لطفي عيساني
2010-03-18, 10:45 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
بيان في الرد على « عبد المحسن العبيكان »
في تجويزه الذهاب للسحرة لحل السحر عن المسحور
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.. أما بعد:
فقدِ اطَّلعْتُ على ما شَاعَ وذاعَ من كَلامِ « عبد المحسن العبيكان » في تجويزه وإباحته إتيان السَّحَرة لِحَلِّ السِّحر!، وهذا أمرٌ خطير يترتب عليه من فساد الاعتقاد ما لاَ يُحيط به إلا رب العباد، فإنَّ من أعظمِ التذلُّلِ والخضوعِ للشيطان أن ينصرف قلب العبد عن خالقه بتوجه إرادته إلى ساحر نَجِسٍ مُوَالٍ للشيطان ليحل عنه السِّحْرَ ونحوه.
وليعلم مَن فعل ذلك أنَّ الثمن دينه، وأنه لَم تتحرك نيته وإرادته بالتوجه إلى الساحر إلاَّ لفساد اعتقاده وظنه بالله ظَنَّ سُوء، وإلاَّ فَلو صَدَق الله وعَلِم أنَّ الأمر كله له - سبحانه - وأن السَّحَرة وشياطينهم تضر ولا تنفع لَمَا استقرَّت في قلبه إرادة ذلك فضلاً أن يفعله لورود النهي الأكيد عن ذلك، وأنه من عمل الشيطان، وحرام فعله حيث إنه لا يحصل إلا بالتقرب إلى الشيطان وَعَمَل أوْ قَول ما يُرضيه من الساحر، وممن يأتي إليه.
أما الساحر فلم يحصل له السِّحر إلا بالكفر، وأما مَن يأتيه لِحَل السحر فإنما أَتاه لإدباره وإعراضه عن ربه وما شَرَع له من الرقية بالقرآن والأذكار والدعاء، ومن الأدوية المباحة إلى عدو الله الساحر الخبيث الكافر، مع علمه أنه شيطانُ إنسٍ يتقرب إلى شيطان جِنّ، فأي خير يُرجى بهذا المسلك؟! ؛ فلينظر مَن أتى الساحر بمن تعلَّق قلبه في الشفـاء!، فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ومَن تعلق شيئاً وُكِل إليه) (1)؛ قال الشيخ « عبد الرحمن بن حسَن آل الشيخ » - رحمه الله -: (أي مَن تعلَّق قلبه شيئاً بحيث يعتمد عليه ويرجوه وَكَله الله إلى ذلك الشيء) انتهى (2).
إنَّ الذين يذهبون إلى السحرة يرجون نفعهم إنما يزدادون سوءاً، ولو ندَر وحصل بعض النفع فهو كنفع الخمر بل أشد، وحسبك أنه نفع للبدن بفساد الدين، وذلك خسران مبين، وأنَّى لهم النفع والله - عز وجل - يقول: {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} (3)، فهذا خبر بشمول الضرر.
والتحذير هنا لِمَن قد يغتر بفتاوى قوم لَم يتقوا الله في المسلمين فيفتحون لهم أبواب الضلالة بفتاويهم الضالة حيث يُهَوِّنون عليهم حلَّ السحر بإتيان الساحر وهو (النشرة) التي هي حل السحر بسحر مثله.
والساحر مادتـه شيطانيـة، ويكفي مَن أتـاه من الخسران أنـه استعان بالشيطـان مُعْرِضاً عن ربه الرحمن.
وحَسْبُ مَن أتى الساحر أنه أتى من نفى الله عنه وعن عمله الفلاح، قال - تعالى-: {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} (4)، فأيُّ خيرٍ يرجى وأيُّ شَرٍّ يُتقى بعد هذا؟!.
وقد بوَّب الشيخ « محمد بن عبد الوهاب » - رحمه الله - في كتابه (التوحيد) لهذه المسألة باباً خاصاً عنوانه: (باب ما جاء في النشرة)، وذَكر حديث « جابر بن عبد الله » - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سُئل عن النشرة، فقال: (هي مِن عَمَل الشيطان) (5).
وقال: ورُوِيَ عن الْحَسَن " البصري " أنه قال: " لا يحل السحر إلا ساحر" .
وقال: قال ابن القيم: (" النشرة " حل السحر عن المسحور، وهي نوعان: أحدهما: حل بسحر مثله، وهو الذي من عمل الشيطان، " وعليه يحمل قول الحسَـن - يعني: أنه لا يحل السحر إلاَّ ساحر - ".
فيتقرب الناشر والمنتشر إلى الشيطان بما يحب، فيبطل عمله عن المسحور.
والثاني: النشرة بالرقية والتعوذات والأدوية والدعوات المباحة فهذا جائز) انتهى (6).
وفي (فتح المجيد) قال الشارح - رحمه الله -: (والحاصل أن ما كان منه بالسحر فيَحْرُم، وما كان بالقرآن والدعوات والأدوية المباحة فجائز، والله أعلم) انتهى (7).
وقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (فلا تأتوا الكهان) (8)، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (مَن أتى كاهناً فصدَّقه بما يقول فقد كَفَر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - ) (9)، والساحر أخبث من الكاهن.
وقد قال « عبد الله بن مسعود » - رضي الله عنه -: (مَن أتى كاهناً أو ساحراً فصدَّقه بما يقول فقد كَفَر بما أُنزِل على محمد - صلى الله عليه وسلم - ) (10).
فالحذر الحذر من هذا الخطر، فلا يجوز إتيان الساحر للرقية، وقد بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن الله لَم يجعل شفاء أمته فيما حرَّم عليها، والسِّحر مُحَرَّم بالإجماع؛ وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ولا تَدَاوَوْا بِحرام) (11).
قال ابن القيم - رحمه الله -: (وهنا سِرٌّ لطيف في كون المحرمات لا يُستشفى بها، فإنَّ شرطَ الشفاء بالدواء تلقِّيه بالقبول واعتقاد منفعته وما جعل الله فيه من بركة الشفاء، فإن النافع هو المبارك وأنفع الأشياء أبركها، والمبارك من الناس أينما كان هو الذي ينتفع به حيث حلَّ، ومعلوم أن اعتقاد المسلم تحريم هذه العين مِمَّا يَحُول بينه وبين اعتقاد بَرَكَتِها ومنفعتها وبين حُسْنِ ظنه بها، وتلقى طبعه لها بالقبول، بل كلما كان العبد أعظم إيماناً كان أكره لها وأسوأ اعتقاداً فيها، وطبعه أكره شيء لها؛ فإذا تناولها في هذه الحال كانت داء له لا دواء إلا أن يزول اعتقاد الخبث فيها وسوء الظن والكراهة لها بالمحبة، وهذا ينافي الإيمان، فلا يتناولها المؤمن قط إلا على وجـه داء) انتهى (12).
قوله - رحمه الله -: (فإذا تناولها في هذه الحال كانت داء له لا دواء) يعني في حال حضور إيمان العبد واعتقاده كفر الساحر وشؤمه ونفي الفلاح عما يأتيه فتزداد العلة بإتيانه.
وقوله: (إلاَّ أن يزول اعتقاد الخبث فيها وسوء الظن والكراهة لها بالمحبة، وهذا ينافي الإيمان) يعني أنْ يعتقد في الساحر أنه مبارك وطيب ولا ضرر في إتيانه، فهذا معنى قولـه: (وهذا ينافي الإيمان)، وهما أمران أحلاهما مر - والعياذ بالله -، ويا ويل من أباح إتيان السحرة، قال - تعالى -: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاءَ مَا يَزِرُونَ} (13).
وإنه لا يُستبعد مع هذه الفتاوى الضالة الْمُضِلّة أنْ يَرُوج احتراف السحر للرقية، ويكثر السحرة، ويروج تعلُّم السِّحْر وتعليمه والمجاهرة بذلك كله!.
أما ما يذكر عن « سعيد بن المسيب » - رحمه الله - من قوله: (لا بأس به) - يعني النشرة - فحاشاه أن يريد به النشرة السِّحْرية الْمُحَرَّمة، وإنما أراد - رحمه الله - بالنشرة الرقية الشرعية، وسميت نشرة لأنه ينشر بها عنه ما خامَرَه من الـداء، أي: يُزال ويكشف (14).
أما قول « عائشة » - رضي الله عنها - لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يا رسول الله.. هَلاَّ تَنشَّرْت؟! " فقد أجابها بما هو حجة على المبطلين حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: (أما واللهِ فقد شفاني، وأكره أن أثير على أحدٍ من الناس شَرًّا) (15).
فالْمُجِيزُ إتيانِ السَّحَرَةَ للنشرة يفتح على الناس شراً بنص قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وعائشة - رضي الله عنها - ليست مُشَرِّعَة ولَم تكن تعلم حرمة ذلك، فبين لها النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ذلك يفتح على الناس شراً.
والعَجَب أنْ يستـدل - أيضاً - مَن يُجيز النشرة السِّحْريـة بقولـه: (وإن كانوا يقصـدون " لا يُفلح " بمعنى أنه لن ينجح في العلاج وحل السحر، فنقول لهم: القرآن يُكَذَّب هذا المعنى الذي يقولون به، فالله - عز وجل - يقول: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِه ِ} (16)، فيحصل منهم التفريق والواقع يؤكد أن السحرة ينجحون في حله؛ وبالتالي لا يمكن أن نفسر تلك الآية بأن الساحر لا ينجح في حل السحر لأن هذا مصادم للقرآن وللواقع) انتهى.
ويقال له: بل أنت بتَسْميتك التفريق بين المرء وزوجه وحلّ ذلك نجاحاً مصادمٌ للقرآن حيث قال - تعالى -: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (17)، فبين - تعالى - أنهم يضرون ولا ينفعون، وإنما نفعهم بحل السحر كما أثبت - سبحانه - أنَّ للخمر نفْع، كذلك فقد نفى الله عنهم الفلاح - كما تقدم -، فإثبات ضررهم ونفي نفعهم ونفي الفلاح عنهم وعما يأتونه يكفي بعضه لِمَن أهَمَّه دينه للجزم بحرمة ذلك وعدم جوازه بحال.
والنجاح المزعوم في ذلك أعظم حرمة وخبثاً وقبحاً من انتفاع البدن بالخمر، لأن التوجه إلى الساحر بهذا القصد يترتب عليه فساد الاعتقاد بخلاف الخمر.
أما قوله: (والذين يأمرون الناس بالاقتصار على الرقية يخالفون ما فعله الرسول من استخراج السحر وحله) فيقال له: ما أفقهك!، وهل استخرج الرسول - صلى الله عليه وسلم - السحر بإتيان الساحر أو بإتيان الوحي إليه؟!، فكيف يستدل بهذا؟!، والرسـول - صلى الله عليه وسلم - قال: (وأكره أن أثير على أحد من الناس شـراً)، فالمحتج بالنجاح المزعوم بإتيان الساحر أقبح من المحتج بنفع الجسم بالخمر - كما تقدم -، وقد فتح على الناس شراً ولن ينفعهم عند الله.
ثم قد يُقال: (قد يدَّعي مدَّعٍ الاضطرار باللجوء للساحر)، فالجواب: أن ذلك باطل، ولا ضرورة تُلجئ إليه إلاَّ لِمَن أيِسَ من رَوْح الله وظَنَّ بالله السوء، وأن الاستشفاء بكلامه وذكره ودعائـه وما جعله الله سبباً للشفاء من العلاجات الطبيعيـة غير المحظورة لا ينفع ولا يفيد، وإنما الشفاء والعافية عند الساحر، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله لَم يَجعل شِفَاءكم في حرام) (18).
وختاماً.. فقد تبين ما في هذا الأمر العظيم والخطر الجسيم من مخالفة الخالق الكريم ورسوله - صلى الله عليه وسلم - الشفيق الرحيم، وما يترتب على ذلك من فساد العقيدة، فالحذَر من مُوجِبَات الخطَر وجالبات الضَّرَر.
ولا شـكَّ أن مَن لَم يَهُـون ويَرْخُص عليه دِينه لو ضُمِن له الشفـاء عند الساحر - الرِّجْس، النَّجِِس، عدوِّ ربه - فإنه لا يأتيه لِعِلْمه أن شفاء بدنه عنده ثَمَن لفساد دينه!، كيف وهؤلاء السحرة الأخابث يزيدون العلَّة!، كيف وهو لَم يُعدم من الطُّرُق الشرعيـة السليمة لشفائه كما تقدم بيانـه - ولله الحمد والمنة -.
قال « عبد الله بن مسعود » - رضي الله عنه -: (إنكم ترون الكافر من أصح الناس جِسماً وأمرضهم قلباً، وتلْقَوْن المؤمن من أصَحِّ الناس قلباً وأمرضهم جِسْماً!، وأيْمُ اللهِ لو مَرِضَت قلوبُكم وصَحَّت أجسامكم لكنتم أهون على الله من الْجُعلان! ) انتهى (19)؛ فتأمل هذا الأثر حقَّ التأمل.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
13 / 6 / 1427
--------------------------
(1) أخرجه النسائي في « سننه الكبرى » برقم (4079) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ؛ وحسَّنه ابن مفلح في « الآداب الشرعية » (3 / 68).
(2) « فتح المجيد بشرح كتاب التوحيد »، ص (296).
(3) سورة طه، من الآية: 69.
(4) سورة طه، من الآية: 69.
(5) أخرجه أحمد في « مسنـده » برقم (14167)، وأبو داود في « سننـه » برقم (3868)، وقال النـووي في « المجموع شرح المهذب » (9 / 67): (إسناده صحيح)؛ وأخرجه الحاكم في « مستدركه » برقم (8292) من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - وقال: (هذا حديث صحيح ولَم يخرجاه) ووافقه الذهبي.
(6) « إعلام الموقعين » (4 / 396).
(7) « فتح المجيد »، ص (308).
(8) أخرجه مسلم في « صحيحه » برقم (537) من حديث معاوية بن الحكم السلمي - رضي الله عنه -.
(9) أخرجه البزار في « مسنـده » برقم (3904)، وغيـره، من حديث عمران بن حصيـن - رضي الله عنه -، وقال المنـذري في « الترغيب والترهيب » (4 / 17): (إسناده جيد).
(10) أخرجه البزار في « مسنده » برقم (1873) وغيره، وأخرجه أبو نعيم في « حلية الأولياء » (5 / 104) مرفوعاً.
(11) أخرجه أبو داود في « سننه » برقم (3874)، والبيهقي في « سننه الكبرى » برقم (19465) من حديث أبي الدرداء - رضي الله عنه -، وقال ابن مُفلح في « الآداب الشرعية » (2 / 336): (إسناده حسَن).
(12) « زاد المعاد » (4 / 157).
(13) سورة النحل، من الآية: 25.
(14) أنظر: « فتح المجيد »، ص (307).
(15) أخرجه البخاري في « صحيحه » برقم (5716).
(16) سورة البقرة، من الآية: 102.
(17) سورة البقرة، من الآية: 102.
(18) أخرجه ابن حبان في « صحيحـه » برقم (1391)، وأبو يعلى في « مسنده » برقم (6966) بهذا اللفظ من حديث هند أم سلمة - رضي الله عنها -؛ وأخرجه عن أم سلمة - أيضاً - البيهقي في « سننه الكبرى » برقم (19463)، والطبراني في « معجمه الكبير » برقم (749) بلفظ: (إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرَّم عليكم)؛ وصححه شيخ الإسلام ابن تيمية في « مجموع الفتاوى » (21 / 568).
وأورده البخاري في « صحيحه » (5 / 2129) عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - معلقاً، وأخرجه ابن أبي شيبة في « مصنفه » برقم (23833)، وغيره عنه - رضي الله عنه - موقوفاً، وصحح إسناده الحافظ ابن حجر في « فتح الباري » (10 / 82).
(19) أنظر: « الحلية » لأبي نعيم (1 / 135)، و « الزهد » لابن السري، ص (247).
بيان في الرد على « عبد المحسن العبيكان »
في تجويزه الذهاب للسحرة لحل السحر عن المسحور
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.. أما بعد:
فقدِ اطَّلعْتُ على ما شَاعَ وذاعَ من كَلامِ « عبد المحسن العبيكان » في تجويزه وإباحته إتيان السَّحَرة لِحَلِّ السِّحر!، وهذا أمرٌ خطير يترتب عليه من فساد الاعتقاد ما لاَ يُحيط به إلا رب العباد، فإنَّ من أعظمِ التذلُّلِ والخضوعِ للشيطان أن ينصرف قلب العبد عن خالقه بتوجه إرادته إلى ساحر نَجِسٍ مُوَالٍ للشيطان ليحل عنه السِّحْرَ ونحوه.
وليعلم مَن فعل ذلك أنَّ الثمن دينه، وأنه لَم تتحرك نيته وإرادته بالتوجه إلى الساحر إلاَّ لفساد اعتقاده وظنه بالله ظَنَّ سُوء، وإلاَّ فَلو صَدَق الله وعَلِم أنَّ الأمر كله له - سبحانه - وأن السَّحَرة وشياطينهم تضر ولا تنفع لَمَا استقرَّت في قلبه إرادة ذلك فضلاً أن يفعله لورود النهي الأكيد عن ذلك، وأنه من عمل الشيطان، وحرام فعله حيث إنه لا يحصل إلا بالتقرب إلى الشيطان وَعَمَل أوْ قَول ما يُرضيه من الساحر، وممن يأتي إليه.
أما الساحر فلم يحصل له السِّحر إلا بالكفر، وأما مَن يأتيه لِحَل السحر فإنما أَتاه لإدباره وإعراضه عن ربه وما شَرَع له من الرقية بالقرآن والأذكار والدعاء، ومن الأدوية المباحة إلى عدو الله الساحر الخبيث الكافر، مع علمه أنه شيطانُ إنسٍ يتقرب إلى شيطان جِنّ، فأي خير يُرجى بهذا المسلك؟! ؛ فلينظر مَن أتى الساحر بمن تعلَّق قلبه في الشفـاء!، فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ومَن تعلق شيئاً وُكِل إليه) (1)؛ قال الشيخ « عبد الرحمن بن حسَن آل الشيخ » - رحمه الله -: (أي مَن تعلَّق قلبه شيئاً بحيث يعتمد عليه ويرجوه وَكَله الله إلى ذلك الشيء) انتهى (2).
إنَّ الذين يذهبون إلى السحرة يرجون نفعهم إنما يزدادون سوءاً، ولو ندَر وحصل بعض النفع فهو كنفع الخمر بل أشد، وحسبك أنه نفع للبدن بفساد الدين، وذلك خسران مبين، وأنَّى لهم النفع والله - عز وجل - يقول: {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} (3)، فهذا خبر بشمول الضرر.
والتحذير هنا لِمَن قد يغتر بفتاوى قوم لَم يتقوا الله في المسلمين فيفتحون لهم أبواب الضلالة بفتاويهم الضالة حيث يُهَوِّنون عليهم حلَّ السحر بإتيان الساحر وهو (النشرة) التي هي حل السحر بسحر مثله.
والساحر مادتـه شيطانيـة، ويكفي مَن أتـاه من الخسران أنـه استعان بالشيطـان مُعْرِضاً عن ربه الرحمن.
وحَسْبُ مَن أتى الساحر أنه أتى من نفى الله عنه وعن عمله الفلاح، قال - تعالى-: {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} (4)، فأيُّ خيرٍ يرجى وأيُّ شَرٍّ يُتقى بعد هذا؟!.
وقد بوَّب الشيخ « محمد بن عبد الوهاب » - رحمه الله - في كتابه (التوحيد) لهذه المسألة باباً خاصاً عنوانه: (باب ما جاء في النشرة)، وذَكر حديث « جابر بن عبد الله » - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سُئل عن النشرة، فقال: (هي مِن عَمَل الشيطان) (5).
وقال: ورُوِيَ عن الْحَسَن " البصري " أنه قال: " لا يحل السحر إلا ساحر" .
وقال: قال ابن القيم: (" النشرة " حل السحر عن المسحور، وهي نوعان: أحدهما: حل بسحر مثله، وهو الذي من عمل الشيطان، " وعليه يحمل قول الحسَـن - يعني: أنه لا يحل السحر إلاَّ ساحر - ".
فيتقرب الناشر والمنتشر إلى الشيطان بما يحب، فيبطل عمله عن المسحور.
والثاني: النشرة بالرقية والتعوذات والأدوية والدعوات المباحة فهذا جائز) انتهى (6).
وفي (فتح المجيد) قال الشارح - رحمه الله -: (والحاصل أن ما كان منه بالسحر فيَحْرُم، وما كان بالقرآن والدعوات والأدوية المباحة فجائز، والله أعلم) انتهى (7).
وقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (فلا تأتوا الكهان) (8)، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (مَن أتى كاهناً فصدَّقه بما يقول فقد كَفَر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - ) (9)، والساحر أخبث من الكاهن.
وقد قال « عبد الله بن مسعود » - رضي الله عنه -: (مَن أتى كاهناً أو ساحراً فصدَّقه بما يقول فقد كَفَر بما أُنزِل على محمد - صلى الله عليه وسلم - ) (10).
فالحذر الحذر من هذا الخطر، فلا يجوز إتيان الساحر للرقية، وقد بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن الله لَم يجعل شفاء أمته فيما حرَّم عليها، والسِّحر مُحَرَّم بالإجماع؛ وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ولا تَدَاوَوْا بِحرام) (11).
قال ابن القيم - رحمه الله -: (وهنا سِرٌّ لطيف في كون المحرمات لا يُستشفى بها، فإنَّ شرطَ الشفاء بالدواء تلقِّيه بالقبول واعتقاد منفعته وما جعل الله فيه من بركة الشفاء، فإن النافع هو المبارك وأنفع الأشياء أبركها، والمبارك من الناس أينما كان هو الذي ينتفع به حيث حلَّ، ومعلوم أن اعتقاد المسلم تحريم هذه العين مِمَّا يَحُول بينه وبين اعتقاد بَرَكَتِها ومنفعتها وبين حُسْنِ ظنه بها، وتلقى طبعه لها بالقبول، بل كلما كان العبد أعظم إيماناً كان أكره لها وأسوأ اعتقاداً فيها، وطبعه أكره شيء لها؛ فإذا تناولها في هذه الحال كانت داء له لا دواء إلا أن يزول اعتقاد الخبث فيها وسوء الظن والكراهة لها بالمحبة، وهذا ينافي الإيمان، فلا يتناولها المؤمن قط إلا على وجـه داء) انتهى (12).
قوله - رحمه الله -: (فإذا تناولها في هذه الحال كانت داء له لا دواء) يعني في حال حضور إيمان العبد واعتقاده كفر الساحر وشؤمه ونفي الفلاح عما يأتيه فتزداد العلة بإتيانه.
وقوله: (إلاَّ أن يزول اعتقاد الخبث فيها وسوء الظن والكراهة لها بالمحبة، وهذا ينافي الإيمان) يعني أنْ يعتقد في الساحر أنه مبارك وطيب ولا ضرر في إتيانه، فهذا معنى قولـه: (وهذا ينافي الإيمان)، وهما أمران أحلاهما مر - والعياذ بالله -، ويا ويل من أباح إتيان السحرة، قال - تعالى -: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاءَ مَا يَزِرُونَ} (13).
وإنه لا يُستبعد مع هذه الفتاوى الضالة الْمُضِلّة أنْ يَرُوج احتراف السحر للرقية، ويكثر السحرة، ويروج تعلُّم السِّحْر وتعليمه والمجاهرة بذلك كله!.
أما ما يذكر عن « سعيد بن المسيب » - رحمه الله - من قوله: (لا بأس به) - يعني النشرة - فحاشاه أن يريد به النشرة السِّحْرية الْمُحَرَّمة، وإنما أراد - رحمه الله - بالنشرة الرقية الشرعية، وسميت نشرة لأنه ينشر بها عنه ما خامَرَه من الـداء، أي: يُزال ويكشف (14).
أما قول « عائشة » - رضي الله عنها - لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يا رسول الله.. هَلاَّ تَنشَّرْت؟! " فقد أجابها بما هو حجة على المبطلين حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: (أما واللهِ فقد شفاني، وأكره أن أثير على أحدٍ من الناس شَرًّا) (15).
فالْمُجِيزُ إتيانِ السَّحَرَةَ للنشرة يفتح على الناس شراً بنص قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وعائشة - رضي الله عنها - ليست مُشَرِّعَة ولَم تكن تعلم حرمة ذلك، فبين لها النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ذلك يفتح على الناس شراً.
والعَجَب أنْ يستـدل - أيضاً - مَن يُجيز النشرة السِّحْريـة بقولـه: (وإن كانوا يقصـدون " لا يُفلح " بمعنى أنه لن ينجح في العلاج وحل السحر، فنقول لهم: القرآن يُكَذَّب هذا المعنى الذي يقولون به، فالله - عز وجل - يقول: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِه ِ} (16)، فيحصل منهم التفريق والواقع يؤكد أن السحرة ينجحون في حله؛ وبالتالي لا يمكن أن نفسر تلك الآية بأن الساحر لا ينجح في حل السحر لأن هذا مصادم للقرآن وللواقع) انتهى.
ويقال له: بل أنت بتَسْميتك التفريق بين المرء وزوجه وحلّ ذلك نجاحاً مصادمٌ للقرآن حيث قال - تعالى -: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (17)، فبين - تعالى - أنهم يضرون ولا ينفعون، وإنما نفعهم بحل السحر كما أثبت - سبحانه - أنَّ للخمر نفْع، كذلك فقد نفى الله عنهم الفلاح - كما تقدم -، فإثبات ضررهم ونفي نفعهم ونفي الفلاح عنهم وعما يأتونه يكفي بعضه لِمَن أهَمَّه دينه للجزم بحرمة ذلك وعدم جوازه بحال.
والنجاح المزعوم في ذلك أعظم حرمة وخبثاً وقبحاً من انتفاع البدن بالخمر، لأن التوجه إلى الساحر بهذا القصد يترتب عليه فساد الاعتقاد بخلاف الخمر.
أما قوله: (والذين يأمرون الناس بالاقتصار على الرقية يخالفون ما فعله الرسول من استخراج السحر وحله) فيقال له: ما أفقهك!، وهل استخرج الرسول - صلى الله عليه وسلم - السحر بإتيان الساحر أو بإتيان الوحي إليه؟!، فكيف يستدل بهذا؟!، والرسـول - صلى الله عليه وسلم - قال: (وأكره أن أثير على أحد من الناس شـراً)، فالمحتج بالنجاح المزعوم بإتيان الساحر أقبح من المحتج بنفع الجسم بالخمر - كما تقدم -، وقد فتح على الناس شراً ولن ينفعهم عند الله.
ثم قد يُقال: (قد يدَّعي مدَّعٍ الاضطرار باللجوء للساحر)، فالجواب: أن ذلك باطل، ولا ضرورة تُلجئ إليه إلاَّ لِمَن أيِسَ من رَوْح الله وظَنَّ بالله السوء، وأن الاستشفاء بكلامه وذكره ودعائـه وما جعله الله سبباً للشفاء من العلاجات الطبيعيـة غير المحظورة لا ينفع ولا يفيد، وإنما الشفاء والعافية عند الساحر، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله لَم يَجعل شِفَاءكم في حرام) (18).
وختاماً.. فقد تبين ما في هذا الأمر العظيم والخطر الجسيم من مخالفة الخالق الكريم ورسوله - صلى الله عليه وسلم - الشفيق الرحيم، وما يترتب على ذلك من فساد العقيدة، فالحذَر من مُوجِبَات الخطَر وجالبات الضَّرَر.
ولا شـكَّ أن مَن لَم يَهُـون ويَرْخُص عليه دِينه لو ضُمِن له الشفـاء عند الساحر - الرِّجْس، النَّجِِس، عدوِّ ربه - فإنه لا يأتيه لِعِلْمه أن شفاء بدنه عنده ثَمَن لفساد دينه!، كيف وهؤلاء السحرة الأخابث يزيدون العلَّة!، كيف وهو لَم يُعدم من الطُّرُق الشرعيـة السليمة لشفائه كما تقدم بيانـه - ولله الحمد والمنة -.
قال « عبد الله بن مسعود » - رضي الله عنه -: (إنكم ترون الكافر من أصح الناس جِسماً وأمرضهم قلباً، وتلْقَوْن المؤمن من أصَحِّ الناس قلباً وأمرضهم جِسْماً!، وأيْمُ اللهِ لو مَرِضَت قلوبُكم وصَحَّت أجسامكم لكنتم أهون على الله من الْجُعلان! ) انتهى (19)؛ فتأمل هذا الأثر حقَّ التأمل.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
13 / 6 / 1427
--------------------------
(1) أخرجه النسائي في « سننه الكبرى » برقم (4079) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ؛ وحسَّنه ابن مفلح في « الآداب الشرعية » (3 / 68).
(2) « فتح المجيد بشرح كتاب التوحيد »، ص (296).
(3) سورة طه، من الآية: 69.
(4) سورة طه، من الآية: 69.
(5) أخرجه أحمد في « مسنـده » برقم (14167)، وأبو داود في « سننـه » برقم (3868)، وقال النـووي في « المجموع شرح المهذب » (9 / 67): (إسناده صحيح)؛ وأخرجه الحاكم في « مستدركه » برقم (8292) من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - وقال: (هذا حديث صحيح ولَم يخرجاه) ووافقه الذهبي.
(6) « إعلام الموقعين » (4 / 396).
(7) « فتح المجيد »، ص (308).
(8) أخرجه مسلم في « صحيحه » برقم (537) من حديث معاوية بن الحكم السلمي - رضي الله عنه -.
(9) أخرجه البزار في « مسنـده » برقم (3904)، وغيـره، من حديث عمران بن حصيـن - رضي الله عنه -، وقال المنـذري في « الترغيب والترهيب » (4 / 17): (إسناده جيد).
(10) أخرجه البزار في « مسنده » برقم (1873) وغيره، وأخرجه أبو نعيم في « حلية الأولياء » (5 / 104) مرفوعاً.
(11) أخرجه أبو داود في « سننه » برقم (3874)، والبيهقي في « سننه الكبرى » برقم (19465) من حديث أبي الدرداء - رضي الله عنه -، وقال ابن مُفلح في « الآداب الشرعية » (2 / 336): (إسناده حسَن).
(12) « زاد المعاد » (4 / 157).
(13) سورة النحل، من الآية: 25.
(14) أنظر: « فتح المجيد »، ص (307).
(15) أخرجه البخاري في « صحيحه » برقم (5716).
(16) سورة البقرة، من الآية: 102.
(17) سورة البقرة، من الآية: 102.
(18) أخرجه ابن حبان في « صحيحـه » برقم (1391)، وأبو يعلى في « مسنده » برقم (6966) بهذا اللفظ من حديث هند أم سلمة - رضي الله عنها -؛ وأخرجه عن أم سلمة - أيضاً - البيهقي في « سننه الكبرى » برقم (19463)، والطبراني في « معجمه الكبير » برقم (749) بلفظ: (إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرَّم عليكم)؛ وصححه شيخ الإسلام ابن تيمية في « مجموع الفتاوى » (21 / 568).
وأورده البخاري في « صحيحه » (5 / 2129) عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - معلقاً، وأخرجه ابن أبي شيبة في « مصنفه » برقم (23833)، وغيره عنه - رضي الله عنه - موقوفاً، وصحح إسناده الحافظ ابن حجر في « فتح الباري » (10 / 82).
(19) أنظر: « الحلية » لأبي نعيم (1 / 135)، و « الزهد » لابن السري، ص (247).