عماد المهدي
2010-04-25, 07:44 PM
الإعلام بمحاسن الإسلام(1-3) فيصل حسن الحفاشي
http://www13.0zz0.com/2010/04/18/21/450202965.jpg (http://www.0zz0.com)
الحمد لله الذي أسبغ علينا نعمه العظام، أجلها نعمة الانتساب للإسلام، أحمده حمداً عدد ما غرد حمام، ونطق فم بكلام، وصلى مصل وصام.
والصلاة والسلام على من بعثه الله رحمة للأنام، نبينا محمد وعلى آله وصحبه الكرام.
أما بعد:
فقد عن لي كتابة بعض الحلقات عن محاسن الإسلام، ومزاياه العظام على سائر الأديان، بلهجة سلسلة، ولغة سهلة؛ ليتيسر على سائر المسلمين –سيما من في بلاد الغرب- تناولها بلا مشقة تنالهم، ولا نصب يغتالهم، وهذا أمر بين لكثير من المسلمين؛ لكني أردت أن أفتح لإخواني الذين يقنطون في بلاد الغرب نوافذ يطلون من خلالها على ما يعينهم على الثبات على دينهم، بل ويزودهم بالمادة العلمية لدعوة من يحبون دخوله في هذا الدين العظيم، المهيمن على سائر الأديان[1]،وسميت هذه المباحث بـ" الإعلام بمحاسن الإسلام" وضمنتها عدة حلقات تنشر حصرياً على هذه النافذة من هذا الموقع، وإن كان أغلب ما يعرض على هذه النافذة من قبيل الأحكام الفقهية الفرعية، إلا أني رأيت أن حاجة المسلمين في تيك البلاد لما يفقههم في دينهم إجمالاً ماسة، سواء أكان من قبيل الفقه الأصغر أم الأكبر؛ فكانت هذه الحلقات، وهي على النحو التالي:
الحلقة الأولى:
(اعتقاد المسلمين في ربهم)
أولا: عقيدتهم في توحيد الربوبية:
يعتقد المسلمون: أن لهم رباً واحداً أحداً، لا شريك له في ملكه وخلقه وتدبيره، وأنه مسير نظام هذا الكون بكل ما فيه، وأنه وحده يشفي مرضاهم، ويداوي جرحاهم، ويكشف كربهم، وينصرهم على أعدائهم، وأنه أنيس وحشتهم، وجابر كسرهم، ومقوي ضعفهم، وأنه معهم حيثما كانوا بنصرته وتأييده وحفظه ورعايته، بيده وحده سعادتهم وشقاوتهم، وضرهم ونفعهم، وحياتهم ومماتهم.
ويعتقدون: أنه لو كان معه غيره في ذلك لفسد نظام السماوات والأرض، كما قال في كتابه سبحانه: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ}.[2]
وهذا أمر معلوم للفطر السليمة والعقول المستقيمة؛ فالسماوات بأفلاكها ومجراتها وكواكبها، وكذلك الأرض بطبقاتها وتباعد أقطارها، واختلاف أحوالها، لا يمكن أن يكون لهما إلا مدبر واحد؛ إذ لم يعثر على اختلال أو عدم اتزان منذ خلقت إلى يومنا ولن يعثر.
أما إن كان ثَم مدبر غير الله سبحانه لحصلت المشاحة والمشاقة والاختلاف والتمانع، وهذا أمر وارد لكل شريكين في أمر ما، ولأراد حينها كل رب انفرداً بمخلوقاته وأملاكه، ولأراد كذلك القهر والسيطرة على من سواه، كما قال سبحانه: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ}[3].
فلما كان الكون كله في نظام واحد متسق لا تفاوت فيه ولا اختلاف، علمنا يقيناً أن له رباً ومدبراً واحداً لا شريك له.
ويعتقدون: أن كل ما سوى ربهم سبحانه جل في علاه محدث -أي: مخترع مخلوق- لم يكن موجوداً ثم أوجده سبحانه لحكم يراها، علمها من علمها وجهلها من جهلها، وأنه لم يخلق شيئاً عبثاً أبداً.[4]
وهذا الأمر –أي: توحيد الربوبية- أقر به عامة الكفار، إلا شذاذ الملحدين والنصارى، أحفاد فرعون اللعين؛ وإن كان فرعون وملؤه قد أقروا بذلك في نفوسهم، وإنما عاندوه بألسنتهم ظلماً لأنفسهم، وطلباً للتعالي على أقوامهم، كما قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}[5].
فالحاصل: أن أرباب العقول السليمة، والفطر المستقيمة، يقرون بهذا النوع من التوحيد، وإنما نازع من نازع من المشركين في النوع الثاني، أي: في توحيد العبادة، أو توحيد الألوهية[6].
ودليل إقرار عامة الكفار بهذا النوع من التوحيد، قوله تعالى: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ}،[7] وقوله سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ}،[8] وقوله سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}،[9] وعيرها من الآيات في كتاب الله تعالى المؤيدة لهذا الأمر.
ويحكى عن أبي حنيفة -رحمه الله-: أن قوماً من أهل الكلام أرادوا البحث معه في تقرير توحيد الربوبية, فقال لهم: أخبروني -قبل أن نتكلم في هذه المسألة- عن سفينة في دجلة، تذهب فتمتلئ من الطعام والمتاع وغيره بنفسها، وتعود بنفسها، فترسي بنفسها، وتفرغ وترجع، كل ذلك من غير أن يدبرها أحد؟! فقالوا: هذا محال لا يمكن أبداً! فقال لهم: إذا كان هذا محالاً في سفينة، فكيف في هذا العالم كله علوه وسفله؟! وتحكى هذه الحكاية أيضاً عن غير أبي حنيفة[10].
فنبههم رحمه الله لما قررناه آنفاً، من أن الكون لا بد وأن يكون له مدبر ومصرف واحد لا شريك له.
إذا: فمعتقد المسلمين في هذا الباب أحسن وأصفى وأزكى وأرقى معتقد، عقلاً ونقلاً وقطرة، فله الحمد على توفيقه لهذه الأمة إلى ذلك.
ثانياً: عقيدتهم في توحيد الإلهية:
يعتقد المسلمون: أن ربهم الخالق والمالك الرازق المدبر هو وحده من يستحق العبادة، فيصرفون جميع أنواع عباداتهم له وحده، من الصلاة، والصيام، والزكاة، والنذر، والذبح، والاستعانة، والاستغاثة، والرغبة، والرهبة، والاستغفار، والتسبيح، والتهليل، والتكبير....إلخ، لا يشركون معه ملكاً مقرباً، ولا نبياً مرسلاً، ولا ولياً مبجلاً.
وهذا النوع من التوحيد هو محل الخصومة بين الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وأقوامهم؛[11] لذا كان كل نبي أول ما يفاتح به قومه هو دعوتهم إلى عبادة الله وحده ونبذ ما يعبد سواه، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ}.[12]
قال تعالى عن نوح عليه السلام مخاطباً قومه: { لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}،[13] وقال سبحانه عن هود عليه السلام داعياً قومه: { وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ}[14] وقال سبحانه عن صالح عليه السلام يرشد قومه: { وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}[15]،وغيرها من الآيات التي لا تحصى كثرة، عن أنبياء الله عليهم السلام، وهم يفاتحون أقوامهم بالدعوة إلى عبادة الله وحده ونبذ ما يعبدون سواه من الأنداد والأوثان.
إذاً: لما اتجه المسلمون بعباداتهم لله وحده كان هذا هو عين الصواب، والتوفيق والسداد؛ لأن من بيده كل شيء، وقادر على كل شيء، ومحيط بكل شيء، هو من يستحق أن يعبد من كل شيء سواه.
أما من لا يقدر على كل شيء، فلا يستحق أن يكون رباً بوجه من الوجوه؛ لأنه لا يستطيع أن يوفي بحاجات من يعبدونه، فلا يكون لهم من عباداتهم إلا مجرد النصب والتعب! بل ويعبدون من قد يفوقونه في بعض الأمور، أو يفضلونه بوجه من الوجوه.
وهذا النوع من التوحيد هو المنجي من عذاب الله وسخطه، فلا يكتفى من أحد في الإسلام أن يأتي بتوحيد الربوبية مفرداً؛ لأنه –أي: توحيد الربوبية- حينئذ لا ينبني عليه شيء عملي، فلا ينجي صاحبه من العذاب والخزي في الدنيا والآخرة، إلا إن هداه-أي: توحيد الربوبية- لتوحيد العبادة هذا.
أما ترى أنه ما استحل محمد بن عبد الله -عليه الصلاة والسلام- دماء كفار قريش إلا لرفضهم هذا النوع من التوحيد؛ فقال عليه الصلاة والسلام: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك، عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله"[16]
وقالوا – أي: المشركون- لما دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم -كما أخبر الله عنهم-: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}[17].
ثالثا: عقيدتهم في أسماء ربهم وصفاته:
يعتقد المسلمون: أن لربهم أسماء حسنى وصفات عُلى، وأنه لا يشبهه شيء، ولا ند له ولا كفء ولا نظير، ولا يقاس بخلقه؛ فلا تدرك العقول كنهه وكيفيته.
فلما كان الأمر كذلك نظروا من أصدق حديثاً، وأبلغ منطقاً، وأعمق علماً، فلم يكن
أحد سوى معبودهم سبحانه.
فنظروا ما أثبته لنفسه في كتابه أو على لسان رسوله من أسماء وصفات فأثبتوه، وما نفاه عن نفسه في كتابه أو على لسان رسوله نفوه.[18]
فبهذا عرفوا حقيقة ربهم بأسمائه وصفاته، فازدادوا له عبودية ومحبة ورجاء، ومنه خوفاً وخشية ورهبة.
فلما حجب الله عنهم -أي: المسلمون- رؤيته في هذه الدنيا، أعاضهم عنها بإخبارهم بأسمائه وصفاته، فيعبدونه وكأنهم يرونه سبحانه.
فهذه هي عقيدة المسلمين في ربهم سبحانه، وهي أصفى وأنقى عقيدة عرفها التاريخ، لا غبش ولا شوب ولا غموض يكتنفها بوجه من الوجوه، وهذا سر انتشار هذه الديانة بسرعة تسابق الريح في مختلف بلدان العالم.
وسنعرف - بعون الله- بقية محاسن هذا الدين -وكله محاسن- في حلقات قادمة، إن أحيانا الله.
[1] ودليل هيمنته على كل دين سواه قوله تعالى: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [سورة المائدة:46].
[2] [سورة الأنبياء:22].
[3] [سورة المؤمنون:91].
[4] انظر "الإعلام بما في دين النصارى" للقرطبي ص44.
[5] [سورة النمل:14].
[6] سيأتي -بعون الله- الكلام في هذا النوع من التوحيد في الحلقة القادمة.
[7] [سورة العنكبوت:61].
[8] [سورة الزخرف: 9].
[9] [سورة لقمان: 31].
[10] شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز ص85.
[11] انظر إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد(1/20).
[12] [سورة النحل:36].
[13] [سورة الأعراف:79].
[14] [سورة الأعراف:65].
[15] [سورة الأعراف:73].
[16] أخرجه البخاري(1/17)، ومسلم(1/38)، والنسائي في الكبرى(2/8)، وغيرهم.
[17] [سورة ص: 5].
[18] "شرح العقيدة الواسطية" لهراس(1/43-50).
http://www13.0zz0.com/2010/04/18/21/450202965.jpg (http://www.0zz0.com)
الحمد لله الذي أسبغ علينا نعمه العظام، أجلها نعمة الانتساب للإسلام، أحمده حمداً عدد ما غرد حمام، ونطق فم بكلام، وصلى مصل وصام.
والصلاة والسلام على من بعثه الله رحمة للأنام، نبينا محمد وعلى آله وصحبه الكرام.
أما بعد:
فقد عن لي كتابة بعض الحلقات عن محاسن الإسلام، ومزاياه العظام على سائر الأديان، بلهجة سلسلة، ولغة سهلة؛ ليتيسر على سائر المسلمين –سيما من في بلاد الغرب- تناولها بلا مشقة تنالهم، ولا نصب يغتالهم، وهذا أمر بين لكثير من المسلمين؛ لكني أردت أن أفتح لإخواني الذين يقنطون في بلاد الغرب نوافذ يطلون من خلالها على ما يعينهم على الثبات على دينهم، بل ويزودهم بالمادة العلمية لدعوة من يحبون دخوله في هذا الدين العظيم، المهيمن على سائر الأديان[1]،وسميت هذه المباحث بـ" الإعلام بمحاسن الإسلام" وضمنتها عدة حلقات تنشر حصرياً على هذه النافذة من هذا الموقع، وإن كان أغلب ما يعرض على هذه النافذة من قبيل الأحكام الفقهية الفرعية، إلا أني رأيت أن حاجة المسلمين في تيك البلاد لما يفقههم في دينهم إجمالاً ماسة، سواء أكان من قبيل الفقه الأصغر أم الأكبر؛ فكانت هذه الحلقات، وهي على النحو التالي:
الحلقة الأولى:
(اعتقاد المسلمين في ربهم)
أولا: عقيدتهم في توحيد الربوبية:
يعتقد المسلمون: أن لهم رباً واحداً أحداً، لا شريك له في ملكه وخلقه وتدبيره، وأنه مسير نظام هذا الكون بكل ما فيه، وأنه وحده يشفي مرضاهم، ويداوي جرحاهم، ويكشف كربهم، وينصرهم على أعدائهم، وأنه أنيس وحشتهم، وجابر كسرهم، ومقوي ضعفهم، وأنه معهم حيثما كانوا بنصرته وتأييده وحفظه ورعايته، بيده وحده سعادتهم وشقاوتهم، وضرهم ونفعهم، وحياتهم ومماتهم.
ويعتقدون: أنه لو كان معه غيره في ذلك لفسد نظام السماوات والأرض، كما قال في كتابه سبحانه: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ}.[2]
وهذا أمر معلوم للفطر السليمة والعقول المستقيمة؛ فالسماوات بأفلاكها ومجراتها وكواكبها، وكذلك الأرض بطبقاتها وتباعد أقطارها، واختلاف أحوالها، لا يمكن أن يكون لهما إلا مدبر واحد؛ إذ لم يعثر على اختلال أو عدم اتزان منذ خلقت إلى يومنا ولن يعثر.
أما إن كان ثَم مدبر غير الله سبحانه لحصلت المشاحة والمشاقة والاختلاف والتمانع، وهذا أمر وارد لكل شريكين في أمر ما، ولأراد حينها كل رب انفرداً بمخلوقاته وأملاكه، ولأراد كذلك القهر والسيطرة على من سواه، كما قال سبحانه: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ}[3].
فلما كان الكون كله في نظام واحد متسق لا تفاوت فيه ولا اختلاف، علمنا يقيناً أن له رباً ومدبراً واحداً لا شريك له.
ويعتقدون: أن كل ما سوى ربهم سبحانه جل في علاه محدث -أي: مخترع مخلوق- لم يكن موجوداً ثم أوجده سبحانه لحكم يراها، علمها من علمها وجهلها من جهلها، وأنه لم يخلق شيئاً عبثاً أبداً.[4]
وهذا الأمر –أي: توحيد الربوبية- أقر به عامة الكفار، إلا شذاذ الملحدين والنصارى، أحفاد فرعون اللعين؛ وإن كان فرعون وملؤه قد أقروا بذلك في نفوسهم، وإنما عاندوه بألسنتهم ظلماً لأنفسهم، وطلباً للتعالي على أقوامهم، كما قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}[5].
فالحاصل: أن أرباب العقول السليمة، والفطر المستقيمة، يقرون بهذا النوع من التوحيد، وإنما نازع من نازع من المشركين في النوع الثاني، أي: في توحيد العبادة، أو توحيد الألوهية[6].
ودليل إقرار عامة الكفار بهذا النوع من التوحيد، قوله تعالى: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ}،[7] وقوله سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ}،[8] وقوله سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}،[9] وعيرها من الآيات في كتاب الله تعالى المؤيدة لهذا الأمر.
ويحكى عن أبي حنيفة -رحمه الله-: أن قوماً من أهل الكلام أرادوا البحث معه في تقرير توحيد الربوبية, فقال لهم: أخبروني -قبل أن نتكلم في هذه المسألة- عن سفينة في دجلة، تذهب فتمتلئ من الطعام والمتاع وغيره بنفسها، وتعود بنفسها، فترسي بنفسها، وتفرغ وترجع، كل ذلك من غير أن يدبرها أحد؟! فقالوا: هذا محال لا يمكن أبداً! فقال لهم: إذا كان هذا محالاً في سفينة، فكيف في هذا العالم كله علوه وسفله؟! وتحكى هذه الحكاية أيضاً عن غير أبي حنيفة[10].
فنبههم رحمه الله لما قررناه آنفاً، من أن الكون لا بد وأن يكون له مدبر ومصرف واحد لا شريك له.
إذا: فمعتقد المسلمين في هذا الباب أحسن وأصفى وأزكى وأرقى معتقد، عقلاً ونقلاً وقطرة، فله الحمد على توفيقه لهذه الأمة إلى ذلك.
ثانياً: عقيدتهم في توحيد الإلهية:
يعتقد المسلمون: أن ربهم الخالق والمالك الرازق المدبر هو وحده من يستحق العبادة، فيصرفون جميع أنواع عباداتهم له وحده، من الصلاة، والصيام، والزكاة، والنذر، والذبح، والاستعانة، والاستغاثة، والرغبة، والرهبة، والاستغفار، والتسبيح، والتهليل، والتكبير....إلخ، لا يشركون معه ملكاً مقرباً، ولا نبياً مرسلاً، ولا ولياً مبجلاً.
وهذا النوع من التوحيد هو محل الخصومة بين الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وأقوامهم؛[11] لذا كان كل نبي أول ما يفاتح به قومه هو دعوتهم إلى عبادة الله وحده ونبذ ما يعبد سواه، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ}.[12]
قال تعالى عن نوح عليه السلام مخاطباً قومه: { لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}،[13] وقال سبحانه عن هود عليه السلام داعياً قومه: { وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ}[14] وقال سبحانه عن صالح عليه السلام يرشد قومه: { وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}[15]،وغيرها من الآيات التي لا تحصى كثرة، عن أنبياء الله عليهم السلام، وهم يفاتحون أقوامهم بالدعوة إلى عبادة الله وحده ونبذ ما يعبدون سواه من الأنداد والأوثان.
إذاً: لما اتجه المسلمون بعباداتهم لله وحده كان هذا هو عين الصواب، والتوفيق والسداد؛ لأن من بيده كل شيء، وقادر على كل شيء، ومحيط بكل شيء، هو من يستحق أن يعبد من كل شيء سواه.
أما من لا يقدر على كل شيء، فلا يستحق أن يكون رباً بوجه من الوجوه؛ لأنه لا يستطيع أن يوفي بحاجات من يعبدونه، فلا يكون لهم من عباداتهم إلا مجرد النصب والتعب! بل ويعبدون من قد يفوقونه في بعض الأمور، أو يفضلونه بوجه من الوجوه.
وهذا النوع من التوحيد هو المنجي من عذاب الله وسخطه، فلا يكتفى من أحد في الإسلام أن يأتي بتوحيد الربوبية مفرداً؛ لأنه –أي: توحيد الربوبية- حينئذ لا ينبني عليه شيء عملي، فلا ينجي صاحبه من العذاب والخزي في الدنيا والآخرة، إلا إن هداه-أي: توحيد الربوبية- لتوحيد العبادة هذا.
أما ترى أنه ما استحل محمد بن عبد الله -عليه الصلاة والسلام- دماء كفار قريش إلا لرفضهم هذا النوع من التوحيد؛ فقال عليه الصلاة والسلام: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك، عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله"[16]
وقالوا – أي: المشركون- لما دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم -كما أخبر الله عنهم-: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}[17].
ثالثا: عقيدتهم في أسماء ربهم وصفاته:
يعتقد المسلمون: أن لربهم أسماء حسنى وصفات عُلى، وأنه لا يشبهه شيء، ولا ند له ولا كفء ولا نظير، ولا يقاس بخلقه؛ فلا تدرك العقول كنهه وكيفيته.
فلما كان الأمر كذلك نظروا من أصدق حديثاً، وأبلغ منطقاً، وأعمق علماً، فلم يكن
أحد سوى معبودهم سبحانه.
فنظروا ما أثبته لنفسه في كتابه أو على لسان رسوله من أسماء وصفات فأثبتوه، وما نفاه عن نفسه في كتابه أو على لسان رسوله نفوه.[18]
فبهذا عرفوا حقيقة ربهم بأسمائه وصفاته، فازدادوا له عبودية ومحبة ورجاء، ومنه خوفاً وخشية ورهبة.
فلما حجب الله عنهم -أي: المسلمون- رؤيته في هذه الدنيا، أعاضهم عنها بإخبارهم بأسمائه وصفاته، فيعبدونه وكأنهم يرونه سبحانه.
فهذه هي عقيدة المسلمين في ربهم سبحانه، وهي أصفى وأنقى عقيدة عرفها التاريخ، لا غبش ولا شوب ولا غموض يكتنفها بوجه من الوجوه، وهذا سر انتشار هذه الديانة بسرعة تسابق الريح في مختلف بلدان العالم.
وسنعرف - بعون الله- بقية محاسن هذا الدين -وكله محاسن- في حلقات قادمة، إن أحيانا الله.
[1] ودليل هيمنته على كل دين سواه قوله تعالى: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [سورة المائدة:46].
[2] [سورة الأنبياء:22].
[3] [سورة المؤمنون:91].
[4] انظر "الإعلام بما في دين النصارى" للقرطبي ص44.
[5] [سورة النمل:14].
[6] سيأتي -بعون الله- الكلام في هذا النوع من التوحيد في الحلقة القادمة.
[7] [سورة العنكبوت:61].
[8] [سورة الزخرف: 9].
[9] [سورة لقمان: 31].
[10] شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز ص85.
[11] انظر إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد(1/20).
[12] [سورة النحل:36].
[13] [سورة الأعراف:79].
[14] [سورة الأعراف:65].
[15] [سورة الأعراف:73].
[16] أخرجه البخاري(1/17)، ومسلم(1/38)، والنسائي في الكبرى(2/8)، وغيرهم.
[17] [سورة ص: 5].
[18] "شرح العقيدة الواسطية" لهراس(1/43-50).