الوابـ(الصيب)ـل
2010-08-31, 06:08 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
الرجل المبارك
منقول من رسالة ابن القيم إلى أحد أخوانه
قال رحمه الله:
إن بركة الرجل تعليمه للخير حيث حل، ونصحه لكل من اجتمع به، قال الله تعالى إخباراً عن المسيح عليه السلام: {واجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ} أي معلماً للخير، داعياً إلى الله، مذكراً به، مرغباً في طاعته، فهذا من بركة الرجل، ومن خلا من هذا فقد خلا من البركة، ومحقت بركة لقائه والاجتماع به، بل تُمحق بركة من لقيه واجتمع به، فإنه يضيع الوقت في الماجَرَيَات [أي: الحوادث والأمور التي جرت أو تجري، مأخوذة من قولهم: جرى ماجرى]، وما يفسد القلب. وكل آفة تدخل على العبد، فسببها ضياع الوقت وفساد القلب، وتعود بضياع حظه من الله، ونقصان درجته ومنزلته عنده؛ ولهذا وصى بعض الشيوخ فقال: احذروا مخالطة من تُضيع مخالطته الوقت، وتُفسد القلب، فإنه متى ضاع الوقت وفسد القلب انفرطت على العبد أموره كلها، وكان مما قال الله فيه: { وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً }.
ومن تأمل حال الخلق، وجدهم كلهم - إلا أقل القليل - ممن غفلت قولبهم عن ذكر الله تعالى، واتبعوا أهواءهم، وصارت أمورهم ومصالحهم {فرطا} أي: فرّطوا فيما ينفعهم ويعود بصلاحهم، واشتغلوا بما لا ينفعهم، بل يعود بضررهم عاجلاً وآجلاً.
وهؤلاء قد أمر الله سبحانه رسولَه ألا يطيعهم، فطاعة الرسول لا تتم إلا بعدم طاعة هؤلاء فإنهم إنما يدعون إلى ما يشاكلهم من اتباع الهوى، والغفلة عن ذكر الله.
والغفلة عن الله والدار الآخرة متى تزوجت باتباع الهوى، تولد بينها كل شر. وكثير ما يقترن أحدهما بالآخر ولا يفارقه.
ومن تأمل فساد أحوال العالم عموماً وخصوصاً، وجده ناشئاً عن هذين الأصلين، فالغفلة تحول بين العبد وبين تصوره الحق ومعرفته والعلم به فيكون من الضالين.
واتباع الهوى يصده عن قصد الحق وإرادته واتباعه، فيكون من المغضوب عليهم.
وأما المنعم عليهم فهم الذين منَّ الله عليهم بمعرفة الحق علماً، وبالانقياد إليه وإيثاره على ما سواه عملاً، وهؤلاء هم الذين على سبيل النجاة ، ومن سواهم على سبيل الهلاك [ قال علي رضي الله عنه: الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجئوا إلى ركن وثيق]. ولهذا أمرنا الله سبحانه أن نقول كل يوم وليلة عدة مرات: { اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ . صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ }
فإن العبد مضطر كل الاضطرار إلى أن يكون عارفاً بما ينفعه في معاشه ومعاده، وأن يكون مؤثراً مريداً لما ينفعه، مجتنباً لما يضره. فبمجموع هذين يكون قد هدي إلى الصراط المستقيم. فإن فاته معرفة ذلك سلك سبيل الضالين، وإن فاته قصده واتباعه سلك سبيل المغضوب عيهم. وبهذا يُعرف قدر هذا الدعاء العظيم وشدة الحاجة إليه، وتَوَقُفُ سعادة الدنيا والآخرة عليه.
والعبد مفتقر إلى الهداية في كل لحظة ونَفَس، في جميع ما يأتيه ويذره، فإنه بين أمور لا ينفك عنها:
أحدها: أمور قد أتاها على غير وجه الهداية جهلاً، فهو محتاج إلى أن يطلب الهداية إلى الحق فيها.
أو يكون عارفاً بالهداية فيها، فأتها على غير وجهها عمداً، فهو محتاج إلى التوبة منها.
أو أمور لم يعرف وجه الهداية فيها علماً ولا عملاً، ففاته الهداية إلى علمها ومعرفتها، وإلى قصدها وإرادتها وعملها.
أو أمور قد هُدي إليها من وجه دون وجه، فهو محتاج إلى تمام الهداية فيها.
أو أمور قد هُدي إلى أصلها دون تفاصيلها، فهو محتاج إلى هداية التفصيل.
أو طريق قد هُدي إليها، وهو محتاج إلى هداية أخرى فيها، فالهداية إلى الطريق شيء والهداية في نفس الطريق شيء آخر، ألا ترى أن الرجل يعرف أن طريق البلد الفلاني هو طريق كذا وكذا، ولكن لا يحسن أن يسلكه، فإن سلوكه يحتاج إلى هداية خاصة في نفس السلوك، كالسير في وقت كذا دون وقت كذا، وأخذ الماء من مفازة كذا مقدار كذا، والنزول في موضع كذا دون كذا، فهذه هداية في نفس السير قد يهملها من عارف بأن الطريق هي هذه، فيهلك وينقطع عن المقصود.
وكذلك أيضاً ثمَّ أمور هو محتاج إلى أن يحصل له فيها من الهداية في المستقبل مثل ما حصل له في الماضي.
وأمور هو خال عن اعتقاد حق أو باطل فيها، فهو محتاج إلى هداية الصواب فيها.
وأمور يعتقد أنه فيها على هدى وهو على ضلالة ولا يشعر، فهو محتاج إلى انتقاله عن ذلك الاعتقاد بهداية من الله.
وأمور قد فعلها على وجه الهداية، وهو محتاج إلى أن يهدي غيره إليها ويرشده وينصحه، فإهماله ذلك يُفوِّت عليه من الهداية بحسبه كما أن هدايته للغير وتعليمه ونصحه يفتح له باب الهداية، فإنّ الجزاء من جنس العمل، فكلما هَدى غيره وعلمه هداه الله وعلمه فيصير هادياً مهدياً، كما في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه الترمذي وغيره: ( اللهم زينا بزينه الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين ...)
منقول من رسالة ابن القيم إلى أحد أخوانه
الرجل المبارك
منقول من رسالة ابن القيم إلى أحد أخوانه
قال رحمه الله:
إن بركة الرجل تعليمه للخير حيث حل، ونصحه لكل من اجتمع به، قال الله تعالى إخباراً عن المسيح عليه السلام: {واجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ} أي معلماً للخير، داعياً إلى الله، مذكراً به، مرغباً في طاعته، فهذا من بركة الرجل، ومن خلا من هذا فقد خلا من البركة، ومحقت بركة لقائه والاجتماع به، بل تُمحق بركة من لقيه واجتمع به، فإنه يضيع الوقت في الماجَرَيَات [أي: الحوادث والأمور التي جرت أو تجري، مأخوذة من قولهم: جرى ماجرى]، وما يفسد القلب. وكل آفة تدخل على العبد، فسببها ضياع الوقت وفساد القلب، وتعود بضياع حظه من الله، ونقصان درجته ومنزلته عنده؛ ولهذا وصى بعض الشيوخ فقال: احذروا مخالطة من تُضيع مخالطته الوقت، وتُفسد القلب، فإنه متى ضاع الوقت وفسد القلب انفرطت على العبد أموره كلها، وكان مما قال الله فيه: { وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً }.
ومن تأمل حال الخلق، وجدهم كلهم - إلا أقل القليل - ممن غفلت قولبهم عن ذكر الله تعالى، واتبعوا أهواءهم، وصارت أمورهم ومصالحهم {فرطا} أي: فرّطوا فيما ينفعهم ويعود بصلاحهم، واشتغلوا بما لا ينفعهم، بل يعود بضررهم عاجلاً وآجلاً.
وهؤلاء قد أمر الله سبحانه رسولَه ألا يطيعهم، فطاعة الرسول لا تتم إلا بعدم طاعة هؤلاء فإنهم إنما يدعون إلى ما يشاكلهم من اتباع الهوى، والغفلة عن ذكر الله.
والغفلة عن الله والدار الآخرة متى تزوجت باتباع الهوى، تولد بينها كل شر. وكثير ما يقترن أحدهما بالآخر ولا يفارقه.
ومن تأمل فساد أحوال العالم عموماً وخصوصاً، وجده ناشئاً عن هذين الأصلين، فالغفلة تحول بين العبد وبين تصوره الحق ومعرفته والعلم به فيكون من الضالين.
واتباع الهوى يصده عن قصد الحق وإرادته واتباعه، فيكون من المغضوب عليهم.
وأما المنعم عليهم فهم الذين منَّ الله عليهم بمعرفة الحق علماً، وبالانقياد إليه وإيثاره على ما سواه عملاً، وهؤلاء هم الذين على سبيل النجاة ، ومن سواهم على سبيل الهلاك [ قال علي رضي الله عنه: الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجئوا إلى ركن وثيق]. ولهذا أمرنا الله سبحانه أن نقول كل يوم وليلة عدة مرات: { اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ . صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ }
فإن العبد مضطر كل الاضطرار إلى أن يكون عارفاً بما ينفعه في معاشه ومعاده، وأن يكون مؤثراً مريداً لما ينفعه، مجتنباً لما يضره. فبمجموع هذين يكون قد هدي إلى الصراط المستقيم. فإن فاته معرفة ذلك سلك سبيل الضالين، وإن فاته قصده واتباعه سلك سبيل المغضوب عيهم. وبهذا يُعرف قدر هذا الدعاء العظيم وشدة الحاجة إليه، وتَوَقُفُ سعادة الدنيا والآخرة عليه.
والعبد مفتقر إلى الهداية في كل لحظة ونَفَس، في جميع ما يأتيه ويذره، فإنه بين أمور لا ينفك عنها:
أحدها: أمور قد أتاها على غير وجه الهداية جهلاً، فهو محتاج إلى أن يطلب الهداية إلى الحق فيها.
أو يكون عارفاً بالهداية فيها، فأتها على غير وجهها عمداً، فهو محتاج إلى التوبة منها.
أو أمور لم يعرف وجه الهداية فيها علماً ولا عملاً، ففاته الهداية إلى علمها ومعرفتها، وإلى قصدها وإرادتها وعملها.
أو أمور قد هُدي إليها من وجه دون وجه، فهو محتاج إلى تمام الهداية فيها.
أو أمور قد هُدي إلى أصلها دون تفاصيلها، فهو محتاج إلى هداية التفصيل.
أو طريق قد هُدي إليها، وهو محتاج إلى هداية أخرى فيها، فالهداية إلى الطريق شيء والهداية في نفس الطريق شيء آخر، ألا ترى أن الرجل يعرف أن طريق البلد الفلاني هو طريق كذا وكذا، ولكن لا يحسن أن يسلكه، فإن سلوكه يحتاج إلى هداية خاصة في نفس السلوك، كالسير في وقت كذا دون وقت كذا، وأخذ الماء من مفازة كذا مقدار كذا، والنزول في موضع كذا دون كذا، فهذه هداية في نفس السير قد يهملها من عارف بأن الطريق هي هذه، فيهلك وينقطع عن المقصود.
وكذلك أيضاً ثمَّ أمور هو محتاج إلى أن يحصل له فيها من الهداية في المستقبل مثل ما حصل له في الماضي.
وأمور هو خال عن اعتقاد حق أو باطل فيها، فهو محتاج إلى هداية الصواب فيها.
وأمور يعتقد أنه فيها على هدى وهو على ضلالة ولا يشعر، فهو محتاج إلى انتقاله عن ذلك الاعتقاد بهداية من الله.
وأمور قد فعلها على وجه الهداية، وهو محتاج إلى أن يهدي غيره إليها ويرشده وينصحه، فإهماله ذلك يُفوِّت عليه من الهداية بحسبه كما أن هدايته للغير وتعليمه ونصحه يفتح له باب الهداية، فإنّ الجزاء من جنس العمل، فكلما هَدى غيره وعلمه هداه الله وعلمه فيصير هادياً مهدياً، كما في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه الترمذي وغيره: ( اللهم زينا بزينه الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين ...)
منقول من رسالة ابن القيم إلى أحد أخوانه