام, ومنها ما هو حرفان مثل: من, في, عن, لن, إن, ومنها ما هو مكون من ثلاثة حروف مثل: إلي, علي, ثم, إن, ومنها المكون من أربعة مثل: لعل, كأن, ومنها ما هو من خمسة مثل: لكن( وهي تنطق: لاكن بألف مد, لا تكتب, وبشدة علي النون). وليس هناك ما هو مكون من أكثر من خمسة أحرف.
وهذه التسعون حرفا إما أن لها عملا أو ليس لها عمل, أي إما أن تؤثر فيما بعدها, أو لا تؤثر, فبعضها يجر, وبعضها ينصب, وبعضها يجزم, وبعضها لا عمل له ولا أثر, لكن الأثر شيء والمعني شيء آخر, فهذه الحروف تستعمل في ستة وخمسين معني, والمعاني الستة والخمسون منها: الابتداء, والغاية, الانتهاء, والتبعيض, والظرفية, والاستعلام, والاستفهام, والقسم, والتحضيض, والتمني, والترجي, والتأكيد, وهكذا.
وعندما نرسم جدولا فيه الحروف التسعون بصورة رأسية تقابلها الوظائف الست والخمسون بصورة أفقية, نجد أن الحرف الواحد قد يدل علي معني أو اثنين أو حتي قد يدل علي نحو خمسة عشر معني! فمثلا الباء تدل علي أشياء كثيرة منها: المصاحبة, الملابسة, الابتداء, الظرفية, السببية..