أبو حنفي
2010-03-05, 10:44 PM
مدخل لفهم السيرة
د. يحيى إبراهيم اليحيى
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من بعث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن استن بسنته واهتدى بهديه واقتفى أثره وسار على نهجه إلى يوم الدين. أما بعد:
فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الصورة العملية التطبيقية لهذا الدين، ويمتنع أن تعرف دين الإسلام ويصح لك إسلامك بدون معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكيف كان هديه وعمله وأمره ونهيه.
لقد سالم وحارب، وأقام وسافر، وباع واشترى، وأخذ وأعطى، وما عاش صلى الله عليه وسلم وحده، ولا غاب عن الناس يوماً واحداً، ولا سافر وحده.
وقد لاقى أنواع الأذى، وقاسى أشد أنواع الظلم، وكانت العاقبة والنصر له.
بعث على فترة من الرسل، وضلال من البشر، وانحراف في الفطر، وواجه ركاماً هائلاً من الضلال والانحراف والبعد عن الله، والإغراق في الوثنية. فاستطاع بعون الله أن يخرجهم من الظلام إلى النور ومن الضلال إلى الهدى ومن الشقاء إلى السعادة. فأحبوه وفدوه بأنفسهم وأهليهم وأموالهم، واقتدوا به في كل صغيرة وكبيرة وجعلوه نبراسًا لهم يستضيئون بنوره ويهتدون بهديه فأصبحوا أئمة الهدى وقادة البشرية.
يكفيه شعب من الأجداث أحياه
هل تطلبون من المختار معجزة
إذا رأى ولد الموتور آخاه
من وحد العُرْب حتى كان واترهم
وما أصيب المسلمون إلا بسبب الإخلال بجانب الاقتداء به صلى الله عليه وسلّم، والأخذ بهديه، واتباع سنته، وقد قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}.
حتى اكتفى بعض المسلمين من سيرته صلى الله عليه وسلّم بقراءتها في المنتديات والاحتفالات ولا يتجاوز ذلك إلى موضع الاهتداء والتطبيق.... وبعضهم بقراءتها للبركة أو للاطلاع على أحداثها ووقائعها أو حفظ غزواته وأيامه وبعوثه وسراياه.
وهذا راجع إما لجهل بأصل مبدأ الاتباع والاهتداء والاقتداء وعدم الإدراك بأن هذا من لوازم المحبة له صلى الله عليه وسلم، وإما لعدم إدراك مواضع الاقتداء من سيرته صلى الله عليه وسلم نظراً لضعف الملكة في الاستنباط أو لقلة العلم والاطلاع على كتب أهل العلم.
وهنا تأتي أهمية استخراج الدروس واستنباط الفوائد والعظات واستخلاص العبر من سيرته صلى الله عليه وسلم.
ولما كانت عامة التآليف في السيرة في جمع الروايات ما بين مطيل ومختصر وناظم وناثر لها ومفصل ومجمل.
رأيت أن أجمع مختصراً في السيرة معتمداً على صحيح الروايات إلا رواية لم يبن عليها مسألة في العقيدة أو حكم شرعي فإني قد تساهلت في ذلك، مستنبطاً منها الدروس والعبر والفوائد والعظات، على هيئة سلسلة تحت عنوان (دروس وعبر من سيرة خير البشر) تصدر تباعاً إن شاء الله تعالى.
وهذا هو الكتاب الأول (مدخل لفهم السيرة)، وهو مهمّ لكل من أراد دراسة السيرة النبوية الشريفة، ليدرك من خلاله معاني السيرة وخصائصها وميزاتها، وحالة البشرية قبل البعثة من الضلال والانحراف، وعجزها عن إدراك مصالحها إلا برحمة الله لها بأن أرسل إليها رسولاً يخرجها من الظلمات إلى النور.
وبإدراكه حجم الانحراف الذي وصلت إليه البشرية يعرف ذلك الجهد الذي بذله رسول الله صلى الله عليه وسلم لإخراج الناس من ذلك التيه الذي عاشوا فيه قروناً طويلةً حتى استمرؤوا الذل والهوان، ولم يعودوا يفكرون في الخلاص ونبذ ذلك الركام الذي غطى على قلوبهم وطمس فطرهم.
ما هي السيرة؟
السَير الذهاب والاسم منه السِيرة، والسِيرة الضرب من السَير، والسِيرة السنة، والسِيرة الطريقة. يقال: سار بهم سِيرة حسنة، والسِيرة: الهيئة، وفي التنـزيل: {سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُوْلَى} (طه: 21)، وسَيَّر سِيرة: حدَّث أحاديث الأوائل[1].
السيرة قسم من الحديث النبوي باعتبارين: الأول: نسبتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم المشرع، الثاني: روايتها بالأسانيد، ولهذا أفرد علماء الحديث كتباً وأبواباً في مصنفاتهم في مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيامه، وشمائله ودلائل نبوته.
والسيرة جزء من التاريخ باعتبار أحداثها ووقائعها إذ التاريخ هو: تعريف الوقت مطلقاً، يقال: أرخت الكتاب تأريخاً وورخته توريخاً.
قال في مفتاح السعادة: «موضوعه: أحوال الأشخاص الماضية من الأنبياء، والأولياء، والعلماء، والحكماء، والشعراء، والملوك والسلاطين وغيرهم»[2].
الغرض من دراسة السيرة:
® إن السيرة النبوية لا تدرس من أجل المتعة في التنقل بين أحداثها أو قصصها، ولا من أجل المعرفة التاريخية لحقبة زمنية من التاريخ مضت، ولا محبة وعشقاً في دراسة سير العظماء والأبطال، ذلك النوع من الدراسة السطحية إن أصبح مقصداً لغير المسلم من دراسة السيرة، فإن للمسلم مقاصد شتى من دراستها، ومنها:
أولاً: أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو محل القدوة والأسوة، وهو المشرع الواجب طاعته واتباعه قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجٌو اللهَ وَاليَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً} (الأحزاب: 21)، وقال تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} (النور: 54)، وقال: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ الله} (النساء: 80)، وقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ} (آل عمران: 31).
فهو التجسيد العملي والصورة التطيبقية للإسلام، وبدونها لا نعرف كيف نطيع الله تعالى ونعبده.
® فسيرته صلى الله عليه وسلم يستقي منها الدعاة أساليب الدعوة ومراحلها، ويتعرفون على ذلك الجهد الكبير الذي بذله رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل إعلاء كلمة الله، وكيف التصرف أمام العقبات والصعوبات والموقف الصحيح أمام الشدائد والفتن.
® ويستقي منها المربُّون طرق التربية ووسائلها.
® ويستقي منها القادة نظام القيادة ومنهجها.
® ويستقي منها الزهَّاد معنى الزهد ومقاصده.
® ويستقي منها التجَّار مقاصد التجارة وأنظمتها وطرقها.
® ويستقي منها المبتلون أسمى درجات الصبر والثبات وتقوى عزائمهم على السير على منهجه والثقة التامة بالله عز وجل بأن العاقبة للمتقين.
® ويستقي منها العلماء ما يعينهم على فهم كتاب الله تعالى، ويحصلون فيها على المعارف الصحيحة في علوم الإسلام المختلفة، وبها يدركون الناسخ والمنسوخ وأسباب النـزول وغيرها وغيرها من المعارف والعلوم.
® وتستقي منها الأمة جميعاً الآداب والأخلاق والشمائل الحميدة.
ولهذا قال ابن كثير: «وهذا الفن مما ينبغي الاعتناء به، والاعتبار بأمره، والتهيؤ له، كما رواه محمد بن عمر الواقدي عن عبد الله بن عمر بن علي عن أبيه سمعت علي بن الحسين يقول: كنا نعلم مغازي النبي صلى الله عليه وسلم كما نعلم السورة من القرآن. قال الواقدي: وسمعت محمد بن عبد الله يقول: سمعت عمي الزهري يقول: في علم المغازي علم الآخرة والدنيا»[3].
وقال إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص: «كان أبي يعلمنا مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعدها علينا، ويقول: هذه مآثر آبائكم فلا تضيعوا ذكرها»[4].
وقال علي بن الحسين: «كنا نعلم مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نعلم السورة من القرآن»[5].
® لقد خلف التاريخ عظماء وملوكاً وقُوَّاداً، وشعراء، وفلاسفة، فمن منهم ترك سيرة وأسوة يؤتسى بها في العالمين؟ لقد طوى التاريخ ذكرهم فلم يبق منه شيء وإن بقيت بعض أسمائهم.
® لقد أصبحت سير كثير من العظماء أضحوكة للبشر على مدار التاريخ كله.
فأين نمرود الذي قال لإبراهيم: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ}؟! (البقرة: 258) وأين مقالة فرعون وشأنه الذي قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} (النازعات: 24)، وقال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي}؟! (القصص: 38).
إن هؤلاء العظماء في زمانهم يسخر منهم اليوم الصغير والكبير والعالم والجاهل، فإن كانوا دلسوا على أقوامهم في زمنهم واستخفوا بهم فأطاعوهم؛ فقد افتضح أمرهم بعد هلاكهم، وأصبحوا محل السخرية على مدار الزمان.
® إن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم جاءت بإخراج الناس من ظلمات الشرك والأخلاق وفساد العبادة والعمل إلى نور التوحيد والإيمان والعمل الصالح: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} (الأحزاب:45-46)[6].
ثانياً: ندرس السيرة ليزداد إيماننا ويقيننا بصدقه، فالوقوف على معجزاته ودلائل نبوته مما يزيد في الإيمان واليقين في صدقه صلى الله عليه وسلم، فدراسة سيرته العطرة وما سطرته كتب السيرة من مواقف عظيمة، وحياة كاملة كريمة، تدل على كماله ورفعته وصدقه.
ثالثاً: ولينغرس في قلوبنا حبه، فما حملته سيرته من أخلاق فاضلة، ومعاملة كريمة، وحرصه العظيم على هداية الناس وصلاحهم وجلب الخير لهم، وبذل نفسه وماله في سبيل إخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومن الشقاء إلى السعادة، وما كان من حرصه صلى الله عليه وسلم على أمته في إبعادها عما يشق عليها ويعنتها، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْماً فَقَالَ: لَقَدْ صَنَعْتُ الْيَوْمَ شَيْئاً وَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَفْعَلْهُ، دَخَلْتُ الْبَيْتَ فَأَخْشَى أَنْ يَجِيءَ الرَّجُلُ مِنْ أُفُقٍ مِنَ الآفَاقِ فَلا يَسْتَطِيعُ دُخُولَهُ فَيَرْجِعُ وَفِي نَفْسِهِ مِنْهُ شَيْءٌ»([7]).
ولا أعظم من وصف الله جلَّ وعلا له في قوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (الأحزاب: 128)، وقال سبحانه وتعالى واصفاً نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم:4)، وأنه لم ينتقم لنفسه قط، ولا فرح أو حزن، أو ضحك أو غضب من أجل نفسه ومصالحه الشخصية قط، أو انتصر لنفسه مرة واحدة، بل كل ذلك كان من أجل الله تعالى.
رابعاً: لنعبد الله تعالى بذكره والصلاة والسلام عليه قال الله تعالى: {إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (الأحزاب:56)، وروى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَاحِدَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا»[8].
ميزات السيرة النبوية وخصائصها:
أولاً: أنها معلومة ومسجلة ولم يخف منها شيء، فما ترك علماء الإسلام على مر التاريخ باباً من أبواب السيرة إلا وقد ألفوا فيه مؤلفاً مستقلاً، شمل ذلك دقائقها وجزئياتها حتى أصبح المسلم عند قراءته لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم كأنه يعايشه ويشاهده تماماً لوضوحها وشمولها.
وسيأتي بيان ذلك في الحديث عن مصادر السيرة النبوية، ويكفي أن تعلم أن عدد ما ألف في السيرة النبوية في اللغة الأوردية -وهي لغة حديثة- ما يزيد على ألف كتاب، وعدد ما ألف في اللغات الأوربية في القرن نفسه ما يزيد على ألف وثلاثمائة كتاب، هذا في القرن الثالث عشر[9].
ثانياً: ما تميزت به من الصدق والأمانة في نقلها، فقد حظيت ضمن ما حظيه الحديث من التمحيص والتحقيق والمقارنة والتثبت من النقلة ومعرفة الصحيح منها من الضعيف، فأصبحت أصح سيرة نقلت إلينا عن نبي أو عظيم.
ثالثاً: أن رسالته صلى الله عليه وسلم عامة لجميع الخلق مع خلودها.
فسيرته قدوة وأسوة لكل البشر قد ساوت بين الملوك والسوقة، سيرة ينتفع بها صغار الناس وكبارهم، فهم في دين الله سواء قد رفع من شأن الجميع.
ولا شك أنه ما من خير وصلاح وسعادة في الدنيا والآخرة إلا وهو مستقى منها، وما من شر وفساد وشقاء وظلم وجور إلا بسبب الجهل بها والبعد عن الاقتداء بسيرة صاحبها صلى الله عليه وسلم.
لقد أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو بعد في مكة ومحاصر فيها- قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلعَالَمِينَ} (الأنبياء:107)، فهو الرحمة المهداة والنعمة المسداة للبشرية جميعاً، رحمة لهم ومنقذهم من الشقاء والضلال والظلم والفساد والضياع والانحطاط، إلى السعادة والهداية والعدل والصلاح والرفعة والعلو والكرامة قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} (سبأ:28)، وقال جل وعلا: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلعَالَمِينَ نَذِيراً} (الفرقان:1).
وقال صلى الله عليه وسلم: «وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً»[10].
® إن الإنسانية كلها تتطلع إلى مثل أعلى تقتدي به، ولن تجد سيرة -لعظيم أو نبي- معلومة كاملة شاملة غير سيرة النبي صلى الله عليه وسلم.
® إن أي دين لا يقوم على ركيزتين: حقوق الله، وحقوق البشر لا يمكن أن ينقذ البشرية ويقودها إلى الصلاح والنجاة والسعادة والكمال.
والديانات الآن على قسمين: منها ما ليس فيه ذكر لله البتة مثل البوذية والديانات الصينية، ومنها من تؤمن بوجود الله تعالى، لكن لا يعرف الإنسان فيها كيف يعتقد بربه؟ وبأي صفة يصفه؟ وبأي شكل تتجلى العقيدة في الله عز وجل؟
أما حقوق البشر فابحث في جميع الأديان هل تجد تفصيلاً للحياة الأسرية والعلاقات الاجتماعية، فضلاً عن الحياة السياسية والعلاقات الدولية، والشئون الاقتصادية، تفحص في سير جميع الأنبياء والعظماء هل تجد إجابة على هاتين الركيزتين، ومن المؤكد أنك لن تصل إلى نتيجة إلا في دين الإسلام وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم.
اسأل البوذيين ماذا يعرفون عن بوذا وما أخلاقه؟ وما علاقاته مع أسرته فقط؟ فلن تجد جواباً.
واسأل النصارى عن عيسى عليه السلام، ماذا يعرفون عنه قبل النبوة؟ والتي يحددونها بثلاثين عاماً وبعد النبوة ثلاثة أعوام، وكيف العلاقة بينه وبين أمه، أو بينه وبين ربه الذي يزعمون بنوته له؟ تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً، فلن تجد عند جميع هؤلاء أي جواب، بل ستجد الدهشة بادية على وجوه جميع من تسأله من عالم [11].
رابعاً: كمالها بلا عيب أو نقص أو ضعف أو خلل، قلِّب بصرك وعقلك في ثنايا السيرة النبوية الشريفة هل ثمت شيء تنتقده، أو عيب تجده.
® إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقض وقته بين أحبابه وأصحابه، بل قضى أغلب عمره بين ألد أعدائه وهم المشركون، وفي آخر عمره كان يجاوره اليهود والمنافقون، فلم يستطيعوا أن يرموه بنقيصة في أخلاقه وشمائله وصدقه، على الرغم من حرصهم الشديد بالبحث والتنقيب عنها، فقد رماه أهل مكة بالألقاب السيئة وعيَّروه بالأسماء القبيحة، إلا أنهم لم يستطيعوا أن يقدحوا في شيء من أخلاقه، أو يدنسوا عرضه الطاهر رغم إنفاقهم أموالهم وإزهاقهم أرواحهم في عدائه، قال تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ} (الأنعام:33).
وقد أخرج البخاري عن ابن عباس في صعود النبي صلى الله عليه وسلم الصفا لتبليغ الناس حيث قال: «أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلاً بِالْوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟ قَالُوا: نَعَمْ، مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلاَّ صِدْقاً»[12].
وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: «إن أول يوم عرفت فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أمشي أنا وأبو جهل بن هشام في بعض أزقة مكة، إذ لقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي جهل: «يا أبا الحكم هلمَّ إلى الله ورسوله، إني أدعوك إلى الله» فقال أبو جهل: يا محمد، هل أنت منته عن سب آلهتنا؟ هل تريد إلا أن نشهد أن قد بلغت؟ فوالله لو أني أعلم أن ما تقول حق ما تبعتك! فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبل عليَّ فقال: والله إني لأعلم أن ما يقول حق، ولكن بني قصي قالوا: فينا الحجابة، فقلنا: نعم، قالوا: فينا الندوة، قلنا: نعم، قالوا: فينا اللواء، قلنا: نعم، قالوا: فينا السقاية، قلنا: نعم، ثم أطعموا، وأطعمنا، حتى إذا تحاكّت الرُّكَب قالوا: منا نبي! فلا والله لا أفعل»[13].
وقصة الوليد بن المغيرة لما اجتمعت قريش في الموسم للاتفاق على كلمة واحدة يختلقونها في شأن الرسول صلى الله عليه وسلم -كما سيأتي- دليل صريح على حرصهم على الوقيعة في رسول الله صلى الله عليه وسلم، والبحث والتنقير عن أي نقيصة أو عيب ولكن أنى لهم ذلك، فراحوا يختلقون عليه من عند أنفسهم دون حياء.
® جل العظماء حالتهم مع الناس غير حالتهم مع أهلهم وفي بيوتهم، ولا يرضون لزوجاتهم أن تخبر عن أحوالهم، بل تعتبر حياتهم الخاصة سراً من الأسرار يعاقب على إفشائها، وكل الناس كذلك لا يرضون أبداً أن يطلع أحد على كثير من حياتهم الأسرية الخاصة.
ما عدا رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو لم يرض فقط بل أمر أن ينقل عنه كل شيء، فبلغ عنه أزواجه كل ما رأوه منه، حتى إنها لتبلغ عنه ما كان تحت اللحاف فيما بينه وبينها، وعن غسلها معه من الجنابة، حتى إن الرجل ليعرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر مما يعرفه عن أبيه الملاصق له والساكن معه!
خامساً: شمولها لجميع نواحي الحياة مع الوضوح التام فيها.
لقد عاش النبي صلى الله عليه وسلم بين صحابته وتزوج بتسع نسوة، وأمر أن يبلغ الشاهد منهم الغائب، وقال: «بلغوا عني ولو آية»[14] وقال: «نضر الله امرءاً سمع منا شيئاً فبلغه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع»[15] وما سافر وحده قط، ولا اعتزل الناس في يوم من الأيام أبداً، وقد تضافر الصحابة على نقل كل شيء عنه، بل تفرغ عدد منهم للرواية والمتابعة له كأهل الصفة.
لقد وصفوه في قيامه وجلوسه، وكيف ينام، وهيئته في ضحكه وابتسامته، وكيف اغتساله ووضوؤه، وكيف يشرب ويأكل وما يعجبه من الطعام، ووصفوا جسده الطاهر كأنك تراه، حتى ذكروا عدد الشعرات البيض في رأسه ولحيته، ولمحة في كتاب من كتب السيرة والشمائل تجد العجب من هذا الشمول وهذه الدقة في الوصف والنقل([16]).
سادساً: أنها بعمومها لم تتعد القدرة البشرية، أي أنها لم تتكئ على الخوارق، أو قامت فصولها على معجزة من المعجزات خارجة عن قدرات البشر.
بل إنه من السهل التعرف عليها وتطبيقها، والاقتداء بها، فليست مثالية التطبيق.
مصادر السيرة النبوية:
تعتمد مصادر السيرة النبوية على مصادر متنوعة منها أصلية ومنها تكميلية.
فمن المصادر الأصلية: القرآن الكريم، والحديث الشريف، وكتب السيرة، والمغازي، والدلائل، والشمائل، والخصائص وكتب التاريخ الأخرى.
ومن التكميلية: كتب الفقه، وكتب الأدب، ودواوين الشعر، وكتب الأنساب، وتراجم الرجال، وكتب الجغرافيا.
المصادر الأصلية:
1- القرآن الكريم: ويتضمن بيان العقيدة والشريعة، وتوضيح الناحية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للأمة المسلمة، كما ترد فيه الإشارة إلى المعارك والغزوات ومواقف الناس منها مثل موقف المنافقين، إضافة إلى بيان مواقف اليهود والمشركين من الدعوة، وتعتبر كتب التفسير موضحة وشارحة ومبينة للآيات القرآنية([17]).
2- كتب الحديث: وهي من أهم المصادر في السيرة النبوية، حيث نقلت لنا بأصح الأسانيد كثيراً من حوادث السيرة ومغازي النبي صلى الله عليه وسلم، ووصفاً دقيقاً لحياته الشخصية وسيرته مع أصحابه، إضافة إلى بيان كثير من الجوانب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
3- كتب الدلائل: وتتناول المعجزات والدلائل على صدق النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أقدم من كتب فيها الفريابي (ت212هـ) في كتابه «دلائل النبوة»، ثم المدائني (ت225هـ) في كتابه «آيات النبي صلى الله عليه وسلم...» الخ.
4- كتب الشمائل: وهي التي تبين أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وصفاته الخلقية والخلقية، وأقدم من ألف فيها أبو البختري وهب بن وهب الأسدي (ت200هـ) في مؤلفه «صفة النبي صلى الله عليه وسلم»، ومن أشهر كتب الشمائل «الشمائل المحمدية» للترمذي.
5- كتب السيرة: وقد اعتنى المسلمون بالسيرة النبوية في وقت مبكر مما يضفي عليها التكامل في التسجيل والثقة في الرواية والنقل، وقد اشتهر عدد من الصحابة باهتمامهم بالسيرة، منهم: ابن عباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، والبراء بن عازب رضي الله عنهم أجمعين.
وكتبت بعض أحداث السيرة على يد التابعين والصحابة متوافرون مقرون لهم بذلك ومن هؤلاء: أبان بن عثمان (ت101-105هـ) وعروة بن الزبير (ت94هـ)، والشعبي (ت103هـ).
وممن اهتم بالسيرة الزهري (ت124هـ) فقد تلقاها عن جمع من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن كبار التابعين.
ومن أوثق كتب المغازي كتاب موسى بن عقبة (ت140هـ)، وقد قال ابن معين «كتاب موسى ابن عقبة عن الزهري من أصح هذه الكتب»، وقال الإمام الشافعي: «ليس في المغازي أصح من كتاب موسى بن عقبة مع صغره وخلوه من أكثر ما يذكر في كتب غيره».
وممَّن ألف في السيرة أبو المعتمر سليمان بن طرخان التيمي (ت143هـ) وهو من العباد الثقات، وقد رواها عنه ابنه معتمر، وقد ذكر هذه السيرة أبو بكر بن خير الأشبيلي في «فهرسته» (ص:231)، ونقل عنها ابن سيد الناس، والسهيلي، وابن كثير، وابن حجر وغيرهم.
وممن علا صِيته واشتهر في السيرة النبوية حتى نسبت إليه: محمد بن إسحاق (ت151هـ) وهو من تلاميذ الزهري، وهو إمام هذا الشأن، وقد اختصرها ابن هشام (ت218هـ) وهي التي بقيت في أيدينا الآن، حيث حذف منها ما لا تعلق له في السيرة، وحذف منها تاريخ الأنبياء، وما لا يصح من الشعر، كما ذكر ذلك في مقدمته، ثم شرحها السهيلي (ت518هـ).
ومن كُتَّاب السيرة الواقدي (ت207هـ) وهو من أئمة هذا الشأن، فقد اهتم بالوقائع والمغازي وسأل عنها أبناء الأنصار، وحاول أن يقف على كثير منها، وهو مع سعة علمه وشهرته واطلاعه وتخصصه في السيرة إلا أنه متروك من حيث الرواية في الحديث.
ومن كتب السيرة: «عيون الأثر في فنون المغازي والسير» لابن سيد الناس (ت734هـ) و«السيرة النبوية» للذهبي (ت748هـ)، ومنها:«البداية والنهاية» لابن كثير (ت774هـ).
ومن مصادر السيرة: كتب فقه السيرة، وأقدم من كتب في فقه السيرة هو أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني (ت430هـ) في كتابه «الهدي النبوي»، وجعفر بن محمد المستغفري (ت432هـ) في كتابه «الهدي النبوي»([18])، و«زاد المعاد في هدي خير العباد» لابن قيم الجوزية (ت751هـ).
وكما اهتم العلماء في التأليف في السيرة جملة، فإن هناك من اهتم بالكتابة في جزئيات السيرة مثل: «تركة النبي صلى الله عليه وسلم والسبل التي وجهها فيها» لحماد بن إسحاق بن إسماعيل (ت267هـ)، بتحقيق الدكتور أكرم ضياء العمري، الطبعة الأولى (عام1404هـ)، و«المصباح المضيء في كتاب النبي الأمي ورسله إلى ملوك الأرض من عربي وعجمي» لمحمد بن علي بن أحمد بن حديدة الأنصاري (ت783هـ)، الطبعة الأولى (عام1396هـ)، وكتاب «الفخر المتوالي فيمن انتسب للنبي صلى الله عليه وسلم من الخدم والموالي» لمحمد بن عبد الرحمن السخاوي (ت902هـ) بتحقيق مشهور حسن، الطبعة الأولى (عام1407هـ).
الموسوعات في السيرة:
وأقدم كتاب فيما أعلم هو «سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد» لمحمد بن يوسف الدمشقي الشامي (ت942هـ) انتخبها من 300 كتاب.
ومن الكتب المعاصرة: كتاب «الجامع في السيرة النبوية» تأليف سميرة الزايد، وقد جمعت المؤلفة من كتب السيرة وكتب السنة وكتب التراجم، وقد جعلت لها منهجاً وهو اعتماد رواية ابن هشام وتخريج الروايات كلها عليها، إلا إذا لم تجد له في الموضوع رواية، ولم تهتم بالحكم على الأدلة وتتبع تخريجها.
النَّظم في السيرة: قام العلماء بنظم أحداث السيرة ووقائعها حتى يسهل على الطالب حفظها وممن اعتنى بنظم السيرة الحافظ عبد الرحيم العراقي (ت806هـ) وقد طبع الكتاب مع شرحه «العجالة السنية على ألفية السيرة النبوية» لعبد الرؤوف المناوي (ت1031هـ).
أوضح الناظم رحمه الله أن كتب السيرة النبوية احتوت ما كان إسناده معتبراً وما كان غير معتبر، وجرى في نظمه على طريقتهم في عدم اعتبار الإسناد؛ لكن إن وردت رواية صحيحة نبه عليها.
وقد نظم السيرة على الترتيب التاريخي، إلا أنه بعد ذكر الهجرة ووصول الرسول صلى الله عليه وسلم إلى خيمة أم معبد شرع في ذكر شمائله وخصائصه ثم رجع إلى ذكر مغازيه، وختمها بذكر أقاربه وأزواجه ومواليه وحراسه وخدمه.
وقد اعتمد في ألفيته على كتب السنة والسيرة.
تميز الكتاب بسهولة العبارة ووضوحها واشتمال النظم على أحداث السيرة جملة، مع إشارته إلى بعض الروايات الصحيحة أحياناً.
أما المصادر غير الأصلية أو التكميلية فتأتي بعد تلك المصادر في الأهمية ومنها: كتب الفقه وهي محل استنباط الأحكام من الكتاب والسنة، ولهذا تجد روايات وأحداثاً في كثير من أبوابها وبخاصة الكتب المتقدمة.
وكتب الرجال والتراجم: وبخاصة تراجم الصحابة مثل كتاب الاستيعاب لابن عبد البر، وأسد الغابة لابن الأثير، والإصابة لابن حجر، فإن هذه الكتب وغيرها غنية جدا بروايات السيرة وأحداثها وذكر مواقف الصحابة في المغازي والسرايا والبعوث.
وكتب الأدب لما تحتويه من وصف للحياة الاجتماعية والعلمية.
وكتب البلدان في وصفها للمدن والطرق وذكرها للمسافات والأبعاد، وقد تشير أحياناً إلى ما حدث فيها من أحداث... الخ.
ونخلص إلى أن التأليف في السيرة شمل الأنواع التالية:
1- كتب السيرة الشاملة.
2- كتب المغازي.
3- الدلائل والمعجزات.
4- الشمائل.
5- الخصائص.
6- البشارات.
7- الموسوعات في السيرة.
8- جزئيات السيرة.
8- فقه السيرة.
9- مختصرات في السيرة.
10- النظم في السيرة.
لمحات عن الجاهلية:
لكي تتعرف على الجهد الذي بذله النبي صلى الله عليه وسلم في هداية الناس، وعلى الشدة والمشقة التي لاقاها من معاصريه، وعلى نجاحه وقدرته في إخراج الناس من الظلمات إلى النور، وكيف وجه طاقات العرب بدلاً من العصبية الجاهلية إلى خدمة الإسلام الحنيف، ولكي تعرف حاجة البشرية إلى الإسلام، وفضل الإسلام على سائر أهل الأرض.
وأمر آخر وهو فقه النصوص الشرعية والحكمة من تشريع الأحكام والعلة في المنع أو الإباحة، والتدرج في الأحكام، والتأكيد على التوحيد.
لكي تتعرف على كل هذا لا بد لك من أن تلم بشيء مما كانت عليه البشرية إبان بعثته عليه السلام في حالتها الدينية والاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية والسياسية.
وهذا موضوع طويل ومتشعب وله كتبه ومراجعه، ويكفي أن تعلم أن لفظ الجاهلية ورد في الكتب التسعة فقط قرابة خمسمائة مرة، ولكن نذكر لمحات من ذلك، وهي عبارة عن معالم من حياة تلك المرحلة وتاريخها:
تعريف الجاهلية:
نسبة إلى الجهل: نقيض العلم، واستجهله عده جاهلاً واستخف به، والجهل السفه والغضب والنـزق، وفي معلقة عمرو بن كلثوم:
ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
أي يتسافه أحد علينا أو يطيش أو يظلم([19]).
والجاهلية قد تكون اسماً للحال وهو الغالب في الكتاب والسنة كقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: «إنك امرؤ فيك جاهلية»([20]).
وقول عمر رضي الله عنه: «إني نذرت نذراً في الجاهلية»([21]).
وقول عائشة رضي الله عنها: «كان النكاح في الجاهلية»([22]).
فإن الجاهلية وإن كانت في الأصل صفة ولكن غلب عليها الاستعمال حتى صارت اسماً ومعناها قريب من معنى المصدر، وقد تكون الجاهلية اسماً لذي الحال فتقول: طائفة جاهلية، وشاعر جاهلي، نسبة إلى الجهل وهو عدم العلم أو عدم اتباع العلم.
فإن من لم يعلم الحق جاهل جهلاً بسيطاً، فإن اعتقد خلافه فهو جاهل جهلاً مركباً، فإن قال خلاف الحق عالماً بالحق أو غير عالم فهو جاهل أيضاً كما قال الله تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} (الفرقان:63)، وكذلك من عمل بخلاف الحق فهو جاهل وإن علم أنه مخالف للحق كما قال سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} (النساء:17) قال الصحابة: «كل من عمل سوءاً فهو جاهل وإن علم أنه مخالف للحق».
وسبب ذلك أن العلم الحقيقي الراسخ في القلب يمتنع أن يصدر معه ما يخالفه من قول أو فعل، فمتى صدر خلافه فلا بد من غفلة القلب عنه أو ضعفه في القلب بمقاومة ما يعارضه، وتلك أحوال تناقض حقيقة العلم فتصير جهلاً بهذا الاعتبار، ومن هنا تعرف أن دخول الأعمال في مسمى الإيمان حقيقة لا مجاز.
فإذا تبين ذلك فالناس قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم في حال جاهلية جهلاً منسوباً إلى الجاهل، فإن ما كانوا عليه من الأقوال والأعمال إنما أحدثه لهم جاهل وإنما يفعله جاهل، وتلك كانت الجاهلية العامة، وأما بعد البعثة فمطلق الجاهلية قد يكون في مصر دون مصر، وقد تكون في شخص دون آخر، ولا تكون الجاهلية مطلقة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يَزَالُ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ»([23]).
الحالة الدينية قبيل البعثة:
كان الناس في جاهلية جهلاء وضلالة عمياء، فقد تعرضت الديانات السماوية لانتحال المبطلين وتحريف الغالين، وأصبحت فريسة للعابثين والمتلاعبين، استبدلت عقيدة التوحيد الصافية بالوثنية الغارقة، والاجتراء على الله تعالى والقول عليه بغير حق، والتطاول على الذات الإلاهية، وارتفع الفرق بين أهل الكتاب وبين أهل الأوثان والأصنام في عباداتهم وحياتهم فاختفى نور التوحيد وسط هذا الركام الهائل من الوثنية، والتغيير والتبديل في كلام الله عز وجل قال الله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} (التوبة:31)، وقال سبحانه في وصف حياتهم وتعديهم على حرمات الله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِاليَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (التوبة:29)، وقال سبحانه في بيان تحريفهم لكلام الله واستبداله مقابل الدنيا: {اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ} (التوبة:9)، ووصف الله شرك أهل الكتاب وكفرهم بقوله: {وَقَالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرُ ابْنُ اللهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى المَسِيحُ ابْنُ اللهِ} (التوبة:30).
وأما المجوسية فقد عرفت من القديم بعبادة النار وبناء المعابد عليها، لها يحجون، وعندها ينذرون، هي معبودهم من دون الله عز وجل، ثم آمنوا بإلهين أحدهما النور والآخر الظلمة.
وقل مثل ذلك في البوذية المنتشرة في الهند وآسيا الوسطى، والبرهمية دين الهند الأصلي.
لقد بلغت الوثنية في قرن البعثة أوجها حتى قيل إن عدد المعبودات والآلهة يصل إلى (330) مليون.
وأطبقت ظلمة الوثنية على الأرض من المحيط إلى المحيط.
روى الإمام أحمد عن الْمِقْدَادِ بْنِ الأَسْوَدِ رضي الله عنه قال: «وَاللَّهِ لَقَدْ بَعَثَ اللَّهُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَشَدِّ حَالٍ بُعِثَ عَلَيْهَا نَبِيٌّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ فِي فَتْرَةٍ وَجَاهِلِيَّةٍ، مَا يَرَوْنَ أَنَّ دِيناً أَفْضَلُ مِنْ عِبَادَةِ الأَوْثَانِ، فَجَاءَ بِفُرْقَانٍ فَرَقَ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ والْبَاطِلِ، وَفَرَّقَ بَيْنَ الْوَالِدِ وَوَلَدِهِ»([24]).
الحالة الاجتماعية والسياسية:
تبعاً للانحراف العقدي وتحريف الأديان ضلت البشرية في جميع حياتها وانتشر الظلم والفساد بين جميع طبقاتها على اختلاف حضاراتها وأديانها وبلدانها، وسأذكر نماذج ومقتطفات تصف ذلك الانحراف والفساد».
أولاً: الدولة الرومانية:
لقد ازدادت فيها الإتاوات والضرائب التي أثقلت كواهل الشعب، بينما تعيش الطبقة الحاكمة ومن يتابعها حياة الترف والتخمة الزائدة، وتضييع الأموال، والحرص على كل نوع من أنواع اللهو واللعب والطرب، وانشغلوا بالمسليات والألعاب عن مصالح البلاد والعباد، وفتحوا ميادين الرياضة العنيفة كمصارعات الرجال والسباع وغيرها.
وكانت ولاياتها مثل مصر والشام عبارة عن شعوب كادحة للطبقة المستعمرة، حياتها عرضة للاضطهاد والبؤس والشقاء، تسلب خيراتهم وتساء معاملتهم.
ثانياً: الفرس:
فإنه لما ظهر مزدك في القرن الخامس دعا إلى الإباحية في جميع نواحي الحياة وأن الناس شركاء في كل شيء، فظهر الفساد وهتكت الأعراض وانتشرت السرقة والسطو على الأموال والممتلكات، ونشأ جيل لا خلاق له ولا مروءة، اتخذ السطو وسيلة لجلب المال والتسلط على الناس، واستولوا على الأملاك والعقارات حتى أقفرت المزارع وخربت الدور وتشتت الناس.
وقد كان الملوك يعتبرون من نسل آخر مغاير لبني البشر، ففيهم يجري دم الآلهة، فكانوا يخاطبون الناس من علو وأنهم آلهة لهم يتصرفون فيهم كيف شاؤوا.
وتعتبر موارد الدولة كلها ملكاً للأكاسرة إلا ما جاد بها كسرى للشعب تفضلاً منه وكرماً وإنعاماً، وقد تفننوا في اكتناز الأموال والتحف الثمينة، والمسابقة في مظاهر الغنى والعظمة إلى حد الخيال.
بينما عامة الناس يعيشون حياة الفقر والبؤس والجوع، حياة العبودية والكدح للآلهة، يتعبون في تحصيل ما يسد رمقهم، ويستر عوراتهم، جميع إنتاجهم تقضي عليها الضرائب والإتاوات، إضافة إلى أنهم وقود لكل حرب همجية طاحنة يثيرها الملك.
ثالثاً: الهند:
فهي أتعس بلد يعيش تفاوتاً فاحشاً بين طبقات المجتمع مدعماً بالدين والعقيدة، فقد قسم سكان الهند إلى أربع طبقات، هي:
1- طبقة الكهنة ورجال الدين وهم (البراهمة).
2- رجال الحرب والجندية وهم (شتري).
3- رجال الفلاحة والتجارة (ويش).
4- رجال الخدمة وهم (شودر) وهم أحط الطبقات وليس لهم إلا خدمة الطبقات الثلاث، وليس لهم أن يدخروا مالاً، أو يجالسوا برهمياً، أو يمسوه بأيديهم، أو يتعلموا الكتاب المقدس.
وقد أضفيت القداسة على الطبقة الأولى، وهو مغفور له ولو أباد الطبقات الثلاث.
وكانت الهند ممزقة تحكمها حكومات تعد بالمئات، وتسيطر الفوضى على جميع أركانها.
رابعاً: أوربا:
المتوغلة في الشمال والغرب فكانت تعيش حياة الهمجية، وترزح تحت ظلام الجهل والأمية والحروب الدامية، وكانت متخلفة عن طريق الحضارة والعلم والآداب، وكأنهم يعيشون في كوكب آخر لا شأن لهم بالعالم.
يزهدون في النظافة، تعشعش الهوام فوق رؤوسهم، أجسامهم قذرة، يغالي رهبانهم في تعذيب أجسامهم، يحتقرون المرأة ويبحثون عن أصلها هل هي من الحيوان أم من الإنسان.
وعموم تلك الشعوب قد ألفت حياة الذلة والخنوع، واعتادت على مجاراة الأوضاع ومسايرة الزمان، لا يهيجهم ظلم، ولا تستحوذ عليهم فكرة ودعوة يسترخصون بها حياتهم ويجازفون في سبيلها بأنفسهم.
قد ألفوا التهجين والتدجين ومصادرة الرأي والحريات، فلا يصلح لهم أن يعرفوا شيئاً، لأنهم ليسوا على مستوى المعرفة والإدراك عند حكامهم، فلا يستحق الشعب السؤال عن شيء فضلاً عن إبداء الرأي فيه.
وعلى العموم فكانت البشرية في القرن السادس الميلادي في أحط أدوارها، وأقبح فترات تاريخها، قد تحطمت فيها جميع مقومات البقاء والحياة، فأصبحت تحتضر قد أيس منها المصلحون وهم على قلتهم وندرتهم قد هربوا في الفيافي والقفار فراراً ويأساً منها كما يدل على ذلك قصة سلمان الفارسي رضي الله عنه، فقد كان ينتقل من عالم إلى آخر كل عالم إذا احتضر أوصى به إلى من يعرفه من بقايا العلماء في مختلف المناطق والديار حتى انتهى إلى الأخير منه فقال له: لا أعرف الآن أحداً في هذه الأرض إلاّ أنه حان مبعث نبي داره في كذا وكذا فوصف له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق سلمان إلى المدينة ينتظر مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما أقفرت الأرض كلها من عالم أو مصلح([25]).
خامساً: العرب:
أما العرب فقد تركوا دين أبيهم إسماعيل وابتعدوا عن الحنيفية دين أبيهم إبراهيم، وانتشرت بينهم عبادة الأصنام والأوثان، وغلوا فيها إلى حد يثير السخرية حيث كان الواحد منهم في سفره يجمع أربعة أحجار ثلاثة لقدره وواحداً يعبده، وإن لم يجد حلب الشاة على كوم من تراب ثم عبده.
روى البخاري عن أبي رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيَّ رضي الله عنه قال: «كُنَّا نَعْبُدُ الْحَجَرَ، فَإِذَا وَجَدْنَا حَجَراً هُوَ أَخْيَرُ مِنْهُ أَلْقَيْنَاهُ وَأَخَذْنَا الآخَرَ، فَإِذَا لَمْ نَجِدْ حَجَراً جَمَعْنَا جُثْوَةً مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ جِئْنَا بِالشَّاةِ فَحَلَبْنَاهُ عَلَيْهِ ثُمَّ طُفْنَا بِهِ، فَإِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَجَبٍ قُلْنَا: مُنَصِّلُ الأَسِنَّةِ فَلا نَدَعُ رُمْحاً فِيهِ حَدِيدَةٌ وَلا سَهْماً فِيهِ حَدِيدَةٌ إِلاَّ نَزَعْنَاهُ وَأَلْقَيْنَاهُ شَهْرَ رَجَبٍ، وَسَمِعْتُ أَبَا رَجَاءٍ يَقُولُ: كُنْتُ يَوْمَ بُعِثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم غُلاماً أَرْعَى الإِبِلَ عَلَى أَهْلِي، فَلَمَّا سَمِعْنَا بِخُرُوجِهِ فَرَرْنَا إِلَى النَّارِ إِلَى مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ»([26]).
وكان أول من أدخل الشرك إلى العرب عمرو بن لحي الخزاعي.
روى البخاري عن سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ رضي الله عنه قَالَ: «الْبَحِيرَةُ الَّتِي يُمْنَعُ دَرُّهَا لِلطَّوَاغِيتِ وَلا يَحْلُبُهَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ، وَالسَّائِبَةُ الَّتِي كَانُوا يُسَيِّبُونَهَا لآلِهَتِهِمْ فَلا يُحْمَلُ عَلَيْهَا شَيْءٌ قَالَ: وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ عَامِرِ بْنِ لُحَيٍّ الْخُزَاعِيَّ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ»([27]).
روى مسلم عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ إِنَّ الْبَحِيرَةَ الَّتِي يُمْنَعُ دَرُّهَا لِلطَّوَاغِيتِ فَلَا يَحْلُبُهَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ وَأَمَّا السَّائِبَةُ الَّتِي كَانُوا يُسَيِّبُونَهَا لِآلِهَتِهِمْ فَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهَا شَيْءٌ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ عَامِرٍ الْخُزَاعِيَّ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السُّيُوبَ»([28]).
ورواه أحمد في «المسند» أيضاً عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أول من سيب السوائب وعبد الأصنام أبو خزاعة عمرو بن عامر، وإني رأيته يجر أمعاءه في النار»([29]).
وفي رواية أخرى عنه ولم يذكر: «وعبد الأصنام»([30]).
® وقد عبد قبائل من العرب الشمس والقمر، والملائكة والجن، والكواكب، وبعضهم عبد أضرحة من ينسب إليهم الصلاح، قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ الَّلاتَ وَالعُزَّى} (النجم:19) قال: «كان رجلاً صالحاً يلت السويق للحاج، فلما مات عكفوا على قبره»([31]).
® وكانت العرب تقصد بعبادة الأصنام عبادة الله والتقرب إليه عن طريقها، أو بواسطتها، وهم على طرق مختلفة: فبعضهم يقول: ليس لنا أهلية لعبادة الله تعالى بلا واسطة لعظمته، فاتخذناها لتقربنا إلى الله، وفرقة قالت: إن للملائكة عند الله جاهاً ومنـزلة فاتخذنا أصناماً على هيئة الملائكة لتقربنا إلى الله، وبعضهم جعلوا الأصنام قبلة في عبادة الله مثل الكعبة قبلة في عبادته، وفرقة أخرى اعتقدت أن على كل صنم شيطاناً موكلاً بأمر الله، فمن عبد الصنم حق عبادته قضى الشيطان حاجته بأمر الله، ومنهم من يقصدون بذلك شفاعتهم عند الله زلفى قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلى اللهِ زُلْفَى} (الزمر:3)، وقال تعالى عنهم: {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ} (يونس:18).
® ولم تكن العرب تعتقد في أصنامها النفع أو الضر.
روى الترمذي عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه قَالَ: قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لأبي الحصين: «كم تَعْبُدُ الْيَوْمَ إِلَهاً؟ قَالَ أَبِي: سَبْعَةً، سِتَّةً فِي الأرْضِ وَوَاحِداً فِي السَّمَاءِ. قَالَ: فَأَيُّهُمْ تَعُدُّ لِرَغْبَتِكَ وَرَهْبَتِكَ؟ قَالَ: الَّذِي فِي السَّمَاءِ. قَالَ: يَا حُصَيْنُ أَمَا إِنَّكَ لَوْ أَسْلَمْتَ عَلَّمْتُكَ كَلِمَتَيْنِ تَنْفَعَانِكَ قَالَ: فَلَمَّا أَسْلَمَ حُصَيْنٌ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِيَ الْكَلِمَتَيْنِ اللَّتَيْنِ وَعَدْتَنِي فَقَالَ: قُلِ: اللَّهُمَّ أَلْهِمْنِي رُشْدِي وَأَعِذْنِي مِنْ شَرِّ نَفْسِي»([32]).
بل كانوا عند الشدائد ينسون آلهتهم ويتخلون عنها كما قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الفُلْكِ دَعَوُ اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلى البَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} (العنكبوت:65).
وكانت أعظم شبه العرب هي: إنكار البعث، وجحد إرسال الرسل من البشر([33]).
وكانوا على حال سيئة من الأمية والجهل والإغراق في الخمور والقمار، والعصبية القبلية المقيتة التي يلغي معها عقله أحياناً على حد قول الشاعر:
غويت وإن ترشد غزية أرشد
وهل أنا إلا من غزية إن غوت
وقول الآخر:
في النائبات على ما قال برهانا
لا يسـألون أخــاهم حين يندبهم
وكانوا بعيدين كل البعد عن اجتماع الكلمة ووحدة الصف، فكانت تقوم بينهم الحروب والمنازعات لأتفه وأحقر الأسباب كما دلت عليها أيامهم مثل: حرب البسوس التي دامت أربعين عاماً بسبب اعتداء على جمل امرأة، وداحس والغبراء كذلك بسبب اعتداء على فرس، وغيرها كثير.
وكانوا على عادات سيئة مثل: وأد البنات، وعمل الميسر، والاستقسام بالأزلام، والنسيء، والبحيرة والسائبة، والتطير والفأل بالطير والجمادات([34])... والجمع بين الأختين، ونكاح زوجة الأب وهذا كان ممقوتاً عند بعضهم حتى سموه نكاح المقت، ومنها المضارة في الطلاق، والعضل في النكاح، وكانوا يرثون النساء([35]).
تلك الحياة الجاهلية بكل صورها وفي جميع أماكنها وبقاعها قد صورها المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث العظيم الذي رواه مسلم عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي خُطْبَتِهِ: «أَلا إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمَّا عَلَّمَنِي يَوْمِي هَذَا: كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْداً حَلالٌ، وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَاناً، وَإِنَّ اللَّهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ إِلا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَالَ: إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بِكَ وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَاباً لا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ تَقْرَؤُهُ نَائِماً وَيَقْظَانَ، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أُحَرِّقَ قُرَيْشاً. فَقُلْتُ: رَبِّ إِذاً يَثْلَغُوا رَأْسِي فَيَدَعُوهُ خُبْزَةً. قَالَ: اسْتَخْرِجْهُمْ كَمَا اسْتَخْرَجُوكَ، وَاغْزُهُمْ نُغْزِكَ، وَأَنْفِقْ فَسَنُنْفِقَ عَلَيْكَ، وَابْعَثْ جَيْشاُ نَبْعَثْ خَمْسَةً مِثْلَهُ، وَقَاتِلْ بِمَنْ أَطَاعَكَ مَنْ عَصَاكَ، قَالَ: وَأَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلاثَةٌ: ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ مُتَصَدِّقٌ مُوَفَّقٌ، وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلِّ ذِي قُرْبَى وَمُسْلِمٍ، وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَالٍ، قَالَ: وَأَهْلُ النَّارِ خَمْسَةٌ: الضَّعِيفُ الَّذِي لا زَبْرَ لَهُ الَّذِينَ هُمْ فِيكُمْ تَبَعاً لا يَبْتَغُونَ أَهْلاً وَلا مَالاً، وَالْخَائِنُ الَّذِي لا يَخْفَى لَهُ طَمَعٌ وَإِنْ دَقَّ إِلا خَانَهُ، وَرَجُلٌ لا يُصْبِحُ وَلا يُمْسِي إِلا وَهُوَ يُخَادِعُكَ عَنْ أَهْلِكَ وَمَالِكَ، وَذَكَرَ الْبُخْلَ أَوِ الْكَذِبَ، وَالشِّنْظِيرُ الْفَحَّاشُ» -وَلَمْ يَذْكُرْ أَبُو غَسَّانَ فِي حَدِيثِهِ- «وَأَنْفِقْ فَسَنُنْفِقَ عَلَيْكَ»([36]).
فالحديث يشير إلى الانحراف عن الشريعة ونبذها وراءهم ظهرياً واختراع أنظمة وقوانين من عند أنفسهم، فحرموا الحلال وأحلوا الحرام في قوله: «كل مال نحلته عبداً حلال... وحرمت عليهم ما أحللت لهم» وهذا رد على ما شرعوه من السوائب والوصيلة والحام والبحيرة، مما يدعونه لآلهتهم، بينما الله شرع أن كل مال رزقه عبداً من عباده فهو حلال له.
كما يوضح الانحراف عن التوحيد والردة الكاملة عن الدين «وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم... وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً».
كما يشير إلى الفساد العظيم الذي غطى وجه الأرض مما استحقوا فيه مقت الله لهم جميعاً إلا بقايا من أهل الكتاب.
بقايا سنن إبراهيم عليه السلام عند العرب:
وقد بقيت عند بعض العرب بقايا من سنن إبراهيم عليه السلام وشريعته بنسب متفاوتة بين القبائل ومن ذلك: خصال الفطرة التي ابتلي بها إبراهيم عليه السلام وهي خمس في الرأس وخمس في الجسد: المضمضة، والاستنشاق، وقص الشارب، والفرق، والسواك وهذه في الرأس، وأما التي في الجسد فهي: الاستنجاء، وتقليم الأظافر، ونتف الإبط وحلق العانة، والختان.
وكانوا يغتسلون للجنابة ويغسلون موتاهم ويكفنونهم، وكانوا يصومون يوم عاشوراء، ويطوفون بالبيت ويسعون بين الصفا والمروة، ويمسحون الحجر ويلبون إلا أنهم يشركون في تلبيتهم يقولون: «لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك»، ويقفون المواقف كلها، ويعظمون الأشهر الحرم.
وكانوا يحكمون بالدية مائة من الإبل، ويوقعون الطلاق إذا كان ثلاثاً وبالرجعة في الأولى والثانية، والقصاص في الجروح، واتباع الحكم في المبال في الخنثى، وكانوا يحرمون نكاح المحارم، وعملوا بالقسامة، واجتنب بعضهم الخمر في الجاهلية، وكانوا يغلظون على النساء أشد التغليظ في شرب الخمر([37]).
وكانوا على شيء من العبادة كالحج والصدقة، وهم على اعترافهم بالله وبعظمته وبتدبيره للأمور، وأنه الرازق الخالق المحيي المميت، وأن جميع الخلق تحت قهره وتصرفه، إلا أنهم اتخذوا من دون الله وسائط يزعمون أنها تقربهم إلى الله زلفى قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءَ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهَ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} (يونس:31)، وقال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كٌنْتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ للهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ، قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ، سَيَقُولُونَ للهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ، قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ للهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} (المؤمنون:84-89).
فهم بذلك يشهدون أن الله هو الخالق الرازق وحده لا شريك له، وأنه لا يرزق إلا هو، ولا يحيي إلا هو، ولا يميت إلا هو، ولا يدبر الأمر إلا هو، وأن جميع السماوات ومن فيهن والأرضين ومن فيها عبيده وتحت تصرفه وقهره، ومع ذلك يشركون به ويدعون معه غيره، بل كانت الكعبة وهي بيت الله المعظم عندهم يحيط به ثلاثمائة وستون صنماً.
® وكانت فيهم سمات كثيرة تؤهلهم لحمل راية الإسلام وهي وإن صعب توجيهها إلى الوجهة السليمة إلا أنها من أكبر الخصال المعينة على تقبلهم الإسلام وحملهم لرايته فيما بعد، ومن تلك الخصال:
1- الذكاء والفطنة: فقد كانت ألواح قلوبهم صافية لم تكتب فيها تلك الفلسفات والأساطير والأغلوطات التي يصعب محوها كما في الأمم المعاصرة لهم، فكأنهم يعدونها لحمل أبهى علم وأعظمه وهو الإسلام، ولهذا كانوا أحفظ شعب عرف في ذلك الزمن وقد وجه الإسلام قريحة الحفظ والذكاء إلى حفظ الدين وحمايته، فكانت قواهم الفكرية، ومواهبهم الفطرية مذخورة فيهم، لم تستهلك في فلسفات خيالية، وجدال بيزنطي عقيم، ومذاهب كلامية معقدة([38]).
وكانت الأمية غالبة عليهم يعتمدون في أحوالهم وأيامهم على الحفظ، فكان الواحد منهم مثلاً يحفظ من القصائد ما يفوت الإحصاء والحصر، فهذا الأصمعي من المتأخرين يقول: «ما بلغت الحلم حتى رويت اثني عشر ألف أرجوزة للأعراب».
واتساع لغتهم دليل على قوة حفظهم وذاكرتهم فإذا كان للعسل ثمانون اسماً وللثعلب مائتان وللأسد خمسمائة، فإن للجمل ألفاً، وكذا السيف، وللداهية نحو أربعة آلاف اسم، ولا شك أن استعياب هذه الأسماء يحتاج إلى ذاكرة قوية حاضرة وقادة([39]).
وقد بلغ بهم الذكاء والفطنة إلى الفهم بالإشارة فضلاً عن العبارة، والأمثلة على ذلك كثيرة ونكتفي بقصتين للدلالة على ذلك:
فقد عزمت حنظلة على الإغارة على إحدى القبائل العربية، فمر بهم راكب فأخذوا عليه الميثاق أن لا ينذرهم أو يكلمهم، فلما مر بهم الرجل علّق على شجرة عندهم وطباً من لبن، ووضع في بعض أغصانها حنظلة، ووضع صرة من تراب وصرة من شوك، ثم ارتحل راحلته وغادرهم فلم يكلمهم، ففهم القوم من صرة التراب بأنه أتاهم عدد كثير، وأن الحنظلة رمز لقبيلة حنظلة، وأما الشوك فيخبرهم بأن لهم شوكة، وأما اللبن فهو دليل على قرب القوم وبعدهم، فإن كان حلواً حليباً فقد أتت الخيل، وإن كان لا حلواً ولا حامضاً فعلى قدر ذلك، وإن كان قارصاً فعلى قدر ذلك، وإن كان خاثراً فلهم مهلة من الرأي، وإنما ترك الرجل كلامهم لأنه قد أخذت عليه العهود وقد أنذرهم فأعدوا عدتهم وارتحلوا عن عدوهم([40]).
وقد بلغ بهم الذكاء إلى الفهم بقرع العصا كما في قصة سعد بن مالك من قيس بن ثعلبة حين قرع العصا لأخيه عمرو بن مالك، وذلك أن النعمان أرسل عمروا يرتاد له الكلأ، فأبطأ عليه فأقسم لئن جاء حامداً للكلأ أو ذاماً ليقتلنه.
فلما قدم قال سعد للنعمان: أتأذن لي أن أكلمه؟ قال: إن كلمته قطعت لسانك، قال: فأشير إليه؟ قال: إن أشرت إليه قطعت يدك، قال: فأومئ إليه؟ قال: إذن أنزع حدقتيك، قال: فأقرع له العصا؟ قال: اقرع.
فتناول عصا من بعض جلسائه فوضعها بين يديه وأخذ عصاه التي كانت معه وأخوه قائم، فقرع بعصاه العصا الأخرى قرعة واحدة فنظر إليه أخوه ثم أومأ بالعصا نحوه فعرف أنه يقول: مكانك، ثم قرع العصا قرعة واحدة ثم رفعها إلى السماء ثم مسح عصاه بالأخرى فعرف أنه يقول قل له: لم أجد جدباً، ثم قرع العصا مراراً بطرف عصاه ثم رفعها شيئاً فعرف أنه يقول: ولا نباتاً، ثم قرع العصا قرعة وأقبل بها نحو النعمان فعرف أنه يقول: كلمه.
فأقبل عمرو بن مالك حتى وقف بين يدي النعمان، فقال له النعمان: هل حمدت خصباً، أو ذممت جدباً؟ فقال عمرو: لم أذمم جدباً، ولم أحمد بقلاً، الأرض مشكلة لا خصبها يعرف، ولا جدبها يوصف، رائدها واقف، ومنكرها عارف، وآمنها خائف، فقال النعمان: أولى لك، بذلك نجوت.
ولما كان العرب بهذه المثابة من الفطنة والذكاء كان معجزتهم القرآن، فإن لكل قوم معجزة بحسب أفهامهم وقدر عقولهم([41]).
2- أهل كرم وسخاء يسترخصون أموالهم التي تعبوا في جمعها والحصول عليها في سبيل ذلك، مما سهل عليهم بعد ذلك بذل أموالهم في سبيل الله.
وهذا لا يحتاج إلى بيان، ولا يعوزه إقامة دليل ولا برهان فقد شهد لهم بذلك القاصي والداني، واشتهر به الحاضر منهم والبادي، وقد نطقت بذلك أشعارهم وأقاصيصهم التي لا تعد ولا تحصى، وسأذكر بعضاً من ذلك:
قال الشاعر:
حضأت له نارا لها حطب جزل
ومستنبحِ قال الصدى مثل قوله
مخافة قومي أن يفوزوا به قبل
فقمت إليه مسرعا فغنمته
وأرخص بحمد كان كاسبه الأكل
فأوسعني حمدا وأوسعته قرىَ
وقال آخر:
وأنها لا تراني آخر الأبد
تركت ضأني تود الذئب راعيها
وكلَ يوم تراني مدية بيدي
الذئب يطرقها في الدهر واحدة
وقال آخر:
جبان الكلب مهزول الفصيل
وما يك فيّ من عيب فإني
وقال آخر:
ولكن أخلاق الرجال تضيق
لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها
® وكان من كرمهم ينـزلون بالروابي والأماكن العالية وفوق الجبال حتى يراهم الضيف، وكانوا يوقدون النيران بالليل ليهتدي إليهم الأضياف، وربما أوقدوها بالمندلي الرطب وهو عطر ينسب إلى مندل وهي بلدة من بلاد الهند ليهتدي إليها العميان:
كسى الأرض نضاح الجليد وجامده
وإني لأدعو الضيف بالضوء بعدما
ومن كرماء العرب حاتم الطائي وهو ممن اشتهر ولم يخف أمره على أحد وهو القائل
لغلامه:
والريح يا واقدُ ريح صر
أوقد فإن الليل ليل قرُ
إن جلبت ضيفاً فأنت حر
علّ يرى نارك من يمرُ
وهو القائل في قصيدته الطويلة يخاطب زوجته ماوية:
إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
أماوي لا يغني الثراء عن الفتى
فأوله شكر وآخره ذكر
أماوي إن المال مال بذلته
ومن كرماء العرب هرم بن سنان الذي قال فيه الشاعر:
كأنك تعطيه الذي أنت سائله
تراه إذا ما جئته متهللاً
ومن كرمائهم عبد الله بن جدعان التيمي وكان له جفان عظيمة في مكة يأكل منها القائم والراكب على البعير:
وآخر فوق دارته ينادي
له داعي بمكة مشمعل
لُباب البر يلبك بالشهاد
إلى رُدح من الشيزي ملآء
ومن كرمهم أنهم كانوا يكرهون أن يطعموا أضيافهم البائت من اللحم، حدث قيس بن سعد رضي الله عنه: «أنه نزل على رجل هو وصاحب له، فنحر لهم جزوراً فأكلوا منه، فلما كان من الغد نحر لهم آخر فقال: شأنكم به، فقلنا: ما أكلنا من الأول إلا اليسير، فقال: إني لا أطعم أضيافي الغاب، فأقمنا عنده أياماً وهو يفعل
ذلك...»([42]).
® وكانت قريش تقوم بأمر من يرد إلى مكة من الحاج بالغاً ما بلغ من طعامهم وشرابهم، وكان هاشم وهو أحد أجداد الرسول صلى الله عليه وسلم إذا حضر الحج قام في قريش فقال: يا معشر قريش إنكم جيران الله وأهل بيته وهم ضيف الله وأحق الضيف بالكرامة ضيفه فاجمعوا لهم ما تصنعون لهم به طعاماً أيامهم هذه التي لا بد لهم من الإقامة فيها، فإنه والله لو كان لي مال يسع لذلك ما كلفتكموه فيخرجون لذلك خرجاً من أموالهم كل امرئ على حسب قدرته واستطاعته، فيصنع به طعاماً للحاج حتى يصدروا وهذه هي الرفادة التي سنها قصي، وهاشم هو الذي هشم الثريد بمكة([43]).
قال النعمان بن المنذر لكسرى في مدح العرب: «وأما سخاؤها فإن أدناهم رجلاً الذي تكون عنده البكرة والناب عليها بلاغه في حموله وشبعه وريه فيطرقه الطارق الذي يكتفي بالفلذة، ويجتزي بالشربة فيعقرها له ويرضى أن يخرج عن دنياه كلها فيما يكسبه حسن الأحدوثة وطيب الذكر»([44]).
3- وكانوا أصحاب صراحة ووضوح بعيدين عن الالتواءات والتعقيد، الصدق سجيتهم، والكذب ليس مطية لهم بل يأنفون منه ويعيبونه، أهل وفاء، ولهذا كانت الشهادة باللسان كافية للدخول في الإسلام.
وقصة أبي سفيان مع هرقل لما سأله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت الحروب بينهم قائمة قال: «لولا أن يأثروا عليَّ كذباً لكذبت عليه»([45]) دليل على أنهم كانوا يستقبحون الكذب.
أما وفاؤهم فقد قال النعمان بن المنذر لكسرى في وفاء العرب: «وإن أحدهم يلحظ اللحظة ويومئ الإيماء فهي ولَث وعقدة لا يحلها إلا خروج نفسه، وإن أحدهم يرفع عوداً من الأرض فيكن رهناً بدينه فلا يغلق رهنه ولا تخفر ذمته، وإن أحدهم ليبلغه أن رجلاً استجار به وعسى أن يكون نائياً عن داره، فيصاب فلا يرضى حتى يفني تلك القبيلة التي أصابته أو تفنى قبيلته لما أخفر من جواره، وأنه ليلجأ إليهم المجرم المحدث من غير معرفة ولا قرابة فتكون أنفسهم دون نفسه وأموالهم دون ماله»([46]).
فالوفاء خلق متأصل بالعرب فجاء الإسلام ووجه الوجهة السليمة فغلظ على من آوى محدثاً مهما كانت منـزلته وقرابته قال صلى الله عليه وسلم: «لعن الله من آوى محدثاً»([47]).
ومن القصص الدالة على وفائهم: قصة حنظلة بن عفراء مع المنذر بن ماء السماء حين قدم عليه في يوم بؤسه وأراد قتله فطلب منه التأجيل سنة، وكذلك وفاء السموأل بأدرع امرئ القيس([48]).
ومن أروع القصص: «أن الحارث بن عباد قاد قبائل بكر لقتال تغلب وقائدهم المهلهل الذي قتل ولد الحارث وقال: (بؤ بشسع نعل كليب) في حرب البسوس، فأسر الحارث مهلهلاً وهو لا يعرفه فقال له: دلني على مهلهل بن ربيعة وأخلي عنك فقال له: عليك العهد بذلك إن دللتك عليه، قال: نعم. قال: فأنا هو، فجز ناصيته وتركه» وهذا وفاء نادر ورجولة تستحق الإكبار([49]).
ومن وفاءهم: «أن النعمان بن المنذر خاف على نفسه من كسرى لما منعه من تزويج ابنته فأودع أسلحته وحرمه إلى هانئ بن مسعود الشيباني، ورحل إلى كسرى فبطش به، ثم أرسل إلى هانئ يطلب منه ودائع النعمان فأبى، فسير إليه كسرى جيشاً لقتاله فجمع هانئ قومه آل بكر وخطب فيهم فقال: «يا معشر بكر، هالك معذور، خير من ناج فرور، إن الحذر لا ينجي من القدر، وإن الصبر من أسباب الظفر، المنية ولا الدنية، استقبال الموت خير من استدباره، الطعن في ثغر النحور، أكرم منه في الأعجاز والظهور، يا آل بكر قاتلوا فما للمنايا من بد»([50])، وانتصر على الفرس في موقعة ذي قار، فهذا الرجل احتقر حياة الذل والاستكانة، ورأى الموت شرفاً في ساحة العز.
4- كانوا أصحاب شجاعة، ومغاوير حرب، وأحلاس خيل، وأصحاب جلادة وكانت الفروسية من أبرز أخلاقهم.
حتى كانوا يتمادحون بالموت قتلاً، ويتهاجون بالموت على الفراش قال أحدهم لما بلغه قتل أخيه: إن يقتل فقد قتل أبوه وأخوه وعمه، إنا والله لا نموت حتفاً، ولكن قطعاً بأطراف الرماح، وموتاً تحت ظلال السيوف.
ولا طُلّ منا حيث كان قتيل
وما مات منا سيد حتف أنفه
وليست على غير الظباة تسيل
تسيل على حد الظُباة نفوسنا
وحيث كان العرب لا يقدمون شيئاً على العز وصيانة العرض، وحماية الحريم، استرخصوا في سبيل ذلك نفوسهم.
قال عنترة:
أصبحت عن غرض الحتوف بمعزل
بكرت تخوفني الحتوف كأنني
لا بد أن أسقى بكأس المنهل
فأجبتها إن المنية منهل
أني امرؤ سأموت إن لم أقتل([51])
فاقني حياءك لا أبا لك واعلمي
وكانوا يختارون الموت على الذلة، قال حصين بن حمام المري:
ولا مرتق من خشية الموت سلما
فلست بمبتاع الحياة بذلة
وقال عدي بن رعلاء الغساني:
إنما الميت ميت الأحياء
ليس من مات فاستراح بميت
سيئاً باله قليل الرجاء
إنما الميت من يعيش ذليلاً
فهو يصف من تركته الحرب معافى في ثياب الذل فموته في هذه الحال أفضل([52]).
وقال عنترة:
بل فاسقني بالعز كأس الحنظل
لا تسقني ماء الحياة بذلة
وجهنم بالعز أطيب منـزل
ماء الحياة بذلة كجهنم
5- كانوا بمعزل عن الأدواء المدنية والترف الذي يحول دون التحمس للعقيدة والتفاني في سبيلها، فكانوا يقلون من الأكل ويقولون البطنة تذهب الفطنة ويعيبون الرجل الأكول الجشع:
باعجلهم إذ أجشع القوم أعجل([53])
إذا مدت الأيد إلى الزاد لم أكن
6- وكانوا أمة نشأت على الحرية والمساواة، لم تخضع لحكومة أجنبية ولم تألف الرق والعبودية واستعباد الإنسان للإنسان مثل الأمم المعاصرة لهم، الذين حرموا من إبداء الرأي فضلاً عن النقد وإبداء الملاحظة، يأنفون من الذل ويأبون الضيم والاستصغار والاحتقار.
جلس عمرو بن هند ملك الحيرة لندمائه وسألهم: هل تعلمون أحداً من العرب تأنف أمه خدمة أمي؟ قالوا: نعم أم عمرو بن كلثوم الشاعر الصعلوك.
فدعا الملك عمرو بن كلثوم لزيارته، ودعا أمه لتزور أمه، وقد اتفق الملك مع أمه أن تقول لأم عمرو كلثوم بعد الطعام: ناوليني الطبق الذي بجانبك، فلما جاءت قالت لها ذلك فقالت: لتقم صاحبة الحاجة إلى حاجتها، فأعادت عليها الكرة وألحت، فصاحت ليلى أم عمرو بن كلثوم: وا ذلاه يا لتغلب...
فسمعها ابنها فاشتد به الغضب فرأى سيفاً للملك معلقاً بالرواق فتناوله وضرب به رأس الملك عمرو بن هند، ونادى في بني تغلب وانتهبوا ما في الرواق، ونظم قصيدة يخاطب بها الملك قائلاً:
نكون لِقِيلكم فيها قطينا
بأي مشيئة عمـرو بن هند
تطيع بنا الوشاة وتزدرينا
بأي مشيئة عمــرو بن هند
متى كنا لأمك مَقْتَوينا
تهددنا وتوْعِدنا رويداً
إلى أن يقول في آخر معلقته:
أبينا أن نقر الذل فينا
إذا ما المَلْك سام الناس خسفاً
القيل هو الملك دون الملك الأعظم، والقطين هم الخدم، والقتو خدمة الملوك([54]).
أنساب العرب:
ينقسم العرب إلى قسمين: عرب الجنوب وهم قحطان.
وعرب الشمال وهم من ولد نزار بن معد بن عدنان وهم قسمان:
ربيعة بن نزار وقد نزل هذا الفرع وسكن شرقا، حيث أقامت عبد القيس في البحرين، وحنيفة في اليمامة، وبنو بكر بن وائل سكنت ما بين البحرين واليمامة، وعبرت تغلب الفرات فأقامت في أرض الجزيرة بين دجلة والفرات، وسكنت تميم في بادية البصرة.
وأما فرع مضر: فقد نزلت سليم بالقرب من المدينة، وأقامت ثقيف في الطائف، واستوطنت سائر هوازن شرقي مكة، وسكنت أسد شرقي تيماء إلى غربي الكوفة، وسكنت ذبيان بالقرب من تيماء إلى حوران([55]).
وولد الرسول صلى الله عليه وسلم من مضر، وقد أخرج البخاري عن كليب بن وائل قال: حدثتني ربيبة النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت أبي سلمة قال: «قلت لها: أرأيت النبي صلى الله عليه وسلم أكان من مضر؟ قالت: فممن كان إلا من مضر؟ من بني النضر بن كنانة»([56]).
مهبط الوحي مكة المكرمة:
مكة واد غير ذي زرع عند بيت الله المحرم، تشرف عليها جبال جرد وهي جبل (أبو قبيس) وهو الذي كانت تسكنه قريش إلى زمن قصي، و(قعيقعان) وهذان الجبلان هو الأخشبان اللذان ورد ذكرهما في الحديث المخرج في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها «إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأخشبين»([57]) كما سيأتي في قصة الطائف.
ولما قدمت خزاعة من اليمن أخرجت جرهم من مكة وتولت ولاية البيت، وكان سيدهم عمرو بن لحي أول من نصب الأوثان وأدخل عبادة الأصنام إلى العرب وغير دين التوحيد.
قريش:
تنسب قريش إلى فهر بن مالك بن النضر بن كنانة، فقريش من فهر، وما قبله ليس من قريش، وقد انقسمت قريش إلى قسمين: قريش الظواهر وهم البادية الذين نزلوا الجبال ظاهر مكة وقريش البطاح وهم الذين نزلوا بطاح مكة.
وبعد أن تغلب قصي بن كلاب على خزاعة في ولاية البيت، جمع قومه من الشعاب والأودية والجبال وأنزلهم إلى مكة، فسمي مجمعاً، وقسم مكة أرباعاً بين قومه، فسكنوا فيها بعد أن قطع قصي الأشجار بيده، وكانت قريش تهاب ذلك، فلما رأته يفعل ذلك أعانوه، وقد تيمنت به فكانت لا تعقد أمراً، ولا تبرم عقداً إلا في داره.
به جمع الله القبائل من فهر
أبونا قصي كان يدعى مجمعاً
وقد اشتهرت قريش بالتجارة، وامتاز رجالاتها بالدهاء والحذق والذكاء في التعامل مع الناس، ومع القبائل والحكومات القائمة فقد تألفت الناس وتألفها الناس من أجل ذلك، وقد استفادت قريش من أمن البيت وتعظيم العرب له في نجاح تجاراتها وانتشار الأسواق الآمنة فيها، مما حمل الناس على جلب بضائعهم إليها، والامتيار منها، كما استفادت منه في رحلاتها إلى اليمن وإلى الشام، حيث كان الناس يحترمونهم لأنهم أهل الحرم، فقد كانت العرب تنعت قريش بـ (آل الله) و(جيران الله) و(سكان حرم الله) و(أهل الله)، لذا كان أهل مكة يميلون إلى السلم ولا يركنون إلى الحرب والغزو إلا دفاعاً عن النفس، وهذا الذي أبقى سادتها وعظماءها الذين أصبحوا عقبة كؤداً أمام الدعوة، بعكس أهل المدينة الذين أفنت الحرب ملأهم وكبراءهم.
سكان مكة من غير قريش:
بنو كنانة وقريش من بني كنانة إلا أنها ميزت نفسها عنهم، وخزاعة، وبنو بكر بن عبد مناة بن كنانة، والأحابيش وهم حلفاء قريش من بعض قبائل العرب ومن غيرهم مثل عضل وبني الحارث وبني المصطلق، وغيرهم، سموا بذلك حين اجتمعوا بذنب حبشي - وهو جبل بأسفل مكة - فتحالفوا بالله إنا ليد على غيرنا ما سجا ليل وأوضح نهار، وما أرسى حبشي مكانه، وقيل غير ذلك أقوال كثيرة.
وكان من ساداتهم (ابن الدغنة) و(الحليس بن يزيد).
وقد كان الأحابيش من غير العرب وفدوا إلى مكة من الحبشة وما جاورها وبعضهم قد تأثر بالنصرانية يشهد لذلك قصة الحديبية: «إن هذا من قوم يتألهون»، وقد امتزج هؤلاء بالعرب وحالفوا تلك القبائل فغلبت عليهم تلك التسمية، بسبب تحالفهم مع هؤلاء الأحابيش، والله أعلم.
دار الندوة:
وكانت دار الندوة دار ملأ مكة، ومجلس سادتها ووجوهها وأشرافها وأولي الأمر فيها، فلم تكن بمكة حكومة مهيمنة على الناس وإنما الأمر للملأ والأشراف فيها من شتى بطون قريش.
وقد خلف قصي جملة من الأولاد هم: عبد العزى وعبد الدار وعبد مناف، وعبد بن قصي، وجعل لابنه عبد الدار دار الندوة والحجابة واللواء والسقاية والرفادة، وبعد ذلك نافسهم بنو عبد مناف وتحالفوا ضدهم في حلف سمي حلف المطيبين فاقتطعوا منهم السقاية والرفادة.
وكان زعماء قريش يحافظون على تراث الآباء ولا يبغون به بديلاً: {إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} (الزخرف:23).
فهذا قانونهم ودستورهم ومرجعهم، وفي هذا حفاظ على زعامتهم ومصالحهم الخاصة، ولهذا لم يلتفتوا إلى نداء الحق: {قَالَ أَوَ لَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكَمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} (الزخرف:24)، فلا يريدون الخروج على العادة والعرف الذي تعارف عليه الناس مهما كان يتصف به ذلك العرف من باطل وضلال وانحراف وشر: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيئاً وَلا يَهْتَدُونَ} (البقرة:170)([58]).
الاصطفاء:
قال الله تعالى: {وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نّؤْمِنَ حَتّىَ نُؤْتَىَ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (الأنعام:124).
أي هو أعلم حيث يضع رسالته ومن يصلح لها من خلقه، كقوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا القُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٌ، أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} (الزخرف:31-32)، يعنون: لولا نزل هذا القرآن على رجل عظيم كبير جليل مبجل في أعينهم {مِنَ القَرْيَتَيْنِ} أي من مكة والطائف، وذلك أنهم قبحهم الله كانوا يزدرون الرسول صلوات الله وسلامه عليه بغياً وحسداً، وعناداً واستكباراً كقوله تعالى مخبراً عنه: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزْواً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً} ( الفرقان: 41 )، وقال تعالى: {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزْواً أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ} (الأنبياء:36)، وقال تعالى: {وَلَقَدْ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} (الأنبياء:41)، هذا وهم معترفون بفضله وشرفه ونسبه، وطهارة بيته ومرباه، ومنشئه صلى الله وملائكته والمؤمنون عليه، حتى إنهم كانوا يسمونه بينهم قبل أن يوحى إليه «الأمين»، وقد اعترف بذلك رئيس الكفار أبو سفيان حين سأله هرقل ملك الروم: وكيف نسبه فيكم؟ قال: هو فينا ذو نسب قال: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال: لا... الحديث بطوله، الذي استدل ملك الروم بطهارة صفاته عليه السلام على صدق نبوته وصحة ما جاء به.
روى الإمام أحمد عَنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَبِي وَدَاعَةَ قَالَ: قَالَ الْعَبَّاسُ: «بَلَغَهُ صلى الله عليه وسلم بَعْضُ مَا يَقُولُ النَّاسُ قَالَ: فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ: مَنْ أَنَا؟ قَالُوا: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ: «أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِ خَلْقِهِ، وَجَعَلَهُمْ فِرْقَتَيْنِ فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِ فِرْقَةٍ، وَخَلَقَ الْقَبَائِلَ فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِ قَبِيلَةٍ، وَجَعَلَهُمْ بُيُوتًا فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِهِمْ بَيْتًا، فَأَنَا خَيْرُكُمْ بَيْتًا وَخَيْرُكُمْ نَفْسًا»([59]) صدق صلوات الله وسلامه عليه([60]).
وروى الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ فَوَجَدَ قَلْبَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ فَاصْطَفَاهُ لِنَفْسِهِ فَابْتَعَثَهُ بِرِسَالَتِهِ، ثُمَّ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ بَعْدَ قَلْبِ مُحَمَّدٍ فَوَجَدَ قُلُوبَ أَصْحَابِهِ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ فَجَعَلَهُمْ وُزَرَاءَ نَبِيِّهِ يُقَاتِلُونَ عَلَى دِينِهِ، فَمَا رَأَى الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ، وَمَا رَأَوْا سَيِّئًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ سَيِّئٌ»([61]).
وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِي عَمَّارٍ شَدَّادٍ أَنَّهُ سَمِعَ وَاثِلَةَ بْنَ الأَسْقَعِ يَقُول: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ»([62]).
روى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «بُعِثْتُ مِنْ خَيْرِ قُرُونِ بَنِي آدَمَ قَرْناً فَقَرْناً حَتَّى كُنْتُ مِنَ الْقَرْنِ الَّذِي كُنْتُ فِيهِ»([63]).
نسبه الشريف صلى الله عليه وسلم:
هو: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيِّ ابْنِ كِلابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعبِ بْنِ لؤَيِّ بْنِ غالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ([64]).
وقال ابن حجر: «إن نسبه صلى الله عليه وسلم إلى عدنان متفق عليه، يعني عند جميع العلماء»([65]).
وقالت عائشة رضي الله عنها كما أخرجه الطبراني بسند جيد: «استقام نسب الناس إلى معد بن عدنان»([66]).
وقد أقر أبو سفيان بعلو نسبه صلى الله عليه وسلم حين سأله هرقل: «كيف نسبه فيكم؟ فأجاب: هو فينا ذو نسب، فقال هرقل: فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها»([67]).
أسماؤه صلى الله عليه وسلم:
في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لي خمسة أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب»([68]).
وعن أبي موسى قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمي لنا نفسه أسماء فقال: «أنا محمد، وأحمد، والمُقَفّي، والحاشر، ونبي التوبة، ونبي الرحمة»([69]).
وفي البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم؟ يشتمون مذمماً، ويلعنون مذمماً، وأنا محمد»([70]).
فذو العرش محمود وهذا محمد
شق له من اسمه ليجله
قوله: «العاقب» في الترمذي: «الذي ليس بعده نبي»([71]).
قال ابن حجر: «والذي يظهر أنه أراد أن لي خمسة أسماء أختص بها لم يسم بها أحد قبلي، أو معظـمة أو مشهورة في الأمم الماضية، لا أنه أراد الحصر فيها»، وقد ذكر السهيلي أنه لم يتسم أحد قبل النبي صلى الله عليه وسلم بمحمد إلا ثلاثة، إلا أن ابن حجر ذكر أنه ألف كتاباً في أسمائه صلى الله عليه وسلم فأوصل من تسمى قبله إلى خمسة عشر([72]).
وقد ألفت عدة كتب في أسمائه وأوصلها بعضهم إلى أكثر من ثلاثمائة اسم، لكن كثيراً منها لا يثبت، وبعضها من أوصافه، وبعضها لم يرد على سبيل التسمية مثل من عد من أسمائه اللبنة للحديث المذكور الذي أخرجه البخاري في باب خاتم النبيين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ قال: فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين»([73]).
أما كنيته صلى الله عليه وسلم فهو: أبو القاسم، كما ورد ذلك في الصحيحين عن أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم في السوق، فقال رجل: يا أبا القاسم، فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «سموا باسمي، ولا تكتنوا بكنيتي»([74]).
ولادته ونشأته صلى الله عليه وسلم:
ولد يوم الاثنين كما ورد ذلك في صحيح مسلم لما سئل عن صيام يوم الاثنين قال: «ذاك يوم ولدت فيه»([75]).
في عام الفيل وهو أرجح الأقوال بل قال خليفة بن خياط: إنه المجمع عليه، وقد ذكر ابن إسحاق بدون إسناد أن ولادته في الثاني عشر من ربيع الأول([76]).
وتتفق رواية مسلم مع ابن إسحاق في كون والده مات وهو حمل في بطن أمه([77]).
وفي الصحيحين أن ثويبة مولاة أبي لهب قامت بإرضاعه صلى الله عليه وسلم فعن أم حبيبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أرضعتني وأبا سلمة ثويبة»([78]).
كما أرضعته مولاته أم أيمن وقد أعتقها عليه الصلاة والسلام بعدما كبر.
روى مسلم في صحيحه قال ابْنُ شِهَابٍ: «وَكَانَ مِنْ شَأْنِ أُمِّ أَيْمَنَ أُمِّ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهَا كَانَتْ وَصِيفَةً لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَكَانَتْ مِنَ الْحَبَشَةِ، فَلَمَّا وَلَدَتْ آمِنَةُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَمَا تُوُفِّيَ أَبُوهُ، فَكَانَتْ أُمُّ أَيْمَنَ تَحْضُنُهُ حَتَّى كَبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَعْتَقَهَا، ثُمَّ أَنْكَحَهَا زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ ثُمَّ تُوُفِّيَتْ بَعْدَمَا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِخَمْسَةِ أَشْهُرٍ»([79]).
أما رضاعه من حليمة السعدية في بني سعد فهذا مما استفاض واشتهر، وقد أخرج ذلك ابن إسحاق بسنده وفيه الجهم بن أبي الجهم قال عنه الذهبي: «مجهول».
لكن القصة رواها أبو يعلى، وابن حبان، والطبراني وقال الهيثمي: رجالهما ثقات يعني رجال أبي يعلى والطبراني، وقال ابن كثير: «وهذا الحديث قد روي من طرق أخر، وهو من الأحاديث المشهورة المتداولة بين أهل السير والمغازي»([80]).
وقد ورد استرضاعه في بني سعد بسند جيد من طريق ابن إسحاق، قال صلى الله عليه وسلم: «واسترضعت في بني سعد ابن بكر»([81]).
وماتت أمه وعمره ست سنوات، فكفله جده عبد المطلب ثم مات بعد سنتين فأوصى به إلى عمه أبي طالب فكفله عمه وحن عليه ورعاه.
وقد شب مع عمه أبي طالب تحت رعاية الله وحفظه له من أمور الجاهلية وعاداتها السيئة «فكان أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقاً، وأكرمهم مخالطة، وأحسنهم جواراً، وأعظـهم حلماً وأمانة، وأصدقهم حديثاً، وأبعدهم من الفحش والأذى، ما رؤي ملاحياً ولا ممارياً أحداً، حتى سماه قومه الأمين، لما جمع الله فيه من الأمور الصالحة»([82]).
وخالف جاهلية قريش في أبرز خصائصها كمناسك الحج حيث كانوا يسمون الحمس، ويقفون في المزدلفة، ولا يخرجون من الحرم زاعمين أن أهل الحرم لا ينبغي لهم أن يعظم من الحل كما يعظم من الحرم.
وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد وقف بعرفة مع الناس وخالف طريقة قومه كما روى ذلك البخاري ومسلم عن جبير بن مطعم حين أضل بعيراً له فذهب يطلبه في عرفة فرأى النبي صلى الله عليه وسلم واقفاً فيها مع الناس فقال: «هذا والله من الحمس فما شأنه ها هنا؟»([83]).
حلف الفضول:
ولم يشهد صلى الله عليه وسلم أي حلف لقريش إلا حلف الفضول أو حلف المطيبين حيث تعاقدوا فيه على نصرة المظلوم فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما شهدت حلفاً لقريش إلا حلف المطيبين، وما أحب أن لي حمر النعم وأني كنت نقضته»([84]).
وحلف المطيبين كان بين بني هاشم وبني أمية وبني زهرة وبني مخزوم وقد جرى هذا الحلف قديماً بعد وفاة قصي وتنازع بني عبد مناف وبني عبد الدار، وسمي حلف الفضول بالمطيبين لأن العشائر التي حضرتها هي التي حضرت الحلف السابق([85]).
وأخرج الحميدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لقد شهدت في دار عبد الله بن جُدعان حلفاً لو دعيت به في الإسلام لأجبت، تحالفوا أن يردوا الفضول على أهلها وألا يعز ظالم مظلوماً»([86]).
رعي الغنم:
كان صلى الله عليه وسلم في شبابه يرعى الغنم لقريش وقال: «مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلاَّ رَعَى الْغَنَمَ، فَقَالَ أَصْحَابُهُ: وَأَنْتَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لأَهْلِ مَكَّةَ»([87]).
دروس وعبر:
ورعي الغنم يتيح لصاحبه عدة خصال تربوية منها:
1- الصبر: على الرعي من طلوع الشمس إلى غروبها، نظراً لبطء الغنم في الأكل، فيحتاج راعيها إلى الصبر والتحمل، وكذا سياسة البشر.
2- الحلم: فبعضها يتقدم وبعضها يتأخر وبعضها يذهب شمالاً وبعضها جنوباً، فإن كان الراعي غضوباً جمعها بعد شتاتها بصورة مرعبة فتبقى مجتمعة خائفة لا تأكل تخشى من عصا الراعي.
3- الأناة والقدرة: على جمع شتاتها بعد رعيها بدون أذى يلحق بها، أو نقص في غذاء يصيبها.
4- الرأفة والعناية بالضعيف: ففيها الصغير والضعيف والهرم، فيحتاج منه إلى لين ورأفة بها حتى تلحق بصواحبها وترعى مثلهن، وكذا سياسة البشر.
5- ارتياد أماكن الخصب: والبحث عنها ونصحها في ذلك وتجنيبها مواطن الجدب والهلكة، وكذا سياسة البشر تحتاج إلى بذل الجهد والنصح لهم في توريدهم مواطن الخير وتجنيبهم مواطن الهلكة، وتحسين معاشهم وما يحتاجونه من رزق حلال، وتجنيبهم الأرزاق المحرمة التي تسبب لهم الويلات والفساد، وتوزيع الثروة عليهم كل على حسبه وقدرته وجهده.
6- التواضع: في رعي الغنم وهو أمر ظاهر وقد ورد في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر» فقال رجل: يا رسول الله الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسنا؟ فقال: «إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس»([88]).
7- ورعي الغنم من أعظم الفرص في الخلوة بالله تعالى والتفكر في خلق السموات والأرض حيث السماء بنجومها، والأرض بجبالها وأشجارها وأنعامها...
8- إن الله تعالى قادر على أن يغني محمداً صلى الله عليه وسلم عن رعي الغنم، ولكن هذه تربية له ولأمته للأكل من كسب اليد.
9- ورعي الغنم نوع من أنواع الكسب باليد وصاحب الدعوة يجب أن يستغني عن ما في أيدي الناس ولا يعتمد بدعوته عليهم، فبذلك تبقى قيمته وترتفع منزلته، ويبتعد عن الشبه والتشكيك فيه، ويتجرد في إخلاص العمل لله تعالى، ويرد شبه الطغاة والظلمة الذي يصورون للناس أن الأنبياء أرادوا الدنيا بدعوتهم: {وَتَكُونَ لَكُمَا الكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ} (يونس:78) هكذا يقول فرعون لموسى، ونظراً لسيطرة حب الدنيا وحطامها على عقولهم يظنون أن أي تفكير وأي حركة مراد به الدنيا، ولهذا قالت الأنبياء عليهم السلام لأقوامهم مبينة استغنائها عنهم: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} (سبأ:47)، {وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللهِ} (هود:29).
روى البخاري عَنِ الْمِقْدَامِ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَاماً قَطُّ خَيْراً مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلام كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ»([89]).
ولاشك أن الاعتماد على الكسب الحر تكسب الإنسان الحرية التامة والقدرة على قول كلمة الحق والصدع بها.
وكان أصحاب رسول الله يتاجرون ويعملون بأيديهم ولا يعتبر غضاضة في حقهم، فهذا عمر يشغله الصفق بالأسواق عن حضور بعض مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي موسى في الاستئذان «أَخَفِيَ هَذَا عَلَيَّ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَلْهَانِي الصَّفْقُ بِالأَسْوَاقِ يَعْنِي الْخُرُوجَ إِلَى تِجَارَةٍ»([90]).
وفي البخاري عن قتادة: «كان القوم يتبايعون ويتجرون، ولكنهم إذا نابهم حق من حقوق الله لم تلههم تجارة ولا بيع عن ذكر الله حتى يؤدوه إلى الله»([91]).
وتقول عائشة رضي الله عنها: «كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عمال أنفسهم»([92]).
زواجه صلى الله عليه وسلم بخديجة:
ذكر ابن إسحاق قصة في زواجه صلى الله عليه وسلم بخديجة وخروجه في تجارتها بغير إسناد ولم يثبت أحد من الأئمة هذه القصة، وأما الزواج من حيث هو فهو ثابت قطعاً كما في الصحيحين وغيرهما، واختلف في عمرها حين تزوجها، فبينما يرى ابن إسحاق: أن عمرها ثمان وعشرون، يرى الواقدي أن عمرها أربعون، بينما تتجه الروايات إلى أن عمره صلى الله عليه وسلم كان خمساً وعشرين سنة حين تزوجها([93]).
تحكيمه في وضع الحجر:
ومما يدل على صيانته ومكانته عند الناس رضاهم بحكمه حين حكموه في الحجر الأسود بعد أن تنافسوا في رفعه: «فَقَالُوا: اجْعَلُوا بَيْنَكُمْ حَكَماً قَالُوا: أَوَّلَ رَجُلٍ يَطْلُعُ مِنَ الْفَجِّ فَجَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: أَتَاكُمُ الأَمِينُ فَقَالُوا لَهُ، فَوَضَعَهُ فِي ثَوْبٍ ثُمَّ دَعَا بُطُونَهُمْ فَأَخَذُوا بِنَوَاحِيهِ مَعَهُ فَوَضَعَهُ هُوَ صلى الله عليه وسلم»([94]).
المصادر والمراجع:
1- الإعلان بالتوبيخ لمن ذمَّ التاريخ - للحافظ السخاوي / تعريب: صالح أحمد العلي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
2- الأدب المفرد - للإمام البخاري / دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
3- البداية والنهاية - للحافظ ابن كثير / الطبعة الثانية، عام 1977م، مكتبة المعارف، بيروت، لبنان.
4- بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب - محمود شكري الألوسي / تحقيق محمد بهجة الأثري، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية.
5- تاريخ الأمم والملوك - لأبي جعفر الطبري / تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، الطبعة الثانية، دار سويدان، عام 1387هـ، بيروت، لبنان.
تاريخ الطبري = تاريخ الأمم والملوك.
6- تخريج أحاديث فقه السيرة للغزالي - للشيخ محمد ناصر الدين الألباني / الطبعة السابعة، عام 1976هـ، دار الكتب الحديثة.
7- الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع - للخطيب البغدادي / تحقيق محمود الطحان، طبعة عام 1403هـ، مكتبة المعارف، الرياض.
8- دلائل النبوة ومعرفة أحوال الشريعة - للبيهقي / تحقيق: عبد المعطي القلعجي، الطبعة الأولى، عام 1405هـ، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
9- ديوان عنترة بن شداد / تحقيق محمد سعيد مولوي، الطبعة الثانية، المكتب الإسلامي، بيروت.
10- الرسالة المحمدية - لسليمان الندوي / الطبعة الثالثة، عام 1401هـ، مكتبة دار الفتح، دمشق.
11- السنن - للإمام أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني / تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، دار إحياء السنة النبوية.
12- السنن - للإمام عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي / طبعة دار إحياء السنة النبوية.
13- السنن - للإمام محمد بن عيسى الترمذي / تحقيق أحمد شاكر وآخرين، طبعة المكتبة الإسلامية.
14- السنن - للإمام محمد بن يزيد بن ماجه/ تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، طبعة عام 1395هـ، دار إحياء التراث العربي.
15- السيرة النبوية - للحافظ ابن كثير / تحقيق مصطفى عبد الواحد، طبعة عام 1403هـ، دار المعرفة، بيروت، لبنان.
16- السيرة النبوية - لأبي الحسن الندوي / الطبعة الأولى، عام 1397هـ، دار الشروق، جدة.
17- السيرة النبوية - لابن هشام / تحقيق مصطفى السقا وآخرين، طبعة دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان.
18- حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، صور مقتبسة من القرآن الكريم وتحليلات ودراسات قرآنية - لمحمد عزة دروزة / الطبعة الثانية، عام 1384هـ مطبعة مصطفى البابي الحلبي وشركاه، مصر.
19- السيرة النبوية الصحيحة - لأكرم ضياء العمري / طبعة عام 1412هـ، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة.
20- السيرة النبوية في الصحيحين عند ابن إسحاق، دراسة مقارنة في العهد المكي - للدكتور سليمان بن حمد العودة / رسالة دكتوراه مكتوبة على الآلة الكاتبة.
21- شرح المعلقات السبع - للزوزاني الحسين بن أحمد / دار مكتبة الحياة، بيروت.
22- صبح الأعشى في صناعة الإنشاء - للقلقشندي / طبعة مؤسسة قرطبة.
23- صحيح الإمام محمد بن إسماعيل البخاري / المطبوعة مع فتح الباري، تحقيق محب الدين الخطيب، المكتبة السلفية، القاهرة.
24- صحيح الإمام مسلم بن الحجاج النيسابوري / تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، الطبعة الأولى، عام 1374هـ، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان.
25- الطريق إلى المدائن - لأحمد عادل كمال/ الطبعة السادسة، عام 1406هـ، دار النفائس، بيروت، لبنان.
26- الغرباء الأولون - لسلمان بن فهد العودة / الطبعة الأولى، عام 1410هـ، دار ابن الجوزي، الدمام.
27- فتح الباري بشرح صحيح البخاري - لابن حجر العسقلاني / تحقيق محب الدين الخطيب، الطبعة الثانية، عام 1400هـ، المكتبة السلفية، القاهرة.
28- القاموس المحيط - للفيروزآبادي / تحقيق مكتب تحقيق التراث في مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية، عام 1407هـ، بيروت، لبنان.
29- لسان العرب - لابن منظور / الطبعة الأولى، عام 1300هـ، دار صادر، بيروت، لبنان.
30- مجلة البيان / العدد الثاني - سنة 1407هـ شهر صفر - تصدر عن المنتدى الإسلامي بلندن.
31- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد - للهيثمي/ الطبعة الثالثة، عام 1402هـ، دار الكتاب العربي، بيروت.
32- المستدرك على الصحيحين - للحاكم / دار الكتاب العربي، بيروت.
33- المسند - للإمام أحمد / الطبعة الثانية، عام 1398هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان.
34- مفتاح السعادة ومصباح السيادة - لطاش كبري زادة / تحقيق كامل كامل بكري وعبد الوهاب أبو النور، مطبعة الاستقلال الكبرى ودار الكتب الحديثة، القاهرة.
35- المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام - لجواد علي / الطبعة الثانية، عام 1976م، دار العلم للملايين، بيروت، ومكتبة النهضة، بغداد.
36- ميزان الاعتدال في نقد الرجال - للإمام الذهبي / تحقيق علي محمد البجاوي، الطبعة
الأولى، عام 1382هـ، دار المعرفة، بيروت.
([1]) لسان العرب (4/389).
([2]) (1/251).
([3]) البداية (3/242)، وانظر الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/195).
([4]) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/195).
([5]) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/195).
([6]) انظر: الرسالة المحمدية، المحاضرة الأولى.
([7]) مسند أحمد (ح24671).
([8]) صحيح مسلم (ح408).
([9]) انظر: المحاضرة الثالثة من الرسالة المحمدية.
([10]) رواه البخاري (ح438) -واللفظ له-، ومسلم (ح521).
([11]) انظر: المحاضرة الثانية من الرسالة المحمدية.
(1) رواه البخاري انظر فتح الباري (8\360).
([13]) رواه يونس بن بكير في زوائده على السير والمغازي لابن إسحاق (ص:210)، والبيهقي في دلائل النبوة
(2/207)، وقال في الغرباء (ص:93): (( إسناده حسن )).
([14]) صحيح البخاري (ح3461).
([15]) رواه الترمذي (ح2657)، وأبو داود (ح3660)، وابن ماجة (ح230، 231، 232 236، 3056)، وأحمد (ح4146، 62937)، والدارمي (ح228).
([16]) انظر: الرسالة المحمدية، المحاضرة الرابعة لسليمان الندوي.
([17]) راجع فهرس السيرة النبوية صور مقتبسة من القرآن الكريم لمحمد عزة دروزة.
([18]) ذكرهما السخاوي في كتابه (( الإعلان بالتوبيخ )) (ص:527).
([19]) انظر: لسان العرب (11/129)، والقاموس المحيط (ص:1267).
([20]) رواه البخاري في الإيمان - باب المعاصي من أمر الجاهلية (ح30)، ومسلم في الإيمان (ح1661).
([21]) رواه البخاري في الاعتكاف (ح2033)، ومسلم (ح1656).
([22]) رواه البخاري في النكاح (ح5521).
([23]) رواه البخاري (ح3640)، ومسلم (ح1920). انظر: بلوغ الأرب (1/15- 17).
([24]) انظر: المسند (ح23298).
([25]) انظر: السيرة للندوي من أولها إلى (ص:25).
([26]) صحيح البخاري (ح4027).
([27]) صحيح مسلم (ح3265).
([28]) صحيح مسلم (ح2856).
([29]) المسند (2/275،316).
([30]) المسند (1/466) وفي سنده عمرو بن مجمع وهو ضعيف، وإبراهيم الهجري وهو لين الحديث.
([31]) انظر صحيح البخاري (ح4859).
([32]) صحيح مسلم (3483).
([33]) انظر: بلوغ الأرب (2/194-244).
([34]) بلوغ الأرب (3/36-73).
([35]) انظر: بلوغ الأرب (2/52-55)، (2/301-369)، (3/3-76).
([36]) صحيح مسلم (ح2865).
([37]) بلوغ الأرب (2/286-300).
([38]) السيرة للندوي (ص:12).
([39]) بلوغ الأرب (1/39-40).
([40]) بلوغ الأرب (1/37).
([41]) بلوغ الأرب (1/33).
([42]) انظر عن كرم العرب: بلوغ الأرب (1/46-98).
([43]) بلوغ الأرب (1/377).
([44]) بلوغ الأرب (1/149).
([45]) صحيح البخاري (ح7).
([46]) بلوغ الأرب (1/150).
([47]) رواه مسلم (ح1978).
([48]) انظر عن وفاء العرب: بلوغ الأرب (1/122-140).
([49]) مجلة البيان، العدد الثاني.
([50]) انظر عن يوم ذي قار: تاريخ الطبري (2/207)، صبح الأعشى (1/393).
([51]) ديوان عنترة (ص252).
([52]) انظر عن شجاعة العرب بلوغ الأرب (1/103-120).
([53]) بلوغ الأرب (1/377).
([54]) انظر: شرح المعلقات (ص:194- 213)
([55]) انظر: الطريق إلى المدائن (ص:40).
([56]) فتح الباري (6/607).
([57]) رواه البخاري (ح3231)، ومسلم (ح1771).
([58]) انظر المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام (4/5-76).
([59]) المسند (ح1791).
([60]) تفسير ابن كثير (3\332).
([61]) المسند (1\397).
([62]) صحيح مسلم (ح2276).
([63]) صحيح البخاري (ح3293).
([64]) أخرجه البخاري في مناقب الأنصار - باب مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، الفتح (7/199) بدون إسناد.
([65]) فتح الباري (6/611).
([66]) فتح الباري (6/116).
([67]) أخرجه البخاري في بدء الوحي (ح7).
([68]) فتح الباري (6/641)، وصحيح مسلم (4/1828).
([69]) رواه مسلم (4/1828).
([70]) صحيح البخاري (ح3533).
([71]) فتح الباري (6/644).
([72]) فتح الباري (6/642).
([73]) فتح الباري (6/644-645).
([74]) رواه البخاري (ح110)، ومسلم (2110)، الفتح (6/647).
([75]) صحيح مسلم (2/819).
([76]) السيرة الصحيحة (1/96).
([77]) رواه مسلم (3/1392).
([78]) أخرجه مسلم (2/1072).
([79]) صحيح مسلم (3/1392).
([80]) انظر: السير لابن هشام (1/171)، وميزان الاعتدال (1/426)، ومجمع الزوائد (8/221) والسيرة لابن كثير (1/228)، السيرة النبوية في الصحيحين (ص:118-119)، والسيرة الصحيحة (ص:98-102).
([81]) سيرة ابن هشام (1/175)، وسيرة ابن كثير (1/299).
([82]) سيرة ابن كثير (1/249).
([83]) صحيح البخاري (ح1664)، وصحيح مسلم (ح1220) انظر إلى كتاب مسائل الجاهلية التي خالفهم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
([84]) رواه أحمد (1/190-193)، والبخاري في المفرد (ح570)، والحاكم ووافقه الذهبي (2/219)، وصححه الألباني في فقه السيرة (ص:75).
([85]) السيرة الصحيحة (ص:112).
([86]) السيرة ابن كثير (1/258).
([87]) رواه البخاري (ح2262).
([88]) (ح91).
([89]) (ح2072).
([90]) رواه البخاري (ح2062)، ومسلم (2153).
([91]) كتاب البيوع - باب التجارة في البز (ح2062).
([92]) رواه البخاري (ح2071).
([93]) السيرة لابن كثير (1/265)، والسيرة الصحيحة (ص:112).
([94]) رواه الإمام أحمد (3/425)، والحاكم (3/458)، وصححه ووافقه الذهبي، وانظر: سيرة ابن هشام (1/209).
د. يحيى إبراهيم اليحيى
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من بعث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن استن بسنته واهتدى بهديه واقتفى أثره وسار على نهجه إلى يوم الدين. أما بعد:
فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الصورة العملية التطبيقية لهذا الدين، ويمتنع أن تعرف دين الإسلام ويصح لك إسلامك بدون معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكيف كان هديه وعمله وأمره ونهيه.
لقد سالم وحارب، وأقام وسافر، وباع واشترى، وأخذ وأعطى، وما عاش صلى الله عليه وسلم وحده، ولا غاب عن الناس يوماً واحداً، ولا سافر وحده.
وقد لاقى أنواع الأذى، وقاسى أشد أنواع الظلم، وكانت العاقبة والنصر له.
بعث على فترة من الرسل، وضلال من البشر، وانحراف في الفطر، وواجه ركاماً هائلاً من الضلال والانحراف والبعد عن الله، والإغراق في الوثنية. فاستطاع بعون الله أن يخرجهم من الظلام إلى النور ومن الضلال إلى الهدى ومن الشقاء إلى السعادة. فأحبوه وفدوه بأنفسهم وأهليهم وأموالهم، واقتدوا به في كل صغيرة وكبيرة وجعلوه نبراسًا لهم يستضيئون بنوره ويهتدون بهديه فأصبحوا أئمة الهدى وقادة البشرية.
يكفيه شعب من الأجداث أحياه
هل تطلبون من المختار معجزة
إذا رأى ولد الموتور آخاه
من وحد العُرْب حتى كان واترهم
وما أصيب المسلمون إلا بسبب الإخلال بجانب الاقتداء به صلى الله عليه وسلّم، والأخذ بهديه، واتباع سنته، وقد قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}.
حتى اكتفى بعض المسلمين من سيرته صلى الله عليه وسلّم بقراءتها في المنتديات والاحتفالات ولا يتجاوز ذلك إلى موضع الاهتداء والتطبيق.... وبعضهم بقراءتها للبركة أو للاطلاع على أحداثها ووقائعها أو حفظ غزواته وأيامه وبعوثه وسراياه.
وهذا راجع إما لجهل بأصل مبدأ الاتباع والاهتداء والاقتداء وعدم الإدراك بأن هذا من لوازم المحبة له صلى الله عليه وسلم، وإما لعدم إدراك مواضع الاقتداء من سيرته صلى الله عليه وسلم نظراً لضعف الملكة في الاستنباط أو لقلة العلم والاطلاع على كتب أهل العلم.
وهنا تأتي أهمية استخراج الدروس واستنباط الفوائد والعظات واستخلاص العبر من سيرته صلى الله عليه وسلم.
ولما كانت عامة التآليف في السيرة في جمع الروايات ما بين مطيل ومختصر وناظم وناثر لها ومفصل ومجمل.
رأيت أن أجمع مختصراً في السيرة معتمداً على صحيح الروايات إلا رواية لم يبن عليها مسألة في العقيدة أو حكم شرعي فإني قد تساهلت في ذلك، مستنبطاً منها الدروس والعبر والفوائد والعظات، على هيئة سلسلة تحت عنوان (دروس وعبر من سيرة خير البشر) تصدر تباعاً إن شاء الله تعالى.
وهذا هو الكتاب الأول (مدخل لفهم السيرة)، وهو مهمّ لكل من أراد دراسة السيرة النبوية الشريفة، ليدرك من خلاله معاني السيرة وخصائصها وميزاتها، وحالة البشرية قبل البعثة من الضلال والانحراف، وعجزها عن إدراك مصالحها إلا برحمة الله لها بأن أرسل إليها رسولاً يخرجها من الظلمات إلى النور.
وبإدراكه حجم الانحراف الذي وصلت إليه البشرية يعرف ذلك الجهد الذي بذله رسول الله صلى الله عليه وسلم لإخراج الناس من ذلك التيه الذي عاشوا فيه قروناً طويلةً حتى استمرؤوا الذل والهوان، ولم يعودوا يفكرون في الخلاص ونبذ ذلك الركام الذي غطى على قلوبهم وطمس فطرهم.
ما هي السيرة؟
السَير الذهاب والاسم منه السِيرة، والسِيرة الضرب من السَير، والسِيرة السنة، والسِيرة الطريقة. يقال: سار بهم سِيرة حسنة، والسِيرة: الهيئة، وفي التنـزيل: {سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُوْلَى} (طه: 21)، وسَيَّر سِيرة: حدَّث أحاديث الأوائل[1].
السيرة قسم من الحديث النبوي باعتبارين: الأول: نسبتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم المشرع، الثاني: روايتها بالأسانيد، ولهذا أفرد علماء الحديث كتباً وأبواباً في مصنفاتهم في مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيامه، وشمائله ودلائل نبوته.
والسيرة جزء من التاريخ باعتبار أحداثها ووقائعها إذ التاريخ هو: تعريف الوقت مطلقاً، يقال: أرخت الكتاب تأريخاً وورخته توريخاً.
قال في مفتاح السعادة: «موضوعه: أحوال الأشخاص الماضية من الأنبياء، والأولياء، والعلماء، والحكماء، والشعراء، والملوك والسلاطين وغيرهم»[2].
الغرض من دراسة السيرة:
® إن السيرة النبوية لا تدرس من أجل المتعة في التنقل بين أحداثها أو قصصها، ولا من أجل المعرفة التاريخية لحقبة زمنية من التاريخ مضت، ولا محبة وعشقاً في دراسة سير العظماء والأبطال، ذلك النوع من الدراسة السطحية إن أصبح مقصداً لغير المسلم من دراسة السيرة، فإن للمسلم مقاصد شتى من دراستها، ومنها:
أولاً: أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو محل القدوة والأسوة، وهو المشرع الواجب طاعته واتباعه قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجٌو اللهَ وَاليَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً} (الأحزاب: 21)، وقال تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} (النور: 54)، وقال: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ الله} (النساء: 80)، وقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ} (آل عمران: 31).
فهو التجسيد العملي والصورة التطيبقية للإسلام، وبدونها لا نعرف كيف نطيع الله تعالى ونعبده.
® فسيرته صلى الله عليه وسلم يستقي منها الدعاة أساليب الدعوة ومراحلها، ويتعرفون على ذلك الجهد الكبير الذي بذله رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل إعلاء كلمة الله، وكيف التصرف أمام العقبات والصعوبات والموقف الصحيح أمام الشدائد والفتن.
® ويستقي منها المربُّون طرق التربية ووسائلها.
® ويستقي منها القادة نظام القيادة ومنهجها.
® ويستقي منها الزهَّاد معنى الزهد ومقاصده.
® ويستقي منها التجَّار مقاصد التجارة وأنظمتها وطرقها.
® ويستقي منها المبتلون أسمى درجات الصبر والثبات وتقوى عزائمهم على السير على منهجه والثقة التامة بالله عز وجل بأن العاقبة للمتقين.
® ويستقي منها العلماء ما يعينهم على فهم كتاب الله تعالى، ويحصلون فيها على المعارف الصحيحة في علوم الإسلام المختلفة، وبها يدركون الناسخ والمنسوخ وأسباب النـزول وغيرها وغيرها من المعارف والعلوم.
® وتستقي منها الأمة جميعاً الآداب والأخلاق والشمائل الحميدة.
ولهذا قال ابن كثير: «وهذا الفن مما ينبغي الاعتناء به، والاعتبار بأمره، والتهيؤ له، كما رواه محمد بن عمر الواقدي عن عبد الله بن عمر بن علي عن أبيه سمعت علي بن الحسين يقول: كنا نعلم مغازي النبي صلى الله عليه وسلم كما نعلم السورة من القرآن. قال الواقدي: وسمعت محمد بن عبد الله يقول: سمعت عمي الزهري يقول: في علم المغازي علم الآخرة والدنيا»[3].
وقال إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص: «كان أبي يعلمنا مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعدها علينا، ويقول: هذه مآثر آبائكم فلا تضيعوا ذكرها»[4].
وقال علي بن الحسين: «كنا نعلم مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نعلم السورة من القرآن»[5].
® لقد خلف التاريخ عظماء وملوكاً وقُوَّاداً، وشعراء، وفلاسفة، فمن منهم ترك سيرة وأسوة يؤتسى بها في العالمين؟ لقد طوى التاريخ ذكرهم فلم يبق منه شيء وإن بقيت بعض أسمائهم.
® لقد أصبحت سير كثير من العظماء أضحوكة للبشر على مدار التاريخ كله.
فأين نمرود الذي قال لإبراهيم: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ}؟! (البقرة: 258) وأين مقالة فرعون وشأنه الذي قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} (النازعات: 24)، وقال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي}؟! (القصص: 38).
إن هؤلاء العظماء في زمانهم يسخر منهم اليوم الصغير والكبير والعالم والجاهل، فإن كانوا دلسوا على أقوامهم في زمنهم واستخفوا بهم فأطاعوهم؛ فقد افتضح أمرهم بعد هلاكهم، وأصبحوا محل السخرية على مدار الزمان.
® إن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم جاءت بإخراج الناس من ظلمات الشرك والأخلاق وفساد العبادة والعمل إلى نور التوحيد والإيمان والعمل الصالح: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} (الأحزاب:45-46)[6].
ثانياً: ندرس السيرة ليزداد إيماننا ويقيننا بصدقه، فالوقوف على معجزاته ودلائل نبوته مما يزيد في الإيمان واليقين في صدقه صلى الله عليه وسلم، فدراسة سيرته العطرة وما سطرته كتب السيرة من مواقف عظيمة، وحياة كاملة كريمة، تدل على كماله ورفعته وصدقه.
ثالثاً: ولينغرس في قلوبنا حبه، فما حملته سيرته من أخلاق فاضلة، ومعاملة كريمة، وحرصه العظيم على هداية الناس وصلاحهم وجلب الخير لهم، وبذل نفسه وماله في سبيل إخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومن الشقاء إلى السعادة، وما كان من حرصه صلى الله عليه وسلم على أمته في إبعادها عما يشق عليها ويعنتها، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْماً فَقَالَ: لَقَدْ صَنَعْتُ الْيَوْمَ شَيْئاً وَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَفْعَلْهُ، دَخَلْتُ الْبَيْتَ فَأَخْشَى أَنْ يَجِيءَ الرَّجُلُ مِنْ أُفُقٍ مِنَ الآفَاقِ فَلا يَسْتَطِيعُ دُخُولَهُ فَيَرْجِعُ وَفِي نَفْسِهِ مِنْهُ شَيْءٌ»([7]).
ولا أعظم من وصف الله جلَّ وعلا له في قوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (الأحزاب: 128)، وقال سبحانه وتعالى واصفاً نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم:4)، وأنه لم ينتقم لنفسه قط، ولا فرح أو حزن، أو ضحك أو غضب من أجل نفسه ومصالحه الشخصية قط، أو انتصر لنفسه مرة واحدة، بل كل ذلك كان من أجل الله تعالى.
رابعاً: لنعبد الله تعالى بذكره والصلاة والسلام عليه قال الله تعالى: {إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (الأحزاب:56)، وروى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَاحِدَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا»[8].
ميزات السيرة النبوية وخصائصها:
أولاً: أنها معلومة ومسجلة ولم يخف منها شيء، فما ترك علماء الإسلام على مر التاريخ باباً من أبواب السيرة إلا وقد ألفوا فيه مؤلفاً مستقلاً، شمل ذلك دقائقها وجزئياتها حتى أصبح المسلم عند قراءته لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم كأنه يعايشه ويشاهده تماماً لوضوحها وشمولها.
وسيأتي بيان ذلك في الحديث عن مصادر السيرة النبوية، ويكفي أن تعلم أن عدد ما ألف في السيرة النبوية في اللغة الأوردية -وهي لغة حديثة- ما يزيد على ألف كتاب، وعدد ما ألف في اللغات الأوربية في القرن نفسه ما يزيد على ألف وثلاثمائة كتاب، هذا في القرن الثالث عشر[9].
ثانياً: ما تميزت به من الصدق والأمانة في نقلها، فقد حظيت ضمن ما حظيه الحديث من التمحيص والتحقيق والمقارنة والتثبت من النقلة ومعرفة الصحيح منها من الضعيف، فأصبحت أصح سيرة نقلت إلينا عن نبي أو عظيم.
ثالثاً: أن رسالته صلى الله عليه وسلم عامة لجميع الخلق مع خلودها.
فسيرته قدوة وأسوة لكل البشر قد ساوت بين الملوك والسوقة، سيرة ينتفع بها صغار الناس وكبارهم، فهم في دين الله سواء قد رفع من شأن الجميع.
ولا شك أنه ما من خير وصلاح وسعادة في الدنيا والآخرة إلا وهو مستقى منها، وما من شر وفساد وشقاء وظلم وجور إلا بسبب الجهل بها والبعد عن الاقتداء بسيرة صاحبها صلى الله عليه وسلم.
لقد أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو بعد في مكة ومحاصر فيها- قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلعَالَمِينَ} (الأنبياء:107)، فهو الرحمة المهداة والنعمة المسداة للبشرية جميعاً، رحمة لهم ومنقذهم من الشقاء والضلال والظلم والفساد والضياع والانحطاط، إلى السعادة والهداية والعدل والصلاح والرفعة والعلو والكرامة قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} (سبأ:28)، وقال جل وعلا: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلعَالَمِينَ نَذِيراً} (الفرقان:1).
وقال صلى الله عليه وسلم: «وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً»[10].
® إن الإنسانية كلها تتطلع إلى مثل أعلى تقتدي به، ولن تجد سيرة -لعظيم أو نبي- معلومة كاملة شاملة غير سيرة النبي صلى الله عليه وسلم.
® إن أي دين لا يقوم على ركيزتين: حقوق الله، وحقوق البشر لا يمكن أن ينقذ البشرية ويقودها إلى الصلاح والنجاة والسعادة والكمال.
والديانات الآن على قسمين: منها ما ليس فيه ذكر لله البتة مثل البوذية والديانات الصينية، ومنها من تؤمن بوجود الله تعالى، لكن لا يعرف الإنسان فيها كيف يعتقد بربه؟ وبأي صفة يصفه؟ وبأي شكل تتجلى العقيدة في الله عز وجل؟
أما حقوق البشر فابحث في جميع الأديان هل تجد تفصيلاً للحياة الأسرية والعلاقات الاجتماعية، فضلاً عن الحياة السياسية والعلاقات الدولية، والشئون الاقتصادية، تفحص في سير جميع الأنبياء والعظماء هل تجد إجابة على هاتين الركيزتين، ومن المؤكد أنك لن تصل إلى نتيجة إلا في دين الإسلام وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم.
اسأل البوذيين ماذا يعرفون عن بوذا وما أخلاقه؟ وما علاقاته مع أسرته فقط؟ فلن تجد جواباً.
واسأل النصارى عن عيسى عليه السلام، ماذا يعرفون عنه قبل النبوة؟ والتي يحددونها بثلاثين عاماً وبعد النبوة ثلاثة أعوام، وكيف العلاقة بينه وبين أمه، أو بينه وبين ربه الذي يزعمون بنوته له؟ تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً، فلن تجد عند جميع هؤلاء أي جواب، بل ستجد الدهشة بادية على وجوه جميع من تسأله من عالم [11].
رابعاً: كمالها بلا عيب أو نقص أو ضعف أو خلل، قلِّب بصرك وعقلك في ثنايا السيرة النبوية الشريفة هل ثمت شيء تنتقده، أو عيب تجده.
® إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقض وقته بين أحبابه وأصحابه، بل قضى أغلب عمره بين ألد أعدائه وهم المشركون، وفي آخر عمره كان يجاوره اليهود والمنافقون، فلم يستطيعوا أن يرموه بنقيصة في أخلاقه وشمائله وصدقه، على الرغم من حرصهم الشديد بالبحث والتنقيب عنها، فقد رماه أهل مكة بالألقاب السيئة وعيَّروه بالأسماء القبيحة، إلا أنهم لم يستطيعوا أن يقدحوا في شيء من أخلاقه، أو يدنسوا عرضه الطاهر رغم إنفاقهم أموالهم وإزهاقهم أرواحهم في عدائه، قال تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ} (الأنعام:33).
وقد أخرج البخاري عن ابن عباس في صعود النبي صلى الله عليه وسلم الصفا لتبليغ الناس حيث قال: «أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلاً بِالْوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟ قَالُوا: نَعَمْ، مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلاَّ صِدْقاً»[12].
وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: «إن أول يوم عرفت فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أمشي أنا وأبو جهل بن هشام في بعض أزقة مكة، إذ لقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي جهل: «يا أبا الحكم هلمَّ إلى الله ورسوله، إني أدعوك إلى الله» فقال أبو جهل: يا محمد، هل أنت منته عن سب آلهتنا؟ هل تريد إلا أن نشهد أن قد بلغت؟ فوالله لو أني أعلم أن ما تقول حق ما تبعتك! فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبل عليَّ فقال: والله إني لأعلم أن ما يقول حق، ولكن بني قصي قالوا: فينا الحجابة، فقلنا: نعم، قالوا: فينا الندوة، قلنا: نعم، قالوا: فينا اللواء، قلنا: نعم، قالوا: فينا السقاية، قلنا: نعم، ثم أطعموا، وأطعمنا، حتى إذا تحاكّت الرُّكَب قالوا: منا نبي! فلا والله لا أفعل»[13].
وقصة الوليد بن المغيرة لما اجتمعت قريش في الموسم للاتفاق على كلمة واحدة يختلقونها في شأن الرسول صلى الله عليه وسلم -كما سيأتي- دليل صريح على حرصهم على الوقيعة في رسول الله صلى الله عليه وسلم، والبحث والتنقير عن أي نقيصة أو عيب ولكن أنى لهم ذلك، فراحوا يختلقون عليه من عند أنفسهم دون حياء.
® جل العظماء حالتهم مع الناس غير حالتهم مع أهلهم وفي بيوتهم، ولا يرضون لزوجاتهم أن تخبر عن أحوالهم، بل تعتبر حياتهم الخاصة سراً من الأسرار يعاقب على إفشائها، وكل الناس كذلك لا يرضون أبداً أن يطلع أحد على كثير من حياتهم الأسرية الخاصة.
ما عدا رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو لم يرض فقط بل أمر أن ينقل عنه كل شيء، فبلغ عنه أزواجه كل ما رأوه منه، حتى إنها لتبلغ عنه ما كان تحت اللحاف فيما بينه وبينها، وعن غسلها معه من الجنابة، حتى إن الرجل ليعرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر مما يعرفه عن أبيه الملاصق له والساكن معه!
خامساً: شمولها لجميع نواحي الحياة مع الوضوح التام فيها.
لقد عاش النبي صلى الله عليه وسلم بين صحابته وتزوج بتسع نسوة، وأمر أن يبلغ الشاهد منهم الغائب، وقال: «بلغوا عني ولو آية»[14] وقال: «نضر الله امرءاً سمع منا شيئاً فبلغه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع»[15] وما سافر وحده قط، ولا اعتزل الناس في يوم من الأيام أبداً، وقد تضافر الصحابة على نقل كل شيء عنه، بل تفرغ عدد منهم للرواية والمتابعة له كأهل الصفة.
لقد وصفوه في قيامه وجلوسه، وكيف ينام، وهيئته في ضحكه وابتسامته، وكيف اغتساله ووضوؤه، وكيف يشرب ويأكل وما يعجبه من الطعام، ووصفوا جسده الطاهر كأنك تراه، حتى ذكروا عدد الشعرات البيض في رأسه ولحيته، ولمحة في كتاب من كتب السيرة والشمائل تجد العجب من هذا الشمول وهذه الدقة في الوصف والنقل([16]).
سادساً: أنها بعمومها لم تتعد القدرة البشرية، أي أنها لم تتكئ على الخوارق، أو قامت فصولها على معجزة من المعجزات خارجة عن قدرات البشر.
بل إنه من السهل التعرف عليها وتطبيقها، والاقتداء بها، فليست مثالية التطبيق.
مصادر السيرة النبوية:
تعتمد مصادر السيرة النبوية على مصادر متنوعة منها أصلية ومنها تكميلية.
فمن المصادر الأصلية: القرآن الكريم، والحديث الشريف، وكتب السيرة، والمغازي، والدلائل، والشمائل، والخصائص وكتب التاريخ الأخرى.
ومن التكميلية: كتب الفقه، وكتب الأدب، ودواوين الشعر، وكتب الأنساب، وتراجم الرجال، وكتب الجغرافيا.
المصادر الأصلية:
1- القرآن الكريم: ويتضمن بيان العقيدة والشريعة، وتوضيح الناحية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للأمة المسلمة، كما ترد فيه الإشارة إلى المعارك والغزوات ومواقف الناس منها مثل موقف المنافقين، إضافة إلى بيان مواقف اليهود والمشركين من الدعوة، وتعتبر كتب التفسير موضحة وشارحة ومبينة للآيات القرآنية([17]).
2- كتب الحديث: وهي من أهم المصادر في السيرة النبوية، حيث نقلت لنا بأصح الأسانيد كثيراً من حوادث السيرة ومغازي النبي صلى الله عليه وسلم، ووصفاً دقيقاً لحياته الشخصية وسيرته مع أصحابه، إضافة إلى بيان كثير من الجوانب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
3- كتب الدلائل: وتتناول المعجزات والدلائل على صدق النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أقدم من كتب فيها الفريابي (ت212هـ) في كتابه «دلائل النبوة»، ثم المدائني (ت225هـ) في كتابه «آيات النبي صلى الله عليه وسلم...» الخ.
4- كتب الشمائل: وهي التي تبين أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وصفاته الخلقية والخلقية، وأقدم من ألف فيها أبو البختري وهب بن وهب الأسدي (ت200هـ) في مؤلفه «صفة النبي صلى الله عليه وسلم»، ومن أشهر كتب الشمائل «الشمائل المحمدية» للترمذي.
5- كتب السيرة: وقد اعتنى المسلمون بالسيرة النبوية في وقت مبكر مما يضفي عليها التكامل في التسجيل والثقة في الرواية والنقل، وقد اشتهر عدد من الصحابة باهتمامهم بالسيرة، منهم: ابن عباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، والبراء بن عازب رضي الله عنهم أجمعين.
وكتبت بعض أحداث السيرة على يد التابعين والصحابة متوافرون مقرون لهم بذلك ومن هؤلاء: أبان بن عثمان (ت101-105هـ) وعروة بن الزبير (ت94هـ)، والشعبي (ت103هـ).
وممن اهتم بالسيرة الزهري (ت124هـ) فقد تلقاها عن جمع من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن كبار التابعين.
ومن أوثق كتب المغازي كتاب موسى بن عقبة (ت140هـ)، وقد قال ابن معين «كتاب موسى ابن عقبة عن الزهري من أصح هذه الكتب»، وقال الإمام الشافعي: «ليس في المغازي أصح من كتاب موسى بن عقبة مع صغره وخلوه من أكثر ما يذكر في كتب غيره».
وممَّن ألف في السيرة أبو المعتمر سليمان بن طرخان التيمي (ت143هـ) وهو من العباد الثقات، وقد رواها عنه ابنه معتمر، وقد ذكر هذه السيرة أبو بكر بن خير الأشبيلي في «فهرسته» (ص:231)، ونقل عنها ابن سيد الناس، والسهيلي، وابن كثير، وابن حجر وغيرهم.
وممن علا صِيته واشتهر في السيرة النبوية حتى نسبت إليه: محمد بن إسحاق (ت151هـ) وهو من تلاميذ الزهري، وهو إمام هذا الشأن، وقد اختصرها ابن هشام (ت218هـ) وهي التي بقيت في أيدينا الآن، حيث حذف منها ما لا تعلق له في السيرة، وحذف منها تاريخ الأنبياء، وما لا يصح من الشعر، كما ذكر ذلك في مقدمته، ثم شرحها السهيلي (ت518هـ).
ومن كُتَّاب السيرة الواقدي (ت207هـ) وهو من أئمة هذا الشأن، فقد اهتم بالوقائع والمغازي وسأل عنها أبناء الأنصار، وحاول أن يقف على كثير منها، وهو مع سعة علمه وشهرته واطلاعه وتخصصه في السيرة إلا أنه متروك من حيث الرواية في الحديث.
ومن كتب السيرة: «عيون الأثر في فنون المغازي والسير» لابن سيد الناس (ت734هـ) و«السيرة النبوية» للذهبي (ت748هـ)، ومنها:«البداية والنهاية» لابن كثير (ت774هـ).
ومن مصادر السيرة: كتب فقه السيرة، وأقدم من كتب في فقه السيرة هو أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني (ت430هـ) في كتابه «الهدي النبوي»، وجعفر بن محمد المستغفري (ت432هـ) في كتابه «الهدي النبوي»([18])، و«زاد المعاد في هدي خير العباد» لابن قيم الجوزية (ت751هـ).
وكما اهتم العلماء في التأليف في السيرة جملة، فإن هناك من اهتم بالكتابة في جزئيات السيرة مثل: «تركة النبي صلى الله عليه وسلم والسبل التي وجهها فيها» لحماد بن إسحاق بن إسماعيل (ت267هـ)، بتحقيق الدكتور أكرم ضياء العمري، الطبعة الأولى (عام1404هـ)، و«المصباح المضيء في كتاب النبي الأمي ورسله إلى ملوك الأرض من عربي وعجمي» لمحمد بن علي بن أحمد بن حديدة الأنصاري (ت783هـ)، الطبعة الأولى (عام1396هـ)، وكتاب «الفخر المتوالي فيمن انتسب للنبي صلى الله عليه وسلم من الخدم والموالي» لمحمد بن عبد الرحمن السخاوي (ت902هـ) بتحقيق مشهور حسن، الطبعة الأولى (عام1407هـ).
الموسوعات في السيرة:
وأقدم كتاب فيما أعلم هو «سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد» لمحمد بن يوسف الدمشقي الشامي (ت942هـ) انتخبها من 300 كتاب.
ومن الكتب المعاصرة: كتاب «الجامع في السيرة النبوية» تأليف سميرة الزايد، وقد جمعت المؤلفة من كتب السيرة وكتب السنة وكتب التراجم، وقد جعلت لها منهجاً وهو اعتماد رواية ابن هشام وتخريج الروايات كلها عليها، إلا إذا لم تجد له في الموضوع رواية، ولم تهتم بالحكم على الأدلة وتتبع تخريجها.
النَّظم في السيرة: قام العلماء بنظم أحداث السيرة ووقائعها حتى يسهل على الطالب حفظها وممن اعتنى بنظم السيرة الحافظ عبد الرحيم العراقي (ت806هـ) وقد طبع الكتاب مع شرحه «العجالة السنية على ألفية السيرة النبوية» لعبد الرؤوف المناوي (ت1031هـ).
أوضح الناظم رحمه الله أن كتب السيرة النبوية احتوت ما كان إسناده معتبراً وما كان غير معتبر، وجرى في نظمه على طريقتهم في عدم اعتبار الإسناد؛ لكن إن وردت رواية صحيحة نبه عليها.
وقد نظم السيرة على الترتيب التاريخي، إلا أنه بعد ذكر الهجرة ووصول الرسول صلى الله عليه وسلم إلى خيمة أم معبد شرع في ذكر شمائله وخصائصه ثم رجع إلى ذكر مغازيه، وختمها بذكر أقاربه وأزواجه ومواليه وحراسه وخدمه.
وقد اعتمد في ألفيته على كتب السنة والسيرة.
تميز الكتاب بسهولة العبارة ووضوحها واشتمال النظم على أحداث السيرة جملة، مع إشارته إلى بعض الروايات الصحيحة أحياناً.
أما المصادر غير الأصلية أو التكميلية فتأتي بعد تلك المصادر في الأهمية ومنها: كتب الفقه وهي محل استنباط الأحكام من الكتاب والسنة، ولهذا تجد روايات وأحداثاً في كثير من أبوابها وبخاصة الكتب المتقدمة.
وكتب الرجال والتراجم: وبخاصة تراجم الصحابة مثل كتاب الاستيعاب لابن عبد البر، وأسد الغابة لابن الأثير، والإصابة لابن حجر، فإن هذه الكتب وغيرها غنية جدا بروايات السيرة وأحداثها وذكر مواقف الصحابة في المغازي والسرايا والبعوث.
وكتب الأدب لما تحتويه من وصف للحياة الاجتماعية والعلمية.
وكتب البلدان في وصفها للمدن والطرق وذكرها للمسافات والأبعاد، وقد تشير أحياناً إلى ما حدث فيها من أحداث... الخ.
ونخلص إلى أن التأليف في السيرة شمل الأنواع التالية:
1- كتب السيرة الشاملة.
2- كتب المغازي.
3- الدلائل والمعجزات.
4- الشمائل.
5- الخصائص.
6- البشارات.
7- الموسوعات في السيرة.
8- جزئيات السيرة.
8- فقه السيرة.
9- مختصرات في السيرة.
10- النظم في السيرة.
لمحات عن الجاهلية:
لكي تتعرف على الجهد الذي بذله النبي صلى الله عليه وسلم في هداية الناس، وعلى الشدة والمشقة التي لاقاها من معاصريه، وعلى نجاحه وقدرته في إخراج الناس من الظلمات إلى النور، وكيف وجه طاقات العرب بدلاً من العصبية الجاهلية إلى خدمة الإسلام الحنيف، ولكي تعرف حاجة البشرية إلى الإسلام، وفضل الإسلام على سائر أهل الأرض.
وأمر آخر وهو فقه النصوص الشرعية والحكمة من تشريع الأحكام والعلة في المنع أو الإباحة، والتدرج في الأحكام، والتأكيد على التوحيد.
لكي تتعرف على كل هذا لا بد لك من أن تلم بشيء مما كانت عليه البشرية إبان بعثته عليه السلام في حالتها الدينية والاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية والسياسية.
وهذا موضوع طويل ومتشعب وله كتبه ومراجعه، ويكفي أن تعلم أن لفظ الجاهلية ورد في الكتب التسعة فقط قرابة خمسمائة مرة، ولكن نذكر لمحات من ذلك، وهي عبارة عن معالم من حياة تلك المرحلة وتاريخها:
تعريف الجاهلية:
نسبة إلى الجهل: نقيض العلم، واستجهله عده جاهلاً واستخف به، والجهل السفه والغضب والنـزق، وفي معلقة عمرو بن كلثوم:
ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
أي يتسافه أحد علينا أو يطيش أو يظلم([19]).
والجاهلية قد تكون اسماً للحال وهو الغالب في الكتاب والسنة كقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: «إنك امرؤ فيك جاهلية»([20]).
وقول عمر رضي الله عنه: «إني نذرت نذراً في الجاهلية»([21]).
وقول عائشة رضي الله عنها: «كان النكاح في الجاهلية»([22]).
فإن الجاهلية وإن كانت في الأصل صفة ولكن غلب عليها الاستعمال حتى صارت اسماً ومعناها قريب من معنى المصدر، وقد تكون الجاهلية اسماً لذي الحال فتقول: طائفة جاهلية، وشاعر جاهلي، نسبة إلى الجهل وهو عدم العلم أو عدم اتباع العلم.
فإن من لم يعلم الحق جاهل جهلاً بسيطاً، فإن اعتقد خلافه فهو جاهل جهلاً مركباً، فإن قال خلاف الحق عالماً بالحق أو غير عالم فهو جاهل أيضاً كما قال الله تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} (الفرقان:63)، وكذلك من عمل بخلاف الحق فهو جاهل وإن علم أنه مخالف للحق كما قال سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} (النساء:17) قال الصحابة: «كل من عمل سوءاً فهو جاهل وإن علم أنه مخالف للحق».
وسبب ذلك أن العلم الحقيقي الراسخ في القلب يمتنع أن يصدر معه ما يخالفه من قول أو فعل، فمتى صدر خلافه فلا بد من غفلة القلب عنه أو ضعفه في القلب بمقاومة ما يعارضه، وتلك أحوال تناقض حقيقة العلم فتصير جهلاً بهذا الاعتبار، ومن هنا تعرف أن دخول الأعمال في مسمى الإيمان حقيقة لا مجاز.
فإذا تبين ذلك فالناس قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم في حال جاهلية جهلاً منسوباً إلى الجاهل، فإن ما كانوا عليه من الأقوال والأعمال إنما أحدثه لهم جاهل وإنما يفعله جاهل، وتلك كانت الجاهلية العامة، وأما بعد البعثة فمطلق الجاهلية قد يكون في مصر دون مصر، وقد تكون في شخص دون آخر، ولا تكون الجاهلية مطلقة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يَزَالُ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ»([23]).
الحالة الدينية قبيل البعثة:
كان الناس في جاهلية جهلاء وضلالة عمياء، فقد تعرضت الديانات السماوية لانتحال المبطلين وتحريف الغالين، وأصبحت فريسة للعابثين والمتلاعبين، استبدلت عقيدة التوحيد الصافية بالوثنية الغارقة، والاجتراء على الله تعالى والقول عليه بغير حق، والتطاول على الذات الإلاهية، وارتفع الفرق بين أهل الكتاب وبين أهل الأوثان والأصنام في عباداتهم وحياتهم فاختفى نور التوحيد وسط هذا الركام الهائل من الوثنية، والتغيير والتبديل في كلام الله عز وجل قال الله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} (التوبة:31)، وقال سبحانه في وصف حياتهم وتعديهم على حرمات الله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِاليَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (التوبة:29)، وقال سبحانه في بيان تحريفهم لكلام الله واستبداله مقابل الدنيا: {اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ} (التوبة:9)، ووصف الله شرك أهل الكتاب وكفرهم بقوله: {وَقَالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرُ ابْنُ اللهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى المَسِيحُ ابْنُ اللهِ} (التوبة:30).
وأما المجوسية فقد عرفت من القديم بعبادة النار وبناء المعابد عليها، لها يحجون، وعندها ينذرون، هي معبودهم من دون الله عز وجل، ثم آمنوا بإلهين أحدهما النور والآخر الظلمة.
وقل مثل ذلك في البوذية المنتشرة في الهند وآسيا الوسطى، والبرهمية دين الهند الأصلي.
لقد بلغت الوثنية في قرن البعثة أوجها حتى قيل إن عدد المعبودات والآلهة يصل إلى (330) مليون.
وأطبقت ظلمة الوثنية على الأرض من المحيط إلى المحيط.
روى الإمام أحمد عن الْمِقْدَادِ بْنِ الأَسْوَدِ رضي الله عنه قال: «وَاللَّهِ لَقَدْ بَعَثَ اللَّهُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَشَدِّ حَالٍ بُعِثَ عَلَيْهَا نَبِيٌّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ فِي فَتْرَةٍ وَجَاهِلِيَّةٍ، مَا يَرَوْنَ أَنَّ دِيناً أَفْضَلُ مِنْ عِبَادَةِ الأَوْثَانِ، فَجَاءَ بِفُرْقَانٍ فَرَقَ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ والْبَاطِلِ، وَفَرَّقَ بَيْنَ الْوَالِدِ وَوَلَدِهِ»([24]).
الحالة الاجتماعية والسياسية:
تبعاً للانحراف العقدي وتحريف الأديان ضلت البشرية في جميع حياتها وانتشر الظلم والفساد بين جميع طبقاتها على اختلاف حضاراتها وأديانها وبلدانها، وسأذكر نماذج ومقتطفات تصف ذلك الانحراف والفساد».
أولاً: الدولة الرومانية:
لقد ازدادت فيها الإتاوات والضرائب التي أثقلت كواهل الشعب، بينما تعيش الطبقة الحاكمة ومن يتابعها حياة الترف والتخمة الزائدة، وتضييع الأموال، والحرص على كل نوع من أنواع اللهو واللعب والطرب، وانشغلوا بالمسليات والألعاب عن مصالح البلاد والعباد، وفتحوا ميادين الرياضة العنيفة كمصارعات الرجال والسباع وغيرها.
وكانت ولاياتها مثل مصر والشام عبارة عن شعوب كادحة للطبقة المستعمرة، حياتها عرضة للاضطهاد والبؤس والشقاء، تسلب خيراتهم وتساء معاملتهم.
ثانياً: الفرس:
فإنه لما ظهر مزدك في القرن الخامس دعا إلى الإباحية في جميع نواحي الحياة وأن الناس شركاء في كل شيء، فظهر الفساد وهتكت الأعراض وانتشرت السرقة والسطو على الأموال والممتلكات، ونشأ جيل لا خلاق له ولا مروءة، اتخذ السطو وسيلة لجلب المال والتسلط على الناس، واستولوا على الأملاك والعقارات حتى أقفرت المزارع وخربت الدور وتشتت الناس.
وقد كان الملوك يعتبرون من نسل آخر مغاير لبني البشر، ففيهم يجري دم الآلهة، فكانوا يخاطبون الناس من علو وأنهم آلهة لهم يتصرفون فيهم كيف شاؤوا.
وتعتبر موارد الدولة كلها ملكاً للأكاسرة إلا ما جاد بها كسرى للشعب تفضلاً منه وكرماً وإنعاماً، وقد تفننوا في اكتناز الأموال والتحف الثمينة، والمسابقة في مظاهر الغنى والعظمة إلى حد الخيال.
بينما عامة الناس يعيشون حياة الفقر والبؤس والجوع، حياة العبودية والكدح للآلهة، يتعبون في تحصيل ما يسد رمقهم، ويستر عوراتهم، جميع إنتاجهم تقضي عليها الضرائب والإتاوات، إضافة إلى أنهم وقود لكل حرب همجية طاحنة يثيرها الملك.
ثالثاً: الهند:
فهي أتعس بلد يعيش تفاوتاً فاحشاً بين طبقات المجتمع مدعماً بالدين والعقيدة، فقد قسم سكان الهند إلى أربع طبقات، هي:
1- طبقة الكهنة ورجال الدين وهم (البراهمة).
2- رجال الحرب والجندية وهم (شتري).
3- رجال الفلاحة والتجارة (ويش).
4- رجال الخدمة وهم (شودر) وهم أحط الطبقات وليس لهم إلا خدمة الطبقات الثلاث، وليس لهم أن يدخروا مالاً، أو يجالسوا برهمياً، أو يمسوه بأيديهم، أو يتعلموا الكتاب المقدس.
وقد أضفيت القداسة على الطبقة الأولى، وهو مغفور له ولو أباد الطبقات الثلاث.
وكانت الهند ممزقة تحكمها حكومات تعد بالمئات، وتسيطر الفوضى على جميع أركانها.
رابعاً: أوربا:
المتوغلة في الشمال والغرب فكانت تعيش حياة الهمجية، وترزح تحت ظلام الجهل والأمية والحروب الدامية، وكانت متخلفة عن طريق الحضارة والعلم والآداب، وكأنهم يعيشون في كوكب آخر لا شأن لهم بالعالم.
يزهدون في النظافة، تعشعش الهوام فوق رؤوسهم، أجسامهم قذرة، يغالي رهبانهم في تعذيب أجسامهم، يحتقرون المرأة ويبحثون عن أصلها هل هي من الحيوان أم من الإنسان.
وعموم تلك الشعوب قد ألفت حياة الذلة والخنوع، واعتادت على مجاراة الأوضاع ومسايرة الزمان، لا يهيجهم ظلم، ولا تستحوذ عليهم فكرة ودعوة يسترخصون بها حياتهم ويجازفون في سبيلها بأنفسهم.
قد ألفوا التهجين والتدجين ومصادرة الرأي والحريات، فلا يصلح لهم أن يعرفوا شيئاً، لأنهم ليسوا على مستوى المعرفة والإدراك عند حكامهم، فلا يستحق الشعب السؤال عن شيء فضلاً عن إبداء الرأي فيه.
وعلى العموم فكانت البشرية في القرن السادس الميلادي في أحط أدوارها، وأقبح فترات تاريخها، قد تحطمت فيها جميع مقومات البقاء والحياة، فأصبحت تحتضر قد أيس منها المصلحون وهم على قلتهم وندرتهم قد هربوا في الفيافي والقفار فراراً ويأساً منها كما يدل على ذلك قصة سلمان الفارسي رضي الله عنه، فقد كان ينتقل من عالم إلى آخر كل عالم إذا احتضر أوصى به إلى من يعرفه من بقايا العلماء في مختلف المناطق والديار حتى انتهى إلى الأخير منه فقال له: لا أعرف الآن أحداً في هذه الأرض إلاّ أنه حان مبعث نبي داره في كذا وكذا فوصف له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق سلمان إلى المدينة ينتظر مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما أقفرت الأرض كلها من عالم أو مصلح([25]).
خامساً: العرب:
أما العرب فقد تركوا دين أبيهم إسماعيل وابتعدوا عن الحنيفية دين أبيهم إبراهيم، وانتشرت بينهم عبادة الأصنام والأوثان، وغلوا فيها إلى حد يثير السخرية حيث كان الواحد منهم في سفره يجمع أربعة أحجار ثلاثة لقدره وواحداً يعبده، وإن لم يجد حلب الشاة على كوم من تراب ثم عبده.
روى البخاري عن أبي رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيَّ رضي الله عنه قال: «كُنَّا نَعْبُدُ الْحَجَرَ، فَإِذَا وَجَدْنَا حَجَراً هُوَ أَخْيَرُ مِنْهُ أَلْقَيْنَاهُ وَأَخَذْنَا الآخَرَ، فَإِذَا لَمْ نَجِدْ حَجَراً جَمَعْنَا جُثْوَةً مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ جِئْنَا بِالشَّاةِ فَحَلَبْنَاهُ عَلَيْهِ ثُمَّ طُفْنَا بِهِ، فَإِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَجَبٍ قُلْنَا: مُنَصِّلُ الأَسِنَّةِ فَلا نَدَعُ رُمْحاً فِيهِ حَدِيدَةٌ وَلا سَهْماً فِيهِ حَدِيدَةٌ إِلاَّ نَزَعْنَاهُ وَأَلْقَيْنَاهُ شَهْرَ رَجَبٍ، وَسَمِعْتُ أَبَا رَجَاءٍ يَقُولُ: كُنْتُ يَوْمَ بُعِثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم غُلاماً أَرْعَى الإِبِلَ عَلَى أَهْلِي، فَلَمَّا سَمِعْنَا بِخُرُوجِهِ فَرَرْنَا إِلَى النَّارِ إِلَى مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ»([26]).
وكان أول من أدخل الشرك إلى العرب عمرو بن لحي الخزاعي.
روى البخاري عن سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ رضي الله عنه قَالَ: «الْبَحِيرَةُ الَّتِي يُمْنَعُ دَرُّهَا لِلطَّوَاغِيتِ وَلا يَحْلُبُهَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ، وَالسَّائِبَةُ الَّتِي كَانُوا يُسَيِّبُونَهَا لآلِهَتِهِمْ فَلا يُحْمَلُ عَلَيْهَا شَيْءٌ قَالَ: وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ عَامِرِ بْنِ لُحَيٍّ الْخُزَاعِيَّ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ»([27]).
روى مسلم عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ إِنَّ الْبَحِيرَةَ الَّتِي يُمْنَعُ دَرُّهَا لِلطَّوَاغِيتِ فَلَا يَحْلُبُهَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ وَأَمَّا السَّائِبَةُ الَّتِي كَانُوا يُسَيِّبُونَهَا لِآلِهَتِهِمْ فَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهَا شَيْءٌ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ عَامِرٍ الْخُزَاعِيَّ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السُّيُوبَ»([28]).
ورواه أحمد في «المسند» أيضاً عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أول من سيب السوائب وعبد الأصنام أبو خزاعة عمرو بن عامر، وإني رأيته يجر أمعاءه في النار»([29]).
وفي رواية أخرى عنه ولم يذكر: «وعبد الأصنام»([30]).
® وقد عبد قبائل من العرب الشمس والقمر، والملائكة والجن، والكواكب، وبعضهم عبد أضرحة من ينسب إليهم الصلاح، قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ الَّلاتَ وَالعُزَّى} (النجم:19) قال: «كان رجلاً صالحاً يلت السويق للحاج، فلما مات عكفوا على قبره»([31]).
® وكانت العرب تقصد بعبادة الأصنام عبادة الله والتقرب إليه عن طريقها، أو بواسطتها، وهم على طرق مختلفة: فبعضهم يقول: ليس لنا أهلية لعبادة الله تعالى بلا واسطة لعظمته، فاتخذناها لتقربنا إلى الله، وفرقة قالت: إن للملائكة عند الله جاهاً ومنـزلة فاتخذنا أصناماً على هيئة الملائكة لتقربنا إلى الله، وبعضهم جعلوا الأصنام قبلة في عبادة الله مثل الكعبة قبلة في عبادته، وفرقة أخرى اعتقدت أن على كل صنم شيطاناً موكلاً بأمر الله، فمن عبد الصنم حق عبادته قضى الشيطان حاجته بأمر الله، ومنهم من يقصدون بذلك شفاعتهم عند الله زلفى قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلى اللهِ زُلْفَى} (الزمر:3)، وقال تعالى عنهم: {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ} (يونس:18).
® ولم تكن العرب تعتقد في أصنامها النفع أو الضر.
روى الترمذي عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه قَالَ: قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لأبي الحصين: «كم تَعْبُدُ الْيَوْمَ إِلَهاً؟ قَالَ أَبِي: سَبْعَةً، سِتَّةً فِي الأرْضِ وَوَاحِداً فِي السَّمَاءِ. قَالَ: فَأَيُّهُمْ تَعُدُّ لِرَغْبَتِكَ وَرَهْبَتِكَ؟ قَالَ: الَّذِي فِي السَّمَاءِ. قَالَ: يَا حُصَيْنُ أَمَا إِنَّكَ لَوْ أَسْلَمْتَ عَلَّمْتُكَ كَلِمَتَيْنِ تَنْفَعَانِكَ قَالَ: فَلَمَّا أَسْلَمَ حُصَيْنٌ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِيَ الْكَلِمَتَيْنِ اللَّتَيْنِ وَعَدْتَنِي فَقَالَ: قُلِ: اللَّهُمَّ أَلْهِمْنِي رُشْدِي وَأَعِذْنِي مِنْ شَرِّ نَفْسِي»([32]).
بل كانوا عند الشدائد ينسون آلهتهم ويتخلون عنها كما قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الفُلْكِ دَعَوُ اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلى البَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} (العنكبوت:65).
وكانت أعظم شبه العرب هي: إنكار البعث، وجحد إرسال الرسل من البشر([33]).
وكانوا على حال سيئة من الأمية والجهل والإغراق في الخمور والقمار، والعصبية القبلية المقيتة التي يلغي معها عقله أحياناً على حد قول الشاعر:
غويت وإن ترشد غزية أرشد
وهل أنا إلا من غزية إن غوت
وقول الآخر:
في النائبات على ما قال برهانا
لا يسـألون أخــاهم حين يندبهم
وكانوا بعيدين كل البعد عن اجتماع الكلمة ووحدة الصف، فكانت تقوم بينهم الحروب والمنازعات لأتفه وأحقر الأسباب كما دلت عليها أيامهم مثل: حرب البسوس التي دامت أربعين عاماً بسبب اعتداء على جمل امرأة، وداحس والغبراء كذلك بسبب اعتداء على فرس، وغيرها كثير.
وكانوا على عادات سيئة مثل: وأد البنات، وعمل الميسر، والاستقسام بالأزلام، والنسيء، والبحيرة والسائبة، والتطير والفأل بالطير والجمادات([34])... والجمع بين الأختين، ونكاح زوجة الأب وهذا كان ممقوتاً عند بعضهم حتى سموه نكاح المقت، ومنها المضارة في الطلاق، والعضل في النكاح، وكانوا يرثون النساء([35]).
تلك الحياة الجاهلية بكل صورها وفي جميع أماكنها وبقاعها قد صورها المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث العظيم الذي رواه مسلم عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي خُطْبَتِهِ: «أَلا إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمَّا عَلَّمَنِي يَوْمِي هَذَا: كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْداً حَلالٌ، وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَاناً، وَإِنَّ اللَّهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ إِلا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَالَ: إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بِكَ وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَاباً لا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ تَقْرَؤُهُ نَائِماً وَيَقْظَانَ، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أُحَرِّقَ قُرَيْشاً. فَقُلْتُ: رَبِّ إِذاً يَثْلَغُوا رَأْسِي فَيَدَعُوهُ خُبْزَةً. قَالَ: اسْتَخْرِجْهُمْ كَمَا اسْتَخْرَجُوكَ، وَاغْزُهُمْ نُغْزِكَ، وَأَنْفِقْ فَسَنُنْفِقَ عَلَيْكَ، وَابْعَثْ جَيْشاُ نَبْعَثْ خَمْسَةً مِثْلَهُ، وَقَاتِلْ بِمَنْ أَطَاعَكَ مَنْ عَصَاكَ، قَالَ: وَأَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلاثَةٌ: ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ مُتَصَدِّقٌ مُوَفَّقٌ، وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلِّ ذِي قُرْبَى وَمُسْلِمٍ، وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَالٍ، قَالَ: وَأَهْلُ النَّارِ خَمْسَةٌ: الضَّعِيفُ الَّذِي لا زَبْرَ لَهُ الَّذِينَ هُمْ فِيكُمْ تَبَعاً لا يَبْتَغُونَ أَهْلاً وَلا مَالاً، وَالْخَائِنُ الَّذِي لا يَخْفَى لَهُ طَمَعٌ وَإِنْ دَقَّ إِلا خَانَهُ، وَرَجُلٌ لا يُصْبِحُ وَلا يُمْسِي إِلا وَهُوَ يُخَادِعُكَ عَنْ أَهْلِكَ وَمَالِكَ، وَذَكَرَ الْبُخْلَ أَوِ الْكَذِبَ، وَالشِّنْظِيرُ الْفَحَّاشُ» -وَلَمْ يَذْكُرْ أَبُو غَسَّانَ فِي حَدِيثِهِ- «وَأَنْفِقْ فَسَنُنْفِقَ عَلَيْكَ»([36]).
فالحديث يشير إلى الانحراف عن الشريعة ونبذها وراءهم ظهرياً واختراع أنظمة وقوانين من عند أنفسهم، فحرموا الحلال وأحلوا الحرام في قوله: «كل مال نحلته عبداً حلال... وحرمت عليهم ما أحللت لهم» وهذا رد على ما شرعوه من السوائب والوصيلة والحام والبحيرة، مما يدعونه لآلهتهم، بينما الله شرع أن كل مال رزقه عبداً من عباده فهو حلال له.
كما يوضح الانحراف عن التوحيد والردة الكاملة عن الدين «وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم... وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً».
كما يشير إلى الفساد العظيم الذي غطى وجه الأرض مما استحقوا فيه مقت الله لهم جميعاً إلا بقايا من أهل الكتاب.
بقايا سنن إبراهيم عليه السلام عند العرب:
وقد بقيت عند بعض العرب بقايا من سنن إبراهيم عليه السلام وشريعته بنسب متفاوتة بين القبائل ومن ذلك: خصال الفطرة التي ابتلي بها إبراهيم عليه السلام وهي خمس في الرأس وخمس في الجسد: المضمضة، والاستنشاق، وقص الشارب، والفرق، والسواك وهذه في الرأس، وأما التي في الجسد فهي: الاستنجاء، وتقليم الأظافر، ونتف الإبط وحلق العانة، والختان.
وكانوا يغتسلون للجنابة ويغسلون موتاهم ويكفنونهم، وكانوا يصومون يوم عاشوراء، ويطوفون بالبيت ويسعون بين الصفا والمروة، ويمسحون الحجر ويلبون إلا أنهم يشركون في تلبيتهم يقولون: «لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك»، ويقفون المواقف كلها، ويعظمون الأشهر الحرم.
وكانوا يحكمون بالدية مائة من الإبل، ويوقعون الطلاق إذا كان ثلاثاً وبالرجعة في الأولى والثانية، والقصاص في الجروح، واتباع الحكم في المبال في الخنثى، وكانوا يحرمون نكاح المحارم، وعملوا بالقسامة، واجتنب بعضهم الخمر في الجاهلية، وكانوا يغلظون على النساء أشد التغليظ في شرب الخمر([37]).
وكانوا على شيء من العبادة كالحج والصدقة، وهم على اعترافهم بالله وبعظمته وبتدبيره للأمور، وأنه الرازق الخالق المحيي المميت، وأن جميع الخلق تحت قهره وتصرفه، إلا أنهم اتخذوا من دون الله وسائط يزعمون أنها تقربهم إلى الله زلفى قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءَ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهَ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} (يونس:31)، وقال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كٌنْتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ للهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ، قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ، سَيَقُولُونَ للهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ، قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ للهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} (المؤمنون:84-89).
فهم بذلك يشهدون أن الله هو الخالق الرازق وحده لا شريك له، وأنه لا يرزق إلا هو، ولا يحيي إلا هو، ولا يميت إلا هو، ولا يدبر الأمر إلا هو، وأن جميع السماوات ومن فيهن والأرضين ومن فيها عبيده وتحت تصرفه وقهره، ومع ذلك يشركون به ويدعون معه غيره، بل كانت الكعبة وهي بيت الله المعظم عندهم يحيط به ثلاثمائة وستون صنماً.
® وكانت فيهم سمات كثيرة تؤهلهم لحمل راية الإسلام وهي وإن صعب توجيهها إلى الوجهة السليمة إلا أنها من أكبر الخصال المعينة على تقبلهم الإسلام وحملهم لرايته فيما بعد، ومن تلك الخصال:
1- الذكاء والفطنة: فقد كانت ألواح قلوبهم صافية لم تكتب فيها تلك الفلسفات والأساطير والأغلوطات التي يصعب محوها كما في الأمم المعاصرة لهم، فكأنهم يعدونها لحمل أبهى علم وأعظمه وهو الإسلام، ولهذا كانوا أحفظ شعب عرف في ذلك الزمن وقد وجه الإسلام قريحة الحفظ والذكاء إلى حفظ الدين وحمايته، فكانت قواهم الفكرية، ومواهبهم الفطرية مذخورة فيهم، لم تستهلك في فلسفات خيالية، وجدال بيزنطي عقيم، ومذاهب كلامية معقدة([38]).
وكانت الأمية غالبة عليهم يعتمدون في أحوالهم وأيامهم على الحفظ، فكان الواحد منهم مثلاً يحفظ من القصائد ما يفوت الإحصاء والحصر، فهذا الأصمعي من المتأخرين يقول: «ما بلغت الحلم حتى رويت اثني عشر ألف أرجوزة للأعراب».
واتساع لغتهم دليل على قوة حفظهم وذاكرتهم فإذا كان للعسل ثمانون اسماً وللثعلب مائتان وللأسد خمسمائة، فإن للجمل ألفاً، وكذا السيف، وللداهية نحو أربعة آلاف اسم، ولا شك أن استعياب هذه الأسماء يحتاج إلى ذاكرة قوية حاضرة وقادة([39]).
وقد بلغ بهم الذكاء والفطنة إلى الفهم بالإشارة فضلاً عن العبارة، والأمثلة على ذلك كثيرة ونكتفي بقصتين للدلالة على ذلك:
فقد عزمت حنظلة على الإغارة على إحدى القبائل العربية، فمر بهم راكب فأخذوا عليه الميثاق أن لا ينذرهم أو يكلمهم، فلما مر بهم الرجل علّق على شجرة عندهم وطباً من لبن، ووضع في بعض أغصانها حنظلة، ووضع صرة من تراب وصرة من شوك، ثم ارتحل راحلته وغادرهم فلم يكلمهم، ففهم القوم من صرة التراب بأنه أتاهم عدد كثير، وأن الحنظلة رمز لقبيلة حنظلة، وأما الشوك فيخبرهم بأن لهم شوكة، وأما اللبن فهو دليل على قرب القوم وبعدهم، فإن كان حلواً حليباً فقد أتت الخيل، وإن كان لا حلواً ولا حامضاً فعلى قدر ذلك، وإن كان قارصاً فعلى قدر ذلك، وإن كان خاثراً فلهم مهلة من الرأي، وإنما ترك الرجل كلامهم لأنه قد أخذت عليه العهود وقد أنذرهم فأعدوا عدتهم وارتحلوا عن عدوهم([40]).
وقد بلغ بهم الذكاء إلى الفهم بقرع العصا كما في قصة سعد بن مالك من قيس بن ثعلبة حين قرع العصا لأخيه عمرو بن مالك، وذلك أن النعمان أرسل عمروا يرتاد له الكلأ، فأبطأ عليه فأقسم لئن جاء حامداً للكلأ أو ذاماً ليقتلنه.
فلما قدم قال سعد للنعمان: أتأذن لي أن أكلمه؟ قال: إن كلمته قطعت لسانك، قال: فأشير إليه؟ قال: إن أشرت إليه قطعت يدك، قال: فأومئ إليه؟ قال: إذن أنزع حدقتيك، قال: فأقرع له العصا؟ قال: اقرع.
فتناول عصا من بعض جلسائه فوضعها بين يديه وأخذ عصاه التي كانت معه وأخوه قائم، فقرع بعصاه العصا الأخرى قرعة واحدة فنظر إليه أخوه ثم أومأ بالعصا نحوه فعرف أنه يقول: مكانك، ثم قرع العصا قرعة واحدة ثم رفعها إلى السماء ثم مسح عصاه بالأخرى فعرف أنه يقول قل له: لم أجد جدباً، ثم قرع العصا مراراً بطرف عصاه ثم رفعها شيئاً فعرف أنه يقول: ولا نباتاً، ثم قرع العصا قرعة وأقبل بها نحو النعمان فعرف أنه يقول: كلمه.
فأقبل عمرو بن مالك حتى وقف بين يدي النعمان، فقال له النعمان: هل حمدت خصباً، أو ذممت جدباً؟ فقال عمرو: لم أذمم جدباً، ولم أحمد بقلاً، الأرض مشكلة لا خصبها يعرف، ولا جدبها يوصف، رائدها واقف، ومنكرها عارف، وآمنها خائف، فقال النعمان: أولى لك، بذلك نجوت.
ولما كان العرب بهذه المثابة من الفطنة والذكاء كان معجزتهم القرآن، فإن لكل قوم معجزة بحسب أفهامهم وقدر عقولهم([41]).
2- أهل كرم وسخاء يسترخصون أموالهم التي تعبوا في جمعها والحصول عليها في سبيل ذلك، مما سهل عليهم بعد ذلك بذل أموالهم في سبيل الله.
وهذا لا يحتاج إلى بيان، ولا يعوزه إقامة دليل ولا برهان فقد شهد لهم بذلك القاصي والداني، واشتهر به الحاضر منهم والبادي، وقد نطقت بذلك أشعارهم وأقاصيصهم التي لا تعد ولا تحصى، وسأذكر بعضاً من ذلك:
قال الشاعر:
حضأت له نارا لها حطب جزل
ومستنبحِ قال الصدى مثل قوله
مخافة قومي أن يفوزوا به قبل
فقمت إليه مسرعا فغنمته
وأرخص بحمد كان كاسبه الأكل
فأوسعني حمدا وأوسعته قرىَ
وقال آخر:
وأنها لا تراني آخر الأبد
تركت ضأني تود الذئب راعيها
وكلَ يوم تراني مدية بيدي
الذئب يطرقها في الدهر واحدة
وقال آخر:
جبان الكلب مهزول الفصيل
وما يك فيّ من عيب فإني
وقال آخر:
ولكن أخلاق الرجال تضيق
لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها
® وكان من كرمهم ينـزلون بالروابي والأماكن العالية وفوق الجبال حتى يراهم الضيف، وكانوا يوقدون النيران بالليل ليهتدي إليهم الأضياف، وربما أوقدوها بالمندلي الرطب وهو عطر ينسب إلى مندل وهي بلدة من بلاد الهند ليهتدي إليها العميان:
كسى الأرض نضاح الجليد وجامده
وإني لأدعو الضيف بالضوء بعدما
ومن كرماء العرب حاتم الطائي وهو ممن اشتهر ولم يخف أمره على أحد وهو القائل
لغلامه:
والريح يا واقدُ ريح صر
أوقد فإن الليل ليل قرُ
إن جلبت ضيفاً فأنت حر
علّ يرى نارك من يمرُ
وهو القائل في قصيدته الطويلة يخاطب زوجته ماوية:
إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
أماوي لا يغني الثراء عن الفتى
فأوله شكر وآخره ذكر
أماوي إن المال مال بذلته
ومن كرماء العرب هرم بن سنان الذي قال فيه الشاعر:
كأنك تعطيه الذي أنت سائله
تراه إذا ما جئته متهللاً
ومن كرمائهم عبد الله بن جدعان التيمي وكان له جفان عظيمة في مكة يأكل منها القائم والراكب على البعير:
وآخر فوق دارته ينادي
له داعي بمكة مشمعل
لُباب البر يلبك بالشهاد
إلى رُدح من الشيزي ملآء
ومن كرمهم أنهم كانوا يكرهون أن يطعموا أضيافهم البائت من اللحم، حدث قيس بن سعد رضي الله عنه: «أنه نزل على رجل هو وصاحب له، فنحر لهم جزوراً فأكلوا منه، فلما كان من الغد نحر لهم آخر فقال: شأنكم به، فقلنا: ما أكلنا من الأول إلا اليسير، فقال: إني لا أطعم أضيافي الغاب، فأقمنا عنده أياماً وهو يفعل
ذلك...»([42]).
® وكانت قريش تقوم بأمر من يرد إلى مكة من الحاج بالغاً ما بلغ من طعامهم وشرابهم، وكان هاشم وهو أحد أجداد الرسول صلى الله عليه وسلم إذا حضر الحج قام في قريش فقال: يا معشر قريش إنكم جيران الله وأهل بيته وهم ضيف الله وأحق الضيف بالكرامة ضيفه فاجمعوا لهم ما تصنعون لهم به طعاماً أيامهم هذه التي لا بد لهم من الإقامة فيها، فإنه والله لو كان لي مال يسع لذلك ما كلفتكموه فيخرجون لذلك خرجاً من أموالهم كل امرئ على حسب قدرته واستطاعته، فيصنع به طعاماً للحاج حتى يصدروا وهذه هي الرفادة التي سنها قصي، وهاشم هو الذي هشم الثريد بمكة([43]).
قال النعمان بن المنذر لكسرى في مدح العرب: «وأما سخاؤها فإن أدناهم رجلاً الذي تكون عنده البكرة والناب عليها بلاغه في حموله وشبعه وريه فيطرقه الطارق الذي يكتفي بالفلذة، ويجتزي بالشربة فيعقرها له ويرضى أن يخرج عن دنياه كلها فيما يكسبه حسن الأحدوثة وطيب الذكر»([44]).
3- وكانوا أصحاب صراحة ووضوح بعيدين عن الالتواءات والتعقيد، الصدق سجيتهم، والكذب ليس مطية لهم بل يأنفون منه ويعيبونه، أهل وفاء، ولهذا كانت الشهادة باللسان كافية للدخول في الإسلام.
وقصة أبي سفيان مع هرقل لما سأله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت الحروب بينهم قائمة قال: «لولا أن يأثروا عليَّ كذباً لكذبت عليه»([45]) دليل على أنهم كانوا يستقبحون الكذب.
أما وفاؤهم فقد قال النعمان بن المنذر لكسرى في وفاء العرب: «وإن أحدهم يلحظ اللحظة ويومئ الإيماء فهي ولَث وعقدة لا يحلها إلا خروج نفسه، وإن أحدهم يرفع عوداً من الأرض فيكن رهناً بدينه فلا يغلق رهنه ولا تخفر ذمته، وإن أحدهم ليبلغه أن رجلاً استجار به وعسى أن يكون نائياً عن داره، فيصاب فلا يرضى حتى يفني تلك القبيلة التي أصابته أو تفنى قبيلته لما أخفر من جواره، وأنه ليلجأ إليهم المجرم المحدث من غير معرفة ولا قرابة فتكون أنفسهم دون نفسه وأموالهم دون ماله»([46]).
فالوفاء خلق متأصل بالعرب فجاء الإسلام ووجه الوجهة السليمة فغلظ على من آوى محدثاً مهما كانت منـزلته وقرابته قال صلى الله عليه وسلم: «لعن الله من آوى محدثاً»([47]).
ومن القصص الدالة على وفائهم: قصة حنظلة بن عفراء مع المنذر بن ماء السماء حين قدم عليه في يوم بؤسه وأراد قتله فطلب منه التأجيل سنة، وكذلك وفاء السموأل بأدرع امرئ القيس([48]).
ومن أروع القصص: «أن الحارث بن عباد قاد قبائل بكر لقتال تغلب وقائدهم المهلهل الذي قتل ولد الحارث وقال: (بؤ بشسع نعل كليب) في حرب البسوس، فأسر الحارث مهلهلاً وهو لا يعرفه فقال له: دلني على مهلهل بن ربيعة وأخلي عنك فقال له: عليك العهد بذلك إن دللتك عليه، قال: نعم. قال: فأنا هو، فجز ناصيته وتركه» وهذا وفاء نادر ورجولة تستحق الإكبار([49]).
ومن وفاءهم: «أن النعمان بن المنذر خاف على نفسه من كسرى لما منعه من تزويج ابنته فأودع أسلحته وحرمه إلى هانئ بن مسعود الشيباني، ورحل إلى كسرى فبطش به، ثم أرسل إلى هانئ يطلب منه ودائع النعمان فأبى، فسير إليه كسرى جيشاً لقتاله فجمع هانئ قومه آل بكر وخطب فيهم فقال: «يا معشر بكر، هالك معذور، خير من ناج فرور، إن الحذر لا ينجي من القدر، وإن الصبر من أسباب الظفر، المنية ولا الدنية، استقبال الموت خير من استدباره، الطعن في ثغر النحور، أكرم منه في الأعجاز والظهور، يا آل بكر قاتلوا فما للمنايا من بد»([50])، وانتصر على الفرس في موقعة ذي قار، فهذا الرجل احتقر حياة الذل والاستكانة، ورأى الموت شرفاً في ساحة العز.
4- كانوا أصحاب شجاعة، ومغاوير حرب، وأحلاس خيل، وأصحاب جلادة وكانت الفروسية من أبرز أخلاقهم.
حتى كانوا يتمادحون بالموت قتلاً، ويتهاجون بالموت على الفراش قال أحدهم لما بلغه قتل أخيه: إن يقتل فقد قتل أبوه وأخوه وعمه، إنا والله لا نموت حتفاً، ولكن قطعاً بأطراف الرماح، وموتاً تحت ظلال السيوف.
ولا طُلّ منا حيث كان قتيل
وما مات منا سيد حتف أنفه
وليست على غير الظباة تسيل
تسيل على حد الظُباة نفوسنا
وحيث كان العرب لا يقدمون شيئاً على العز وصيانة العرض، وحماية الحريم، استرخصوا في سبيل ذلك نفوسهم.
قال عنترة:
أصبحت عن غرض الحتوف بمعزل
بكرت تخوفني الحتوف كأنني
لا بد أن أسقى بكأس المنهل
فأجبتها إن المنية منهل
أني امرؤ سأموت إن لم أقتل([51])
فاقني حياءك لا أبا لك واعلمي
وكانوا يختارون الموت على الذلة، قال حصين بن حمام المري:
ولا مرتق من خشية الموت سلما
فلست بمبتاع الحياة بذلة
وقال عدي بن رعلاء الغساني:
إنما الميت ميت الأحياء
ليس من مات فاستراح بميت
سيئاً باله قليل الرجاء
إنما الميت من يعيش ذليلاً
فهو يصف من تركته الحرب معافى في ثياب الذل فموته في هذه الحال أفضل([52]).
وقال عنترة:
بل فاسقني بالعز كأس الحنظل
لا تسقني ماء الحياة بذلة
وجهنم بالعز أطيب منـزل
ماء الحياة بذلة كجهنم
5- كانوا بمعزل عن الأدواء المدنية والترف الذي يحول دون التحمس للعقيدة والتفاني في سبيلها، فكانوا يقلون من الأكل ويقولون البطنة تذهب الفطنة ويعيبون الرجل الأكول الجشع:
باعجلهم إذ أجشع القوم أعجل([53])
إذا مدت الأيد إلى الزاد لم أكن
6- وكانوا أمة نشأت على الحرية والمساواة، لم تخضع لحكومة أجنبية ولم تألف الرق والعبودية واستعباد الإنسان للإنسان مثل الأمم المعاصرة لهم، الذين حرموا من إبداء الرأي فضلاً عن النقد وإبداء الملاحظة، يأنفون من الذل ويأبون الضيم والاستصغار والاحتقار.
جلس عمرو بن هند ملك الحيرة لندمائه وسألهم: هل تعلمون أحداً من العرب تأنف أمه خدمة أمي؟ قالوا: نعم أم عمرو بن كلثوم الشاعر الصعلوك.
فدعا الملك عمرو بن كلثوم لزيارته، ودعا أمه لتزور أمه، وقد اتفق الملك مع أمه أن تقول لأم عمرو كلثوم بعد الطعام: ناوليني الطبق الذي بجانبك، فلما جاءت قالت لها ذلك فقالت: لتقم صاحبة الحاجة إلى حاجتها، فأعادت عليها الكرة وألحت، فصاحت ليلى أم عمرو بن كلثوم: وا ذلاه يا لتغلب...
فسمعها ابنها فاشتد به الغضب فرأى سيفاً للملك معلقاً بالرواق فتناوله وضرب به رأس الملك عمرو بن هند، ونادى في بني تغلب وانتهبوا ما في الرواق، ونظم قصيدة يخاطب بها الملك قائلاً:
نكون لِقِيلكم فيها قطينا
بأي مشيئة عمـرو بن هند
تطيع بنا الوشاة وتزدرينا
بأي مشيئة عمــرو بن هند
متى كنا لأمك مَقْتَوينا
تهددنا وتوْعِدنا رويداً
إلى أن يقول في آخر معلقته:
أبينا أن نقر الذل فينا
إذا ما المَلْك سام الناس خسفاً
القيل هو الملك دون الملك الأعظم، والقطين هم الخدم، والقتو خدمة الملوك([54]).
أنساب العرب:
ينقسم العرب إلى قسمين: عرب الجنوب وهم قحطان.
وعرب الشمال وهم من ولد نزار بن معد بن عدنان وهم قسمان:
ربيعة بن نزار وقد نزل هذا الفرع وسكن شرقا، حيث أقامت عبد القيس في البحرين، وحنيفة في اليمامة، وبنو بكر بن وائل سكنت ما بين البحرين واليمامة، وعبرت تغلب الفرات فأقامت في أرض الجزيرة بين دجلة والفرات، وسكنت تميم في بادية البصرة.
وأما فرع مضر: فقد نزلت سليم بالقرب من المدينة، وأقامت ثقيف في الطائف، واستوطنت سائر هوازن شرقي مكة، وسكنت أسد شرقي تيماء إلى غربي الكوفة، وسكنت ذبيان بالقرب من تيماء إلى حوران([55]).
وولد الرسول صلى الله عليه وسلم من مضر، وقد أخرج البخاري عن كليب بن وائل قال: حدثتني ربيبة النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت أبي سلمة قال: «قلت لها: أرأيت النبي صلى الله عليه وسلم أكان من مضر؟ قالت: فممن كان إلا من مضر؟ من بني النضر بن كنانة»([56]).
مهبط الوحي مكة المكرمة:
مكة واد غير ذي زرع عند بيت الله المحرم، تشرف عليها جبال جرد وهي جبل (أبو قبيس) وهو الذي كانت تسكنه قريش إلى زمن قصي، و(قعيقعان) وهذان الجبلان هو الأخشبان اللذان ورد ذكرهما في الحديث المخرج في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها «إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأخشبين»([57]) كما سيأتي في قصة الطائف.
ولما قدمت خزاعة من اليمن أخرجت جرهم من مكة وتولت ولاية البيت، وكان سيدهم عمرو بن لحي أول من نصب الأوثان وأدخل عبادة الأصنام إلى العرب وغير دين التوحيد.
قريش:
تنسب قريش إلى فهر بن مالك بن النضر بن كنانة، فقريش من فهر، وما قبله ليس من قريش، وقد انقسمت قريش إلى قسمين: قريش الظواهر وهم البادية الذين نزلوا الجبال ظاهر مكة وقريش البطاح وهم الذين نزلوا بطاح مكة.
وبعد أن تغلب قصي بن كلاب على خزاعة في ولاية البيت، جمع قومه من الشعاب والأودية والجبال وأنزلهم إلى مكة، فسمي مجمعاً، وقسم مكة أرباعاً بين قومه، فسكنوا فيها بعد أن قطع قصي الأشجار بيده، وكانت قريش تهاب ذلك، فلما رأته يفعل ذلك أعانوه، وقد تيمنت به فكانت لا تعقد أمراً، ولا تبرم عقداً إلا في داره.
به جمع الله القبائل من فهر
أبونا قصي كان يدعى مجمعاً
وقد اشتهرت قريش بالتجارة، وامتاز رجالاتها بالدهاء والحذق والذكاء في التعامل مع الناس، ومع القبائل والحكومات القائمة فقد تألفت الناس وتألفها الناس من أجل ذلك، وقد استفادت قريش من أمن البيت وتعظيم العرب له في نجاح تجاراتها وانتشار الأسواق الآمنة فيها، مما حمل الناس على جلب بضائعهم إليها، والامتيار منها، كما استفادت منه في رحلاتها إلى اليمن وإلى الشام، حيث كان الناس يحترمونهم لأنهم أهل الحرم، فقد كانت العرب تنعت قريش بـ (آل الله) و(جيران الله) و(سكان حرم الله) و(أهل الله)، لذا كان أهل مكة يميلون إلى السلم ولا يركنون إلى الحرب والغزو إلا دفاعاً عن النفس، وهذا الذي أبقى سادتها وعظماءها الذين أصبحوا عقبة كؤداً أمام الدعوة، بعكس أهل المدينة الذين أفنت الحرب ملأهم وكبراءهم.
سكان مكة من غير قريش:
بنو كنانة وقريش من بني كنانة إلا أنها ميزت نفسها عنهم، وخزاعة، وبنو بكر بن عبد مناة بن كنانة، والأحابيش وهم حلفاء قريش من بعض قبائل العرب ومن غيرهم مثل عضل وبني الحارث وبني المصطلق، وغيرهم، سموا بذلك حين اجتمعوا بذنب حبشي - وهو جبل بأسفل مكة - فتحالفوا بالله إنا ليد على غيرنا ما سجا ليل وأوضح نهار، وما أرسى حبشي مكانه، وقيل غير ذلك أقوال كثيرة.
وكان من ساداتهم (ابن الدغنة) و(الحليس بن يزيد).
وقد كان الأحابيش من غير العرب وفدوا إلى مكة من الحبشة وما جاورها وبعضهم قد تأثر بالنصرانية يشهد لذلك قصة الحديبية: «إن هذا من قوم يتألهون»، وقد امتزج هؤلاء بالعرب وحالفوا تلك القبائل فغلبت عليهم تلك التسمية، بسبب تحالفهم مع هؤلاء الأحابيش، والله أعلم.
دار الندوة:
وكانت دار الندوة دار ملأ مكة، ومجلس سادتها ووجوهها وأشرافها وأولي الأمر فيها، فلم تكن بمكة حكومة مهيمنة على الناس وإنما الأمر للملأ والأشراف فيها من شتى بطون قريش.
وقد خلف قصي جملة من الأولاد هم: عبد العزى وعبد الدار وعبد مناف، وعبد بن قصي، وجعل لابنه عبد الدار دار الندوة والحجابة واللواء والسقاية والرفادة، وبعد ذلك نافسهم بنو عبد مناف وتحالفوا ضدهم في حلف سمي حلف المطيبين فاقتطعوا منهم السقاية والرفادة.
وكان زعماء قريش يحافظون على تراث الآباء ولا يبغون به بديلاً: {إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} (الزخرف:23).
فهذا قانونهم ودستورهم ومرجعهم، وفي هذا حفاظ على زعامتهم ومصالحهم الخاصة، ولهذا لم يلتفتوا إلى نداء الحق: {قَالَ أَوَ لَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكَمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} (الزخرف:24)، فلا يريدون الخروج على العادة والعرف الذي تعارف عليه الناس مهما كان يتصف به ذلك العرف من باطل وضلال وانحراف وشر: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيئاً وَلا يَهْتَدُونَ} (البقرة:170)([58]).
الاصطفاء:
قال الله تعالى: {وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نّؤْمِنَ حَتّىَ نُؤْتَىَ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (الأنعام:124).
أي هو أعلم حيث يضع رسالته ومن يصلح لها من خلقه، كقوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا القُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٌ، أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} (الزخرف:31-32)، يعنون: لولا نزل هذا القرآن على رجل عظيم كبير جليل مبجل في أعينهم {مِنَ القَرْيَتَيْنِ} أي من مكة والطائف، وذلك أنهم قبحهم الله كانوا يزدرون الرسول صلوات الله وسلامه عليه بغياً وحسداً، وعناداً واستكباراً كقوله تعالى مخبراً عنه: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزْواً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً} ( الفرقان: 41 )، وقال تعالى: {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزْواً أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ} (الأنبياء:36)، وقال تعالى: {وَلَقَدْ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} (الأنبياء:41)، هذا وهم معترفون بفضله وشرفه ونسبه، وطهارة بيته ومرباه، ومنشئه صلى الله وملائكته والمؤمنون عليه، حتى إنهم كانوا يسمونه بينهم قبل أن يوحى إليه «الأمين»، وقد اعترف بذلك رئيس الكفار أبو سفيان حين سأله هرقل ملك الروم: وكيف نسبه فيكم؟ قال: هو فينا ذو نسب قال: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال: لا... الحديث بطوله، الذي استدل ملك الروم بطهارة صفاته عليه السلام على صدق نبوته وصحة ما جاء به.
روى الإمام أحمد عَنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَبِي وَدَاعَةَ قَالَ: قَالَ الْعَبَّاسُ: «بَلَغَهُ صلى الله عليه وسلم بَعْضُ مَا يَقُولُ النَّاسُ قَالَ: فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ: مَنْ أَنَا؟ قَالُوا: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ: «أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِ خَلْقِهِ، وَجَعَلَهُمْ فِرْقَتَيْنِ فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِ فِرْقَةٍ، وَخَلَقَ الْقَبَائِلَ فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِ قَبِيلَةٍ، وَجَعَلَهُمْ بُيُوتًا فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِهِمْ بَيْتًا، فَأَنَا خَيْرُكُمْ بَيْتًا وَخَيْرُكُمْ نَفْسًا»([59]) صدق صلوات الله وسلامه عليه([60]).
وروى الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ فَوَجَدَ قَلْبَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ فَاصْطَفَاهُ لِنَفْسِهِ فَابْتَعَثَهُ بِرِسَالَتِهِ، ثُمَّ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ بَعْدَ قَلْبِ مُحَمَّدٍ فَوَجَدَ قُلُوبَ أَصْحَابِهِ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ فَجَعَلَهُمْ وُزَرَاءَ نَبِيِّهِ يُقَاتِلُونَ عَلَى دِينِهِ، فَمَا رَأَى الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ، وَمَا رَأَوْا سَيِّئًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ سَيِّئٌ»([61]).
وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِي عَمَّارٍ شَدَّادٍ أَنَّهُ سَمِعَ وَاثِلَةَ بْنَ الأَسْقَعِ يَقُول: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ»([62]).
روى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «بُعِثْتُ مِنْ خَيْرِ قُرُونِ بَنِي آدَمَ قَرْناً فَقَرْناً حَتَّى كُنْتُ مِنَ الْقَرْنِ الَّذِي كُنْتُ فِيهِ»([63]).
نسبه الشريف صلى الله عليه وسلم:
هو: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيِّ ابْنِ كِلابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعبِ بْنِ لؤَيِّ بْنِ غالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ([64]).
وقال ابن حجر: «إن نسبه صلى الله عليه وسلم إلى عدنان متفق عليه، يعني عند جميع العلماء»([65]).
وقالت عائشة رضي الله عنها كما أخرجه الطبراني بسند جيد: «استقام نسب الناس إلى معد بن عدنان»([66]).
وقد أقر أبو سفيان بعلو نسبه صلى الله عليه وسلم حين سأله هرقل: «كيف نسبه فيكم؟ فأجاب: هو فينا ذو نسب، فقال هرقل: فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها»([67]).
أسماؤه صلى الله عليه وسلم:
في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لي خمسة أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب»([68]).
وعن أبي موسى قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمي لنا نفسه أسماء فقال: «أنا محمد، وأحمد، والمُقَفّي، والحاشر، ونبي التوبة، ونبي الرحمة»([69]).
وفي البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم؟ يشتمون مذمماً، ويلعنون مذمماً، وأنا محمد»([70]).
فذو العرش محمود وهذا محمد
شق له من اسمه ليجله
قوله: «العاقب» في الترمذي: «الذي ليس بعده نبي»([71]).
قال ابن حجر: «والذي يظهر أنه أراد أن لي خمسة أسماء أختص بها لم يسم بها أحد قبلي، أو معظـمة أو مشهورة في الأمم الماضية، لا أنه أراد الحصر فيها»، وقد ذكر السهيلي أنه لم يتسم أحد قبل النبي صلى الله عليه وسلم بمحمد إلا ثلاثة، إلا أن ابن حجر ذكر أنه ألف كتاباً في أسمائه صلى الله عليه وسلم فأوصل من تسمى قبله إلى خمسة عشر([72]).
وقد ألفت عدة كتب في أسمائه وأوصلها بعضهم إلى أكثر من ثلاثمائة اسم، لكن كثيراً منها لا يثبت، وبعضها من أوصافه، وبعضها لم يرد على سبيل التسمية مثل من عد من أسمائه اللبنة للحديث المذكور الذي أخرجه البخاري في باب خاتم النبيين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ قال: فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين»([73]).
أما كنيته صلى الله عليه وسلم فهو: أبو القاسم، كما ورد ذلك في الصحيحين عن أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم في السوق، فقال رجل: يا أبا القاسم، فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «سموا باسمي، ولا تكتنوا بكنيتي»([74]).
ولادته ونشأته صلى الله عليه وسلم:
ولد يوم الاثنين كما ورد ذلك في صحيح مسلم لما سئل عن صيام يوم الاثنين قال: «ذاك يوم ولدت فيه»([75]).
في عام الفيل وهو أرجح الأقوال بل قال خليفة بن خياط: إنه المجمع عليه، وقد ذكر ابن إسحاق بدون إسناد أن ولادته في الثاني عشر من ربيع الأول([76]).
وتتفق رواية مسلم مع ابن إسحاق في كون والده مات وهو حمل في بطن أمه([77]).
وفي الصحيحين أن ثويبة مولاة أبي لهب قامت بإرضاعه صلى الله عليه وسلم فعن أم حبيبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أرضعتني وأبا سلمة ثويبة»([78]).
كما أرضعته مولاته أم أيمن وقد أعتقها عليه الصلاة والسلام بعدما كبر.
روى مسلم في صحيحه قال ابْنُ شِهَابٍ: «وَكَانَ مِنْ شَأْنِ أُمِّ أَيْمَنَ أُمِّ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهَا كَانَتْ وَصِيفَةً لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَكَانَتْ مِنَ الْحَبَشَةِ، فَلَمَّا وَلَدَتْ آمِنَةُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَمَا تُوُفِّيَ أَبُوهُ، فَكَانَتْ أُمُّ أَيْمَنَ تَحْضُنُهُ حَتَّى كَبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَعْتَقَهَا، ثُمَّ أَنْكَحَهَا زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ ثُمَّ تُوُفِّيَتْ بَعْدَمَا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِخَمْسَةِ أَشْهُرٍ»([79]).
أما رضاعه من حليمة السعدية في بني سعد فهذا مما استفاض واشتهر، وقد أخرج ذلك ابن إسحاق بسنده وفيه الجهم بن أبي الجهم قال عنه الذهبي: «مجهول».
لكن القصة رواها أبو يعلى، وابن حبان، والطبراني وقال الهيثمي: رجالهما ثقات يعني رجال أبي يعلى والطبراني، وقال ابن كثير: «وهذا الحديث قد روي من طرق أخر، وهو من الأحاديث المشهورة المتداولة بين أهل السير والمغازي»([80]).
وقد ورد استرضاعه في بني سعد بسند جيد من طريق ابن إسحاق، قال صلى الله عليه وسلم: «واسترضعت في بني سعد ابن بكر»([81]).
وماتت أمه وعمره ست سنوات، فكفله جده عبد المطلب ثم مات بعد سنتين فأوصى به إلى عمه أبي طالب فكفله عمه وحن عليه ورعاه.
وقد شب مع عمه أبي طالب تحت رعاية الله وحفظه له من أمور الجاهلية وعاداتها السيئة «فكان أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقاً، وأكرمهم مخالطة، وأحسنهم جواراً، وأعظـهم حلماً وأمانة، وأصدقهم حديثاً، وأبعدهم من الفحش والأذى، ما رؤي ملاحياً ولا ممارياً أحداً، حتى سماه قومه الأمين، لما جمع الله فيه من الأمور الصالحة»([82]).
وخالف جاهلية قريش في أبرز خصائصها كمناسك الحج حيث كانوا يسمون الحمس، ويقفون في المزدلفة، ولا يخرجون من الحرم زاعمين أن أهل الحرم لا ينبغي لهم أن يعظم من الحل كما يعظم من الحرم.
وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد وقف بعرفة مع الناس وخالف طريقة قومه كما روى ذلك البخاري ومسلم عن جبير بن مطعم حين أضل بعيراً له فذهب يطلبه في عرفة فرأى النبي صلى الله عليه وسلم واقفاً فيها مع الناس فقال: «هذا والله من الحمس فما شأنه ها هنا؟»([83]).
حلف الفضول:
ولم يشهد صلى الله عليه وسلم أي حلف لقريش إلا حلف الفضول أو حلف المطيبين حيث تعاقدوا فيه على نصرة المظلوم فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما شهدت حلفاً لقريش إلا حلف المطيبين، وما أحب أن لي حمر النعم وأني كنت نقضته»([84]).
وحلف المطيبين كان بين بني هاشم وبني أمية وبني زهرة وبني مخزوم وقد جرى هذا الحلف قديماً بعد وفاة قصي وتنازع بني عبد مناف وبني عبد الدار، وسمي حلف الفضول بالمطيبين لأن العشائر التي حضرتها هي التي حضرت الحلف السابق([85]).
وأخرج الحميدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لقد شهدت في دار عبد الله بن جُدعان حلفاً لو دعيت به في الإسلام لأجبت، تحالفوا أن يردوا الفضول على أهلها وألا يعز ظالم مظلوماً»([86]).
رعي الغنم:
كان صلى الله عليه وسلم في شبابه يرعى الغنم لقريش وقال: «مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلاَّ رَعَى الْغَنَمَ، فَقَالَ أَصْحَابُهُ: وَأَنْتَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لأَهْلِ مَكَّةَ»([87]).
دروس وعبر:
ورعي الغنم يتيح لصاحبه عدة خصال تربوية منها:
1- الصبر: على الرعي من طلوع الشمس إلى غروبها، نظراً لبطء الغنم في الأكل، فيحتاج راعيها إلى الصبر والتحمل، وكذا سياسة البشر.
2- الحلم: فبعضها يتقدم وبعضها يتأخر وبعضها يذهب شمالاً وبعضها جنوباً، فإن كان الراعي غضوباً جمعها بعد شتاتها بصورة مرعبة فتبقى مجتمعة خائفة لا تأكل تخشى من عصا الراعي.
3- الأناة والقدرة: على جمع شتاتها بعد رعيها بدون أذى يلحق بها، أو نقص في غذاء يصيبها.
4- الرأفة والعناية بالضعيف: ففيها الصغير والضعيف والهرم، فيحتاج منه إلى لين ورأفة بها حتى تلحق بصواحبها وترعى مثلهن، وكذا سياسة البشر.
5- ارتياد أماكن الخصب: والبحث عنها ونصحها في ذلك وتجنيبها مواطن الجدب والهلكة، وكذا سياسة البشر تحتاج إلى بذل الجهد والنصح لهم في توريدهم مواطن الخير وتجنيبهم مواطن الهلكة، وتحسين معاشهم وما يحتاجونه من رزق حلال، وتجنيبهم الأرزاق المحرمة التي تسبب لهم الويلات والفساد، وتوزيع الثروة عليهم كل على حسبه وقدرته وجهده.
6- التواضع: في رعي الغنم وهو أمر ظاهر وقد ورد في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر» فقال رجل: يا رسول الله الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسنا؟ فقال: «إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس»([88]).
7- ورعي الغنم من أعظم الفرص في الخلوة بالله تعالى والتفكر في خلق السموات والأرض حيث السماء بنجومها، والأرض بجبالها وأشجارها وأنعامها...
8- إن الله تعالى قادر على أن يغني محمداً صلى الله عليه وسلم عن رعي الغنم، ولكن هذه تربية له ولأمته للأكل من كسب اليد.
9- ورعي الغنم نوع من أنواع الكسب باليد وصاحب الدعوة يجب أن يستغني عن ما في أيدي الناس ولا يعتمد بدعوته عليهم، فبذلك تبقى قيمته وترتفع منزلته، ويبتعد عن الشبه والتشكيك فيه، ويتجرد في إخلاص العمل لله تعالى، ويرد شبه الطغاة والظلمة الذي يصورون للناس أن الأنبياء أرادوا الدنيا بدعوتهم: {وَتَكُونَ لَكُمَا الكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ} (يونس:78) هكذا يقول فرعون لموسى، ونظراً لسيطرة حب الدنيا وحطامها على عقولهم يظنون أن أي تفكير وأي حركة مراد به الدنيا، ولهذا قالت الأنبياء عليهم السلام لأقوامهم مبينة استغنائها عنهم: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} (سبأ:47)، {وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللهِ} (هود:29).
روى البخاري عَنِ الْمِقْدَامِ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَاماً قَطُّ خَيْراً مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلام كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ»([89]).
ولاشك أن الاعتماد على الكسب الحر تكسب الإنسان الحرية التامة والقدرة على قول كلمة الحق والصدع بها.
وكان أصحاب رسول الله يتاجرون ويعملون بأيديهم ولا يعتبر غضاضة في حقهم، فهذا عمر يشغله الصفق بالأسواق عن حضور بعض مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي موسى في الاستئذان «أَخَفِيَ هَذَا عَلَيَّ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَلْهَانِي الصَّفْقُ بِالأَسْوَاقِ يَعْنِي الْخُرُوجَ إِلَى تِجَارَةٍ»([90]).
وفي البخاري عن قتادة: «كان القوم يتبايعون ويتجرون، ولكنهم إذا نابهم حق من حقوق الله لم تلههم تجارة ولا بيع عن ذكر الله حتى يؤدوه إلى الله»([91]).
وتقول عائشة رضي الله عنها: «كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عمال أنفسهم»([92]).
زواجه صلى الله عليه وسلم بخديجة:
ذكر ابن إسحاق قصة في زواجه صلى الله عليه وسلم بخديجة وخروجه في تجارتها بغير إسناد ولم يثبت أحد من الأئمة هذه القصة، وأما الزواج من حيث هو فهو ثابت قطعاً كما في الصحيحين وغيرهما، واختلف في عمرها حين تزوجها، فبينما يرى ابن إسحاق: أن عمرها ثمان وعشرون، يرى الواقدي أن عمرها أربعون، بينما تتجه الروايات إلى أن عمره صلى الله عليه وسلم كان خمساً وعشرين سنة حين تزوجها([93]).
تحكيمه في وضع الحجر:
ومما يدل على صيانته ومكانته عند الناس رضاهم بحكمه حين حكموه في الحجر الأسود بعد أن تنافسوا في رفعه: «فَقَالُوا: اجْعَلُوا بَيْنَكُمْ حَكَماً قَالُوا: أَوَّلَ رَجُلٍ يَطْلُعُ مِنَ الْفَجِّ فَجَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: أَتَاكُمُ الأَمِينُ فَقَالُوا لَهُ، فَوَضَعَهُ فِي ثَوْبٍ ثُمَّ دَعَا بُطُونَهُمْ فَأَخَذُوا بِنَوَاحِيهِ مَعَهُ فَوَضَعَهُ هُوَ صلى الله عليه وسلم»([94]).
المصادر والمراجع:
1- الإعلان بالتوبيخ لمن ذمَّ التاريخ - للحافظ السخاوي / تعريب: صالح أحمد العلي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
2- الأدب المفرد - للإمام البخاري / دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
3- البداية والنهاية - للحافظ ابن كثير / الطبعة الثانية، عام 1977م، مكتبة المعارف، بيروت، لبنان.
4- بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب - محمود شكري الألوسي / تحقيق محمد بهجة الأثري، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية.
5- تاريخ الأمم والملوك - لأبي جعفر الطبري / تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، الطبعة الثانية، دار سويدان، عام 1387هـ، بيروت، لبنان.
تاريخ الطبري = تاريخ الأمم والملوك.
6- تخريج أحاديث فقه السيرة للغزالي - للشيخ محمد ناصر الدين الألباني / الطبعة السابعة، عام 1976هـ، دار الكتب الحديثة.
7- الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع - للخطيب البغدادي / تحقيق محمود الطحان، طبعة عام 1403هـ، مكتبة المعارف، الرياض.
8- دلائل النبوة ومعرفة أحوال الشريعة - للبيهقي / تحقيق: عبد المعطي القلعجي، الطبعة الأولى، عام 1405هـ، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
9- ديوان عنترة بن شداد / تحقيق محمد سعيد مولوي، الطبعة الثانية، المكتب الإسلامي، بيروت.
10- الرسالة المحمدية - لسليمان الندوي / الطبعة الثالثة، عام 1401هـ، مكتبة دار الفتح، دمشق.
11- السنن - للإمام أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني / تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، دار إحياء السنة النبوية.
12- السنن - للإمام عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي / طبعة دار إحياء السنة النبوية.
13- السنن - للإمام محمد بن عيسى الترمذي / تحقيق أحمد شاكر وآخرين، طبعة المكتبة الإسلامية.
14- السنن - للإمام محمد بن يزيد بن ماجه/ تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، طبعة عام 1395هـ، دار إحياء التراث العربي.
15- السيرة النبوية - للحافظ ابن كثير / تحقيق مصطفى عبد الواحد، طبعة عام 1403هـ، دار المعرفة، بيروت، لبنان.
16- السيرة النبوية - لأبي الحسن الندوي / الطبعة الأولى، عام 1397هـ، دار الشروق، جدة.
17- السيرة النبوية - لابن هشام / تحقيق مصطفى السقا وآخرين، طبعة دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان.
18- حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، صور مقتبسة من القرآن الكريم وتحليلات ودراسات قرآنية - لمحمد عزة دروزة / الطبعة الثانية، عام 1384هـ مطبعة مصطفى البابي الحلبي وشركاه، مصر.
19- السيرة النبوية الصحيحة - لأكرم ضياء العمري / طبعة عام 1412هـ، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة.
20- السيرة النبوية في الصحيحين عند ابن إسحاق، دراسة مقارنة في العهد المكي - للدكتور سليمان بن حمد العودة / رسالة دكتوراه مكتوبة على الآلة الكاتبة.
21- شرح المعلقات السبع - للزوزاني الحسين بن أحمد / دار مكتبة الحياة، بيروت.
22- صبح الأعشى في صناعة الإنشاء - للقلقشندي / طبعة مؤسسة قرطبة.
23- صحيح الإمام محمد بن إسماعيل البخاري / المطبوعة مع فتح الباري، تحقيق محب الدين الخطيب، المكتبة السلفية، القاهرة.
24- صحيح الإمام مسلم بن الحجاج النيسابوري / تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، الطبعة الأولى، عام 1374هـ، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان.
25- الطريق إلى المدائن - لأحمد عادل كمال/ الطبعة السادسة، عام 1406هـ، دار النفائس، بيروت، لبنان.
26- الغرباء الأولون - لسلمان بن فهد العودة / الطبعة الأولى، عام 1410هـ، دار ابن الجوزي، الدمام.
27- فتح الباري بشرح صحيح البخاري - لابن حجر العسقلاني / تحقيق محب الدين الخطيب، الطبعة الثانية، عام 1400هـ، المكتبة السلفية، القاهرة.
28- القاموس المحيط - للفيروزآبادي / تحقيق مكتب تحقيق التراث في مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية، عام 1407هـ، بيروت، لبنان.
29- لسان العرب - لابن منظور / الطبعة الأولى، عام 1300هـ، دار صادر، بيروت، لبنان.
30- مجلة البيان / العدد الثاني - سنة 1407هـ شهر صفر - تصدر عن المنتدى الإسلامي بلندن.
31- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد - للهيثمي/ الطبعة الثالثة، عام 1402هـ، دار الكتاب العربي، بيروت.
32- المستدرك على الصحيحين - للحاكم / دار الكتاب العربي، بيروت.
33- المسند - للإمام أحمد / الطبعة الثانية، عام 1398هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان.
34- مفتاح السعادة ومصباح السيادة - لطاش كبري زادة / تحقيق كامل كامل بكري وعبد الوهاب أبو النور، مطبعة الاستقلال الكبرى ودار الكتب الحديثة، القاهرة.
35- المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام - لجواد علي / الطبعة الثانية، عام 1976م، دار العلم للملايين، بيروت، ومكتبة النهضة، بغداد.
36- ميزان الاعتدال في نقد الرجال - للإمام الذهبي / تحقيق علي محمد البجاوي، الطبعة
الأولى، عام 1382هـ، دار المعرفة، بيروت.
([1]) لسان العرب (4/389).
([2]) (1/251).
([3]) البداية (3/242)، وانظر الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/195).
([4]) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/195).
([5]) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/195).
([6]) انظر: الرسالة المحمدية، المحاضرة الأولى.
([7]) مسند أحمد (ح24671).
([8]) صحيح مسلم (ح408).
([9]) انظر: المحاضرة الثالثة من الرسالة المحمدية.
([10]) رواه البخاري (ح438) -واللفظ له-، ومسلم (ح521).
([11]) انظر: المحاضرة الثانية من الرسالة المحمدية.
(1) رواه البخاري انظر فتح الباري (8\360).
([13]) رواه يونس بن بكير في زوائده على السير والمغازي لابن إسحاق (ص:210)، والبيهقي في دلائل النبوة
(2/207)، وقال في الغرباء (ص:93): (( إسناده حسن )).
([14]) صحيح البخاري (ح3461).
([15]) رواه الترمذي (ح2657)، وأبو داود (ح3660)، وابن ماجة (ح230، 231، 232 236، 3056)، وأحمد (ح4146، 62937)، والدارمي (ح228).
([16]) انظر: الرسالة المحمدية، المحاضرة الرابعة لسليمان الندوي.
([17]) راجع فهرس السيرة النبوية صور مقتبسة من القرآن الكريم لمحمد عزة دروزة.
([18]) ذكرهما السخاوي في كتابه (( الإعلان بالتوبيخ )) (ص:527).
([19]) انظر: لسان العرب (11/129)، والقاموس المحيط (ص:1267).
([20]) رواه البخاري في الإيمان - باب المعاصي من أمر الجاهلية (ح30)، ومسلم في الإيمان (ح1661).
([21]) رواه البخاري في الاعتكاف (ح2033)، ومسلم (ح1656).
([22]) رواه البخاري في النكاح (ح5521).
([23]) رواه البخاري (ح3640)، ومسلم (ح1920). انظر: بلوغ الأرب (1/15- 17).
([24]) انظر: المسند (ح23298).
([25]) انظر: السيرة للندوي من أولها إلى (ص:25).
([26]) صحيح البخاري (ح4027).
([27]) صحيح مسلم (ح3265).
([28]) صحيح مسلم (ح2856).
([29]) المسند (2/275،316).
([30]) المسند (1/466) وفي سنده عمرو بن مجمع وهو ضعيف، وإبراهيم الهجري وهو لين الحديث.
([31]) انظر صحيح البخاري (ح4859).
([32]) صحيح مسلم (3483).
([33]) انظر: بلوغ الأرب (2/194-244).
([34]) بلوغ الأرب (3/36-73).
([35]) انظر: بلوغ الأرب (2/52-55)، (2/301-369)، (3/3-76).
([36]) صحيح مسلم (ح2865).
([37]) بلوغ الأرب (2/286-300).
([38]) السيرة للندوي (ص:12).
([39]) بلوغ الأرب (1/39-40).
([40]) بلوغ الأرب (1/37).
([41]) بلوغ الأرب (1/33).
([42]) انظر عن كرم العرب: بلوغ الأرب (1/46-98).
([43]) بلوغ الأرب (1/377).
([44]) بلوغ الأرب (1/149).
([45]) صحيح البخاري (ح7).
([46]) بلوغ الأرب (1/150).
([47]) رواه مسلم (ح1978).
([48]) انظر عن وفاء العرب: بلوغ الأرب (1/122-140).
([49]) مجلة البيان، العدد الثاني.
([50]) انظر عن يوم ذي قار: تاريخ الطبري (2/207)، صبح الأعشى (1/393).
([51]) ديوان عنترة (ص252).
([52]) انظر عن شجاعة العرب بلوغ الأرب (1/103-120).
([53]) بلوغ الأرب (1/377).
([54]) انظر: شرح المعلقات (ص:194- 213)
([55]) انظر: الطريق إلى المدائن (ص:40).
([56]) فتح الباري (6/607).
([57]) رواه البخاري (ح3231)، ومسلم (ح1771).
([58]) انظر المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام (4/5-76).
([59]) المسند (ح1791).
([60]) تفسير ابن كثير (3\332).
([61]) المسند (1\397).
([62]) صحيح مسلم (ح2276).
([63]) صحيح البخاري (ح3293).
([64]) أخرجه البخاري في مناقب الأنصار - باب مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، الفتح (7/199) بدون إسناد.
([65]) فتح الباري (6/611).
([66]) فتح الباري (6/116).
([67]) أخرجه البخاري في بدء الوحي (ح7).
([68]) فتح الباري (6/641)، وصحيح مسلم (4/1828).
([69]) رواه مسلم (4/1828).
([70]) صحيح البخاري (ح3533).
([71]) فتح الباري (6/644).
([72]) فتح الباري (6/642).
([73]) فتح الباري (6/644-645).
([74]) رواه البخاري (ح110)، ومسلم (2110)، الفتح (6/647).
([75]) صحيح مسلم (2/819).
([76]) السيرة الصحيحة (1/96).
([77]) رواه مسلم (3/1392).
([78]) أخرجه مسلم (2/1072).
([79]) صحيح مسلم (3/1392).
([80]) انظر: السير لابن هشام (1/171)، وميزان الاعتدال (1/426)، ومجمع الزوائد (8/221) والسيرة لابن كثير (1/228)، السيرة النبوية في الصحيحين (ص:118-119)، والسيرة الصحيحة (ص:98-102).
([81]) سيرة ابن هشام (1/175)، وسيرة ابن كثير (1/299).
([82]) سيرة ابن كثير (1/249).
([83]) صحيح البخاري (ح1664)، وصحيح مسلم (ح1220) انظر إلى كتاب مسائل الجاهلية التي خالفهم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
([84]) رواه أحمد (1/190-193)، والبخاري في المفرد (ح570)، والحاكم ووافقه الذهبي (2/219)، وصححه الألباني في فقه السيرة (ص:75).
([85]) السيرة الصحيحة (ص:112).
([86]) السيرة ابن كثير (1/258).
([87]) رواه البخاري (ح2262).
([88]) (ح91).
([89]) (ح2072).
([90]) رواه البخاري (ح2062)، ومسلم (2153).
([91]) كتاب البيوع - باب التجارة في البز (ح2062).
([92]) رواه البخاري (ح2071).
([93]) السيرة لابن كثير (1/265)، والسيرة الصحيحة (ص:112).
([94]) رواه الإمام أحمد (3/425)، والحاكم (3/458)، وصححه ووافقه الذهبي، وانظر: سيرة ابن هشام (1/209).