لطفي عيساني
2010-03-21, 01:37 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
(الكلمة الطيبة صدقة، ومن عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها).
الداعية ذلك الإنسان الذي يعيش بين جذب إيمانه ونيته وهمته ووعيه وشعوره بمسئوليته فهو من ذلك في عمل صالح، وجذب الشيطان وتزيينه الفتور وحب الدنيا وملذاتها فهو في غفلة وكسل وتراخ.
وهذا التردد أزلي قديم لا يمكن أن ينقطع إلا بالإخلاص لله، ومتابعة الرسول، والتزام الصفات الحسنة، ومقاومة رغبات النفس ووسوسة الشيطان، ومعرفة المقومات التي تجعله مستقيماً في دعوته، وهذا واضح جلي في سور القرآن، وخاصة في سورة فصلت والتي تعتبر المنطلق الذي ينطلق منه الداعية في دعوته، ولذلك نجد الحسن البصري - يرحمه الله- كثيراً ما يردد على أهل بلده (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ). لذلك كان لابد للداعية من التزام هذا المنهج الأخلاقي في دعوته؛ خاصة في زمان اشتدت فيه الفتن، وأصبح الداعية في أشد الحاجة لمعرفة فقه الدعوة.
إن المتدبر في آيات هذه السورة يجد الكثير من الأخلاقيات التي يجب أن يلتزم بها الداعية في دعوته، بل إن الناظر في مسمى هذه السورة وهو سورة "فصلت" يعلم علم اليقين أنها سورة فصل الله فيها أموراً لم يفصلها في غير هذه السورة، فهو - جل شأنه- أوضح دلائل قدرته ووحدانيته، وأقام البراهين القاطعة على حقيقة وجوده وعظمته، وأنه خلق هذا الكون البديع الذي ينطق بجلال الله وعظيم سلطانه.
إن طريق الدعوة هو الطريق إلى جماعة المسلمين وإقامة دولة الإسلام العالمية، وهو الطريق لدين الله في الأرض، وهو الطريق الذي يسلكه العاملون الصادقون لتحقيق هذا الهدف العظيم، إنه طريق كله جهد وجهاد، وعنت ومشاق، وصبر وثبات، وتضحية وفداء، ونصر واستشهاد، وليس طريق كلام ونظريات، أو جدال وفلسفات، أو خيال وافتراضات، ولذلك كانت القدوة في حياة الداعية من ألزم الأمور، وخاصة القدوة العملية التي تمثل الإسلام الصحيح بكل تعاليمه ومتطلباته دون انحراف وابتغاء مصالح خاصة، وخير قدوة في هذا الطريق الشاق هم الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام- ومن أجل هذه الدعوة بعثهم الله، ولذلك نجد كل الأنبياء من لدن آدم حتى محمد - عليهم الصلاة والسلام - دعوا أقوامهم ومن أرسلوا إليهم إلى الإيمان بالله وإفراده بالعبادة على النحو الذي شرعه الله لهم، والتبرؤ من عبادة سواه، ونجد الآيات القرآنية توجب على كل فرد من هذا المجتمع المسلم أن يدعو إلى هذا الدين كل بحسب قدرته وجهده وطاقته.
ولأنها دعوة إلى وحدانية الله كانت الدعوة إلى الله أحسن الأقوال عند الله، ويظهر هذا جلياً وواضحاً في قوله سبحانه: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)، ولعل قائل يقول: إن هذه الآية نزلت في المؤذنين خاصة. فنقول: إن هذه الآية كما قال ابن عباس - رضي الله عنه-: أنه رسول الله، ومن دعا إلى الإسلام وعمل صالحاً فيما بينه وبين ربه وجعل الإسلام نحلة، وبهذا قال ابن سيرين والسدي وابن زيد والحسن. والصحيح إن شاء الله أن هذه الآية عامة في كل من دعا إلى الله وإليه ذهب الحسن ومقاتل وجماعة وكذا قال قيس بن أبي حزام فقال: إنها نزلت في كل مؤمن.
والمتأمل في معنى هذه الآية يجد فيها أموراً كثيرة، فإنها وان كانت تبين أن الدعوة إلى الله أحسن القول إلا أنَّ فيها توبيخاً للذين تواصوا باللغو في القرآن، وترغيب رسوله - عليه الصلاة والسلام- في الإعراض عن هؤلاء وأمثالهم، وإرشادهم إلى المواظبة على التبليغ، بل إن في هذه الآية استفهام بمعنى النفي المتقرر أي لا أحد أحسن قولاً ممن دعا إلى الله بتعليم الجاهلين، ووعظ الغافلين والمعرضين، ومجادلة المبطلين بالأمر بعبادة الله والحث عليها، والزجر عما نهى الله عنه وتقبيحه بكل طريق يوجب تركه.
ومن الدعوة إلى الله تحبيبه إلى عباده بذكر تفاصيل نعمه، وسعة جوده، وكمال رحمته، وذكر أوصاف كماله ونعوت جلاله، وكذلك الترغيب في اقتباس العلم والهدى من كتاب الله وسنة رسوله، والحث على ذلك بكل طريق موصل إليه، ومن ذلك الحث على مكارم الأخلاق التي أصبح الناس يفقدونها فيمن تصدروا لهذا الأمر العظيم، بالإضافة إلى أن الإحسان إلى عموم الخلق، ومقابلة المسيء بالإحسان، والأمر بصلة الأرحام وبر الوالدين، والوعظ لعموم الناس في أوقات المواسم والعوارض والمصائب بما يناسب ذلك الحال، إلى غير ذلك مما لا تنحصر أفراده بما تشمله الدعوة إلى الخير كله، والترهيب من جميع الشر.
والقيام بأمر الدعوة إلى الله من أهم خصائص الداعية سوءاً أكانت دعوته موجهة لغير المسلمين، أو حتى للمسلمين أنفسهم الذين بدعوتهم تكون تقوية أواصر الإيمان، والتحلي بآداب وشعائر الإسلام، واجتناب ما حرمة الله عليهم.
يقول سيد قطب: وكلمة الدعوة حينئذ هي أحسن كلمة تقال في الأرض، وتصعد في مقدمة الكلم الطيب إلى السماء مع العمل الصالح الذي يصدق هذه الكلمة، ومع الاستسلام لله الذي تتوارى معه الذات فتصبح الدعوة خالصة لله ليس للداعية فيها شأن إلا التبليغ... وليس عليه أن تتلقى كلمته بالإعراض أو بسوء الأدب أو التبجح في الإنكار فهو إنما يتقدم بالحسنة، فهو في المقام الرفيع وغيره يتقدم بالسيئة فهو في المكان الدون، ولذلك كان من الواجب على الداعية أن يتحمل في سبيل دعوته كل ما يلقاه، فإذا أحس بالفتور فليحاسب نفسه ويكثر من الأعمال الصالحة التي ترفع درجته، وتقوي إيمانه، وتعيد له نشاطه حتى إذا كان كذلك فلا شيء أحسن منه، ولا أوضح من طريقته، والأكثر ثواباً منه.
ولذلك نجد الآيات تربط وتقرن بين الدعوة إلى الله بالقول والدعوة إليه بالقدوة الشخصية المتمثلة في تطبيق ما يدعو إليه وقوله: (وعمل صالحاً) أي في نفسه وفي أهل بيته، ومن هنا نجد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- عندما تولى الخلافة جمع أهل بيته وحذرهم من ارتكاب المخالفات، وأعلمهم أنه إذا وجد منهم مخالف فانه سيعاقب ضعف ما يعاقب غيره.
ومن يقرأ ديوان الزوابع لوليد الأعظمي يجد فيه أبيات يخاطب فيها الداعية المسلم حاثاً له على أن يكون قدوة بأفعاله قبل أقواله:
كن مشعلاً في جنح ليل حالك يهدي الأنــام إلى الهــــدى ويبين
وانشط لدينك لا تكن متكاسلاً واعمل على تحريـك ما هو ساكن
وابدأ بأهلك إن دعـــــوت فإنهم أولى بالنصــــــــــح منـــك وأقمــن
والله يــأمر بالعشــيـــــــــرة أولاً والأمـــــر من بعــد العشيرة هيــن
وهكذا تستمر الآيات حتى تبين صفة الولاء والبراء والانتماء الحقيقي لهذه العقيدة، فتُعلي قدر الداعية وتجعله عزيزاً على غيره بانتمائه لهذا الدين القويم قولاً وعملاً وسلوكاً، فنجده يعلن هذا الانتماء: (وقال إنني من المسلمين).
يقول الشيخ السعدي - رحمه الله- في تفسير هذه الآية: "أي المنقادين لأمره، السالكين في طريقه، وهذه المرتبة تمامها للصدّيقين الذين عملوا على تكميل أنفسهم وتكميل غيرهم.
يقول الألوسي: أي تلّفظ بذلك ابتهاجاً بأنه منهم، وتفاخر بذلك علناً مع قصد الثواب، ولو أصبحنا يوماً نعلن هذا الانتماء وخاصة أمام أعداءنا لكن لنا معهم شأن آخر. وهكذا تمضي الآيات حيث تزدان صورة الداعية المسلم وخلقه إذا قابل ما يوجهه في حياته بالصبر والحلم والإحسان، ودفع الإساءة بالتي هي أحسن (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)..
يقول القرطبي -رحمه الله- في هذه الآية أنها نسخت بآية السيف وبقي المستحب من ذلك وهو حسن العشرة والاحتمال والإغضاء ومعناها أي لا يستوي ما أنت عليه من التوحيد وما المشركون عليه من الشرك.
ويقول الشوكاني: الحسنة هنا هي ما يرضى الله عنها ويثيب عليها، والسيئة هي التي يكرهها الله ويعاقب عليها.
(ادفع بالتي هي أحسن) هذا أمر بإحسان خاص له موقع كبير وهو الإحسان إلى من أساء إليك، ولو نظرنا إلى صاحب هذه الحسنة لوجدناه ذا قلب كبير يعطف ويسامح وهو قادر على الإساءة والرد، ولكنه يترك ذلك ويزيد عليه أن يحسن إلى هذا الذي أساء إليه احتساباً للأجر عند الله. يقول ابن عباس - رضي الله عنه- (بالتي هي أحسن) الصبر عند الغضب والحلم عند الجهل والعفو عند الإساءة، وقال مجاهد وعطاء: السلام عند اللقاء. ولعل كل رد فيه إحسان لهذا المسيء يكون داخل في معنى الآية ولذلك نجد ابن كثير - رحمه الله- يقول في معنى الآية: أي من أساء إليك فادفعه عنك بالإحسان إليه. كما نجد عمر بن الخطاب يقول: ما عاقبتَ من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه. هذا الدفع إذن كان أحسن الطرق وهو الصبر والسلام، فإن هذا المعتدي لابد أن يستحي من أفعاله السيئة فلا يعود لها لا مع هذه الذي أساء له ولامع غيره مستقبلاً.
(الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) هذه هي نتيجة الدفع المأمور به، يصير العدو المشاق مثل الولي الشفيق حتى وإن كان هذا الود ظاهراً فيشبه الولي الحميم أي شديد الولاء. ولو تدبرنا في معنى الحميم لوجدنا أن معناه الماء الشديد الحرارة وكنّى به عن الولي المخلص في وده لما يجده في نفسه من حرارة الحب والشوق والاهتمام نحو من يواليه.
(وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم) أي إن هذه الخصلة العظيمة التي هي مقابلة السيئة بالحسنة وتجرع الشدائد بالصبر وكظم الغيظ بل وزادوا على هذا بالإحسان إلى من أساء إليهم، والضمير في قوله (وما يلقاها) عائد على الفعلة والسجية التي هي الدفع بالأحسن، وقيل الضمير عائد على الجنة في قوله (وابشروا بالجنة). ولكن من هو الذي يوفق لهذه الخصلة أو لهذه المنزلة؟ ثم يأتينا الجواب في الآية ليقول لنا الله (إلا الذين صبروا) الصبر على ماذا؟ أي صبّروا نفوسهم على ما تكره واجبروها على ما يحبه الله، ذلك أن النفوس مجبولة على مقابلة المسيء بإساءته، وعدم العفو عنه فكيف بالإحسان بعد الإساءة؟!!
فإذا صبّر الإنسان نفسه وامتثل أمر ربه، وعرف جزيل الثواب، وعلم أن مقابلته للمسيء بجنس عمله لا تفيده شيئاً، ولا تزيد العداوة إلا شدة، وأن إحسانه إليه ليس بواضع قدره بل من تواضع لله رفعه، هان عليه الأمر، وفعل ذلك متلذذاً مستحلياً له" انتهي كلام السعدي - يرحمه الله-.
ثم تعود الآيات وتكرر هذه الكلمة (وما يلقاها) تأكيداً لهذه الخصلة الجلية، والمرتبة العالية التي لن ينالها غير من هو أهل لها، ومن هو هذا إنه (إلا ذو حظ عظيم) أي ذو نصيب وافر من السعادة في الدنيا والآخرة، يقول ابن عباس - رضي الله عنه- في تفسير هذه الآية: هذا أمر من الله للمؤمنين بالصبر عند الغضب والحلم عند الجهل والعفو عند الإساءة فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله من الشيطان، وخضع لهم عدوهم حتى كأنه ولي حميم.
وهكذا تمضي الآيات تتحدث عن أخلاق الداعية وما يجب أن يتصف به ويتحصن به، وكما ذكر ما يقابل به العدو من الإنس وهو مقابلة إساءته بالإحسان ذكر هنا ما يقابل به عدوه من الشياطين وهو الاستعاذة بالله والاحتماء من شره فقال: (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم).
يقول ابن سعدي - رحمه الله- في تفسير هذه الآية: متى ما أحسست بشيء من نزغات الشيطان، أي وساوسه وتزيينه للشر، وتكسله عن الخير، وإصابة بعض الذنوب، وإطاعة له ببعض ما يأمر به من إرادة حملك على مجازاة المسيء بالإساءة والانتقام منه وهو ما أوصيت به من الدفع بالتي هي أحسن (فاستعذ بالله) أي اسأله مفتقراً إليه أن يعيذك ويعصمك منه (إنه هو السميع العليم) فإنه يسمع قولك وتضرعك، ويعلم حالك واضطرارك إلى عصمته وحمايته أ.هـ
وهكذا نجد أن القيام بواجب الدعوة وخاصة في هذه الظروف التي تحيط بعالمنا الإسلامي أمر شاق لا يستطيعه إلا من لديه معرفة بواجبات الداعية وأخلاقياته، والتي في ظلها تتوارى حظوظ النفس وشهواتها، والمشقة التي يلقاها الداعية من المرجفين ممن تخاذل أو وهن فأصبح في ركاب الأعداء يقول ما يقولون ويعمل ما يعملون حتى ما بقي له من إسلامه إلا الاسم فقط ذلك لأنه هو وشياطينه وأعوانهم واقفين في طريق الدعوة - نعوذ بالله من شرهم-.
(الكلمة الطيبة صدقة، ومن عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها).
الداعية ذلك الإنسان الذي يعيش بين جذب إيمانه ونيته وهمته ووعيه وشعوره بمسئوليته فهو من ذلك في عمل صالح، وجذب الشيطان وتزيينه الفتور وحب الدنيا وملذاتها فهو في غفلة وكسل وتراخ.
وهذا التردد أزلي قديم لا يمكن أن ينقطع إلا بالإخلاص لله، ومتابعة الرسول، والتزام الصفات الحسنة، ومقاومة رغبات النفس ووسوسة الشيطان، ومعرفة المقومات التي تجعله مستقيماً في دعوته، وهذا واضح جلي في سور القرآن، وخاصة في سورة فصلت والتي تعتبر المنطلق الذي ينطلق منه الداعية في دعوته، ولذلك نجد الحسن البصري - يرحمه الله- كثيراً ما يردد على أهل بلده (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ). لذلك كان لابد للداعية من التزام هذا المنهج الأخلاقي في دعوته؛ خاصة في زمان اشتدت فيه الفتن، وأصبح الداعية في أشد الحاجة لمعرفة فقه الدعوة.
إن المتدبر في آيات هذه السورة يجد الكثير من الأخلاقيات التي يجب أن يلتزم بها الداعية في دعوته، بل إن الناظر في مسمى هذه السورة وهو سورة "فصلت" يعلم علم اليقين أنها سورة فصل الله فيها أموراً لم يفصلها في غير هذه السورة، فهو - جل شأنه- أوضح دلائل قدرته ووحدانيته، وأقام البراهين القاطعة على حقيقة وجوده وعظمته، وأنه خلق هذا الكون البديع الذي ينطق بجلال الله وعظيم سلطانه.
إن طريق الدعوة هو الطريق إلى جماعة المسلمين وإقامة دولة الإسلام العالمية، وهو الطريق لدين الله في الأرض، وهو الطريق الذي يسلكه العاملون الصادقون لتحقيق هذا الهدف العظيم، إنه طريق كله جهد وجهاد، وعنت ومشاق، وصبر وثبات، وتضحية وفداء، ونصر واستشهاد، وليس طريق كلام ونظريات، أو جدال وفلسفات، أو خيال وافتراضات، ولذلك كانت القدوة في حياة الداعية من ألزم الأمور، وخاصة القدوة العملية التي تمثل الإسلام الصحيح بكل تعاليمه ومتطلباته دون انحراف وابتغاء مصالح خاصة، وخير قدوة في هذا الطريق الشاق هم الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام- ومن أجل هذه الدعوة بعثهم الله، ولذلك نجد كل الأنبياء من لدن آدم حتى محمد - عليهم الصلاة والسلام - دعوا أقوامهم ومن أرسلوا إليهم إلى الإيمان بالله وإفراده بالعبادة على النحو الذي شرعه الله لهم، والتبرؤ من عبادة سواه، ونجد الآيات القرآنية توجب على كل فرد من هذا المجتمع المسلم أن يدعو إلى هذا الدين كل بحسب قدرته وجهده وطاقته.
ولأنها دعوة إلى وحدانية الله كانت الدعوة إلى الله أحسن الأقوال عند الله، ويظهر هذا جلياً وواضحاً في قوله سبحانه: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)، ولعل قائل يقول: إن هذه الآية نزلت في المؤذنين خاصة. فنقول: إن هذه الآية كما قال ابن عباس - رضي الله عنه-: أنه رسول الله، ومن دعا إلى الإسلام وعمل صالحاً فيما بينه وبين ربه وجعل الإسلام نحلة، وبهذا قال ابن سيرين والسدي وابن زيد والحسن. والصحيح إن شاء الله أن هذه الآية عامة في كل من دعا إلى الله وإليه ذهب الحسن ومقاتل وجماعة وكذا قال قيس بن أبي حزام فقال: إنها نزلت في كل مؤمن.
والمتأمل في معنى هذه الآية يجد فيها أموراً كثيرة، فإنها وان كانت تبين أن الدعوة إلى الله أحسن القول إلا أنَّ فيها توبيخاً للذين تواصوا باللغو في القرآن، وترغيب رسوله - عليه الصلاة والسلام- في الإعراض عن هؤلاء وأمثالهم، وإرشادهم إلى المواظبة على التبليغ، بل إن في هذه الآية استفهام بمعنى النفي المتقرر أي لا أحد أحسن قولاً ممن دعا إلى الله بتعليم الجاهلين، ووعظ الغافلين والمعرضين، ومجادلة المبطلين بالأمر بعبادة الله والحث عليها، والزجر عما نهى الله عنه وتقبيحه بكل طريق يوجب تركه.
ومن الدعوة إلى الله تحبيبه إلى عباده بذكر تفاصيل نعمه، وسعة جوده، وكمال رحمته، وذكر أوصاف كماله ونعوت جلاله، وكذلك الترغيب في اقتباس العلم والهدى من كتاب الله وسنة رسوله، والحث على ذلك بكل طريق موصل إليه، ومن ذلك الحث على مكارم الأخلاق التي أصبح الناس يفقدونها فيمن تصدروا لهذا الأمر العظيم، بالإضافة إلى أن الإحسان إلى عموم الخلق، ومقابلة المسيء بالإحسان، والأمر بصلة الأرحام وبر الوالدين، والوعظ لعموم الناس في أوقات المواسم والعوارض والمصائب بما يناسب ذلك الحال، إلى غير ذلك مما لا تنحصر أفراده بما تشمله الدعوة إلى الخير كله، والترهيب من جميع الشر.
والقيام بأمر الدعوة إلى الله من أهم خصائص الداعية سوءاً أكانت دعوته موجهة لغير المسلمين، أو حتى للمسلمين أنفسهم الذين بدعوتهم تكون تقوية أواصر الإيمان، والتحلي بآداب وشعائر الإسلام، واجتناب ما حرمة الله عليهم.
يقول سيد قطب: وكلمة الدعوة حينئذ هي أحسن كلمة تقال في الأرض، وتصعد في مقدمة الكلم الطيب إلى السماء مع العمل الصالح الذي يصدق هذه الكلمة، ومع الاستسلام لله الذي تتوارى معه الذات فتصبح الدعوة خالصة لله ليس للداعية فيها شأن إلا التبليغ... وليس عليه أن تتلقى كلمته بالإعراض أو بسوء الأدب أو التبجح في الإنكار فهو إنما يتقدم بالحسنة، فهو في المقام الرفيع وغيره يتقدم بالسيئة فهو في المكان الدون، ولذلك كان من الواجب على الداعية أن يتحمل في سبيل دعوته كل ما يلقاه، فإذا أحس بالفتور فليحاسب نفسه ويكثر من الأعمال الصالحة التي ترفع درجته، وتقوي إيمانه، وتعيد له نشاطه حتى إذا كان كذلك فلا شيء أحسن منه، ولا أوضح من طريقته، والأكثر ثواباً منه.
ولذلك نجد الآيات تربط وتقرن بين الدعوة إلى الله بالقول والدعوة إليه بالقدوة الشخصية المتمثلة في تطبيق ما يدعو إليه وقوله: (وعمل صالحاً) أي في نفسه وفي أهل بيته، ومن هنا نجد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- عندما تولى الخلافة جمع أهل بيته وحذرهم من ارتكاب المخالفات، وأعلمهم أنه إذا وجد منهم مخالف فانه سيعاقب ضعف ما يعاقب غيره.
ومن يقرأ ديوان الزوابع لوليد الأعظمي يجد فيه أبيات يخاطب فيها الداعية المسلم حاثاً له على أن يكون قدوة بأفعاله قبل أقواله:
كن مشعلاً في جنح ليل حالك يهدي الأنــام إلى الهــــدى ويبين
وانشط لدينك لا تكن متكاسلاً واعمل على تحريـك ما هو ساكن
وابدأ بأهلك إن دعـــــوت فإنهم أولى بالنصــــــــــح منـــك وأقمــن
والله يــأمر بالعشــيـــــــــرة أولاً والأمـــــر من بعــد العشيرة هيــن
وهكذا تستمر الآيات حتى تبين صفة الولاء والبراء والانتماء الحقيقي لهذه العقيدة، فتُعلي قدر الداعية وتجعله عزيزاً على غيره بانتمائه لهذا الدين القويم قولاً وعملاً وسلوكاً، فنجده يعلن هذا الانتماء: (وقال إنني من المسلمين).
يقول الشيخ السعدي - رحمه الله- في تفسير هذه الآية: "أي المنقادين لأمره، السالكين في طريقه، وهذه المرتبة تمامها للصدّيقين الذين عملوا على تكميل أنفسهم وتكميل غيرهم.
يقول الألوسي: أي تلّفظ بذلك ابتهاجاً بأنه منهم، وتفاخر بذلك علناً مع قصد الثواب، ولو أصبحنا يوماً نعلن هذا الانتماء وخاصة أمام أعداءنا لكن لنا معهم شأن آخر. وهكذا تمضي الآيات حيث تزدان صورة الداعية المسلم وخلقه إذا قابل ما يوجهه في حياته بالصبر والحلم والإحسان، ودفع الإساءة بالتي هي أحسن (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)..
يقول القرطبي -رحمه الله- في هذه الآية أنها نسخت بآية السيف وبقي المستحب من ذلك وهو حسن العشرة والاحتمال والإغضاء ومعناها أي لا يستوي ما أنت عليه من التوحيد وما المشركون عليه من الشرك.
ويقول الشوكاني: الحسنة هنا هي ما يرضى الله عنها ويثيب عليها، والسيئة هي التي يكرهها الله ويعاقب عليها.
(ادفع بالتي هي أحسن) هذا أمر بإحسان خاص له موقع كبير وهو الإحسان إلى من أساء إليك، ولو نظرنا إلى صاحب هذه الحسنة لوجدناه ذا قلب كبير يعطف ويسامح وهو قادر على الإساءة والرد، ولكنه يترك ذلك ويزيد عليه أن يحسن إلى هذا الذي أساء إليه احتساباً للأجر عند الله. يقول ابن عباس - رضي الله عنه- (بالتي هي أحسن) الصبر عند الغضب والحلم عند الجهل والعفو عند الإساءة، وقال مجاهد وعطاء: السلام عند اللقاء. ولعل كل رد فيه إحسان لهذا المسيء يكون داخل في معنى الآية ولذلك نجد ابن كثير - رحمه الله- يقول في معنى الآية: أي من أساء إليك فادفعه عنك بالإحسان إليه. كما نجد عمر بن الخطاب يقول: ما عاقبتَ من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه. هذا الدفع إذن كان أحسن الطرق وهو الصبر والسلام، فإن هذا المعتدي لابد أن يستحي من أفعاله السيئة فلا يعود لها لا مع هذه الذي أساء له ولامع غيره مستقبلاً.
(الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) هذه هي نتيجة الدفع المأمور به، يصير العدو المشاق مثل الولي الشفيق حتى وإن كان هذا الود ظاهراً فيشبه الولي الحميم أي شديد الولاء. ولو تدبرنا في معنى الحميم لوجدنا أن معناه الماء الشديد الحرارة وكنّى به عن الولي المخلص في وده لما يجده في نفسه من حرارة الحب والشوق والاهتمام نحو من يواليه.
(وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم) أي إن هذه الخصلة العظيمة التي هي مقابلة السيئة بالحسنة وتجرع الشدائد بالصبر وكظم الغيظ بل وزادوا على هذا بالإحسان إلى من أساء إليهم، والضمير في قوله (وما يلقاها) عائد على الفعلة والسجية التي هي الدفع بالأحسن، وقيل الضمير عائد على الجنة في قوله (وابشروا بالجنة). ولكن من هو الذي يوفق لهذه الخصلة أو لهذه المنزلة؟ ثم يأتينا الجواب في الآية ليقول لنا الله (إلا الذين صبروا) الصبر على ماذا؟ أي صبّروا نفوسهم على ما تكره واجبروها على ما يحبه الله، ذلك أن النفوس مجبولة على مقابلة المسيء بإساءته، وعدم العفو عنه فكيف بالإحسان بعد الإساءة؟!!
فإذا صبّر الإنسان نفسه وامتثل أمر ربه، وعرف جزيل الثواب، وعلم أن مقابلته للمسيء بجنس عمله لا تفيده شيئاً، ولا تزيد العداوة إلا شدة، وأن إحسانه إليه ليس بواضع قدره بل من تواضع لله رفعه، هان عليه الأمر، وفعل ذلك متلذذاً مستحلياً له" انتهي كلام السعدي - يرحمه الله-.
ثم تعود الآيات وتكرر هذه الكلمة (وما يلقاها) تأكيداً لهذه الخصلة الجلية، والمرتبة العالية التي لن ينالها غير من هو أهل لها، ومن هو هذا إنه (إلا ذو حظ عظيم) أي ذو نصيب وافر من السعادة في الدنيا والآخرة، يقول ابن عباس - رضي الله عنه- في تفسير هذه الآية: هذا أمر من الله للمؤمنين بالصبر عند الغضب والحلم عند الجهل والعفو عند الإساءة فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله من الشيطان، وخضع لهم عدوهم حتى كأنه ولي حميم.
وهكذا تمضي الآيات تتحدث عن أخلاق الداعية وما يجب أن يتصف به ويتحصن به، وكما ذكر ما يقابل به العدو من الإنس وهو مقابلة إساءته بالإحسان ذكر هنا ما يقابل به عدوه من الشياطين وهو الاستعاذة بالله والاحتماء من شره فقال: (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم).
يقول ابن سعدي - رحمه الله- في تفسير هذه الآية: متى ما أحسست بشيء من نزغات الشيطان، أي وساوسه وتزيينه للشر، وتكسله عن الخير، وإصابة بعض الذنوب، وإطاعة له ببعض ما يأمر به من إرادة حملك على مجازاة المسيء بالإساءة والانتقام منه وهو ما أوصيت به من الدفع بالتي هي أحسن (فاستعذ بالله) أي اسأله مفتقراً إليه أن يعيذك ويعصمك منه (إنه هو السميع العليم) فإنه يسمع قولك وتضرعك، ويعلم حالك واضطرارك إلى عصمته وحمايته أ.هـ
وهكذا نجد أن القيام بواجب الدعوة وخاصة في هذه الظروف التي تحيط بعالمنا الإسلامي أمر شاق لا يستطيعه إلا من لديه معرفة بواجبات الداعية وأخلاقياته، والتي في ظلها تتوارى حظوظ النفس وشهواتها، والمشقة التي يلقاها الداعية من المرجفين ممن تخاذل أو وهن فأصبح في ركاب الأعداء يقول ما يقولون ويعمل ما يعملون حتى ما بقي له من إسلامه إلا الاسم فقط ذلك لأنه هو وشياطينه وأعوانهم واقفين في طريق الدعوة - نعوذ بالله من شرهم-.