سكون الليل
2010-03-21, 02:01 AM
ماذا تعرف عن محنه الامام احمد ابن حنبل رحمه الله ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
في بداية الحديث عن تاريخ المحن التي تعرض لها علماء الأمة، لا يسعنا الحديث إلا أن نبدأه بأشد هذه المحن وأعظمها وأخطرها، ألا وهي محنة القول بخلق القرآن، والتي تعرض لها الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، وهي المحنة التي تأتي على رأس قائمة المحن التي تعرض لها علماء الأمة الربانيون، وعلى الرغم من وجود العديد من المحن الشديدة والتي تعرض لها كبار علماء الأمة، إلا أننا آثرنا أن نبدأ الحديث بهذه المحنة العاتية وذلك لعدة أسباب:
1ـ أن هذه المحنة كانت في باب العقيدة أي في صميم قلب الأمة، وفي أصل قوتها ومصدر عزتها، وكان أهل الاعتزال هم من وراء هذه المحنة والفتنة.
2ـ أن الدولة بكافة أجهزتها ورجالها وقوتها كانت تدعم هذه المحنة، حيث استطاع بعض أهل الاعتزال مثل بشر المريسي وأحمد بن أبي دؤاد وغيرهما من خداع ثلاثة خلفاء عباسيين متتاليين وهم: المأمون ثم المعتصم ثم الواثق، وإقناعهم بتبني عقيدة الاعتزال الضالة والمليئة بالبدع الغليظة، وليس فقط مجرد التبني والاعتناق، ولكن وإجبار الناس على ذلك الضلال ولو بالقوة وحد السلطة التي لا تطيق عادة أن تخالف أو يتحدى سلطانها أي أحد مهما كانت مكانته وعلمه.
3ـ أن هذه المحنة العاتية لم تكن خاصة بالإمام أحمد وحده، وإن كان قد تحمل عبأها الأكبر وحده، بل كانت محنة عامة وفتنة شاملة، طالت الكبير والصغير، العالم والعامي، الأحرار والعبيد، حتى الأسارى عند الأعداء كانوا يمتحنون على القول بخلق القرآن، فإن أجابوا وإلا تركوا رهن الأسر عند العدو ولم تفتكهم الدولة.
4ـ أن هذه المحنة عندما وقعت لم يصمد فيها سوى الإمام أحمد بن حنبل، أما باقي العلماء فأغلبهم قد أجاب فيها كرهًا وبعضهم قد مات تحت وطأة التعذيب في سجن المبتدعة مثل البويطي ومحمد بن نوح ونعيم بن حماد، وكان صمود الإمام أحمد أعظم فصول هذه المحنة، وسبب تقدمه وشهرته ورفع ذكره، حتى صارت الإمامة مقرونة باسمه في لسان كل أحد فيقال: قال الإمام أحمد وهذا مذهب الإمام أحمد، ولو قدر الله عز وجل ولم يصمد الإمام أحمد في هذه المحنة لضل خلق كثير ولربما الأمة كلها والله أعلم، لذلك قال المزني رحمه الله: (عصم الله الأمة بأبي بكر يوم الردة وبأحمد بن حنبل يوم المحنة).
التعريف به:
هو الإمام حقًا، وشيخ الإسلام صدقًا، وإمام أهل السنة، الفقيه المحدث، والقلم الجبل، وركن الدين، وإمام المسلمين، وصاحب رابع المذاهب الفقهية المتبوعة، الإمام أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، أحد كبار أئمة الإسلام. وُلد في ربيع الأول سنة 164هـ بمرو، وقد مات أبوه وهو جنين في بطن أمه فتحولت به إلى بغداد، وطلب العلم وهو في سن الخامسة عشرة، أي سنة 179هـ أي في نفس العام الذي مات فيه الإمام مالك، وعني بطلب الحديث وبرع فيه للغاية، وطاف الأقاليم وجمع الحديث من الثقات الأعلام، وتفرغ لطلب العلم وجمع الأحاديث حتى إنه لم يتزوج إلا بعد الأربعين، حتى بلغ عدد مروياته من الأحاديث والآثار ألف ألف حديث كما قال ذلك الحافظ أبو زرعة، حتى عدوه من أحفظ علماء الإسلام قاطبة.
خصاله:
كان الإمام أحمد موصوفًا بالكمال من الرجال، فلقد كان أهلاً بخصاله وأخلاقه وشمائله الجمة أن يصمد في وجه هذه المحنة الهائلة، فلقد كان على طراز علماء الأمة الربانيين الذين كمل حالهم في العلم والعمل، فلقد كان عابدًا ناسكًا ورعًا تقيًا نقيًا خالصًا مخلصًا، في غاية الزهادة والخشوع، أتاه من أموال الدنيا مما يحل أخذه بالآلاف وهو يرد ذلك كله، وعرضت عليه المناصب والولايات، وهو يفر منها فراره من الأسد، يحيي ليله بالصلاة والذكر والدعاء والبكاء، ويقضي نهاره في طلب العلم والدرس والفتيا، وحاله الدنيوي على أضيق ما يكون، لربما تأتي عليه عدة أيام لا يأكل من رقة الحال وانعدام المال، ولا يغير ملابسه لعدة سنوات، حتى إنه قد احتاج لأن يرهن نعله عند خباز، وأكرى نفسه من جمَّالين ليجد نفقة رحلته العلمية إلى اليمن، ومع ذلك فقلبه عامر بالإيمان، يتبرك الناس برؤيته والسلام عليه، ولقد حج خمس مرات منها ثلاث مرات ماشيًا على رجليه، وكان يصلي كل ليلة ثلاثمائة ركعة، فلما امتحن وأوذي بالسياط كان يصلي مائة وخمسين ركعة في الليلة.
ومع شدة اجتهاده في العلم والعمل كان الخوف من الله عز وجل، إذا ذكر الموت خنقته العبرة وامتنع عن الطعام والشراب، وكان يكره الشهرة بشدة وينكر أيما نكير على المغالين فيه، شديد الحب للفقراء والزهاد، يقربهم ويجلهم فوق السلاطين والأعيان، كثير التواضع، تعلوه السكينة والوقار، عازفًا عن الدنيا وأهلها.
فصول المحنة
الفصل الأول: أصل المحنة:
كان المسلمون أمة واحدة وعقيدتهم صحيحة وصافية من معين النبوة حتى وقعت الفتنة الكبرى وقتل عثمان رضي الله عنه مظلومًا شهيدًا، فتفرقت الكلمة وظهرت الشرور وتمت وقعة الجمل ثم صفين وبدأت البدع في الظهور، وحدث أول انحراف في تاريخ العقيدة الإسلامية بظهور فرقة الخوارج التي كفرت الصحابة خير الناس، ثم أخذت زاوية الانحراف في الانفراج فظهرت فرقة الروافض، وكلما ظهرت فرقة مبتدعة ظهرت في المقابل لها وعلى النقيض منها فرقة أخرى، الأولى تغالي والأخرى تعادي، فكما ظهرت الخوارج ظهرت فرقة المرجئة التي أخرت العمل وقالت إن الإيمان هو مجرد التصديق فقط، فجعلت إيمان أفجر الخلق كإيمان أتقاهم، وكما ظهرت الروافض ظهرت النواصب، وكما ظهرت فرقة القدرية نفاة القدر ظهرت فرقة الجبرية التي تنفي أي اختيار وإرادة للإنسان، وكما ظهرت فرقة المعتزلة والجهمية نفاة الصفات ظهرت فرقة المجسمة الذين يشبهون صفات الخالق بالمخلوق، ولكن كل هذه الفرق الضالة كانت مقهورة بسيف الشرع وقوة السنة وسلطان الدولة الأموية ثم العباسية، وكثير من رءوس البدعة قد قتل بسيف الحق مثل الجعد بن درهم رائد التعطيل والجهم بن صفوان رائد القدرية والمغيرة بن سعيد وغيرهم، وقد ظل المبتدعون في جحر ضب مختفين بضلالهم، لا يرفع أحد منهم رأسًا ببدعة أو بضلالة حتى ولي المأمون العباسي وكان محبًا للعلوم العقلية وكلام الفلاسفة الأوائل، فبنى دارًا لترجمة كتب فلاسفة اليونان وأسماها بيت الحكمة، فأخذت أفاعي البدع تخرج من جحورها وأخذت في التسلل بنعومة إلى بلاط المأمون ثم التفت حول عقله ولعبت به ونفثت سموم الاعتزال في رأسه، ونفق عليه رجال من عينة بشر المريسي الذي كان هاربًا أيام أبيه الرشيد الذي كان يتطلبه بشدة ليقتله ببدعته، وأحمد بن أبي دؤاد رأس الفتنة ومسعرها، وأبي الهذيل العلاف وثمامة بن أشرس وغيرهم، حتى مال المأمون لقولهم واعتنق مذهب الاعتزال والذي يقوم على عدة أصول وهي:
1ـ نفي الصفات وتعطيلها، وأبرز معالم نفي الصفات القول بأن القرآن مخلوق.
2ـ نفي القدر وأن العباد هم خالقو أفعالهم.
3ـ القول بالمنزلة بين المنزلتين بالنسبة لمرتكب الكبيرة.
4ـ الوعد والوعيد، ومعناه تخليد مرتكب الكبيرة في النار وإيجاب دخول المؤمن الجنة على الله.
5ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومعناه الخروج على ولاة الأمور بالسلاح.
ظل المأمون معتنقًا لهذه العقيدة الضالة ولا يجبر أحدًا على اعتناقها ويتردد ويراقب الشيوخ والعلماء والمحدثين وهو يخشى مكانتهم وتأثيرهم على جماهير المسلمين، وفي نفس الوقت يحاول استمالة من يقدر على استمالته منهم، فلما رأى إعراض العلماء عن القول ببدعته زين له أحمد بن أبي دؤاد وبشر المريسي أن يجبر العلماء وذلك بقوة الدولة وحد التهديد والوعيد، وبالفعل سنة 218هـ أمر المأمون العباسي قائد شرطة بغداد العاصمة «إسحاق بن إبراهيم» بأن يجمع كبار الفقهاء والعلماء والمحدثين ويمتحنهم في القول بخلق القرآن، وقرأ عليهم كتاب المأمون الذي يفيض بالتهديد والوعيد وقطع الأرزاق والعزل من المناصب لمن يرفض القول بخلق القرآن، ومن يومها بدأت فصول المحنة العظمى التي تحمل الإمام أحمد بن حنبل وحده عبأها والوقوف في وجه أربابها ودعاتها.
الفصل الثاني: الإمام أحمد والمأمون العباسي:
حمل الإمام أحمد ومن معه من العلماء إلى دار السلطان وأخذ إسحاق بن إبراهيم قائد الشرطة في امتحانهم، ومع جدية التهديد أخذ العلماء الواحد تلو الآخر يجيب بالقول بخلق القرآن، فلما رأى أحمد بن حنبل الناس يجيبون وكان من قبل رجلاً لينًا، انتفخت أوداجه واحمرَّت عيناه وذهب ذلك اللين وغضب لله عز وجل وجهر بالحق، وبعد أول يوم لامتحان العلماء عاد الإمام أحمد بن حنبل إلى مسجده وقعد للدرس والتحديث، فالتف حوله الناس وسألوه عما جرى وألحوا في معرفة من أجاب من العلماء في هذه المحنة، فرفض بشدة وكره الإجابة على هذا السؤال، ولكن الأمر قد انتشر بسرعة بين الناس وعُرف من أجاب ممن رفض.
وصلت أخبار الامتحان للخليفة المأمون وكان وقتها مقيمًا بطرسوس على الحدود مع الدولة البيزنطية، فتغيظ بشدة ممن رفض القول بخلق القرآن وطلب من قائد شرطته «إسحاق بن إبراهيم» أن يجمع العلماء مرة أخرى ويمتحنهم ويشتد في التهديد والوعيد، وبالفعل اشتد إسحاق في التهديد حتى أجاب كل العلماء ما عدا أربعة: أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح، والقواريري، وسجَّادة، فقام إسحاق بحبسهم وتهديدهم بالضرب والحبس، فأجاب سجَّادة والقواريري فخرجا من السجن وبقي أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح، فأرسل بخبرهما إسحاق إلى الخليفة المأمون الذي استشاط غضبًا وأمر بحملهما مقيدين زميلين إلى طرسوس، وقد أقسم ليقتلهما بيده إذا لم يجيبا في هذه الفتنة، بل أشهر سيفًا ووضعه بجانبه استعدادًا لقتلهما إذا أصرا على الرفض.
حُمل أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح من بغداد إلى طرسوس، وفي الطريق وقعت عدة حوادث كان لها أثر كبير في تثبيت الإمام أحمد ورفيقه، ودللت أيضًا على أن الناس كانت كلها وراء الإمام وتؤيده وإن كانت لا تملك له شيئًا، فقد قابله بالرحبة (موضع على شاطئ الفرات على بعد مائة فرسخ من بغداد) رجل من عامة المسلمين يعمل في غزل الصوف والشعر، قد جاء لمقابلته خصيصًا من بادية العراق ليقول له: يا أحمد إن يقتلك الحق مت شهيدًا وإن عشت عشت حميدًا، وما عليك أن تقتل هاهنا وتدخل الجنة، فقوي قلب الإمام أحمد بهذه الكلمات. ثم بعد فترة استراح الركب في خان بالطريق للمسافرين، وفي الخان قابل الإمام أحمد أحد أصدقائه القدامى واسمه أبو جعفر الأنباري، والذي عبر الفرات للقاء الإمام أحمد قبل سفره إلى طرسوس، فلما رآه الإمام أحمد قال له: يا أبا جعفر تعنيت (أي كلفت نفسك مشقة السفر وعبور الفرات) فقال له أبو جعفر: يا هذا أنت اليوم رأس، والناس يقتدون بك، فوالله لئن أجبت إلى خلق القرآن ليجيبن خلق، وإن أنت لم تجب ليمتنعن خلق من الناس كثير، ومع هذا فإن الرجل إن لم يقتلك فإنك تموت، لابد من الموت، فاتق الله ولا تجب. فجعل الإمام أحمد يبكي ويقول: ما شاء الله، ثم قال: يا أبا جعفر أعد عليَّ، فأعاد عليه، وأحمد يبكي ويقول: ما شاء الله.
وفي طريق السفر كان الإمام أحمد يتهجد ويصلي في جوف الليل ويدعو الله عز وجل أن لا يرى المأمون وألا يجتمع معه أبدًا، ويلح في الدعاء، وفي رجب سنة 218هـ وقبل أن يصل الإمام أحمد ورفيقه محمد بن نوح إلى طرسوس هلك المأمون فجأة بلا مرض ولا تعب، فراح ضحية سهم من سهام الليل من قوس مظلوم بوتر مكلوم هو دعاء الإمام أحمد عليه.
الفصل الثالث: الإمام أحمد والمعتصم العباسي:
هذا الفصل هو الأشد والأروع في فصول هذه المحنة العظمى، وتجلى فيه صمود الإمام أحمد حيث أصبح وحده في الميدان بعد أن مات محمد بن نوح تطت وطأة الحبس والتنكيل، ورغم أن الخليفة المعتصم لم يكن من أهل الفكرة ولا يعتقدها في الأساس، ولكنه خاض في الفتنة وانغمر فيها لأن أخاه المأمون قد أوصاه بذلك، فحمله حبه لأخيه المأمون لأن يعمل بوصيته، بل يزيد عليها، فكان أول قرار أخذه المعتصم هو رد الإمام أحمد إلى بغداد وسجنه هناك في سجن ضيق مظلم والقيود في يديه ورجليه حتى إنه أصيب بمرض شديد في شهر رمضان، فنقلوه إلى سجن أوسع مع عموم الناس، ومكث في هذا السجن ثلاثين شهرًا.
وفي السجن أخذ رجال الاعتزال ورءوس الفتنة يأتونه واحدًا تلو الآخر ليناظروه في خلق القرآن وهو يناظرهم وتعلو حجته حججهم، وكلما غلبهم في المناظرة اشتدوا عليه وضيقوا عليه وزادوا في قيوده، وبعد عدة أيام وكانوا في شهر رمضان بدأت فصول المناظرة العلنية بحضور الخليفة المعتصم نفسه.
ولنا أن نتخيل هذا المشهد المهول الذي حضره الإمام أحمد وحده وكان في مجلس الخليفة المعتصم وفيه كل رجال البدعة والوزراء والقادة والحجَّاب والسيافون والجلادون، وكان الذي بدأ معه الكلام هو المعتصم نفسه وقد حاول استمالته وترغيبه في أول الأمر، ثم أمر علماء البدعة بمناظرته، فهزمهم الإمام كلهم، وهو يحتج عليهم بالآيات والأحاديث والآثار وهم يحتجون بكلام الفلاسفة مثل العرض والجوهر والشيء والوجود والقدم، لذلك فقد علت حجته حجتهم والإمام يقول: أعطوني شيئًا من كتاب الله وسنة رسوله، وكان قائد الشرطة عبد الرحمن بن إسحاق ـ وهو بالمناسبة ابن إسحاق بن إبراهيم القائد السابق ـ ممن يدافع عن الإمام أحمد ويقول للخليفة المعتصم: يا أمير المؤمنين أعرفه منذ ثلاثين سنة، وإنه ليرى طاعتك والحد والجهاد معك، وإنه لعالم وإنه لفقيه، ولكن في المقابل كان أحمد بن داود أشد الناس عليه ويحرض المعتصم عليه بشدة ليقتله ويقسم له أنه ضال وكافر ومبتدع.
استمرت هذه المناظرة العلنية ثلاثة أيام وكانوا في شهر رمضان، والإمام ثابت لا يتزعزع وخصومه من حوله تتساقط شبههم وبدعهم، حتى كان اليوم الرابع وكان المعتصم قد ضجر من طول المناظرة وأغراه قاضي المحنة أحمد بن داود، حتى وصل التهديد للضرب والجلد، وأحضرت الخشبة والسياط وشد أحمد على العقابين (وهما خشبتان يشد الرجل بينهما للجلد) فخلعت يداه وهو صامد، وعندها أخذت المعتصم شفقة على الإمام وأعجب بثباته وصلابته، ولكن أحمد بن أبي دؤاد أغراه وقال له: يا أمير المؤمنين تتركه فيقال غلب خليفتين؟ فعمى المعصتم لكلمته الشريرة وأمر بالإمام فأخذ الجلادون في ضربه بالسياط، يتناوبون على ضربه؛ هذا يضربه سوطين والآخر ثلاثة وهكذا، حتى إذا بلغ سبعة عشر سوطًا قام إليه المعتصم وقال له: يا أحمد علام تقتل نفسك؟! إني والله عليك لشفيق، وجعل عجيف أحد قادة الأتراك العسكريين في جيش المعتصم ينخسه بقائمة سيفه ويقول: أتريد أن تغلب هؤلاء كلهم؟ وجعل بعضهم يقول: ويلك إمامك الخليفة على رأسك قائم، وقال بعضهم: يا أمير المؤمنين دمه في عنقي، اقتله، وجعلوا يقولون: يا أمير المؤمنين أنت صائم وأنت في الشمس قائم، والمعتصم يقول: ويحك يا أحمد ما تقول؟ فيجيب الإمام بكل صمود وثبات: أعطوني شيئًا من كتاب الله أو سنة رسول الله أقول به، فيأمر المعتصم بمواصلة الضرب، ثم قال له المعتصم مرة أخرى: أجبني إلى شيء فيه أدنى فرج حتى أطلق عنك بيدي، ومع ذلك الإمام صامد، فأخذوا في ضربه حتى أغمي عليه من شدة الضرب وقد تمزق ظهره من لهيب السياط.
بعد هذا الثبات العجيب التي تعجز عن مثله الجبال الراسيات، أمر المعتصم بإطلاق سراحه، ولكن بعد أن فعل شيئًا في منتهى العجب والغرابة، وهو قيامه بإحضار أقارب الإمام أحمد وأهله وجيرانه وأشهدهم على أنه سليم البدن، وذلك خوفًا من ثورة الناس عليه إن حصل للإمام مكروه، هذا على الرغم من قوة المعتصم وشجاعته وسلطته، ولكن قوة الحق وسلطة الصمود وشجاعة الثبات الذي عليه الإمام أحمد كانت أكبر من ذلك كله، وخرج الإمام أحمد وعاد إلى بيته بعد 28 شهرًا من الحبس والضرب من سنة 218هـ حتى سنة 221هـ.
والمعتصم وإن كان هو الذي أقدم على ضرب الإمام أحمد إلا أنه لم يكن مثل المأمون مقتنعًا أو معتنقًا لهذه البدعة، وكان يود لو أطلق سراح أحمد بلا ضرب، ولكن رءوس الضلالة أوغروا صدره وأشعلوا غضبه حتى أقدم على جناية ضرب الإمام، لذلك فلقد جعله الإمام أحمد في حلٍ من هذه الجناية وذلك يوم أن جاءه خبر فتح عمورية سنة 223هـ.
الفصل الرابع: الإمام أحمد والواثق العباسي:
ظل أحمد بعد خروجه من سجن المعتصم يعالج في بيته فترة طويلة من آثار الضرب والتعذيب حتى تماثل للشفاء، وأخذ يحضر الجمعة والجماعة ويحدث الناس ويفتي حتى مات المعتصم، وولي مكانه ابنه الواثق، وكان قد تربى في حجر قاضي المحنة أحمد بن أبي دؤاد فشربه البدعة منذ صغره ، فكان الواثق من أشد وأخبث الناس في القول بالبدعة، حيث أظهرها بقوة وأجبر الناس عليها وأطلق يد أحمد بن أبي دؤاد فيها، فكان يفرق بين الرجل الذي لا يقول ببدعته وبين امرأته ويأمر المعلمين بتعليم الصبيان في المكاتب هذه البدعة الخبيثة، وبلغ الأمر ذروته عندما كان أحمد بن أبي دؤاد يمتحن أسرى المسلمين عند الروم، فمن قال ببدعة خلق القرآن افتداه، ومن امتنع يتركه أسيرًا بيد الروم حتى ضج الناس وضاقت نفوسهم.
بلغ الأمر بالناس ذروته من فجاجة نشر البدعة وتسلط المعتزلة على الناس حتى أقدمت مجموعة من أهل بغداد بقيادة أحمد بن نصر الخزاعي على التحضير للخروج على حكم الخليفة الواثق العباسي وخلعه من الخلافة، وذهب نفر منهم للإمام أحمد لاستفتائه في الخروج وعددوا له مساوئ الواثق وجرائمه وبدعه، فلم يوافق الإمام أحمد على ذلك ومنعهم وناظرهم في القضية وأمرهم بالصبر وذلك من فقه وورع ودين الإمام أحمد، على الرغم من الأذى والاضطهاد والعذاب الشديد الذي ناله الإمام على يد هذه الحكومة الجائرة المبتدعة والتي لو خرج عليها الإمام أحمد ما لامه أحد، إلا إنه قد أدرك أن المفاسد المترتبة على الخروج أعظم وأكبر من المصالح المتوقعة من وراء إسقاطها، والذي توقعه الإمام قد وقع بالفعل، فلقد فشلت حركة الخزاعي وراح فيها الكثيرون.
وعلى الرغم من الدور الذي لعبه الإمام أحمد في إقناع الكثيرين بعدم الخروج على الواثق، إلا إن الواثق قد قابل ذلك بفعل شرير بالغ السوء حيث أمر بنفيه من بغداد وأرسل إليه يقول: «لا يجتمعن إليك أحد ولا تساكني بأرض ولا مدينة أنا فيها»، فخرج الإمام من بيته واختبأ بدار أحد تلاميذه عدة أيام، ثم انتقل إلى موضع آخر فمكث فيه عدة شهور حتى هدأ الطلب عليه، ثم تحول إلى مكان آخر وظل هكذا لا يستطيع أن يخرج إلى صلاة ولا إلى مجلس علم وتحديث حتى هلك الواثق العباسي سنة 231هـ، فخرج الإمام للناس وجلس للتحدث، وذلك أن المتوكل الذي ولي بعد الواثق كان على مذهب أهل السنة وقد أمر برفع البدعة وإظهار السنة، وأيضًا لم يسلم الإمام من الفتنة أيام المتوكل ولكنها كانت فتنة بالسراء ليس بالضراء، ذلك أن المتوكل قد أفاض عليه بالأموال والعطايا الجزيلة وحاول استمالته ليسكن مدينة سامراء ويترك بغداد، وأن يتولى تعليم وتأديب ولده «المعتز» ولكن الإمام رفض ذلك بشدة وعانى بسبب هذا الرفض معاناة شديدة.
ثناء الناس على الإمام:
كان الناس يثنون على الإمام أحمد بن حنبل قبل أحداث الفتنة والمحنة، فلما رأوا ثباته وصموده وحده أمام حكومة البدعة ودولة الاعتزال زاد ثناؤهم وتقديرهم للإمام، حتى لربما خرج لطور المغالاة والمدح الزائد عن الشرع، ومن يقرأ في ترجمة الإمام في كتاب حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني يجد نماذج كثيرة لهذا الغلو ربما خرج لحد السخف كما يقول الحافظ الذهبي، لذلك نقتصر في هذا المقام على ما ذكره ثقات العلماء وصحاح الآثار:
قال قتيبة بن سعيد: خير أهل زماننا ابن المبارك، ثم هذا الشاب، يعني أحمد بن حنبل، وإذا رأيت رجلاً يحب أحمد فاعلم أنه صاحب سنة، ولو أدرك عصر الثوري والأوزاعي والليث لكان هو المقدم عليهم، وقال أيضًا: لولا الثوري لمات الورع ولولا أحمد لأحدثوا في الدين، أحمد إمام الدنيا.
قال الشافعي: خرجت من بغداد فما خلفت بها رجلاً أفضل ولا أعلم ولا أفقه ولا أتقى من أحمد بن حنبل.
قال علي بن المديني: أعز الله الدين بالصديق يوم الردة وبأحمد يوم المحنة، وقال أيضًا: أحمد أفضل عندي من سعيد بن جبير في زمانه، لأن سعيدًا كان له نظراء.
قال ابن خزيمة: رحم الله أحمد بن حنبل، عن الدنيا ما كان أصبره، وبالماضين ما كان أشبهه، وبالصالحين ما كان ألحقه، عرضت له الدنيا فأباها، والبدع فنفاها.
قال بشر الحافي: قام أحمد مقام الأنبياء، وأحمد عندنا امتحن بالسراء والضراء فكان فيهما معتصمًا بالله.
والخلاصة:
أن هذه المحنة التي وقعت عامة بأرض الإسلام لم يصمد فيها سوى الإمام أحمد، وقد تداوله ثلاثة خلفاء يسلطون عليه من شرق الأرض إلى غربها ومعهم من العلماء المتكلمين والقضاة والوزراء والأمراء والولاة والقادة العسكريين، فبعضهم تسلط عليه بالحبس وبعضهم بالتهديد والوعيد بالقتل، وبعضهم جلده وعذبه وألقاه في غياهب السجون، وبعضهم بالنفي والتشريد والمطاردة، ثم كانت فتنة السراء أيام المتوكل، وقد خذله في ذلك أهل الأرض حتى أصحابه العلماء والصالحون وهو مع ذلك لا يجيبهم إلى كلمة واحدة مما طلبوا منه، وما رجع عما جاء به الكتاب والسنة ولا كتم العلم ولا استعمل التقية، بل قد أظهر من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثاره ما قمع به البدعة، ورفض كل المحاولات التي بذلها معه قرناؤه العلماء في إقناعه بقبول التقية، ورأى أن التقية لا تجوز إلا للمستضعفين الذين يخشون ألا يثبتوا على الحق والذين هم ليسوا بموضع القدوة للناس، أما أولو العزم من الأئمة الهداة فإنهم يأخذون بالعزيمة ويحتملون الأذى ويثبتون، والإمام أحمد كان يرى نفسه ولم يبق أحد سواه أمام البدعة مسئولاً عن إخمادها والصمود أمامها مهما تكن العواقب، ولو أخذ بالتقية والرخصة لاستساغ الناس الرخصة ولضلوا من وراءها، ولذلك كان الإمام أحمد هو إمام أهل السنة وهو جبل الحق والسنة يوم أن حكمت البدعة، وثباته بإذن الله عز وجل كان ثباتًا للدين والسنة وإنما تنال الإمامة بالصبر واليقين كما قال ربنا رب العالمين: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ﴾ [السجدة:24].
في بداية الحديث عن تاريخ المحن التي تعرض لها علماء الأمة، لا يسعنا الحديث إلا أن نبدأه بأشد هذه المحن وأعظمها وأخطرها، ألا وهي محنة القول بخلق القرآن، والتي تعرض لها الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، وهي المحنة التي تأتي على رأس قائمة المحن التي تعرض لها علماء الأمة الربانيون، وعلى الرغم من وجود العديد من المحن الشديدة والتي تعرض لها كبار علماء الأمة، إلا أننا آثرنا أن نبدأ الحديث بهذه المحنة العاتية وذلك لعدة أسباب:
1ـ أن هذه المحنة كانت في باب العقيدة أي في صميم قلب الأمة، وفي أصل قوتها ومصدر عزتها، وكان أهل الاعتزال هم من وراء هذه المحنة والفتنة.
2ـ أن الدولة بكافة أجهزتها ورجالها وقوتها كانت تدعم هذه المحنة، حيث استطاع بعض أهل الاعتزال مثل بشر المريسي وأحمد بن أبي دؤاد وغيرهما من خداع ثلاثة خلفاء عباسيين متتاليين وهم: المأمون ثم المعتصم ثم الواثق، وإقناعهم بتبني عقيدة الاعتزال الضالة والمليئة بالبدع الغليظة، وليس فقط مجرد التبني والاعتناق، ولكن وإجبار الناس على ذلك الضلال ولو بالقوة وحد السلطة التي لا تطيق عادة أن تخالف أو يتحدى سلطانها أي أحد مهما كانت مكانته وعلمه.
3ـ أن هذه المحنة العاتية لم تكن خاصة بالإمام أحمد وحده، وإن كان قد تحمل عبأها الأكبر وحده، بل كانت محنة عامة وفتنة شاملة، طالت الكبير والصغير، العالم والعامي، الأحرار والعبيد، حتى الأسارى عند الأعداء كانوا يمتحنون على القول بخلق القرآن، فإن أجابوا وإلا تركوا رهن الأسر عند العدو ولم تفتكهم الدولة.
4ـ أن هذه المحنة عندما وقعت لم يصمد فيها سوى الإمام أحمد بن حنبل، أما باقي العلماء فأغلبهم قد أجاب فيها كرهًا وبعضهم قد مات تحت وطأة التعذيب في سجن المبتدعة مثل البويطي ومحمد بن نوح ونعيم بن حماد، وكان صمود الإمام أحمد أعظم فصول هذه المحنة، وسبب تقدمه وشهرته ورفع ذكره، حتى صارت الإمامة مقرونة باسمه في لسان كل أحد فيقال: قال الإمام أحمد وهذا مذهب الإمام أحمد، ولو قدر الله عز وجل ولم يصمد الإمام أحمد في هذه المحنة لضل خلق كثير ولربما الأمة كلها والله أعلم، لذلك قال المزني رحمه الله: (عصم الله الأمة بأبي بكر يوم الردة وبأحمد بن حنبل يوم المحنة).
التعريف به:
هو الإمام حقًا، وشيخ الإسلام صدقًا، وإمام أهل السنة، الفقيه المحدث، والقلم الجبل، وركن الدين، وإمام المسلمين، وصاحب رابع المذاهب الفقهية المتبوعة، الإمام أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، أحد كبار أئمة الإسلام. وُلد في ربيع الأول سنة 164هـ بمرو، وقد مات أبوه وهو جنين في بطن أمه فتحولت به إلى بغداد، وطلب العلم وهو في سن الخامسة عشرة، أي سنة 179هـ أي في نفس العام الذي مات فيه الإمام مالك، وعني بطلب الحديث وبرع فيه للغاية، وطاف الأقاليم وجمع الحديث من الثقات الأعلام، وتفرغ لطلب العلم وجمع الأحاديث حتى إنه لم يتزوج إلا بعد الأربعين، حتى بلغ عدد مروياته من الأحاديث والآثار ألف ألف حديث كما قال ذلك الحافظ أبو زرعة، حتى عدوه من أحفظ علماء الإسلام قاطبة.
خصاله:
كان الإمام أحمد موصوفًا بالكمال من الرجال، فلقد كان أهلاً بخصاله وأخلاقه وشمائله الجمة أن يصمد في وجه هذه المحنة الهائلة، فلقد كان على طراز علماء الأمة الربانيين الذين كمل حالهم في العلم والعمل، فلقد كان عابدًا ناسكًا ورعًا تقيًا نقيًا خالصًا مخلصًا، في غاية الزهادة والخشوع، أتاه من أموال الدنيا مما يحل أخذه بالآلاف وهو يرد ذلك كله، وعرضت عليه المناصب والولايات، وهو يفر منها فراره من الأسد، يحيي ليله بالصلاة والذكر والدعاء والبكاء، ويقضي نهاره في طلب العلم والدرس والفتيا، وحاله الدنيوي على أضيق ما يكون، لربما تأتي عليه عدة أيام لا يأكل من رقة الحال وانعدام المال، ولا يغير ملابسه لعدة سنوات، حتى إنه قد احتاج لأن يرهن نعله عند خباز، وأكرى نفسه من جمَّالين ليجد نفقة رحلته العلمية إلى اليمن، ومع ذلك فقلبه عامر بالإيمان، يتبرك الناس برؤيته والسلام عليه، ولقد حج خمس مرات منها ثلاث مرات ماشيًا على رجليه، وكان يصلي كل ليلة ثلاثمائة ركعة، فلما امتحن وأوذي بالسياط كان يصلي مائة وخمسين ركعة في الليلة.
ومع شدة اجتهاده في العلم والعمل كان الخوف من الله عز وجل، إذا ذكر الموت خنقته العبرة وامتنع عن الطعام والشراب، وكان يكره الشهرة بشدة وينكر أيما نكير على المغالين فيه، شديد الحب للفقراء والزهاد، يقربهم ويجلهم فوق السلاطين والأعيان، كثير التواضع، تعلوه السكينة والوقار، عازفًا عن الدنيا وأهلها.
فصول المحنة
الفصل الأول: أصل المحنة:
كان المسلمون أمة واحدة وعقيدتهم صحيحة وصافية من معين النبوة حتى وقعت الفتنة الكبرى وقتل عثمان رضي الله عنه مظلومًا شهيدًا، فتفرقت الكلمة وظهرت الشرور وتمت وقعة الجمل ثم صفين وبدأت البدع في الظهور، وحدث أول انحراف في تاريخ العقيدة الإسلامية بظهور فرقة الخوارج التي كفرت الصحابة خير الناس، ثم أخذت زاوية الانحراف في الانفراج فظهرت فرقة الروافض، وكلما ظهرت فرقة مبتدعة ظهرت في المقابل لها وعلى النقيض منها فرقة أخرى، الأولى تغالي والأخرى تعادي، فكما ظهرت الخوارج ظهرت فرقة المرجئة التي أخرت العمل وقالت إن الإيمان هو مجرد التصديق فقط، فجعلت إيمان أفجر الخلق كإيمان أتقاهم، وكما ظهرت الروافض ظهرت النواصب، وكما ظهرت فرقة القدرية نفاة القدر ظهرت فرقة الجبرية التي تنفي أي اختيار وإرادة للإنسان، وكما ظهرت فرقة المعتزلة والجهمية نفاة الصفات ظهرت فرقة المجسمة الذين يشبهون صفات الخالق بالمخلوق، ولكن كل هذه الفرق الضالة كانت مقهورة بسيف الشرع وقوة السنة وسلطان الدولة الأموية ثم العباسية، وكثير من رءوس البدعة قد قتل بسيف الحق مثل الجعد بن درهم رائد التعطيل والجهم بن صفوان رائد القدرية والمغيرة بن سعيد وغيرهم، وقد ظل المبتدعون في جحر ضب مختفين بضلالهم، لا يرفع أحد منهم رأسًا ببدعة أو بضلالة حتى ولي المأمون العباسي وكان محبًا للعلوم العقلية وكلام الفلاسفة الأوائل، فبنى دارًا لترجمة كتب فلاسفة اليونان وأسماها بيت الحكمة، فأخذت أفاعي البدع تخرج من جحورها وأخذت في التسلل بنعومة إلى بلاط المأمون ثم التفت حول عقله ولعبت به ونفثت سموم الاعتزال في رأسه، ونفق عليه رجال من عينة بشر المريسي الذي كان هاربًا أيام أبيه الرشيد الذي كان يتطلبه بشدة ليقتله ببدعته، وأحمد بن أبي دؤاد رأس الفتنة ومسعرها، وأبي الهذيل العلاف وثمامة بن أشرس وغيرهم، حتى مال المأمون لقولهم واعتنق مذهب الاعتزال والذي يقوم على عدة أصول وهي:
1ـ نفي الصفات وتعطيلها، وأبرز معالم نفي الصفات القول بأن القرآن مخلوق.
2ـ نفي القدر وأن العباد هم خالقو أفعالهم.
3ـ القول بالمنزلة بين المنزلتين بالنسبة لمرتكب الكبيرة.
4ـ الوعد والوعيد، ومعناه تخليد مرتكب الكبيرة في النار وإيجاب دخول المؤمن الجنة على الله.
5ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومعناه الخروج على ولاة الأمور بالسلاح.
ظل المأمون معتنقًا لهذه العقيدة الضالة ولا يجبر أحدًا على اعتناقها ويتردد ويراقب الشيوخ والعلماء والمحدثين وهو يخشى مكانتهم وتأثيرهم على جماهير المسلمين، وفي نفس الوقت يحاول استمالة من يقدر على استمالته منهم، فلما رأى إعراض العلماء عن القول ببدعته زين له أحمد بن أبي دؤاد وبشر المريسي أن يجبر العلماء وذلك بقوة الدولة وحد التهديد والوعيد، وبالفعل سنة 218هـ أمر المأمون العباسي قائد شرطة بغداد العاصمة «إسحاق بن إبراهيم» بأن يجمع كبار الفقهاء والعلماء والمحدثين ويمتحنهم في القول بخلق القرآن، وقرأ عليهم كتاب المأمون الذي يفيض بالتهديد والوعيد وقطع الأرزاق والعزل من المناصب لمن يرفض القول بخلق القرآن، ومن يومها بدأت فصول المحنة العظمى التي تحمل الإمام أحمد بن حنبل وحده عبأها والوقوف في وجه أربابها ودعاتها.
الفصل الثاني: الإمام أحمد والمأمون العباسي:
حمل الإمام أحمد ومن معه من العلماء إلى دار السلطان وأخذ إسحاق بن إبراهيم قائد الشرطة في امتحانهم، ومع جدية التهديد أخذ العلماء الواحد تلو الآخر يجيب بالقول بخلق القرآن، فلما رأى أحمد بن حنبل الناس يجيبون وكان من قبل رجلاً لينًا، انتفخت أوداجه واحمرَّت عيناه وذهب ذلك اللين وغضب لله عز وجل وجهر بالحق، وبعد أول يوم لامتحان العلماء عاد الإمام أحمد بن حنبل إلى مسجده وقعد للدرس والتحديث، فالتف حوله الناس وسألوه عما جرى وألحوا في معرفة من أجاب من العلماء في هذه المحنة، فرفض بشدة وكره الإجابة على هذا السؤال، ولكن الأمر قد انتشر بسرعة بين الناس وعُرف من أجاب ممن رفض.
وصلت أخبار الامتحان للخليفة المأمون وكان وقتها مقيمًا بطرسوس على الحدود مع الدولة البيزنطية، فتغيظ بشدة ممن رفض القول بخلق القرآن وطلب من قائد شرطته «إسحاق بن إبراهيم» أن يجمع العلماء مرة أخرى ويمتحنهم ويشتد في التهديد والوعيد، وبالفعل اشتد إسحاق في التهديد حتى أجاب كل العلماء ما عدا أربعة: أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح، والقواريري، وسجَّادة، فقام إسحاق بحبسهم وتهديدهم بالضرب والحبس، فأجاب سجَّادة والقواريري فخرجا من السجن وبقي أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح، فأرسل بخبرهما إسحاق إلى الخليفة المأمون الذي استشاط غضبًا وأمر بحملهما مقيدين زميلين إلى طرسوس، وقد أقسم ليقتلهما بيده إذا لم يجيبا في هذه الفتنة، بل أشهر سيفًا ووضعه بجانبه استعدادًا لقتلهما إذا أصرا على الرفض.
حُمل أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح من بغداد إلى طرسوس، وفي الطريق وقعت عدة حوادث كان لها أثر كبير في تثبيت الإمام أحمد ورفيقه، ودللت أيضًا على أن الناس كانت كلها وراء الإمام وتؤيده وإن كانت لا تملك له شيئًا، فقد قابله بالرحبة (موضع على شاطئ الفرات على بعد مائة فرسخ من بغداد) رجل من عامة المسلمين يعمل في غزل الصوف والشعر، قد جاء لمقابلته خصيصًا من بادية العراق ليقول له: يا أحمد إن يقتلك الحق مت شهيدًا وإن عشت عشت حميدًا، وما عليك أن تقتل هاهنا وتدخل الجنة، فقوي قلب الإمام أحمد بهذه الكلمات. ثم بعد فترة استراح الركب في خان بالطريق للمسافرين، وفي الخان قابل الإمام أحمد أحد أصدقائه القدامى واسمه أبو جعفر الأنباري، والذي عبر الفرات للقاء الإمام أحمد قبل سفره إلى طرسوس، فلما رآه الإمام أحمد قال له: يا أبا جعفر تعنيت (أي كلفت نفسك مشقة السفر وعبور الفرات) فقال له أبو جعفر: يا هذا أنت اليوم رأس، والناس يقتدون بك، فوالله لئن أجبت إلى خلق القرآن ليجيبن خلق، وإن أنت لم تجب ليمتنعن خلق من الناس كثير، ومع هذا فإن الرجل إن لم يقتلك فإنك تموت، لابد من الموت، فاتق الله ولا تجب. فجعل الإمام أحمد يبكي ويقول: ما شاء الله، ثم قال: يا أبا جعفر أعد عليَّ، فأعاد عليه، وأحمد يبكي ويقول: ما شاء الله.
وفي طريق السفر كان الإمام أحمد يتهجد ويصلي في جوف الليل ويدعو الله عز وجل أن لا يرى المأمون وألا يجتمع معه أبدًا، ويلح في الدعاء، وفي رجب سنة 218هـ وقبل أن يصل الإمام أحمد ورفيقه محمد بن نوح إلى طرسوس هلك المأمون فجأة بلا مرض ولا تعب، فراح ضحية سهم من سهام الليل من قوس مظلوم بوتر مكلوم هو دعاء الإمام أحمد عليه.
الفصل الثالث: الإمام أحمد والمعتصم العباسي:
هذا الفصل هو الأشد والأروع في فصول هذه المحنة العظمى، وتجلى فيه صمود الإمام أحمد حيث أصبح وحده في الميدان بعد أن مات محمد بن نوح تطت وطأة الحبس والتنكيل، ورغم أن الخليفة المعتصم لم يكن من أهل الفكرة ولا يعتقدها في الأساس، ولكنه خاض في الفتنة وانغمر فيها لأن أخاه المأمون قد أوصاه بذلك، فحمله حبه لأخيه المأمون لأن يعمل بوصيته، بل يزيد عليها، فكان أول قرار أخذه المعتصم هو رد الإمام أحمد إلى بغداد وسجنه هناك في سجن ضيق مظلم والقيود في يديه ورجليه حتى إنه أصيب بمرض شديد في شهر رمضان، فنقلوه إلى سجن أوسع مع عموم الناس، ومكث في هذا السجن ثلاثين شهرًا.
وفي السجن أخذ رجال الاعتزال ورءوس الفتنة يأتونه واحدًا تلو الآخر ليناظروه في خلق القرآن وهو يناظرهم وتعلو حجته حججهم، وكلما غلبهم في المناظرة اشتدوا عليه وضيقوا عليه وزادوا في قيوده، وبعد عدة أيام وكانوا في شهر رمضان بدأت فصول المناظرة العلنية بحضور الخليفة المعتصم نفسه.
ولنا أن نتخيل هذا المشهد المهول الذي حضره الإمام أحمد وحده وكان في مجلس الخليفة المعتصم وفيه كل رجال البدعة والوزراء والقادة والحجَّاب والسيافون والجلادون، وكان الذي بدأ معه الكلام هو المعتصم نفسه وقد حاول استمالته وترغيبه في أول الأمر، ثم أمر علماء البدعة بمناظرته، فهزمهم الإمام كلهم، وهو يحتج عليهم بالآيات والأحاديث والآثار وهم يحتجون بكلام الفلاسفة مثل العرض والجوهر والشيء والوجود والقدم، لذلك فقد علت حجته حجتهم والإمام يقول: أعطوني شيئًا من كتاب الله وسنة رسوله، وكان قائد الشرطة عبد الرحمن بن إسحاق ـ وهو بالمناسبة ابن إسحاق بن إبراهيم القائد السابق ـ ممن يدافع عن الإمام أحمد ويقول للخليفة المعتصم: يا أمير المؤمنين أعرفه منذ ثلاثين سنة، وإنه ليرى طاعتك والحد والجهاد معك، وإنه لعالم وإنه لفقيه، ولكن في المقابل كان أحمد بن داود أشد الناس عليه ويحرض المعتصم عليه بشدة ليقتله ويقسم له أنه ضال وكافر ومبتدع.
استمرت هذه المناظرة العلنية ثلاثة أيام وكانوا في شهر رمضان، والإمام ثابت لا يتزعزع وخصومه من حوله تتساقط شبههم وبدعهم، حتى كان اليوم الرابع وكان المعتصم قد ضجر من طول المناظرة وأغراه قاضي المحنة أحمد بن داود، حتى وصل التهديد للضرب والجلد، وأحضرت الخشبة والسياط وشد أحمد على العقابين (وهما خشبتان يشد الرجل بينهما للجلد) فخلعت يداه وهو صامد، وعندها أخذت المعتصم شفقة على الإمام وأعجب بثباته وصلابته، ولكن أحمد بن أبي دؤاد أغراه وقال له: يا أمير المؤمنين تتركه فيقال غلب خليفتين؟ فعمى المعصتم لكلمته الشريرة وأمر بالإمام فأخذ الجلادون في ضربه بالسياط، يتناوبون على ضربه؛ هذا يضربه سوطين والآخر ثلاثة وهكذا، حتى إذا بلغ سبعة عشر سوطًا قام إليه المعتصم وقال له: يا أحمد علام تقتل نفسك؟! إني والله عليك لشفيق، وجعل عجيف أحد قادة الأتراك العسكريين في جيش المعتصم ينخسه بقائمة سيفه ويقول: أتريد أن تغلب هؤلاء كلهم؟ وجعل بعضهم يقول: ويلك إمامك الخليفة على رأسك قائم، وقال بعضهم: يا أمير المؤمنين دمه في عنقي، اقتله، وجعلوا يقولون: يا أمير المؤمنين أنت صائم وأنت في الشمس قائم، والمعتصم يقول: ويحك يا أحمد ما تقول؟ فيجيب الإمام بكل صمود وثبات: أعطوني شيئًا من كتاب الله أو سنة رسول الله أقول به، فيأمر المعتصم بمواصلة الضرب، ثم قال له المعتصم مرة أخرى: أجبني إلى شيء فيه أدنى فرج حتى أطلق عنك بيدي، ومع ذلك الإمام صامد، فأخذوا في ضربه حتى أغمي عليه من شدة الضرب وقد تمزق ظهره من لهيب السياط.
بعد هذا الثبات العجيب التي تعجز عن مثله الجبال الراسيات، أمر المعتصم بإطلاق سراحه، ولكن بعد أن فعل شيئًا في منتهى العجب والغرابة، وهو قيامه بإحضار أقارب الإمام أحمد وأهله وجيرانه وأشهدهم على أنه سليم البدن، وذلك خوفًا من ثورة الناس عليه إن حصل للإمام مكروه، هذا على الرغم من قوة المعتصم وشجاعته وسلطته، ولكن قوة الحق وسلطة الصمود وشجاعة الثبات الذي عليه الإمام أحمد كانت أكبر من ذلك كله، وخرج الإمام أحمد وعاد إلى بيته بعد 28 شهرًا من الحبس والضرب من سنة 218هـ حتى سنة 221هـ.
والمعتصم وإن كان هو الذي أقدم على ضرب الإمام أحمد إلا أنه لم يكن مثل المأمون مقتنعًا أو معتنقًا لهذه البدعة، وكان يود لو أطلق سراح أحمد بلا ضرب، ولكن رءوس الضلالة أوغروا صدره وأشعلوا غضبه حتى أقدم على جناية ضرب الإمام، لذلك فلقد جعله الإمام أحمد في حلٍ من هذه الجناية وذلك يوم أن جاءه خبر فتح عمورية سنة 223هـ.
الفصل الرابع: الإمام أحمد والواثق العباسي:
ظل أحمد بعد خروجه من سجن المعتصم يعالج في بيته فترة طويلة من آثار الضرب والتعذيب حتى تماثل للشفاء، وأخذ يحضر الجمعة والجماعة ويحدث الناس ويفتي حتى مات المعتصم، وولي مكانه ابنه الواثق، وكان قد تربى في حجر قاضي المحنة أحمد بن أبي دؤاد فشربه البدعة منذ صغره ، فكان الواثق من أشد وأخبث الناس في القول بالبدعة، حيث أظهرها بقوة وأجبر الناس عليها وأطلق يد أحمد بن أبي دؤاد فيها، فكان يفرق بين الرجل الذي لا يقول ببدعته وبين امرأته ويأمر المعلمين بتعليم الصبيان في المكاتب هذه البدعة الخبيثة، وبلغ الأمر ذروته عندما كان أحمد بن أبي دؤاد يمتحن أسرى المسلمين عند الروم، فمن قال ببدعة خلق القرآن افتداه، ومن امتنع يتركه أسيرًا بيد الروم حتى ضج الناس وضاقت نفوسهم.
بلغ الأمر بالناس ذروته من فجاجة نشر البدعة وتسلط المعتزلة على الناس حتى أقدمت مجموعة من أهل بغداد بقيادة أحمد بن نصر الخزاعي على التحضير للخروج على حكم الخليفة الواثق العباسي وخلعه من الخلافة، وذهب نفر منهم للإمام أحمد لاستفتائه في الخروج وعددوا له مساوئ الواثق وجرائمه وبدعه، فلم يوافق الإمام أحمد على ذلك ومنعهم وناظرهم في القضية وأمرهم بالصبر وذلك من فقه وورع ودين الإمام أحمد، على الرغم من الأذى والاضطهاد والعذاب الشديد الذي ناله الإمام على يد هذه الحكومة الجائرة المبتدعة والتي لو خرج عليها الإمام أحمد ما لامه أحد، إلا إنه قد أدرك أن المفاسد المترتبة على الخروج أعظم وأكبر من المصالح المتوقعة من وراء إسقاطها، والذي توقعه الإمام قد وقع بالفعل، فلقد فشلت حركة الخزاعي وراح فيها الكثيرون.
وعلى الرغم من الدور الذي لعبه الإمام أحمد في إقناع الكثيرين بعدم الخروج على الواثق، إلا إن الواثق قد قابل ذلك بفعل شرير بالغ السوء حيث أمر بنفيه من بغداد وأرسل إليه يقول: «لا يجتمعن إليك أحد ولا تساكني بأرض ولا مدينة أنا فيها»، فخرج الإمام من بيته واختبأ بدار أحد تلاميذه عدة أيام، ثم انتقل إلى موضع آخر فمكث فيه عدة شهور حتى هدأ الطلب عليه، ثم تحول إلى مكان آخر وظل هكذا لا يستطيع أن يخرج إلى صلاة ولا إلى مجلس علم وتحديث حتى هلك الواثق العباسي سنة 231هـ، فخرج الإمام للناس وجلس للتحدث، وذلك أن المتوكل الذي ولي بعد الواثق كان على مذهب أهل السنة وقد أمر برفع البدعة وإظهار السنة، وأيضًا لم يسلم الإمام من الفتنة أيام المتوكل ولكنها كانت فتنة بالسراء ليس بالضراء، ذلك أن المتوكل قد أفاض عليه بالأموال والعطايا الجزيلة وحاول استمالته ليسكن مدينة سامراء ويترك بغداد، وأن يتولى تعليم وتأديب ولده «المعتز» ولكن الإمام رفض ذلك بشدة وعانى بسبب هذا الرفض معاناة شديدة.
ثناء الناس على الإمام:
كان الناس يثنون على الإمام أحمد بن حنبل قبل أحداث الفتنة والمحنة، فلما رأوا ثباته وصموده وحده أمام حكومة البدعة ودولة الاعتزال زاد ثناؤهم وتقديرهم للإمام، حتى لربما خرج لطور المغالاة والمدح الزائد عن الشرع، ومن يقرأ في ترجمة الإمام في كتاب حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني يجد نماذج كثيرة لهذا الغلو ربما خرج لحد السخف كما يقول الحافظ الذهبي، لذلك نقتصر في هذا المقام على ما ذكره ثقات العلماء وصحاح الآثار:
قال قتيبة بن سعيد: خير أهل زماننا ابن المبارك، ثم هذا الشاب، يعني أحمد بن حنبل، وإذا رأيت رجلاً يحب أحمد فاعلم أنه صاحب سنة، ولو أدرك عصر الثوري والأوزاعي والليث لكان هو المقدم عليهم، وقال أيضًا: لولا الثوري لمات الورع ولولا أحمد لأحدثوا في الدين، أحمد إمام الدنيا.
قال الشافعي: خرجت من بغداد فما خلفت بها رجلاً أفضل ولا أعلم ولا أفقه ولا أتقى من أحمد بن حنبل.
قال علي بن المديني: أعز الله الدين بالصديق يوم الردة وبأحمد يوم المحنة، وقال أيضًا: أحمد أفضل عندي من سعيد بن جبير في زمانه، لأن سعيدًا كان له نظراء.
قال ابن خزيمة: رحم الله أحمد بن حنبل، عن الدنيا ما كان أصبره، وبالماضين ما كان أشبهه، وبالصالحين ما كان ألحقه، عرضت له الدنيا فأباها، والبدع فنفاها.
قال بشر الحافي: قام أحمد مقام الأنبياء، وأحمد عندنا امتحن بالسراء والضراء فكان فيهما معتصمًا بالله.
والخلاصة:
أن هذه المحنة التي وقعت عامة بأرض الإسلام لم يصمد فيها سوى الإمام أحمد، وقد تداوله ثلاثة خلفاء يسلطون عليه من شرق الأرض إلى غربها ومعهم من العلماء المتكلمين والقضاة والوزراء والأمراء والولاة والقادة العسكريين، فبعضهم تسلط عليه بالحبس وبعضهم بالتهديد والوعيد بالقتل، وبعضهم جلده وعذبه وألقاه في غياهب السجون، وبعضهم بالنفي والتشريد والمطاردة، ثم كانت فتنة السراء أيام المتوكل، وقد خذله في ذلك أهل الأرض حتى أصحابه العلماء والصالحون وهو مع ذلك لا يجيبهم إلى كلمة واحدة مما طلبوا منه، وما رجع عما جاء به الكتاب والسنة ولا كتم العلم ولا استعمل التقية، بل قد أظهر من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثاره ما قمع به البدعة، ورفض كل المحاولات التي بذلها معه قرناؤه العلماء في إقناعه بقبول التقية، ورأى أن التقية لا تجوز إلا للمستضعفين الذين يخشون ألا يثبتوا على الحق والذين هم ليسوا بموضع القدوة للناس، أما أولو العزم من الأئمة الهداة فإنهم يأخذون بالعزيمة ويحتملون الأذى ويثبتون، والإمام أحمد كان يرى نفسه ولم يبق أحد سواه أمام البدعة مسئولاً عن إخمادها والصمود أمامها مهما تكن العواقب، ولو أخذ بالتقية والرخصة لاستساغ الناس الرخصة ولضلوا من وراءها، ولذلك كان الإمام أحمد هو إمام أهل السنة وهو جبل الحق والسنة يوم أن حكمت البدعة، وثباته بإذن الله عز وجل كان ثباتًا للدين والسنة وإنما تنال الإمامة بالصبر واليقين كما قال ربنا رب العالمين: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ﴾ [السجدة:24].