مشاهدة النسخة كاملة : الإمام أبو حنيفة النعمان إمام أهل الرأي
الإمام أبو حنيفة النعمان… إمام أهل الرأي
يقال أن تاريخ الفقه الإسلامي لم يعرف إماما في الفقه كثر مادحوه و كثُر ناقدوه مثل الإمام أبو حنيفة النعمان رضي الله عنه لأنه كان فقيها مستقلا سلك في تفكيره الإجتهادي مسلكا مستقلا …
و لكن تاريخ الفقه الإسلامي و بعد أن إستوت مذاهبه و مدارسه أنصف أبا حنيفة فقيه العراق من كيد معاصريه له ، بين الناس،و عند السلطان،و من افترى الكذب عليه بعد وداعه للدنيا.
وقال عنه معاصريه إن أبا حنيفة كان رجلا فقيها معروفا بالفقه، واسع المال، معروفاً بالأفضال علي كل من يطيف به، صبورا على تعلم العلم بالليل و النهار،حسن الصوت، قليل الكلام حتى يُسأل عن شيء من الفقه… تفتح و يسيل كالوادي وتسمع له دويا و جهاره بالكلام .
و قال عنه معاصروه (مليح بن وكيع ) : كان أبو حنيفة عظيم الأمانة و كان يؤثر رضا ربه ولوأخذته السيوف .
و أبو حنيفة وصفه معاصره تلميذه الورع التقي (عبد الله بن المبارك ) بأنه (مُخ العلم ).
و روى التاريخ عن الأمام مالك أن أبا حنيفة وضع ثلاثا و ثمانين ألف مسألة في الفقه الإسلامي،منها ثماني و ثلاثون ألف مسألة ( هي) أصل في العبادات… و خمس و أربعون ألف مسألة (هي) أصل في المعاملات .
هذا هو الأمام ((أبو حنيفة النعمان)) الذي منحته الأجيال لقب ((الإمام الأعظم ))
فكيف عاش أو كيف كانت نظرته في فقه الإسلام … ؟
ولد أبو حنيفة النعمان في سنة 80 من الهجرة النبوية،بالكوفة أبوه فارسي النسب إسمه- ثابت بن زوطي – كان جده زوطي من أهل كابل و هي مدينة بأفغانستان التي كانت تابعة لفارس و قد أُسر جده عند فتح العرب لبلاد فارس ثم أسلم و أُعتق ثم ولد أبو حنيفة النعمان حراً ومن قبله ولد أبوه حراً .
إذن كان أبو حنيفة من الموالي (غير العرب ) و الموالي في زمانه كانوا هم حملة الفقه و لهذه الظاهرة أسباب:
فالعرب في عصر الدولة الأموية كانت لهم السيادة و السلطان و كان عليهم الحرب و النزال فشُغلوا عن الدرس و البحث … و تقدم الموالي حيث كانوا ينتسبون إلي أمم عريقة ذات ثقافات و علوم و بفقدانهم سلطانهم في بلادهم فقد لجأوا إلي العلم و المعرفة… يدفعهم في ذلك حرمانهم للوصول إلى الكمال و بلغوا في العلم و سيطروا به على الفكر العربي الإسلامي تاركين للعرب الغُلب المادي و كان أبو حنيفة النعمان واحداً من الموالي .
وبالكوفة نشأ أبو حنيفة و بها تربى في بيت أبيه تاجر الحرير،الموسر، و المسلم الحسن الإسلام ، و كان أبوه ثابت قد التقى و هو صغير بالكوفة بالإمام علي بن أبي طالب رضى الله عنه و رأى ثابت أباه زوطي و قد وضع الإمام علي رضي الله عنه كفه علي رأس أبيه و دعا له بالبركة فيه و في ذريته .
و في سن الصبا حفظ أبو حنيفة القرآن الكريم و اخذ قراءته للقرآن عن عاصم احد القراء السبعة… و أشع عقله في مجتمع يعيش فيه العرب و السريان و الفرس وأبناء خراسان و بلاد ما وراء النهر و تلتقي فيه فلسفة اليونان بحكمة الفرس وتتحاور فيه في العقائد مذاهب النصرانية و أراء الشيعة و الخوارج و المعتزلة ولقد راح أبو حنيفة يُجادل دفاعا عن الإسلام مع المجادلين و ينازل أصحاب الأهواء بفطرته السليمة المستقيمة .
يتبع
أبوحمزة السيوطي
2010-02-22, 03:52 PM
متابع ولي إضافة إن شاء الله
بارك الله فيكم أختنا الفاضلة
و في سن الصبا و إلي سن الثانية و العشرين من عمره كان أبو حنيفة النعمان يشتغل بتجارة الحرير مثل أبيه … وبجانب ذلك كان يحضر حلقات العلم في المسجد في بعض الأحيان النادرة مثل عامةالمسلمين إلي أن إستوقفه يوما الفقيه (إبراهيم الشعبي ) و قد رأي فيه ذكاء و لمح وراء ذكاءه عقلا علميا و قد نصحه الفقيه بقوله
(لا تغفل و عليك بالنظرفي العلم و مُجالسة العلماء فاني أري فيك يقظة و حركة ) .
و وقعت نصيحة الشعبي موقعا طيبا من قلب أبي حنيفة و ترك أمر متجره إلي شريكه و اكتفى بمراجعته و الإشراف علي عمله من خلال ذلك الشريك و يفرغ جل وقته للتردد علي حلقات العلم… كان عُمر أبو حنيفة النعمان حين جلس إلي أستاذه حماد بن سليمان في مسجد الكوفة إثنين و عشرين عاما و قد عرف قدراً من النحو و الأدب و الشعروالحديث و قدراً اكبر في علم الكلام و استفاد بعد أن صار فقيها من قدرة علماء الكلام في المناقشة و الحوار و الجدل و ضرب المتشابهات في القياس… عليماً في فهمه لأصول الدين،و مجادلته لأهل الفرق حين يدخلون عليه مسجد الكوفة و هومنصرف إلي الفقه ابتغاء إحراجه و تكفيره في أصول الإعتقاد ولزم أبو حنيفة أستاذه حماد ملازمة تامة حتى مات بعد ثماني عشر سنة.
و مع ملازمة أبي حنيفة لحماد فقد جلس إلي غيره من الفقهاء والمحدثين و خصوصا التابعين الذين اتصلوا بالصحابة و كانوا ممتازين في الفقه والاجتهاد فتلقي عنهم فقه عمر بن الخطاب و فقه عبد الله بن مسعود وفقه عبد الله بن عباس تلقاه عن أصحابهم من العرب و الموالي .
وكان أبو حنيفة كثير الرحلة إلي بيت الله الحرام حاجاً و لذلك كان يلتقي في مكة و المدينة بالعلماء و منهم كثيرون من التابعين و كان لقاؤه بهم لقاءً علميا يروي عنهم الأحاديث و يذاكرهم الفقه و يدارسهم ما عنده من طرائف وكانوا من مدارس مختلفة .
و لما توفي حماد أستاذ أبي حنيفةعام 120 كان أبوحنيفة في سن الأربعين وإثر وفاته أجلسه تلاميذ حماد و رفاقه في مجلس شيخه و شيخهم بمسجد الكوفة،و راح أبوحنيفة يدارس تلاميذه من الرفاق السابقين والقادمين الجدد ما يعرض له ولهم من فتاوي فقد كان يؤثر مشاركة الغير له في البحث عنالحق ويقيس الأشياء بأشباهها، و الأمثال بأمثالها،بعقل قوي و منطق سديد حتى وضع بهم و معهم الطريقة الفقهية التي اشتق منها المذهب الحنفي (طريقةالقياس و الرأي ) .
لم يكدأبو حنيفة النعمان يجلس في مجلس شيخه حماد بمسجدالكوفة فقيهامفتيا حتى قامت ثورات العلويين ضد الأمويين و كانت عواطف أبي حنيفة كإنسان و فقيه مع العلويين المضطهدين من بني أمية و استغرقت هذه الثورات عشر سنوات عاني فيها العلويين من الأمويين العذاب و تكبد فيها الأمويين من العلويين المشاق و كانت ثورات يؤازرها العلماء والفقهاء في السر بالمال و في العلن بالتأييد،و اشتدت الفتن و نال أبوحنيفة قسطا من الظلم وسُجن و جُلد ثم أفرج عنه و أعد نفسه و أهل بيته ودوابه للرحيل لسفر طويل ليلا إلي مكة و كان هروبه في سنة 130 هـ .
أقام أبوحنيفةبمكة ست سنوات و لحق به تلاميذه الحريصون علي علمه و الأخذ عنه ولم يستقر أبوحنيفة في الكوفة إلا في زمن أبي جعفرالمنصور سنة136هـ حين استقرت الأحوال بالعراق .
في عهدالخليفة المنصور صار أبوحنيفةعزيزا عليه، يدنيه منه و يعلي مكانته عنده و يرفع قدره في مجلسه، ويحاول بين حين و أخر أن يعطيه العطايا الجزيلة و لكن أباحنيفة لم يكن يرى أن يقبل الفقهاء هدايا الخلفاء و لذلك كان يرد عطاء المنصور و هداياه في رفق و حيلة سواء جاءت من المنصور بطريق مباشراً أو غير مباشر .
و انتهت أيام الصفو بين أبي حنيفةو المنصور حين سجن المنصور عبد الله العلوي.
وظهرت تباشير هذه النهاية في الكلام القليل الناقم علي العباسيين الذي كان يخرج من شفتي أبي حنيفة بين الحين و الحين و يكشف عن ولائه لأبناء علي بن أبي طالب خاصة .
يتبع
شخصية الفقيه :
توصف شخصية الفقيه بصفات تجعله في الذروة بين العلماء فقد كان من طراز الرجال الذين يسيطرون علي مشاعرهم ممن لاتعبث بهم الكلمات العارضة ولا تبعدهم عن الحق العبارات النابية.
وأية ضبط أبي حنيفة لنفسه و سيطرته علي مشاعره أن حية سقطت في حجره و هو جالس في مسجد الكوفة فتفرق الناس لسقوطها من حوله و لكنه استمر في حديثه و نحاها بيده و كأنها ليست حية بها سم زعاف .
وآية سيطرته على مشاعره انه كان يناقش مسألة أفتي فيها واعظ العراق الحسن البصري فقال أبوحنيفة:
"أخطأالحسن ".
فانبرى له رجل من بين الجالسين قائلا له في تعصب:
أأنت تقول أخطأ الحسن يا ابن الزانية ؟
ولم يتغير وجه أبي حنيفة و لم يؤاخذ الرجل علي حدته و قال مؤكدا في هدوء :
والله أخطأ الحسن وأصاب عبد الله بن مسعود.
ثم قال أبوحنيفة:
اللهم من ضاق بنا صدره فأن قلوبنا تتسع له.
و كان أبوحنيفة مستقلا في تفكيره فلم يكن يأخذ بفكره غيره إلا بعد أن يعرضها على عقله… و لم يكن يخضع عقله كفقيه إلا لنص من كتاب أو سنةأو فتوى مجمع عليها من الصحابة.
عاش أبوحنيفة في عصرين كانت البلاد الإسلامية تموج فيهما بمسائل في الفكر الديني عقيدة و فقها و سياسة و علما وحياة اجتماعية… تموج بحضارات أمم و علومها و بشعوب مختلفة العادات والتقاليد و الأعراف و بفتن الصراع الديني بين السنة و الشيعة و الخوارج و الصراع الاجتماعي بين الأمويين و العلويين والعباسيين ثم بين العباسيين و العلويين و بعقائد هؤلاء وهؤلاء و سياستهم و بفقه هؤلاء و هؤلاء يتوقف الفقه هنا عند آراء السلف و يتجدد هناك عند أهل الرأي.
و كان على " أبي حنيفة"أن يتمثل حصاد ذلك كله خاصة ما يتصلب الفقه الإسلامي عند أهل الحديث و عند أهل الرأي فلسوف يكون فقيها مفتيا،و الإفتاء في الفقه مرحلة عليا لا ينالها إلا الصابرون في طلب العلم و لايبلغها إلا من أحاط علما بحياة الناس و سياسة الناس ومعتقداتهم.
يتبع
متابع ولي إضافة إن شاء الله
بارك الله فيكم أختنا الفاضلة
تشرفني متابعتكَ أخي السيوطي
وإضافتكَ ستضفي على الموضوع رونقا لا يُخفى
جزاكم الله خيرا أخي الكريم
و فقه أبي حنيفة بالعراق يعتمد على مصادر من الكتاب والسنة وفقه الصحابة و القياس و الاستحسان و العُرف على حين كان معاصره الإمام (مالك بن أنس ) يأخذ بالكتاب و السنة و فقه الصحابة و عمل أهل المدينة و القياس والاستحسان و المصالح المرسلة.
و لقد أُتهم أبوحنيفة في حياته و بعد وفاته بمخالفة السنة و لقد نفي أبوحنيفةعن نفسه هذه التهمة و يقول (إنا نأخذ أولا بكتاب الله ثم السنة ثم بأقضية الصحابة و نعمل بما يتفقون عليه فان اختلفوا قسنا حكماً علي حكم بجامع العلة بين المسألتين حتى يتضح المعنى ) .
وفقه أبي حنيفة كان يميل إلى إطلاق الحرية الشخصية في الملك و المال و الوقف وولاية المرأة لأمر زواجها بنفسها بشرط الكفاءة.
و فقه أبي حنيفة به فروع تكشف عن عقليته كتاجر خبيربالأسواق يُقسم وقته بين التجارة و الفقه و العبادة قسمة عادلة فيأخذه بالاستحسان في المعاملات و في عنايته بأحكام عقود البيوع على أساس من الأمانة و حفظ الحقوق .
عاش أبو حنيفة خمسين سنة من حياته في العصر الأموي، و عشرين سنة في العصر العباسي لم يتوقف طوالها عن الإشتغال بالتجارة منذ أن شب عن الطوق إلى أن لقي وجه ربه .
لم يكتب أبو حنيفة أقواله الفقهية بيده بل قام بتدوينها تلاميذه و كانوا يقرأون عليه أقواله في الفروع و يبوبوها في كتب و يضيفون إليها في مؤلفاتهم و أقوالهم في الفقه الحنفي .
و من تلاميذ أبي حنيفة كان أبو يوسف و محمد بن الحسن الشيباني و علي الرازي و غيرهم كانوا من فرسان الفقه الحنفي في الطبقة الأولي من العلماء الأحناف .(وسيتم التحدث عن تلاميذه في مرحلة لاحقةبإذن الله )
و بعدرحيل أبي حنيفةعن الدنيا اكتسب مذهبه نفوذاً في الدولة العباسية من وقت أن صار تلميذه أبو يوسف قاضياً للقضاة في عهود الخلفاء العباسيين ( المهدي – الهادي – الرشيد ) و شاع في أكثر البقاع الإسلامية في مصر والشام و بلاد الروم و العراق و ما وراء النهر و في الهند و الصين حيث لا منافس له ولا مز احم .
و قد بدأمذهب أبي حنيفة يكتسب نفوذه في أول أمره بسبب اختيار الخلفاء للقضاة من أئمته و المجتهدين فيه ثم تجاوز هذا النفوذ الرسمي له بنشاط علمائه فيه و عملهم على نشره.
يتبع
قلنا في مشاركة سابقة أن أبا حنيفة تفقه على يد أستاذه حماد بن أبى سليمان و قد لازمه 18 عاما حتى قال حماد (أنزفتنى يا أبا حنيفة) كناية عما أخذه منه من علوم ، وقلنا أيضا فيما سبق أن أبا حنيفة كان من أصحاب علم الكلام و لكنه تحول إلى الفقه فراح يجمع حوله التلاميذ ثم يطرح القضية لمناقشتها فإذا نضجت دونت ، و قد منح تلاميذه قدرا كبيرا من الحرية فلم يتركوا مسألة دون نقاش بينما تجد إماما مثل مالك يملى على طلبته ما يراه دون مناقشة و كانت طريقة الأحناف مشجعة على إتاحة فرصة جيدة للتلاميذ للتدريب على الإجتهاد و ضبط المسائل كما سار الأحناف وفق منهج واضح يتحرى العلة و يبحث عنها و لكنهم إبتدأوا أولا بالفقه ثم إستخرجوا الأصول و القواعد منه فيما بعد.
و قد كان للإمام أبى حنيفة جمهور من التلاميذ على رأسهم أبو يوسف الذى صار قاضيا للقضاة و محمد بن الحسن الشيبانى و زفر بن الهزيل و الحسن بن زياد .
و قد أوجدوا بعض المصطلحات الخاصة بهم ( سيتم التطرق إليها لاحقا في مشاركة مستقلة ) فإذا إتفق أبو حنيفة و أبو يوسف قالوا (إتفق الصاحبان) و قد أطلق على الأحناف أهل الرأى و هو التوجه الشائع فى الكوفة ، و كان أبو حنيفة يعمل بكتاب الله أولا فإن لم يجد فسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم فإن لم يجد فى الكتاب أو السنة رجع إلى قول الصحابة أو الإجماع و إلا فالقياس أو الإستحسان أو العرف .
و قد كتب أبو حنيفة كثيرا فى مسائل الفقه إلا أن هذه الكتابات لم يصل إلينا منها شىء و قد ذكر المؤرخون أن لأبى حنيفة كتبا كثيرة منها كتاب ( العلم و التعلم) و كتاب (الرد على القدرية) و كتاب (الفقه الأكبر) هذا بالإضافة إلى أن أبا حنيفة قد إنفرد بإخراج 215 حديثا هذا بخلاف ما اشترك فى إخراجه مع بقية الأئمة كما أن له سندا روى فيه 118 حديثا كلها فى باب الصلاة و قد قام بجمع الأحاديث التى أخرجها أبو حنيفة "أبو المؤيد محمد بن محمود الخوارزمى" فى 800 صفحة كبيرة و قد طبع هذا المسند فى مصر ، و يرجح كثيرا من العلماء أن تلاميذ أبى حنيفة تلقوا عنه الأخبار و الفقه و دونوها و قاموا بتبويبها و من ذلك كتاب الآثار لأبى يوسف و كتاب الآثار لمحمد بن الحسن و إن كان أبو حنيفة لم يدون بنفسه شيئا من محتويات هذه الكتب .
و قد قال عنه الإمام الشافعى ( ما طلب أحد الفقه إلا كان عيالا على أبى حنيفة) .. و من أقوال أبى حنيفة: ( ما جاء عن الرسول صلى الله عليه و سلم فعلى الرأس و العين و ما جاء عن الصحابة اخترنا و ما كان من غير ذلك فهم رجال و نحن رجال ) ..
و كان من أشهر آرائه الفقهية ما قاله فى جواز إخراج زكاة الفطر نقودا و قد إشتهر المذهب الحنفى فى الكوفة و بغداد و مصر و الشام و تونس و الجزائر و اليمن و فارس و الصين و سمرقند و الأفغان و القوقاز .
و كان الخليفة أبو جعفر المنصور قد حلف على أبى حنيفة أن يتولى القضاء و حلف أبو حنيفة ألا يفعل و قال "إن أمير المؤمنين أقدر منى على كفارة أيمانه" فأمر بحبسه حتى توفى رحمه الله فى السجن سنة 150 هـ.
يتبع...
ثناء العلماء له
قال ابن الجوزي في "المنتظم": لا يختلف الناس في فهم أبي حنيفة، وفقهه، كان سفيان الثوري، وابن المبارك، يقولان: أبو حنيفة أفقه الناس،
قال عنه النضر بن شميل: "كان الناس نياما عن الفقه حتى أيقظهم أبو حنيفة بما فتقه وبيّنه"
وقال الثوري لمن قال له: (جئت من عند أبي حنيفة: لقد جئت من عند أعبد أهل الأرض).
قال ابن المبارك: قلتُ لسفيان الثوري: ما أبعد أبا حنيفة عن الغيبة، ما سمعتُه يغتاب عدواً له. قال: والله هو أعقل من أن يسلِّط على حسناته ما يذهب بها.
وقال القاضي عياض في " ترتيب المدارك": قال الليث لمالك: أراك تعرق؟، فقال مالك: "عرقت مع أبي حنيفة، إنه لفقيه يا مصري" ، والقصة هنا أنه روي أن أبا حنيفة ذهب الى المدينة فجادل الإمام مالك بن أنس يوما في أمور إختلفا عليها وحضر المناظرة الإمام الليث بن سعد إمام مصر واستمرت المناظرة طويلا حتى عرق الإمام مالك وكان مالك لا يجب الجدل وأبو حنيفة مولع به وسأل الليث أبا حنيفه عن رأيه في مالك فأثنى عليه اطيب ثناء ، وعندما خرج ابو حنيفة قال مالك لصديقه الليث إنه لفقيه يا مصري .
وعن أبي يحيى الحماني أنه كان يقول: (ما رأيت رجلًا قط خيرًا من أبي حنيفة)، وكان أبو بكر الواعظ، يقول: (أبو حنيفة أفضل أهل زمانه)، وعن سهل بن مزاحم، أنه كان يقول: (بذلت الدنيا لأبي حنيفة فلم يردها، وضرب عليها بالسياط فلم يقبلها)، وقيل للقاسم بن معن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود: (ترضى أن تكون من غلمان أبي حنيفة؟) قال: (ما جلس الناس إلى أحد أنفع من مجالسة أبي حنيفة).
ومن أعظم ما كان من ثناء العلماء، ثناء الإمام مالك على الإمام أبي حنيفة، فقد حدث الشافعي محمد بن إدريس، قال: قيل لمالك بن أنس: (هل رأيت أبا حنيفة؟) قال: (نعم، رأيت رجلًا لو كلمك في هذه السارية أن يجعلها ذهبًا، لقام بحجته).
وعن إبراهيم بن عبد الله الخلال، قال: سمعت ابن المبارك يقول: (كان أبو حنيفة آية)، فقال له قائل: (في الشر يا أبا عبد الرحمن، أو في الخير؟ فقال: اسكت يا هذا؛ فإنه يقال: غايةٌ في الشر، آية في الخير)، ثم تلا هذه الآية: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيةً}.
وعن المبارك أيضاً، قال: (ما كان أوقر مجلس أبي حنيفة، كان حسن السمت، حسن الوجه، حسن الثوب، ولقد كنا يومًا في مسجد الجامع، فوقعت حية، فسقطت في حِجر أبي حنيفة، وهرب الناس غيره، ما رأيته زاد على أن نفض الحية، وجلس مكانه)، وعنه أيضًا، أنه قال: (لولا أن الله أعانني بأبي حنيفة وسُفيان، لكنت كسائر الناس) [الطبقات السنية في تراجم الحنفية، التقي الغزي، (1/27)].
وقد أنشد فيه ابن المبارك أبيات عظيمة نقلها عنه الصفدي في كتابه "الوافي بالوفيات" يقول فيها كلامًا رائعًا:
رأيتُ أبا حنيفةَ كلَّ يومٍ ... يَزيدُ نَبالةً ويزيد خُبرا
ويَنطِقُ بالصَواب ويَصطَفيه ... إذا ما قال أهل الهُجر هُجرا
رأيتُ أبا حنيفة حين يُؤتَى ... ويُطلَبُ عِلمُه بَحرا غَزيرا
يقايس من يقايسه بلُبٍّ ... فمن ذا تجعلونَ له نظيرا
كفانا فَقد حمادٍ وكانت ... مُصيبتُنا به أمراً كبيرا
فردّ شماتة الأعداء عنّا ... وأبدَى بعده علماً كثيرا
إذا ما المشكلات تدافَعَتها ... رجال العلم كان بها بصيرا
- أما الإمام زُفَر فقال: جالستُ أبا حنيفة أكثر من عشرين سنة فلم أر أحداً أنصح للناس منه و لا أشفق عليهم منه، كان بذل نفسه لله تعالى، أمّا عامة النهار فهو مشتغل في العلم و في المسائل وتعليمها وفيما يُسأل من النوازل وجواباتها و إذا قام من المجلس عاد مريضاً ( أي زار ) أو شيَّع جنازة أو واسى فقيراً أو وصل أخاً أو سعى في حاجة، فإذا كان الليل خلى للعبادة و الصلاة و قراءة القرآن، فكان هذا سبيله حتى توفي رضي الله تعالى عنه.
- أجمع علماء عصره على أنه لم يجتمع لأحد غيره في ذلك العصر ذكاء و قوة بادرة و علم و قوة استنتاج.
- كان أبو حنيفة في زيارة شيخه الأعمش يوماً (والأعمش من كبار المحدثين )، فجاء إلى الأعمش رجل يسأله عن مسألة في العلم فقال لأبي حنيفة: أجبه. فأجابه، فقال له: و من أين لك هذا ؟ قال: من حديث حدثتَنيه هو كذا و كذا . فقال الأعمش: حسبك ما حدَّثتُكَ به في سنة تحدِّث به في ساعة، أنتم الأطباء و نحن الصيادلة.
وكان أجلى مميزات مذهب أبي حنيفة، أنه مذهب شورى، تلقنه جماعة عن جماعة، إلى الصحابة رضوان اللّه عليهم أجمعين، بخلاف سائر المذاهب، فإنها مجموعةآراء لأئمتها.
قال ابن أبي العوام: حدثني الطحاوي، كتب إليّ ابن أبي ثور،قال: أخبرني نوح أبو سفيان، قال لي المغيرة بن حمزة: كان أصحاب أبي حنيفة الذين دَوَّنوا معه الكتب أربعين رجلاً، كبراء الكبراء، اهـ.
وقال ابن أبي العوام أيضاً: حدثني الطحاوي،كتب إلي محمد بن عبد اللّه بن أبي ثور "الرعيني" حدثني سليمان بن عمران حدثني أسد بن الفرات، قال: كان أصحاب أبي حنيفة الذين دَوَّنوا الكتب أربعين رجلاً، فكان في العشرة المتقدمين: أبو يوسف، وزفر بن الهذيل، وداودالطائي، وأسد بن عمرو، ويوسف بن خالد السمتي" أحد مشايخ الشافعي": ويحيى بن زكريا بن أبي زائدة، وهو الذي كان يكتبها لهم ثلاثين سنة، اهـ.
وبهذا السند إلى أسد بن الفرات، قال: قال لي أسد بن عمرو: كانوا يختلفون عند أبي حنيفة في جواب المسألة، فيأتي هذا بجواب، وهذا بجواب، ثم يرفعونها إليه، ويسألونه عنها، فيأتي الجواب من كثب -أي من قرب، وكانوا يقيمون في المسألة ثلاثة أيام، ثم يكتبونها في الديوان، اهـ.
قال الصيمرمي: حدثنا أبو العباس أحمد الهاشمي، ثنا أحمد بن محمد المكي ثنا علي بن محمد النخعي حدثنا إبراهيم بن محمد البلخي حدثنا محمد بن سعيد الخوارزمي إسحاق بن إبراهيم، قال: كان أصحاب أبي حنيفة يخوضون معه في المسألة،فإذا لم يحضر عافية - ابن يزيد القاضي - ، قال أبو حنيفة: لا ترفعوا المسألة حتى يحضر عافية، فإذا حضر عافية ووافقهم، قال أبو حنيفة: أثبتوها، وإن لم يوافقهم، قال أبو حنيفة، لأخرى سواها، اهـ.
وقال يحيى بن معين في "التاريخ"، و"العلل": رواية الدوري عنه في - ظاهرية دمشق -: قال أبو نعيم "الفضل بن دكين" سمعت زفر يقول: كنا نختلف إلى أبي حنيفة، ومعنا أبو يوسف، ومحمد بن الحسن، فكنا نكتب عنه، قال زفر: فقال يوماً أبو حنيفة، لأبي يوسف: "ويحك يا يعقوب، لا تكتب كل ما تسمع مني، فإني قد أرى الرأي اليوم، وأتركه غداً، وأرى الرأي غداً، وأتركه في غده"، اهـ.
انظر كيف كان ينهى أصحابه عن تدوين المسائل، إذا تعجل أحدهم بكتابتها قبل تمحيصها كما يجب، فإذا أحطت خبراً، بما سبق علمت صدق ما يقوله الموفق المكي: ص133-2، حيث قال،بعد أن ذكر كبار أصحاب أبي حنيفة: وضع أبو حنيفة مذهبه شورى بينهم، لم يستبد فيه بنفسه دونهم، اجتهاداً منه في الدين، ومبالغة في النصيحة للّه، ورسوله، والمؤمنين،فكان يلقي المسائل مسألة مسألة، ويسمع ما عندهم، ويقول ما عنده، ويناظرهم شهراً، أوأكثر، حتى يستقر أحد الأقوال فيها، ثم يثبتها أبو يوسف في الأصول، حتى أثبت الأصول كلها، وهذا يكون أولى وأصوب، وإلى الحق أقرب، والقلوب إليه أسكن، وبه أطيب، من مذهب من انفرد، فوضع مذهبه بنفسه، ويرجع فيه إلى رأيه، اهـ.
ومن هذا يظهر أن أباحنيفة لم يكن يحمل أصحابه على قبول ما يلقيه عليهم، بل كان يحملهم على إبداء ماعندهم، إلى أن يتضح عندهم الأمر، كوضح الصبح، فيقبلون ما وضح دليله، وينبذون ماسقطت حجته، وكان يقول ما معناه: لا يحل لأحد أن يقول بقولنا، حتى يعلم من أين قلنا،وهذا هو سر ظهور مذهبه في الخافقين، ظهوراً لم يعهد له مثيل، وهو السبب الأصلي لبراعة المتفقهين عليه، وكثرتهم، إذ طريقته تلك هي الطريقة المثلى في التدريب على الفقه، وتنشئة الناشئين.
ولذلك يقول ابن حجر المكي في "خيرات الحسان" ص 26: "قال بعض الأئمة: لم يظهر لأحد من أئمة الإسلام المشهورين، مثل ما ظهر لأبي حنيفة،من الأصحاب، والتلاميذ، ولم ينتفع العلماء، وجميع الناس، بمثل ما انتفعوا به،وبأصحابه في تفسير الأحاديث المشتبهة، والمسائل المستنبطة، والنوازل، والقضاء،والأحكام"، اهـ.
وقال محمد بن إسحاق النديم في "الفهرست":
و"العلم براً وبحراً، وشرقاً وغرباً، بعداً وقرباً تدوينه له، رضي اللّه عنه. وقال المجد بن الأثير في "جامع الأصول" ما معناه: لو لم يكن للّه في ذلك سر خفي، لما كان شطر هذه الأمة من أقدم عهد إلى يومنا هذا، يعبدون اللّه سبحانه على مذهب هذا الإمام الجليل،وليس أحد من هؤلاء الثلاثة على مذهب هذا الإمام، حتى يرمى بالتحزب له، رضي اللّه عنه.
والحاصل: أن من خصائص هذا المذهب كون تدوين المسائل فيه على الشورى،والمناظرات المديدة، وتلقي الأحكام فيه من جماعة، عن جماعة، إلى أوَّل نبع غزيرفياض في الفقه، في عهد جمهرة فقهاء الصحابة، واستمرار سعي الجماعة في تبيين أحكام النوازل، جماعة بعد جماعة، إلى ما شاء اللّه سبحانه كذلك، بحيث يتمشى المذهب مع حاجات العصور، ومقتضيات الرقي الحضاري في البشر.
ولذا ترى ابن خلدون يقول عن مذهب مالك ما لفظه:
"وأيضاً فالبداوة كانت غالبة على المغرب، والأندلس، ولم يكونوا يعاونون الحضارة التي لأهل العراق فكانوا إلى أهل الحجاز أميل، لمناسبة البداوة،ولهذا لم يزل المذهب المالكي غضاً عندهم، ولم يأخذه تنقيح الحضارة وتهذيبها ،اهـ.
فإذا كان مذهب مالك الذي عاش الأندلس تحت حكمه طوال قرون، هكذا في نظرابن خلدون، فما ظنك بما سواه من المذاهب التي لم تعاشر الحضارة في أحكامها مدة طويلة؟
وأما قراءة أبي حنيفة، فهي قراءة عاصم المنتشرة في الآفاق، وللقرآن المنـزلة العليا عنده في الاحتجاج، حيث يعد عموماته قطعية.
وقد علم الخاص والعام ختمه القرآن في ركعة، على قلة من فعل هذا من السلف، وما ينسب إليه من القراءات الشاذة، في بعض -كتب التفسير-، غير ثابت عنه أصلاً، فلا حاجة لتكلف توجيهها، كما فعل الزمخشري، والنسفي في "تفسيرهما"، بل تلك القراءات موضوعة عليه،كما ذكره الخطيب في "تاريخه"، والذهبي في "طبقات القراء"، وابن الجزري في "الطبقات" أيضاً، وواضعها الخزاعي.
قال الذهبي في "الميزان - في ترجمة أبي الفضل، محمدبن جعفر الخزاعي، المتوفى سنة 407": ألف كتاباً في قراءة أبي حنيفة، فوضع الدارقطني خطه، بأن هذا موضوع، لا أصل له، وقال غيره: لم يكن ثقة، اهـ.
وأما كثرة حديثه فتظهر من حججه المسرودة في أبواب الفقه، والمدونة في تلك المسانيد السبعةعشر، لكبار الأئمة من أصحابه، وسائر الحفاظ، وكان مع الخطيب عندما حل دمشق، مسندأبي حنيفة، للدارقطني، ومسند أبي حنيفة، لابن شاهين، وهما زائدان على السبعة عشرالمذكورة، وقال الموفق المكي ص96-1: قال الحسن بن زياد: كان أبو حنيفة يروي أربعةآلاف حديث: ألفين لحماد. وألفين لسائر المشيخة، اهـ.
وأقل ما يقال في مسائله: إنها تبلغ ثلاثة وثمانين ألفاً، وكانت مشايخه بكثرة بالغة.
وأما قوة أبي حنيفة في العربية، فما يدل عليها نشأته في مهد العلوم العربية، وتفريعاته الدقيقة على القواعد العربية، حتى ألف أبو علي الفارسي، والسيرافي، وابن جني كتباً في شرح آرائه الدقيقة في الأيمان في "الجامع الكبير" إقراراً منهم بتغلغل صاحبها في أسرار العربية وفي هذا القدر كفاية.
Powered by vBulletin® Version 4.2.0 Copyright © 2024 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved, TranZ by Almuhajir