لطفي عيساني
2010-03-19, 02:52 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
تسري نفحات سعادة منعشة في روحي وأنا أمدّ الخطوات العائدة من أرض المطار نحو بيتي ، أخطو ومع كل خطوة أزداد سعادة من صنيعي الذي قمت به طوال عشرة أيام فائتة حتى تكلل بالنجاح منذ لحظات عندما ارتفعت الطائرة حاملة العمة شمس .. تلك المرأة التي سجلت محطة هامة في حياتي وليس بوسعي نسيانها . العمة شمس هذه المرأة المتقدمة في السن التي من أجلها الآن تتصوب إلي نظرات المودعين المريبة وهم يقولون في نفوسهم بأنني رجل أبله ، وإلا ما الذي يجعل شخصا في كل هذه السعادة وهو للتو قد ودع عزيزا أو حبيبا قد لن يراه ثانية ، لكن هذا كله لا يهمني وأنا أخطو بخطواتي مع خطواتهم من جناح المودعين نحو الخارج وأعرف حتى الابتسامة تبتسم على ثغري وهم يزدادون دهشة واستياء . معهم الحق فهم لا يعرفون قصة هذا الوداع ولا يعرفون من هي العمة شمس الرائعة تلك التي تحلق الآن في الفضاء مخلفة في نفسي كل هذا الشعور العارم بالفرح . منذ عشرة أيام ر تعرفت بالعمة شمس حينما رأيتها لأول مرة في حياتي ، كان الوقت قبيل الظهر وأنا جالس في مكتبتي القرطاسية أتدفأ على السخان الكهربائي الذي يحمل إبريق الشاي أنظر إلى المطر الغزير الذي ينذر بطوفان ويزداد قوة وغزارة منذ ساعة متواصلة وسط أصوات الرعود والصواعق المتلاحقة التي تهز الأرض وما عليها . بغتة وأنا أنظر من خلف زجاج المكتبة تراءى شخص كشبح يجري بسرعة نحو المكتبة ، يدير قبضة الباب ويندفع إلى الداخل كتلة من ماء وكأنه لاذ بي هاربا من حرب . جفلت وأنا أنتفض بسرعة من الكرسي وإذ بملامح امرأة عجوز ترتعد خوفا من أصوات الصواعق وترتجف من شدة البرد القارس ، امرأة عجوز تبدو قادمة للتو من الريف ، ترتدي ثيابا قروية سوداء ، بيد أنها ورغم علامات العمر البادية على سحنتها تبدو قوية البنية تقف على قدميها بشموخ كفتاة ، وكذلك استطعت أن ألمح شيئا مضيئا في وجهها يوحي بأنني أقف أمام شخص رحيم ، ولعل هذا الذي خفف من هلعي بدخولها المباغت . لم يكن الموقف مناسبا لأسألها شيئا غير أن أدعوها إلى السخان لتتدفأ لعل هذه الثياب الغاصة بالمطر تجف قليلا ، لكنها مدت يدها إلى بعض الثياب التي ترتديها لتستغرق عدة دقائق حتى تخرج كيسا وتضعه أمامي قائلة: يا بني .. اعمل معروفا أنا مستعجلة قبل أن يغلق البنك.
قلت بدهشة وأنا أنظر إلى الكيس : ماذا تريدين يا عمـّة ؟
وضعت عقدة الكيس في فمها وفكّته ليتراءى كيس معقود آخر ، فكّته بذات الطريقة ليظهر ثالث معقود ونظراتي معلّقة بحركات هذه المرأة العجوز التي تعمل بيديها الراجفتين وأسنانها المصطكة والمطر ينزل من ثيابها . بدت أمامي كلوحة فنية ، في هذا الوقت الذي شلت الحركة من المدينة كلها ، حتى السيارات اضطرت للوقوف بسبب ارتفاع المطر في الطرقات تأتي امرأة في أواخر العمر لتواصل العمل وكأنها تحمل الكرة الأرضية على ظهرها . أخيرا ظهر كيس أسود عتيق يبدو بأنه السادس والذي يحتوي على الكنز الذي ستخرجه وأنا متلهف لرؤية الذي سيظهر بعد كل هذه العقد . رفعت المرأة عينيها العجوزتين إلي وهي تفض ما بجوف الكيس على الطاولة قائلة: يا بنـي .. هذه نقود محروقة ، ذهبت إلى البنك لأستبدلها ، قالوابأنهم لن يستبدلوها قبل أن ألصق أوراقا بيضا ء موضع الأماكن المحروقة وأرشدوني إلى مكتبتك . وفي لحظة نزلت كل الأوراق النقدية المحروقة الأطراف على الطاولة تفوح منها رائحة الحريق . نظرتُ في الكم الهائل من الأوراق النقدية المحروقة الأطراف وتمتمت في نفسي: إذن مهمتي تكمن في أن ألصق كل هذه الأوراق المحروقة وأجعلها صالحة للاستبدال ، وعلي أن أستعجل قليلا لأن المصرف سوف يغلق بعد أقل من ساعة ، وعند ذاك لن يكون أمام هذه المسكينة إلا أن تعود غدا مرة أخرى وتلقى ذات العذاب ، لكن لدي خبرة جيدة وقد قمت بذلك كثيرا بسبب قرب مكتبتي من المصرف المركزي: أهلا وسهلا يا عمّة ستكون جاهزة بعد قليل اطمئني . وعندئذ ولدى مباشرتي بالمهمة التي سوف تستغرق نحو نصف ساعة بسبب كثرة الأوراق ، بدأت ملامح الاستقرار تظهر على وجه وصوت المرأة وهي تتنفس الصعداء قائلة: يجزيك الله خيرا يا بني .. أرحتني من هذا الهم . وصمتت تاركة في فيها بعض كلام . رفعتُ نظري إليها قائلا: أكملي يا عمة .. أتريدين أن تقولي شيئا ؟
قالت : أنا عمتك شمـس ، جئت من قرية العطشانة التي تبعد خمسين كيلو مترا عن هنا ، قلت لصاحب الباص الذي أوصلني بأنني لا أملك شيئا ، ولكن عندما أعود معه في رحلة العودة سأعطيه الأجرين .
عرفت ما رمت إليه وقلت: لا عليك يا عمّة . لكنها قالت: لا يا بني ، هذا حقك وتعبك ، وأنا إنشاء الله ذاهبة لبيت اللـه .
قلت وأنا منهمك في لصق الأوراق : إنشاء اللــه .
قالـت : هذا هـو حلمي الوحيد في الحياة يا بنــــي الذي أرجو ألا يخيبني الله في تحقيقه ، كثير من أحلامي لم تتحقق ، بقيت نفسي في أشياء كثيرة وفقدت الأمل فيها ، لكن هذا الحلم إن تحقق سوف يعوضني كثيرا ، منذ ثلاثين سنة وأنا أحلم بأن تطأ قدماي تلك الأراضي الطاهرة ، وأن تتنور عيناي برؤية الكعبة المشرفة ، إن تحقيق هذا الحلم عندي يا بني هو خير من الدنيا وما فيها ، وأنت تعرف بعد عشرة أيام سوف تنطلق الرحلات وعلي أن أسجل اسمي في مكتب الحج والعمرة وأعطيهم الأجر حتى يعتمدونني للذهاب .
رغبت في أن أسألها عن سبب احتراق هذه النقود بعد أن علمت من حديثها بأنها النقود التي ستسافر بها ، لكنني خشيت أن أسبب لها إحراجا وبعد صمت ليس بالطويل وأنا على وشك الانتهاء من اللصق قالت: أعرف بأنك تريد معرفة سبب هذا الذي أصاب النقود ، وأعدك يا بني بأنني عندما أنتهي من المصرف ومن التسجيل في مكتب الحج والعمرة سوف أعود لأعطيك أجرك وأقص عليك ما تود أن تعرفه .
هززتُ رأسي بالإيجاب وأنا أناولها حزمة النقود في كيس صغير جديد يحمل اسم المكتبة بعد أن غدت صالحة للاستبدال . تناولته العمّة كأنها تتناول كنزا ثمينا كانت قد أضاعته ، وعلى الفور أخفته في بعض ثيابها وفتحت الباب لتخرج بأقصى سرعة راكضة تحت المطر صوب باب المصرف الذي يبعد نحو ثلاثمائة خطوة ، وللتو تذكرت بأنها تمطر بغزارة وكنت قد نسيت تماما أمر المطر الغزير وكذلك أمر إبريق الشاي الذي نشف وهو يغلي على السخان دون أن أنتبه إليه . وضعتُ الإبريق جانبا وجلست على الكرسي متعبا لأنني أمضيت نحو نصف ساعة واقفا في العمل ، ثم قلت: سوف أصنع الشاي الذي فاتني ، منه أتدفأ ومنه أنتظر العمة ريثما تأتي لتقص علي قصة النقود المحروقة . نهضت حاملا الإبريق نحو خزان الماء الصغير الذي يقع بالقرب من الباب وإذ بذات الكيس الذي ناولته للعمة مرميا في زاوية الباب . تسمرت مكاني هنيهة غير مصدق ما أرى ، ثم دنوت و مددت يدي إليه حتى تأكدت بأنه ذات الكيس الذي يبدو بأنه سقط منها وهي تخرج مسرعة من باب المكتبة ، أو أنها لم تضعه جيدا في ثيابها فوقع على الأرض . حملت الكيس وأغلقت باب المكتبة خلفي منطلقا بسرعة ربما أشد من سرعة العمة صوب باب المصرف الذي لابد أن تكون قد وصلته العمّة للتو . وفي أثناء الجري لا أعرف ما الذي حدث ، شعرتُ بصدمة مباغتة أفقدتني الوعي . بعد مرور ستة أيام استردت وعيي ورأيتني في المستشفى . عندئذ قيل لي بأن سيارة مسرعة اصطدمت بي على الطريق المقابل لمكتبتي وأن سائق السيارة موقوف . للتو تذكرت تفاصيل ما وقع لي وتذكرت أمر العمّة شمـس ، تذكرت كيس النقود ، وغدا كل شيء يراودني كحلم بعيد ، وأيقنت بأن أحدا ما قد رأى كيس النقود على الطريق فأخذه لأنني كنت أحمله بكفي بشكل مستعجل لأعطيه للعمّة . في اليوم التالي أذن لي الطبيب بالخروج ولدى وصولي إلى البيت جاءني شخص وقال بأنه شقيق السائق الذي صدمني وهو حاليا موقوف ولن يُطلق سراحه إلا إذا أسقطت ادعائي الشخصي عليه بموجب الضبط الذي وضعته شرطة المستشفى . وكانت الشرطة قد استدعت أهلي الذين تقدموا بالادعاء الشخصي نيابة عني . عدت مع الشخص بعد ساعة إلى مخفر وأسقطت ادعائي على السائق دون أن أطالبه بأي تعويض لأن تعويضي الذي أخذته هو أنني عدت إلى بيتي بسلام . ولكن بقيت الحسرة في قلبي على العمة شمس التي سوف تتألم كثيرا على ضياع حلمها . وكم رغبت فيما لو ملكت مثل هذا المبلغ لأقدمه للعمة حتى تحقق حلمها . فكرت بأن أطلب تعويضا من السائق لأعطيه للعمة شمس حتى تحقق حلمها به لأنه هو الذي تسبب في ضياع الكيس ، ولكنني تذكرت قولها لي في المكتبة أنها كانت ترفض أي صدقة أو أي زكاة ، وكانت رغم عجزها تعمل في حياكة الملابس لأهالي القرية وأحيانا تعمل في قطاف القطن وتربي الأغنام كي تذهب إلى الحج من جهدها الخاص . عدت إلى البيت حزينا كئيبا وأنا أعرف بأن الرحلات بدأت تنطلق نحو الحجاز وأن العمّة الآن هي أبأس مخلوق على وجه الأرض .. هل أذهب إلى القرية لأواسيها أم أستعجل لأستدين لها النقود ، وإذا فعلت ُ ذلك هل ستقبل . تشتتت بي الأفكار دون أن أستقر على فكرة تخفف من حزني وألمي من جهة ، ومن حالة الشعور بالذنب التي استبدت بي من جهة أخرى . في المساء بدأ الزوار يتوافدون للاطمئنان علي حتى الساعة العاشرة ليلا حيث بدأت الحركة تخف في البيت ولم يبق غير أخوتي وأقربائي ، عند ذاك سمعنا صوت الباب فنهض أحد أخوتي لفتحه وإذ بالسائق مع ثلاثة من أقربائه يقبلون ويعتذرون عما حدث ، ثم تقدم مني السائق وقبلني على خدي شاكرا إسقاطي الإدعاء الشخصي عليه قائلا بأنه سوف يتكفل جميع المصاريف التي أنفقتها في المستشفى . عندها قلت بأنه لو أراد أن أكون راضيا ينسى هذا الأمر ، فيكفي بأن الله قد أعادني إلى زوجتي وابنتي الوحيدة سالما وهذا هو التعويض الأكبر على ما أصابني . ولكنني قلت له أن يشرح لي كيف حدث ذلك فقال: كان الوقت نحو الظهر والمطر منذ أكثر من ساعة يهطل بغزارة ، وكان موعد الباص الذي سيأخذ أخي وابنه المريض إلى العاصمة في ذاك الوقت ، فجأة وأنا في الطريق إلى وداعهما رأيتك مسرعا كالسهم ، لم يعد الوقوف ممكنا رغم أنني كنت أسير ببطء بسبب المطر وتراكم المياه في الطريق ، ولكن رغم ذلك أحسست بأن الصدمة كانت قاسية عليك . وقفت مكاني وحملتك إلى السيارة ، لم يكن هناك أحد في الشارع ليساعدني في تلك اللحظة ، في لحظات خاطفة استطعت أن أحملك وأضعك في السيارة وأظن عندما تحركت خرج بعض جوارك من محلاتهم ، كنت ما تزال تمسك كيسا بيدك ، وضعت الكيس في جيبي وسلمتك للمستشفى ، ثم سلمت نفسي للمخفر .
نسيت كل كلمة قالها هذا الرجل وانتفضت فرحا من الفراش: أتقول بأن الكيس عندك؟ .
قال: أجل عندي واعذرني لأنني فتحته ونظرتُ فيه بعد ثلاثة أيام من وجوده معي في السجن وكان ذلك بدافع حب الاستطلاع ، وعندها عرفتُ بأنك كنت ذاهبا إلى المصرف لتستبدل هذه النقود . ثم مد يده إلى معطفه الأصفر السميك وناولني الكيس : هذه هي أمانتك . نظرتُ إلى الكيس غير مصدق ، أجل إنه ذات الكيس الأبيض الذي يحمل اسم مكتبتي ، نظرتُ إليه وكأنه كان في عالم آخر وعاد إلي . ثم مددت ُ يدي أتناوله من يد الرجل كما لو أنني في حلم ، نظرت إليه بشوق وهو بين يدي هذه المرة ، ولا أعرف لماذا نزلتْ دموع من عينَي بغزارة عجزت عن مقاومتها أو التخفيف من غزارتها . قفزتْ صورة العمة شمس إلى مخيلتي ، العمّة شمس التي كافحت ثلاثين سنة من أجل أن تحصل على هذا الكيس الذي سوف يحقق حلمها الوحيد في هذا العالم قبل أن تودعه ، وهي التي ستخرج من هذا العالم محسورة على أحلام كثيرة لم تتحقق وفقدت الأمل في أن تتحقق . هذا الكيس الذي سوف يقدم لها تعويضا عن كل أمنيات العمر الفائت الذي مضى على أمل تحقيق أحلام غدت سرابا ، وكم كانت تعيسة وهي تقول لي بأن حلما واحدا من حياتها لم يتحقق رغم بلوغها السبعين . وددت فيما لو حدثت معجزة إلهية وجعلتني في هذه اللحظة بين يدي العمّة شمس لأناولها الكيس وأقول لها: مازال هناك أمل لتحقيق الحلم الأخير . مضت لحظات غاية في السعادة لفتني في محرابها . شكرت الرجل الذي يبدو بأنني غبت عنه وقد تهيأ للاستئذان بالانصراف ، شكرته وأنا أعلم أن كل العبارات التي خرجت من فمي لم تكن كافية للتعبير عن مشاعر الشكر نحوه . وضعت الكيس تحت الوسادة التي أنام عليها ، لكن أي نوم ..أي نوم يدنو من عيني وأنا أعد اللحظات حتى يطلع الضوء .. لبثت ُسهرانا حتى تسربت خيوط مضيئة من خلف غيوم داكنة إلى الغرفة ولا أصدق أن أحدا كان ينتظر هذه الخيوط باللهفة التي انتظرتها . نهضت من الفراش ونهضت زوجتي تسألني بدهشة عما أفاقني في هذا الوقت المبكر . قلت لها بأن علي الخروج حالا وقد أتأخر في العودة . قالت: أين ستذهب وأنت ما تزال بحاجة إلى أيام من النقاهة؟!
قلـت: خروجي هو نقاهتي الوحيدة . ولكنها أنبهتني إلى الوقت المبكر الذي لا يصلح للذهاب إلى أي مكان . وللتو أدركت بأن جميع مكاتب الحج والعمرة مغلقة الآن .إضافة إلى أن المصرف الذي سوف أستبدل فيه النقود مغلق ولا يفتح قبل الثامنة. انتظرت إلى أن ارتفعت الشمس قليلا وخرجت في السابعة ، وصلت مكتبتي ولم تكن لي رغبة بفتحها ولو من باب إلقاء نظرة سريعة ، وقفت قليلا أمام باب المكتبة واتجهت إلى المصرف الذي بدأ موظفوه يلجون إليه للتو . كان الموظف المختص بتبديل العملات التالفة على معرفة بي ، سألني عن صحتي بعد الحادث وما أن وقعت عيناه على النقود حتى قال: يا جاري أليست هذه نقود المرأة العجوز التي أتت منذ أسبوع؟ قلت: بلى هي نقودها .
قال : المسكينة يومها أتت ومعها كيس النقود، كان غير هذا الكيس ، أرشدتها إلى مكتبتك لتلصقها ، وقلت لها بأنني سوف أنتظرها إلى أن تأتي . عادت بعد نحو نصف تمد يدها لتُخرج الكيس ، لكنها لم تجده . بحثتْ بين ثيابها المبلولة مرات عديدة ولم تجده . قلت لها رغم أن الدوام كاد ينتهي لكنني سأنتظر فقالت بأنها ستبحث في الطريق الذي أتت منه ولابد أنه قد ارتمى منها وهي متجهة إلينا . غابت نحو نصف ساعة وعادت بخفَي حنين . أغلقتُ مكتبي في المصرف وخرجت معها نبحث عن الكيس وكان المطر قد خف قليلا وتحول إلى رذاذ خفيف ، جبنا الطريق جيئة وذهابا مرات عديدة ولم نعثر له على أثر ، ثم قلتُ لها: لنسأل صاحب المكتبة .. قد يعلم شيئا . ولكننا فوجئنا ببعض جوارك من أصحاب المحلات يروون ما حدث ويقولون بأن السائق في غمضة عين حملك إلى المستشفى. كان الرجل يتحدث ويعد النقود إلى أن وضع حزمة نقود جديدة في يدي قائلا: وماذا ستفعل؟
قلت وأنا أودعــه: سأبحث عن العجوز .
هرعت إلى أقرب مكتب للحج والعمرة وقلت بأنني أريد أن أحجز لشخص ذاهب إلى الحج ، سألوني بعض الأسئلة ، ثم طلبوا بطاقتها الشخصية لأخذ المعلومات عنها ، أما بقية الاجراءات فسوف يقومون بها على جناح السرعة . مرة أخرى وقعت في حيرة من أمري ، لكنني أعطيتهم اسمها الأول الذي أعرفه مع كامل الأجر وقلت: سوف تأتي مع بطاقتها الشخصية يوم السفر . قالوا لي بأنها تأخرت كثيرا عن التسجيل ، وكان عليها أن تأتي قبل أسبوع على الأقل لاتمام إجراءات السفر ، لكن مادامت امرأة عجوز في السبعين من عمرها سوف يفعلون ما باستطاعتهم من أجل أن تسافر بالطائرة التي سوف تقلع مساء الغد .
شعرت بأنني نزعت حملا ثقيلا عن كاهلي وخرجت من المكتب ، تذكرت بأنها ذكرت اسم قرية العطشانة . وعلى الفور أخذت سيارة خاصة لتوصلني إلى ذات القرية . كانت الساعة قد بلغت العاشرة عندما انطلقنا نحو تلك القرية التي تبعد خمسين كيلو مترا ولحسن حظنا أن طريق القرية كان مفروشا بقليل من البحص ووصلناها بيسـر . قرية صغيرة مؤلفة من عشرة بيوت، كل بيوتها طينية بما فيها المدرسة، ولم يكن هناك أي إشارة تدل على أن فيها ماء أو كهرباء أو هاتف . عند المدخل ركض إلينا كلاب بشراسة وكأنها تريد أن تنهش عجلات السيارة . دخلنا القرية ووقفنا أمام أحد البيوت فتركتنا الكلاب بعد أن تقدم رجل وهو يبعدها عنا. لدى نزولنا من السيارة وسلامنا على الرجل خرج أطفال ونسوة ورجال من البيوت يتقدمون إلينا. ودون أي سؤال باشرنا ذات الرجل: أهلا وسهلا بكما .. تفضلا . وأدخلنا بيته، أشعل المدفأة التي تعمل على الحطب والتي كانت مطفأة، ثم قدم إلينا إبريقا من الشاي. وبعد قليل امتلأت الغرفة بسكان القرية فقلت بأنني أريد أن أرى العمّة شمـس. صمت الرجل صاحب البيت وظهرت على وجهه علامات الحزن . قلت: أليست العمة شمس من سكان هذه القرية؟
قال رجل آخر: نعم من سكان هذه القرية.
قلـت : وأيـن هــــي ؟
وصمـت هـو الآخـــر. تسـرب يأس إلي وأنا أتخيل بأن العمّة قد أصابها مكروه ولكن صوت رجل آخر بدد هذا اليأس وهو يقول: العمّة شمس موجودة في قرية الحصّادة . ثم خرج صاحب البيت عن صمته الطويل قائلا: نحن نستطيع أن نوصل لها ما تريد .
قلت : لا .. أريد أن أراها للضرورة.
قال: الطريق إلى قرية الحصّادة غير سالك وملي ء بالمستنقعات .. من الصعوبة أن تصلها السيارة ، أما إذا كان الأمر هاما فنرسل إليها لتأتي بالحمار .
قلت: والله الأمـــــر هام ، لكن هل المسافة بعيدة ؟.
أجاب رجل آخـر: إنشاء الله خلال ثلاث ساعات ستكون العمّة شمـس هنا .
قال لي السائق هامسا: إن لم يكن الأمر هاما قله لهم وسوف يخبرونها به لأن الانتظار سوف يزيد من أجري.
أجبته بذات الهمـس: الأمر هام ولا يجوز إلا أن أراها .
وأشار الرجل لولده بأن يركب الحمار على جناح السرعة ويتجه إلى قرية الحصّادة ليجلب العمّة شمس قائلا له بحزم: لا تتأخر يا جيلان، اجلب العمة بسرعة. ونهض جيلان ذو البشرة الشقراء والعينين الزرقاوين والربيع الخامس عشر مستجيبا لأمر أبيه تلحقه وصايا الأب إلى الخارج: البس معطفي يا ولد ولف رأسك بالشماغ حتى لا تبرد واحمل معك العصا . وبعد دقائق قليلة نهض الرجل ويبدو أن أحد الجالسين قد علم سبب نهوضه فقال: لا تكلف نفسك يا أبا جيلان، غداء الجماعة عندي. عندئذ تسرب لي ريب بأن أبا جيلان هو أكثر سكان القرية فقرا وحاجة، ولكنه أجاب حاسما الأمــر: لا واللـه لن أعطيك ضيفـَي ، ولن يخرجا من البيت قبل أن يتغديا فيه،لدي ديك حبش وهو من نصيبهما. ووجه هذه المرة كلامه إلينا: هل تريدانه على برغل أم على ثرود؟
قلـت : لا تكلـف نفسـك يا أبا جيـلان .. يكفي استقبالك هذا لنا.
ولكنه أعاد العبارة بإصرار أشـد . عندها نظرت إلى السائق ليجيب هو على السؤال فقال دون تردد: إن لم يكن من الأمر بد فليكن على برغل.
غاب الرجل بضعة دقائق عنا وعاد بعد أن أنجز ذبح الديك وسلّمه للنسوة ليقمن بمهمتهن، وبعد لحظات من دخوله طرقت إحدى النسوة الباب فنهض الرجل إلى العتبة ليتناول من يد نسائية سفرة عليها فناجين قهوة. قال أحد الجلوس: مسكينة العمّــة شمس لم تذق يوما حلوا في حياتها، تزوجت مرتين ولم يرزقها الله بأطفال. بقيت وحيدة في بيت زوجها الثاني بعد وفاته .. كانت تقول بأنها لا تريد من ربها شيئا غير أن يرزقها قبل وفاتها بزيارة بيته الحرام، وكانت دوما ترفض صدقات الناس وتقول بأنها تريد أن تذهب إلى تلك الأراضي الطاهرة بتعبها وعملها وليس بتعب وعمل الآخرين. ثلاثون سنة وهي تنظر في السجادة التي اشترتها وعلقتها على حائط بيتها القبلي والتي تحمل صورة الكعبة المشرفة وتتخيل أن تتحول هذه الصورة أمام عينيها إلى حقيقة ذات يوم ، كنا نزورها في البيت وكانت تبكي وهي تنظر في السجادة وتقول: لا أريد من ربي غير أن يرزقني بزيارة هذا المكان المبارك .. سأجلب لكل أهالي القرية الهدايا والذكريات من الأراضي الطاهرة، سأجلب المسابيح والقبعات والخواتم والجلابيب البيضاء وماء زمزم والتمر، لن أترك أحدا من سكان القرية إلا وأعطيه هدية من أرض الحجاز . هذه السنة قالت بأنها سوف تذهب إلى الحج وقد يسر الله لها أمرها بعد انتظار ثلاثين سنة، لكن أولاد الحرام عندما سمعوا بأمر ذهابها هجموا عليها في الليل وهددوها بالقتل إن لن تعطهم النقود التي سوف تحج بها . قالت لهم : اقتلوني ولن أعطي النقود، لأن الموت هو أهون من ذهاب حلم العمر الذي عملت من أجله ثلاثين سنة .
كانوا ثلاثة شبان ملطمين كما تقول العمّة وعندما بلغهم اليأس قالوا بأنهم سوف يحرقون البيت بما فيه لتحترق هي وتحترق النقود معها . ولم ترشدهم على المكان الذي تخفي فيه هذه النقود ، قاموا بتكميم فمها ورشوا بعض الكاز على الفراش الذي تنام عليه كما تروي ، ثم امتدت النيران إلى أرجاء الغرفة وهم يقولون بأنها لو أرشدتهم إلى موضع النقود سوف يخرجونها ، ولكنها أبت ذلك إلى أن تناهت أصوات رجال رأوا الدخان يتسرب من بيت العمّة فهرب الشبان الثلاثة وأقبل الرجال يخرجون العمّة تاركين البيت تأكله ألسنة النيران . لم تنم العمّة حتى الصباح وعندها هرعت إلى بيتها المحروق برفقة رجال القرية، أرشدتهم إلى موضع النقود التي كانت في علية مغلقة، فأخرجوها وفرشوها أمام العمّة، لكن أحد الرجال قال لها بأن المصرف يستبدل النقود المحروقة والتالفة بنقود جديدة . وما إن سمعت العمّة هذا الكلام حتى جمعت النقود في كيس ونزلت المدينة. أضاف رجل آخر: لكن المسكينة أضاعت النقود في المدينة وعادت يائسة ، قالت بأنها ترفض أن تقيم في هذه القرية يوما واحدا بعد أن فقدت الأمل بحلمها في الذهاب إلى الحج وعرفت بأن العمر لم يعد يمهلها لتعمل من جديد وتجمع ما يمكن أن تحقق به حلمها . قالت بأنها سوف تمضي ماتبقى من عمرها في قرية الحصادة وأوصت أن تُدفن هناك عندما تموت .
عند الظهيرة كان الغداء جاهزا فأدخل مضيفنا بساطا أزرقا ومده وسط الغرفة ووضع عليه سفرة البرغل والحلم إلى جانب بعض البصل اليابس والمخلل وكاسات اللبن . نهض بعض الجلوس للخروج لكن أبا جيلان أقسم بأن الجميع لابد أن يبقى ويشاركنا الغداء ، تجمعنا على السفرة ، وأنا أتناول الطعام بشهية قلت لأبي جيلان : كيف تصنع النسوة مثل هذا الطعام اللذيذ؟
أجاب وهو يأكل ويقول: بالصحة والعافية .. هذا طعام مطبوخ على الخشب .
لم ننته من تناول الطعام حتى تناهت أصوات أطفال تقول : جاء جيلان مـع العمّة شمـس .
خفق قلبي فرحا وقال أبو جيلان : وصلت العمّة شمـس . انتظرت أن تدخل بيد أن ذلك لم يحدث حتى فرغنا من الطعام وغسلنا أيادينا ، عندئذ دخلت العمّة باحثة بعينيها بين الجلوس حتى وقعت علي . نهضـت وأنا أصافحها فقالت: أنت صاحب المكتبة . أومأت ُ رأسي بالإيجاب فبركتْ حدي . كانت فرصة لأنظر كم أن الإنسان قابل للتغيير الهائل في أيام قليلة ، كانت شاحبة للغاية ، أو لأقل بدت أمامي وكأنها خرجت للتو من مقبرة ، يوحي منظرها لي بأنها غابت عني سنوات وليس بضعة أيام ، لقد بدت الشيخوخة عليها ضعف ما كانت بادية عليها عندما رأيتها منذ أسبوع وهي كتلة من الحيوية تجري تحت المطر الغزير وتنتصب أمامي بلياقة بدنية ، حتى وجهها كان يوحي بالحياة لأنها كانت سعيدة باستعدادات السفر لتحقيق حلم العمر رغم أنها كانت خارجة للتو من حريق . بدت امرأة لاتنتظر شيئا ، فقط تنتظر أيامها القليلة الباردة لتخرج من الحياة بدون أسف . لم تفه بحرف واحد وأنا أنتظر أن تبادر بالسؤال عن سبب حضوري إليها ، وعند ذاك لم أتردد من مد يدي إلى سترتي وأخرج الكيس وأضعه أمام العمّة . صوّبت العمّة نظرة عميقة إليه ورأيت وجهها يتبدل كالسماء الغائمة التي تصحو بتسرب خيوط الشمس ، الجميع صوب نظره إلى الكيس وساد سكون في الغرفة كلها رغم وجود نحو عشرة أشخاص . افتر ثغر العمة عن بسمـة ثم رفعـت نظرها إلـي هازة رأسـها بفرح ملأ وجهها . فهززت رأسـي بأنه هو ذات الكيس المفقود . تسرب إلي شعور بأنها رغبت بقوة لمد يدها إليه والنظر إلى النقود للتأكد ، ولم تفعل ذلك لسبب أجهله فقلت لها: إنه كيسك يا عمّة ، لقد بدّلت النقود في المصرف وحجزت لك في مكتب الحج والعمرة وطائرتك سوف تقلع مساء الغد .: سأذهب إلى الحج .. قالتها بنبرات مليئة بالفرح وهي تغمرني بنظراتها . قلت: ستذهبين يا عمّة غدا وأنا جئت لآخذك معي إلى المدينة حتى يستكمل المكتب إجراءات سفرك بموجب البطاقة . دبت حيوية غريبة فيها واستأذنتنا لبعض الوقت . كانت الساعة قد شارفت على الثالثة عصرا ، شربنا الشاي واستغرق غيابها عنا نحو ثلاثة أرباع الساعة حتى ظهرت مختلفة عما كانت عليه ، كانت قد أمضت الوقت في الاستحمام وتغيير ثيابها بثياب جديدة يبدو أنها استعارتها من نسوة القرية ، حتى الحذاء كان جديدا . صعدنا السيارة وودعنا أهالي القرية متجهين نحو مكتب الحج والعمرة الذي وصلناه مع تسرب خيوط المساء إلى الطرقات . هناك أخذوا صورة عن بطاقتها الشخصية وطلبوا صورتين شخصيتين لها جلبناهما في أقصى سرعة وبصمت العمّة على بعض الأوراق ، ثم قالوا بأن كل شيء تم وأن حجزها في الطائرة التي تقلع نحو الديار المقدسة عند الساعة الثامنة من مساء الغد أصبح جاهزا ، وهناك ستجد من ينتظرها ويرتب لها إجراءات الصعود إلى الطائرة .
عدنا إلى البيت وقدمت العمّة لزوجتي أو ابنتي فرحبا بها بحرارة ، وجلسنا نتعشى ونتسامر إلى وقت متأخر من الليل احتفاء بالضيفة التي ستتجه غدا إلى الحج . في الصباح تناولنا طعام الفطور واتجهنا نحو العاصمة التي ستنطلق منها الطائرة . في المطار نظرت العمّة إلى الطائرة قائلة: هذه هي الطائرة التي ستأخذنا إلى الحج؟
قلت : أجل يا عمّة هذه هي .
قالت : سبحان الله .. كنت منذ ساعات أركب الحمار والآن أركب الطائرة ، كم هو جميل منظرها .. هذه أول مرة أرى طائرة في حياتي .. ثم أردفت: هذه أول مرة أخرج فيها من مدينتي . وصعدت العمّة الطائرة التي ارتفعت بعد قليل متجهة نحو الحجاز .
تسري نفحات سعادة منعشة في روحي وأنا أمدّ الخطوات العائدة من أرض المطار نحو بيتي ، أخطو ومع كل خطوة أزداد سعادة من صنيعي الذي قمت به طوال عشرة أيام فائتة حتى تكلل بالنجاح منذ لحظات عندما ارتفعت الطائرة حاملة العمة شمس .. تلك المرأة التي سجلت محطة هامة في حياتي وليس بوسعي نسيانها . العمة شمس هذه المرأة المتقدمة في السن التي من أجلها الآن تتصوب إلي نظرات المودعين المريبة وهم يقولون في نفوسهم بأنني رجل أبله ، وإلا ما الذي يجعل شخصا في كل هذه السعادة وهو للتو قد ودع عزيزا أو حبيبا قد لن يراه ثانية ، لكن هذا كله لا يهمني وأنا أخطو بخطواتي مع خطواتهم من جناح المودعين نحو الخارج وأعرف حتى الابتسامة تبتسم على ثغري وهم يزدادون دهشة واستياء . معهم الحق فهم لا يعرفون قصة هذا الوداع ولا يعرفون من هي العمة شمس الرائعة تلك التي تحلق الآن في الفضاء مخلفة في نفسي كل هذا الشعور العارم بالفرح . منذ عشرة أيام ر تعرفت بالعمة شمس حينما رأيتها لأول مرة في حياتي ، كان الوقت قبيل الظهر وأنا جالس في مكتبتي القرطاسية أتدفأ على السخان الكهربائي الذي يحمل إبريق الشاي أنظر إلى المطر الغزير الذي ينذر بطوفان ويزداد قوة وغزارة منذ ساعة متواصلة وسط أصوات الرعود والصواعق المتلاحقة التي تهز الأرض وما عليها . بغتة وأنا أنظر من خلف زجاج المكتبة تراءى شخص كشبح يجري بسرعة نحو المكتبة ، يدير قبضة الباب ويندفع إلى الداخل كتلة من ماء وكأنه لاذ بي هاربا من حرب . جفلت وأنا أنتفض بسرعة من الكرسي وإذ بملامح امرأة عجوز ترتعد خوفا من أصوات الصواعق وترتجف من شدة البرد القارس ، امرأة عجوز تبدو قادمة للتو من الريف ، ترتدي ثيابا قروية سوداء ، بيد أنها ورغم علامات العمر البادية على سحنتها تبدو قوية البنية تقف على قدميها بشموخ كفتاة ، وكذلك استطعت أن ألمح شيئا مضيئا في وجهها يوحي بأنني أقف أمام شخص رحيم ، ولعل هذا الذي خفف من هلعي بدخولها المباغت . لم يكن الموقف مناسبا لأسألها شيئا غير أن أدعوها إلى السخان لتتدفأ لعل هذه الثياب الغاصة بالمطر تجف قليلا ، لكنها مدت يدها إلى بعض الثياب التي ترتديها لتستغرق عدة دقائق حتى تخرج كيسا وتضعه أمامي قائلة: يا بني .. اعمل معروفا أنا مستعجلة قبل أن يغلق البنك.
قلت بدهشة وأنا أنظر إلى الكيس : ماذا تريدين يا عمـّة ؟
وضعت عقدة الكيس في فمها وفكّته ليتراءى كيس معقود آخر ، فكّته بذات الطريقة ليظهر ثالث معقود ونظراتي معلّقة بحركات هذه المرأة العجوز التي تعمل بيديها الراجفتين وأسنانها المصطكة والمطر ينزل من ثيابها . بدت أمامي كلوحة فنية ، في هذا الوقت الذي شلت الحركة من المدينة كلها ، حتى السيارات اضطرت للوقوف بسبب ارتفاع المطر في الطرقات تأتي امرأة في أواخر العمر لتواصل العمل وكأنها تحمل الكرة الأرضية على ظهرها . أخيرا ظهر كيس أسود عتيق يبدو بأنه السادس والذي يحتوي على الكنز الذي ستخرجه وأنا متلهف لرؤية الذي سيظهر بعد كل هذه العقد . رفعت المرأة عينيها العجوزتين إلي وهي تفض ما بجوف الكيس على الطاولة قائلة: يا بنـي .. هذه نقود محروقة ، ذهبت إلى البنك لأستبدلها ، قالوابأنهم لن يستبدلوها قبل أن ألصق أوراقا بيضا ء موضع الأماكن المحروقة وأرشدوني إلى مكتبتك . وفي لحظة نزلت كل الأوراق النقدية المحروقة الأطراف على الطاولة تفوح منها رائحة الحريق . نظرتُ في الكم الهائل من الأوراق النقدية المحروقة الأطراف وتمتمت في نفسي: إذن مهمتي تكمن في أن ألصق كل هذه الأوراق المحروقة وأجعلها صالحة للاستبدال ، وعلي أن أستعجل قليلا لأن المصرف سوف يغلق بعد أقل من ساعة ، وعند ذاك لن يكون أمام هذه المسكينة إلا أن تعود غدا مرة أخرى وتلقى ذات العذاب ، لكن لدي خبرة جيدة وقد قمت بذلك كثيرا بسبب قرب مكتبتي من المصرف المركزي: أهلا وسهلا يا عمّة ستكون جاهزة بعد قليل اطمئني . وعندئذ ولدى مباشرتي بالمهمة التي سوف تستغرق نحو نصف ساعة بسبب كثرة الأوراق ، بدأت ملامح الاستقرار تظهر على وجه وصوت المرأة وهي تتنفس الصعداء قائلة: يجزيك الله خيرا يا بني .. أرحتني من هذا الهم . وصمتت تاركة في فيها بعض كلام . رفعتُ نظري إليها قائلا: أكملي يا عمة .. أتريدين أن تقولي شيئا ؟
قالت : أنا عمتك شمـس ، جئت من قرية العطشانة التي تبعد خمسين كيلو مترا عن هنا ، قلت لصاحب الباص الذي أوصلني بأنني لا أملك شيئا ، ولكن عندما أعود معه في رحلة العودة سأعطيه الأجرين .
عرفت ما رمت إليه وقلت: لا عليك يا عمّة . لكنها قالت: لا يا بني ، هذا حقك وتعبك ، وأنا إنشاء الله ذاهبة لبيت اللـه .
قلت وأنا منهمك في لصق الأوراق : إنشاء اللــه .
قالـت : هذا هـو حلمي الوحيد في الحياة يا بنــــي الذي أرجو ألا يخيبني الله في تحقيقه ، كثير من أحلامي لم تتحقق ، بقيت نفسي في أشياء كثيرة وفقدت الأمل فيها ، لكن هذا الحلم إن تحقق سوف يعوضني كثيرا ، منذ ثلاثين سنة وأنا أحلم بأن تطأ قدماي تلك الأراضي الطاهرة ، وأن تتنور عيناي برؤية الكعبة المشرفة ، إن تحقيق هذا الحلم عندي يا بني هو خير من الدنيا وما فيها ، وأنت تعرف بعد عشرة أيام سوف تنطلق الرحلات وعلي أن أسجل اسمي في مكتب الحج والعمرة وأعطيهم الأجر حتى يعتمدونني للذهاب .
رغبت في أن أسألها عن سبب احتراق هذه النقود بعد أن علمت من حديثها بأنها النقود التي ستسافر بها ، لكنني خشيت أن أسبب لها إحراجا وبعد صمت ليس بالطويل وأنا على وشك الانتهاء من اللصق قالت: أعرف بأنك تريد معرفة سبب هذا الذي أصاب النقود ، وأعدك يا بني بأنني عندما أنتهي من المصرف ومن التسجيل في مكتب الحج والعمرة سوف أعود لأعطيك أجرك وأقص عليك ما تود أن تعرفه .
هززتُ رأسي بالإيجاب وأنا أناولها حزمة النقود في كيس صغير جديد يحمل اسم المكتبة بعد أن غدت صالحة للاستبدال . تناولته العمّة كأنها تتناول كنزا ثمينا كانت قد أضاعته ، وعلى الفور أخفته في بعض ثيابها وفتحت الباب لتخرج بأقصى سرعة راكضة تحت المطر صوب باب المصرف الذي يبعد نحو ثلاثمائة خطوة ، وللتو تذكرت بأنها تمطر بغزارة وكنت قد نسيت تماما أمر المطر الغزير وكذلك أمر إبريق الشاي الذي نشف وهو يغلي على السخان دون أن أنتبه إليه . وضعتُ الإبريق جانبا وجلست على الكرسي متعبا لأنني أمضيت نحو نصف ساعة واقفا في العمل ، ثم قلت: سوف أصنع الشاي الذي فاتني ، منه أتدفأ ومنه أنتظر العمة ريثما تأتي لتقص علي قصة النقود المحروقة . نهضت حاملا الإبريق نحو خزان الماء الصغير الذي يقع بالقرب من الباب وإذ بذات الكيس الذي ناولته للعمة مرميا في زاوية الباب . تسمرت مكاني هنيهة غير مصدق ما أرى ، ثم دنوت و مددت يدي إليه حتى تأكدت بأنه ذات الكيس الذي يبدو بأنه سقط منها وهي تخرج مسرعة من باب المكتبة ، أو أنها لم تضعه جيدا في ثيابها فوقع على الأرض . حملت الكيس وأغلقت باب المكتبة خلفي منطلقا بسرعة ربما أشد من سرعة العمة صوب باب المصرف الذي لابد أن تكون قد وصلته العمّة للتو . وفي أثناء الجري لا أعرف ما الذي حدث ، شعرتُ بصدمة مباغتة أفقدتني الوعي . بعد مرور ستة أيام استردت وعيي ورأيتني في المستشفى . عندئذ قيل لي بأن سيارة مسرعة اصطدمت بي على الطريق المقابل لمكتبتي وأن سائق السيارة موقوف . للتو تذكرت تفاصيل ما وقع لي وتذكرت أمر العمّة شمـس ، تذكرت كيس النقود ، وغدا كل شيء يراودني كحلم بعيد ، وأيقنت بأن أحدا ما قد رأى كيس النقود على الطريق فأخذه لأنني كنت أحمله بكفي بشكل مستعجل لأعطيه للعمّة . في اليوم التالي أذن لي الطبيب بالخروج ولدى وصولي إلى البيت جاءني شخص وقال بأنه شقيق السائق الذي صدمني وهو حاليا موقوف ولن يُطلق سراحه إلا إذا أسقطت ادعائي الشخصي عليه بموجب الضبط الذي وضعته شرطة المستشفى . وكانت الشرطة قد استدعت أهلي الذين تقدموا بالادعاء الشخصي نيابة عني . عدت مع الشخص بعد ساعة إلى مخفر وأسقطت ادعائي على السائق دون أن أطالبه بأي تعويض لأن تعويضي الذي أخذته هو أنني عدت إلى بيتي بسلام . ولكن بقيت الحسرة في قلبي على العمة شمس التي سوف تتألم كثيرا على ضياع حلمها . وكم رغبت فيما لو ملكت مثل هذا المبلغ لأقدمه للعمة حتى تحقق حلمها . فكرت بأن أطلب تعويضا من السائق لأعطيه للعمة شمس حتى تحقق حلمها به لأنه هو الذي تسبب في ضياع الكيس ، ولكنني تذكرت قولها لي في المكتبة أنها كانت ترفض أي صدقة أو أي زكاة ، وكانت رغم عجزها تعمل في حياكة الملابس لأهالي القرية وأحيانا تعمل في قطاف القطن وتربي الأغنام كي تذهب إلى الحج من جهدها الخاص . عدت إلى البيت حزينا كئيبا وأنا أعرف بأن الرحلات بدأت تنطلق نحو الحجاز وأن العمّة الآن هي أبأس مخلوق على وجه الأرض .. هل أذهب إلى القرية لأواسيها أم أستعجل لأستدين لها النقود ، وإذا فعلت ُ ذلك هل ستقبل . تشتتت بي الأفكار دون أن أستقر على فكرة تخفف من حزني وألمي من جهة ، ومن حالة الشعور بالذنب التي استبدت بي من جهة أخرى . في المساء بدأ الزوار يتوافدون للاطمئنان علي حتى الساعة العاشرة ليلا حيث بدأت الحركة تخف في البيت ولم يبق غير أخوتي وأقربائي ، عند ذاك سمعنا صوت الباب فنهض أحد أخوتي لفتحه وإذ بالسائق مع ثلاثة من أقربائه يقبلون ويعتذرون عما حدث ، ثم تقدم مني السائق وقبلني على خدي شاكرا إسقاطي الإدعاء الشخصي عليه قائلا بأنه سوف يتكفل جميع المصاريف التي أنفقتها في المستشفى . عندها قلت بأنه لو أراد أن أكون راضيا ينسى هذا الأمر ، فيكفي بأن الله قد أعادني إلى زوجتي وابنتي الوحيدة سالما وهذا هو التعويض الأكبر على ما أصابني . ولكنني قلت له أن يشرح لي كيف حدث ذلك فقال: كان الوقت نحو الظهر والمطر منذ أكثر من ساعة يهطل بغزارة ، وكان موعد الباص الذي سيأخذ أخي وابنه المريض إلى العاصمة في ذاك الوقت ، فجأة وأنا في الطريق إلى وداعهما رأيتك مسرعا كالسهم ، لم يعد الوقوف ممكنا رغم أنني كنت أسير ببطء بسبب المطر وتراكم المياه في الطريق ، ولكن رغم ذلك أحسست بأن الصدمة كانت قاسية عليك . وقفت مكاني وحملتك إلى السيارة ، لم يكن هناك أحد في الشارع ليساعدني في تلك اللحظة ، في لحظات خاطفة استطعت أن أحملك وأضعك في السيارة وأظن عندما تحركت خرج بعض جوارك من محلاتهم ، كنت ما تزال تمسك كيسا بيدك ، وضعت الكيس في جيبي وسلمتك للمستشفى ، ثم سلمت نفسي للمخفر .
نسيت كل كلمة قالها هذا الرجل وانتفضت فرحا من الفراش: أتقول بأن الكيس عندك؟ .
قال: أجل عندي واعذرني لأنني فتحته ونظرتُ فيه بعد ثلاثة أيام من وجوده معي في السجن وكان ذلك بدافع حب الاستطلاع ، وعندها عرفتُ بأنك كنت ذاهبا إلى المصرف لتستبدل هذه النقود . ثم مد يده إلى معطفه الأصفر السميك وناولني الكيس : هذه هي أمانتك . نظرتُ إلى الكيس غير مصدق ، أجل إنه ذات الكيس الأبيض الذي يحمل اسم مكتبتي ، نظرتُ إليه وكأنه كان في عالم آخر وعاد إلي . ثم مددت ُ يدي أتناوله من يد الرجل كما لو أنني في حلم ، نظرت إليه بشوق وهو بين يدي هذه المرة ، ولا أعرف لماذا نزلتْ دموع من عينَي بغزارة عجزت عن مقاومتها أو التخفيف من غزارتها . قفزتْ صورة العمة شمس إلى مخيلتي ، العمّة شمس التي كافحت ثلاثين سنة من أجل أن تحصل على هذا الكيس الذي سوف يحقق حلمها الوحيد في هذا العالم قبل أن تودعه ، وهي التي ستخرج من هذا العالم محسورة على أحلام كثيرة لم تتحقق وفقدت الأمل في أن تتحقق . هذا الكيس الذي سوف يقدم لها تعويضا عن كل أمنيات العمر الفائت الذي مضى على أمل تحقيق أحلام غدت سرابا ، وكم كانت تعيسة وهي تقول لي بأن حلما واحدا من حياتها لم يتحقق رغم بلوغها السبعين . وددت فيما لو حدثت معجزة إلهية وجعلتني في هذه اللحظة بين يدي العمّة شمس لأناولها الكيس وأقول لها: مازال هناك أمل لتحقيق الحلم الأخير . مضت لحظات غاية في السعادة لفتني في محرابها . شكرت الرجل الذي يبدو بأنني غبت عنه وقد تهيأ للاستئذان بالانصراف ، شكرته وأنا أعلم أن كل العبارات التي خرجت من فمي لم تكن كافية للتعبير عن مشاعر الشكر نحوه . وضعت الكيس تحت الوسادة التي أنام عليها ، لكن أي نوم ..أي نوم يدنو من عيني وأنا أعد اللحظات حتى يطلع الضوء .. لبثت ُسهرانا حتى تسربت خيوط مضيئة من خلف غيوم داكنة إلى الغرفة ولا أصدق أن أحدا كان ينتظر هذه الخيوط باللهفة التي انتظرتها . نهضت من الفراش ونهضت زوجتي تسألني بدهشة عما أفاقني في هذا الوقت المبكر . قلت لها بأن علي الخروج حالا وقد أتأخر في العودة . قالت: أين ستذهب وأنت ما تزال بحاجة إلى أيام من النقاهة؟!
قلـت: خروجي هو نقاهتي الوحيدة . ولكنها أنبهتني إلى الوقت المبكر الذي لا يصلح للذهاب إلى أي مكان . وللتو أدركت بأن جميع مكاتب الحج والعمرة مغلقة الآن .إضافة إلى أن المصرف الذي سوف أستبدل فيه النقود مغلق ولا يفتح قبل الثامنة. انتظرت إلى أن ارتفعت الشمس قليلا وخرجت في السابعة ، وصلت مكتبتي ولم تكن لي رغبة بفتحها ولو من باب إلقاء نظرة سريعة ، وقفت قليلا أمام باب المكتبة واتجهت إلى المصرف الذي بدأ موظفوه يلجون إليه للتو . كان الموظف المختص بتبديل العملات التالفة على معرفة بي ، سألني عن صحتي بعد الحادث وما أن وقعت عيناه على النقود حتى قال: يا جاري أليست هذه نقود المرأة العجوز التي أتت منذ أسبوع؟ قلت: بلى هي نقودها .
قال : المسكينة يومها أتت ومعها كيس النقود، كان غير هذا الكيس ، أرشدتها إلى مكتبتك لتلصقها ، وقلت لها بأنني سوف أنتظرها إلى أن تأتي . عادت بعد نحو نصف تمد يدها لتُخرج الكيس ، لكنها لم تجده . بحثتْ بين ثيابها المبلولة مرات عديدة ولم تجده . قلت لها رغم أن الدوام كاد ينتهي لكنني سأنتظر فقالت بأنها ستبحث في الطريق الذي أتت منه ولابد أنه قد ارتمى منها وهي متجهة إلينا . غابت نحو نصف ساعة وعادت بخفَي حنين . أغلقتُ مكتبي في المصرف وخرجت معها نبحث عن الكيس وكان المطر قد خف قليلا وتحول إلى رذاذ خفيف ، جبنا الطريق جيئة وذهابا مرات عديدة ولم نعثر له على أثر ، ثم قلتُ لها: لنسأل صاحب المكتبة .. قد يعلم شيئا . ولكننا فوجئنا ببعض جوارك من أصحاب المحلات يروون ما حدث ويقولون بأن السائق في غمضة عين حملك إلى المستشفى. كان الرجل يتحدث ويعد النقود إلى أن وضع حزمة نقود جديدة في يدي قائلا: وماذا ستفعل؟
قلت وأنا أودعــه: سأبحث عن العجوز .
هرعت إلى أقرب مكتب للحج والعمرة وقلت بأنني أريد أن أحجز لشخص ذاهب إلى الحج ، سألوني بعض الأسئلة ، ثم طلبوا بطاقتها الشخصية لأخذ المعلومات عنها ، أما بقية الاجراءات فسوف يقومون بها على جناح السرعة . مرة أخرى وقعت في حيرة من أمري ، لكنني أعطيتهم اسمها الأول الذي أعرفه مع كامل الأجر وقلت: سوف تأتي مع بطاقتها الشخصية يوم السفر . قالوا لي بأنها تأخرت كثيرا عن التسجيل ، وكان عليها أن تأتي قبل أسبوع على الأقل لاتمام إجراءات السفر ، لكن مادامت امرأة عجوز في السبعين من عمرها سوف يفعلون ما باستطاعتهم من أجل أن تسافر بالطائرة التي سوف تقلع مساء الغد .
شعرت بأنني نزعت حملا ثقيلا عن كاهلي وخرجت من المكتب ، تذكرت بأنها ذكرت اسم قرية العطشانة . وعلى الفور أخذت سيارة خاصة لتوصلني إلى ذات القرية . كانت الساعة قد بلغت العاشرة عندما انطلقنا نحو تلك القرية التي تبعد خمسين كيلو مترا ولحسن حظنا أن طريق القرية كان مفروشا بقليل من البحص ووصلناها بيسـر . قرية صغيرة مؤلفة من عشرة بيوت، كل بيوتها طينية بما فيها المدرسة، ولم يكن هناك أي إشارة تدل على أن فيها ماء أو كهرباء أو هاتف . عند المدخل ركض إلينا كلاب بشراسة وكأنها تريد أن تنهش عجلات السيارة . دخلنا القرية ووقفنا أمام أحد البيوت فتركتنا الكلاب بعد أن تقدم رجل وهو يبعدها عنا. لدى نزولنا من السيارة وسلامنا على الرجل خرج أطفال ونسوة ورجال من البيوت يتقدمون إلينا. ودون أي سؤال باشرنا ذات الرجل: أهلا وسهلا بكما .. تفضلا . وأدخلنا بيته، أشعل المدفأة التي تعمل على الحطب والتي كانت مطفأة، ثم قدم إلينا إبريقا من الشاي. وبعد قليل امتلأت الغرفة بسكان القرية فقلت بأنني أريد أن أرى العمّة شمـس. صمت الرجل صاحب البيت وظهرت على وجهه علامات الحزن . قلت: أليست العمة شمس من سكان هذه القرية؟
قال رجل آخر: نعم من سكان هذه القرية.
قلـت : وأيـن هــــي ؟
وصمـت هـو الآخـــر. تسـرب يأس إلي وأنا أتخيل بأن العمّة قد أصابها مكروه ولكن صوت رجل آخر بدد هذا اليأس وهو يقول: العمّة شمس موجودة في قرية الحصّادة . ثم خرج صاحب البيت عن صمته الطويل قائلا: نحن نستطيع أن نوصل لها ما تريد .
قلت : لا .. أريد أن أراها للضرورة.
قال: الطريق إلى قرية الحصّادة غير سالك وملي ء بالمستنقعات .. من الصعوبة أن تصلها السيارة ، أما إذا كان الأمر هاما فنرسل إليها لتأتي بالحمار .
قلت: والله الأمـــــر هام ، لكن هل المسافة بعيدة ؟.
أجاب رجل آخـر: إنشاء الله خلال ثلاث ساعات ستكون العمّة شمـس هنا .
قال لي السائق هامسا: إن لم يكن الأمر هاما قله لهم وسوف يخبرونها به لأن الانتظار سوف يزيد من أجري.
أجبته بذات الهمـس: الأمر هام ولا يجوز إلا أن أراها .
وأشار الرجل لولده بأن يركب الحمار على جناح السرعة ويتجه إلى قرية الحصّادة ليجلب العمّة شمس قائلا له بحزم: لا تتأخر يا جيلان، اجلب العمة بسرعة. ونهض جيلان ذو البشرة الشقراء والعينين الزرقاوين والربيع الخامس عشر مستجيبا لأمر أبيه تلحقه وصايا الأب إلى الخارج: البس معطفي يا ولد ولف رأسك بالشماغ حتى لا تبرد واحمل معك العصا . وبعد دقائق قليلة نهض الرجل ويبدو أن أحد الجالسين قد علم سبب نهوضه فقال: لا تكلف نفسك يا أبا جيلان، غداء الجماعة عندي. عندئذ تسرب لي ريب بأن أبا جيلان هو أكثر سكان القرية فقرا وحاجة، ولكنه أجاب حاسما الأمــر: لا واللـه لن أعطيك ضيفـَي ، ولن يخرجا من البيت قبل أن يتغديا فيه،لدي ديك حبش وهو من نصيبهما. ووجه هذه المرة كلامه إلينا: هل تريدانه على برغل أم على ثرود؟
قلـت : لا تكلـف نفسـك يا أبا جيـلان .. يكفي استقبالك هذا لنا.
ولكنه أعاد العبارة بإصرار أشـد . عندها نظرت إلى السائق ليجيب هو على السؤال فقال دون تردد: إن لم يكن من الأمر بد فليكن على برغل.
غاب الرجل بضعة دقائق عنا وعاد بعد أن أنجز ذبح الديك وسلّمه للنسوة ليقمن بمهمتهن، وبعد لحظات من دخوله طرقت إحدى النسوة الباب فنهض الرجل إلى العتبة ليتناول من يد نسائية سفرة عليها فناجين قهوة. قال أحد الجلوس: مسكينة العمّــة شمس لم تذق يوما حلوا في حياتها، تزوجت مرتين ولم يرزقها الله بأطفال. بقيت وحيدة في بيت زوجها الثاني بعد وفاته .. كانت تقول بأنها لا تريد من ربها شيئا غير أن يرزقها قبل وفاتها بزيارة بيته الحرام، وكانت دوما ترفض صدقات الناس وتقول بأنها تريد أن تذهب إلى تلك الأراضي الطاهرة بتعبها وعملها وليس بتعب وعمل الآخرين. ثلاثون سنة وهي تنظر في السجادة التي اشترتها وعلقتها على حائط بيتها القبلي والتي تحمل صورة الكعبة المشرفة وتتخيل أن تتحول هذه الصورة أمام عينيها إلى حقيقة ذات يوم ، كنا نزورها في البيت وكانت تبكي وهي تنظر في السجادة وتقول: لا أريد من ربي غير أن يرزقني بزيارة هذا المكان المبارك .. سأجلب لكل أهالي القرية الهدايا والذكريات من الأراضي الطاهرة، سأجلب المسابيح والقبعات والخواتم والجلابيب البيضاء وماء زمزم والتمر، لن أترك أحدا من سكان القرية إلا وأعطيه هدية من أرض الحجاز . هذه السنة قالت بأنها سوف تذهب إلى الحج وقد يسر الله لها أمرها بعد انتظار ثلاثين سنة، لكن أولاد الحرام عندما سمعوا بأمر ذهابها هجموا عليها في الليل وهددوها بالقتل إن لن تعطهم النقود التي سوف تحج بها . قالت لهم : اقتلوني ولن أعطي النقود، لأن الموت هو أهون من ذهاب حلم العمر الذي عملت من أجله ثلاثين سنة .
كانوا ثلاثة شبان ملطمين كما تقول العمّة وعندما بلغهم اليأس قالوا بأنهم سوف يحرقون البيت بما فيه لتحترق هي وتحترق النقود معها . ولم ترشدهم على المكان الذي تخفي فيه هذه النقود ، قاموا بتكميم فمها ورشوا بعض الكاز على الفراش الذي تنام عليه كما تروي ، ثم امتدت النيران إلى أرجاء الغرفة وهم يقولون بأنها لو أرشدتهم إلى موضع النقود سوف يخرجونها ، ولكنها أبت ذلك إلى أن تناهت أصوات رجال رأوا الدخان يتسرب من بيت العمّة فهرب الشبان الثلاثة وأقبل الرجال يخرجون العمّة تاركين البيت تأكله ألسنة النيران . لم تنم العمّة حتى الصباح وعندها هرعت إلى بيتها المحروق برفقة رجال القرية، أرشدتهم إلى موضع النقود التي كانت في علية مغلقة، فأخرجوها وفرشوها أمام العمّة، لكن أحد الرجال قال لها بأن المصرف يستبدل النقود المحروقة والتالفة بنقود جديدة . وما إن سمعت العمّة هذا الكلام حتى جمعت النقود في كيس ونزلت المدينة. أضاف رجل آخر: لكن المسكينة أضاعت النقود في المدينة وعادت يائسة ، قالت بأنها ترفض أن تقيم في هذه القرية يوما واحدا بعد أن فقدت الأمل بحلمها في الذهاب إلى الحج وعرفت بأن العمر لم يعد يمهلها لتعمل من جديد وتجمع ما يمكن أن تحقق به حلمها . قالت بأنها سوف تمضي ماتبقى من عمرها في قرية الحصادة وأوصت أن تُدفن هناك عندما تموت .
عند الظهيرة كان الغداء جاهزا فأدخل مضيفنا بساطا أزرقا ومده وسط الغرفة ووضع عليه سفرة البرغل والحلم إلى جانب بعض البصل اليابس والمخلل وكاسات اللبن . نهض بعض الجلوس للخروج لكن أبا جيلان أقسم بأن الجميع لابد أن يبقى ويشاركنا الغداء ، تجمعنا على السفرة ، وأنا أتناول الطعام بشهية قلت لأبي جيلان : كيف تصنع النسوة مثل هذا الطعام اللذيذ؟
أجاب وهو يأكل ويقول: بالصحة والعافية .. هذا طعام مطبوخ على الخشب .
لم ننته من تناول الطعام حتى تناهت أصوات أطفال تقول : جاء جيلان مـع العمّة شمـس .
خفق قلبي فرحا وقال أبو جيلان : وصلت العمّة شمـس . انتظرت أن تدخل بيد أن ذلك لم يحدث حتى فرغنا من الطعام وغسلنا أيادينا ، عندئذ دخلت العمّة باحثة بعينيها بين الجلوس حتى وقعت علي . نهضـت وأنا أصافحها فقالت: أنت صاحب المكتبة . أومأت ُ رأسي بالإيجاب فبركتْ حدي . كانت فرصة لأنظر كم أن الإنسان قابل للتغيير الهائل في أيام قليلة ، كانت شاحبة للغاية ، أو لأقل بدت أمامي وكأنها خرجت للتو من مقبرة ، يوحي منظرها لي بأنها غابت عني سنوات وليس بضعة أيام ، لقد بدت الشيخوخة عليها ضعف ما كانت بادية عليها عندما رأيتها منذ أسبوع وهي كتلة من الحيوية تجري تحت المطر الغزير وتنتصب أمامي بلياقة بدنية ، حتى وجهها كان يوحي بالحياة لأنها كانت سعيدة باستعدادات السفر لتحقيق حلم العمر رغم أنها كانت خارجة للتو من حريق . بدت امرأة لاتنتظر شيئا ، فقط تنتظر أيامها القليلة الباردة لتخرج من الحياة بدون أسف . لم تفه بحرف واحد وأنا أنتظر أن تبادر بالسؤال عن سبب حضوري إليها ، وعند ذاك لم أتردد من مد يدي إلى سترتي وأخرج الكيس وأضعه أمام العمّة . صوّبت العمّة نظرة عميقة إليه ورأيت وجهها يتبدل كالسماء الغائمة التي تصحو بتسرب خيوط الشمس ، الجميع صوب نظره إلى الكيس وساد سكون في الغرفة كلها رغم وجود نحو عشرة أشخاص . افتر ثغر العمة عن بسمـة ثم رفعـت نظرها إلـي هازة رأسـها بفرح ملأ وجهها . فهززت رأسـي بأنه هو ذات الكيس المفقود . تسرب إلي شعور بأنها رغبت بقوة لمد يدها إليه والنظر إلى النقود للتأكد ، ولم تفعل ذلك لسبب أجهله فقلت لها: إنه كيسك يا عمّة ، لقد بدّلت النقود في المصرف وحجزت لك في مكتب الحج والعمرة وطائرتك سوف تقلع مساء الغد .: سأذهب إلى الحج .. قالتها بنبرات مليئة بالفرح وهي تغمرني بنظراتها . قلت: ستذهبين يا عمّة غدا وأنا جئت لآخذك معي إلى المدينة حتى يستكمل المكتب إجراءات سفرك بموجب البطاقة . دبت حيوية غريبة فيها واستأذنتنا لبعض الوقت . كانت الساعة قد شارفت على الثالثة عصرا ، شربنا الشاي واستغرق غيابها عنا نحو ثلاثة أرباع الساعة حتى ظهرت مختلفة عما كانت عليه ، كانت قد أمضت الوقت في الاستحمام وتغيير ثيابها بثياب جديدة يبدو أنها استعارتها من نسوة القرية ، حتى الحذاء كان جديدا . صعدنا السيارة وودعنا أهالي القرية متجهين نحو مكتب الحج والعمرة الذي وصلناه مع تسرب خيوط المساء إلى الطرقات . هناك أخذوا صورة عن بطاقتها الشخصية وطلبوا صورتين شخصيتين لها جلبناهما في أقصى سرعة وبصمت العمّة على بعض الأوراق ، ثم قالوا بأن كل شيء تم وأن حجزها في الطائرة التي تقلع نحو الديار المقدسة عند الساعة الثامنة من مساء الغد أصبح جاهزا ، وهناك ستجد من ينتظرها ويرتب لها إجراءات الصعود إلى الطائرة .
عدنا إلى البيت وقدمت العمّة لزوجتي أو ابنتي فرحبا بها بحرارة ، وجلسنا نتعشى ونتسامر إلى وقت متأخر من الليل احتفاء بالضيفة التي ستتجه غدا إلى الحج . في الصباح تناولنا طعام الفطور واتجهنا نحو العاصمة التي ستنطلق منها الطائرة . في المطار نظرت العمّة إلى الطائرة قائلة: هذه هي الطائرة التي ستأخذنا إلى الحج؟
قلت : أجل يا عمّة هذه هي .
قالت : سبحان الله .. كنت منذ ساعات أركب الحمار والآن أركب الطائرة ، كم هو جميل منظرها .. هذه أول مرة أرى طائرة في حياتي .. ثم أردفت: هذه أول مرة أخرج فيها من مدينتي . وصعدت العمّة الطائرة التي ارتفعت بعد قليل متجهة نحو الحجاز .