سكون الليل
2010-04-10, 03:09 AM
إبطال التثليث بالبراهين العقلية
(البرهان الأول)
لما كان التثليث والتوحيد حقيقيين عند المسيحيين فإذا وجد التثليث الحقيقي لا بد من أن توجد الكثرة الحقيقية ولا يمكن بعد ثبوتها التوحيد الحقيقي وإلا يلزم اجتماع الضدين الحقيقيين بحكم الأمر السابع من المقدمة وهو محال، فلزم تعدد الوجباء وفات التوحيد يقيناً. فقائل التثليث لا يمكن أن يكون موحداً للّه تعالى بالتوحيد الحقيقي، والقول بأن التثليث الحقيقي والتوحيد الحقيقي وإن كانا ضدين حقيقين في غير الواجب لكنهما ما ليسا كذلك، فيه سفسطة محضة لأنه إذا ثبت أن الشيئين بالنظر إلى ذاتيهما ضدان حقيقيان أو نقيضان في نفس الأمر فلا يمكن اجتماعهما في أمر واحد شخصي في زمان واحد من جهة واحدة واجباً كان ذلك الأمر أو غير واجب، كيف وإن الواحد الحقيقي ليس له ثلث صحيح والثلاثة لها ثلث صحيح، وهو واحد وأن الثلاثة مجموع آحاد ثلاثة، والواحد الحقيقي ليس مجموع آحاد رأساً، وإن الواحد الحقيقي جزء الثلاثة فلو اجتمعا في محل واحد يلزم كون الجزء كلاً والكل جزءاً وأن هذا الاجتماع يستلزم كونَ الله مركّباً من أجزاء غير متناهية بالفعل لاتحاد حقيقة الكل والجزء على هذا التقدير، والكل مركب، فكل جزء من أجزائه أيضاً مركب من الأجزاء التي تكون عين هذا الجزء وهلم جرّا، وكون الشيء مركّباً من أجزاء غير متناهية بالفعل باطل قطعاً، وأن هذا الاجتماع يستلزم كون الواحد ثُلث نفسه وكون الثلاثة ثلاثة أمثال نفسها، والواحد ثلاثة أمثال الثلاثة.
(البرهان الثاني)
لو وُجِد في ذات الله ثلاثة أقانيم ممتازة بامتياز حقيقي كما قالوا فمع قطع النظر عن تعدد الوجباء يلزم أن لا يكون الله حقيقة محصَّلة بل مركباً اعتبارياً فإن التركيب الحقيقي لا بد فيه من الافتقار بين الأجزاء، فإن الحجر الموضوع يجنب الإنسان لا يحصل منهما أحدية، ولا افتقار بين الواجبات، لأنه من خواص الممكنات، فالواجب لا يفتقر إلى الغير وكل جزء منفصل عن الآخر وغيرُه وإن كان داخلاً في المجموع، فإذا لم يفتقر بعض الأجزاء إلى بعض آخر لم تتألف منها الذات الأحدية، على أنه يكون الله في الصورة المذكورة مركباً، وكل مركب يفتقر في تحققه إلى تحقق كل واحد من أجزائه، والجزء غير الكل بالبداهة، فكل مركب مفتقر إلى غيره، وكل مفتقر إلى غيره ممكن لذاته فيلزم أن يكون الله ممكناً لذاته وهذا باطل.
(البرهان الثالث)
إذا ثبت الامتياز الحقيقي بين الأقانيم فالأمرالذي حصل به هذا الامتياز إما أن يكون من صفات الكمال أو لا يكون، فعلى الشِّق الأول لم يكن جميع صفات الكمال مشتركاً فيه بينهم، وهو خلاف ما تقرر عندهم أن كل أقنوم من هذه الأقانيم متصف بجميع صفات الكمال، وعلى الشق الثاني فالموصوف به يكون موصوفاً بصفة ليست من صفات الكمال، وهذا نقصان يجب تنزيه الله عنه.
(البرهان الرابع)
الاتحاد بين الجوهر اللاهوتي والناسوتي إذا كان حقيقياً لكان أقنوم الابن محدوداً متناهياً وكل ما كان كذلك كان قبوله للزيادة والنقصان ممكناً، وكل ما كان كذلك كان اختصاصه بالمقدار المعين لتخصيص مخصص وتقدير مقدّر، وكل ما كان كذلك فهو محدث فيلزم أن يكون أقنوم الابن محدثاً ويستلزم حدوثه حدوث الله.
(البرهان الخامس)
لو كان الأقانيم الثلاثة ممتازة بامتياز حقيقي وجب أن يكون المميِّز غير الوجوب الذاتي، لأنه مشترك بينهم، وما به الاشتراك غير ما به الامتياز فيكون كل واحد منهم مركباً من جزأين وكل مركب ممكن لذاته، فيلزم أن يكون كل واحد منهم ممكناً لذاته.
(البرهان السادس)
مذهب اليعقوبية باطل صريح لأنه يستلزم انقلاب القديم بالحادث والمجرد بالمادي، وأما مذهب غيرهم فيقال في إبطاله: إن هذا الاتحاد إما بالحلول أو بغيره فإن كان الأول فهو باطل من وجوه ثلاثة على وَفق عدد التثليث.
أما أولاً فلأن ذلك الحلول لا يخلو إما أن يكون كحلول ماء الورد في الورد والدهن في السمسم والنار في الفحم، وهذا باطل لأنه إنما يصح لو كان أقنوم الابن جسماً، وهم وافقونا على أنه ليس بجسم، وإما أن يكون كحصول اللون في الجسم وهذا أيضاً باطل لأن المعقول من هذه التبعية حصول اللون في الحيِّز لحصول محله في هذا الحيز، وهذا أيضاً إنما يُتَصّور في الأجسام، وإما أن يكون كحصول الصفات الإضافية للذوات، وهذا أيضاً باطل لأن المعقول من هذه التبعية الاحتياج، فلو ثبت حلول أقنوم الابن بهذا المعنى في شيء كان محتاجاً فكان ممكناً مفتقراً إلى المؤثر وذلك محال، وإذا ثبت بطلان جميع التقارير امتنع إثباته.
وأما ثانياً فلأنا لو قطعنا النظر عن معنى الحلول نقول: إن أقنوم الابن لو حلّ في الجسم فذلك الحلول إما أن يكون على سبيل الوجوب أو على سبيل الجواز، ولا سبيل إلى الأول لأن ذاته إما أن تكون كافية في اقتضاء هذا الحلول أو لا تكون كافية في ذلك، فإن كان الأول استحال توقف ذلك الاقتضاء على حصول شرط فيلزم إما حدوث الله أو قدم المحل، وكلاهما باطلان وإن كان الثاني كان كونه مقتضياً لذلك الحلول أمراً زائداً على ذاته حادثاً فيه، فيلزم من حدوث الحلول حدوث شيء فيه فيكون قابلاً للحوادث، وذلك محال لأنه لو كان كذلك لكانت تلك القابلية من لوازم ذاته، وكانت حاصلة أزلاً، وذلك محال لأن وجود الحوادث في الأزل محال، ولا سبيل إلى الثاني على هذا التقدير يكون ذلك الحلول زائداً على ذات الأقنوم فإذا حل في الجسم وجب أن يحل فيه صفة محدثة، وحلولها يستلزم كونه قابلاً للحوادث، وهو باطل كما عرفت. وأما ثالثاً فلأن أقنوم الابن إذا حل في جسم عيسى عليه السلام فلا يخلو إما أن يكون باقياً في ذات الله أيضاً أو لا فإن كان الأول لزم أن يوجد الحال الشخصي في محلين، وإن كان الثاني لزم أن يكون ذات الله خالية عنه فينتفي لأن انتفاء الجزء يستلزم انتفاء الكل، وإن كان ذلك الاتحاد بدون الحلول فنقول إنّ أقنوم الابن إذا اتحد بالمسيح عليه السلام فهما في حال الاتحاد إن كانا موجودين فهما اثنان لا واحد فلا اتحاد، وإن عدما وحصل ثالث فهو أيضاً لا يكون اتحاداً بل عدم الشيئين وحصول شيء ثالث، وإن بقي أحدهما وعدم الآخر فالمعدوم يستحيل أن يتحد بالموجود لأنه يستحيل أن يقال المعدوم بعينه هو الموجود، فظهر أن الاتحاد محال، ومن قال إن الاتحاد على جهة الظهور كظهور كتابة الخاتم إذا وقع على طين أو شمع أو كظهور صورة الإنسان في المرآة فقوله لا يثبت الاتحاد الحقيقي بل يثبت التغاير، لأنه كما أن كتابة الخاتم الظاهرة على طين أو شمع غير الخاتم وصورة الإنسان في المرآة غير الإنسان، فكذلك يكون أقنوم الابن غير المسيح عليه السلام، بل غاية ما يلزم أن يكون ظهور أثر صفة الأقنوم فيه أكثر من ظهوره في غيره، كما أن ظهور تأثير شعاع الشمس في بدخشان في بعض الأحجار التي تتولد منها الجواهر المعروفة أزيد من تأثيره في الأحجار التي هي غير تلك الأحجار، ولنعم ما قيل:
محال لا يساويه محال * وقول في الحقيقة لا يقال
وفكر كاذب وحديث زور * بدا منهم ومنشؤه الخيال
تعالى الله ما قالوه كفر * وذنب في العواقب لا يقال.
(البرهان السابع)
فرقة البروتستنت ترد على فرقة الكاثوليك في استحالة الخبز إلى المسيح في العشاء الرباني بشهادة الحس وتستهزئ بها، فهذا الرد والهزء يرجعان إليهما أيضاً لأن الذي رأى المسيح ما رأى منه إلا شخصاً واحداً إنساناً، وتكذيب أصدق الحواس الذي هو البصر يفتح باب السفسطة في الضروريات، فيكون القول به باطلاً كالقول بالاستحالة، والجهلاء من المسيحيين من أية فرقة من فرق أهل التثليث كانوا قد ضلوا في هذه العقيدة ضلالاً بيناً، ولا يميزون بين الجوهر اللاهوتي والناسوتي كما يميز بحسب الظاهر علماؤهم، بل يعتقدون ألوهية المسيح عليه السلام باعتبار الجوهر الناسوتي ويخبطون خبطاً عظيماً، نقل أنه تنصر ثلاثة أشخاص وعلمهم بعض القسيسين العقائد الضرورية سيما عقيدة التثليث أيضاً، وكانوا في خدمته فجاء محب من أحبَّاء هذا القسيس وسأله عمن تنصر؟ فقال: ثلاثة أشخاص تنصروا، فسأل هذا المحب: هل تعلموا شيئاً من العقائد الضرورية، فقال: نعم، وطلب واحداً منهم ليرى محبه فسأله عن عقيدة التثليث، فقال: إنك علمتني أن الآلهة ثلاثة أحدهم الذي هو في السماء والثاني تولد من بطن مريم العذراء والثالث الذي نزل في صورة الحمام على الإله الثاني بعد ما صار ابن ثلاثين سنة، فغضب القسيس وطرده، وقال: هذا مجهول، ثم طلب الآخر منهم وسأله فقال: إنك علمتني أن الآلهة كانوا ثلاثة وصلب واحد منهم فالباقي إلهان، فغضب عليه القسيس أيضاً وطرده، ثم طلب الثالث وكان ذكياً بالنسبة إلى الأولين وحريصاً في حفظ العقائد فسأله فقال: يا مولاي حفظت ما علمتني حفظاً جيداً وفهمت فهماً كاملاً بفضل الرب المسيح أن الواحد ثلاثة والثلاثة واحد وصلب واحد منهم ومات فمات الكل لأجل الاتحاد، ولا إله الآن وإلا يلزم نفي الاتحاد
(أقول)
لا تقصير للمسؤولين فإن هذه العقيدة يخبط فيها الجهلاء هكذا ويتحير علماؤهم، ويعترفون بأنا نعتقد ولا نفهم، ويعجزون عن تصويرها وبيانها، ولذا قال الفخر الرازي في تفسيره ذيل تفسير سورة النساء: "واعلم أن مذهب النصارى مجهول جداً" ثم قال: "لا نرى مذهباً في الدنيا أشدّ ركاكة وبعداً من العقل من مذهب النصارى" وقال في تفسير سورة المائدة: "ولا نرى في الدنيا مقالة أشد فساداً وأظهر بطلاناً من مقالة النصارى" فإذا علمت بالبراهين العقلية القطعية أن التثليث الحقيقي ممتنع في ذات الله فلو وجد قول من الأقوال المسيحية دالاً بحسب الظاهر على التثليث يجب تأويله، لأنه لا يخلو إما أن نعمل بكل واحد من دلالة البراهين ودلالة القول. وإما أن نتركهما، وإما أن نرجح النقل على العقل، وإما أن نرجح العقل على النقل، والأول باطل قطعاً ولا يلزم كون الشيء الواحد ممتنعاً وغير ممتنع في نفس الأمر، والثاني أيضاً محال وإلا يلزم ارتفاع النقيضين، والثالث أيضاً لا يجوز لأن العقل أصل النقل فإن ثبوت النقل موقوف على وجود الصانع وعلمه وقدرته وكونه مرسلاً للرسل، وثبوتها بالدلائل العقلية، فالقدح في العقل قدح في العقل والنقل معاً، فلم يبق إلا أن نقطع بصحة العقل ونشتغل بتأويل النقل، والتأويل عند أهل الكتاب ليس بنادر ولا قليل لما عرفت في الأمر الثالث من المقدمة أنهم يؤولون الآيات الغير المحصورة الدالة على جسمية الله وشكله لأجل الآيتين اللتين مضمونهما مطابق للبرهان العقلي، وكذلك يؤولون الآيات الكثيرة الغير المحصورة الدالة على المكان للّه تعالى لأجل الآيات القليلة الموافقة للبرهان، وعرفت في الأمر الرابع والخامس أيضاً مثله مشروحاً لكن العجب من عقلاء الكاثلك ومَنْ تبعهم أنهم تارةً يبطلون حكم الحس والعقل معاً، ويحكمون أن الخبز والخمر اللذين حدثا بين أعيننا بعد مدة أزيد من ألف وثمانمائة سنة من عروج المسيح عليه السلام يتحولان في العشاء الرباني إلى لحمه ودمه حقيقة فيعبدونهما ويسجدون لهما، وتارةً يبطلون حكم العقل والبداهة وينبذون البراهين العقلية وراء ظهورهم، ويقولون: التثليث الحقيقي والتوحيد الحقيقي يمكن اجتماعهما في أمر واحد شخصي في زمان واحد من جهة واحدة، والعجب من فرقة البروتستنت أنهم خالفوهم في الأولى دون الثانية، فلو كان العمل على ظاهر النقل ضرورياً وإن كان مخالفاً للحس والعقل فالإنصاف أن فرقة الكاثلك خير من فرقتهم لأنها بالغت في إطاعة ظاهر قول المسيح عليه السلام حتى اعترفت بمعبودية ما يصادمه الحس والبداهة، وكما أن أهل التثليث يغالون في شأن المسيح عليه السلام ويوصلونه إلى رتبة الألوهية فكذلك يفرطون في شأنه وشأن آبائه فيعتقدون أنه لعن وبعد ما مات نزل جهنم وأقام فيها ثلاثة أيامٍ كما ستعرف، وأن داود وسليمان عليهما السلام وكذا الآباء الآخرون للمسيح عليه السلام في أولاد فارض الذي ولدته تامارا بالزنا من يهوذا، وأن داود عليه السلام زنى بامرأة أوريا وأن سليمان عليه السلام ارتد في آخر عمره كما عرفت.
وكان سيل من العلماء المسيحية، وكان قد حصل بعض العلوم الإسلامية أيضاً، وكان ترجم القرآن المجيد بلسانه وترجمته مقبولة عند المسيحيين وصَّى قومه في بعض الأمور، وأنقل وصيته عن ترجمته المطبوعة سنة 1836 من الميلاد: الأول: "لا يقع الجبر منكم على المسلمين، والثاني: لا تعلموهم المسائل التي هي مخالفة للعقل، لأنهم ليسوا حمقاء نغلب عليهم في هذه المسائل كعبادة الصنم والعشاء الرباني، لأنهم يعثرون كثيراً من هذه المسائل، وكل كنيسة فيها هذه المسائل لا تقدر أن تجذبهم إلى نفسها" فانظر كيف وصى وأظهر أن مثل عبادة الصنم ومسألة العشاء الرباني مخالفة للعقل الإنصاف، إن أهل هذه المسائل مشركون يقيناً
هداهم الله إلى الصراط المستقيم.
(البرهان الأول)
لما كان التثليث والتوحيد حقيقيين عند المسيحيين فإذا وجد التثليث الحقيقي لا بد من أن توجد الكثرة الحقيقية ولا يمكن بعد ثبوتها التوحيد الحقيقي وإلا يلزم اجتماع الضدين الحقيقيين بحكم الأمر السابع من المقدمة وهو محال، فلزم تعدد الوجباء وفات التوحيد يقيناً. فقائل التثليث لا يمكن أن يكون موحداً للّه تعالى بالتوحيد الحقيقي، والقول بأن التثليث الحقيقي والتوحيد الحقيقي وإن كانا ضدين حقيقين في غير الواجب لكنهما ما ليسا كذلك، فيه سفسطة محضة لأنه إذا ثبت أن الشيئين بالنظر إلى ذاتيهما ضدان حقيقيان أو نقيضان في نفس الأمر فلا يمكن اجتماعهما في أمر واحد شخصي في زمان واحد من جهة واحدة واجباً كان ذلك الأمر أو غير واجب، كيف وإن الواحد الحقيقي ليس له ثلث صحيح والثلاثة لها ثلث صحيح، وهو واحد وأن الثلاثة مجموع آحاد ثلاثة، والواحد الحقيقي ليس مجموع آحاد رأساً، وإن الواحد الحقيقي جزء الثلاثة فلو اجتمعا في محل واحد يلزم كون الجزء كلاً والكل جزءاً وأن هذا الاجتماع يستلزم كونَ الله مركّباً من أجزاء غير متناهية بالفعل لاتحاد حقيقة الكل والجزء على هذا التقدير، والكل مركب، فكل جزء من أجزائه أيضاً مركب من الأجزاء التي تكون عين هذا الجزء وهلم جرّا، وكون الشيء مركّباً من أجزاء غير متناهية بالفعل باطل قطعاً، وأن هذا الاجتماع يستلزم كون الواحد ثُلث نفسه وكون الثلاثة ثلاثة أمثال نفسها، والواحد ثلاثة أمثال الثلاثة.
(البرهان الثاني)
لو وُجِد في ذات الله ثلاثة أقانيم ممتازة بامتياز حقيقي كما قالوا فمع قطع النظر عن تعدد الوجباء يلزم أن لا يكون الله حقيقة محصَّلة بل مركباً اعتبارياً فإن التركيب الحقيقي لا بد فيه من الافتقار بين الأجزاء، فإن الحجر الموضوع يجنب الإنسان لا يحصل منهما أحدية، ولا افتقار بين الواجبات، لأنه من خواص الممكنات، فالواجب لا يفتقر إلى الغير وكل جزء منفصل عن الآخر وغيرُه وإن كان داخلاً في المجموع، فإذا لم يفتقر بعض الأجزاء إلى بعض آخر لم تتألف منها الذات الأحدية، على أنه يكون الله في الصورة المذكورة مركباً، وكل مركب يفتقر في تحققه إلى تحقق كل واحد من أجزائه، والجزء غير الكل بالبداهة، فكل مركب مفتقر إلى غيره، وكل مفتقر إلى غيره ممكن لذاته فيلزم أن يكون الله ممكناً لذاته وهذا باطل.
(البرهان الثالث)
إذا ثبت الامتياز الحقيقي بين الأقانيم فالأمرالذي حصل به هذا الامتياز إما أن يكون من صفات الكمال أو لا يكون، فعلى الشِّق الأول لم يكن جميع صفات الكمال مشتركاً فيه بينهم، وهو خلاف ما تقرر عندهم أن كل أقنوم من هذه الأقانيم متصف بجميع صفات الكمال، وعلى الشق الثاني فالموصوف به يكون موصوفاً بصفة ليست من صفات الكمال، وهذا نقصان يجب تنزيه الله عنه.
(البرهان الرابع)
الاتحاد بين الجوهر اللاهوتي والناسوتي إذا كان حقيقياً لكان أقنوم الابن محدوداً متناهياً وكل ما كان كذلك كان قبوله للزيادة والنقصان ممكناً، وكل ما كان كذلك كان اختصاصه بالمقدار المعين لتخصيص مخصص وتقدير مقدّر، وكل ما كان كذلك فهو محدث فيلزم أن يكون أقنوم الابن محدثاً ويستلزم حدوثه حدوث الله.
(البرهان الخامس)
لو كان الأقانيم الثلاثة ممتازة بامتياز حقيقي وجب أن يكون المميِّز غير الوجوب الذاتي، لأنه مشترك بينهم، وما به الاشتراك غير ما به الامتياز فيكون كل واحد منهم مركباً من جزأين وكل مركب ممكن لذاته، فيلزم أن يكون كل واحد منهم ممكناً لذاته.
(البرهان السادس)
مذهب اليعقوبية باطل صريح لأنه يستلزم انقلاب القديم بالحادث والمجرد بالمادي، وأما مذهب غيرهم فيقال في إبطاله: إن هذا الاتحاد إما بالحلول أو بغيره فإن كان الأول فهو باطل من وجوه ثلاثة على وَفق عدد التثليث.
أما أولاً فلأن ذلك الحلول لا يخلو إما أن يكون كحلول ماء الورد في الورد والدهن في السمسم والنار في الفحم، وهذا باطل لأنه إنما يصح لو كان أقنوم الابن جسماً، وهم وافقونا على أنه ليس بجسم، وإما أن يكون كحصول اللون في الجسم وهذا أيضاً باطل لأن المعقول من هذه التبعية حصول اللون في الحيِّز لحصول محله في هذا الحيز، وهذا أيضاً إنما يُتَصّور في الأجسام، وإما أن يكون كحصول الصفات الإضافية للذوات، وهذا أيضاً باطل لأن المعقول من هذه التبعية الاحتياج، فلو ثبت حلول أقنوم الابن بهذا المعنى في شيء كان محتاجاً فكان ممكناً مفتقراً إلى المؤثر وذلك محال، وإذا ثبت بطلان جميع التقارير امتنع إثباته.
وأما ثانياً فلأنا لو قطعنا النظر عن معنى الحلول نقول: إن أقنوم الابن لو حلّ في الجسم فذلك الحلول إما أن يكون على سبيل الوجوب أو على سبيل الجواز، ولا سبيل إلى الأول لأن ذاته إما أن تكون كافية في اقتضاء هذا الحلول أو لا تكون كافية في ذلك، فإن كان الأول استحال توقف ذلك الاقتضاء على حصول شرط فيلزم إما حدوث الله أو قدم المحل، وكلاهما باطلان وإن كان الثاني كان كونه مقتضياً لذلك الحلول أمراً زائداً على ذاته حادثاً فيه، فيلزم من حدوث الحلول حدوث شيء فيه فيكون قابلاً للحوادث، وذلك محال لأنه لو كان كذلك لكانت تلك القابلية من لوازم ذاته، وكانت حاصلة أزلاً، وذلك محال لأن وجود الحوادث في الأزل محال، ولا سبيل إلى الثاني على هذا التقدير يكون ذلك الحلول زائداً على ذات الأقنوم فإذا حل في الجسم وجب أن يحل فيه صفة محدثة، وحلولها يستلزم كونه قابلاً للحوادث، وهو باطل كما عرفت. وأما ثالثاً فلأن أقنوم الابن إذا حل في جسم عيسى عليه السلام فلا يخلو إما أن يكون باقياً في ذات الله أيضاً أو لا فإن كان الأول لزم أن يوجد الحال الشخصي في محلين، وإن كان الثاني لزم أن يكون ذات الله خالية عنه فينتفي لأن انتفاء الجزء يستلزم انتفاء الكل، وإن كان ذلك الاتحاد بدون الحلول فنقول إنّ أقنوم الابن إذا اتحد بالمسيح عليه السلام فهما في حال الاتحاد إن كانا موجودين فهما اثنان لا واحد فلا اتحاد، وإن عدما وحصل ثالث فهو أيضاً لا يكون اتحاداً بل عدم الشيئين وحصول شيء ثالث، وإن بقي أحدهما وعدم الآخر فالمعدوم يستحيل أن يتحد بالموجود لأنه يستحيل أن يقال المعدوم بعينه هو الموجود، فظهر أن الاتحاد محال، ومن قال إن الاتحاد على جهة الظهور كظهور كتابة الخاتم إذا وقع على طين أو شمع أو كظهور صورة الإنسان في المرآة فقوله لا يثبت الاتحاد الحقيقي بل يثبت التغاير، لأنه كما أن كتابة الخاتم الظاهرة على طين أو شمع غير الخاتم وصورة الإنسان في المرآة غير الإنسان، فكذلك يكون أقنوم الابن غير المسيح عليه السلام، بل غاية ما يلزم أن يكون ظهور أثر صفة الأقنوم فيه أكثر من ظهوره في غيره، كما أن ظهور تأثير شعاع الشمس في بدخشان في بعض الأحجار التي تتولد منها الجواهر المعروفة أزيد من تأثيره في الأحجار التي هي غير تلك الأحجار، ولنعم ما قيل:
محال لا يساويه محال * وقول في الحقيقة لا يقال
وفكر كاذب وحديث زور * بدا منهم ومنشؤه الخيال
تعالى الله ما قالوه كفر * وذنب في العواقب لا يقال.
(البرهان السابع)
فرقة البروتستنت ترد على فرقة الكاثوليك في استحالة الخبز إلى المسيح في العشاء الرباني بشهادة الحس وتستهزئ بها، فهذا الرد والهزء يرجعان إليهما أيضاً لأن الذي رأى المسيح ما رأى منه إلا شخصاً واحداً إنساناً، وتكذيب أصدق الحواس الذي هو البصر يفتح باب السفسطة في الضروريات، فيكون القول به باطلاً كالقول بالاستحالة، والجهلاء من المسيحيين من أية فرقة من فرق أهل التثليث كانوا قد ضلوا في هذه العقيدة ضلالاً بيناً، ولا يميزون بين الجوهر اللاهوتي والناسوتي كما يميز بحسب الظاهر علماؤهم، بل يعتقدون ألوهية المسيح عليه السلام باعتبار الجوهر الناسوتي ويخبطون خبطاً عظيماً، نقل أنه تنصر ثلاثة أشخاص وعلمهم بعض القسيسين العقائد الضرورية سيما عقيدة التثليث أيضاً، وكانوا في خدمته فجاء محب من أحبَّاء هذا القسيس وسأله عمن تنصر؟ فقال: ثلاثة أشخاص تنصروا، فسأل هذا المحب: هل تعلموا شيئاً من العقائد الضرورية، فقال: نعم، وطلب واحداً منهم ليرى محبه فسأله عن عقيدة التثليث، فقال: إنك علمتني أن الآلهة ثلاثة أحدهم الذي هو في السماء والثاني تولد من بطن مريم العذراء والثالث الذي نزل في صورة الحمام على الإله الثاني بعد ما صار ابن ثلاثين سنة، فغضب القسيس وطرده، وقال: هذا مجهول، ثم طلب الآخر منهم وسأله فقال: إنك علمتني أن الآلهة كانوا ثلاثة وصلب واحد منهم فالباقي إلهان، فغضب عليه القسيس أيضاً وطرده، ثم طلب الثالث وكان ذكياً بالنسبة إلى الأولين وحريصاً في حفظ العقائد فسأله فقال: يا مولاي حفظت ما علمتني حفظاً جيداً وفهمت فهماً كاملاً بفضل الرب المسيح أن الواحد ثلاثة والثلاثة واحد وصلب واحد منهم ومات فمات الكل لأجل الاتحاد، ولا إله الآن وإلا يلزم نفي الاتحاد
(أقول)
لا تقصير للمسؤولين فإن هذه العقيدة يخبط فيها الجهلاء هكذا ويتحير علماؤهم، ويعترفون بأنا نعتقد ولا نفهم، ويعجزون عن تصويرها وبيانها، ولذا قال الفخر الرازي في تفسيره ذيل تفسير سورة النساء: "واعلم أن مذهب النصارى مجهول جداً" ثم قال: "لا نرى مذهباً في الدنيا أشدّ ركاكة وبعداً من العقل من مذهب النصارى" وقال في تفسير سورة المائدة: "ولا نرى في الدنيا مقالة أشد فساداً وأظهر بطلاناً من مقالة النصارى" فإذا علمت بالبراهين العقلية القطعية أن التثليث الحقيقي ممتنع في ذات الله فلو وجد قول من الأقوال المسيحية دالاً بحسب الظاهر على التثليث يجب تأويله، لأنه لا يخلو إما أن نعمل بكل واحد من دلالة البراهين ودلالة القول. وإما أن نتركهما، وإما أن نرجح النقل على العقل، وإما أن نرجح العقل على النقل، والأول باطل قطعاً ولا يلزم كون الشيء الواحد ممتنعاً وغير ممتنع في نفس الأمر، والثاني أيضاً محال وإلا يلزم ارتفاع النقيضين، والثالث أيضاً لا يجوز لأن العقل أصل النقل فإن ثبوت النقل موقوف على وجود الصانع وعلمه وقدرته وكونه مرسلاً للرسل، وثبوتها بالدلائل العقلية، فالقدح في العقل قدح في العقل والنقل معاً، فلم يبق إلا أن نقطع بصحة العقل ونشتغل بتأويل النقل، والتأويل عند أهل الكتاب ليس بنادر ولا قليل لما عرفت في الأمر الثالث من المقدمة أنهم يؤولون الآيات الغير المحصورة الدالة على جسمية الله وشكله لأجل الآيتين اللتين مضمونهما مطابق للبرهان العقلي، وكذلك يؤولون الآيات الكثيرة الغير المحصورة الدالة على المكان للّه تعالى لأجل الآيات القليلة الموافقة للبرهان، وعرفت في الأمر الرابع والخامس أيضاً مثله مشروحاً لكن العجب من عقلاء الكاثلك ومَنْ تبعهم أنهم تارةً يبطلون حكم الحس والعقل معاً، ويحكمون أن الخبز والخمر اللذين حدثا بين أعيننا بعد مدة أزيد من ألف وثمانمائة سنة من عروج المسيح عليه السلام يتحولان في العشاء الرباني إلى لحمه ودمه حقيقة فيعبدونهما ويسجدون لهما، وتارةً يبطلون حكم العقل والبداهة وينبذون البراهين العقلية وراء ظهورهم، ويقولون: التثليث الحقيقي والتوحيد الحقيقي يمكن اجتماعهما في أمر واحد شخصي في زمان واحد من جهة واحدة، والعجب من فرقة البروتستنت أنهم خالفوهم في الأولى دون الثانية، فلو كان العمل على ظاهر النقل ضرورياً وإن كان مخالفاً للحس والعقل فالإنصاف أن فرقة الكاثلك خير من فرقتهم لأنها بالغت في إطاعة ظاهر قول المسيح عليه السلام حتى اعترفت بمعبودية ما يصادمه الحس والبداهة، وكما أن أهل التثليث يغالون في شأن المسيح عليه السلام ويوصلونه إلى رتبة الألوهية فكذلك يفرطون في شأنه وشأن آبائه فيعتقدون أنه لعن وبعد ما مات نزل جهنم وأقام فيها ثلاثة أيامٍ كما ستعرف، وأن داود وسليمان عليهما السلام وكذا الآباء الآخرون للمسيح عليه السلام في أولاد فارض الذي ولدته تامارا بالزنا من يهوذا، وأن داود عليه السلام زنى بامرأة أوريا وأن سليمان عليه السلام ارتد في آخر عمره كما عرفت.
وكان سيل من العلماء المسيحية، وكان قد حصل بعض العلوم الإسلامية أيضاً، وكان ترجم القرآن المجيد بلسانه وترجمته مقبولة عند المسيحيين وصَّى قومه في بعض الأمور، وأنقل وصيته عن ترجمته المطبوعة سنة 1836 من الميلاد: الأول: "لا يقع الجبر منكم على المسلمين، والثاني: لا تعلموهم المسائل التي هي مخالفة للعقل، لأنهم ليسوا حمقاء نغلب عليهم في هذه المسائل كعبادة الصنم والعشاء الرباني، لأنهم يعثرون كثيراً من هذه المسائل، وكل كنيسة فيها هذه المسائل لا تقدر أن تجذبهم إلى نفسها" فانظر كيف وصى وأظهر أن مثل عبادة الصنم ومسألة العشاء الرباني مخالفة للعقل الإنصاف، إن أهل هذه المسائل مشركون يقيناً
هداهم الله إلى الصراط المستقيم.