عماد المهدي
2010-04-28, 06:02 PM
http://www.youtube.com/watch?v=Ph-3FYxVbng&feature=player_embedded# (http://www.youtube.com/watch?v=Ph-3FYxVbng&feature=player_embedded#)!
وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا . وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا . رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا } {الإسراء/23-25}
{ وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا . وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا . }
تؤكد هاتين الآيتين على أمرين عظيمين :الأول, التأكيد على أصل توحيد الله, والثاني الإحسان إلى الوالدين.
وجاء الخطاب الإلهي في هذه الآيات الشريفة في أوج القوة, فالألفاظ التي اختيرت لأداء هذا البلاغ توحي بقوة البيان الإلهي, حيث يوجد تلاؤم قوي بينها وبين مع المعنى المراد.
سأشير إلى بعض الجوانب البلاغية المرتبطة بهاتين الآيتين الشريفتين من ناحية انتقاء الألفاظ ومن ناحية ترتيب الجمل.
الجانب البلاغي الأول :
لماذا لم يقل الله سبحانه وتعالى : {وَأمر رَبُّكَ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ... الآية }
هل يوجد فرق بين الكلمتين ( أمر ) و ( قضى ) في الدلالة اللغوية ؟
نعم, يوجد فرق بينهما, فمفهوم كلمة ( قضاء ) يختلف عن مفهوم كلمة ( أمر ), فالقضاء يعني القرار و الأمر المحكم الذي لا نقاش فيه.
في اللسان : قضى الأمر عليهِ حتمهُ وأوجبهُ وألزمهُ بهِ. (1)
قال الراغب في المفردات :
قضى
- القضاء: فصل الأمر قولا كان ذلك أو فعلا، وكل واحد منهما على وجهين: إلهي، وبشري. فمن القول الإلهي قوله تعالى: { وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه } [الإسراء/23] أي: أمر بذلك، وقال: { وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب} [الإسراء/4] فهذا قضاء بالإعلام والفصل في الحكم، أي: أعلمناهم وأوحينا إليهم وحيا جزما، وعلى هذا: وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع [الحجر/66]، ومن الفعل الإلهي قوله: { والله يقضي بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء} [غافر/20]، وقوله: { فقضاهن سبع سموات في يومين} [فصلت/12] إشارة إلى إيجاده الإبداعي والفراغ منه نحو: { بديع السموات والأرض} [البقرة/117]، وقوله: { ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم} [الشورى/14] أي: لفصل. ... (2)
لذلك فإن مجيء كلمة " قضى " جاءت تأكيدا لبيان أهمية الإحسان إلى الوالدين.
الجانب البلاغي الثاني :
إن ترتيب الكلام – من ناحية بلاغية - تابع لأهميته المعنوية, فجاء البيان أولا بعبادة الله وحده لا شريك له, ثم أعقب ذلك مباشرة بيان أهمية الإحسان إلى الوالدين.
وندرك أهمية هذا الربط في شواهد قرآنية أخرى :
{ قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } الأنعام/151
{ وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا. } النساء/36
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ }البقرة/83
سأقف على بعض الجوانب البلاغية التي تضمنها المقطع القرآني { وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا }, والتي تؤكد قوة البيان الإلهي :
الجانب البلاغي الأول : وصل لفظ الإحسان بحرف الباء.
يجوز وصل لفظ الإحسان بحرف الباء أو بـ ( إلى ), فيجوز القولان )( أحسن إليه ) و ( أحسن به )
تأملوا هذين الشاهدين القرآنيين :
{ وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِى مِنَ السِّجْنِ } - يوسف /100
{ وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ } – القصص/ 77
المثال الأول : أحسن إليّ
المثال الثاني : :أحسن بي
الإحسان في الثانية أشد وألصق بالمحسن إليه من الأولى.
تعقيبا على (أحسن بي ) :
نجد مجيء هذا التعبير في سورة يوسف :
( فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين. ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال : يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقاً، وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي، إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم" (99-100).
بينما نجد في قصة قارون, استخدمت ( أحسن إلى ) وليس ( أحسن بـ ) :
{ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ {القصص/77}
في المقطع القرآني { وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } ,
وصل الإحسان بالباء إظهار للمباشرة , بمعنى إظهار الحب والاحترام مباشرة دون واسطة, وهذا أحد جوانب تأكيد قوة بيان الخطاب الإلهي.
الجانب الثاني : التعبير عن ( إحسانا ) بلفظ التنكير, وذلك للدلالة على التعظيم, فهي تفيد أن يكون الإحسان إلى الوالدين إحسانا عظيما كاملا
الجانب الثالث : جاء بمفردة ( والدين ) غير مقيدة, فلم يربط بكون الأبوين مسلمين, وفي هذا إشارة أخرى إلى قوة الخطاب الإلهي.
سأقف عند المقطع القرآني :
{ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا }
اللفتة الجمالية الأولى :
أصل سياق الكلام : إِمَّا يَبْلُغَنَّ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا الْكِبَر عِندَكَ.
إن ترتيب الكلم في هذا المقطع تابع للأهمية المعنوية فتم تقديم ( عندك ) للتشويق, ثم قدم المفعول ( الكبر ) على الفاعل ( أحدهما ) لئلا يطول الكلام به وبما عطف عليه.
اللفتة الجمالية الأخرى : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}
جاء الخطاب بصيغة الجمع لأنه أوفى تعبيرا بأمر القضاء.
ثم جاء الخطاب بصيغة الإفراد فيما بعد ذلك : { إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا. }
لماذا لم يستخدم القرآن صيغة الجمع في هذا الخطاب كما استخدمها في بداية الخطاب, أي لماذا لم يجيء السياق القرآني :
{ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكمَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُولوا لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْوهُمَ وَقولوا لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا. }
الجواب :
إن تعبير الخطاب بصيغة الفرد أكثر قوة في هذه الحالة فهو يفيد نهي كل أحد عن تأفيف والديه أو نهرهما, إذ لا يوجد أي شك في أن الخطاب موجه إلى كل فرد.
{ فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا }
الأف في الأصل : وسخ حول الظفر, وقيل وسخ الأذن, ويقال عند استقذار الشيء, ثم استعمل ذلك عند كل شيء يضجر منه ويتأذى به. وقيل أن أصلها نفخك للشيء يسقط عليك من تراب أو رماد وللمكان تريد إماطة أذى عنه, ثم قيلت لكل مستثقل. وقال الزجاج : معنى أف : النتن. (1)
(أف) اسم فعل مضارع بمعنى: أتضجر.
نسنتنتج مما تقدم أن اف تعني :
اسم صوت ينبىء عن التضجر.
اسم فعل بمعنى أتضجر.
كلمة أف تدل على انفعال طبيعي، و في الآية الكريمة دعوة إلى عدم التلفظ بها تذمرا من الأبوين, ولعل سائل ئسأل ماهي الفائددة البلاغية في مجيء " ولا تنهرهما " بعد ذكره " فلا تقل لهما أف ", ألا يمكن الاستغناء عن ذلك؟
الجواب :
التهر والانتهار : الزجر بمغالظة.
نهره وانتهره إذا استقبله بكلام يزجره.
إن التعبير القرآني متناه في القوة, فهو يود أن يؤكد على أهمية الإحسان إلى الوالدين من كل الزوايا, ومجيء { لا تنهرهما } لها أهميتها في البيان الإلهي, ذلك لأن النهر هو الزجر بقسوة، وهو انفعال تالٍ للتضجر وأشد منه قسوة, فالآية تدعو الإنسان إلى الحذر التام من التلفظ بالتأفف ، ومن نهر والديه .
قال الرازي : المراد من قوله " فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ " المنع من إظهار التضجر بالقليل أو الكثير, والمراد من قوله " وَلاَ تَنْهَرْهُمَا " المنع من إظهار المخالفة في القول على سبيل الرد عليه والتكذيب له. " (2)
يفيد النهي في قوله تعالى { فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ } المنع من سائر أنواع الإيذاء.
ثم جاء التأكيد مرة أخرى على ما ينبغي قوله لهما : { وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا }
الكريم في اللغة : اسم جامع لكل ما يحمد. (3 )
في اللسان : " وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا " أي سهلا لينا.
فالقول الكريم هو القول السهل اللين المقرون بإمارات التعظيم والاحترام.
لماذا جاءت " أفٍّ " منونة. هل للتنوين فائدة بيانية؟
التنوين أقسام : تنوين تمكين, وتنوين تنكير, وتنوين عوض.
نوع التنوين في " أفٍّ " تنوين تنكير, وهو نوع من التنوين يلحق بعض أسما ء الأفعال.
إيه : اسم فعل بمعنى زد من حديثك.
صه : اسم فعل, بمعنى اسكت.
مالفرق في قولنا : صهْ و صهٍ.
عندما نقول لشخص صهْ فإننا نطلب منه أن يسكت عن حديثه الذي هو فيه, أما إذا قلنا له صهٍ فإننا نطلب منه السكوت عن كل حديث.
وعندما نقول لشخص ( إيهِ ) فإننا نطلب منه الاستزادة في حديثه الذي يحدثنا إياه. أما إذا قلنا له ( إيهٍ ) فإننا نطلب منه الاستمرار في حديثه والمجيء بعده بحديث آخر وهكذا.
والآن دعونا نتقل إلى أف. هل هناك فرق بين " أف " غير منونة و " إفٍ " منونة؟
الجواب : نعم.
لقد جاء القرآن بـ " أفَّ "منونة ليدل بها على كل أنواع التضجر والاستقذار دون استثناء, وفي هذا قوة بيانية تضاف إلى ما أشرت إليه سابقا, ولو جاء بها غير منونة لدلت على نوع خاص من التضجر, فتأمل روعة اختيار الألفاظ المعبرة عن المعنى في القرآن الكريم.
أرأيت روعة البيان القرآني!
---
هوامش :
(1) لسان العرب لابن منظور.
(2) التفسير الكبير للرازي الجزء 20
(3) لسان العرب لابن منظور.
منقول يا اخوة
وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا . وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا . رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا } {الإسراء/23-25}
{ وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا . وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا . }
تؤكد هاتين الآيتين على أمرين عظيمين :الأول, التأكيد على أصل توحيد الله, والثاني الإحسان إلى الوالدين.
وجاء الخطاب الإلهي في هذه الآيات الشريفة في أوج القوة, فالألفاظ التي اختيرت لأداء هذا البلاغ توحي بقوة البيان الإلهي, حيث يوجد تلاؤم قوي بينها وبين مع المعنى المراد.
سأشير إلى بعض الجوانب البلاغية المرتبطة بهاتين الآيتين الشريفتين من ناحية انتقاء الألفاظ ومن ناحية ترتيب الجمل.
الجانب البلاغي الأول :
لماذا لم يقل الله سبحانه وتعالى : {وَأمر رَبُّكَ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ... الآية }
هل يوجد فرق بين الكلمتين ( أمر ) و ( قضى ) في الدلالة اللغوية ؟
نعم, يوجد فرق بينهما, فمفهوم كلمة ( قضاء ) يختلف عن مفهوم كلمة ( أمر ), فالقضاء يعني القرار و الأمر المحكم الذي لا نقاش فيه.
في اللسان : قضى الأمر عليهِ حتمهُ وأوجبهُ وألزمهُ بهِ. (1)
قال الراغب في المفردات :
قضى
- القضاء: فصل الأمر قولا كان ذلك أو فعلا، وكل واحد منهما على وجهين: إلهي، وبشري. فمن القول الإلهي قوله تعالى: { وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه } [الإسراء/23] أي: أمر بذلك، وقال: { وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب} [الإسراء/4] فهذا قضاء بالإعلام والفصل في الحكم، أي: أعلمناهم وأوحينا إليهم وحيا جزما، وعلى هذا: وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع [الحجر/66]، ومن الفعل الإلهي قوله: { والله يقضي بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء} [غافر/20]، وقوله: { فقضاهن سبع سموات في يومين} [فصلت/12] إشارة إلى إيجاده الإبداعي والفراغ منه نحو: { بديع السموات والأرض} [البقرة/117]، وقوله: { ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم} [الشورى/14] أي: لفصل. ... (2)
لذلك فإن مجيء كلمة " قضى " جاءت تأكيدا لبيان أهمية الإحسان إلى الوالدين.
الجانب البلاغي الثاني :
إن ترتيب الكلام – من ناحية بلاغية - تابع لأهميته المعنوية, فجاء البيان أولا بعبادة الله وحده لا شريك له, ثم أعقب ذلك مباشرة بيان أهمية الإحسان إلى الوالدين.
وندرك أهمية هذا الربط في شواهد قرآنية أخرى :
{ قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } الأنعام/151
{ وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا. } النساء/36
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ }البقرة/83
سأقف على بعض الجوانب البلاغية التي تضمنها المقطع القرآني { وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا }, والتي تؤكد قوة البيان الإلهي :
الجانب البلاغي الأول : وصل لفظ الإحسان بحرف الباء.
يجوز وصل لفظ الإحسان بحرف الباء أو بـ ( إلى ), فيجوز القولان )( أحسن إليه ) و ( أحسن به )
تأملوا هذين الشاهدين القرآنيين :
{ وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِى مِنَ السِّجْنِ } - يوسف /100
{ وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ } – القصص/ 77
المثال الأول : أحسن إليّ
المثال الثاني : :أحسن بي
الإحسان في الثانية أشد وألصق بالمحسن إليه من الأولى.
تعقيبا على (أحسن بي ) :
نجد مجيء هذا التعبير في سورة يوسف :
( فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين. ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال : يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقاً، وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي، إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم" (99-100).
بينما نجد في قصة قارون, استخدمت ( أحسن إلى ) وليس ( أحسن بـ ) :
{ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ {القصص/77}
في المقطع القرآني { وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } ,
وصل الإحسان بالباء إظهار للمباشرة , بمعنى إظهار الحب والاحترام مباشرة دون واسطة, وهذا أحد جوانب تأكيد قوة بيان الخطاب الإلهي.
الجانب الثاني : التعبير عن ( إحسانا ) بلفظ التنكير, وذلك للدلالة على التعظيم, فهي تفيد أن يكون الإحسان إلى الوالدين إحسانا عظيما كاملا
الجانب الثالث : جاء بمفردة ( والدين ) غير مقيدة, فلم يربط بكون الأبوين مسلمين, وفي هذا إشارة أخرى إلى قوة الخطاب الإلهي.
سأقف عند المقطع القرآني :
{ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا }
اللفتة الجمالية الأولى :
أصل سياق الكلام : إِمَّا يَبْلُغَنَّ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا الْكِبَر عِندَكَ.
إن ترتيب الكلم في هذا المقطع تابع للأهمية المعنوية فتم تقديم ( عندك ) للتشويق, ثم قدم المفعول ( الكبر ) على الفاعل ( أحدهما ) لئلا يطول الكلام به وبما عطف عليه.
اللفتة الجمالية الأخرى : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}
جاء الخطاب بصيغة الجمع لأنه أوفى تعبيرا بأمر القضاء.
ثم جاء الخطاب بصيغة الإفراد فيما بعد ذلك : { إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا. }
لماذا لم يستخدم القرآن صيغة الجمع في هذا الخطاب كما استخدمها في بداية الخطاب, أي لماذا لم يجيء السياق القرآني :
{ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكمَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُولوا لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْوهُمَ وَقولوا لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا. }
الجواب :
إن تعبير الخطاب بصيغة الفرد أكثر قوة في هذه الحالة فهو يفيد نهي كل أحد عن تأفيف والديه أو نهرهما, إذ لا يوجد أي شك في أن الخطاب موجه إلى كل فرد.
{ فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا }
الأف في الأصل : وسخ حول الظفر, وقيل وسخ الأذن, ويقال عند استقذار الشيء, ثم استعمل ذلك عند كل شيء يضجر منه ويتأذى به. وقيل أن أصلها نفخك للشيء يسقط عليك من تراب أو رماد وللمكان تريد إماطة أذى عنه, ثم قيلت لكل مستثقل. وقال الزجاج : معنى أف : النتن. (1)
(أف) اسم فعل مضارع بمعنى: أتضجر.
نسنتنتج مما تقدم أن اف تعني :
اسم صوت ينبىء عن التضجر.
اسم فعل بمعنى أتضجر.
كلمة أف تدل على انفعال طبيعي، و في الآية الكريمة دعوة إلى عدم التلفظ بها تذمرا من الأبوين, ولعل سائل ئسأل ماهي الفائددة البلاغية في مجيء " ولا تنهرهما " بعد ذكره " فلا تقل لهما أف ", ألا يمكن الاستغناء عن ذلك؟
الجواب :
التهر والانتهار : الزجر بمغالظة.
نهره وانتهره إذا استقبله بكلام يزجره.
إن التعبير القرآني متناه في القوة, فهو يود أن يؤكد على أهمية الإحسان إلى الوالدين من كل الزوايا, ومجيء { لا تنهرهما } لها أهميتها في البيان الإلهي, ذلك لأن النهر هو الزجر بقسوة، وهو انفعال تالٍ للتضجر وأشد منه قسوة, فالآية تدعو الإنسان إلى الحذر التام من التلفظ بالتأفف ، ومن نهر والديه .
قال الرازي : المراد من قوله " فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ " المنع من إظهار التضجر بالقليل أو الكثير, والمراد من قوله " وَلاَ تَنْهَرْهُمَا " المنع من إظهار المخالفة في القول على سبيل الرد عليه والتكذيب له. " (2)
يفيد النهي في قوله تعالى { فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ } المنع من سائر أنواع الإيذاء.
ثم جاء التأكيد مرة أخرى على ما ينبغي قوله لهما : { وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا }
الكريم في اللغة : اسم جامع لكل ما يحمد. (3 )
في اللسان : " وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا " أي سهلا لينا.
فالقول الكريم هو القول السهل اللين المقرون بإمارات التعظيم والاحترام.
لماذا جاءت " أفٍّ " منونة. هل للتنوين فائدة بيانية؟
التنوين أقسام : تنوين تمكين, وتنوين تنكير, وتنوين عوض.
نوع التنوين في " أفٍّ " تنوين تنكير, وهو نوع من التنوين يلحق بعض أسما ء الأفعال.
إيه : اسم فعل بمعنى زد من حديثك.
صه : اسم فعل, بمعنى اسكت.
مالفرق في قولنا : صهْ و صهٍ.
عندما نقول لشخص صهْ فإننا نطلب منه أن يسكت عن حديثه الذي هو فيه, أما إذا قلنا له صهٍ فإننا نطلب منه السكوت عن كل حديث.
وعندما نقول لشخص ( إيهِ ) فإننا نطلب منه الاستزادة في حديثه الذي يحدثنا إياه. أما إذا قلنا له ( إيهٍ ) فإننا نطلب منه الاستمرار في حديثه والمجيء بعده بحديث آخر وهكذا.
والآن دعونا نتقل إلى أف. هل هناك فرق بين " أف " غير منونة و " إفٍ " منونة؟
الجواب : نعم.
لقد جاء القرآن بـ " أفَّ "منونة ليدل بها على كل أنواع التضجر والاستقذار دون استثناء, وفي هذا قوة بيانية تضاف إلى ما أشرت إليه سابقا, ولو جاء بها غير منونة لدلت على نوع خاص من التضجر, فتأمل روعة اختيار الألفاظ المعبرة عن المعنى في القرآن الكريم.
أرأيت روعة البيان القرآني!
---
هوامش :
(1) لسان العرب لابن منظور.
(2) التفسير الكبير للرازي الجزء 20
(3) لسان العرب لابن منظور.
منقول يا اخوة