بن الإسلام
2010-06-27, 10:27 AM
السيدة عائشة والقاسم
بقلم الأستاذ الدكتور / محمد هشام راغب
كانت طفولة القاسم بن محمد بن أبي بكر في ظروف بالغة القسوة، إذ كانت رياح الفتنة الهوجاء قد عصفت بديار الإسلام بعد مقتل عثمان رضي الله عنه. وقد تطايرت آثار هذه الفتنة العظيمة فوصلت إلى مصر، وكان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه قد ولى محمد بن أبي بكر الصديق عام 36 هـ على مصر التي كانت تموج بالاضطرابات في ذلك الوقت. لكن محمد بن أبي بكر لم يلبث أن قتله معاوية بن حُدَيج الكندي، عام 38 هـ وكان عاملا لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه. وذكر أن بن حديج مثل به وحرقه بعد قتله. كان القاسم ما زال جنينا يوم مقتل أبيه، فخرج إلى دنيا مضطربة وأسرته طريدة في مصر، فقدم إليهم عمه عبد الرحمن بن أبي بكر واحتمله رضيعا هو وأختا له وهاجر بهما إلى المدينة المنورة. وهناك ما أن رأتهما عمتهما أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، حتى تعلقت بهما وأصرت أن يكونا في حجرها ورعايتها فكان لها ذلك على مضض من أخيها عبد الرحمن بن أبي بكر.
وكان هذا من لطف الله تعالى بالقاسم أن ينتقل في طفولته المبكرة من بيئة تضطرم فيها فتن عظيمة، إلى حضن دافئ يمتلئ حبا وعلما وحكمة وبصيرة. يتذكر القاسم بن محمد هذه النعمة العظيمة فيصف نشأته في كنف عائشة رضي الله عنها فيقول (حملتنا عائشة من منزل عمنا إلى بيتها، وربَّتنا في حجـرها، فما رأيتُ والدةً قط، ولا والدا أكثر منها برًّا، ولا أوفر منها شفقة، كانت تطعمني بيديها، ولا تأكل معنا، فإذا بقي من طعامنا شيءٌ أكلته، وكانت تحنو علينا حنوَّ المرضعات على الفطيم، تغسل أجسادنا، وتمشِّط شعورنا، وتلبسنا الأبيضَ الناصعَ من الثياب، و كانت لا تفتأ تحضُّنا على الخير، وتمرّسنا بفعله، وتنهانا عن الشرِّ، وتحملنا على تركه، وقد دأبت على تلقيننا ما نطيقه من كتاب الله تعالى، وتروي لنا ما نعقله من حديث رسول الله، وكانت تزيدنا برًّا وإتحافا في العيدين، فإذا كانت عشيِّةُ عرفة حلقت لي شعري، وغسلتني أنا وأختي، فإذا أصبحنا ألبستنا الجديدَ، و بعثت بنا إلى المسجد النبوي لنؤدِّي صلاة العيد، فإذا عُدنا منه جمعتني أنا وأختي وضحَّت بين أيدينا... ".
وعندما بلغ القاسم السعي وشب في بيت عمته أتم حفظ كتاب الله وأخذ من عمته من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الكثير الكثير، وأخذ يتقلب في حلقات العلم المنتشرة في المسجد النبوي ينهل فيها من علم الصحابة وكبار التابعين. في ذلك الوقت يحكي القاسم أن عائشة رضي الله عنها دعت يوما أخاها عبد الرحمن، فلما دخل عليهم وصف القاسم اللقاء فقال (دعت عمِّي عبد الرحمن، فلما دخل عليها حيَّته، ثم تكلمت، فحمدت اللهَ عز وجل، وأثنت عليه بما هو أهلُه، فما رأيتُ متكلِّما قطُّ من رجل أو امرأة قبلها ولا بعدها أفصحَ منها لسانا، ولا أعذبَ منها بيانا، ثم قالت: أي أخي إني لم أزل أراك معرضا عني منذ أخذتُ هذين الصبيين منك، وضممتُهما إليَّ، و واللهِ ما فعلتُ ذلك تطاولا عليك، ولا سوء ظنّ بك، واتِّهاما لك بالتقصير في حقِّهما، ولكنك رجل ذو نساء، وهما صبيان صغيران لا يقومان بأمر نفسيهما، فخشيتُ أن يرى نساؤُك منهما ما يستقذرنه، فلا يطبن بهما نفسا، ووجدتُ أني أحقُّ منهن بالقيام على أمرهما في هذه الحال، وها هما الآن قد شبَّا، وأصبحا قادرين على القيام بأمر نفسيهما، فخذهما، وضمَّهما إليك، وطِب بهما نفسا، فأخذنا عمي عبدُ الرحمن، وضمَّنا إلى بيته).
القاسم بن محمد بسبب هذه التربية الرفيعة في حجر عائشة، أصبح له بعد ذلك شأن وأي شأن. أصبح القاسم فيما بعد أحد فقهاء المدينة السبعة الذين اجتمعت الأمة على اعتبارهم مرجعيتهم الفقهية في عصرهم. يقول ابن الزبير (ما رأيت أبا بكر ولد ولدا أشبه به من هذا الفتى .. يعني القاسم). وقد شكلت تربية عائشة مزاج القاسم فأحب دينه وأحب العلم والعلماء وارتاحت نفسه للورع وخشية الله. يقول القاسم (كانت عائشة قد استقلت بالفتوى في خلافة أبي بكر وعمر وإلى أن ماتت وكنت ملازما لها مع ترهاتي وكنت أجالس البحر ابن عباس وقد جلست مع أبي هريرة وابن عمر فأكثرت فكان هناك ورع وعلم جم ووقوف عما لا علم له به).
وكان كبار الأئمة يثقون في علمه، فهذا الإمام مالك ينقل عن ابن سيرين عندما مرض وتخلف عن الحج أنه كان يأمر من يحج أن (ينظر إلى هدي القاسم ولبوسه وناحيته فيبلغونه ذلك فيقتدي بالقاسم). ويروي ابن إسحاق فيقول (رأيت القاسم بن محمد يصلي فجاءه أعرابي فقال: أيما أعلم أنت أم سالم بن عبد الله بن عمر؟ فقال سبحان الله كل سيخبرك بما علم. فقال: أيكما أعلم ؟ ، قال: سبحان الله فأعاد فقال القاسم: ذاك سالم انطلق فسله فقام عنه. قال ابن إسحاق: كره أن يقول أنا أعلم فيكون تزكية وكره أن يقول سالم أعلم مني فيكذب وكان القاسم أعلمهما).
هذا الإمام القدوة الحافظ الورع أثرت فيه تربية عائشة ورعايتها له.
إن كل امرأة أمامها هذه الفرصة لتقدم للأمة صالحين وصالحات يعلون شأنها ويكونون شهادات عظيمة لها في رصيدها يوم العرض الأكبر. لقد قدر الله على عائشة أنها لم ترزق بأولاد، ولكن انظروا إلى صنيعها مع أولاد أخيها وأولاد اختها أسماء، بل وصنيعها في أيتام آخرين كانت ترعاهم. لقد استثمرت عائشة صحبة رسول الله والعلم الغزير الذي حازته فنقلت كل هذا الخير وبثته في نفوس هؤلاء الصغار وأحاطت ذلك بخدمتهم والعناية بشئونهم، خدمتهم وربتهم وعملتهم فكان القاسم أحد ثمار هذا الجهد المبارك.
كم هي حاجتنا الآن أن تقوم المرأة في بيتها بهذا الدور العظيم. مساكين هؤلاء الأولاد الذين يُنشأون الآن محرومين من عناية أمهاتهم، العناية في خدمتهم وتربيتهم وبث معالم الدين في قلوبهم. هؤلاء المساكين يُتركون نهبا للساعات الطوال أمام التليفزيون والنت، يستقبلون منها ما اتفق لهم. أو يُلقون في دور الحضانة (أحيانا من سن الثانية) فيكونون أقرب للمشردين نفسيا وتربويا، ولو تسمت تلك الدور بأسماء جذابة (البيبي كلاس، وجنة الأطفال، ...). إننا حين نتأمل بفكر فاحص في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (اعلَمي أيتها المرأة، و أعِلمي من دونكِ من النساء أن حسنَ تبعُّل المرأة زوجها يعدل الجهاد في سبيل الله). فقوله عليه الصلاة والسلام (يعدل الجهاد في سبيل الله) قول حق يحتاج منا إلى حسن تقديره وتصديق قيمته. وحسن تبعل المرأة يشمل قيامها على أمر أولادها، وأن جهدها في ذلك جهاد في سبيل الله. إنه كلام دقيق إذا صدقناه أقبلت المرأة على أولادها بشغف واحتساب، ترى فيهم رسالة عظيمة ووظيفة خطيرة لها أبلغ الأثر.
وعودة لحياة عائشة رضي الله عنها، نرى أن حرصها على ضم أولاد أخيها إليها لم يكن فقط للأشواق الفطرية ومحبة القرب منهم خاصة بعد فجيعتهم في أبويهم، ولكنها فعلت ذلك إحساسا منها بمسئوليتها، ولذلك لما قامت برسالتها تجاههم، وشبوا على طاعة الله ورضت ذلك منهم، عرضت أن يذهبوا وقتها إلى عمهم الذي كانت في نفسه شيء من عدم قيامه هو بذلك الدور وتلك المسئولية معهم. لقد كان لعائشة رضي الله عنها بصيرة عجيبة، وقد اقتبست من نور النبوة وبركاتها ما يجعلنا ندرس سيرتها ونتعلم منها.
يقول القاسم بن محمد (قلتُ ذات يوم لعمتي عائشة رضي الله عنها: يا عمَّتي اكشِفي لي عن قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبر صاحبيه، فإني أريد أن أراهما، وكانت القبورُ الثلاثة ما زالت داخل بيتها، وقد غطَّتها بما يسترها عن العين، فكشفت لي عن ثلاثة قبور، لا مشرفة و لا واطئة، قد مهِّدت بصغار الحصى الحمر، مما كان في باحة المسجد، فقلتُ: أين قبرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فأشارت بيدها، وقالت: هذا، ثم تحدَّرت على خدَّيها دمعتان كبيرتان، فبادرتْ فمسحتْهما حتى لا أراهما، وكان قبرُ النبي صلى الله عليه وسلم مقدَّما على قبر صاحبيه، فقلت: وأين قبر جدي أبي بكر ؟ قالت: هو ذا، وكان مدفونا عند رأس النبي صلى الله عليه وسلم، فقلتُ: وهذا قبرُ عمر ؟ قالت: نعم، وكان رأسُ عمر رضوان الله عليه عند خصر جدي قريبا من رجل النبي عليه الصلاة و السلام).
بقلم الأستاذ الدكتور / محمد هشام راغب
كانت طفولة القاسم بن محمد بن أبي بكر في ظروف بالغة القسوة، إذ كانت رياح الفتنة الهوجاء قد عصفت بديار الإسلام بعد مقتل عثمان رضي الله عنه. وقد تطايرت آثار هذه الفتنة العظيمة فوصلت إلى مصر، وكان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه قد ولى محمد بن أبي بكر الصديق عام 36 هـ على مصر التي كانت تموج بالاضطرابات في ذلك الوقت. لكن محمد بن أبي بكر لم يلبث أن قتله معاوية بن حُدَيج الكندي، عام 38 هـ وكان عاملا لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه. وذكر أن بن حديج مثل به وحرقه بعد قتله. كان القاسم ما زال جنينا يوم مقتل أبيه، فخرج إلى دنيا مضطربة وأسرته طريدة في مصر، فقدم إليهم عمه عبد الرحمن بن أبي بكر واحتمله رضيعا هو وأختا له وهاجر بهما إلى المدينة المنورة. وهناك ما أن رأتهما عمتهما أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، حتى تعلقت بهما وأصرت أن يكونا في حجرها ورعايتها فكان لها ذلك على مضض من أخيها عبد الرحمن بن أبي بكر.
وكان هذا من لطف الله تعالى بالقاسم أن ينتقل في طفولته المبكرة من بيئة تضطرم فيها فتن عظيمة، إلى حضن دافئ يمتلئ حبا وعلما وحكمة وبصيرة. يتذكر القاسم بن محمد هذه النعمة العظيمة فيصف نشأته في كنف عائشة رضي الله عنها فيقول (حملتنا عائشة من منزل عمنا إلى بيتها، وربَّتنا في حجـرها، فما رأيتُ والدةً قط، ولا والدا أكثر منها برًّا، ولا أوفر منها شفقة، كانت تطعمني بيديها، ولا تأكل معنا، فإذا بقي من طعامنا شيءٌ أكلته، وكانت تحنو علينا حنوَّ المرضعات على الفطيم، تغسل أجسادنا، وتمشِّط شعورنا، وتلبسنا الأبيضَ الناصعَ من الثياب، و كانت لا تفتأ تحضُّنا على الخير، وتمرّسنا بفعله، وتنهانا عن الشرِّ، وتحملنا على تركه، وقد دأبت على تلقيننا ما نطيقه من كتاب الله تعالى، وتروي لنا ما نعقله من حديث رسول الله، وكانت تزيدنا برًّا وإتحافا في العيدين، فإذا كانت عشيِّةُ عرفة حلقت لي شعري، وغسلتني أنا وأختي، فإذا أصبحنا ألبستنا الجديدَ، و بعثت بنا إلى المسجد النبوي لنؤدِّي صلاة العيد، فإذا عُدنا منه جمعتني أنا وأختي وضحَّت بين أيدينا... ".
وعندما بلغ القاسم السعي وشب في بيت عمته أتم حفظ كتاب الله وأخذ من عمته من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الكثير الكثير، وأخذ يتقلب في حلقات العلم المنتشرة في المسجد النبوي ينهل فيها من علم الصحابة وكبار التابعين. في ذلك الوقت يحكي القاسم أن عائشة رضي الله عنها دعت يوما أخاها عبد الرحمن، فلما دخل عليهم وصف القاسم اللقاء فقال (دعت عمِّي عبد الرحمن، فلما دخل عليها حيَّته، ثم تكلمت، فحمدت اللهَ عز وجل، وأثنت عليه بما هو أهلُه، فما رأيتُ متكلِّما قطُّ من رجل أو امرأة قبلها ولا بعدها أفصحَ منها لسانا، ولا أعذبَ منها بيانا، ثم قالت: أي أخي إني لم أزل أراك معرضا عني منذ أخذتُ هذين الصبيين منك، وضممتُهما إليَّ، و واللهِ ما فعلتُ ذلك تطاولا عليك، ولا سوء ظنّ بك، واتِّهاما لك بالتقصير في حقِّهما، ولكنك رجل ذو نساء، وهما صبيان صغيران لا يقومان بأمر نفسيهما، فخشيتُ أن يرى نساؤُك منهما ما يستقذرنه، فلا يطبن بهما نفسا، ووجدتُ أني أحقُّ منهن بالقيام على أمرهما في هذه الحال، وها هما الآن قد شبَّا، وأصبحا قادرين على القيام بأمر نفسيهما، فخذهما، وضمَّهما إليك، وطِب بهما نفسا، فأخذنا عمي عبدُ الرحمن، وضمَّنا إلى بيته).
القاسم بن محمد بسبب هذه التربية الرفيعة في حجر عائشة، أصبح له بعد ذلك شأن وأي شأن. أصبح القاسم فيما بعد أحد فقهاء المدينة السبعة الذين اجتمعت الأمة على اعتبارهم مرجعيتهم الفقهية في عصرهم. يقول ابن الزبير (ما رأيت أبا بكر ولد ولدا أشبه به من هذا الفتى .. يعني القاسم). وقد شكلت تربية عائشة مزاج القاسم فأحب دينه وأحب العلم والعلماء وارتاحت نفسه للورع وخشية الله. يقول القاسم (كانت عائشة قد استقلت بالفتوى في خلافة أبي بكر وعمر وإلى أن ماتت وكنت ملازما لها مع ترهاتي وكنت أجالس البحر ابن عباس وقد جلست مع أبي هريرة وابن عمر فأكثرت فكان هناك ورع وعلم جم ووقوف عما لا علم له به).
وكان كبار الأئمة يثقون في علمه، فهذا الإمام مالك ينقل عن ابن سيرين عندما مرض وتخلف عن الحج أنه كان يأمر من يحج أن (ينظر إلى هدي القاسم ولبوسه وناحيته فيبلغونه ذلك فيقتدي بالقاسم). ويروي ابن إسحاق فيقول (رأيت القاسم بن محمد يصلي فجاءه أعرابي فقال: أيما أعلم أنت أم سالم بن عبد الله بن عمر؟ فقال سبحان الله كل سيخبرك بما علم. فقال: أيكما أعلم ؟ ، قال: سبحان الله فأعاد فقال القاسم: ذاك سالم انطلق فسله فقام عنه. قال ابن إسحاق: كره أن يقول أنا أعلم فيكون تزكية وكره أن يقول سالم أعلم مني فيكذب وكان القاسم أعلمهما).
هذا الإمام القدوة الحافظ الورع أثرت فيه تربية عائشة ورعايتها له.
إن كل امرأة أمامها هذه الفرصة لتقدم للأمة صالحين وصالحات يعلون شأنها ويكونون شهادات عظيمة لها في رصيدها يوم العرض الأكبر. لقد قدر الله على عائشة أنها لم ترزق بأولاد، ولكن انظروا إلى صنيعها مع أولاد أخيها وأولاد اختها أسماء، بل وصنيعها في أيتام آخرين كانت ترعاهم. لقد استثمرت عائشة صحبة رسول الله والعلم الغزير الذي حازته فنقلت كل هذا الخير وبثته في نفوس هؤلاء الصغار وأحاطت ذلك بخدمتهم والعناية بشئونهم، خدمتهم وربتهم وعملتهم فكان القاسم أحد ثمار هذا الجهد المبارك.
كم هي حاجتنا الآن أن تقوم المرأة في بيتها بهذا الدور العظيم. مساكين هؤلاء الأولاد الذين يُنشأون الآن محرومين من عناية أمهاتهم، العناية في خدمتهم وتربيتهم وبث معالم الدين في قلوبهم. هؤلاء المساكين يُتركون نهبا للساعات الطوال أمام التليفزيون والنت، يستقبلون منها ما اتفق لهم. أو يُلقون في دور الحضانة (أحيانا من سن الثانية) فيكونون أقرب للمشردين نفسيا وتربويا، ولو تسمت تلك الدور بأسماء جذابة (البيبي كلاس، وجنة الأطفال، ...). إننا حين نتأمل بفكر فاحص في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (اعلَمي أيتها المرأة، و أعِلمي من دونكِ من النساء أن حسنَ تبعُّل المرأة زوجها يعدل الجهاد في سبيل الله). فقوله عليه الصلاة والسلام (يعدل الجهاد في سبيل الله) قول حق يحتاج منا إلى حسن تقديره وتصديق قيمته. وحسن تبعل المرأة يشمل قيامها على أمر أولادها، وأن جهدها في ذلك جهاد في سبيل الله. إنه كلام دقيق إذا صدقناه أقبلت المرأة على أولادها بشغف واحتساب، ترى فيهم رسالة عظيمة ووظيفة خطيرة لها أبلغ الأثر.
وعودة لحياة عائشة رضي الله عنها، نرى أن حرصها على ضم أولاد أخيها إليها لم يكن فقط للأشواق الفطرية ومحبة القرب منهم خاصة بعد فجيعتهم في أبويهم، ولكنها فعلت ذلك إحساسا منها بمسئوليتها، ولذلك لما قامت برسالتها تجاههم، وشبوا على طاعة الله ورضت ذلك منهم، عرضت أن يذهبوا وقتها إلى عمهم الذي كانت في نفسه شيء من عدم قيامه هو بذلك الدور وتلك المسئولية معهم. لقد كان لعائشة رضي الله عنها بصيرة عجيبة، وقد اقتبست من نور النبوة وبركاتها ما يجعلنا ندرس سيرتها ونتعلم منها.
يقول القاسم بن محمد (قلتُ ذات يوم لعمتي عائشة رضي الله عنها: يا عمَّتي اكشِفي لي عن قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبر صاحبيه، فإني أريد أن أراهما، وكانت القبورُ الثلاثة ما زالت داخل بيتها، وقد غطَّتها بما يسترها عن العين، فكشفت لي عن ثلاثة قبور، لا مشرفة و لا واطئة، قد مهِّدت بصغار الحصى الحمر، مما كان في باحة المسجد، فقلتُ: أين قبرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فأشارت بيدها، وقالت: هذا، ثم تحدَّرت على خدَّيها دمعتان كبيرتان، فبادرتْ فمسحتْهما حتى لا أراهما، وكان قبرُ النبي صلى الله عليه وسلم مقدَّما على قبر صاحبيه، فقلت: وأين قبر جدي أبي بكر ؟ قالت: هو ذا، وكان مدفونا عند رأس النبي صلى الله عليه وسلم، فقلتُ: وهذا قبرُ عمر ؟ قالت: نعم، وكان رأسُ عمر رضوان الله عليه عند خصر جدي قريبا من رجل النبي عليه الصلاة و السلام).