جمال المر
2010-03-13, 07:31 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
إن أهم مظاهر إعجاز القرآن الكريم يتمثل في تلك الثورة الكبرى التي أحدثتها ألفاظه، إذ اختيرت اختيارا خاصا، واستعملت استعمالا جديدا حمل أحد فصحاء قريش - وهو الوليد بن المغيرة- على أن يقول لأبي جهل بعد سماع آيات من الذكر الحكيم: «والله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني ولا برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي نقول شيئا من هذا، ووالله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه يعلو ولا يعلى عليه، وإنه ليحطم ما تحته»[1].
وما سمعه الوليد بن المغيرة كان كلاما عربيا مبينا يفهمه، وقد ألف سماع مثله، إلا أن القرآن الكريم كان ظاهرة لغوية «فريدة في تاريخ اللغات، إذ لم يحدث للغة العربية تطور تدريجي، بل بعض ما يشبه الانفجار الثوري المباغت، كما كانت الظاهرة القرآنية مباغتة، وبهذا تكون اللغة العربية قد مرت طفرة من المرحلة اللهجية الجاهلية، إلى لغة منظمة فنيا، لكي تنقل فكرة الثقافة الجديدة والحضارة الوليدة»[2].
فالذي جاء به الإسلام، ونقل به العالم تلك النقلة الفكرية والحضارية الكبرى، إنما هو حروف نظمت بها ألفاظ في سلك أسلوبي بديع، ألفاظ كان أكثرها - أو كلها- معروفا من قبل ومستعملا لدى العرب.
فما الذي جعل لهذه الألفاظ، بعد استعمال القرآن الكريم لها، ذلك التأثير في النّفوس؟
لا شك أن القرآن الكريم ضمَّن هذه الألفاظ شحنات دلالية قوية جديدة، الأمر الذي جعل كل من يسمعه يدرك الفرق بين ما ألفه من كلام عربي وما أنزل منه في القرآن الكريم، وهذا ما جعل علماء السلف يتتبعون هذه الألفاظ تفهما وحفظا واستعمالا ودراسة، حتى يتسنى لهم الوقوف على حقيقة ذلك الفرق واكتناه أسرار استعمال التنزيل المختلف لهذه الألفاظ، ذلك الاستعمال الذي استطاع تغيير ما في أنفسهم وما حولهم على السواء.
ومن هذا المنطلق سيحاول هذا البحث الوجيز الإجابة عن سؤالين:
الأول: ما هو أثر هذه العناية بألفاظ القرآن الكريم في حياة السلف عامة، وفي الحركة العلمية الإسلامية خاصة؟
الثاني: كيف تُمكننا العناية بهذه الألفاظ واستثمارها لتحقيق مثل ما حققوه على مستويات الفهم والاستنباط قصد بناء إنتاج فكري / حضاري معاصر فيه قدر مهم من الثقة بالذات وبمكوناتها المختلفة؟
لا شك أن القدرة اللغوية هي الميزة التي أهلت الإنسان للخلافة في الأرض وبناء الحضارات المختلفة عليها، ولذلك كانت اللغة «أخطر الظواهر الاجتماعية والإنسانية على الإطلاق، وكل تقدم اجتماعي كتب له الكمال إنما تم لوجود اللغة... واللغة أخطر رابطة تاريخية تربط الأجيال المختلفة من الشعب الواحد رباطا يجعل وحدة هذه الأجيال حقيقة ملموسة على رغم اختلاف العصور، ذلك بأن اللغة وعاء التجارب الشعبية والعادات والتقاليد والعقائد التي تتوارثها الأجيال واحدا بعد الآخر، فصفة الاستمرار لكل هذا لا تتأتى إلا عن طريق اللغة»[3].
ولقد عاش العرب بُعَيد نزول القرآن هذه الحقيقة بكل تجلياتها، فقد تغيرت حياتهم تغيرا كاملا بعد ما أحدثه فيهم الوحي بأحكامه الجديدة، وانشغالهم بلغته وعلومه، قال ابن فارس وهو يصف ذلك التغيير الذي أحدثه نزول القرآن في حياتهم:
»كانت العرب فِي جاهليتها عَلَى إرث من إرث آبائهم فِي لغاتهم وآدابهم ونسائهم وقَرابينهم. فلما جاء الله جل ثناؤه بالإسلام حالت أحوال، ونسخَت ديانات، وأبطلت أمور، ونقلت من اللغة ألفاظ من مواضع إِلى مواضع أخر بزيادات زيدت، وشرائع شرعت، وشرائط شرطت. فَعفى الآخر الأولَ، وشغِل القوم - بعد المغاورات والتّجارات وتَطلب الأرباح والكدح للمعاش فِي رحلة الشتاء والصَّيف، وبعد الأغرام بالصيد والمعاقرة والمياسرة- بتلاوة الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بَين يديه ولا من خلفه تنزيلٌ من حكيم حميد، وبالتفقه فِي دين الله عز وجل، وحفظ سنن رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْه وسلم، مع اجتهادهم فِي مجاهدة أعداء الإسلام.
فصار الذي نشأ علَيهِ آباؤهم ونشؤوا عَلَيْه كأَن لَمْ يكن... فسبحان من نقل أولئك فِي الزمن القريب بتوفيقه، عمّا ألفوه ونشؤوا علَيْه وغذوا بِهِ، إلى مثل هذا الذِي ذكرناه... فكان مما جاء فِي الإسلام، ذكر المؤمن والمسلم والكافر والمنافق. وأن العرب إنما عرفت المؤمن من الأمان والإيمان وهو التصديق. ثم زادت الشريعة شرائط وأوصافا بِها سمِيَ المؤمن بالإطلاق مؤمناً. وكذلك الإسلام والمسلم، إنما عرفت منه إسلام الشيء ثم جاء فِي الشَّرع من أوصافه مَا جاء. وكذلك كَانت لا تعرف من الكفر إِلاَّ الغطاء والستر... »[4].
فالعرب بعد أن كانوا أمة أمية لا هَمَّ لغالبيتهم إلا الكسب والمعاش وما يوصل إلى ذلك من وسائل، أصبحوا وقد دخلت الاهتمامات العلمية في حياتهم من باب واسع، فزاد اهتمامهم بلغتهم باعتبارها أداة لكل ذلك وناقلة له.
واللغة إنما هي ألفاظ ومعانٍ، والألفاظ هي خزائن المعاني والمعارف وأوعيتها، ولذلك كانت مقدمة على المعاني عند العلماء، قال ابن الأثير عند ذكره لما يلزم لمعرفة علم الحديث: «أحدهما معرفة ألفاظه، والثاني معرفة معانيه، ولا شك أن معرفة ألفاظه مقدمة في الرتبة لأنها الأصل في الخطاب، وبها يحصل التفاهم، فإذا عرفت ترتبت المعاني عليها، فكان الاهتمام ببيانها أولى»[5].
ووعي السلف بأهمية الألفاظ يتجلى في أنهم بدؤوا نشاطهم العلمي الأول بجمع ألفاظ اللغة عامة، وألفاظ القرآن والحديث خاصة، فكانت أول حركة علمية قام بها المسلمون وحظيت بالتأليف قبل غيرها هي ما يعرف بجمع الغريب الذي أنتج جملة من المؤلفات التي شكلت البداية الأولى لتأليف المعاجم اللغوية عند العرب، فقد كان الصحابة رضوان الله تعالى عنهم، بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، يقومون بدور المعجم، حيث كانوا مرجعا أساسيا يرجع إليهم الناس ليسألوهم عما خفي عنهم من ألفاظ القرآن الكريم، وأبرز من قام بهذا الدور هو عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، فكانت إجاباته، وخاصة ما عرف بمسائل نافع بن الأزرق (ت 65 هـ)، هي أول ما ألف في تاريخ العلم الإسلامي[6]،إضافة إلى كتاب آخر ينسب إليه في غريب القرآن.
وبناء على هذا العمل ظهرت كتب الغريب ثم دونت مع بداية عصر التدوين، فاشتهر منها كتاب غريب القرآن لأبي عبيدة، وغريب القرآن لابن قتيبة وغيرهما ممن ألف في هذا الميدان، كتبا شكلت اللبنة الأولى- مع عمل ابن عباس- في بناء المعاجم العربية، فقد ذكر بعض الدارسين أن «طليعة المعجم العربي جاءت مع الإسلام، وأول من حمل رايتها عبد الله بن عباس في كتابه "غريب القرآن" الذي كان يؤدي ما تؤديه المعجمات للسائلين»[7].
وقال الدكتور حسين نصار: «فتفسير غريب القرآن ومشكله أولى الحركات العلمية التي رآها العرب»[8].
وتجدر الإشارة إلى أنه لا يقصد بالغريب هنا معناه المضاد للفصيح، فقد اشتملت معظم هذه الكتب على كل مفردات القرآن الكريم على تفاوت نسبي بينها، وإنما المقصود في هذه الكتب بالغريب غالبا هو ما نزل بغير لغة قريش.
وتبعا للتأليف في الغريب، ظهر التأليف في لغات القبائل، وفي ما يعرف بالنوادر، أي الكلمات النادرة ككتاب النوادر في اللغة لأبي زيد الأنصاري (ت 215 هـ)، كما ظهرت رسائل صغيرة في موضوعات مختلفة ككتاب خلق الفرس لقطرب (ت 206 هـ)، وكتب الأصمعي (ت 213 هـ)، ككتاب خلق الإنسان وكتاب الشاء وغيرها، ثم صنف العلماء في الأضداد وهي الكلمات التي تعبر عن المعنى وضده، وصنفوا في المشترك اللفظي، كما عرف التأليف في الأشباه والنظائر وفي مشكل القرآن وفي المعرب من الألفاظ المستعملة في القرآن الكريم، وصنفوا في الفروق اللغوية وفي الترادف والمذكر والمؤنث وغيرها مما له علاقة بالألفاظ عامة، وإن كان الحافز على التأليف فيها والهدف منه هو صيانة ألفاظ القرآن الكريم، والعناية بلغة القرآن والحديث.
فقد كان الدافع الديني وراء كل ذلك، وكان السبب المباشر الذي أظهر الدراسات اللغوية ارتباطها بالدراسات الدينية أو اتحادهما في النشأة[9].
ونستطيع القول إن التأليف في مفردات اللغة عامة، كالتأليف في النوادر وبعض المواضيع آنفة الذكر، وإن كان في الظاهر مستقلا عن التأليف في ما له علاقة بالقرآن والحديث، إلا أنه كان نابعا من شعورهم بشرف العربية وقدسيتها ومن ثم وجوب حفظها باعتبارها لغة التنزيل.
فقد شاء الله تعالى أن يسخر هذه الأمة «للذب عن الشريعة والمناضلة عنها بحسب الجملة والتفصيل، أما القرآن الكريم فقد قيض الله له حفظة بحيث لو زيد فيه حرف لأخرجه آلاف من الأطفال الأصاغر، فضلا عن القراء الأكابر، وهكذا جرى الأمر في جملة الشريعة، فقيض الله لكل علم رجالا حفظه على أيديهم، فكان منهم قوم يذهبون الأيام الكثيرة في حفظ اللغات والتسميات الموضوعة على لسان العرب حتى قرروا لغات الشريعة من القرآن والحديث وهو الباب الأول من أبواب فقه الشريعة، إذ أوحاها الله إلى رسوله على لسان العرب، ثم قيض رجالا يبحثون عن تصاريف هذه اللغات في النطق فيها رفعا ونصبا وجرا وجزما، وتقديما وتأخيرا... واستنبطوا لذلك قواعد ضبطوا بها قوانين الكلام العربي على حسب الإمكان، فسهل الله بذلك الفهم عنه في كتابه وعن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في خطابه»[10].
فكان الدرس اللغوي عند المسلمين هو السياج الذي يحمي مفردات الشريعة من أي تحريف أو قصور في فهمها، ويهدف إلى تدقيق النظر فيها من وجهات مختلفة مما كان له الدور الأساس في إشاعة الاستعمال القرآني الجديد لها وإعادة بناء المنظومة اللغوية بشكل يعمل على حفظ ألفاظها عامة، ويجعل فهم اللغة أساسا لفهم الدين، بل إن علماء أصول الفقه اعتبروا المعرفة باللغة - إن لم نقل بلوغ درجة الاجتهاد فيها- شرطا من أهم شروط الاجتهاد في استنباط الأحكام، يقول الشاطبي في هذا الباب: «فإن كان ثم علم لا يحصل الاجتهاد في الشريعة إلا بالاجتهاد فيه فهو بلا بد مضطر إليه، لأنه إذا فرض كذلك لم يمكن في العادة الوصول إلى درجة الاجتهاد دونه، فلا بد من تحصيله على تمامه، وهو ظاهر، إلا أن هذا العلم مبهم في الجملة، فيسأل عن تعيينه، والأقرب في العلوم إلى أن يكون هكذا علم العربية، ولا أعني بذلك النحو وحده، ولا التصريف وحده، ولا اللغة، ولا علم المعاني، ولا غير ذلك من أنواع العلوم المتعلقة باللسان، بل المراد جملة علم اللسان ألفاظ أو معانٍ كيف تصورت...»[11].
وذكر الآمدي اللغة العربية ضمن ما منه استمداد أصول الفقه ثم وضح ذلك قائلا: «وأما علم العربية: فلتوقف معرفة دلالات الأدلة اللفظية، من الكتاب، والسنة، وأقوال أهل الحل والعقد من الأمة، على معرفة موضوعاتها لغة، من جهة الحقيقة، والمجاز، والعموم، والخصوص، والإطلاق، والتقييد، والحذف، والإضمار، والمنطوق، والمفهوم، والاقتضاء، والإشارة، والتنبيه، والإيماء، وغيره، مما لا يعرف في غير علم العربية»[12].
وقال الشاطبي: «العلوم المضافة إلى القرآن تنقسم إلى قسمين: قسم هو كالأداة لفهمه واستخراج ما فيه من الفوائد، والمعين على معرفة مراد الله تعالى منه كعلوم اللغة العربية التي لابد منها..»[13].
ولذلك اشتمل علم أصول الفقه على مباحث لغوية متنوعة. أما علماء التفسير فعنايتهم بالألفاظ واضحة، فقد كان اهتمامهم منصبا عليها أولا، حتى أن الاختلاف الذي نشأ بينهم راجع إلى اختلاف فهومهم لها كما قال ابن تيمية، مبينا أسباب الاختلاف بين المفسرين: «وأما النوع الثاني من مستندي الاختلاف، وهو ما يعلم بالاستدلال لا بالنقل، فهذا أكثر ما فيه الخـطأ من جهتين: إحداهما: قوم اعتقدوا معاني، ثم أرادوا حمل ألفاظ القرآن عليها، والثانية: قوم فسروا القرآن بمجرد ما يسوغ أن يريده بكلامه من كان من الناطقين بلغة العرب، من غير نظر إلى المتكلم بالقرآن والمنزل عليه، والمخاطب به»[14].
ولم يخف تأثير المعرفة بالألفاظ من حيث الحقيقة والمجاز في علم العقيدة، ولقد أفرد ابن جني في كتاب الخصائص بابا عنونه بباب ما يؤمنه علم العربية من الاعتقادات الدينية، قال فيه: «اعلم أن هذا الباب من أشرف أبواب هذا الكتاب، وأن الانتفاع به ليس إلى غاية، ولا وراءه من نهاية. وذلك أن أكثر من ضل من أهل الشريعة عن القصد فيها، وحاد عن الطريقة المثلى إليها، فإنما استهواه واستخف حلمه ضعفه في هذه اللغة الكريمة الشريفة، التي خوطب الكافة بها، وعرضت عليها الجنة والنار من حواشيها وأنحائها، وأصل اعتقاد التشبيه لله تعالى بخلقه منها، وجاز عليهم بها وعنها»[15].
إن وعي السلف بضرورة حفظ ألفاظ القرآن الكريم والحديث الشريف وأهميته في حفظ الدين جعلهم يقبلون على هذه الألفاظ إقبالا ذا وجهتين: الأولى تتمثل في تفهم هذه الألفاظ، والثانية تتمثل في استعمالها في حياتهم العلمية والعامة معا.
وتلتقي الوجهتان في جانب مهم حفلت به المعاجم اللغوية، وهو تحديد مأخذ هذه الألفاظ قبل اصطلاحيتها، حتى يتمكنوا من استعمالها استعمالا صحيحا، وما عبارة ابن الأزرق المتكررة في مسائله: «وهل تعرف العرب ذلك؟»، وجواب ابن عباس بالإحالة على الشعر الجاهلي إلا جزء من العناية بهذا المأخذ اللغوي للمصطلحات وتحديده، ويكمل ذلك ما نجده في المعاجم اللغوية من عبارات نحو: «تقول العرب» و«أطلقت العرب ذلك على..»، وفي هذا العمل ربط للمصطلحات بجذورها ربطا وثيقا يمنع من اهتزازها أو سقوطها في مهب ريح التشويه الذي تعرضت أو قد تتعرض له عبر العصور.
إن توجهات فكرية معاصرة تدعو إلى التجديد في مختلف المجالات، ومنها المجالات الشرعية، ولا أحد يستطيع إنكار مشروعية التجديد أو أهميته، إذ يجب توسيع مباحث العلوم الشرعية لتشمل فقه الواقع، وفقه المجتمع الإنساني والحضارات المختلفة، ولتشمل أيضا بعض المعطيات الثابتة والمفيدة التي توصلت إليها مختلف العلوم وفي طليعتها العلوم الإنسانية، ولتشمل آليات البحث فيها وفي مختلف القضايا التي تتصل بفهم الخطاب القرآني والنبوي فهما يمكن من بلوغ مرحلة الرشد في تطبيقهما لتحقيق الشهود الحضاري المنشود.
ويمكن أن يطال هذا التجديد كل ما هو خارج النصين الوحيين من اجتهادات في فهمهما وفق متغيرات الزمان والمكان، ولكن بعض هذه "الاجتهادات" التي بدأت فعلا، قد أغفلت المصادر اللغوية خاصة منها المعاجم آنفة الذكر [16]؛ولذلك جاء الكثير منها محلقا في سماء الغرابة بعيدا عن مقاصد الشرع، لأنها انطلقت من فهم للمصطلحات بعيد عن المقصود منها في لسان العرب ومعهودهم في الخطاب الذي هو ما روعي في كلام الله عند تنزيله وفي كلام الرسول صلى الله عليه وسلم عند وروده، والذي يجب أن يراعى في كل محاولة لتفهمهما.
إن المدة الزمنية التي تفصلنا عن عصر الوحي، إضافة إلى ما لحق باللسان العربي من امتزاج بغيره وتداخل، لكفيلان بأن يحرفا الكثير من المفاهيم إما بالتغيير والتبديل، أو بالزيادة والنقصان من السمات الدلالية لهذه المفاهيم، ولذلك فإن محاولة التفهم الجديد لمصطلحات الشرع دون استحضار هذه الحقائق، تعد مغامرة علمية غير محمودة ولا مقبولة النتائج.
إننا قد نحتاج في أحيان كثيرة إلى تقليب النظر في المقصود ببعض المفاهيم على ضوء المستجدات المعاصرة، ومن ثم نحتاج إلى تحديد دلالات جديدة لها قد تكون أوسع أو أضيق مما فسرت به سابقا، ولكن يظل مأخذها اللغوي هو الضابط الذي يمنع من التزيد والزلل في هذا النوع من التفسير، إضافة إلى ضوابط أخرى معروفة ضمن أصول التفسير.
ومن هذا المنطلق، فإن الدراسة لهذه الكتب اللغوية وتوثيق ما لم يوثق منها، وتحقيق ما لم يحقق، تعد من المهام التي يجب أن توضع ضمن أولوياتنا في البحث العلمي الشرعي، لنتمكن بعد ذلك من حفظها بشكل ما إلى جانب الوحيين لتظل مصاحبة لهما عند كل دراسة جديدة لهما أو محاولة مستجدة لفهمهما بحيث لا يسمح بتجاوزها في أثناء ذلك.
وهذا الدور هو القسم الأهم من الأدوار التي يجب أن نقوم بها، أما الدور الثاني فيتمثل في إشاعة الاستعمال الصحيح لمصطلحات الشرع في جوانب حياتنا المختلفة حتى تصبح مألوفة لدينا فيصعب اختراق معانيها مع الزمن.
فما الذي يمنعنا من أن ننعت الإنسان الذي "له ضمير حي" مثلا بأنه إنسان تقي أو محسن "بمعنى الإحسان الوارد في حديث جبريل عليه السلام"، وما الذي يمنعنا أن ننعت "الإنسانية" بالرحمة مثلا، والشخص الذي يتصف "بالإنسانية" في معاملته للآخرين بأنه إنسان رحيم يقتدي بنبي الرحمة عليه الصلاة والسلام.
وما يصدق على هذه المفاهيم البسيطة على مستوى بناء الفرد، يصدق على غيرها من المفاهيم الضخمة التي تؤثر في البناء الحضاري للأمة كلها، إذ إن المفاهيم السائدة منها، والتي لها دور في مسار الحضارة الراهنة، جلها مفاهيم صنعت خارج مجتمعاتنا، ومن ثم فهي قد وفدت إلينا محملة بثقافة وتصورات صانعيها في مختلف مجالات الحياة، مما أدى إلى هذا الذي نعيشه من تخبط فكري يمنعنا من تحقيق العزة والمشاركة في البناء الحضاري المشهود.
وإدراكنا لهذه الحقائق يحفزنا على التشمير عن ساعد الجد للبحث في تراثنا عن سبل الوصول إلى الفاعلية التي يؤهلنا لها ديننا الخالد.
إن السلف قد وعوا وعيا تاما أن العناية بالألفاظ خاصة، وباللغة العربية عامة، جزء لا يتجزأ من الدفاع عن الدين ونصرته، ولذلك وجدناهم يعقدون مباحث في تصانيفهم لإبراز مكانة لغة القرآن الكريم، وقد فعل ذلك العرب منهم والعجم، لأن الأمر كان بعيدا عن التعصب للأصل مادام الهدف هو حماية الدين والمنافحة عنه، ولذلك كان إعلاء شأن لغة التنزيل هو قضية كل مسلم، لأنها الأداة الأولى لفهمه ولسلامة الاستمداد منه وللتمكن من ناصية الاجتهاد فيه، هذا الاجتهاد الذي جعلته الشريعة وسيلة من أهم وسائل شمولية أحكام الإسلام لكل زمان ومكان.
----------------------------------------------
الهوامش :
1ـ الإتقان في علوم القرآن 2 / 117 نقلا عن الحاكم برواية ابن عباس.
2ـ مالك بن نبي، الظاهرة القرآنية، ص: 191.
3ـ تمام حسان، مناهج البحث في اللغة، ص: 9.
4ـ الصاحبي.
5ـ النهاية في غريب الحديث والأثر 1 / 3.
6ـ أورد السيوطي هذه المسائل بروايته في كتاب الإتقان في علوم القرآن، وذكر أن ابن الأنباري قد ذكر بعضها في كتاب الوقف، وأن الطبراني أوردها في معجمه الكبير الإتقان في علوم القرآن 1/121 في فصل من فصول النوع السادس والثلاثين. وهذه المسائل أصبحت موضوعا لدراسات معاصرة.
7ـ أحمد عبد الغفور عطار، الصحاح ومدارس المعجمات العربية ص: 63، نقلا عن مقال عن كتب الغريب للدكتور محمد كشاش.
8ـ المعجم العربي، نشأته وتطوره، ص: 26.
9ـ نفسه.
10ـ الشاطبي- الموافقات 2 / 59 - 60.
11ـ الموافقات 4 / 114- 115.
12ـ الآمدي في مقدمة الأحكام
13ـ الموافقات 3 / 375.
14ـ مقدمة في أصول التفسير.71/ 72. ثم بين أن نشوء الفرق من خوارج وروافض وغيرهما إنما كان مرده لهذا النوع من الاختلاف ص: 73.
15ـ كتاب الخصائص.
16ـ أقصد هنا المعاجم اللغوية خاصة، وما نقل منها في كتب التفسير وغيرها من الكتب الشارحة للوحيين عامة
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
إن أهم مظاهر إعجاز القرآن الكريم يتمثل في تلك الثورة الكبرى التي أحدثتها ألفاظه، إذ اختيرت اختيارا خاصا، واستعملت استعمالا جديدا حمل أحد فصحاء قريش - وهو الوليد بن المغيرة- على أن يقول لأبي جهل بعد سماع آيات من الذكر الحكيم: «والله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني ولا برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي نقول شيئا من هذا، ووالله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه يعلو ولا يعلى عليه، وإنه ليحطم ما تحته»[1].
وما سمعه الوليد بن المغيرة كان كلاما عربيا مبينا يفهمه، وقد ألف سماع مثله، إلا أن القرآن الكريم كان ظاهرة لغوية «فريدة في تاريخ اللغات، إذ لم يحدث للغة العربية تطور تدريجي، بل بعض ما يشبه الانفجار الثوري المباغت، كما كانت الظاهرة القرآنية مباغتة، وبهذا تكون اللغة العربية قد مرت طفرة من المرحلة اللهجية الجاهلية، إلى لغة منظمة فنيا، لكي تنقل فكرة الثقافة الجديدة والحضارة الوليدة»[2].
فالذي جاء به الإسلام، ونقل به العالم تلك النقلة الفكرية والحضارية الكبرى، إنما هو حروف نظمت بها ألفاظ في سلك أسلوبي بديع، ألفاظ كان أكثرها - أو كلها- معروفا من قبل ومستعملا لدى العرب.
فما الذي جعل لهذه الألفاظ، بعد استعمال القرآن الكريم لها، ذلك التأثير في النّفوس؟
لا شك أن القرآن الكريم ضمَّن هذه الألفاظ شحنات دلالية قوية جديدة، الأمر الذي جعل كل من يسمعه يدرك الفرق بين ما ألفه من كلام عربي وما أنزل منه في القرآن الكريم، وهذا ما جعل علماء السلف يتتبعون هذه الألفاظ تفهما وحفظا واستعمالا ودراسة، حتى يتسنى لهم الوقوف على حقيقة ذلك الفرق واكتناه أسرار استعمال التنزيل المختلف لهذه الألفاظ، ذلك الاستعمال الذي استطاع تغيير ما في أنفسهم وما حولهم على السواء.
ومن هذا المنطلق سيحاول هذا البحث الوجيز الإجابة عن سؤالين:
الأول: ما هو أثر هذه العناية بألفاظ القرآن الكريم في حياة السلف عامة، وفي الحركة العلمية الإسلامية خاصة؟
الثاني: كيف تُمكننا العناية بهذه الألفاظ واستثمارها لتحقيق مثل ما حققوه على مستويات الفهم والاستنباط قصد بناء إنتاج فكري / حضاري معاصر فيه قدر مهم من الثقة بالذات وبمكوناتها المختلفة؟
لا شك أن القدرة اللغوية هي الميزة التي أهلت الإنسان للخلافة في الأرض وبناء الحضارات المختلفة عليها، ولذلك كانت اللغة «أخطر الظواهر الاجتماعية والإنسانية على الإطلاق، وكل تقدم اجتماعي كتب له الكمال إنما تم لوجود اللغة... واللغة أخطر رابطة تاريخية تربط الأجيال المختلفة من الشعب الواحد رباطا يجعل وحدة هذه الأجيال حقيقة ملموسة على رغم اختلاف العصور، ذلك بأن اللغة وعاء التجارب الشعبية والعادات والتقاليد والعقائد التي تتوارثها الأجيال واحدا بعد الآخر، فصفة الاستمرار لكل هذا لا تتأتى إلا عن طريق اللغة»[3].
ولقد عاش العرب بُعَيد نزول القرآن هذه الحقيقة بكل تجلياتها، فقد تغيرت حياتهم تغيرا كاملا بعد ما أحدثه فيهم الوحي بأحكامه الجديدة، وانشغالهم بلغته وعلومه، قال ابن فارس وهو يصف ذلك التغيير الذي أحدثه نزول القرآن في حياتهم:
»كانت العرب فِي جاهليتها عَلَى إرث من إرث آبائهم فِي لغاتهم وآدابهم ونسائهم وقَرابينهم. فلما جاء الله جل ثناؤه بالإسلام حالت أحوال، ونسخَت ديانات، وأبطلت أمور، ونقلت من اللغة ألفاظ من مواضع إِلى مواضع أخر بزيادات زيدت، وشرائع شرعت، وشرائط شرطت. فَعفى الآخر الأولَ، وشغِل القوم - بعد المغاورات والتّجارات وتَطلب الأرباح والكدح للمعاش فِي رحلة الشتاء والصَّيف، وبعد الأغرام بالصيد والمعاقرة والمياسرة- بتلاوة الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بَين يديه ولا من خلفه تنزيلٌ من حكيم حميد، وبالتفقه فِي دين الله عز وجل، وحفظ سنن رسول الله صلى الله تعالى عَلَيْه وسلم، مع اجتهادهم فِي مجاهدة أعداء الإسلام.
فصار الذي نشأ علَيهِ آباؤهم ونشؤوا عَلَيْه كأَن لَمْ يكن... فسبحان من نقل أولئك فِي الزمن القريب بتوفيقه، عمّا ألفوه ونشؤوا علَيْه وغذوا بِهِ، إلى مثل هذا الذِي ذكرناه... فكان مما جاء فِي الإسلام، ذكر المؤمن والمسلم والكافر والمنافق. وأن العرب إنما عرفت المؤمن من الأمان والإيمان وهو التصديق. ثم زادت الشريعة شرائط وأوصافا بِها سمِيَ المؤمن بالإطلاق مؤمناً. وكذلك الإسلام والمسلم، إنما عرفت منه إسلام الشيء ثم جاء فِي الشَّرع من أوصافه مَا جاء. وكذلك كَانت لا تعرف من الكفر إِلاَّ الغطاء والستر... »[4].
فالعرب بعد أن كانوا أمة أمية لا هَمَّ لغالبيتهم إلا الكسب والمعاش وما يوصل إلى ذلك من وسائل، أصبحوا وقد دخلت الاهتمامات العلمية في حياتهم من باب واسع، فزاد اهتمامهم بلغتهم باعتبارها أداة لكل ذلك وناقلة له.
واللغة إنما هي ألفاظ ومعانٍ، والألفاظ هي خزائن المعاني والمعارف وأوعيتها، ولذلك كانت مقدمة على المعاني عند العلماء، قال ابن الأثير عند ذكره لما يلزم لمعرفة علم الحديث: «أحدهما معرفة ألفاظه، والثاني معرفة معانيه، ولا شك أن معرفة ألفاظه مقدمة في الرتبة لأنها الأصل في الخطاب، وبها يحصل التفاهم، فإذا عرفت ترتبت المعاني عليها، فكان الاهتمام ببيانها أولى»[5].
ووعي السلف بأهمية الألفاظ يتجلى في أنهم بدؤوا نشاطهم العلمي الأول بجمع ألفاظ اللغة عامة، وألفاظ القرآن والحديث خاصة، فكانت أول حركة علمية قام بها المسلمون وحظيت بالتأليف قبل غيرها هي ما يعرف بجمع الغريب الذي أنتج جملة من المؤلفات التي شكلت البداية الأولى لتأليف المعاجم اللغوية عند العرب، فقد كان الصحابة رضوان الله تعالى عنهم، بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، يقومون بدور المعجم، حيث كانوا مرجعا أساسيا يرجع إليهم الناس ليسألوهم عما خفي عنهم من ألفاظ القرآن الكريم، وأبرز من قام بهذا الدور هو عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، فكانت إجاباته، وخاصة ما عرف بمسائل نافع بن الأزرق (ت 65 هـ)، هي أول ما ألف في تاريخ العلم الإسلامي[6]،إضافة إلى كتاب آخر ينسب إليه في غريب القرآن.
وبناء على هذا العمل ظهرت كتب الغريب ثم دونت مع بداية عصر التدوين، فاشتهر منها كتاب غريب القرآن لأبي عبيدة، وغريب القرآن لابن قتيبة وغيرهما ممن ألف في هذا الميدان، كتبا شكلت اللبنة الأولى- مع عمل ابن عباس- في بناء المعاجم العربية، فقد ذكر بعض الدارسين أن «طليعة المعجم العربي جاءت مع الإسلام، وأول من حمل رايتها عبد الله بن عباس في كتابه "غريب القرآن" الذي كان يؤدي ما تؤديه المعجمات للسائلين»[7].
وقال الدكتور حسين نصار: «فتفسير غريب القرآن ومشكله أولى الحركات العلمية التي رآها العرب»[8].
وتجدر الإشارة إلى أنه لا يقصد بالغريب هنا معناه المضاد للفصيح، فقد اشتملت معظم هذه الكتب على كل مفردات القرآن الكريم على تفاوت نسبي بينها، وإنما المقصود في هذه الكتب بالغريب غالبا هو ما نزل بغير لغة قريش.
وتبعا للتأليف في الغريب، ظهر التأليف في لغات القبائل، وفي ما يعرف بالنوادر، أي الكلمات النادرة ككتاب النوادر في اللغة لأبي زيد الأنصاري (ت 215 هـ)، كما ظهرت رسائل صغيرة في موضوعات مختلفة ككتاب خلق الفرس لقطرب (ت 206 هـ)، وكتب الأصمعي (ت 213 هـ)، ككتاب خلق الإنسان وكتاب الشاء وغيرها، ثم صنف العلماء في الأضداد وهي الكلمات التي تعبر عن المعنى وضده، وصنفوا في المشترك اللفظي، كما عرف التأليف في الأشباه والنظائر وفي مشكل القرآن وفي المعرب من الألفاظ المستعملة في القرآن الكريم، وصنفوا في الفروق اللغوية وفي الترادف والمذكر والمؤنث وغيرها مما له علاقة بالألفاظ عامة، وإن كان الحافز على التأليف فيها والهدف منه هو صيانة ألفاظ القرآن الكريم، والعناية بلغة القرآن والحديث.
فقد كان الدافع الديني وراء كل ذلك، وكان السبب المباشر الذي أظهر الدراسات اللغوية ارتباطها بالدراسات الدينية أو اتحادهما في النشأة[9].
ونستطيع القول إن التأليف في مفردات اللغة عامة، كالتأليف في النوادر وبعض المواضيع آنفة الذكر، وإن كان في الظاهر مستقلا عن التأليف في ما له علاقة بالقرآن والحديث، إلا أنه كان نابعا من شعورهم بشرف العربية وقدسيتها ومن ثم وجوب حفظها باعتبارها لغة التنزيل.
فقد شاء الله تعالى أن يسخر هذه الأمة «للذب عن الشريعة والمناضلة عنها بحسب الجملة والتفصيل، أما القرآن الكريم فقد قيض الله له حفظة بحيث لو زيد فيه حرف لأخرجه آلاف من الأطفال الأصاغر، فضلا عن القراء الأكابر، وهكذا جرى الأمر في جملة الشريعة، فقيض الله لكل علم رجالا حفظه على أيديهم، فكان منهم قوم يذهبون الأيام الكثيرة في حفظ اللغات والتسميات الموضوعة على لسان العرب حتى قرروا لغات الشريعة من القرآن والحديث وهو الباب الأول من أبواب فقه الشريعة، إذ أوحاها الله إلى رسوله على لسان العرب، ثم قيض رجالا يبحثون عن تصاريف هذه اللغات في النطق فيها رفعا ونصبا وجرا وجزما، وتقديما وتأخيرا... واستنبطوا لذلك قواعد ضبطوا بها قوانين الكلام العربي على حسب الإمكان، فسهل الله بذلك الفهم عنه في كتابه وعن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في خطابه»[10].
فكان الدرس اللغوي عند المسلمين هو السياج الذي يحمي مفردات الشريعة من أي تحريف أو قصور في فهمها، ويهدف إلى تدقيق النظر فيها من وجهات مختلفة مما كان له الدور الأساس في إشاعة الاستعمال القرآني الجديد لها وإعادة بناء المنظومة اللغوية بشكل يعمل على حفظ ألفاظها عامة، ويجعل فهم اللغة أساسا لفهم الدين، بل إن علماء أصول الفقه اعتبروا المعرفة باللغة - إن لم نقل بلوغ درجة الاجتهاد فيها- شرطا من أهم شروط الاجتهاد في استنباط الأحكام، يقول الشاطبي في هذا الباب: «فإن كان ثم علم لا يحصل الاجتهاد في الشريعة إلا بالاجتهاد فيه فهو بلا بد مضطر إليه، لأنه إذا فرض كذلك لم يمكن في العادة الوصول إلى درجة الاجتهاد دونه، فلا بد من تحصيله على تمامه، وهو ظاهر، إلا أن هذا العلم مبهم في الجملة، فيسأل عن تعيينه، والأقرب في العلوم إلى أن يكون هكذا علم العربية، ولا أعني بذلك النحو وحده، ولا التصريف وحده، ولا اللغة، ولا علم المعاني، ولا غير ذلك من أنواع العلوم المتعلقة باللسان، بل المراد جملة علم اللسان ألفاظ أو معانٍ كيف تصورت...»[11].
وذكر الآمدي اللغة العربية ضمن ما منه استمداد أصول الفقه ثم وضح ذلك قائلا: «وأما علم العربية: فلتوقف معرفة دلالات الأدلة اللفظية، من الكتاب، والسنة، وأقوال أهل الحل والعقد من الأمة، على معرفة موضوعاتها لغة، من جهة الحقيقة، والمجاز، والعموم، والخصوص، والإطلاق، والتقييد، والحذف، والإضمار، والمنطوق، والمفهوم، والاقتضاء، والإشارة، والتنبيه، والإيماء، وغيره، مما لا يعرف في غير علم العربية»[12].
وقال الشاطبي: «العلوم المضافة إلى القرآن تنقسم إلى قسمين: قسم هو كالأداة لفهمه واستخراج ما فيه من الفوائد، والمعين على معرفة مراد الله تعالى منه كعلوم اللغة العربية التي لابد منها..»[13].
ولذلك اشتمل علم أصول الفقه على مباحث لغوية متنوعة. أما علماء التفسير فعنايتهم بالألفاظ واضحة، فقد كان اهتمامهم منصبا عليها أولا، حتى أن الاختلاف الذي نشأ بينهم راجع إلى اختلاف فهومهم لها كما قال ابن تيمية، مبينا أسباب الاختلاف بين المفسرين: «وأما النوع الثاني من مستندي الاختلاف، وهو ما يعلم بالاستدلال لا بالنقل، فهذا أكثر ما فيه الخـطأ من جهتين: إحداهما: قوم اعتقدوا معاني، ثم أرادوا حمل ألفاظ القرآن عليها، والثانية: قوم فسروا القرآن بمجرد ما يسوغ أن يريده بكلامه من كان من الناطقين بلغة العرب، من غير نظر إلى المتكلم بالقرآن والمنزل عليه، والمخاطب به»[14].
ولم يخف تأثير المعرفة بالألفاظ من حيث الحقيقة والمجاز في علم العقيدة، ولقد أفرد ابن جني في كتاب الخصائص بابا عنونه بباب ما يؤمنه علم العربية من الاعتقادات الدينية، قال فيه: «اعلم أن هذا الباب من أشرف أبواب هذا الكتاب، وأن الانتفاع به ليس إلى غاية، ولا وراءه من نهاية. وذلك أن أكثر من ضل من أهل الشريعة عن القصد فيها، وحاد عن الطريقة المثلى إليها، فإنما استهواه واستخف حلمه ضعفه في هذه اللغة الكريمة الشريفة، التي خوطب الكافة بها، وعرضت عليها الجنة والنار من حواشيها وأنحائها، وأصل اعتقاد التشبيه لله تعالى بخلقه منها، وجاز عليهم بها وعنها»[15].
إن وعي السلف بضرورة حفظ ألفاظ القرآن الكريم والحديث الشريف وأهميته في حفظ الدين جعلهم يقبلون على هذه الألفاظ إقبالا ذا وجهتين: الأولى تتمثل في تفهم هذه الألفاظ، والثانية تتمثل في استعمالها في حياتهم العلمية والعامة معا.
وتلتقي الوجهتان في جانب مهم حفلت به المعاجم اللغوية، وهو تحديد مأخذ هذه الألفاظ قبل اصطلاحيتها، حتى يتمكنوا من استعمالها استعمالا صحيحا، وما عبارة ابن الأزرق المتكررة في مسائله: «وهل تعرف العرب ذلك؟»، وجواب ابن عباس بالإحالة على الشعر الجاهلي إلا جزء من العناية بهذا المأخذ اللغوي للمصطلحات وتحديده، ويكمل ذلك ما نجده في المعاجم اللغوية من عبارات نحو: «تقول العرب» و«أطلقت العرب ذلك على..»، وفي هذا العمل ربط للمصطلحات بجذورها ربطا وثيقا يمنع من اهتزازها أو سقوطها في مهب ريح التشويه الذي تعرضت أو قد تتعرض له عبر العصور.
إن توجهات فكرية معاصرة تدعو إلى التجديد في مختلف المجالات، ومنها المجالات الشرعية، ولا أحد يستطيع إنكار مشروعية التجديد أو أهميته، إذ يجب توسيع مباحث العلوم الشرعية لتشمل فقه الواقع، وفقه المجتمع الإنساني والحضارات المختلفة، ولتشمل أيضا بعض المعطيات الثابتة والمفيدة التي توصلت إليها مختلف العلوم وفي طليعتها العلوم الإنسانية، ولتشمل آليات البحث فيها وفي مختلف القضايا التي تتصل بفهم الخطاب القرآني والنبوي فهما يمكن من بلوغ مرحلة الرشد في تطبيقهما لتحقيق الشهود الحضاري المنشود.
ويمكن أن يطال هذا التجديد كل ما هو خارج النصين الوحيين من اجتهادات في فهمهما وفق متغيرات الزمان والمكان، ولكن بعض هذه "الاجتهادات" التي بدأت فعلا، قد أغفلت المصادر اللغوية خاصة منها المعاجم آنفة الذكر [16]؛ولذلك جاء الكثير منها محلقا في سماء الغرابة بعيدا عن مقاصد الشرع، لأنها انطلقت من فهم للمصطلحات بعيد عن المقصود منها في لسان العرب ومعهودهم في الخطاب الذي هو ما روعي في كلام الله عند تنزيله وفي كلام الرسول صلى الله عليه وسلم عند وروده، والذي يجب أن يراعى في كل محاولة لتفهمهما.
إن المدة الزمنية التي تفصلنا عن عصر الوحي، إضافة إلى ما لحق باللسان العربي من امتزاج بغيره وتداخل، لكفيلان بأن يحرفا الكثير من المفاهيم إما بالتغيير والتبديل، أو بالزيادة والنقصان من السمات الدلالية لهذه المفاهيم، ولذلك فإن محاولة التفهم الجديد لمصطلحات الشرع دون استحضار هذه الحقائق، تعد مغامرة علمية غير محمودة ولا مقبولة النتائج.
إننا قد نحتاج في أحيان كثيرة إلى تقليب النظر في المقصود ببعض المفاهيم على ضوء المستجدات المعاصرة، ومن ثم نحتاج إلى تحديد دلالات جديدة لها قد تكون أوسع أو أضيق مما فسرت به سابقا، ولكن يظل مأخذها اللغوي هو الضابط الذي يمنع من التزيد والزلل في هذا النوع من التفسير، إضافة إلى ضوابط أخرى معروفة ضمن أصول التفسير.
ومن هذا المنطلق، فإن الدراسة لهذه الكتب اللغوية وتوثيق ما لم يوثق منها، وتحقيق ما لم يحقق، تعد من المهام التي يجب أن توضع ضمن أولوياتنا في البحث العلمي الشرعي، لنتمكن بعد ذلك من حفظها بشكل ما إلى جانب الوحيين لتظل مصاحبة لهما عند كل دراسة جديدة لهما أو محاولة مستجدة لفهمهما بحيث لا يسمح بتجاوزها في أثناء ذلك.
وهذا الدور هو القسم الأهم من الأدوار التي يجب أن نقوم بها، أما الدور الثاني فيتمثل في إشاعة الاستعمال الصحيح لمصطلحات الشرع في جوانب حياتنا المختلفة حتى تصبح مألوفة لدينا فيصعب اختراق معانيها مع الزمن.
فما الذي يمنعنا من أن ننعت الإنسان الذي "له ضمير حي" مثلا بأنه إنسان تقي أو محسن "بمعنى الإحسان الوارد في حديث جبريل عليه السلام"، وما الذي يمنعنا أن ننعت "الإنسانية" بالرحمة مثلا، والشخص الذي يتصف "بالإنسانية" في معاملته للآخرين بأنه إنسان رحيم يقتدي بنبي الرحمة عليه الصلاة والسلام.
وما يصدق على هذه المفاهيم البسيطة على مستوى بناء الفرد، يصدق على غيرها من المفاهيم الضخمة التي تؤثر في البناء الحضاري للأمة كلها، إذ إن المفاهيم السائدة منها، والتي لها دور في مسار الحضارة الراهنة، جلها مفاهيم صنعت خارج مجتمعاتنا، ومن ثم فهي قد وفدت إلينا محملة بثقافة وتصورات صانعيها في مختلف مجالات الحياة، مما أدى إلى هذا الذي نعيشه من تخبط فكري يمنعنا من تحقيق العزة والمشاركة في البناء الحضاري المشهود.
وإدراكنا لهذه الحقائق يحفزنا على التشمير عن ساعد الجد للبحث في تراثنا عن سبل الوصول إلى الفاعلية التي يؤهلنا لها ديننا الخالد.
إن السلف قد وعوا وعيا تاما أن العناية بالألفاظ خاصة، وباللغة العربية عامة، جزء لا يتجزأ من الدفاع عن الدين ونصرته، ولذلك وجدناهم يعقدون مباحث في تصانيفهم لإبراز مكانة لغة القرآن الكريم، وقد فعل ذلك العرب منهم والعجم، لأن الأمر كان بعيدا عن التعصب للأصل مادام الهدف هو حماية الدين والمنافحة عنه، ولذلك كان إعلاء شأن لغة التنزيل هو قضية كل مسلم، لأنها الأداة الأولى لفهمه ولسلامة الاستمداد منه وللتمكن من ناصية الاجتهاد فيه، هذا الاجتهاد الذي جعلته الشريعة وسيلة من أهم وسائل شمولية أحكام الإسلام لكل زمان ومكان.
----------------------------------------------
الهوامش :
1ـ الإتقان في علوم القرآن 2 / 117 نقلا عن الحاكم برواية ابن عباس.
2ـ مالك بن نبي، الظاهرة القرآنية، ص: 191.
3ـ تمام حسان، مناهج البحث في اللغة، ص: 9.
4ـ الصاحبي.
5ـ النهاية في غريب الحديث والأثر 1 / 3.
6ـ أورد السيوطي هذه المسائل بروايته في كتاب الإتقان في علوم القرآن، وذكر أن ابن الأنباري قد ذكر بعضها في كتاب الوقف، وأن الطبراني أوردها في معجمه الكبير الإتقان في علوم القرآن 1/121 في فصل من فصول النوع السادس والثلاثين. وهذه المسائل أصبحت موضوعا لدراسات معاصرة.
7ـ أحمد عبد الغفور عطار، الصحاح ومدارس المعجمات العربية ص: 63، نقلا عن مقال عن كتب الغريب للدكتور محمد كشاش.
8ـ المعجم العربي، نشأته وتطوره، ص: 26.
9ـ نفسه.
10ـ الشاطبي- الموافقات 2 / 59 - 60.
11ـ الموافقات 4 / 114- 115.
12ـ الآمدي في مقدمة الأحكام
13ـ الموافقات 3 / 375.
14ـ مقدمة في أصول التفسير.71/ 72. ثم بين أن نشوء الفرق من خوارج وروافض وغيرهما إنما كان مرده لهذا النوع من الاختلاف ص: 73.
15ـ كتاب الخصائص.
16ـ أقصد هنا المعاجم اللغوية خاصة، وما نقل منها في كتب التفسير وغيرها من الكتب الشارحة للوحيين عامة