الرافعي
2010-09-16, 04:57 PM
نصر حامد أبو زيد .. أغلاط ومغالطات
بقلم : د. إبراهيم عوض
أستاذ النقد الأدبي بجامعة عين شمس
حين طلب منى أحد الأصدقاء، عقب وفاة د. نصر حامد أبو زيد بقليل، أن أكتب شيئا عنه كنت فى البداية خامل النفس لا أجد لدىَّ نشاطا لهذا الموضوع. ثم لما ألح علىّ أن أفعل وشرع صدرى ينشرح للأمر بدأت بالبحث على المشباك عن مادة أستند إليها بالإضافة إلى بعض كتب الرجل التى أثارت فى وقتها العواصف والزوابع، فهالنى أمر بشع لم أحب أن أؤجل الحديث عنه إلى أن أدخل قلب هذه الدراسة، بل أردت أن أتناوله أول شىء. وهو أن عشرات المواقع تردِّد دون تلجلج أو تريث أن د. عبد الصبور شاهين، عضو لجنة ترقية د. نصر حامد أبو زيد فى تسعينات القرن المنصرم إلى رتبة الأستاذية، قد كفّر فى تقريره الخاص بذلك الموضوع الدكتور نصر، الذى يوصَف فى عشرات المواقع بشهيد الفكر وما إلى ذلك من هذه الألقاب المعجرمة التى يبرع فى صياغتها إخواننا البعداء من التنويريين والحداثيين ومن يرددون ما يقول التنويريون والحداثيون ترديد الببغاوات لما تسمع دون فهم أو عقل. والذى أعلمه أن الدكتور عبد الصبور شاهين لم يكفّر أبو زيد فى التقرير الذى كتبه عن أبحاثه قط، بل اقتصر فى كلامه على الجانب العلمى ناصًّا على وجوه الضعف والتهافت التى اتسمت بها تلك الأبحاث. ومن كان عنده رأى آخر فليرنا من تقرير الرجل خلاف ما نقول.
ولقد كنت قرأت هذا التقرير منذ سنوات وراعنى، بعد كل الضجة التى أحدثها إخواننا البعداء والتى ظننت فى البداية قبل أن أتحقق الأمر بنفسى أنها ضجة ذات أساس، راعنى أن الأستاذ الدكتور لم يتطرق فى أبحاث أبو زيد إلى إيمان أو كفر، بل كان رفيقا به إلى حد بعيد ولم يصنع ما يصنعه "التنويريون!" الجبناء حين يضعون أحدا من المتدينين فى أدمغتهم الخربة فيقصدونه بحرب غير متكافئة، إذ يغرزون الخناجر فى ظهره غلس الظلام ويسوّدون تقارير لا يرعَوْن الله فيها ولا الشرف أبدا، ثم إذا ما عومل واحد ممن ينتسب إلى ثلتهم بما يستحق لضعف أبحاثه صرخوا وتصايحوا وتباكَوْا بدموع كدموع العاهرات عندما يُضْبَطْن متلبسات بالفاحشة فيبكين وينهنهن مدعيات أنه "وعد ومكتوب". إن الجماعة لم يَرُقْ لهم أن ينكشف واحد منهم على حقيقته العلمية فانْبَرَوْا يسبّون الأستاذ الدكتور ويتهمونه الاتهامات الكاذبة غير مراعين سنه ولا مكانته العلمية. ولا أظن أحدا يمكنه أن ينسى مثلا ما ترجمه الرجل من مؤلفات مالك بن نبى، التى قرأناها واستمتعنا بها وتغذينا عليها وتفتحت بها عقولنا واستنارت منها بصائرنا ونحن لا نزال طلابا فى الجامعة.
وقد يحسب بعض الطيبين من الناس أن ما قيل عن تكفير الأستاذ الدكتور لنصر أبو زيد إنما هو خطأ غير مقصود، إلا أننى من معرفتى بألاعيب التيار الذى أخذ على عاتقه الدفاع عن د. نصر أبو زيد بالحنجل والمنجل أعلم تمام العلم أنها فرية مقصودة غايتها تشويه صورة الدكتور عبد الصبور حتى يظن السذج من القراء، وما أكثرهم، أنه ظلوم غشوم، وأن أبو زيد مسكين وقع ضحية لظلمه وغشمه، وأنه من ثم شهيد من شهداء الفكر ينبغى أن تُنْصَب له التماثيل وأن يُعْبَد فى الأرض من دون الواحد الأحد. الحق أن الدكتور عبد الصبور شاهين لم يكفّر نصر أبو زيد، كما أنه لم يرسّبه ترسيبا مطلقا بل ترك الباب مفتوحا لتعضيد أبحاثه بحيث يمكن أن ينجح فى المرة القادمة. وليراجع القراء التقرير المشار إليه للتحقق من هذه النقطة بأنفسهم، وهو متاح فى كتاب د. عبد الصبور شاهين: "قضية أبو زيد وانحسار العلمانية فى جامعة القاهرة".
وقد أُجْرِيتْ مع الأستاذ الدكتور حوارات مختلفة سئل فيها حول هذه النقطة، وكانت إجابته دائما أنه لا يمكنه تكفير أبو زيد ولا غير أبو زيد لأن الإسلام ينهى نهيا شديدا عن أن يكفر الواحد منا الآخر. وآخر هذه الحوارات فيما اطلعتُ عليه منها هو حوار جريدة "الدستور" بتاريخ الأحد 3/ 1/ 2010م، الذى أجراه معه الصحفى مجد خلف تحت عنوان "عبد الصبور شاهين: لم أكفِّر نصر أبو زيد مطلقا. والشيوعيون والعلمانيون أقاموا "مناحة" لإثارة الشارع". ومن بين الأسئلة التى طُرِحَتْ عليه السؤال التالى: "لماذا يعتبر كثيرون أنك المتهم الأول فيما حدث للدكتور نصر أبو زيد؟"، وكان الجواب هو: "الموضوع ببساطة أن نصر أبو زيد تقدم آنذاك بإنتاجه العلمي للترقية إلي درجة أستاذ. والطبيعي أن يقوم أعضاء اللجنة العلمية بفحص إنتاج الباحث وتقييمه، ويقرأ الأساتذة الفاحصون الإنتاج ثم يحكمون عليه كما يحكم القضاة بكل نزاهةِ وضميرِ القاضي دون اعتبار لأي شيء إلا تحقيق العدالة وأن يصل الحق إلى مستحقيه. وقد قدمت تقريري عندما اجتمعت اللجنة، ثم أرسل هذا التقرير إلي الكلية ثم إلي مجلس الجامعة الذي اعتمد التقرير الجماعي. وكان ملخص التقرير أن الأعمال التي تقدم بها الدكتور نصر حامد أبو زيد تحتاج إلي إعادة نظر، والإنتاج المقدم لا يرقّي إلي درجة أستاذ بقسم اللغة العربية بكلية الآداب بجامعة القاهرة. إلي هنا والمسألة في غاية البساطة، فسقوط طالبِ ترقيةٍ شيءٌ طبيعيٌّ يحدث في كل زمان ومكان. وإذا جانبه التوفيق في جولة فقد يحالفه في جولة أخري حين يجتهد ويتلافى أخطاءه التي أخطأها في المرة الأولى".
ثم سأل الصحفى الأستاذ الدكتور: "هل اتهمتم في تقرير اللجنة العلمية الباحث الدكتور نصر أبو زيد بالكفر؟"، فكان الرد: "إطلاقا. فلا يمكن أن أورط نفسي في هذا الاتهام البشع، لأن رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: "من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما". وكلنا سنحاسب بين يدي الله تبارك وتعالى، وما كتبته في التقرير الذي أقرته اللجنة العلمية وأقره مجلس الجامعة كان تقييما علميا موضوعيا لأعمال الباحث، فنحن نفحص بحثا لا باحثا. ولم أتعرض في تقريري لعقيدة الباحث أو دينه، فهذا أمره إلى الله سبحانه وتعالى ولا شأن لي به". ومع هذا كله لا تكف المواقع المشباكية المختلفة عن ترديد هذه الفرية كأنها الحق الذى لا مرية فيه، فهم من أنصار "عنزة ولو طارت". بل إن موسوعة "الويكيبيديا" ذاتها فى مقالها عن د. نصر أبو زيد ردّدت للأسف الشديد هذا الاتهام الغريب.
والعجيب أن يشترك فى هذا الزعم د. جابر عصفور، الذى كتب ينوح على شهيد الفكر مقالا نُشِر على مرتين فى جريدة "الحياة" بعنوان "محنة نصر حامد أبو زيد بدلالاتها" أكد فيه هو أيضا أن الدكتور عبد الصبور شاهين قد كفّر فى تقريره نصر حامد أبو زيد. وهذه بعض فقرات مقتطفة من المقال ترينا كيف تناول عصفور هذا الموضوع: "الدلالة الأولى التي خطرت على بالي الآن، وأناأكتب هذا المقال، هي الجامعة التي بدأت منها المحنة. فقد انحدرت هذه الجامعة انحدارا عظيما بعد أن تدخلت في شؤونها الداخلية الدولة التسلطية التي شاع نموذجهافي العالم العربي. وقد سبق أن نقلت عن خلدون النقيب، عالم الاجتماع الكويتي المرموق، أن الدولة التسلطية هي الدولة التي تسعى إلى الاحتكار الفعال لمصادر القوة والسلطة في المجتمع لمصلحة الطبقة أو النخبة الحاكمة التي تنتسب إليها. وهي تتميز بخصائص دالة: أولاها أنها تحقق احتكارها للسلطة من طريق اختراق مؤسسات المجتمع المدني، وتحويل منظماته التضامنية كي تعمل بصفتها امتدادا لأجهزة الدولة. وثانيتها أن هذه الدولة تخترق النظام الاقتصادي وتلحقه بها، سواء من طريق التأميمأو توسيع القطاع العام، أو الزواج غير العنيف غالبا بين رجال الدولة ورجال الثروة. وثالثة هذه الخصائص أن شرعية نظام الحكم في الدولة التسلطية تقوم على العنف أكثر من الاعتماد على الشرعية التقليدية. ولذلك يقترن وجودها من حيث هي دولةبعدم وجود انتخابات لها معنى حقيقي، أو تنظيمات مستقلة عن الدولة، أو دساتير فاعلةأو مشوهة لمصلحة السلطة الحاكمة، أو إلغاء الدساتير أو تعليقها، في موازاة تجميدالحقوق المدنية، وتحويل نسبة كبيرة من الدخل القومي إلى الإنفاق على الأجهزةالقمعية لهذه الدولة. والرابعة هي توجيه الأجهزة الأيديولوجية للدولة إلى أن ترسّخ في وعي المواطنين، الرعايا، أهمية الإجماع على ما تراه النخبة الحاكمةبصفته اليقين الوحيد الذي هو قرين الإلحاح على مركزية القيادة التي يختزلها الحاكم الأوحد، الزعيم الملهم، رب العائلة، أو المهيب الركن، أو القائد الأوحد، واستبدالقواعد الوحدة ورفض الاختلاف بمبادئ الحرية وحق الاختلاف، وتأسيس التراتب الهرمي الصارم بين القيادات بصفته الوجه الملازم للتراتب العسكري، ومن ثم إلزام المرؤوسبالطاعة العمياء للرئيس في كل مجال، تأصيلا لحضور البطريركية في المجتمع. وآخرهذه الخصائص التحالف مع القوى الدينية إذا لزم الأمر. فالدين بالملك يبقى، والملك بالدين يقوى. ولذلك إما أن تغض هذه الدولة النظر عن قمع السلطة الدينية أوتجاريها، أو تسمح لها بالعبث بالدستور أو الإسراف في تديين المواطنين ما ظل الأمر في مصلحة الدولة التسلطية، وإلا فإعلان القطيعة والحرب".
وهذا، كما يرى القارئ المطلع على حقائق الأمور، كلام لا رأس له ولا ذيل، إذ إن جابر عصفور هو واحد من أعمدة الدولة التسلطية المستبدة، كما أن دولتنا، التى هى دولة تسلطية مستبدة ولله الحمد، لا تنكل بأحد قدر ما تنكل بالمتدينين (المسلمين طبعا)، ولا تضع فى سجونها ولا معتقلاتها أحدا تقريبا من أهل الاعتقاد إلا المتدينين (المسلمين طبعا). ومع ذلك كله يجد الرجل فى وجهه الجرأة كى يقول هذا الكلام الخديج الذى لا يقنع قطة. وما الذى سيخسره؟ لا شىء طبعا. فليقل ما يشاء دون حسيب أو رقيب. ومتى كان أحد من الرعايا الذين لا قيمة لهم يحاسب أحدا من أهل الحكم أو ممن يلوذون بهم وينفذون سياساتهم الإقصائية؟ ولنستمر مع المقال وكاتبه:
"في هذا المناخ الجامعي، تقدم نصر أبو زيد بإنتاجهالعلمي إلى اللجنة الدائمة لترقية الأساتذة في الجامعات المصرية في التاسع عشر منأيار (مايو) عام 1992، وتم توزيع الإنتاج في الثامن والعشرين من الشهر نفسه. وتشكلت لجنة لقراءة الإنتاج العلمي من شوقي ضيف ومحمود علي مكي وعوني عبدالرؤوف. أماالدكتور شوقي ضيف، رحمه الله، فقد كنت أعرف مدى محافظته، ورفضه تيار التجديد الذيكان يراني ممثلا له في الأدب والنقد، ونصر ممثلا له في درس الخطاب والتفكير الديني على السواء. وكنت أعرف من أستاذي شكري عياد، رحمه الله، رفضه الشخصي الحاسم لمواقف شوقي ضيف المتعصبة التي كان يقرنها برجعية الفكر وانغلاقه. وقد أخبرني ذات مرة أن شوقي ضيف كان أحد الذين تسببوا في محنة أحمد محمد خلف الله عندما كتب أطروحته الإشكالية: "الفن القصصي في القرآن الكريم" ورفض قبولها للمناقشة لخروجهاعلى المأثور من القواعد المألوفة في معالجة النصوص القرآنية. وقد تم إلغاء أطروحة خلف الله، زميل شكري عياد في التتلمذ على يدي أمين الخولي، فاضطر شكري عياد إلى تغيير مساره في مدى البحث البلاغي، والاكتفاء بأطروحة الماجستير التي كانت تحليلاأسلوبيا لمشاهد القيامة في القرآن الكريم، وانتقل إلى دراسة "تأثير كتاب الشعر لأرسطو في البلاغة العربية". أما خلف الله فاضطر، بعد نقله من الجامعة عقاباله، إلى كتابة أطروحة جديدة عن صاحب "الأغاني" الأصفهاني. وكان كلاهما، شكري عياد وأحمد محمد خلف الله، يحاولان تطبيق ما نادى به أستاذهما أمين الخولي باسم "المنهجالأدبي في درس النص القرآني" وما يترتب عليه من تغييراتمنهجية. وللأسف لم يكن نصر ولا أنا نعرف هذا التاريخالقديم لمواقف شوقي ضيف، التي كتمها شكري عياد في نفسه، وكان كتوما جدا، ولم يبح لي بها إلا بعد أن شكوت إليه من بعض ما كان يعاملني به أستاذي شوقي ضيف، الذي لاأزال أجلّه كل الإجلال، فانفجر شكري عياد في وجهي بما كتمه طويلا، وبما كتمته أناعن نصر، ولم أخبره به إلى أن غادر الدنيا، عملا بوصية المرحوم شكري عياد، حفاظا على شكل العلاقات الإنسانية. وأجد نفسي في حلّ من هذه الوصية بعد رحيل الجميع،وبقائي وحدي منتظرا اللحاق بهم. وما لم أخبر به نصر كذلك ولا يعرفه أحد إلا أنا والدكتور محمود مكي وأحمد مرسي، مدّ الله في عمريهما، أن شوقي ضيف قرأ الإنتاج،فإذا به أمام منهج جديد لم يألفه من قبل، فضلا عن أنه ما كان راضيا عن منهجالخولي ولا المتابعين له، فاتخذ موقفا سلبيا من الإنتاج، وكتب تقريرا سلبيا. ولكنه، تحسبا للأمور، ومعرفة منه بأنني رئيس القسم الذي ينتسب إليه، بعدما انتقلتالرئاسة إليّ في تعاقب الأجيال، طلب لقاء محمود مكي، الذي كان يعرف قربه مني وقرأعليه التقرير، وطلب رأيه.
والحق أن محمود مكي صارحه برأيه السلبي في تقريرهالذي انتهى إلى رفض ترقية نصر، وأبلغه أن عوني عبدالرؤوف وهو، مد الله في عمريهما،انتهيا إلى الترقية في تقريرهما. وشعر المرحوم شوقي ضيف أنه سيكون في وضع محرج،فطلب من محمود مكي أن يناقش تقريره معي سرا بصفتي رئيسا للقسم الذي هو حريص علىصورته فيه، ولا تزال هذه الصورة قائمة يجللها الاحترام، مهما كان الاختلاف الفكري. وجاءني محمود مكي بالتقرير في بيتي جوار بيت شوقي ضيف، وقرأت التقرير، وانتهيت إلى أن الرفض قائم على أساس اختلاف المنهج والفكر. وبعد أن انتهيت من القراءة والتفكير، وانتهى مكي من سؤال سهير ابنتي، رحمها الله، عن أحوالها في الدراساتالإسبانية، التي أسهم في إغرائها بها، سألت محمود مكي عن تقريره، فقال إنه يرى ترقيةنصر لأن إنتاجه يستحق،. وإذا كانت هناك هفوة هنا أو هفوة هناك، فهي لا تقلل من قيمةالإنتاج العلمي على الإطلاق، فما أكثر الذين تولت اللجنة ترقيتهم، وهم أقل شأنا وقيمة. وحاولت أن أوضح للعزيز محمود مكي أن الترقية العلمية تتم على أساس من قيمةالجهد والاجتهاد في المجال المنهجي، وأن الإنتاجالعلمي يرقى لا إلى اتفاقه مع آراء لجنة التحكيم أو منهجهم، فالأصح أن يرقى بسبب اجتهاده ومغايرة منهجه، وإلا ما تقدمالبحث العلمي. وأخبرني مكي أنه مقتنع بذلك، وأنه حاول إقناع شوقي ضيف، ولكنه لم يفلح بسبب رفضه الجذري لمناهجنا الجديدة التي تستعين بالهرمنيوطيقا والسيميوطيقا والبنيوية والتفكيكية. فقلت: إذًا هو الخلاف الحتمي، وسأرفض تقريره في مجلس القسم، واثقا بأن هناك من سيقف معي، فنحن ورثنا احترام تقاليد الاختلاف منكم، ولن نقبل أنتصرفونا أو نصرفكم عنها.
وهنا قال محمود مكي: لا داعي لذلك كله، فلولا حرصشوقي ضيف على معرفة رأيك ما أرسلني إليك. وأنا سأجد حلا معه أو أقنعه بتغييرالتقرير. وبعد أيام قابلت محمود مكي، فقال لي إن شوقي ضيف سينسحب من اللجنةالثلاثية، وأنه سيترك مكانه لعبدالصبور شاهين. وانتابني الوجوم، فأنا أعرف فكر عبدالصبور شاهين ومواقفه المعلنة، وانحيازه إلى جماعات الإسلام السياسي والتيارات السلفية. ولكنني قلت لنفسي: لا تتعجل الحكم، ودع الأمور تجري في أعنتها، وليرعَالله إنتاج نصر في مواجهة أنياب الفكر السلفيالمتزمت.
اجتمعت لجنة ترقية نصر أبو زيد بتشكيلها الجديد لقراءة التقارير الثلاثة،واختيار التقرير الذي يعبر عن رأي اللجنة النهائي، وكنت أعرف أن تقرير محمود مكي إيجابي، وكذا تقرير عوني عبدالرؤوف، ولم أكن أثق بعبدالصبور شاهين ولا حياد موقفه. فقد سبق له مهاجمةنصر علانية، وظل غاضبا لما أخذه عليه من علاقته بشركات توظيف الأموال ومهادنته الدولة وجماعات إرهاب التأسلم السياسي على السواء. ولكني كنت أمنّي النفس بانتصار العقل والتقاليد الجامعية الأصيلة. وظللت صامتا الى أن أخذت اللجنة قرارها الفاجع، حيث انحاز أحمد هيكل لزميله عبدالصبور شاهين بحكم عصبية الانتماء إلى دار العلوم، وخوفا من لغة التكفير التي استخدمها زميله والتي لا تليق بتقرير علمي، ولكنها تبعث الخوف في النفوس الضعيفة. واعترض سيد النساج بشدة على رفض تقريرين لعالمين جليلين بالترقية، هما محمود مكي وعوني عبدالرؤوف، وانقسمت اللجنة على نفسها بعد انسحاب سيد النساج احتجاجا، وقبلت تقرير عبد الصبور بفارق صوت واحد، هو صوت شوقي ضيف فيماأظن، وبعض الظن إثم في كل الأحوال. لكن المهم هو الدلالة العامة التي ظلت قائمة،وهي أن اللجنة التي رأسها شوقي ضيف، تلميذ طه حسين، الذي أشرف عليه في أطروحاتهالجامعية، خانت منهج طه حسين في التوجه العقلي، وبدل أن تواصل طريق المحدثين الذيانطلق منه عميد الأدب العربي انقلبت على هذا المنهج واختارت طريق القدماء الذين يرفضون إعمال العقل، ويغلقون أبواب التجديد. والمؤسف أن شوقي ضيف، الذي صاغ تاريخالشعر العربي فنيا في التحول ما بين أربع صيغ هي الطبع والصنعة ثم التصنيعوالتصنع، وقد كان ذلك تصنيفا جديدا في زمنه، أخذ موقفا سلبيا من مصطلحات العصر، ورفض أن يكون موقف الإمام الشافعي الفقهي تعبيرا، في التحليل الأخير، عن الأيديولوجيا الوسطية، فضلا عن المصطلحات الجديدة التي استخدمها نصر، مثل الهرمنيوطيقا والسيميوطيقا والخطاب وغيرها من بدع الدراسات الإنسانية الحديثة التي لا ينبغي استخدامها في مجال قديم لا سبيل الى مثل هذا التجديد فيه. وكانت اللجنة بهذا القرار تنحاز الى أهل النقل لا العقل، وإلى المعادين للاجتهاد من أهل التقليد الذين ناصبوا طه حسين العداء الذي نسيه تلميذ طه حسين رئيس اللجنة.
وكانت ملاحظتي الثانية على تقرير عبدالصبور شاهين الذي تبنته اللجنة للأسف أنهتقرير لا علاقة له بالعلم الرصين، وإنما هو تقرير انفعالي خطابي تكفيري يستخدم عبارات لا يليق استخدامها في مجال العلم والخطاب الجامعي بوجه عام. ومن ذلك إشارةالتقرير الى أن نصر وضع نفسه مرصادا لكلمقولات الخطاب الديني حتى لو كلفه ذلكإنكار البديهيات، أو إنكار ما علم من الدين بالضرورة. وأضيف الى ذلك صفات مثل كلامأشبه بالإلحاد. وقسْ على ذلك من الكلام الذي يعف قلمي عن ذكره. فالأهم هو أن لغةالتكفير المستخدمة في هذا التقرير سرعان ما شاعت على الألسنة المعادية للدولةالمدنية، وظلت ملازمة لخطاب التكفير الذي كان يرتفع صوته في موازاة ارتفاع حدةخطاب التأسلم السياسي الذي كان يشيع خارج الجامعة. وكان معنى ذلك أن رئيس لجنةالترقية، تلميذ طه حسين، سمح لخطاب التكفير الذي كان لا يزال خارج الجامعة أن يدخلها ولا يفارقها الى اليوم للأسف. فما أكثر ما حدث بعد ذلك من اتهامات اعتقاديةدينية لباحثين اجترأوا على الاجتهاد في مجالات العلوم الإنسانية، خصوصا في مجال نقد الخطابات الاجتماعية السائدة، ومنها خطاب تحرير المرأة، ومواجهة النظرة الدونيةإليها. والخطورة أن شيوع هذا الخطاب التكفيري وانتقاله من خارج أسوار الجامعة الى داخلها أحدثا كارثة كبرى في الفكر الجامعي. فقد سجن هذا الفكر في مدار مغلق، وجعلالأساتذة يؤثرون السلامة، ويخافون الاجتهاد، ويصنعون لأنفسهم من أنفسهم رقباء على ما يفكرون فيه أو يكتبون عنه. وكانت النتيجة الكارثة أن ذبلت روح الاجتهاد في الجامعة، ولم تخرج الجامعة المصرية وحدها من دائرة الجامعات ذات القيمة، بل خرجت كلالجامعات العربية تماما من مقياس أفضل خمسمائة جامعة في العالم.
وهناك ملاحظة أخرى على تقرير عبدالصبور شاهين الذي قبلته لجنة برئاسة تلميذ طه حسين، وهي ملاحظة تسجل انحراف اللجان العلمية، وانحراف التقييم الجامعي بوجهعام. فالأصل في التقييم الجامعي السليم هو الاجتهاد، والجدة، والاختلاف المقترنبأصالة المنهج بعيدا عن الموافقة على النتائج أو الاختلاف معها. فلا اجتهاد من دوناختلاف، وإلا فقد الاجتهاد معناه، ولا جدة إلا بالخروج على السائد، وإلا ما كانت جدة ولا اختلاف. ومن ثم لا اجتهاد إلا مع إقرار مبدأ حق الخطأ. فالمعرفة الإنسانية لا تتقدم بالإصابة في الاجتهادات وحدها، وإنما تتقدم بالقدر نفسه بالأخطاء. ولذلك حرصت الحضارة الإسلامية في عصور ازدهارها على ما أطلق عليه طه حسين، في مقال شهيرنشره عام 1955، حق الخطأ الذي يعني إصابة المجتهد في كل الأحوال، حتى في الخطأ الذي يستحق عليه أجرا يضاعف في حالة الإصابة. وأصل الإثابة ومبررها تشجيع إعمال العقل، والمخالفة في الاجتهاد، وإلا ما تراكم العلم ولا تقدّمت المعرفة العلمية. ويترتب على ذلك أن التقييم العلمي الصحيح ليس الأصل فيه هو الاتفاق بين من يقوم بالتحكيم ومن يتم تحكيم إنتاجه، وإنما مراعاة قيم المنهجية والاجتهاد والإضافة بعيدا عن الاتفاق أو الاختلاف. وقد ترتب على قبول تقرير عبدالصبور شاهين، الذي لاأزال أراه وصمة عار في تاريخ الجامعة، وهو منشور مع تقرير قسم اللغة العربية في تفنيده علميا في كتاب نصر: "التفكير في زمن التكفير"، الذي طبع أكثر من مرة. وأضيف إلى ذلك ما هو متضمن في السياق من جانب ثأر شخصي ينطوي عليه التقرير الذي استغله كاتبه للثأر من نصر، الذي أشار إليه في أحد الكتب بوصفه مستشارا لإحدى شركات توظيف الأموال التي نهبت ثروات المسلمين المخدوعين فيها".
وقارئ هذا الكلام يخرج منه بصورة مقيتة لكل من د. شكرى عياد ود. شوقى ضيف: فالأول، كما يصوره المقال، غِلاّوىّ جبان منافق لا يعلن عن رأيه إلا فى الظلام ولا يستطيع المواجهة. فهل كان د. شكرى عياد بهذه الصورة؟ أما د. شوقى ضيف، الذى صوره جابر عصفور بصورة المتخلف الرجعى الذى لا يفهم فى البنيوية ولا التفكيكية ولا الهرمنيوطيقية ولا المهلبية ولا الملوخية، وهو كلام لا يليق فى حق ذلك الأستاذ الكبير الذى لا يعرف الهلس والهجص ويحرص على أن يقول كلاما مفهوما ومفيدا، ويزداد خروجا على اللياقة من د. جابر عصفور، الذى لا أنسى منظره فى احتفالية المجلس الأعلى للثقافة بالدكتور محمد حسين هيكل فى أواسط التسعينات من القرن المنصرم، وهو ممسك بورقة كان قد أعد فيها مسبقا سؤالا بالإنجليزية موجها لأحد المستشرقين الموجودين بالاحتفالية، ويقرأ السؤال ببطء قاتل ممايدل على ضعفه فى لغة جون بول، التى تحدى فيها مع ذلك أ. د. عبد العزيز حمودة فى معركة "المرايا المحدبة"، حيث وجه حمودة فى ذلك الكتاب إلى الحداثيين العرب لطمات عنيفة أفقدتهم صوابهم وتركتهم أباديد لا يدرون ماذا يصنعون، واتهمه بأنه لا يحسن النقل عنها رغم أن الرجل أستاذ كبير فى اللغة الإنجليزية وآدابها، وهو بالنسبة إليه لا يعد فى العيرولا فى النفير، أقول: أما الدكتور شوقى ضيف فإنى أكتفى بشأنه بإحالة القارئ إلى ما كتبه فى حقه قبل ذلك جابر عصفور، الذى كان يمجده دائما ولا يجرؤ أن يقول فيه أثناء حياته ولا واحدا على المليون مما كتبه هنا بعد مماته. ثم كيف بالله نستطيع أن نتحقق من هذا الكلام، وكل الذين يدور حولهم قد انتقلوا إلى جوار ربهم؟ ثم هل يصح أن ينتظر جابر عصفور حتى يموت الجميع ليقول بعد ذلك، وبعد ذلك فقط، إنه الآن فى حِلٍّ من قول ما قال؟
خلا لك الجو فبيضى واصفرى * ونقّرى ما شئت أن تنقّرى
ومع ذلك فقد أبى الله أن يمر هذا الكلام دون معقب، وهو معقب قريب جدا من الأحداث، إذ هو الأستاذ الدكتور عاصم شوقى ضيف، ولا أحد سواه. فقد ألفيته يعلق فى أحد المواقع المنشور فيها هذا المقال على ما كتبه جابر عصفور بالسطور التالية التى ترينا وجها آخر لسير الأحداث يختلف تماما عما حكاه جابر عصفور وهو آمن مطمئن يظن أن أحدا من عباد الله لن يعلق على هذا الذى كتب. قال د. عاصم ضيف بأدب وهدوء يذكراننا بأدب أبيه وهدوئه ودماثة طبعه واحترامه الشديد لنفسه وللآخرين وعدم تزيده فى الكلام وحرصه على وزن ما يقول رحمه الله على عكس قوم ابتُلِينا بهم فى العقود الأخيرة يذكروننا بالحوذية والبلطجية:
"هناك مغالطتان: أما خلف اللهفقد اعترض عليه أساسا عبد الوهاب عزام، وشوقي ضيف فقط قال رأيه. ولو كان فكرهسليما فلماذا لم يقف القسم مع أمين الخولي مشرفه ضد شوقي ضيف، وكان بعد مدرساصغيرا؟ لأن "الفن القصصي في القرآن" يجعل من الأخير نص أدبي. وهي فكرة خطيرة. أما شكري عياد فقد كان يكن لشوقي ضيف احتراما كبيرا، وكان يزوره كثيرا. وأذكر أن قال ليمرة إن كتب والدك مصادر معتمدة. والمغالطة الأخرى هو أن شوقي ضيف لم يكتب تقريرا بلأبلغ محمود مكي أته يعتذر لما وجده في فكر نصر. فلما بلغ ذلك المساندين له، ومنهم كاتب المقال، وجدتهم يزورون والدي في منزله بالدقي، واجتمع عنده غير قليل منهم. فلماانصرفوا سألته: لماذا هذا الحشد عندك؟ فقال لي: يرجونني أن أوافق علي ترقية أحدالمتقدمين للترقية بالقسم. ولم أكن أعرف اسمه بعد، فقلت له: إذا كان بقسمكم فلماذا لا تساعده؟ قال: اعتذرت لأن أعماله بها مخالفات واضحة (ولم يبين لي ما هي)، وعقيدتي لا تسمح لي بالموافقة عليها. لذلك أعتذر عن الحكم عليها. إذن فشوقي ضيف لم يقف ضده، واكتفيبالاعتذار مجاملة لبعض أعضاء مجلس قسمه مع أنه لا يوافقهم الرأي. وكان هذا شأنهدائما، لا يتعرض لأحد بالإساءة. والحقيقة أن السبب في عدم ترقية نصر هو قسم اللغة العربية لأنك إذا تأملت كيف تلاحقت الأحداث فهذان محكَّمان من القسم نفسه، وثالث منالخارج. إذن يبدو الأمر أمام اللجنة الكلية محسوما مقدما، وبالأخص أن رئيس اللجنةطلب أن يكون أحد المحكمين. ولقدره العلمي ستجعل الجميع موافقين بالضرورة. لكن ما أن اطّلع شوقي ضيف على الأعمال حتى تبين الخطورة فيها. إذن ليس كما يدعي كاتب المقال أنمنهجها يستعين بالتفكيكية أوالبنيوية أو أنه أمام منهج جديد لم يألفه من قبل، بل لايعدو الأمر أن يكون بسبب ما وجده عند المتقدم ما معناه أن القرآن الذي شب عليهالمسلمون واعتقدوا أنه إلهي ما هو إلا منتج ثقافي ونص لغوي يمكن تطبيق عليه أساليب النقد. وهل يمكن لشوقي ضيف مفسر القرآن ومحقق القراءات العشر والمدافع عن السيدةعائشة على أنها لم تتزوج صغيرة ضد كلام المستشرقين أن يوافق على كلام يشبه كلامهم؟إذن فقد أخفى القسم الحقيقة عن شوقي ضيف. ولو كان طلب منه أن يكون المحكَّم الثالث أحدالموافقين علي هذه الآراء، وكان منهم في اللجنة الكثير، لكان الموضوع "خلص علي خير".إذن فالخطأ أصلا هو خطأ القسم".
ويبقى قول جابر عصفور إن أ. د. عبد الصبور شاهين قد كفّر نصر حامد أبو زيد فى تقريره الذى كتبه عن إنتاجه العلمى حين تقدم للترقية لرتبة الأستاذية، وهو زعم غير صحيح بالمرة، وإلا فلينقل لنا نص ما كتبه الأستاذ الدكتور الذى يقول إنه كفر فيه نصر أبو زيد. ثم أليست مصيبة بل كارثة أن يتدخل ناس من خارج لجنة الفحص فى أعمال الترقية على هذا النحو المفضوح من أجل ترقية واحد بعينه، وقبل ظهور النتيجة؟ ألا إن هذا كلام خطير فى غاية الخطورة. ولقد شاء الله السميع العليم أن ينجر د. جابر عصفور فيذكر هذا الموضوع متصورا أن من حقه التدخل لإنجاح من يريد، مما كان من نتيجته تنحى الأستاذ الدكتور شوقى ضيف عن النظر فى أعمال نصر أبو زيد. وهو تصرف حضارى راق، ولكن كانت ثمرته أن أبو زيد رغم كل التدخلات والتوسلات والتربيطات لم ينجح، فقامت الدنيا من يومها وانتقل الخبر إلى وكالات الأنباء العالمية مع أن مثل هذا الأمر يحدث كل مرة تجتمع فيها لجان الترقية، إذ ينجح ناس ويرسب ناس، ولا من شاف ولا من درى. اللهم إلا أن يكون الراسب واحدا كالدكتور نصر أبو زيد، فعندئذ، وعندئذ فحسب، تبدأ القصائد الهجائية فى السباب، وتشرع المارشات العسكرية فى الدق والنفخ فى محاولة مفضوحة للترهيب والترويع، وتتنادى وكالات الأنباء المحلية والعالمية شأن من هم على ميعاد. ثم يتباكى بعض القوم على المنهجية العلمية والحيادية والتنويرية والحمصية والسمسمية والحلاوة الطحينية. والله إنه، لكما قال أحدهم تعليقا على ما جرى، شىء يفقع المرارة!
وأذكر هنا عَرَضًا ما سمعته مرارا من عضو فى لجنة منح الجوائز فى بعض الساحات الثقافية بإحدى البلاد العربية من أنه هو وزملاءه فى اللجنة يقضون الأيام والليالى ذوات العدد يفحصون أوراق المرشحين ويفاضلون بينهم. حتى إذا استقر الرأى على منحها لفلان أو لعلان هلّ عليهم "أبو وش كالح" وقال لهم: دعوكم من هذا كله، وخذوا فلانا الفلانى. فلا يملكون إلا أن يأخذوا فلانا الفلانى لأن "أبو وش كالح"، ربنا يأخذه، قد قال، ولا رجعة لما قال. وكان، أخزاه الله فى الأرض والسماء والدنيا والآخرة، لا يكف عن التشدق بالحرية ولا عن مهاجمة الدولة التى يخدم أهدافها كأى عبد ذليل ينتفش على عباد الله ممن ليسوا أذلاء مثله ويتظاهر أن بمستطاعه إعطاءهم محاضرة فى مكافحة الاستبداد والعسف والطغيان. إى والله الاستبداد والعسف والطغيان الذى يسبح بحمده آناء الليل وأطراف النهار، وإلا ضربوه بما فى أرجلهم ورَمَوْه رمية الكلاب! ويقول الذين يعرفون خبايا "أبو وش كالح" إنه لم يصل إلى منصبه الجامعى إلا باستعطاف حاكم دولته بعد أن رسب فى إحدى المواد ولم يعيَّن معيدا فى البداية بسبب ذلك، زاعما فى استعطافه الكاذب أن الأساتذة يضطهدونه لفقره وانتمائه إلى الطبقات الكادحة. قال ذلك وهو يتطلع إلى أن يكون أحد المنتمين إلى الطبقات المادحة. وقد أصبح المنافق منهم، لعنه الله لعنا كبيرا وصغيرا ومتوسطا وبكل الأحجام والمقاييس.
ولا بأس أن أقتطف بضع فقرات من مقال كتبه وائل عزيز فى مدونته عن ذات القضية بعنوان "حكايةنصرحامدأبوزيد" أشار فيه إلى التقرير الذى كتبه الأستاذ الدكتور عبد الصبور شاهين عن أعمال د. نصر. وهذا نص الفقرات المذكورة: "نشر الدكتور أبو زيد نص التقرير كاملا في كتابه: "التفكير في زمن التكفير"، كما نشره في مقدمة الطبعة الثانية من كتابه "نقد الخطاب الديني". ولم يكن في التقرير كلمة واحدة تشير إلى كفر أو تكفير أبو زيد كما شاع بعد ذلك وكرره نصر حامد نفسه. وإنما خلاصة ما جاء به أن أبحاثه بها "الكثير من الأخطاء التاريخية والعلمية، وأنه يجعل العقل الغيبي غارقا في الخرافة والأسطورة مع أن الغيب أساس الإيمان، وأنه ينعي على الخطاب الديني أن يرد كل شيء في العالم إلى علة أولى هي "الله"، ويرى أن ذلك إحلال لـ"الله" في الواقع ونفي لـ"الإنسان". كما أنه إلغاء للقوانين الطبيعية والاجتماعية. وهو يدافع بحرارة عن الماركسية الفكر الغارب ويبرئها من تهمة الإلحاد، بل ويقول بخطأ تأويل الماركسية بالإلحاد والمادية. ولعله يتصور أن ماركس كان مؤمنا روحاني النزعة". وختم الدكتور شاهين تقريره بقوله: "إن أبحاثه جدلية تضرب في جدلية لتخرج بجدلية تلد جدلية تحمل في أحشائها جنينا جدليا متجادلا بذاته مع ذاته، إن صح التصور أو التعبير. وليست هذه سخرية، ولكنها كانت النتيجة التي يخرج بها قارئ الكتاب غير المنشور حتى الآن".
وقد كان الرجل محقا في هذا الوصف، فالدكتور أبوزيد كمفكر مجتهد يفكر أسرع مما يكتب، ولا يستقر به الحال عند فكرة إلا لحقها بما يناقضها. وما أودعه في كتابه: "مفهوم النص" كان يحتاج منه إلى كثير من المراجعة قبل أن يخرج بالصورة التي خرج عليها، والتي أمكن بسهولة للمتربصين به (أو "الباحثين عن العفريت" بتعبيره) أن يقتطعوا منها العديد من الفقرات ليحاكموه بشأنها، فقد بحثوا عن العفريت (التجاوزات) فطلع لهم، فأخذوها إلى المحكمة، فحكمت لصالحهم في الاستئناف والنقض. ورغم أنه حاول الدفاع بعد ذلك عن آرائه وتوضيح ما قصده بكتابته عبر الندوات الخاصة واللقاءات التليفزيونية، ولكن ذلك كان بعد فوات الأوان.
لا يفوتني هنا أن أشير إلى الصراع المستمر وغير المعلن بين كلية دار العلوم وكلية الآداب، وهو صراع يعود إلى أيام طه حسين. أو قل: هو صراع بين ممثلي الفكر الإسلامي والعلمانيين في الجامعات المصرية خاصة في أقسام الفلسفة واللغة العربية والتاريخ. وقوانين الترقية لدرجة أستاذ تستلزم أن يكون هناك مقيّم خارجي، أي من خارج الكلية التي تقدم منها المرشح بأبحاثه. ومثل هذا القانون كان يستهدف الموضوعية في التقييم والبعد عن المجاملة، لكنه انتهى إلى سيف مسلط في أيدي الأساتذة الكبار من الفريقين يستخدمونه في تصفية الحسابات والمقايضة وتحقيق الانتصارات. وأعرف عددا من الأساتذة من المحسوبين على التيار الإسلامي الذين دفعوا ثمن هذا الصراع عبر تعنت أسماء مثل جابرعصفور وعاطف العراقي ومراد وهبة وحسن حنفي وغيرهم من الكبار، فتأخرت ترقياتهم شهورا وسنوات، ولم تُجْدِ معهم الشكاوى ولا الاعتراضات. ولا زال الصراع مستمرا، ولم يستطع حله وزراء التعليم العالي المتعاقبون ولا المجلس الأعلى للجامعات، وظل أحد الأدوات التي تستخدمها السلطة من أجل إبقاء التوتر قائما، وهو ما يحتفظ لها بدور الحكم دائما والحكيم أحيانا.
كان من الممكن رأب الصدع بسهولة، وتكرر هذا في عشرات الحالات السابقة. ولم يكن للدكتور عبدالصبورشاهين أن يقبل أن يضع اسمه على تقرير يجيز ترقية أستاذ يختلف معه فكريا إلى حد النقيض، خاصة مع ما ترشح من اتهامات من أبوزيد لشاهين في مسألة توظيف الأموال وعلاقته بالريان. واقترح الدكتور مأمون سلامة رئيس جامعة القاهرة حينذاك، وهو رجل منصف وحكيم، أن يتم اختيار مقيّم آخر غير الدكتور شاهين والقبول بتقريره، وهو ما يعني عمليا اختيار مقيّم من الجناح الآخر من الأساتذة الذي سينتهي بتقرير إيجابي وتحل المشكلة. وكاد الدكتور أبوزيد يقبل، غير أن أصدقاءه نصحوه بالرفض والتصعيد، وأوهموه أن الحق معه. ولعلهم أرادوا بهذا التصعيد أن يبعدوا الدكتور شاهين من الجامعة، فانقلب السحر على الساحر.
تولى الصحفي اليساري لطفي الخولي مهمة التصعيد في صفحة "الحوار القومي"، التي كان يشرف عليها في "الأهرام"، وأتاح الفرصة لعدد من المدافعين عن موقف أبوزيد للتعبير عن رأيهم والتباكي على ما انتهى إليه حال حرية البحث العلمي في الجامعات المصرية. وفي المقابل انبرى فهمي هويدي في صفحته بـ"الأهرام" ومحمد عمارة في جريدة "الشعب" وآخرون للدفاع عن موقف شاهينرفض التطاول على المقدسات باسم البحث العلمي النزيه. وخرجت المعركة عن حدود السيطرة".
بهذا ننتهى سريعا من إحدى المغالطات فى موضوع ترقية نصر أبو زيد بعدما كشفنا عن وجه الحق واتضح أن عبد الصبور شاهين لم يكفر فى تقريره أبو زيد على أى وجه من الوجوه وأن المسألة كلها مختلقة من الأساس. بيد أن للمسألة وجها آخر، وهو: هل يفهم من هذا أنه ليس فى الإسلام تأمين أو تكفير؟ الواقع أن فى الإسلام تأمينا وتكفيرا، وإلا انماعت المفاهيم وغامت الرؤى واختلطت المصطلحات واضطربت التصنيفات، وهو ما يربك الأمور ويشيع الحيرة والبلبلة فى النفوس والعقول والضمائر. ما معنى ذلك؟ معناه أنه كما يستخدم نصر أبو زيد وغيره مصطلحات التنويريين والظلاميين والرجعيين والمتخلفين... إلخ كذلك يستخدم المتدينون مصطلحات "الإيمان والكفر والنفاق والطاعة والمعصية والحلال والحرام والفرض والسنّة" جريا على أسلوب القرآن الكريم والسنة النبوية والتراث الإسلامى، كقوله تعالى فى سورة "النساء": "إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151) وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)"، وقوله تعالى فى سورة "المائدة": "لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)"، وقوله عز شأنه فى سورة"الأعراف": "وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآَخِرَةِ كَافِرُونَ (45)"، "قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آَمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76)"، وقوله جل جلاله فى سورة "التوبة": الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)"، وقوله تبارك اسمه فى سورة "فُصِّلَتْ": "قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8)"، وقوله تعالى جَدُّه فى سورة"المنافقون": "إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (8)"، وقوله صلى الله عليه وسلم: من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك"، "من أتى ساحرا أو كاهنا أو عرافا فصدّقه بما يقول فقد كفر بما أُنْزِل على محمد"، "إذا قال للآخر: كافر، فقد كفر أحدهما: إن كان الذى قال له كافرا فقد صدق، وإن لم يكن كما قال له فقد باء الذى قال له بالكفر"، "شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جنازة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أيها الناس، إن هذه الأمة تبتلى في قبورها. فإذا الإنسان دُفِن فتفرق عنه أصحابه جاءه ملك في يده مطراق فأقعده، قال: ما تقول في هذا الرجل؟ فإن كان مؤمنا قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله. فيقول له: صدقت. ثم يفتح له باب إلى النار، فيقول: هذا كان منزلك لو كفرت بربك. فأما إذ آمنت بربك فهذا منزلك. فيفتح له باب إلى الجنة، فيريد أن ينهض إليه، فيقول له: اسكن، ويفسح له في قبره. وإن كان كافرا أو منافقا يقول له: ما تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري. سمعت الناس يقولون شيئا. فيقول: لا دريت ولا تليت ولا اهتديت. ثم يفتح له باب إلى الجنة فيقول: هذا منزلك لو آمنت بربك. فأما إذ كفرت بربك فإن الله عز وجل أبدلك هذا. ويفتح له باب إلى النار ثم يقمعه مقمعة بالمطراق يسمعها خلق الله كلهم غير الثقلين. فقال بعض القوم: يا رسول الله، ما أحد يقوم عليه مَلَكٌ في يده مطراق إلا هِيلَ عند ذلك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يثبّت الله الذين آمنوا بالقول الثابت"، "الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق. فمن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله"، "من ترك الجمعة ثلاثا من غير ضرورةٍ طُبِع على قلبه: منافق"، "أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خَلَّةٌ منهن كانت فيه خَلّةٌ من نفاق حتى يَدَعها: إذا حدَّث كذَب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فَجَر"، اللهم إلا إذا قيل بإلغاء هذا من القرآن والسنة كما ينادى المهاويس المهلوسون هذه الأيام بكل وقاحة، فى الوقت الذى لا يجرؤون أن يفكروا مجرد تفكير فيما عند غير المسلمين، إذ هم يعرفون أن ألسنتهم تُقْطَع فى الحال ويُنَكَّل بهم أيما نَكَال.
ذلك أن مثل هذه النصوص شىء لا ينفرد به الإسلام، بل يوجد فى كل دين ومذهب وعقيدة نصوص ترسم الحدود وتَسِم كل من يتمرد عليها بأنه لا يؤمن بها وتخطّئه وتخرجه عن العقيدة، سياسية كانت تلك العقيدة أو دينية أو فلسفية. ولقد تعدت الأمور أحيانا فى أوربا فى العصر الحديث حدود الخلاف الفكرى ووصلت عند الشيوعيين وغير الشيوعيين إلى "التصفية الجسدية". وهذا مصطلح أوربى لم يسمع به المسلمون إلا فى هذا العصر. فنرجو من المتحذلقين البكاشين أن ينقّطونا بسُكاتهم ويكفأوا على الخبر ماجورا ولا يقيموا من أنفسهم معلمين لنا، فى الوقت الذى يجب عليهم فيه أن يتبوأوا مجلس المتعلمين لا مقام العالمين. إن الحياة قائمة على التصنيفات والتقسيمات، وهذه النصنيفات والتقسيمات تستلزم مصلطحات معينة لا بد من استخدامها، وإلا فماذا نسمى من يقول إن محمدا هو مؤلف القرآن، أو إنه لا يوجد إله أصلا، أو إن الجنة والنار والثواب والعقاب هى أساطير ليس لها أية حقيقة فى خارج أذهان من يعتقدون بها؟ ببساطة: من يقول بهذا فهو كافر. إلا أن الأمر ليس بهذا التحديد الصارم دائما، إذ هناك مسائل حدودية يمكن أن يكون فيها أكثر من رأى، وتقبل أكثر من تفسير. وهذه المسائل الحدودية يصعب إصدار حكم بشأنها، وبخاصة إذا ما استعمل المتكلم أوالكاتب أسلوبا مراوغا فى التعبير عما فى نفسه، فتراه لا يحسم الكلام بل يصوغه صياغة لفافة دوارة حتى إذا ما آخذتَه على هذه النقطة أو تلك انبرى لك مؤكدا أنه لا يقصد ما فهمتَه. ولكن الصبر على التحليل والتفكيك والتركيب وما إلى ذلك من أدوات البحث ومناهجه يمكن أن تفيد فى الخروج من متاهة المراوغة التى يصطنعها بعض الكتاب، وإن ظل الأمر دائما غير حاسم تمام الحسم. وفى هذا السياق نذكّر بما قاله بعض علماء السلف من أننا إذا قرأنا أو سمعنا مقالة تحتمل الكفر من تسعة وتسعين وجها، والإيمان من وجه واحد فينبغى حملها على محمل الإيمان. وهو ما يجب أن يأخذ به المسلمون، أو على الأقل: يجب أن يكونوا على ذكر منه فلا يندفعوا مع التكفير، وبالذات إذا أكد الشخص المعنىّ أنه مسلم يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله مما يحفظه المراوغون أيضا ويرددونه فى مثل تلك الظروف للخروج من المأزق. ومع هذا نقول كما قال النبى عليه الصلاة والسلام لصحابى اتهم رجلا بعدم الإيمان: هلاّ شققتَ عن قلبه؟ يقصد، صلى الله عليه وسلم، أنه ليس من صلاحيتنا محاولة التدسس إلى أفئدة الآخرين والتلصص على ضمائرهم ما داموا يعلنون الإسلام حتى لو لم يكونوا مسلمين فى أعماق قلوبهم، إذ إن الكشف عما تكنه تلك القلوب ليس من وظيفتنا. لكن هذا يختلف عن تصدينا لأفكار الآخرين وكلامهم المكتوب وتحليلنا له واجتهادنا فى فهمه والحكم عليه دون الحكم على صاحبه ما دام لم يقل شيئا واضحا قاطعا من الكفر. وحتى هنا ليس من صلاحيتنا إكراهه على غير ما يؤمن به. إنما هو فكر إزاء فكر، والسلام.
ننتهى من هذا إلى أن التكفير مفهوم من المفاهيم لا يمكن أن يخلو منه أى دين، إذ معناه أن فلانا أو علانا لا يؤمن بهذا الدين. وهل هناك شك فى أنه ما من دين إلا ويرفضه الملايين بل عشرات الملايين بل مئاتها؟ فكيف نصنف هؤلاء الرافضين؟ إنهم كفرة بهذا الدين، مثلما يقول الماركسيون عن المتدينين: الظلاميون والرجعيون والمتخلفون، ويصفون أنفسهم بالتنويريين والتقدميين، وكما تقول أمريكا والدول الاستعمارية عمن يدافعون عن بلادهم: إرهابيون، وتصف نفسها بقوى التقدم والتحرر... إلخ. وفى داخل المذهب الشيوعى كانت هناك اتهامات متبادلة بين شيوعيى الصين والاتحاد السوفييتى ويوغوسلافيا وألبانيا. وهذه الأخيرة لم يكن يعجبها أحد، فكانت ترمى الجميع بالانحراف وترى نفسها الدولة الشيوعية الحقيقية الوحيدة. ومنذ سنوات صدر كتاب فى أمريكا يقول بنهاية التاريخ وأن الحضارة الغربية ستبقى هى الحضارة الصحيحة الوحيدة إلى الأبد.
وهنا نسمع بعض القوم يقولون لمن ينبرى للرد على ما يراه مسيئا للدين أو مخالفا له: وهل خَوَّلك أحد للحديث باسم الله؟ وطبعا لم يخَوِّل أحد أحدا، بل دفعه ضميره واستفزته غيرته على دينه مثلما تستفز الغيرةُ كلَّ مؤمن بعقيدة أو مذهب إلى وقوف هذا الموقف حين يستدعى الأمر ذلك، فلا يجد من يقول له: ومن الذى خَوّلك الحديث باسم الشيوعية أو اللينينية أو التروتسكية أو النازية أو الوجودية أو اللاأدرية أو الوضعية المنطقية أو الرأسمالية أو الليبرالية أو الناصرية أو التكعيبية أو التبقيعية أو البنيوية أو التفكيكية... إلخ؟ ولا يوجد عاقل يزعم أو يعتقد أنه عند قيامه بالدفاع عن الإسلام إنما يتحدث باسم الله، إذ لا يعدو الأمر أن يكون اجتهادا من المدافع يعبر فيه عن رأيه هو وفكره هو وفهمه هو، ويتحدث فيه عن نفسه هو لا عن الله ولا عن الرسول. وقد يكون اجتهاده مصيبا، وقد يكون مخطئا. ويستطيع الآخرون أن يناقشونا فيما نقول، فنقوم نحن بتوضيح رأينا ونرد عليهم، فيردون هم بدورهم، ونستطيع نحن بدورنا أن نرد على رد الرد... وهكذا دواليك إلى أن نصل إلى شىء نتفق عليه أو نصل إلى طريق مسدود فيتمترس كل منا وراء فكرته لا يريد عنها حِوَلا، وهذا حقه. ولا أحد منا معصوم، بل كل ما يمكننا قوله هو أننا نبغى إصابة الحقيقة. وقد نكون كذابين فى هذا الادعاء، وقد نكون صادقين. بل نحن لا ندرى ماذا يفعل الله بنا مهما كثرت صلاتنا وصيامنا وزكاتنا وحجنا وحرصنا على التقوى وعمل الصالحات. أما الإجلاب وإحداث الصخب والضجيج بعبارات من مثل: "من خَوّلك التحدث باسم الله؟" فهو الخبث بعينه، إذ معناه أنك تحرّم على المسلم الدفاع عن دينه أو توضيحه أو مناقشة أحد فيما يقول بشأنه، ومن ثم يترك الساحة لكل من هب ودب ليقولوا ما عندهم من سخف دون تعقيب أو تصويب. وأين العاقل المنصف الذى يقول بهذا؟
وكان د. نصر أيضا يلجأ إلى هذا الأسلوب الترهيبى الذى يراد به إخراس المخالفين وزرع الرعب فى قلوبهم، إذ كان يتهم من ينتقدونه هو وأمثاله بأنهم يتجاوزون صلاحياتهم وحدودهم ويجعلون من أنفسهم ناطقين باسم الله (انطر ص30 مثلا من "مفهوم النص"). ترى هل النصوص القرآنية تنطق بما تريد أن تقول بحيث يمكن أن نترك لها مهمة التعبير عن نفسها ونسكت نحن؟ أم هل لا بد أن يُنْطِقها البشر، أى يَنْطِقوا بما يعتقدون أنها تتضمنه؟ وإذا كان عمر قد قال إن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة فإن النصوص هى أيضا لا تنطق من تلقاء نفسها، بل نحن الذين نُنْطِقها. والمهم هو الإخلاص فى هذا الإنطاق، والتدقيق فيه ومراجعته والاستماع إلى ما عند الآخرين واستيعابه وتقليبه على كل الوجوه حتى يصل الـمُنْطِق إلى ما يطمئن إليه ضميره فى نهاية المطاف. صحيح أن هؤلاء المنطقين للنصوص قد يخطئون كما قلنا، لكننا لو جرينا على المبدإ القائل بأن كل من هو معرَّض للخطإ فعليه أن يسكت، فعندئذ لن يُقْدِم البشر على قول أى شىء أو فعله، إذ الخطأ متربص بهم فى كل خطوة على الطريق لا عند النواصى والمنعطفات فقط. وبالمناسبة فنصر أبو زيد يزعم أنه وأمثاله هم الوحيدون الذين يفهمون الحقيقة الدينية (انظر ص63 من "نقد الخطاب الدينى"). أليس هذا هو بعينه ما يأخذه على خصومه؟ ألا يضع نفسه بهذه الطريقة موضع المتحدث باسم الله؟ من الواضح الذى لا يمكن أن تخطئه العين أنه يحلل لنفسه ما يحرّمه على الآخرين. والسبب مفهوم طبعا، إذ هو لا يريد أن يرد عليه أحد حتى لا ينكشف عواره ويفتضح مستواه فى التفكير والتعبير. وبهذا يتبين لنا أن مزاعمه حول العلمية الصارمة التى ينتهجها، والأسطورية التخريفية التى يرمى بها خصومه، هى كلام فى الهواء لا قيمة له.
وفى كتاب "التفكير فى زمن التكفير" (بدءا من ص21) يعمم الكاتب تعميما خطيرا إذ يحمل على الخطاب الدينى كله فى كل العصور وفى كل البيئات حملة شعواء متهما إياه بأنه خطاب تكفيرى. وهو لون من الإرهاب يخوف به المتدينين حتى لا يفتحوا فمهم ويتركوا الساحة له كى يفعل ما يحلو له دون رقيب أو حسيب، فتراه يصورهم وكأنهم ليس لهم شغلة ولا مشغلة إلا القول بأن فلانا أو علانا أو ترتانا كافر ابن ستة وستين، وهو أمر غير صحيح ولا معقول. ثم إننا نراه بعد قليل يتراجع شيئا ما فيقول إن المقصود بذلك هو الخطاب الدينى المعاصر وحسب. ثم بعد ذلك يتراجع مرة أخرى فيستثنى بعض الأشخاص ممن يقول عنهم إنهم يعيشون رغم ذلك فى الظل لا يظهرون للعيان، وليس لهم من ثم أى تأثير. وهو فى هذا وذاك لا يحلل ولا يمحص ولا يتحقق مما يقول بل يلقى الكلام على عواهنه بعبارات إنشائية رنانة طنانة لا تسمن ولا تغنى من جوع حتى ليظن من يقرأ كلامه ولا معرفة له بالواقع أن كل من يكتب أو يتحدث فى الدين ينهال تكفيرا على الناس عَمّالاً على بَطّال من الصباح للمساء، ومن ظلام الليل إلى نور النهار... وهكذا إلى أن تقوم الساعة، وفى فم أحدهم تكفيرة، فلْيلفظها حتى يبرئ ذمته أمام الله ويُعْذِر إليه سبحانه.
ومما أَجْلَبَ به د. نصر أبو زيد فى وجه المتدينين وهجومه على الخطاب الدينى قوله إن هذا الخطاب يقوم، فيما يقوم، على تغيير المنكر باليد (انظر ص69 من كتاب "نقد الخطاب الدينى"/ ط2/ سينا للنشر/ 1994م). لكن هل أصحاب الخطاب الدينى (والمقصود الخطاب الإسلامى وحده طبعا) هم دون غيرهم الذين ينادون بالتغيير عن طريق اليد؟ ترى كيف غيرت الثورة الفرنسية والإنجليزية والروسية والرومانية والإيرانية الأوضاع التعيسة البائسة التى كانت تنوء بها الشعوب؟ أليس عن طريق التغيير باليد؟ لكن المشكلة هى أن بعض الناس الطيبين يظنون أن التغيير باليد يمكن أن يتم وينجح ويحدث التغيير على يد فئة صغيرة من المخلصين تنتمى عادة إلى الجيش فيما يسمى بالانقلاب العسكرى. وهناك الجماعات الشبابية المتحمسة دون تبصر والتى تظن أن تغيير الأوضاع السياسية يمكن أن يتم بمعزل عن وعى العشب بحقوقه ومشاركته فى هذا التغيير بناء على هذا الوعى. وفاتهم أن مثل ذلك التغيير الذى لا ينبع من نفوس الشعوب ولا يتم بأيديها إنما هو تغيير سطحى، فضلا عن أنه لا يدوم. وقد يكون الأمر مجرد مؤامرة من جانب إحدى القوى الكبرى لإيهام الناس أن التغيير قد تم، والحمد لله، فلا داعى لاتخاذ أى تصرف آخر، ومن ثم يتم إجهاض الرغبة فى التغيير. أما فى الثورات المذكورة فلم يتم التغيير إلا على يد طوائف الشعب بعدما استجابت لدعوات مصلحيها ولم تبق جالسة على المساطب تلعب السيجة والكوتشينة أو تكتفى بالغناء والرقص وهز الأرداف مدحا للتغيير دون أية مشاركة فيه. أما الانقلابات العسكرية وما شابهها فتنتهى دائما إلى الاستبداد والهزائم والتقهقر والفساد الذى يعصف بكل شىء. المهم أن د. نصر أبو زيد يدين الخطاب الدينى مع أن أعظم التغييرات فى التاريخ إنما تمت باليد، يد الشعوب صاحبة المصلحة.
وقد كنت قديما أستغرب الحديث النبوى الكريم الذى يقول: "من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه، فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات إلا مات ميتة جاهلية" ولا أحقق معناه، وبخاصة حين أرى بعض الناس يستشهدون به لإسكات كل نقد يمكن أن يوجَّه للحاكم، الذى هو فى كثير من بلاد المسلمين حاكم غشوم فاسد ظالم، إلى أن استنارت بصيرتى وفهمت عبقرية الرسول العظيم. ذلك أن الحديث يخلو تماما من أية مساندة للاستبداد أو تثبيط لهمم المصلحين والمنتقدين، بل المقصود به التنبيه إلى أن الأقلية التى لا يعجبها شىء فى سياسة الحكومة لا ينبغى أن تهب للتو ثائرة على الأوضاع متصورة أنها هى كل الشعب، ومن ثم فمن حقها أن تقوم فى الحال فتغيّر ما ترى أنه فساد وانحراف، إذ إن عواقب مثل هذا التصرف وخيمةٌ بشعة الوخامة. أما التصرف السياسى الحكيم الناجع فهو توعية المصلحين للناس من حولهم والمجاهدة بالكلمة. وعندئذ، وعندئذ فحسب، يستطيعون أن يحققوا ما يريدون من تغيير، وإلا فلا. وهذه هى فلسفة الحكم الشورِىّ والديمقراطىّ. أما الانقلابات العسكرية فإنها سبيل أكيد إلى الضياع والطغيان والفساد، الذى نشاهده عيانا بيانا فى كثير من بلاد المسلمين حيث يتحكم العسكر الجهلاء الخبثاء الأغبياء فى مقدرات البلاد والعباد، وتنتهى الأمور دائما على أيديهم إلى البوار والخسار.
وفى الصفحة الخامسة والعشرين من كتاب "التفكير فى زمن التكفير" يمضى اتهام أبو زيد للمتدينين خطوة أخرى، إذ يقول إن منهج النقل الذى يسير عليه المتدينون (يقصد منهج الحفظ دون فهم أو تعقل) يقوم على الاتباع، ويناقض الإبداع ويعاديه، ويؤدى إلى التكفير العقلى الذى يؤدى بدوره إلى التصفية البدنية. ثم يقفز قفزة بهلوانية فى الهواء قائلا إن اللغة لم تكن عابثة حين جعلت التفكير والتكفير متقاربين لفظا، إذ الفرق بينهما تقديم حرف على حرف فقط بحيث إن الشخص إذا لم يُحْكِم تفكيره فإنه يلجأ إلى تكفير الآخرين الذين يختلف معهم. والواقع أن هذا تلاعب بالألفاظ يستند إلى مقولة "الاشتقاق الأكبر" التى قال بها ابن جنى، رغم أن هذا الاشتقاق الأكبر عند ذلك العالم اللغوى الكبير لا يعتمد إلا على أمثلة جد قليلة مع اعتساف فى التطبيق، مما وضحته فى كتابى: "من ذخائر المكتبة العربية" فى الفصل الذى خصصته لكتاب ابن جنى: "الخصائص". وبناء على هذا الأساس أستطيع أن أقول أنا أيضا بنفس الطريقة إن الفكر والكفر قريب من قريب بحيث إن الشخص إذا لم يحسن الفكر فإنه يقع فى الكفر. فما رأى القراء فى هذا؟
ثم لقد فات نصر أبو زيد أن النقل مطلوب مثلما النقد مطلوب، وكما أن النقل قد يكون معيبا إذا تم على نحو عميانى، فإن النقد قد يكون معيبا إذا تم دون استكمال أدواته من القراءة الواسعة والعقل القوى والتمحيص الدقيق والأناة فى استخلاص النتائج والاستعداد الدائم لمراجعتها وتصحيحها والرجوع عنها إذا تبين له أنه كان مخطئا أو غير دقيق... وهكذا. ولنكن على ذكر من أن الإبداع والنقد لا يمكن أن يتمّا إلا إذا كانت هناك مادة من المعلومات يستندان إليها. وهذه المادة تأتى من النقل، حتى إذا استحصد عقل الشخص استطاع أن يمارس النقد والإبداع. أما أن يبدأ نقده وإبداعه وليس فى عقله شىء، فكيف يستطيع ذلك؟ ترى هل يمكن أن يبدأ الطفل بالاستقلال فى التفكير وليس فى ذهنه أية معلومات قد لُقِّنها فى المدرسة والبيت مثلا؟ ترى هل يمكن أن تدور الرحى على الفاضى دون أن يكون هناك حب تدشّشه؟ إنها فى هذه الحالة سوف تتآكل بالاحتكاك دون حَبٍّ وتظل تطحن نفسها حتى تتفتت وتنتهى.
وإنى لأسأل: ومن أين أتى نصر أبو زيد بما كتبَه فى أبحاثه؟ أليس من النقل من كتب الآخرين؟ إن هذا ليس اتهاما، فنحن أيضا ننقل عن الآخرين، وإلا ما استطعنا أن نؤلف ما ألفناه. إذن فالنقل ليس مسبة حتى ينصب المشانق للمتدينين ظنا منه أنه يستطيع تشويه صورتهم. إنما العيب كل العيب فى أن يكون الكاتب فقيرا فى النقل إلى الحد الذى يخلط عنده ذلك الخلط الشنيع الذى خلطه أبو زيد بين العصر الأموى والعصر العباسى حتى ليجعل الشافعى يتعاون مع الأمويين ويتولى لهم عملا إداريا فى اليمن. ولسوف نأتى إلى هذه النقطة بعد قليل. لكن ذلك لا يعنى أبدا أن يتوقف الشخص عند النقل مثلما يفعل الدكتور نصر مع المفاهيم والمصطلحات الحداثية، التى ينقلها عن النقاد الغربيين أو بالأحرى: عن مترجميها عن النقاد الغربيين، ثم يضطرب فى تطبيقها على الفكر العربى كما سوف يتضح من هذه الدراسة التى فى يد القارئ الكريم لأنه لم يقرإ التراث العربى الإسلامى كما ينبغى. أى كان حظه من النقل عن هذا التراث ضئيلا. لقد صور المرحوم إبراهيم المازنى هذه العملية تصويرا فكاهيا، وإن كان مع هذا صادقا وبديعا أيضا، إذ قال إنه يشبه عربة الرش التى يذهب بها السائق إلى محطة الماء ليملأها ثم يدور بها فى الشوارع فاتحا صنابيرها يرش الأسفلت الملتهب إلى أن تفرغ مما فيها من ماء فيعود بها إلى المحطة كرة أخرى لملئها من جديد... وهكذا. ووجه الشبه أنه يحتاج دائما إلى الرجوع إلى الكتب ليستقى مادته التى يستند إليها فى التأليف، وأنه كلما انتهى من مقال له أو كتاب شعر أنه عربة رش فرغت من الماء، مما يستلزم منه أن يعود فيملأ عقله بقراءات جديدة يستند إليها فى تأليف شىء جديد... إلخ. فهذا كاتب من كبار كتاب الأب العربى فى كل العصور يرينا فى هذه الصورة الفكاهية الجميلة الساحرة كيف أن النقل شىء أساسى لا يمكن أن يستغنى عنه الكاتب مهما كان عبقريا مثله رحمه الله.
وقد كتب أحد طلاب الدكتور نصر تعليقا فى بعض المنتديات يتبين منه أن حظ الدكتور من المعلومات التى تحتاجها موضوعات أبحاثه قليل، وهو ما كان يوقعه فى المآزق. قال الطالب المذكور، واسمه نور أبو مدين: "الدكتور نصر ليس متخصصًا في الدراسات القرآنية، بل في علم اللغة، ولكنه أقحم نفسه في تخصص غير تخصصه. لذلك أتى بالأعاجيب شأن كل من يتحدث في غير فنه. وسأحدثك عن واقعة جرت لي شخصيًا معه في ذلك، إذ أنني كنت ضمن أول دفعة يدرس لها الدكتور نصر كتابه: "مفهوم النص" بعد عودته من اليابان. ولم يكن الكتاب قد طبع بعد، وإنما كان مجرد مذكرات مكتوبة على الآلة الكاتبة (نعم الآلة الكاتبة وليس الكمبيوتر، فقد كان ذلك منذ 16 عاما). ودرسه لنا ضمن مادة "علوم القرآن"، التي أُسْنِد إليه تدريسها بقسم اللغة العربية بكلية الآداب. كما درس لنا مادة "علوم الحديث" والتي لم يكن هو نفسه دَرَسَها من قبل. ولا أقول ذلك على سبيل التخرُّص، بل كلي يقين من ذلك للحادثة التي ساقصها عليك: كان الدكتور قد قرر علينا كتاب "الباعث الحثيث" وبعض أجزاء من كتابَيْ "فجر الإسلام" و"ضحى الإسلام" لأحمد أمين... وكان الدكتور يشرح كلام أحمد أمين ويتجنب شرح كتاب "الباعث الحثيث"، حتى قام إليه أحد الإخوة وسأله أن يشرح له عبارة في الباعث وهي: "الرواية تخالف الشهادة في شرط الحرية والذكورة وتعدد الراوي". وهذه العبارة وردت في الهامش. أقصد أنها من كلام الشيخ شاكر رحمه الله. ولأن الدكتور كان يرى العبارة للمرة الأولى في حياته، ولأنه لا يدري أصلاً ما هي الرواية وما هي الشهادة، فقد قام بشرح العبارة على أن الشروط الثلاثة المذكورة هي من شروط الرواية، وليست من شروط الشهادة. وكنت جالسًا فما تحملت الجلوس، فقمت لأصحح له هذا الفهم السقيم. وأشهد أن الدكتور كان واسع الصدر لأقصى درجة في مناقشة تلاميذه. أصر على قوله، فأردت أن أفصّلها له واحدة فواحدة، فقلت له: شرط الحرية غير موجود في الرواية، وموجود في الشهادة،. فأصر على أنه موجود في الرواية أيضًا. والطريف أنه لم يخطر ببالي وقتها إلا موالي عبد الله بن عباس فاحتج بأنهم "موالي"، أي تحرروا. ولو بَقُوا عبيدًا لما قُبِلَتْ روايتهم! فلم أُطِل الجدال معه وانتقلت إلى الشرط الثاني: الذكورة، وذكرت له أن المحدِّثات من النساء يملأن بتراجمهن المجلدات، وعلى رأسهن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فراح يلقي عليّ محاضرة عن العصور الوسطى وقرون الظلام وحقوق المرأة إلى آخر تلك الطنطنة التي لا علاقة لها بما كنا نتحدث عنه. وفي أثناء محاضرته تلك لمعت في ذهني نصيحة من شيخي: أنه قال لي ألا أنصح أحدًا أبدًا على الملأ، وسيّما إن كان أكبر مني سنًا أو قَدْرًا، فبادرت بالجلوس وعزمت على أن أذهب إليه في مكتبه بعد المحاضرة. وبالفعل كان، ودخلت مباشرة في الشرط الثالث وسلكت سلوك المستفهم الجاهل، وليس سلوك الند المتحدي، فقلت له: لا أفهم هذا الشرط. فبادر إلى القول إن كثير من العلماء (هكذا!) يرفضون أحاديث الآحاد ولا يأخذون بها. ولم أرد أن أخوض في جدل أعلم أنه لن ينتهي لشيء، فسألت ببراءة: وهل الشيخ شاكر الذي كتب هذا الكلام منهم؟ وهنا تغير لون وجهه وفهم عبارة الشيخ أخيرًا، فقام بعكس الكلام وادعى أن ظاهر لفظ الشيخ كان غامضًا، فشكرته وانصرفت. هذه الحادثة أوجدت عندي يقينًا أن الدكتور مبتوت الصلة بكتب التراث وأنه لم يقرأ كتب علم الحديث بل قرأ عنها، وقرأ عنها في أسوأ المصادر التي يمكن أن يتعلم منها مسلم. أعني كتابات المستشرقين والمستغربين. وهذا ما أثبتته الأيام لي بعد ذلك، فقد راح يدرس لنا من كتب "مشبوهة" مثل كتاب "الثابت والمتحول" للشيعي المتنصر أدونيس وغيره..." ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/archive/index.php/t-88177.html ).
وأذكر، بمناسبة الحديث عن النقل والإبداع وأهمية كل منهما فى الكتابة والتأليف، ما كتبته إحدى الناقدات الغربيات فى تعريف التناص وتصورها أنه يتلخص فى تركيب الفسيفساءات النصية المأخوذة من هنا وههنا بعضها بجوار بعض، وكان الله يحب المحسنين، فنبهت فى الفصل الذى عقدته للتناصيّة فى كتابى: "مناهج النقد العربى الحديث" إلى أن هناك شيئا جوهريا فات الناقدة المذكورة، وهو شخصية الكاتب نفسه وروحه وإبداعه الذى يركب تلك الفسيفساءات بطريقة معينة فيخلق منها خلقا جديدا ويجعل منها شيئا مدهشا للعقل، وممتعا للذوق معا.
والآن إلى بند آخر من الأغلاط والمغالطات. لقد قدم د. نصر حامد أبو زيد، ضمن ما قدم من أعمال بقصد الترقى لمرتبة الأستاذية، كتابه المسمى: "نقد الخطاب الدينى". والمقصود بـ"الخطاب"، فى لغة بسيطة يستطيع أن يفهمها شخص رجعى منغلق لا يفهم فى البنيوية والتفكيكية والسميوطيقية والمهلبية والعسلية ونبوت الغفير كالدكتور شوقى ضيف ثم العبد لله إذا كان لى أن أن ألتحق بشرف مصاحبة الأستاذ الدكتور حتى فى المعيب والمثالب، هو الكتابات أو الأحاديث التى تتناول القضايا الدينية، سواء فى التفسير أو الحديث أو السيرة أو الفقه أو الخطابة أو علم الكلام أو مقارنة الأديان أو الوعظ والإرشاد... وهلم جرا. وفى هذا الكتاب ينتقد أبو زيد الخطاب الدينى كله انتقادا مطلقا يشمل كل ألوان ذلك الخطاب فى جميع العصور والبلاد، ومن كل الألوان والأطياف والاتجاهات، ودون اعتبار للكاتب سواء كان هو الطبرى أو ابن هشام أو الشافعى أو مالك أو ابن حزم أو الغزالى أو ابن العربى أو الشوكانى أو العقاد أو مالك بن نبى أو خالد محمد خالد... إلى آخر هؤلاء الكتاب، وهم بالآلاف، وإلا لحدده مثلا بالخطاب الدينى الشعبى أو الخطاب الدينى فى العصر العباسى أو الخطاب الدينى المعاصر أو الخطاب الدينى السعودى أو الخطاب الدينى عند خطباء المساجد أو الخطاب الدينى عند فلان أو علان أو ترتان من الكتاب أو الخطباء أو المحاضرين. كما أن انفراد الخطاب الدينى بالنقد قد يوحى، بل المراد عند أبو زيد هو أن يوحى، بأن الخطابات (أو بلغة الرجعيين المنغلقين من أمثال د. شوقى ضيف القامع الظالم المفترى: "الكتابات") الأخرى بريئة من هذا العيب. أى أنه عيب ذاتى فيه لصيق به لا يفارقه. لماذا؟ ليس هناك تفسير أمامى إلا فى أن العيب فى الدين نفسه، ثم انجر إلى الخطاب الخاص به. وفى الصفحة الحادية والعشرين وما بعدها من الكتاب يؤكد الكاتب بكل وضوح أن الخطاب الدينى بجميع أنواعه معيب، وأنه خطاب متطرف إرهابى تكفيرى تحريضى (على القتل طبعا) منغلق رجعى لا عقل فيه ولا فكر بل نقل وترديد للنصوص ترديدا آليا دون فهم أو نقد أو تمحيص كما تفعل الببغاوات التى لا عقل لها، وأنه إذا كان هناك فرق بين خطاب وآخر منه فهو فى الدرجة لا فى النوع. فهل فى هذا التعميم المطلق الذى لا يستثنى أحدا ولا عصرا ولا بلدا فى مجال الكتابات الدينية ("الإسلامية" طبعا من فضلك) شىء من المنهجية العلمية والانضباط الفكرى الذى يصدعنا بعض القوم بالجعجعة فيه؟ أترك الحكم للقارئ.
ثم مغالطة أخرى. ففى الصفحة الثانية والثلاثين من "نقد الخطاب الدينى" نرى الكاتب ينكر إنكارا مطلقا أن يكون أبو زيد قد اتهم العقل الغيبى بشىء. وهذا نص ما قال، والإشارة فيه إلى تقرير الأستاذ الدكتور عبد الصبور شاهين الخاص بترقية د. نصر: "ينتزع عبد الصبور شاهين العبارات من سياقها ليقرر فى يقين عجيب وحسم قاطع غريب: "فى المقدمة يهجم الباحث على الغيب بأسلوب غريب فيجعل العقل الغيبى غارقا فى الخرافة والأسطورة مع أن الغيب أساس الإيمان". وحديثنا الذى يشير إليه مولانا الشيخ هو ما يتعلق بالخطاب الدينى الذى ساند شركات توظيف الأموال بالإسلام. ومسألة "العقل الغيبى" لا وجود لها فى النص المشار إليه من حديثنا تصريحا ولا تلميحا حيث قلنا: "إن عملية النصب الكبرى تلك لم يكن لها أن تحقق ما حقتته دون تمهيد الأرض بخطاب يكرّس الأسطورة والخرافة ويقتل العقل". فالحديث عن خطاب، وليس عن العقل الغيبى. لكن الشيخ أراد أن ينسب لنا إنكار الغيب لكى يدلل بعد ذلك على أن الباحث ينكر "ما هو معلوم من الدين بالضرورة" فيلقى به وبخطابه فى غيابة "الكفر" و"الردة"... إلخ. وفى تعليقه على تفرقتنا بين فصل سلطة الدولة وفصل الدين عن الحياة والمجتمع، وعن خلط الخطاب، بينما يهدف تشويه العلمانية وربطها بالإلحاد... يقول كاذبا فض الله فاه: "ولا أدرى إن كان ذلك عن جهل بمفهوم العلمانية أو هو يضاعف من خطورة هذا الاتجاه بتزييف المفاهيم". وهذا ينقلنا إلى تزييف عبد الصبور شاهين وأتباعه للمفاهيم، خاصة العلمانية والماركسية، بل وتزييفه للأقوال التى لم نقلها ونسبتها لنا، وهو ما يكشف عن دلالات خطيرة نناقشها فى الفقرة التالية".
هذا ما يقوله نصر حامد أبو زيد منكرا أن يكون قد هاجم العقل الغيبى على أى نحو من الأنحاء، بل ينفى نفيا قاطعا أن يكون قد ذكره أى ذكر فى كلامه، مع أن تقرير قسم اللغة العربية بآداب القاهرة الذى أخذ على عاتقه الدفاع عنه قد أتى بنص كلام أبو زيد فى هذا المجال، وفيه إدانة واضح صريحة للعقل الغيبى. والكلام موجود فى الصفحة السادسة عشرة من الكتاب الذى بين أيدينا، وهذا نصه: "يقول تقرير اللجنة إن الكاتب فى مقدمة بحثه "يهجم على الغيب بأسلوب غريب فيجعل العقل الغيبى غارقا فى الخرافة والأسطورة مع أن الغيب أساس الإيمان". والواقع أن الكاتب لم يتعرض للغيب الوارد فى قوله تعالى: "يؤمنون بالغيب"، أى ما غاب عنهم مما أخبرهم به النبى صلى الله عليه وسلم من أمر البعث والجنة والنار، وإنما كلامه بالنص (ص10): "لم تكن المعركة (يقصد المعركة التى دارت حول كتاب "الشعر الجاهلى" لطه حسين) معركة الشعر، بل كانت معركة قراءة النصوص الدينية طبقا لآليات العقل الإنسانى التاريخى لا العقل الغيبى الخارق فى الخرافة والأسطورة". ثم يقول فى تفسير ما يقصده بالعقل الغيبى: "قوى الخرافة والأسطورة (المتحدثة) باسم الدين والتمسك بالمعانى الحرفية للنصوص الدينية"...".
إذن فأبو زيد قد ذكر أولا "العقل الغيبى" على عكس ما أكده من أنه لم يأت له على أى ذكر وأن كلامه هو عن الخطاب الدينى ليس إلا. ثم إنه ثانيا لم يكتف بالحديث عن العقل الغيبى، بل هاجمه وحط من قدره كما رأينا. وثالثا سوف نرى من خلال كلامه هو نفسه ما الذى يقصده بذلك العقل الغيبى. فلن نورد شيئا من لدنّا، بل سيكون معتمدنا على ما قال هو ذاته. لقد أشار إلى كتاب "فى الشعر الجاهلى" للدكتور طه حسين قائلا إن المشكلة كانت فى "قراءة النصوص الدينية طبقا لآليات العقل الإنسانى التاريخى لا العقل الغيبى الخارق فى الخرافة والأسطورة". ومن ثم فعلينا أن نعود إلى ما كتبه طه حسين فى هذا الصدد. والنصوص الدينية التى يشير إليها نصر أبو زيد بالمناسبة هى القرآن، ولا شىء سوى القرآن، إلا أنه بطريقة لحن القول لا يريد أن يضع النقاط على الحروف، بل يوارى ويوارب ظنا منه أن جمهور القراء لن يتنبه إلى تلك اللعبة.
قال طه حسين بشأن ذهاب إبراهيم إلى بلاد العرب وبنائه الكعبة فى مكة هو وابنه إسماعيل عليهما السلام كما ذكر القرآن (أو "النصوص الدينية" بالتعبير المراوغ من نصر أبو زيد): "للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضا. ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي، فضلا عن إثبات هذه القصة التي تحدثنا بهجرة إسماعيل بن إبراهيم إلي مكة ونشأة العرب المستعربة فيها. ونحن مضطرون إلي أن نرى في هذهالقصة نوعا من الحيلة في إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة، وبين الإسلام واليهودية من جهة، والقرآن والتوراة من جهة أخرى. وأقدم عصر يمكن أن تكون قد نشأت فيه هذه الفكرة إنما هو هذا العصر الذي أخذ اليهود يستوطنون فيه شمال البلاد العربية وينشئون المستعمرات. فنحن نعلم أن حروبا عنيفة شبت بين هؤلاء اليهود المستعمرين وبين العرب الذين كانوا يقيمون في هذه البلاد، وانتهت بشيء من المسالمة والملاينة ونوع من المخالفة والمهادنة. فليس يبعد أن يكون هذا الصلح الذي استقر بين المغيرين وأصحاب البلاد منشأ هذه القصة التي تجعل العرب واليهودأبناء أعمام، ولا سيما قد رأي أولئك وهؤلاء أن بين الفريقين شيئا من التشابه غير قليل، فأولئك وهؤلاء ساميون. ولكن الشيء الذي لا شك فيه هو أن ظهور الإسلام وما كان من الخصومة العنيفة بينه وبين وثنية العرب من غير أهل الكتاب قد اقتضى أنتثبت الصلة الوثيقة المتينة بين الدين الجديد وبين الديانتين القديمتين: ديانة النصارى واليهود. فأما الصلة الدينية فثابتة وواضحة، فبين القرآن والتوراة والأناجيل اشتراك في الموضوع والصورة والغرض، فكلها ترمي إلي التوحيد، وتعتمد علي أساس واحد هو هذا الذي تشترك فيه الديانات السماوية السامية. ولكن هذه الصلة الدينية معنوية عقلية يحسن أن تؤيدها صلة أخرى مادية ملموسة أو كالملموسة بين العرب وأهل الكتاب. فما الذي يمنع أن تُسْتَغَلّ هذه القصة، قصة القرابة المادية بين العرب العدنانية واليهود؟ وقد كانت قريش مستعدة كل الاستعداد لقبول مثل هذه الأسطورة في القرن السابع للمسيح، فقد كانت في أول هذا القرن قد انتهت إلي حظ من النهضة السياسية والاقتصادية ضَمِنَ لها السيادة في مكة وما حولها وبسط سلطانها المعنوي عليجزء غير قليل من البلاد العربية الوثنية. وكان مصدر هذه النهضة وهذا السلطان أمرين: التجارة من جهة، والدين من جهة أخري. فأما التجارة فنحن نعلم أن قريشاكانت تصطنعها في الشام ومصر وبلاد الفرس واليمن وبلاد الحبشة. وأما الدين فهذه الكعبة التي كانت تجتمع حولها قريش ويحج إليها العرب المشركون في كل عام، والتيأخذت تبسط علي نفوس هؤلاء العرب المشركين نوعا من السلطان قويا، والتي أخذ هؤلاء العرب المشركون يجعلون منها رمزا لدين قوي كأنه كان يريد أن يقف في سبيل انتشار اليهودية من ناحية، والمسيحية من ناحية أخري. فنحن نلمح في الأساطير أن شيئا منالمنافسة الدينية كان قائما بين مكة ونجران. ونحن نلمح في الأساطير أيضاأن هذه المنافسة الدينية بين مكة وبين الكنيسة التي أنشأها الحبشة في صنعاء هي التيدعت إلي حرب الفيل التي ذكرت في القرآن. فقريش إذن كانت في هذا العصر ناهضة نهضة مادية تجارية ونهضة دينية وثنية. وهي بحكم هاتين النهضتين كانت تحاول أنتوجد في البلاد العربية وحدة سياسية وثنية مستقلة تقاوم تدخل الفرس والروم والحبشة وديانتهم في البلاد العربية. وإذا كان هذا حقا، ونحن نعتقد أنه حق، فمنالمعقول جدا أن تبحث هذه المدنية الجديدة لنفسها عن أصل تاريخي قديم يتصل بالأصول التاريخية الماجدة التي تتحدث عنها الأساطير. وإذن فليس ما يمنع قريشا من أنتقبل هذه الأسطورة التي تفيد أن الكعبة من تأسيس إسماعيل وإبراهيم كما قبلت روما قبل ذلك ولأسباب مشابهة أسطورة أخري صنعها لها اليونان تثبت أن روما متصلة بإنياس بن بريام صاحب طروادة. أمر هذه القصة إذن واضح، فهي حديثة العهد ظهرت قبيلالإسلام لسبب ديني، وقبلتها مكة لسبب ديني وسياسي أيضا".
إذن فهذا النص الدينى القرآنى ليست سوى أسطورة وجدها محمد جاهزة فاستغلها. وهذا التصرف من جانبه لا يعنى إلا شيئا من شيئين: أنه كان على علم بأسطوريتها، لكنه قبلها بغرض نفعى لا علاقة له كما نرى بحق أو باطل، فهو إذن رجل براجماتى مكيافيلى، الغاية عنده تبرر الوسيلة، أو أنه كان رجلا جاهلا فصدق هذه الأسطورة ورددها فى قرآنه ظنا منه أنها حق لا ريب فيه. ومن كان عنده تفسير ثالث فليوافنى به، وله المثوبة والأجر من الله! والعقل الغيبى الخرافى الأسطورى هو الذى يصدق ما جاء فى القرآن ويأخذه على أنه حقيقة تاريخية، أما العقل العلمى فيرى فيه أسطورة ملفقة زيفها العرب فى الجاهلية، ثم جاء الإسلام فاستغلها لأسباب سياسية. ومن كان لديه تفسير مختلف لما قاله كل من طه حسين ونصر أبو زيد فله كل الشكر إذا أمدنا به. أما الرد على ذلك الكلام الفارغ الذى تقيأه طه حسين فليس هنا موضعه، إذ تولى كتابى: "معركة الشعر الجاهلى بين الرافعى وطه حسين" وبحثى المنشور فى المشباك: "نظرية طه حسين فى الشعر الجاهلى: سرقة أم ملكية صحيحة؟" هذه المهمة. وكانت نتيجة نشرى لكتابى عن "معركة الشعر الجاهلى" أن انقضت على صاحب الكتاب قوى الظلام والبطش الإجرامى التى لا تطيق أن يخالفها أحد، وبخاصة إذا كشفت المخالفة زيف كلام طه حسين وبينت بالأدلة المنهجية الصارمة سخفه وتهافته، نعم انقضت قوى البطش الإجرامى التى تضرب ضربتها فى ظلام الليل البهيم دائما ولا تظهر فى نور النهار أبدا وانهالت بالمطارق الحديدية الثقيلة على دماغه تريد تحطيمه، وهيهات. وقد احتسبنا نحن ما وقع علينا من أَذَى المجرمين التافهين عند الله، الذى لا يضيع عنده ما يحتسبه عبده الراجى رحمته وثوابه.
وبهذه المناسبة فقد قال طه حسين أيامئذ فى بعض الصحف إن "العالِم ينظر إلى الدين كما ينظر إلى اللغة، وكما ينظر إلى الفقه، وكما ينظر إلى اللباس، من حيث إن هذه الأشياء كلها ظواهر اجتماعية يحدثها وجود الجماعة وتتبع الجماعة فى تطورها. وإذن فالدين فى نظر العلم الحديث ظاهرة كغيره من الظواهر الاجتماعية، لم ينزل من السماء ولم يهبط به الوحى، وإنما خرج من الأرض كما خرجت الجماعة نفسها، وإن رأى دوركايم أن الجماعة تعبد نفسها، أو بعبارة أدق: أنها تؤله نفسها" (مصطفى صادق الرافعى/ تحت راية القرآن/ المكتبة العصرية/ بيروت/ 1423هـ- 2002م/ 267). وبهذه المناسبة أيضا هناك بحث لإسماعيل أدهم بعنوان "طه حسين- دراسة وتحليل" نشرته سامى الكيالى صاحب مجلة "الحديث" الحلبية عام 1938م، يمدح فيه أدهم الدكتور طه واصفا إياه بالإلحاد والثورة على الدين، ومشيرا إلى رأيه فى الأديان الذى نقلناه لتونا. فيمكن القارئ أن يرجع إليه ليتأكد مما نقول.
ومما يتصل بهذا الأمر تأكيد أبو زيد أن الدين الذى يدعو إليه هو الدين بعد تصفيته من الأساطير (انظر "نقد الخطاب الدينى"/ 30). ولنلاحظ أنه يقول: "الدين"، وليس "التدين"، وإن عاد بعد قليل قائلا إنه قد اتضح الآن الفرق بين الدين والتدين. يقصد أنه لا يهاجم الدين بل التدين كما يمارسه بعض المسلمين. إلا أن كلامه الأصلى لا يتحدث إلا عن الدين. نعم الدين نفسه لا فَهْم الناس له. فهل فى الإسلام أساطير؟ وما هى يا ترى؟ ثم كيف ننقيه منها؟ لقد وضعنا أيدينا، عند تحليلنا لكلام الدكتور نصر عن طه حسين فى سياق هجومه على ما سماه: "العقل الغيبى الخرافى الأسطورى"، على مثال مما يُعَدّ عند القوم من الأساطير، وهو زيارة إبراهيم لبلاد العرب وبناؤه هو وابنه إسماعيل الكعبة. فيا ترى ماذا يراد منا أن نصنع بالآيات التى تتحدث فى هذا الموضوع على أنه حقيقة تاريخية ويرى القوم أنها مجرد خرافات وأساطير؟ هل نلغيها من القرآن؟ أنا أكره الكلام المداور، وأحب أن تكون العبارة مُبِينة، وإن كنت أثق بقدرتى على كشف ما وراء اللف والدوران فى كتابات بعض الناس. ولا بد أن نوضح هنا أن سلامة موسى كان دائم الهجوم على "الغيبيات" فى الفاضية والملآنة، ومعروف أن الغيبيات موضوع من موضوعات علم الكلام الإسلامى، وتسمى أيضا بـ"السمعيات"، أى الموضوعات غير القابلة لأن نراها أو نسمعها أو نلمسها أو نشمها، بل نسمع بها من الوحى ليس إلا، مثل الملائكة والجن والجنة والنار والحساب... وما إلى ذلك. وأكتفى بهذا.
وثم نقطة أخرى، إذ يقول نصر أبو زيد: "لقد كان ارتباط ظاهرتَىِ الشعر والكهانة بالجن فى العقل العربى وما ارتبط بهما من اعتقاد العربى بإمكانية الاتصال بين البشر والجن هو الأساس الثقافى لظاهرة الوحى الدينى ذاتها. ولو تصورنا خلو الثقافة العربية قبل الإسلام من هذه التصورات لكان استيعاب ظاهرة الوحى أمرا مستحيلا من الوجهة الثقافية. فكيف يمكن للعربى أن يتقبل فكرة نزول ملك من السماء على بشر مثله ما لم يكن لهذا التصور جذور فى تكوينه العقلى والفكرى؟ وهذا كله يؤكد أن ظاهرة الوحى (القرآن) لم تكن ظاهرة مفارقة للواقع أو تمثل وثبا عليه وتجاوزا لقوانينه، بل كانت جزءا من مفاهيم الثقافة ونابعة من مواضعاتها وتصوراتها. إن العربى الذى يدرك أن الجنِّىّ يخاطب الشاعر ويلهمه شعره، ويدرك أن العراف والكاهن يستمدان نبوءاتهما من الجن، لا يستحيل عليه أن يصدق بملك ينزل بكلام على بشر. لذلك لا نجد من العرب المعاصرين لنزول القرآن اعتراضا على ظاهرة الوحى ذاتها، وإنما انصب الاعتراض إما على مضمون كلام الوحى أو على شخص الموحَى إليه. ولذلك أيضا يمكن أن نفهم حرص أهل مكة على رد النص الجديد (القرآن) إلى آفاق النصوص المألوفة فى الثقافة، سواء كانت شعرا أم كهانة... إن العلاقة بين النبوة والكهانة فى التصور العربى أن كليهما "وحى"، اتصال بين إنسان وبين كائن آخر ينتمى إلى مرتبة وجودية أخرى: ملَكٌ فى حالة النبى، وشيطانٌ فى حالة الكاهن. وفى هذا الاتصال/ الوحى ثمة رسالة عبر شفرة خاصة لا يتاح لطرف ثالث أن يفهمها على الأقل لحظة الاتصال، وذلك لأن النبى "يبلِّغ" للناس بعد ذلك الرسالة، والكاهن "ينبئ" عن محتوى ما تلقاه. وفى هذا كله تصبح ظاهرة "الوحى" ظاهرة غير طارئة على الثقافة ولا مفروضة عليه من خارج" (ص38- 39، 44 من كتاب مفهوم النص- دراسة فى علوم القرآن/ الهيئة المصرية العامة للكتاب/ 1993م).
وقبل أن ندخل فى مناقشة تفاصيل هذا الكلام نتساءل: هل كان الجاهليون يسمون وسوسة الشياطين للكهان: "وحيا"، ومن ثم يصح أن يقول نصر أبو زيد إن هناك علاقة بين مفهوم الوحى الجاهلى ومفهوم الوحى فى الإسلام؟ كل ما أورده د. نصر فى هذا الصدد نصان شعريان جاهليان ليس فيهما أدنى إشارة إلى أى وحى (ص39). وهذان هما النصان، ولا أدرى لم أوردهما ما داما لا يحتويان على الشاهد المراد. فأما النص الأول فهو للأعشى، ويتحدث فيه عن قرينه مِسْحَل، أى الشيطان الذى كان يعتقد أنه يساعده فى نظم الأشعار:
وَما كُنتُ شاحِردا وَلَكِن حَسِبتُني * إِذا مِسْحَلٌ سَدَّى لِيَ القَولَ أَنطِقُ
شَريكانِ فيما بَيْنَنا مِن هَوادَةٍ * صَفِيّانِ: جِنِّيٌّ وَإِنسٌ مُوَفَّقُ
يَقولُ فَلا أَعْيَا لِشَيءٍ أَقولُهُ * كَفانِيَ لا عَيٌّ وَلا هُوَ أَخرَقُ
وأما النص الثانى فلبدر بن عامر:
ولقد نطقتُ قوافيًا إنسيةً * ولقد نطقتُ قوافىَ التجنينِ
وهناك شاهد آخر أورده نصر أبو زيد لعلقمة الفحل، لا بمعنى اتصال الجن بالإنس، بل بمعنى حديث الثور الوحشى إلى أبقاره، وشتان الأمران. وهذا هو الشاهد:
يوحي إِلَيها بِإِنقاضٍ وَنَقنَقَةٍ * كَما تَراطَنُ في أَفدانِها الرومُ
ولقد بحثت بنفسى فى الموسوعة الشعرية الإماراتية لعلى أجد شيئا يعضد ما زعمه د. أبو زيد عن تسمية الجاهليين لاتصال الكهان والشعراء بالجن: "وحيا" فلم أجد فى الشعر الجاهلى إلا نصا واحدا لزهير بن جناب الكلبى أتت فيه فعلا كلمة "وحى"، ولكن بمعنى "حديث" الأطلال إلى الشاعر الحزين على فراق حبيبته لا بمعنى وسوسة الجن إلى الإنس كما يقول أبو زيد:
فَكادَت تُبينُ الوَحيَ لَمّا سَأَلتُها * فَتُخبِرُنا لَو كانَتِ الدارُ تَنطِقُ
هذا فى مجال الأسماء، أما فى مجال الأفعال فلم أعثر إلا على البيت الذى ساقه د. نصر لعلقمة الفحل ليس غير. ونخرج من هذا كله أن الأساس الذى أقام عليه نصر حامد أبو زيد دعواه بمشابهة الوحى القرآنى للوحى الكهانى والوحى الشعرى هو أساس منهار لم يكن يصح أن يتخذه مستندا فى مثل هذه القضية الحساسة التى يمكن أن يُزِيغ الأبصارَ فيها كلامُه المندفع غير المسؤول.
ولقد لاحظ القارئ كيف يكرر د. نصر أبو زيد عبارة "ظاهرة الوحى القرآنى"، مع أن القرآن حالة فردية لا تمثل ظاهرة، إذ هو لم ينزل على غير محمد صلى الله عليه وسلم، ولو كان ظاهرة لرأينا كثيرا من العرب أنبياء يتنزل القرآن عليهم. هذا هو معنى الظاهرة، أما إذا كانت الحالة فردية أو محصورة فى نطاق ضيق فلا تسمَّى: ظاهرة. ترى هل إذا اكتشف السكان مثلا فى مدينة من المدن أن بينهم لصا، هل يقال إن اللصوصية أصبحت تمثل ظاهرة فى مدينتهم؟ هل إذا اكتشف الأطباء فى بلد من البلاد حالةَ فشلٍ كٌلْوِىّ، هل يقال إن هذا المرض صار يشكل ظاهرة؟ واضح أن نصر أبو زيد لا يراعى معانى المصطلحات التى يستعملها، ويترك لنفسه العنان فى استخدامها كما يعنّ له دون تدقيق أو تبصر أو مراعاة لما استقر عليه العُرْف اللغوى والاصطلاحى. لو كان نصر أبو زيد قال إن "الوحى" (الوحى بإطلاق) يمثل ظاهرة لكان كلامه معقولا، فالوحى فعلا يمثل ظاهرة لتكرره وشيوعه فى التاريخ البشرى، إذ ما من أمة إلا وقد ظهر فيها نذير أو أكثر حسبما ينبئنا القرآن المجيد، أما الوحى القرآنى بالذات فهو حالة من الحالات التى تتمثل فيها تلك الظاهرة، لكنه لا يشكل وحده ظاهرة.
أيا ما يكن الأمر فإن كلام أبو زيد يفيد أن مفهوم الوحى فى الإسلام هو انعكاس للفكر الجاهلى. لكن هل جاء الإسلام للعرب وحدهم فاستغل مفهوم الكهانة عندهم ورتب عليه مفهوم النبوة؟ أم كيف يا ترى يفسر انتشار الإسلام فى كل بلاد العالم قديما وحديثا، وهم ليسوا عربا، ومنهم اليهودى والنصرانى والوثنى والمادى، والموحد والمثلث والثنوى والمتشكك، والفارسى والمصرى والتركى والإسبانى والأمريكى والهندى والصينى واليابانى والمكسيكى والأسترالى...؟ وبالمثل كيف يفسر تكذيب العرب بالكهانة بعد مجىء الإسلام بل تَرْك كثير من الكهان لكهانتهم إذا كان مفهوم النبوة امتدادا لمفهوم الكهانة؟ كذلك لو كان ما يحاوله أبو زيد من الربط بين الكهانة والنبوة صحيحا لكان الجاهليون قد سارعوا إلى الإيمان بالنبى من أول وهلة ما دام الأمران واحدا. لكنهم، فى واقع الأمر، كانوا بوجه عام يصدقون الكهان ولا يصدقون النبى إلا بعد أخذ ورد ومجادلات وحروب على ما هو معروف للجميع. وقد قال أبو جهل إن قبيلته وقبيلة النبى كانتا كفرسى رهان، أى متساويتين فى الشرف والكرامة، إلى أن قال محمد إنه نبى، وهو ما أكد أبو جهل أن قبيلته لا يمكنها شىء من ذلك. ترى لماذا؟ الواقع أنه لو كانت النبوة امتدادا للكهانة كما يزعم نصر أبو زيد ما قال أبو جهل ما قال. ولقد كان بعض الجاهليين، حسبما حكى القرآن فى مواضع عدة منه، يقولون عن النبى إنه كاهن، ومع هذا كذبوه. فلماذا إذن لم يؤمنوا به كما كانوا يؤمنون بصدق ما يقوله الكاهن لهم؟ وفوق هذا فإن وظيفة النبى ووظيفة الكاهن مختلفتان بل متناقضتان، إذ الكاهن إنما يزعم مقدرته على علم الغيب، وكان العرب لا يقصدونه إلا لمعرفة ما خفى عليهم، أما النبى فقد فاجأهم منذ البداية بالقول بأنه لا يعلم الغيب، إذ لا يعلم الغيب إلا الله، فضلا عن أن رسالته هى تتميم مكارم الأخلاق والدعوة إلى الإيمان بالله الواحد الأحد وإلى العبادة والعمل الصالح، وهو ما زادهم منه نفورا. كما أن الكاهن كان يحرص على لفلفة أقاويله فى ثياب الغموض حتى تحتمل عدة معان بحيث تصدُق على أى وضع، أما القرآن والحديث فمعانيهما واضحة لا لفلفة فيها ولا غموض. ثم إن كلام الكاهن قصير جدا لا يتجاوز عدة جمل، أما القرآن فقد يطول النص منه حتى ليبلغ صفحات وصفحات وصفحات، كما فى "البقرة" و"آل عمران" مثلا. ليس ذلك فقط، بل كان الكهان يأخذون جُعْلاً على ما يقولون، أما النبى فقد كرر القرآن منذ وقت جد مبكر أنه لا يسأل قومه على ما يقوله أى أجر. واضح أن الأمرين مختلفان تماما حتى فى عقول الجاهليين.
وفى الصفحة السابعة والخمسين بعد المائة من كتاب "مفهوم النص" يزعم نصر أبو زيد أن العرب لم تستطع التمييز بين القرآن وبين الشعر وسجع الكهان، فلذلك قالوا عنه إنه شعر أو إنه من اسجاع الكاهنين. وهذا كلام غير صحيح، وإلا فإذا كان القرآن فى نظرهم شعرا وكهانة، فلماذا لم يؤمنوا به كما كانوا يؤمنون بصحة كلام الكهان مثلا؟ إن الفروق بين القرآن والشعر والسجع الكهانى واضحة تمام الوضوح، لكن عنادهم هو الذى أملى لهم فى الغى والكفر. وإذا كان القرآن قد اختلط عندهم بالشعر، وتحداهم بأن يأتوا ولو بسورة منه، فلماذا لم يقف من بينهم أحد ويقول: "هأنذا آتى بسورة من مثله"، ثم ينشد قصيدة من قصائده؟ كذلك قد رموا الرسول بالكذب، فهل كان القرآن فى ثقافتهم يشبه كذب الكذابين؟ وقالوا عنه إنه سحر، فهل كان السحر هكذا؟ وعلى كل حال هأنذا أسوق وصف عتبة بن ربيعة للقرآن، ومنه يتبين أن العرب كانوا واعين بالفروق التى تميز بين القرآن والكهانة والشعر تمام الوعى.
ففى سيرة ابن هشام أن "عتبة بن ربيعة، وكان سيدا حليما، قال ذات يوم وهو جالس في نادي قريش، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وحده في المسجد: يا معشر قريش، ألا أقوم إلى هذا فأكلمه أمورا لعله أن يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكفّ عنا؟ وذلك حين أسلم حمزة بن عبد المطلب، ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون. فقالوا: بلى يا أبا الوليد، فقم فكلمه. فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا ابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من السِّطَة في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت من مضى من آبائهم. فاسمع مني أَعْرِض عليك أمورا تنظر فيها لعلك أن تقبل منها بعضها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل يا أبا الوليد أسمع. فقال يا بن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت من هذا القول مالا جمعنا من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت إنما تريد شرفا شرّفناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد مُلْكا ملَّكناك، وإن كان هذا الذي يأتيك رَئِيًّا تراه ولا تستطيع أن ترده عن نفسك طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوَى منه. ولعل هذا الذي تأتي به شعر جاش به صدرك، فإنكم، لَعَمْرِي يا بني عبد المطلب، تقدرون منه على ما لا يقدر عليه أحد. حتى إذا فرغ عتبة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفرغتَ يا أبا الوليد؟ قال: نعم. قال: فاستمع مني. قال: أفعل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بسم الله الرحمن الرحيم* حم* تنزيلٌ من الرحمن الرحيم* كتابٌ فُصِّلَتْ آياته قرآنا عربيا". فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها عليه. فلما سمعها عتبة أنصت له، وألقى بيده خلف ظهره معتمدا عليها يستمع منه حتى انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة فسجد فيها، ثم قال: قد سمعتَ يا أبا الوليد ما سمعتَ، فأنت وذاك. فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به. فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ فقال: ورائي أني والله قد سمعت قولا ما سمعت بمثله قط. والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا الكهانة. يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها بي. خَلُّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه واعتزلوه. فو الله ليكونن لقوله الذي سمعتُ نبأ. فإن تُصِبْه العرب فقد كُفِيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فمُلْكه مُلْككم، وعِزُّه عِزُّكم، وكنتم أسعد الناس به. قالوا: سَحَرك والله يا أبا الوليد بلسانه. فقال: هذا رأيي، فاصنعوا ما بدا لكم".
ثم إن نصر أبو زيد لا يكتفى بهذا، بل يمضى على غُلَوائه فيرمى القرآن بالبراجماتية، إذ يزعم أن القرآن قد تقبل الكهانة فى البداية لأنها سبق أن بشرت بمجىء النبى، ثم لما تمت له الاستفادة من تبشير الكهان بمجىء النبى عليه السلام عاد فأنكرها وولاها ظهره بعدما أخذ منها ما يريد. كيف؟ يقول نصر أبو زيد إن القرآن فى السور المكية، أى فى المرحلة التى كان بحاجة إلى من يشهد له بالصدق (يقصد الكهان، الذين يقال إنهم قد بشروا بالنبى قبل مجيئه فمهدوا له الطريق)، قد حرص على ممائلة سجعهم فكانت الفاصلة فى سور المرحلة المكية، ولكنه بعدما أخذ من الكهان ما يريد واستقرت دعائمه ولم يعد فى حاجة إلى شهادتهم، حرص على أن يخالف سجعهم، فخلت السور المدنية أو كادت من الفاصلة (انظر "مفهوم النص"/ 161- 164).
هذا ما زعمه أبو زيد، أما حقائق التاريخ والواقع فشىء آخر غير هذه التخريفات: فأولا لقد نفى القرآن منذ وقت مبكر فى مكة أن يكون الرسول كاهنا، وهو ما يبرهن بكل قوة وحسم أنه يدين الكهانة والكهان ويتبرأ منهم منذ البداية، فكيف يقال إنه كان حريصا على مماثلتهم؟ يقول جل شأنه: "فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ" (الطور/ 29)، "وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ* وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ" (الحاقة/ 41- 42). وثانيا لم يكن السجع خصيصة مقصورة على كلام الكهان، بل كان الجاهليون يراعونه فى الخطب والأمثال. كل ما هنالك أنه عند الكهان كان متكلفا ثقيلا وغامضا يحتمل معانى متعددة كبيت الثعلب له عدة أبواب بحيث إذا أطبق عليه الصائد من بابٍ تسلل هو من بابٍ غيره دون أن يشعر الصائد به، أما فى الخطب والأمثال فكان السجع طبيعيا سلسا. وثالثا من قال إن الفاصلة قد اختفت أو ندرت فى القرآن المدنى؟ إنها موجودة فى كل سور القرآن: مكيها ومدنيها، وإلا فليشرح لنا د. نصر ماذا يعنيه بمصطلح "الفاصلة" حتى نفهم مرمى كلامه ذاك العجيب.
وهذه بعض الأمثلة من سجع الخطب والأمثال. فمن ذلك خطبة عبد المطب بن هاشم جد الرسول عليه السلام حين ذهب مع وفد من قريش لتهنئة سيف بن ذى يزن ملك اليمن على تخلص بلاده من الاحتلال الحبشى: "إن الله تعالى أيها الملك أَحَلَّك محلاًّ رفيعًا، صعبًا منيعًا، باذخًا شامخًا، وأنبتك منبتًا طابت أَرُومَتُه، وعزَّتْ جرثومتُه، وثبَتَ أصله، وبَسَقَ فرعه، في أكرم معدن، وأطيب موطن. فأنت، أَبَيْتَ اللعن، رأْسُ العرب وربيعُها الذي به تُخْصِب، ومَلِكها الذي به تنقاد، وعمودها الذي عليه العِمَاد، ومعقلها الذي إليه يلجأ العباد. سَلَفُك خير سلف، وأنت لنا بعدهم خير خَلَف. ولن يَهْلِك من أنت خَلَفُه، ولن يَخْمُل من أنت سَلَفُه. نحن، أيها الملك، أهل حَرَم الله وذمّته وسَدَنة بيته. أَشْخَصَنا إليك الذي أبهجك بكشف الكَرْب الذي فدحنا، فنحن وفد التهنئة لا وفد الَمْرِزَئة". ومنها خطبة قس بن ساعدة الإيادى فى سوق عكاظ: "أيها الناس، اجتمعوا واسمعوا وعوا. إنه من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آتٍ آت، أقسم قس قسما لا كذب فيه ولا إثم إن في السماء لخبرا، وإن في الأرض لعِبَرا. سقف مرفوعٌ، ومهادٌ موضوعٌ، وبحرٌ مسجورٌ، ونجومٌ تسير ولا تغور. ما لي أرى الناس يذهبون ولا يرجعون؟ أرَضُوا بالمقام فأقاموا أم تُرِكوا فناموا؟ أقسم بالله قسمًا إن لله دينا هو أرضى من دينٍ نحن عليه. وأراكم قدتفرقتم بآلهةٍ شتى. وإن كان الله رب هذه الآلهة، إنه ليجب أن يعبد وحده". ومن الأمثال: "اختلط الحابل بالنابل"، "إذا أردتَ المحاجزة فقَبْلَ المناجزة، "إذا لم تَغْلِبْ فاخْلُبْ"، "إذا جاء الحَيْن، حارَ العَيْن"، "اِرْقَ على ظَلْعك، واقْدِرْ بذَرْعك"، "أَرِنِيها نَمِرَة أُرِكَها مَطَرَة"، "أَعْذَرَ من أَنْذَر"، "إننى لن أَضِيرَه. إنما أطوى مَصِيرَه"، "استغنت التُّفَّة عن الرُّفَّة"، "بِعْتُ جارى، ولم أَبِعْ دارى"، "جاء بالطِّمّ والرِّمّ"، "جَدَّك لا كَدَّك"، "حال الجَرِيض دون القَرِيض"، "الخَلاء بَلاء"، "دُهْدُرَّيْن سَعْد القَيْن"، "رُبَّ قَوْل أشد من صَوْل"، "الطريفُ خفيف، والتَّليدُ بليد"، "قُرْبُ الوِسَاد، وطُولُ السَّوَاد"، "لولا اللئام لهَلَكَ الأَنَام"، "ليس من العَدْل سرعة العَذْل"، "مَنْ لى بالسانِح بعد البارِح؟"، "المنايا على البلايا"، "اليومَ خَمْر، وغدًا أَمْر".
وهذا كله لو كان الكهان قد بشروا فعلا بالنبى عليه السلام قبل مجيئه فمهدوا له الطريق. بيد أن هذا غير صحيح، فهم لم يبشروا به. وكيف يبشرون به وهم بشر من البشر لا يعلمون الغيب؟ ثم لو كانوا بشروا به حقا فكيف لم يتخذ القرآن ولا الرسول ذلك حجة على الوثنيين فينبههم إلى ما كان الكهان يقولونه فى حقه قبل مجيئه، والكهان فى نظر العرب مصدَّقون؟ إن كل ما ذكره القرآن هو أن أهل الكتاب كانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم لإتيان البشارة به فى كتبهم، ولم يقل شيئا من ذلك عن الكهان. ومع هذا فإنه لم يداهن أهل الكتاب، بل أعلن منذ وقتٍ جِدّ مبكرٍ رأيه فى مواقفهم وعقائدهم، وذَمَّهم بل كفّرهم ودعاهم إلى نبذ ما هم عليه والدخول فى الدين الجديد إذا أرادوا النجاة يوم القيامة. فإذا كان هذا حاله مع من ذكر أن كتابهم قد بشر بمحمد عليه الصلاة والسلام، فكيف يقال إنه قد حرص على مجاملة الكهان باحتذاء أسجاعهم حتى تم له ما أراد من اعتراف العرب به، وعندئذ انقلب عليهم وقلب لهم ظهر المجنّ؟ وإذا كان الأمر كذلك فلماذا يا ترى لم يحرص أيضا على مراعاة خاطر الوثنيين فيثنى على آلهتهم فى البداية حتى يجد لنفسه فى مجتمعهم موطئ قدم، ثم يلعن أبا خاشهم بعدئذ ولا يبالى؟
ولسوف آخذ نصا من نصوص الكهان التى يقال إنها فى التبشير بنبوة النبى عليه السلام قبل مجيئه بالرسالة، وهو حديث خنافر بن التوأم الحِمْيَرِيّ مع رَئِيّه شَصَار، وذلك كى أُرِىَ القارئ على الطبيعة تهافُت ما يقال عن تبشير الكهان الوثنيين به صلى الله عليه وسلم. ولسوف نقرأ النص أولا ثم نرى فيه رأينا بعد ذلك: "كان خُنَافر بن التوأم الحميري كاهنا، وكان قد أُوتِيَ بسطة في الجسم وسَعة في المال، وكان عاتيا. فلما وفدتْ وفود اليمن على النبي وظَهَر الإسلام أغار على إبلٍ لِمُرَاد فاكتسحها، وخرج بأهله وماله ولحق بالشِّحْر، فخالف جَوْدان بن يحيى الفِرْضِمي، وكان سيدا منيعا، ونزل بواد من أودية الشِّحْر مُخْصِبًا كثير الشجر من الأيك والعَرِين. قال خنافر: وكان رَئِيِّي في الجاهلية لا يكاد يتغيب عني، فلما شاع الإسلام فقدتُه مدة طويلة، وساءني ذلك. فبينا أنا ليلةً بذلك الوادي نائما إذ هَوَى (انحدر فى الجَوّ) هُوِىَّ العُقَاب، فقال: خنافر؟ فقلت: شصار؟ فقال: اسْمَعْ أَقُلْ. قلت: قُلْ أَسْمَعْ. فقال: عِهْ تَغْنَمْ. لكل مدةٍ نهاية، وكلُّ ذي أمدٍ إلى غاية. قلت: أجل. فقال: كل دولةٍ إلى أجل، ثم يتاح لها حِوَل. انتُسِخت النِّحَل، ورجعت إلى حقائقها المِلَل. إنك سَجِيرٌ (أى صديق) موصول، والنصح لك مبذول، وإني آنَسْتُ بأرض الشأم نَفَرًا من آل العُذَّام (يقصد قبيلة من الجن)، حكّاما على الحكّام، يَذْبُرون (يقرأون) ذا رونق من الكلام، ليس بالشِّعر المؤلَّف، ولا السجع المتكلَّف، فأصغيتُ فزُجِرْتُ، فعاودتُ فظُلِفْتُ (أى مُنِعْتُ)، فقلت: بم تُهَيْنِمون؟ وإلام تَعْتَزُون؟ قالوا: خِطَابٌ كُبَّار، جاء من عند الملك الجبار، فاسمع يا شَصَار، عن أصدق الأخبار، واسلك أوضح الآثار، تَنْجُ من أُوَار النار. فقلت: وما هذا الكلام؟ فقالوا: فرقانٌ بين الكفر والإيمان. رسول من مُضَر، من أهل المـَدَر، ابتُعِث فظهر، فجاء بقَوْلٍ قد بَهَر، وأَوْضَحَ نَهْجًا قد دَثَر، فيه مواعظ لمن اعتبر، ومَعَاذٌ لمن ازدجر، أُلِّف بالآىِ الكُبَر. قلت: ومن هذا المبعوث من مُضَر؟ قال: أحمد خير البشر. فإن آمنتَ أُعْطِيتَ الشَّبَر (أى الخير)، وإن خالفت أُصْلِيتَ سَقَر. فآمنتُ يا خُنَافر، وأقبلت إليك أبادر، فجانِبْ كل كافر، وشايِعْ كل مؤمن طاهر، وإلا فهو الفراق، لا عن تلاق. قلت: من أين أبغي هذا الدين؟ قال: من ذات الإِحَرِّين، والنَّفَر اليمانين، أهل الماء والطين. قلت: أَوْضِحْ. قال: اِلْحَقْ بيثربَ ذات النخل، والحَرّة ذات النعل، فهناك أهل الطَّوْل والفضل، والمواساة والبذل. ثم امَّلَسَ عنى، فبِتُّ مذعورا أراعي الصباح. فلما برق لي النور امتطيتُ راحلتي وآذنتُ أَعْبُدِي واحتملتُ بأهلي حتى وردتُ الجوف، فرددتُ الإبل على أربابها بحَوْلها وسِقَابها (أى بجِمَالها ونُوقها. جَمْع: "حائل" و"سَقْب") وأقبلتُ أريد صنعاء، فأصبت بها معاذ بن جبل أميرا لرسول الله فبايعته على الإسلام، وعلَّمني سورا من القرآن، فمنّ الله علي بالهدى بعد الضلالة والعلم بعد الجهالة".
وفى هذا الحديث نلاحظ ما يلى: أن رَئِىّ خنافر قد تركه فى عمايته فلم يُعْلِمه بأن نبيا جديدا ظهر بدعوته فى بلاد العرب، إلى أن أصبح الناس فى تلك البلاد كلهم يعلمون ذلك، اللهم إلا خنافرا. فعندئذ، وعندئذ فقط، تذكر شَصَارُ صاحبَه الكاهن المسكين النائم على أذنه لا يدرى خبر الإسلام رغم أن نوره كان قد دخل اليمن وأضحى لدولته فيها رسولٌ من لدن النبى الكريم هو معاذ بن جبل رضى الله عنه. ترى ما دور شصار إذن إذا لم يكن ما أنبأ به خنافرًا إلا خبرا يعرفه القاصى والدانى؟ إن معنى هذا أن شيطان خنافر قد هجره هجرا غير جميل طَوَال ما يقرب من عشرين سنة، أى منذ بدء النبوة إلى وقت دخول الإسلام اليمن فى أواخر حياته صلى الله عليه وسلم، فكيف كان خنافر يمارس كهانته إذن دون رَئِىٍّ من الجن؟ أم تراه توقف عن ممارستها كل تلك الفترة؟ لكن هل يمكن أن يكون ذلك؟ وهل يمكن أن يستعيض كاهن عن كهانته بالسرقة والإغارة على إبل الآخرين، وبخاصةٍ أن خنافرا لم يكن، كما هو بَيِّنٌ من القصة، ذا عزوة تمنعه من طلب القبائل المعتدَى عليها وعملها على الثأر منه؟ كذلك ليس هناك سبب مفهوم لهجر شَصَار لصاحبه كل تلك المدة، وهذه ثُغْرَة فى القصة تحتاج إلى ما يملؤها. كما أن تهديده له بأنه إذا لم يعتنق الإسلام مثله فلن يراه مرة أخرى هو تهديد لا معنى له، لأن معنى هذا التهديد أن شَصَار لن يساعد خُنَافِرًا فى كهانته، مع أننا نعرف جيدا أن الإسلام يكفِّر الكهان ويحاربهم دون هوادة، وهو ما يعنى بكل وضوح أن اللقاء بينهما من الآن فصاعدا سيكون لقاء مجرَّما ومحرَّما أشد التجريم والتحريم، وهذا إن قَبِلَ الجنى أن يقوم بدوره القديم المناقض لعقيدته الجديدة التى يدعو إليها خنافرا! فكما ترى هذه ثُغْرَة أخرى فى القصة يصعب بل يستحيل سَدّها. ثم أليست القصة تريد أن تقول إن شصار قد أتاه بخبر الغيب، فأى غيب هذا الذى كان يعرفه الجميع فى أرجاء الجزيرة الأربعة؟ بل لماذا لم يعرف شصار بدوره بنبإ الإسلام إلا من إخوان له من الجن كانوا قد آمنوا قبله؟ ولماذا يا ترى كانوا يزجرونه عن سماع القرآن الذى كانوا يتلونه؟ ألم يأت القرآن لهداية الجن والإنس؟ فهل مما يتناسب مع هذه الغاية أن يُزْجَر عنه من يريد سماعه؟ فكيف يعرف إذن ما جاء فيه من هدى ونور؟ إن سورة "الجن" والآيات 29- 32 من سورة "الأحقاف" تحدثاننا عن سماع نفر من الجن للقرآن من الرسول عليه السلام دون أن يزجرهم زاجر، فلماذا جرى الأمر فى قصتنا هذه على خلاف ذلك؟ ولماذا كان هؤلاء النفر من الجن من أهل الشام لا من أهل اليمن؟ أترى القصة تريد أن تقول إن "الشيخ البعيد سره باتع"؟ أم تريد أن تجرى على سُنّة المثل القائل: "من أين أذنك يا جحا؟"؟ كذلك ألم ينصح شَصَارُ لخنافر بأن يأتى النبىَّ فى المدينة؟ فلماذا اكتفى خُنَافِرُنا بلقاء مُعَاذ بن جبل بعد كل هذا الكلام المشوِّق لرؤية النبى الكريم؟ يا له من كاهن كسول! بل لماذا أراد صنعاءَ من الأصل، ولم يأت لها ذكر فى الحوار بينه وبين رَئِيّه؟
ثم إذا كان الأمر على ما ترويه القصة، فهل كان خبر خنافر لِيغيب عن كُتُب الحديث؟ إنه لا وجود له فيها. كذلك لو كان ما قرأناه هنا صحيحا لقد كان خبر ذلك الكاهن اليمنى سلاحا بتارا فى الدعاية لهذا الدين، فلماذا لم يستغله المسلمون؟ صحيح أنه إنما أسلم، كما رأينا، بأُخَرة، لكن لا شك أن خبره كان يمكن أن يكون ذا نفع جزيل فى معركة الدعاية بحيث يسهِّل إنجاز المهمة الباقية، وهى القضاء على فلول الوثنية فى بلاد العرب، تلك الوثنية التى لم تكن قد خمدت تماما حتى بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام وانفجرت متخذةً شكل رِدَّةٍ مستطيرة. ثم مصطلح "السجع المتكلَّف"، هذا المصطلح البلاغى الذى لم يعرفه العرب قبل عصر الازدهار الثقافى فى العصر العباسى، من أين يا ترى للعرب الجاهليين بمعرفته؟ بل إن فى النص سجعا متكلَّفا لا قِبَل للجاهليين به كما هو واضح فى المثال التالى: "خِطَابٌ كُبَّار، جاء من عند الملك الجبار، فاسمع يا شَصَار، عن أصدق الأخبار، واسلك أوضح الآثار، تَنْجُ من أُوَار النار"، علاوة على هذه البهلوانية البلاغية الجميلة المتمثلة فى هاتين الجملتين اللتين تبادلهما الكاهن والجنى: "قال: اسْمَعْ أَقُلْ. قلت: قُلْ أَسْمَعْ" والتى يصعب علىّ أن أتصورها من شِيَم الأدب الجاهلى. ليس ذلك فحسب، فهذا الكلام المنسوب للجن، هل يمكن أن نصدقه؟ إن الجن عالم خفىٌّ لا نعرف نحن البشر عنه شيئا سوى ما جاء فى الوحى كما هو الحال فيما أنبأنا به رب العزة من كلامهم عندما استمعت طائفة منهم إلى القرآن الكريم لأول مرة، أما ما عدا هذا فأنا لا أستطيع أن أهضم شيئا منه كما هو الحال هنا، وبخاصة أنه كلام عربى، فهل الجن يتحدثون العربية، ويصطنعون السَّجْع والجِنَاس وسائر المحسِّنات البديعية أيضا؟ وبطبيعة الحال لا يمكن القول بأنهم فى سُورَتَىِ "الأحقاف" و"الجن" قد استخدموا كذلك لسان بنى يعرب، إذ الواقع أن ما نقرؤه هناك من كلامهم إنما هو ترجمة لما قالوه بلغتهم التى لا ندرى نحن البشر عنها شيئا.
على أن القضية لمّا تنته عند هذا الحد، إذ نقرأ قوله: "كان رَئِيِّي في الجاهلية لا يكاد يتغيب عنى، فلما شاع الإسلام فقدتُه مدة طويلة، وساءني ذلك. فبينا أنا ليلةً بذلك الوادي نائما إذ هَوَى هُوِىَّ العُقَاب، فقال: خنافر؟ فقلت: شصار؟ فقال: اسْمَعْ أَقُلْ. قلت: قُلْ أَسْمَعْ. فقال: عِهْ تَغْنَمْ. لكل مدة نهاية، وكل ذي أمد إلى غاية. قلت: أجل. فقال: كل دولة إلى أَجَل، ثم يتاح لها حِوَل. انتُسِخت النِّحَل، ورجعت إلى حقائقها المِلَل. إنك سَجِيرٌ (أى صديقٌ) موصول، والنصح لك مبذول، وإني آنَسْتُ بأرض الشأم نَفَرًا من آل العُذَّام (يقصد أنه قابل قبيلة من الجن)، حُكّامًا على الحُكّام، يَذْبُرون ذا رونقٍ من الكلام، ليس بالشِّعر المؤلَّف، ولا السجع المتكلَّف، فأصغيتُ فزُجِرْتُ، فعاودتُ فظُلِفْتُ (أى مُنِعْتُ)، فقلت: بم تُهَيْنِمون؟ وإلام تَعْتَزُون؟ قالوا: خِطَابٌ كُبَّار، جاء من عند الملك الجبار، فاسمع يا شَصَار، عن أصدق الأخبار، واسلك أوضح الآثار، تَنْجُ من أُوَار النار. فقلت: وما هذا الكلام؟ فقالوا: فرقانٌ بين الكفر والإيمان. رسول من مُضَر، من أهل المَدَر، ابتُعِث فظهر، فجاء بقَوْلٍ قد بَهَر، وأوضحَ نهجًا قد دَثَر، فيه مواعظُ لمن اعتبر، ومعاذٌ لمن ازدجر، أُلِّف بالآى الكُبَر. قلت: ومن هذا المبعوث من مُضَر؟ قال: أحمد خير البشر. فإن آمنتَ أُعْطِيتَ الشَّبَر (أى الخير)، وإن خالفت أُصْلِيتَ سَقَر. فآمنتُ يا خُنَافر، وأقبلت إليك أبادر، فجانِبْ كل كافر، وشايِعْ كل مؤمن طاهر، وإلا فهو الفراق، لا عن تلاق. قلت: من أين أبغي هذا الدين؟ قال: من ذات الإِحَرِّين (أى الحجارة السُّود)، والنَّفَر اليمانين، أهل الماء والطين". ومعنى هذا الكلام أن خنافرا، كما هو واضح من مفتتح حديثه، كان يعرف بمجىء الإسلام منذ البداية، لكننا نفاجأ، من خلال أسئلته عن الدين الجديد والرسول الذى جاء به والكتاب الذى نزل عليه، بأنه لم يكن يعرف شيئا من ذلك بالمرة. فكيف يسوغ فى العقل هذا؟ وبعد هذه الجولة هل بقى فى ضمير القارئ شك فى تهافت ما قاله نصر أبو زيد عن استغلال القرآن لسجع الكهان فى توطيد دعائمه فى نفوس العرب ثم انقلابه عليهم بعد أن استقرت له الأوضاع؟
ومما تعرض له د. أبو زيد فى كتابه: "نقد الخطاب الدينى" رواية سلمان رشدى المسماة بـ"الآيات الشيطانية". ففى الطبعة الأولى للكتاب نراه يؤكد أنه لن يقوم بالحكم على القيمة الأدبية لتلك الرواية لأن هذا أمر له متخصصوه، بما يعنى أنه ليس منهم (انظر ص74 من الطبعة الثانية، وهى الطبعة المتاحة لى)، مع أنه فى مقدمة الطبعة الثانية من ذات الكتاب نجده ينسى هذا ويصدر حكما على الرواية مؤكدا أنها تافهة ليست ذات قيمة أدبية (انظر ص57- 58). ثم زاد فأخرج علماء الدين من نطاق القدرة على تقييمها، واتهم د. عبد الصبور شاهين بالعجز عن ذلك مع أنه أستاذ جامعى مثله بل بمثابة أستاذه، وأقرب إلى التعامل مع النصوص الأدبية منه، إذ هو متخصص فى اللغة، أما أبو زيد ففى الدراسات الدينية. وعلى كل حال فمعروف أن سبب غضب علماء الدين والمسلمين عموما من الرواية ليس قيمتها الأدبية، بل ما فيها من فحش ضد الإسلام والله والرسول وأمهات المؤمنين. ويكفى ما قيل فيها بتفصيل شنيع عن بيت الدعارة المسمى بـ"الحجاب" بمومساته التى يتسمين: عائشة وحفصة وزينب...، أى بأسماء أمهات المؤمنين وصفاتهن المعروفة وما يصنعه طالبو الدعارة معهن أثناء الجماع غير معف من ذلك زينب بنت خزيمة، التى توفيت فى حياة الرسول فجاء سلمان رشدى بعاهرة على اسمها وملامحها وجعلها تمارس الزنا وهى متخشبة الجسد كأنها ميتة حتى تكون صورة دقيقة لأم المؤمنين التى انتقلت إلى رحمة ربها، وذلك إرضاء لزبائنها الشواذّ المبتلَيْنَ برغبة ممارسة الزنا مع الموتى، فضلا عن اتهام النبى عليه الصلاة والسلام بمساومة قريش على حساب مبدإ التوحيد، وإن كان قد عاد عما كان بدأه من مساومة، لا لأن ضميره استيقظ بل لأن أتباعه قد اعترضوا عليه ورفضوا أن يتخلى عن مبادئه فتراجع، فضلا عن تصويره للرسول صلى الله عليه وسلم فى الفراش مع امرأة شبقة تداعبه فى صدره وتطعمه قطع البطيخ فى فمه هى هند زوجة أبو سمبل، أى زوجة أبى سفيان، حسب نظام الهلوسة التى تقوم عليها الرواية. ومعنى هذا أن د. نصر قد جرد علماء الدين من كل قدرة وذوق، وأسند إلى نفسه صلاحية الحكم على الرواية من ناحية الفن الأدبى والمضمون العقيدى والأخلاقى، مع أنه ليس ناقدا أدبيا ولا عالما من علماء الدين مهمته التصدى لمثل تلك الرواية. وأنا حين أقول هذا إنما أنطلق من منطلقه هو، وإلا فالأمر ليس بهذا الإعضال.
وهو يرجع غضب المسلمين من رواية سلمان رشدى إلى أخطار من صنع أوهامهم وخيالاتهم (انظر ص74)، وكأن الرواية بريئة مما نسبه إليها الغاضبون، وليست ممتلئة بل تفيض فيضانا بالهجوم على الله والتطاول عليه وعلى الإسلام والرسول وسيدنا إبراهيم والقرآن والصحابة، حتى إن شخصياتها لتشتم الله وتجدف فى حقه، وتسمى إبراهيم عليه السلام بـ"ابن الحرام"، وتسخر من كتاب الله بزعم أنه يتدخل حتى فى تنظيم عملية الفُسَاء وتحديد الجهة التى ينبغى أن يستقبلها المسلمون حين يريدون أن يخرجوا ريحا. والملاحظ أن نصر أبو زيد يأخذ دفاع سلمان رشدى عن روايته الشنعاء على أنه كلام صحيح، ويحاول أن يقنعنا أن الرواية ليس فيها ما يناقض الدين، مع أنها كلها من أولها إلى آخرها تناقض الدين بل تشوهه وتسخر منه وترسم له صورة فى منتهى القبح والشنع والتوحش والإجرام والميكافيلية. يقول سلمان رشدى حسبما نقل عنه نصر أبو زيد نقل المصدق لما يقول: "ليس فى الرواية هجوم على الإسلام ولا تتضمن أى استهزاء بالعقيدة. كما أنها لا تعنى توجيه إهانة لأحد. وأنا أشك أن يكون الإمام الخومينى أو أحد من المعترضين فى إيران قد قرأ الرواية، بل هم فى الغالب يستندون فى أحكامهم على الرواية إلى العبارات أو الجمل المنتزعة من سياقها... وإنه لأمر مخيف أن يكون رد الناس بهذه الدرجة من العنف ضد رواية، مجرد رواية، يتصورون أنها تهدد العقيدة وتقف ضد التاريخ الإسلامى كله" (نفس الصفحة الماضية).
وأستطيع أن أؤكد تأكيد من قرأ الرواية لدن صدورها ووَضَع عنها كتابا من مائتين وخمسين صفحة لم يكد يترك فيها شيئا لا فى اللغة ولا فى البناء الفنى ولا فى الموضوعات التى تناولتها ولا فى النزعة الأدبية التى اعتمدها صاحبها فى كتابتها، وهى النزعة الخـُرْئِيّة المغرمة بالبذاءات ولحس الوساخات وتشمم الفضلات... إلخ، إلا وفصل القول فيه تفصيلا، أستطيع أن أؤكد أن رشدى كاذب كاذب كاذب فى كل ما يقوله عن خلو الرواية من الإساءة إلى الدين أو إلى أحد من المسلمين. وما دام قد تطرق لسيرة الخومينى فلا بد من القول بأنه قد صوره تصويرا بشعا يبعث على النفور والقهقهة، ومسخه على نحو شنيع أخرجه من الإنسانية تماما جاعلا منه كائنا عجيبا لا ندرى إلى أى جنس من المخلوقات الوحشية ينتمى. بل ليغلو رشدى فى الهجوم على الإسلام والمسلمين فيدعى أنهم فى قرية من قرى الهند قتلوا بعد صلاة الجمعة طفلا رضيعا تقربا إلى الله لأنه لقيط، مع أن شيئا من هذا لم يحدث فى أى بلد من بلاد الإسلام ولا فى أية فترة من تاريخه، إذ ما ذنب هذا الكائن البرىء فيما صنعه والداه؟ ومعروف أن الإسلام، حتى عند مشاهدة أحدنا لامرأة ورجل يزنيان، يؤثر أن نغلق أفواهنا فلا نتكلم بما رأينا، بل نستر على الزانيين ولا نفضحهما، فضلا عن أن نشنّع بهما، طبقا لما قاله الرسول الكريم الرحيم لبعض صحابته حين حدثه عن زانيين رآهما: لو سترتهما بثوبك كان خيرا لك! فأين هذا مما يفتريه ذلك الكَيْذُبَان على ديننا العظيم؟ ثم يأتى د. نصر فيورد كلامه على أنه حجة مفحمة! ألا إنه لأمر عجيب!
كذلك يأخذ نصر أبو زيد على الخطاب الدينى تمسكه بعنصرين هما النص والقول بالحاكمية الإلهية (انظر ص67 من "نقد الخطاب الدينى"). والنص طبعا هو النص القرآنى كما هو واضح من عنونته لكتابه الذى يتناول دراسة علوم القرآن باسم "مفهوم النص". وإذا عبنا الخطاب الدينى بأنه يتمسك بالنص، أى النص القرآنى، فما الذى يبقى من الإسلام؟ وبأى نص يا ترى ينبغى أن يتمسك المسلم؟ برأس المال مثلا؟ أم بـ"مفهوم النص"؟ إن القرآن هو دستور المسلمين ومدوَّنة شريعتهم وكتاب عقيدتهم. فإذا نبذوه وراء ظهورهم واشتروا به مشورة أبو زيد حتى يرضى عنهم فهل يظلون حينئذ مسلمين؟ وهل القرآن معيب حتى نتبرأ منه؟ قد يراه بعض الناس كذلك، ويَرَوْن أن الرسول هو مؤلفه، وأنه حتى لو كان مفيدا فى وقته فقد تجاوزه الزمن. فليكن، فكل إنسان حر فيما يعتقد. والمسلمون بنفس المبدإ أحرار فيما يؤمنون به، ومن واجبهم، لا من حقهم فقط، أن يتمسكوا بالنص القرآنى، وإلا ما كانوا مسلمين. ترى لم جاء الإسلام ونزل القرآن على الرسول محمد عليه الصلاة والسلام إذا لم نتمسك بتشريعاته وأحكامه وننزل على مبادئه الأخلاقية والفكرية والذوقية؟ أم ترى القرآن نزل من السماء لنلفه فى ورق سيلوفان ونضعه فى الدواليب ثم نخرجه من مكمنه لنستمتع بمرآه ولمسه فى المناسبات؟ الأمر فى حقيقته لا يخرج عن الاحتمالات التالية: إما أننا نؤمن بأن هذا الكتاب هو من عند الله فنعض عليه بالنواجذ ونجتهد بكل طاقاتنا فى تطبيقه، وإما أننا لا نصدق بإلهية مصدره، بل نعتقد بأن محمدا هو مؤلفه، لكنه كذب علينا قائلا إنه من عند الله أو توهَّم مخدوعا بحسن نية أنه فعلا من عند الله، وإن لم يكن فى الواقع من عند الله، وإما أننا نعتقد بأنه نزل من السماء، لكنه لا يناسب ظروفنا وأوضاعنا الآن لأنه ليس صالحا لكل زمان ومكان، بل للعرب وحدهم فى القرون الهجرية الأولى. فأما الاحتمال الأخير فأرجو ممن يقول به أو يتظاهر أنه يقول به، حتى لو لم يؤمن حقا بأنه من عند الله لا على سبيل التأبيد ولا على سبيل التوقيت، أن يدلنا على نص فيه أو فى الأحاديث النبوية يقول هذا. وأما الاحتمال الثانى فنحن بطبيعة الحال، بوصفنا مسلمين نؤمن بالله وبالرسول محمد عليه الصلاة والسلام لا نبيا فحسب بل سيدا للأنبياء أجمعين، نرفضه رفضا باتا قاطعا. وهو ما لا ينبغى أن يلومنا عليه أحد حتى لو رأى أن فى عقولنا مسا شيطانيا أو فى سلوكنا وتصرفاتنا وتفكيرنا تخلفا حضاريا. ومع هذا فلصاحب الاحتمال الثانى الحق كل الحق فى أن يعتقد به، ولا دخل لنا فى اعتقاده، وكل ما نستطيعه ويحق لنا فى ذات الوقت هو أن نرد على ما يقول بكلام مثله. وعلى القراء أن يوازنوا بين ما نقول وما يقوله هو ويختاروا ما يرونه مقنعا للعقل ومتسقا مع المنطق والحضارة والتقدم والسعادة.
بقلم : د. إبراهيم عوض
أستاذ النقد الأدبي بجامعة عين شمس
حين طلب منى أحد الأصدقاء، عقب وفاة د. نصر حامد أبو زيد بقليل، أن أكتب شيئا عنه كنت فى البداية خامل النفس لا أجد لدىَّ نشاطا لهذا الموضوع. ثم لما ألح علىّ أن أفعل وشرع صدرى ينشرح للأمر بدأت بالبحث على المشباك عن مادة أستند إليها بالإضافة إلى بعض كتب الرجل التى أثارت فى وقتها العواصف والزوابع، فهالنى أمر بشع لم أحب أن أؤجل الحديث عنه إلى أن أدخل قلب هذه الدراسة، بل أردت أن أتناوله أول شىء. وهو أن عشرات المواقع تردِّد دون تلجلج أو تريث أن د. عبد الصبور شاهين، عضو لجنة ترقية د. نصر حامد أبو زيد فى تسعينات القرن المنصرم إلى رتبة الأستاذية، قد كفّر فى تقريره الخاص بذلك الموضوع الدكتور نصر، الذى يوصَف فى عشرات المواقع بشهيد الفكر وما إلى ذلك من هذه الألقاب المعجرمة التى يبرع فى صياغتها إخواننا البعداء من التنويريين والحداثيين ومن يرددون ما يقول التنويريون والحداثيون ترديد الببغاوات لما تسمع دون فهم أو عقل. والذى أعلمه أن الدكتور عبد الصبور شاهين لم يكفّر أبو زيد فى التقرير الذى كتبه عن أبحاثه قط، بل اقتصر فى كلامه على الجانب العلمى ناصًّا على وجوه الضعف والتهافت التى اتسمت بها تلك الأبحاث. ومن كان عنده رأى آخر فليرنا من تقرير الرجل خلاف ما نقول.
ولقد كنت قرأت هذا التقرير منذ سنوات وراعنى، بعد كل الضجة التى أحدثها إخواننا البعداء والتى ظننت فى البداية قبل أن أتحقق الأمر بنفسى أنها ضجة ذات أساس، راعنى أن الأستاذ الدكتور لم يتطرق فى أبحاث أبو زيد إلى إيمان أو كفر، بل كان رفيقا به إلى حد بعيد ولم يصنع ما يصنعه "التنويريون!" الجبناء حين يضعون أحدا من المتدينين فى أدمغتهم الخربة فيقصدونه بحرب غير متكافئة، إذ يغرزون الخناجر فى ظهره غلس الظلام ويسوّدون تقارير لا يرعَوْن الله فيها ولا الشرف أبدا، ثم إذا ما عومل واحد ممن ينتسب إلى ثلتهم بما يستحق لضعف أبحاثه صرخوا وتصايحوا وتباكَوْا بدموع كدموع العاهرات عندما يُضْبَطْن متلبسات بالفاحشة فيبكين وينهنهن مدعيات أنه "وعد ومكتوب". إن الجماعة لم يَرُقْ لهم أن ينكشف واحد منهم على حقيقته العلمية فانْبَرَوْا يسبّون الأستاذ الدكتور ويتهمونه الاتهامات الكاذبة غير مراعين سنه ولا مكانته العلمية. ولا أظن أحدا يمكنه أن ينسى مثلا ما ترجمه الرجل من مؤلفات مالك بن نبى، التى قرأناها واستمتعنا بها وتغذينا عليها وتفتحت بها عقولنا واستنارت منها بصائرنا ونحن لا نزال طلابا فى الجامعة.
وقد يحسب بعض الطيبين من الناس أن ما قيل عن تكفير الأستاذ الدكتور لنصر أبو زيد إنما هو خطأ غير مقصود، إلا أننى من معرفتى بألاعيب التيار الذى أخذ على عاتقه الدفاع عن د. نصر أبو زيد بالحنجل والمنجل أعلم تمام العلم أنها فرية مقصودة غايتها تشويه صورة الدكتور عبد الصبور حتى يظن السذج من القراء، وما أكثرهم، أنه ظلوم غشوم، وأن أبو زيد مسكين وقع ضحية لظلمه وغشمه، وأنه من ثم شهيد من شهداء الفكر ينبغى أن تُنْصَب له التماثيل وأن يُعْبَد فى الأرض من دون الواحد الأحد. الحق أن الدكتور عبد الصبور شاهين لم يكفّر نصر أبو زيد، كما أنه لم يرسّبه ترسيبا مطلقا بل ترك الباب مفتوحا لتعضيد أبحاثه بحيث يمكن أن ينجح فى المرة القادمة. وليراجع القراء التقرير المشار إليه للتحقق من هذه النقطة بأنفسهم، وهو متاح فى كتاب د. عبد الصبور شاهين: "قضية أبو زيد وانحسار العلمانية فى جامعة القاهرة".
وقد أُجْرِيتْ مع الأستاذ الدكتور حوارات مختلفة سئل فيها حول هذه النقطة، وكانت إجابته دائما أنه لا يمكنه تكفير أبو زيد ولا غير أبو زيد لأن الإسلام ينهى نهيا شديدا عن أن يكفر الواحد منا الآخر. وآخر هذه الحوارات فيما اطلعتُ عليه منها هو حوار جريدة "الدستور" بتاريخ الأحد 3/ 1/ 2010م، الذى أجراه معه الصحفى مجد خلف تحت عنوان "عبد الصبور شاهين: لم أكفِّر نصر أبو زيد مطلقا. والشيوعيون والعلمانيون أقاموا "مناحة" لإثارة الشارع". ومن بين الأسئلة التى طُرِحَتْ عليه السؤال التالى: "لماذا يعتبر كثيرون أنك المتهم الأول فيما حدث للدكتور نصر أبو زيد؟"، وكان الجواب هو: "الموضوع ببساطة أن نصر أبو زيد تقدم آنذاك بإنتاجه العلمي للترقية إلي درجة أستاذ. والطبيعي أن يقوم أعضاء اللجنة العلمية بفحص إنتاج الباحث وتقييمه، ويقرأ الأساتذة الفاحصون الإنتاج ثم يحكمون عليه كما يحكم القضاة بكل نزاهةِ وضميرِ القاضي دون اعتبار لأي شيء إلا تحقيق العدالة وأن يصل الحق إلى مستحقيه. وقد قدمت تقريري عندما اجتمعت اللجنة، ثم أرسل هذا التقرير إلي الكلية ثم إلي مجلس الجامعة الذي اعتمد التقرير الجماعي. وكان ملخص التقرير أن الأعمال التي تقدم بها الدكتور نصر حامد أبو زيد تحتاج إلي إعادة نظر، والإنتاج المقدم لا يرقّي إلي درجة أستاذ بقسم اللغة العربية بكلية الآداب بجامعة القاهرة. إلي هنا والمسألة في غاية البساطة، فسقوط طالبِ ترقيةٍ شيءٌ طبيعيٌّ يحدث في كل زمان ومكان. وإذا جانبه التوفيق في جولة فقد يحالفه في جولة أخري حين يجتهد ويتلافى أخطاءه التي أخطأها في المرة الأولى".
ثم سأل الصحفى الأستاذ الدكتور: "هل اتهمتم في تقرير اللجنة العلمية الباحث الدكتور نصر أبو زيد بالكفر؟"، فكان الرد: "إطلاقا. فلا يمكن أن أورط نفسي في هذا الاتهام البشع، لأن رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: "من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما". وكلنا سنحاسب بين يدي الله تبارك وتعالى، وما كتبته في التقرير الذي أقرته اللجنة العلمية وأقره مجلس الجامعة كان تقييما علميا موضوعيا لأعمال الباحث، فنحن نفحص بحثا لا باحثا. ولم أتعرض في تقريري لعقيدة الباحث أو دينه، فهذا أمره إلى الله سبحانه وتعالى ولا شأن لي به". ومع هذا كله لا تكف المواقع المشباكية المختلفة عن ترديد هذه الفرية كأنها الحق الذى لا مرية فيه، فهم من أنصار "عنزة ولو طارت". بل إن موسوعة "الويكيبيديا" ذاتها فى مقالها عن د. نصر أبو زيد ردّدت للأسف الشديد هذا الاتهام الغريب.
والعجيب أن يشترك فى هذا الزعم د. جابر عصفور، الذى كتب ينوح على شهيد الفكر مقالا نُشِر على مرتين فى جريدة "الحياة" بعنوان "محنة نصر حامد أبو زيد بدلالاتها" أكد فيه هو أيضا أن الدكتور عبد الصبور شاهين قد كفّر فى تقريره نصر حامد أبو زيد. وهذه بعض فقرات مقتطفة من المقال ترينا كيف تناول عصفور هذا الموضوع: "الدلالة الأولى التي خطرت على بالي الآن، وأناأكتب هذا المقال، هي الجامعة التي بدأت منها المحنة. فقد انحدرت هذه الجامعة انحدارا عظيما بعد أن تدخلت في شؤونها الداخلية الدولة التسلطية التي شاع نموذجهافي العالم العربي. وقد سبق أن نقلت عن خلدون النقيب، عالم الاجتماع الكويتي المرموق، أن الدولة التسلطية هي الدولة التي تسعى إلى الاحتكار الفعال لمصادر القوة والسلطة في المجتمع لمصلحة الطبقة أو النخبة الحاكمة التي تنتسب إليها. وهي تتميز بخصائص دالة: أولاها أنها تحقق احتكارها للسلطة من طريق اختراق مؤسسات المجتمع المدني، وتحويل منظماته التضامنية كي تعمل بصفتها امتدادا لأجهزة الدولة. وثانيتها أن هذه الدولة تخترق النظام الاقتصادي وتلحقه بها، سواء من طريق التأميمأو توسيع القطاع العام، أو الزواج غير العنيف غالبا بين رجال الدولة ورجال الثروة. وثالثة هذه الخصائص أن شرعية نظام الحكم في الدولة التسلطية تقوم على العنف أكثر من الاعتماد على الشرعية التقليدية. ولذلك يقترن وجودها من حيث هي دولةبعدم وجود انتخابات لها معنى حقيقي، أو تنظيمات مستقلة عن الدولة، أو دساتير فاعلةأو مشوهة لمصلحة السلطة الحاكمة، أو إلغاء الدساتير أو تعليقها، في موازاة تجميدالحقوق المدنية، وتحويل نسبة كبيرة من الدخل القومي إلى الإنفاق على الأجهزةالقمعية لهذه الدولة. والرابعة هي توجيه الأجهزة الأيديولوجية للدولة إلى أن ترسّخ في وعي المواطنين، الرعايا، أهمية الإجماع على ما تراه النخبة الحاكمةبصفته اليقين الوحيد الذي هو قرين الإلحاح على مركزية القيادة التي يختزلها الحاكم الأوحد، الزعيم الملهم، رب العائلة، أو المهيب الركن، أو القائد الأوحد، واستبدالقواعد الوحدة ورفض الاختلاف بمبادئ الحرية وحق الاختلاف، وتأسيس التراتب الهرمي الصارم بين القيادات بصفته الوجه الملازم للتراتب العسكري، ومن ثم إلزام المرؤوسبالطاعة العمياء للرئيس في كل مجال، تأصيلا لحضور البطريركية في المجتمع. وآخرهذه الخصائص التحالف مع القوى الدينية إذا لزم الأمر. فالدين بالملك يبقى، والملك بالدين يقوى. ولذلك إما أن تغض هذه الدولة النظر عن قمع السلطة الدينية أوتجاريها، أو تسمح لها بالعبث بالدستور أو الإسراف في تديين المواطنين ما ظل الأمر في مصلحة الدولة التسلطية، وإلا فإعلان القطيعة والحرب".
وهذا، كما يرى القارئ المطلع على حقائق الأمور، كلام لا رأس له ولا ذيل، إذ إن جابر عصفور هو واحد من أعمدة الدولة التسلطية المستبدة، كما أن دولتنا، التى هى دولة تسلطية مستبدة ولله الحمد، لا تنكل بأحد قدر ما تنكل بالمتدينين (المسلمين طبعا)، ولا تضع فى سجونها ولا معتقلاتها أحدا تقريبا من أهل الاعتقاد إلا المتدينين (المسلمين طبعا). ومع ذلك كله يجد الرجل فى وجهه الجرأة كى يقول هذا الكلام الخديج الذى لا يقنع قطة. وما الذى سيخسره؟ لا شىء طبعا. فليقل ما يشاء دون حسيب أو رقيب. ومتى كان أحد من الرعايا الذين لا قيمة لهم يحاسب أحدا من أهل الحكم أو ممن يلوذون بهم وينفذون سياساتهم الإقصائية؟ ولنستمر مع المقال وكاتبه:
"في هذا المناخ الجامعي، تقدم نصر أبو زيد بإنتاجهالعلمي إلى اللجنة الدائمة لترقية الأساتذة في الجامعات المصرية في التاسع عشر منأيار (مايو) عام 1992، وتم توزيع الإنتاج في الثامن والعشرين من الشهر نفسه. وتشكلت لجنة لقراءة الإنتاج العلمي من شوقي ضيف ومحمود علي مكي وعوني عبدالرؤوف. أماالدكتور شوقي ضيف، رحمه الله، فقد كنت أعرف مدى محافظته، ورفضه تيار التجديد الذيكان يراني ممثلا له في الأدب والنقد، ونصر ممثلا له في درس الخطاب والتفكير الديني على السواء. وكنت أعرف من أستاذي شكري عياد، رحمه الله، رفضه الشخصي الحاسم لمواقف شوقي ضيف المتعصبة التي كان يقرنها برجعية الفكر وانغلاقه. وقد أخبرني ذات مرة أن شوقي ضيف كان أحد الذين تسببوا في محنة أحمد محمد خلف الله عندما كتب أطروحته الإشكالية: "الفن القصصي في القرآن الكريم" ورفض قبولها للمناقشة لخروجهاعلى المأثور من القواعد المألوفة في معالجة النصوص القرآنية. وقد تم إلغاء أطروحة خلف الله، زميل شكري عياد في التتلمذ على يدي أمين الخولي، فاضطر شكري عياد إلى تغيير مساره في مدى البحث البلاغي، والاكتفاء بأطروحة الماجستير التي كانت تحليلاأسلوبيا لمشاهد القيامة في القرآن الكريم، وانتقل إلى دراسة "تأثير كتاب الشعر لأرسطو في البلاغة العربية". أما خلف الله فاضطر، بعد نقله من الجامعة عقاباله، إلى كتابة أطروحة جديدة عن صاحب "الأغاني" الأصفهاني. وكان كلاهما، شكري عياد وأحمد محمد خلف الله، يحاولان تطبيق ما نادى به أستاذهما أمين الخولي باسم "المنهجالأدبي في درس النص القرآني" وما يترتب عليه من تغييراتمنهجية. وللأسف لم يكن نصر ولا أنا نعرف هذا التاريخالقديم لمواقف شوقي ضيف، التي كتمها شكري عياد في نفسه، وكان كتوما جدا، ولم يبح لي بها إلا بعد أن شكوت إليه من بعض ما كان يعاملني به أستاذي شوقي ضيف، الذي لاأزال أجلّه كل الإجلال، فانفجر شكري عياد في وجهي بما كتمه طويلا، وبما كتمته أناعن نصر، ولم أخبره به إلى أن غادر الدنيا، عملا بوصية المرحوم شكري عياد، حفاظا على شكل العلاقات الإنسانية. وأجد نفسي في حلّ من هذه الوصية بعد رحيل الجميع،وبقائي وحدي منتظرا اللحاق بهم. وما لم أخبر به نصر كذلك ولا يعرفه أحد إلا أنا والدكتور محمود مكي وأحمد مرسي، مدّ الله في عمريهما، أن شوقي ضيف قرأ الإنتاج،فإذا به أمام منهج جديد لم يألفه من قبل، فضلا عن أنه ما كان راضيا عن منهجالخولي ولا المتابعين له، فاتخذ موقفا سلبيا من الإنتاج، وكتب تقريرا سلبيا. ولكنه، تحسبا للأمور، ومعرفة منه بأنني رئيس القسم الذي ينتسب إليه، بعدما انتقلتالرئاسة إليّ في تعاقب الأجيال، طلب لقاء محمود مكي، الذي كان يعرف قربه مني وقرأعليه التقرير، وطلب رأيه.
والحق أن محمود مكي صارحه برأيه السلبي في تقريرهالذي انتهى إلى رفض ترقية نصر، وأبلغه أن عوني عبدالرؤوف وهو، مد الله في عمريهما،انتهيا إلى الترقية في تقريرهما. وشعر المرحوم شوقي ضيف أنه سيكون في وضع محرج،فطلب من محمود مكي أن يناقش تقريره معي سرا بصفتي رئيسا للقسم الذي هو حريص علىصورته فيه، ولا تزال هذه الصورة قائمة يجللها الاحترام، مهما كان الاختلاف الفكري. وجاءني محمود مكي بالتقرير في بيتي جوار بيت شوقي ضيف، وقرأت التقرير، وانتهيت إلى أن الرفض قائم على أساس اختلاف المنهج والفكر. وبعد أن انتهيت من القراءة والتفكير، وانتهى مكي من سؤال سهير ابنتي، رحمها الله، عن أحوالها في الدراساتالإسبانية، التي أسهم في إغرائها بها، سألت محمود مكي عن تقريره، فقال إنه يرى ترقيةنصر لأن إنتاجه يستحق،. وإذا كانت هناك هفوة هنا أو هفوة هناك، فهي لا تقلل من قيمةالإنتاج العلمي على الإطلاق، فما أكثر الذين تولت اللجنة ترقيتهم، وهم أقل شأنا وقيمة. وحاولت أن أوضح للعزيز محمود مكي أن الترقية العلمية تتم على أساس من قيمةالجهد والاجتهاد في المجال المنهجي، وأن الإنتاجالعلمي يرقى لا إلى اتفاقه مع آراء لجنة التحكيم أو منهجهم، فالأصح أن يرقى بسبب اجتهاده ومغايرة منهجه، وإلا ما تقدمالبحث العلمي. وأخبرني مكي أنه مقتنع بذلك، وأنه حاول إقناع شوقي ضيف، ولكنه لم يفلح بسبب رفضه الجذري لمناهجنا الجديدة التي تستعين بالهرمنيوطيقا والسيميوطيقا والبنيوية والتفكيكية. فقلت: إذًا هو الخلاف الحتمي، وسأرفض تقريره في مجلس القسم، واثقا بأن هناك من سيقف معي، فنحن ورثنا احترام تقاليد الاختلاف منكم، ولن نقبل أنتصرفونا أو نصرفكم عنها.
وهنا قال محمود مكي: لا داعي لذلك كله، فلولا حرصشوقي ضيف على معرفة رأيك ما أرسلني إليك. وأنا سأجد حلا معه أو أقنعه بتغييرالتقرير. وبعد أيام قابلت محمود مكي، فقال لي إن شوقي ضيف سينسحب من اللجنةالثلاثية، وأنه سيترك مكانه لعبدالصبور شاهين. وانتابني الوجوم، فأنا أعرف فكر عبدالصبور شاهين ومواقفه المعلنة، وانحيازه إلى جماعات الإسلام السياسي والتيارات السلفية. ولكنني قلت لنفسي: لا تتعجل الحكم، ودع الأمور تجري في أعنتها، وليرعَالله إنتاج نصر في مواجهة أنياب الفكر السلفيالمتزمت.
اجتمعت لجنة ترقية نصر أبو زيد بتشكيلها الجديد لقراءة التقارير الثلاثة،واختيار التقرير الذي يعبر عن رأي اللجنة النهائي، وكنت أعرف أن تقرير محمود مكي إيجابي، وكذا تقرير عوني عبدالرؤوف، ولم أكن أثق بعبدالصبور شاهين ولا حياد موقفه. فقد سبق له مهاجمةنصر علانية، وظل غاضبا لما أخذه عليه من علاقته بشركات توظيف الأموال ومهادنته الدولة وجماعات إرهاب التأسلم السياسي على السواء. ولكني كنت أمنّي النفس بانتصار العقل والتقاليد الجامعية الأصيلة. وظللت صامتا الى أن أخذت اللجنة قرارها الفاجع، حيث انحاز أحمد هيكل لزميله عبدالصبور شاهين بحكم عصبية الانتماء إلى دار العلوم، وخوفا من لغة التكفير التي استخدمها زميله والتي لا تليق بتقرير علمي، ولكنها تبعث الخوف في النفوس الضعيفة. واعترض سيد النساج بشدة على رفض تقريرين لعالمين جليلين بالترقية، هما محمود مكي وعوني عبدالرؤوف، وانقسمت اللجنة على نفسها بعد انسحاب سيد النساج احتجاجا، وقبلت تقرير عبد الصبور بفارق صوت واحد، هو صوت شوقي ضيف فيماأظن، وبعض الظن إثم في كل الأحوال. لكن المهم هو الدلالة العامة التي ظلت قائمة،وهي أن اللجنة التي رأسها شوقي ضيف، تلميذ طه حسين، الذي أشرف عليه في أطروحاتهالجامعية، خانت منهج طه حسين في التوجه العقلي، وبدل أن تواصل طريق المحدثين الذيانطلق منه عميد الأدب العربي انقلبت على هذا المنهج واختارت طريق القدماء الذين يرفضون إعمال العقل، ويغلقون أبواب التجديد. والمؤسف أن شوقي ضيف، الذي صاغ تاريخالشعر العربي فنيا في التحول ما بين أربع صيغ هي الطبع والصنعة ثم التصنيعوالتصنع، وقد كان ذلك تصنيفا جديدا في زمنه، أخذ موقفا سلبيا من مصطلحات العصر، ورفض أن يكون موقف الإمام الشافعي الفقهي تعبيرا، في التحليل الأخير، عن الأيديولوجيا الوسطية، فضلا عن المصطلحات الجديدة التي استخدمها نصر، مثل الهرمنيوطيقا والسيميوطيقا والخطاب وغيرها من بدع الدراسات الإنسانية الحديثة التي لا ينبغي استخدامها في مجال قديم لا سبيل الى مثل هذا التجديد فيه. وكانت اللجنة بهذا القرار تنحاز الى أهل النقل لا العقل، وإلى المعادين للاجتهاد من أهل التقليد الذين ناصبوا طه حسين العداء الذي نسيه تلميذ طه حسين رئيس اللجنة.
وكانت ملاحظتي الثانية على تقرير عبدالصبور شاهين الذي تبنته اللجنة للأسف أنهتقرير لا علاقة له بالعلم الرصين، وإنما هو تقرير انفعالي خطابي تكفيري يستخدم عبارات لا يليق استخدامها في مجال العلم والخطاب الجامعي بوجه عام. ومن ذلك إشارةالتقرير الى أن نصر وضع نفسه مرصادا لكلمقولات الخطاب الديني حتى لو كلفه ذلكإنكار البديهيات، أو إنكار ما علم من الدين بالضرورة. وأضيف الى ذلك صفات مثل كلامأشبه بالإلحاد. وقسْ على ذلك من الكلام الذي يعف قلمي عن ذكره. فالأهم هو أن لغةالتكفير المستخدمة في هذا التقرير سرعان ما شاعت على الألسنة المعادية للدولةالمدنية، وظلت ملازمة لخطاب التكفير الذي كان يرتفع صوته في موازاة ارتفاع حدةخطاب التأسلم السياسي الذي كان يشيع خارج الجامعة. وكان معنى ذلك أن رئيس لجنةالترقية، تلميذ طه حسين، سمح لخطاب التكفير الذي كان لا يزال خارج الجامعة أن يدخلها ولا يفارقها الى اليوم للأسف. فما أكثر ما حدث بعد ذلك من اتهامات اعتقاديةدينية لباحثين اجترأوا على الاجتهاد في مجالات العلوم الإنسانية، خصوصا في مجال نقد الخطابات الاجتماعية السائدة، ومنها خطاب تحرير المرأة، ومواجهة النظرة الدونيةإليها. والخطورة أن شيوع هذا الخطاب التكفيري وانتقاله من خارج أسوار الجامعة الى داخلها أحدثا كارثة كبرى في الفكر الجامعي. فقد سجن هذا الفكر في مدار مغلق، وجعلالأساتذة يؤثرون السلامة، ويخافون الاجتهاد، ويصنعون لأنفسهم من أنفسهم رقباء على ما يفكرون فيه أو يكتبون عنه. وكانت النتيجة الكارثة أن ذبلت روح الاجتهاد في الجامعة، ولم تخرج الجامعة المصرية وحدها من دائرة الجامعات ذات القيمة، بل خرجت كلالجامعات العربية تماما من مقياس أفضل خمسمائة جامعة في العالم.
وهناك ملاحظة أخرى على تقرير عبدالصبور شاهين الذي قبلته لجنة برئاسة تلميذ طه حسين، وهي ملاحظة تسجل انحراف اللجان العلمية، وانحراف التقييم الجامعي بوجهعام. فالأصل في التقييم الجامعي السليم هو الاجتهاد، والجدة، والاختلاف المقترنبأصالة المنهج بعيدا عن الموافقة على النتائج أو الاختلاف معها. فلا اجتهاد من دوناختلاف، وإلا فقد الاجتهاد معناه، ولا جدة إلا بالخروج على السائد، وإلا ما كانت جدة ولا اختلاف. ومن ثم لا اجتهاد إلا مع إقرار مبدأ حق الخطأ. فالمعرفة الإنسانية لا تتقدم بالإصابة في الاجتهادات وحدها، وإنما تتقدم بالقدر نفسه بالأخطاء. ولذلك حرصت الحضارة الإسلامية في عصور ازدهارها على ما أطلق عليه طه حسين، في مقال شهيرنشره عام 1955، حق الخطأ الذي يعني إصابة المجتهد في كل الأحوال، حتى في الخطأ الذي يستحق عليه أجرا يضاعف في حالة الإصابة. وأصل الإثابة ومبررها تشجيع إعمال العقل، والمخالفة في الاجتهاد، وإلا ما تراكم العلم ولا تقدّمت المعرفة العلمية. ويترتب على ذلك أن التقييم العلمي الصحيح ليس الأصل فيه هو الاتفاق بين من يقوم بالتحكيم ومن يتم تحكيم إنتاجه، وإنما مراعاة قيم المنهجية والاجتهاد والإضافة بعيدا عن الاتفاق أو الاختلاف. وقد ترتب على قبول تقرير عبدالصبور شاهين، الذي لاأزال أراه وصمة عار في تاريخ الجامعة، وهو منشور مع تقرير قسم اللغة العربية في تفنيده علميا في كتاب نصر: "التفكير في زمن التكفير"، الذي طبع أكثر من مرة. وأضيف إلى ذلك ما هو متضمن في السياق من جانب ثأر شخصي ينطوي عليه التقرير الذي استغله كاتبه للثأر من نصر، الذي أشار إليه في أحد الكتب بوصفه مستشارا لإحدى شركات توظيف الأموال التي نهبت ثروات المسلمين المخدوعين فيها".
وقارئ هذا الكلام يخرج منه بصورة مقيتة لكل من د. شكرى عياد ود. شوقى ضيف: فالأول، كما يصوره المقال، غِلاّوىّ جبان منافق لا يعلن عن رأيه إلا فى الظلام ولا يستطيع المواجهة. فهل كان د. شكرى عياد بهذه الصورة؟ أما د. شوقى ضيف، الذى صوره جابر عصفور بصورة المتخلف الرجعى الذى لا يفهم فى البنيوية ولا التفكيكية ولا الهرمنيوطيقية ولا المهلبية ولا الملوخية، وهو كلام لا يليق فى حق ذلك الأستاذ الكبير الذى لا يعرف الهلس والهجص ويحرص على أن يقول كلاما مفهوما ومفيدا، ويزداد خروجا على اللياقة من د. جابر عصفور، الذى لا أنسى منظره فى احتفالية المجلس الأعلى للثقافة بالدكتور محمد حسين هيكل فى أواسط التسعينات من القرن المنصرم، وهو ممسك بورقة كان قد أعد فيها مسبقا سؤالا بالإنجليزية موجها لأحد المستشرقين الموجودين بالاحتفالية، ويقرأ السؤال ببطء قاتل ممايدل على ضعفه فى لغة جون بول، التى تحدى فيها مع ذلك أ. د. عبد العزيز حمودة فى معركة "المرايا المحدبة"، حيث وجه حمودة فى ذلك الكتاب إلى الحداثيين العرب لطمات عنيفة أفقدتهم صوابهم وتركتهم أباديد لا يدرون ماذا يصنعون، واتهمه بأنه لا يحسن النقل عنها رغم أن الرجل أستاذ كبير فى اللغة الإنجليزية وآدابها، وهو بالنسبة إليه لا يعد فى العيرولا فى النفير، أقول: أما الدكتور شوقى ضيف فإنى أكتفى بشأنه بإحالة القارئ إلى ما كتبه فى حقه قبل ذلك جابر عصفور، الذى كان يمجده دائما ولا يجرؤ أن يقول فيه أثناء حياته ولا واحدا على المليون مما كتبه هنا بعد مماته. ثم كيف بالله نستطيع أن نتحقق من هذا الكلام، وكل الذين يدور حولهم قد انتقلوا إلى جوار ربهم؟ ثم هل يصح أن ينتظر جابر عصفور حتى يموت الجميع ليقول بعد ذلك، وبعد ذلك فقط، إنه الآن فى حِلٍّ من قول ما قال؟
خلا لك الجو فبيضى واصفرى * ونقّرى ما شئت أن تنقّرى
ومع ذلك فقد أبى الله أن يمر هذا الكلام دون معقب، وهو معقب قريب جدا من الأحداث، إذ هو الأستاذ الدكتور عاصم شوقى ضيف، ولا أحد سواه. فقد ألفيته يعلق فى أحد المواقع المنشور فيها هذا المقال على ما كتبه جابر عصفور بالسطور التالية التى ترينا وجها آخر لسير الأحداث يختلف تماما عما حكاه جابر عصفور وهو آمن مطمئن يظن أن أحدا من عباد الله لن يعلق على هذا الذى كتب. قال د. عاصم ضيف بأدب وهدوء يذكراننا بأدب أبيه وهدوئه ودماثة طبعه واحترامه الشديد لنفسه وللآخرين وعدم تزيده فى الكلام وحرصه على وزن ما يقول رحمه الله على عكس قوم ابتُلِينا بهم فى العقود الأخيرة يذكروننا بالحوذية والبلطجية:
"هناك مغالطتان: أما خلف اللهفقد اعترض عليه أساسا عبد الوهاب عزام، وشوقي ضيف فقط قال رأيه. ولو كان فكرهسليما فلماذا لم يقف القسم مع أمين الخولي مشرفه ضد شوقي ضيف، وكان بعد مدرساصغيرا؟ لأن "الفن القصصي في القرآن" يجعل من الأخير نص أدبي. وهي فكرة خطيرة. أما شكري عياد فقد كان يكن لشوقي ضيف احتراما كبيرا، وكان يزوره كثيرا. وأذكر أن قال ليمرة إن كتب والدك مصادر معتمدة. والمغالطة الأخرى هو أن شوقي ضيف لم يكتب تقريرا بلأبلغ محمود مكي أته يعتذر لما وجده في فكر نصر. فلما بلغ ذلك المساندين له، ومنهم كاتب المقال، وجدتهم يزورون والدي في منزله بالدقي، واجتمع عنده غير قليل منهم. فلماانصرفوا سألته: لماذا هذا الحشد عندك؟ فقال لي: يرجونني أن أوافق علي ترقية أحدالمتقدمين للترقية بالقسم. ولم أكن أعرف اسمه بعد، فقلت له: إذا كان بقسمكم فلماذا لا تساعده؟ قال: اعتذرت لأن أعماله بها مخالفات واضحة (ولم يبين لي ما هي)، وعقيدتي لا تسمح لي بالموافقة عليها. لذلك أعتذر عن الحكم عليها. إذن فشوقي ضيف لم يقف ضده، واكتفيبالاعتذار مجاملة لبعض أعضاء مجلس قسمه مع أنه لا يوافقهم الرأي. وكان هذا شأنهدائما، لا يتعرض لأحد بالإساءة. والحقيقة أن السبب في عدم ترقية نصر هو قسم اللغة العربية لأنك إذا تأملت كيف تلاحقت الأحداث فهذان محكَّمان من القسم نفسه، وثالث منالخارج. إذن يبدو الأمر أمام اللجنة الكلية محسوما مقدما، وبالأخص أن رئيس اللجنةطلب أن يكون أحد المحكمين. ولقدره العلمي ستجعل الجميع موافقين بالضرورة. لكن ما أن اطّلع شوقي ضيف على الأعمال حتى تبين الخطورة فيها. إذن ليس كما يدعي كاتب المقال أنمنهجها يستعين بالتفكيكية أوالبنيوية أو أنه أمام منهج جديد لم يألفه من قبل، بل لايعدو الأمر أن يكون بسبب ما وجده عند المتقدم ما معناه أن القرآن الذي شب عليهالمسلمون واعتقدوا أنه إلهي ما هو إلا منتج ثقافي ونص لغوي يمكن تطبيق عليه أساليب النقد. وهل يمكن لشوقي ضيف مفسر القرآن ومحقق القراءات العشر والمدافع عن السيدةعائشة على أنها لم تتزوج صغيرة ضد كلام المستشرقين أن يوافق على كلام يشبه كلامهم؟إذن فقد أخفى القسم الحقيقة عن شوقي ضيف. ولو كان طلب منه أن يكون المحكَّم الثالث أحدالموافقين علي هذه الآراء، وكان منهم في اللجنة الكثير، لكان الموضوع "خلص علي خير".إذن فالخطأ أصلا هو خطأ القسم".
ويبقى قول جابر عصفور إن أ. د. عبد الصبور شاهين قد كفّر نصر حامد أبو زيد فى تقريره الذى كتبه عن إنتاجه العلمى حين تقدم للترقية لرتبة الأستاذية، وهو زعم غير صحيح بالمرة، وإلا فلينقل لنا نص ما كتبه الأستاذ الدكتور الذى يقول إنه كفر فيه نصر أبو زيد. ثم أليست مصيبة بل كارثة أن يتدخل ناس من خارج لجنة الفحص فى أعمال الترقية على هذا النحو المفضوح من أجل ترقية واحد بعينه، وقبل ظهور النتيجة؟ ألا إن هذا كلام خطير فى غاية الخطورة. ولقد شاء الله السميع العليم أن ينجر د. جابر عصفور فيذكر هذا الموضوع متصورا أن من حقه التدخل لإنجاح من يريد، مما كان من نتيجته تنحى الأستاذ الدكتور شوقى ضيف عن النظر فى أعمال نصر أبو زيد. وهو تصرف حضارى راق، ولكن كانت ثمرته أن أبو زيد رغم كل التدخلات والتوسلات والتربيطات لم ينجح، فقامت الدنيا من يومها وانتقل الخبر إلى وكالات الأنباء العالمية مع أن مثل هذا الأمر يحدث كل مرة تجتمع فيها لجان الترقية، إذ ينجح ناس ويرسب ناس، ولا من شاف ولا من درى. اللهم إلا أن يكون الراسب واحدا كالدكتور نصر أبو زيد، فعندئذ، وعندئذ فحسب، تبدأ القصائد الهجائية فى السباب، وتشرع المارشات العسكرية فى الدق والنفخ فى محاولة مفضوحة للترهيب والترويع، وتتنادى وكالات الأنباء المحلية والعالمية شأن من هم على ميعاد. ثم يتباكى بعض القوم على المنهجية العلمية والحيادية والتنويرية والحمصية والسمسمية والحلاوة الطحينية. والله إنه، لكما قال أحدهم تعليقا على ما جرى، شىء يفقع المرارة!
وأذكر هنا عَرَضًا ما سمعته مرارا من عضو فى لجنة منح الجوائز فى بعض الساحات الثقافية بإحدى البلاد العربية من أنه هو وزملاءه فى اللجنة يقضون الأيام والليالى ذوات العدد يفحصون أوراق المرشحين ويفاضلون بينهم. حتى إذا استقر الرأى على منحها لفلان أو لعلان هلّ عليهم "أبو وش كالح" وقال لهم: دعوكم من هذا كله، وخذوا فلانا الفلانى. فلا يملكون إلا أن يأخذوا فلانا الفلانى لأن "أبو وش كالح"، ربنا يأخذه، قد قال، ولا رجعة لما قال. وكان، أخزاه الله فى الأرض والسماء والدنيا والآخرة، لا يكف عن التشدق بالحرية ولا عن مهاجمة الدولة التى يخدم أهدافها كأى عبد ذليل ينتفش على عباد الله ممن ليسوا أذلاء مثله ويتظاهر أن بمستطاعه إعطاءهم محاضرة فى مكافحة الاستبداد والعسف والطغيان. إى والله الاستبداد والعسف والطغيان الذى يسبح بحمده آناء الليل وأطراف النهار، وإلا ضربوه بما فى أرجلهم ورَمَوْه رمية الكلاب! ويقول الذين يعرفون خبايا "أبو وش كالح" إنه لم يصل إلى منصبه الجامعى إلا باستعطاف حاكم دولته بعد أن رسب فى إحدى المواد ولم يعيَّن معيدا فى البداية بسبب ذلك، زاعما فى استعطافه الكاذب أن الأساتذة يضطهدونه لفقره وانتمائه إلى الطبقات الكادحة. قال ذلك وهو يتطلع إلى أن يكون أحد المنتمين إلى الطبقات المادحة. وقد أصبح المنافق منهم، لعنه الله لعنا كبيرا وصغيرا ومتوسطا وبكل الأحجام والمقاييس.
ولا بأس أن أقتطف بضع فقرات من مقال كتبه وائل عزيز فى مدونته عن ذات القضية بعنوان "حكايةنصرحامدأبوزيد" أشار فيه إلى التقرير الذى كتبه الأستاذ الدكتور عبد الصبور شاهين عن أعمال د. نصر. وهذا نص الفقرات المذكورة: "نشر الدكتور أبو زيد نص التقرير كاملا في كتابه: "التفكير في زمن التكفير"، كما نشره في مقدمة الطبعة الثانية من كتابه "نقد الخطاب الديني". ولم يكن في التقرير كلمة واحدة تشير إلى كفر أو تكفير أبو زيد كما شاع بعد ذلك وكرره نصر حامد نفسه. وإنما خلاصة ما جاء به أن أبحاثه بها "الكثير من الأخطاء التاريخية والعلمية، وأنه يجعل العقل الغيبي غارقا في الخرافة والأسطورة مع أن الغيب أساس الإيمان، وأنه ينعي على الخطاب الديني أن يرد كل شيء في العالم إلى علة أولى هي "الله"، ويرى أن ذلك إحلال لـ"الله" في الواقع ونفي لـ"الإنسان". كما أنه إلغاء للقوانين الطبيعية والاجتماعية. وهو يدافع بحرارة عن الماركسية الفكر الغارب ويبرئها من تهمة الإلحاد، بل ويقول بخطأ تأويل الماركسية بالإلحاد والمادية. ولعله يتصور أن ماركس كان مؤمنا روحاني النزعة". وختم الدكتور شاهين تقريره بقوله: "إن أبحاثه جدلية تضرب في جدلية لتخرج بجدلية تلد جدلية تحمل في أحشائها جنينا جدليا متجادلا بذاته مع ذاته، إن صح التصور أو التعبير. وليست هذه سخرية، ولكنها كانت النتيجة التي يخرج بها قارئ الكتاب غير المنشور حتى الآن".
وقد كان الرجل محقا في هذا الوصف، فالدكتور أبوزيد كمفكر مجتهد يفكر أسرع مما يكتب، ولا يستقر به الحال عند فكرة إلا لحقها بما يناقضها. وما أودعه في كتابه: "مفهوم النص" كان يحتاج منه إلى كثير من المراجعة قبل أن يخرج بالصورة التي خرج عليها، والتي أمكن بسهولة للمتربصين به (أو "الباحثين عن العفريت" بتعبيره) أن يقتطعوا منها العديد من الفقرات ليحاكموه بشأنها، فقد بحثوا عن العفريت (التجاوزات) فطلع لهم، فأخذوها إلى المحكمة، فحكمت لصالحهم في الاستئناف والنقض. ورغم أنه حاول الدفاع بعد ذلك عن آرائه وتوضيح ما قصده بكتابته عبر الندوات الخاصة واللقاءات التليفزيونية، ولكن ذلك كان بعد فوات الأوان.
لا يفوتني هنا أن أشير إلى الصراع المستمر وغير المعلن بين كلية دار العلوم وكلية الآداب، وهو صراع يعود إلى أيام طه حسين. أو قل: هو صراع بين ممثلي الفكر الإسلامي والعلمانيين في الجامعات المصرية خاصة في أقسام الفلسفة واللغة العربية والتاريخ. وقوانين الترقية لدرجة أستاذ تستلزم أن يكون هناك مقيّم خارجي، أي من خارج الكلية التي تقدم منها المرشح بأبحاثه. ومثل هذا القانون كان يستهدف الموضوعية في التقييم والبعد عن المجاملة، لكنه انتهى إلى سيف مسلط في أيدي الأساتذة الكبار من الفريقين يستخدمونه في تصفية الحسابات والمقايضة وتحقيق الانتصارات. وأعرف عددا من الأساتذة من المحسوبين على التيار الإسلامي الذين دفعوا ثمن هذا الصراع عبر تعنت أسماء مثل جابرعصفور وعاطف العراقي ومراد وهبة وحسن حنفي وغيرهم من الكبار، فتأخرت ترقياتهم شهورا وسنوات، ولم تُجْدِ معهم الشكاوى ولا الاعتراضات. ولا زال الصراع مستمرا، ولم يستطع حله وزراء التعليم العالي المتعاقبون ولا المجلس الأعلى للجامعات، وظل أحد الأدوات التي تستخدمها السلطة من أجل إبقاء التوتر قائما، وهو ما يحتفظ لها بدور الحكم دائما والحكيم أحيانا.
كان من الممكن رأب الصدع بسهولة، وتكرر هذا في عشرات الحالات السابقة. ولم يكن للدكتور عبدالصبورشاهين أن يقبل أن يضع اسمه على تقرير يجيز ترقية أستاذ يختلف معه فكريا إلى حد النقيض، خاصة مع ما ترشح من اتهامات من أبوزيد لشاهين في مسألة توظيف الأموال وعلاقته بالريان. واقترح الدكتور مأمون سلامة رئيس جامعة القاهرة حينذاك، وهو رجل منصف وحكيم، أن يتم اختيار مقيّم آخر غير الدكتور شاهين والقبول بتقريره، وهو ما يعني عمليا اختيار مقيّم من الجناح الآخر من الأساتذة الذي سينتهي بتقرير إيجابي وتحل المشكلة. وكاد الدكتور أبوزيد يقبل، غير أن أصدقاءه نصحوه بالرفض والتصعيد، وأوهموه أن الحق معه. ولعلهم أرادوا بهذا التصعيد أن يبعدوا الدكتور شاهين من الجامعة، فانقلب السحر على الساحر.
تولى الصحفي اليساري لطفي الخولي مهمة التصعيد في صفحة "الحوار القومي"، التي كان يشرف عليها في "الأهرام"، وأتاح الفرصة لعدد من المدافعين عن موقف أبوزيد للتعبير عن رأيهم والتباكي على ما انتهى إليه حال حرية البحث العلمي في الجامعات المصرية. وفي المقابل انبرى فهمي هويدي في صفحته بـ"الأهرام" ومحمد عمارة في جريدة "الشعب" وآخرون للدفاع عن موقف شاهينرفض التطاول على المقدسات باسم البحث العلمي النزيه. وخرجت المعركة عن حدود السيطرة".
بهذا ننتهى سريعا من إحدى المغالطات فى موضوع ترقية نصر أبو زيد بعدما كشفنا عن وجه الحق واتضح أن عبد الصبور شاهين لم يكفر فى تقريره أبو زيد على أى وجه من الوجوه وأن المسألة كلها مختلقة من الأساس. بيد أن للمسألة وجها آخر، وهو: هل يفهم من هذا أنه ليس فى الإسلام تأمين أو تكفير؟ الواقع أن فى الإسلام تأمينا وتكفيرا، وإلا انماعت المفاهيم وغامت الرؤى واختلطت المصطلحات واضطربت التصنيفات، وهو ما يربك الأمور ويشيع الحيرة والبلبلة فى النفوس والعقول والضمائر. ما معنى ذلك؟ معناه أنه كما يستخدم نصر أبو زيد وغيره مصطلحات التنويريين والظلاميين والرجعيين والمتخلفين... إلخ كذلك يستخدم المتدينون مصطلحات "الإيمان والكفر والنفاق والطاعة والمعصية والحلال والحرام والفرض والسنّة" جريا على أسلوب القرآن الكريم والسنة النبوية والتراث الإسلامى، كقوله تعالى فى سورة "النساء": "إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151) وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)"، وقوله تعالى فى سورة "المائدة": "لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)"، وقوله عز شأنه فى سورة"الأعراف": "وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآَخِرَةِ كَافِرُونَ (45)"، "قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آَمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76)"، وقوله جل جلاله فى سورة "التوبة": الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)"، وقوله تبارك اسمه فى سورة "فُصِّلَتْ": "قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8)"، وقوله تعالى جَدُّه فى سورة"المنافقون": "إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (8)"، وقوله صلى الله عليه وسلم: من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك"، "من أتى ساحرا أو كاهنا أو عرافا فصدّقه بما يقول فقد كفر بما أُنْزِل على محمد"، "إذا قال للآخر: كافر، فقد كفر أحدهما: إن كان الذى قال له كافرا فقد صدق، وإن لم يكن كما قال له فقد باء الذى قال له بالكفر"، "شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جنازة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أيها الناس، إن هذه الأمة تبتلى في قبورها. فإذا الإنسان دُفِن فتفرق عنه أصحابه جاءه ملك في يده مطراق فأقعده، قال: ما تقول في هذا الرجل؟ فإن كان مؤمنا قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله. فيقول له: صدقت. ثم يفتح له باب إلى النار، فيقول: هذا كان منزلك لو كفرت بربك. فأما إذ آمنت بربك فهذا منزلك. فيفتح له باب إلى الجنة، فيريد أن ينهض إليه، فيقول له: اسكن، ويفسح له في قبره. وإن كان كافرا أو منافقا يقول له: ما تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري. سمعت الناس يقولون شيئا. فيقول: لا دريت ولا تليت ولا اهتديت. ثم يفتح له باب إلى الجنة فيقول: هذا منزلك لو آمنت بربك. فأما إذ كفرت بربك فإن الله عز وجل أبدلك هذا. ويفتح له باب إلى النار ثم يقمعه مقمعة بالمطراق يسمعها خلق الله كلهم غير الثقلين. فقال بعض القوم: يا رسول الله، ما أحد يقوم عليه مَلَكٌ في يده مطراق إلا هِيلَ عند ذلك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يثبّت الله الذين آمنوا بالقول الثابت"، "الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق. فمن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله"، "من ترك الجمعة ثلاثا من غير ضرورةٍ طُبِع على قلبه: منافق"، "أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خَلَّةٌ منهن كانت فيه خَلّةٌ من نفاق حتى يَدَعها: إذا حدَّث كذَب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فَجَر"، اللهم إلا إذا قيل بإلغاء هذا من القرآن والسنة كما ينادى المهاويس المهلوسون هذه الأيام بكل وقاحة، فى الوقت الذى لا يجرؤون أن يفكروا مجرد تفكير فيما عند غير المسلمين، إذ هم يعرفون أن ألسنتهم تُقْطَع فى الحال ويُنَكَّل بهم أيما نَكَال.
ذلك أن مثل هذه النصوص شىء لا ينفرد به الإسلام، بل يوجد فى كل دين ومذهب وعقيدة نصوص ترسم الحدود وتَسِم كل من يتمرد عليها بأنه لا يؤمن بها وتخطّئه وتخرجه عن العقيدة، سياسية كانت تلك العقيدة أو دينية أو فلسفية. ولقد تعدت الأمور أحيانا فى أوربا فى العصر الحديث حدود الخلاف الفكرى ووصلت عند الشيوعيين وغير الشيوعيين إلى "التصفية الجسدية". وهذا مصطلح أوربى لم يسمع به المسلمون إلا فى هذا العصر. فنرجو من المتحذلقين البكاشين أن ينقّطونا بسُكاتهم ويكفأوا على الخبر ماجورا ولا يقيموا من أنفسهم معلمين لنا، فى الوقت الذى يجب عليهم فيه أن يتبوأوا مجلس المتعلمين لا مقام العالمين. إن الحياة قائمة على التصنيفات والتقسيمات، وهذه النصنيفات والتقسيمات تستلزم مصلطحات معينة لا بد من استخدامها، وإلا فماذا نسمى من يقول إن محمدا هو مؤلف القرآن، أو إنه لا يوجد إله أصلا، أو إن الجنة والنار والثواب والعقاب هى أساطير ليس لها أية حقيقة فى خارج أذهان من يعتقدون بها؟ ببساطة: من يقول بهذا فهو كافر. إلا أن الأمر ليس بهذا التحديد الصارم دائما، إذ هناك مسائل حدودية يمكن أن يكون فيها أكثر من رأى، وتقبل أكثر من تفسير. وهذه المسائل الحدودية يصعب إصدار حكم بشأنها، وبخاصة إذا ما استعمل المتكلم أوالكاتب أسلوبا مراوغا فى التعبير عما فى نفسه، فتراه لا يحسم الكلام بل يصوغه صياغة لفافة دوارة حتى إذا ما آخذتَه على هذه النقطة أو تلك انبرى لك مؤكدا أنه لا يقصد ما فهمتَه. ولكن الصبر على التحليل والتفكيك والتركيب وما إلى ذلك من أدوات البحث ومناهجه يمكن أن تفيد فى الخروج من متاهة المراوغة التى يصطنعها بعض الكتاب، وإن ظل الأمر دائما غير حاسم تمام الحسم. وفى هذا السياق نذكّر بما قاله بعض علماء السلف من أننا إذا قرأنا أو سمعنا مقالة تحتمل الكفر من تسعة وتسعين وجها، والإيمان من وجه واحد فينبغى حملها على محمل الإيمان. وهو ما يجب أن يأخذ به المسلمون، أو على الأقل: يجب أن يكونوا على ذكر منه فلا يندفعوا مع التكفير، وبالذات إذا أكد الشخص المعنىّ أنه مسلم يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله مما يحفظه المراوغون أيضا ويرددونه فى مثل تلك الظروف للخروج من المأزق. ومع هذا نقول كما قال النبى عليه الصلاة والسلام لصحابى اتهم رجلا بعدم الإيمان: هلاّ شققتَ عن قلبه؟ يقصد، صلى الله عليه وسلم، أنه ليس من صلاحيتنا محاولة التدسس إلى أفئدة الآخرين والتلصص على ضمائرهم ما داموا يعلنون الإسلام حتى لو لم يكونوا مسلمين فى أعماق قلوبهم، إذ إن الكشف عما تكنه تلك القلوب ليس من وظيفتنا. لكن هذا يختلف عن تصدينا لأفكار الآخرين وكلامهم المكتوب وتحليلنا له واجتهادنا فى فهمه والحكم عليه دون الحكم على صاحبه ما دام لم يقل شيئا واضحا قاطعا من الكفر. وحتى هنا ليس من صلاحيتنا إكراهه على غير ما يؤمن به. إنما هو فكر إزاء فكر، والسلام.
ننتهى من هذا إلى أن التكفير مفهوم من المفاهيم لا يمكن أن يخلو منه أى دين، إذ معناه أن فلانا أو علانا لا يؤمن بهذا الدين. وهل هناك شك فى أنه ما من دين إلا ويرفضه الملايين بل عشرات الملايين بل مئاتها؟ فكيف نصنف هؤلاء الرافضين؟ إنهم كفرة بهذا الدين، مثلما يقول الماركسيون عن المتدينين: الظلاميون والرجعيون والمتخلفون، ويصفون أنفسهم بالتنويريين والتقدميين، وكما تقول أمريكا والدول الاستعمارية عمن يدافعون عن بلادهم: إرهابيون، وتصف نفسها بقوى التقدم والتحرر... إلخ. وفى داخل المذهب الشيوعى كانت هناك اتهامات متبادلة بين شيوعيى الصين والاتحاد السوفييتى ويوغوسلافيا وألبانيا. وهذه الأخيرة لم يكن يعجبها أحد، فكانت ترمى الجميع بالانحراف وترى نفسها الدولة الشيوعية الحقيقية الوحيدة. ومنذ سنوات صدر كتاب فى أمريكا يقول بنهاية التاريخ وأن الحضارة الغربية ستبقى هى الحضارة الصحيحة الوحيدة إلى الأبد.
وهنا نسمع بعض القوم يقولون لمن ينبرى للرد على ما يراه مسيئا للدين أو مخالفا له: وهل خَوَّلك أحد للحديث باسم الله؟ وطبعا لم يخَوِّل أحد أحدا، بل دفعه ضميره واستفزته غيرته على دينه مثلما تستفز الغيرةُ كلَّ مؤمن بعقيدة أو مذهب إلى وقوف هذا الموقف حين يستدعى الأمر ذلك، فلا يجد من يقول له: ومن الذى خَوّلك الحديث باسم الشيوعية أو اللينينية أو التروتسكية أو النازية أو الوجودية أو اللاأدرية أو الوضعية المنطقية أو الرأسمالية أو الليبرالية أو الناصرية أو التكعيبية أو التبقيعية أو البنيوية أو التفكيكية... إلخ؟ ولا يوجد عاقل يزعم أو يعتقد أنه عند قيامه بالدفاع عن الإسلام إنما يتحدث باسم الله، إذ لا يعدو الأمر أن يكون اجتهادا من المدافع يعبر فيه عن رأيه هو وفكره هو وفهمه هو، ويتحدث فيه عن نفسه هو لا عن الله ولا عن الرسول. وقد يكون اجتهاده مصيبا، وقد يكون مخطئا. ويستطيع الآخرون أن يناقشونا فيما نقول، فنقوم نحن بتوضيح رأينا ونرد عليهم، فيردون هم بدورهم، ونستطيع نحن بدورنا أن نرد على رد الرد... وهكذا دواليك إلى أن نصل إلى شىء نتفق عليه أو نصل إلى طريق مسدود فيتمترس كل منا وراء فكرته لا يريد عنها حِوَلا، وهذا حقه. ولا أحد منا معصوم، بل كل ما يمكننا قوله هو أننا نبغى إصابة الحقيقة. وقد نكون كذابين فى هذا الادعاء، وقد نكون صادقين. بل نحن لا ندرى ماذا يفعل الله بنا مهما كثرت صلاتنا وصيامنا وزكاتنا وحجنا وحرصنا على التقوى وعمل الصالحات. أما الإجلاب وإحداث الصخب والضجيج بعبارات من مثل: "من خَوّلك التحدث باسم الله؟" فهو الخبث بعينه، إذ معناه أنك تحرّم على المسلم الدفاع عن دينه أو توضيحه أو مناقشة أحد فيما يقول بشأنه، ومن ثم يترك الساحة لكل من هب ودب ليقولوا ما عندهم من سخف دون تعقيب أو تصويب. وأين العاقل المنصف الذى يقول بهذا؟
وكان د. نصر أيضا يلجأ إلى هذا الأسلوب الترهيبى الذى يراد به إخراس المخالفين وزرع الرعب فى قلوبهم، إذ كان يتهم من ينتقدونه هو وأمثاله بأنهم يتجاوزون صلاحياتهم وحدودهم ويجعلون من أنفسهم ناطقين باسم الله (انطر ص30 مثلا من "مفهوم النص"). ترى هل النصوص القرآنية تنطق بما تريد أن تقول بحيث يمكن أن نترك لها مهمة التعبير عن نفسها ونسكت نحن؟ أم هل لا بد أن يُنْطِقها البشر، أى يَنْطِقوا بما يعتقدون أنها تتضمنه؟ وإذا كان عمر قد قال إن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة فإن النصوص هى أيضا لا تنطق من تلقاء نفسها، بل نحن الذين نُنْطِقها. والمهم هو الإخلاص فى هذا الإنطاق، والتدقيق فيه ومراجعته والاستماع إلى ما عند الآخرين واستيعابه وتقليبه على كل الوجوه حتى يصل الـمُنْطِق إلى ما يطمئن إليه ضميره فى نهاية المطاف. صحيح أن هؤلاء المنطقين للنصوص قد يخطئون كما قلنا، لكننا لو جرينا على المبدإ القائل بأن كل من هو معرَّض للخطإ فعليه أن يسكت، فعندئذ لن يُقْدِم البشر على قول أى شىء أو فعله، إذ الخطأ متربص بهم فى كل خطوة على الطريق لا عند النواصى والمنعطفات فقط. وبالمناسبة فنصر أبو زيد يزعم أنه وأمثاله هم الوحيدون الذين يفهمون الحقيقة الدينية (انظر ص63 من "نقد الخطاب الدينى"). أليس هذا هو بعينه ما يأخذه على خصومه؟ ألا يضع نفسه بهذه الطريقة موضع المتحدث باسم الله؟ من الواضح الذى لا يمكن أن تخطئه العين أنه يحلل لنفسه ما يحرّمه على الآخرين. والسبب مفهوم طبعا، إذ هو لا يريد أن يرد عليه أحد حتى لا ينكشف عواره ويفتضح مستواه فى التفكير والتعبير. وبهذا يتبين لنا أن مزاعمه حول العلمية الصارمة التى ينتهجها، والأسطورية التخريفية التى يرمى بها خصومه، هى كلام فى الهواء لا قيمة له.
وفى كتاب "التفكير فى زمن التكفير" (بدءا من ص21) يعمم الكاتب تعميما خطيرا إذ يحمل على الخطاب الدينى كله فى كل العصور وفى كل البيئات حملة شعواء متهما إياه بأنه خطاب تكفيرى. وهو لون من الإرهاب يخوف به المتدينين حتى لا يفتحوا فمهم ويتركوا الساحة له كى يفعل ما يحلو له دون رقيب أو حسيب، فتراه يصورهم وكأنهم ليس لهم شغلة ولا مشغلة إلا القول بأن فلانا أو علانا أو ترتانا كافر ابن ستة وستين، وهو أمر غير صحيح ولا معقول. ثم إننا نراه بعد قليل يتراجع شيئا ما فيقول إن المقصود بذلك هو الخطاب الدينى المعاصر وحسب. ثم بعد ذلك يتراجع مرة أخرى فيستثنى بعض الأشخاص ممن يقول عنهم إنهم يعيشون رغم ذلك فى الظل لا يظهرون للعيان، وليس لهم من ثم أى تأثير. وهو فى هذا وذاك لا يحلل ولا يمحص ولا يتحقق مما يقول بل يلقى الكلام على عواهنه بعبارات إنشائية رنانة طنانة لا تسمن ولا تغنى من جوع حتى ليظن من يقرأ كلامه ولا معرفة له بالواقع أن كل من يكتب أو يتحدث فى الدين ينهال تكفيرا على الناس عَمّالاً على بَطّال من الصباح للمساء، ومن ظلام الليل إلى نور النهار... وهكذا إلى أن تقوم الساعة، وفى فم أحدهم تكفيرة، فلْيلفظها حتى يبرئ ذمته أمام الله ويُعْذِر إليه سبحانه.
ومما أَجْلَبَ به د. نصر أبو زيد فى وجه المتدينين وهجومه على الخطاب الدينى قوله إن هذا الخطاب يقوم، فيما يقوم، على تغيير المنكر باليد (انظر ص69 من كتاب "نقد الخطاب الدينى"/ ط2/ سينا للنشر/ 1994م). لكن هل أصحاب الخطاب الدينى (والمقصود الخطاب الإسلامى وحده طبعا) هم دون غيرهم الذين ينادون بالتغيير عن طريق اليد؟ ترى كيف غيرت الثورة الفرنسية والإنجليزية والروسية والرومانية والإيرانية الأوضاع التعيسة البائسة التى كانت تنوء بها الشعوب؟ أليس عن طريق التغيير باليد؟ لكن المشكلة هى أن بعض الناس الطيبين يظنون أن التغيير باليد يمكن أن يتم وينجح ويحدث التغيير على يد فئة صغيرة من المخلصين تنتمى عادة إلى الجيش فيما يسمى بالانقلاب العسكرى. وهناك الجماعات الشبابية المتحمسة دون تبصر والتى تظن أن تغيير الأوضاع السياسية يمكن أن يتم بمعزل عن وعى العشب بحقوقه ومشاركته فى هذا التغيير بناء على هذا الوعى. وفاتهم أن مثل ذلك التغيير الذى لا ينبع من نفوس الشعوب ولا يتم بأيديها إنما هو تغيير سطحى، فضلا عن أنه لا يدوم. وقد يكون الأمر مجرد مؤامرة من جانب إحدى القوى الكبرى لإيهام الناس أن التغيير قد تم، والحمد لله، فلا داعى لاتخاذ أى تصرف آخر، ومن ثم يتم إجهاض الرغبة فى التغيير. أما فى الثورات المذكورة فلم يتم التغيير إلا على يد طوائف الشعب بعدما استجابت لدعوات مصلحيها ولم تبق جالسة على المساطب تلعب السيجة والكوتشينة أو تكتفى بالغناء والرقص وهز الأرداف مدحا للتغيير دون أية مشاركة فيه. أما الانقلابات العسكرية وما شابهها فتنتهى دائما إلى الاستبداد والهزائم والتقهقر والفساد الذى يعصف بكل شىء. المهم أن د. نصر أبو زيد يدين الخطاب الدينى مع أن أعظم التغييرات فى التاريخ إنما تمت باليد، يد الشعوب صاحبة المصلحة.
وقد كنت قديما أستغرب الحديث النبوى الكريم الذى يقول: "من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه، فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات إلا مات ميتة جاهلية" ولا أحقق معناه، وبخاصة حين أرى بعض الناس يستشهدون به لإسكات كل نقد يمكن أن يوجَّه للحاكم، الذى هو فى كثير من بلاد المسلمين حاكم غشوم فاسد ظالم، إلى أن استنارت بصيرتى وفهمت عبقرية الرسول العظيم. ذلك أن الحديث يخلو تماما من أية مساندة للاستبداد أو تثبيط لهمم المصلحين والمنتقدين، بل المقصود به التنبيه إلى أن الأقلية التى لا يعجبها شىء فى سياسة الحكومة لا ينبغى أن تهب للتو ثائرة على الأوضاع متصورة أنها هى كل الشعب، ومن ثم فمن حقها أن تقوم فى الحال فتغيّر ما ترى أنه فساد وانحراف، إذ إن عواقب مثل هذا التصرف وخيمةٌ بشعة الوخامة. أما التصرف السياسى الحكيم الناجع فهو توعية المصلحين للناس من حولهم والمجاهدة بالكلمة. وعندئذ، وعندئذ فحسب، يستطيعون أن يحققوا ما يريدون من تغيير، وإلا فلا. وهذه هى فلسفة الحكم الشورِىّ والديمقراطىّ. أما الانقلابات العسكرية فإنها سبيل أكيد إلى الضياع والطغيان والفساد، الذى نشاهده عيانا بيانا فى كثير من بلاد المسلمين حيث يتحكم العسكر الجهلاء الخبثاء الأغبياء فى مقدرات البلاد والعباد، وتنتهى الأمور دائما على أيديهم إلى البوار والخسار.
وفى الصفحة الخامسة والعشرين من كتاب "التفكير فى زمن التكفير" يمضى اتهام أبو زيد للمتدينين خطوة أخرى، إذ يقول إن منهج النقل الذى يسير عليه المتدينون (يقصد منهج الحفظ دون فهم أو تعقل) يقوم على الاتباع، ويناقض الإبداع ويعاديه، ويؤدى إلى التكفير العقلى الذى يؤدى بدوره إلى التصفية البدنية. ثم يقفز قفزة بهلوانية فى الهواء قائلا إن اللغة لم تكن عابثة حين جعلت التفكير والتكفير متقاربين لفظا، إذ الفرق بينهما تقديم حرف على حرف فقط بحيث إن الشخص إذا لم يُحْكِم تفكيره فإنه يلجأ إلى تكفير الآخرين الذين يختلف معهم. والواقع أن هذا تلاعب بالألفاظ يستند إلى مقولة "الاشتقاق الأكبر" التى قال بها ابن جنى، رغم أن هذا الاشتقاق الأكبر عند ذلك العالم اللغوى الكبير لا يعتمد إلا على أمثلة جد قليلة مع اعتساف فى التطبيق، مما وضحته فى كتابى: "من ذخائر المكتبة العربية" فى الفصل الذى خصصته لكتاب ابن جنى: "الخصائص". وبناء على هذا الأساس أستطيع أن أقول أنا أيضا بنفس الطريقة إن الفكر والكفر قريب من قريب بحيث إن الشخص إذا لم يحسن الفكر فإنه يقع فى الكفر. فما رأى القراء فى هذا؟
ثم لقد فات نصر أبو زيد أن النقل مطلوب مثلما النقد مطلوب، وكما أن النقل قد يكون معيبا إذا تم على نحو عميانى، فإن النقد قد يكون معيبا إذا تم دون استكمال أدواته من القراءة الواسعة والعقل القوى والتمحيص الدقيق والأناة فى استخلاص النتائج والاستعداد الدائم لمراجعتها وتصحيحها والرجوع عنها إذا تبين له أنه كان مخطئا أو غير دقيق... وهكذا. ولنكن على ذكر من أن الإبداع والنقد لا يمكن أن يتمّا إلا إذا كانت هناك مادة من المعلومات يستندان إليها. وهذه المادة تأتى من النقل، حتى إذا استحصد عقل الشخص استطاع أن يمارس النقد والإبداع. أما أن يبدأ نقده وإبداعه وليس فى عقله شىء، فكيف يستطيع ذلك؟ ترى هل يمكن أن يبدأ الطفل بالاستقلال فى التفكير وليس فى ذهنه أية معلومات قد لُقِّنها فى المدرسة والبيت مثلا؟ ترى هل يمكن أن تدور الرحى على الفاضى دون أن يكون هناك حب تدشّشه؟ إنها فى هذه الحالة سوف تتآكل بالاحتكاك دون حَبٍّ وتظل تطحن نفسها حتى تتفتت وتنتهى.
وإنى لأسأل: ومن أين أتى نصر أبو زيد بما كتبَه فى أبحاثه؟ أليس من النقل من كتب الآخرين؟ إن هذا ليس اتهاما، فنحن أيضا ننقل عن الآخرين، وإلا ما استطعنا أن نؤلف ما ألفناه. إذن فالنقل ليس مسبة حتى ينصب المشانق للمتدينين ظنا منه أنه يستطيع تشويه صورتهم. إنما العيب كل العيب فى أن يكون الكاتب فقيرا فى النقل إلى الحد الذى يخلط عنده ذلك الخلط الشنيع الذى خلطه أبو زيد بين العصر الأموى والعصر العباسى حتى ليجعل الشافعى يتعاون مع الأمويين ويتولى لهم عملا إداريا فى اليمن. ولسوف نأتى إلى هذه النقطة بعد قليل. لكن ذلك لا يعنى أبدا أن يتوقف الشخص عند النقل مثلما يفعل الدكتور نصر مع المفاهيم والمصطلحات الحداثية، التى ينقلها عن النقاد الغربيين أو بالأحرى: عن مترجميها عن النقاد الغربيين، ثم يضطرب فى تطبيقها على الفكر العربى كما سوف يتضح من هذه الدراسة التى فى يد القارئ الكريم لأنه لم يقرإ التراث العربى الإسلامى كما ينبغى. أى كان حظه من النقل عن هذا التراث ضئيلا. لقد صور المرحوم إبراهيم المازنى هذه العملية تصويرا فكاهيا، وإن كان مع هذا صادقا وبديعا أيضا، إذ قال إنه يشبه عربة الرش التى يذهب بها السائق إلى محطة الماء ليملأها ثم يدور بها فى الشوارع فاتحا صنابيرها يرش الأسفلت الملتهب إلى أن تفرغ مما فيها من ماء فيعود بها إلى المحطة كرة أخرى لملئها من جديد... وهكذا. ووجه الشبه أنه يحتاج دائما إلى الرجوع إلى الكتب ليستقى مادته التى يستند إليها فى التأليف، وأنه كلما انتهى من مقال له أو كتاب شعر أنه عربة رش فرغت من الماء، مما يستلزم منه أن يعود فيملأ عقله بقراءات جديدة يستند إليها فى تأليف شىء جديد... إلخ. فهذا كاتب من كبار كتاب الأب العربى فى كل العصور يرينا فى هذه الصورة الفكاهية الجميلة الساحرة كيف أن النقل شىء أساسى لا يمكن أن يستغنى عنه الكاتب مهما كان عبقريا مثله رحمه الله.
وقد كتب أحد طلاب الدكتور نصر تعليقا فى بعض المنتديات يتبين منه أن حظ الدكتور من المعلومات التى تحتاجها موضوعات أبحاثه قليل، وهو ما كان يوقعه فى المآزق. قال الطالب المذكور، واسمه نور أبو مدين: "الدكتور نصر ليس متخصصًا في الدراسات القرآنية، بل في علم اللغة، ولكنه أقحم نفسه في تخصص غير تخصصه. لذلك أتى بالأعاجيب شأن كل من يتحدث في غير فنه. وسأحدثك عن واقعة جرت لي شخصيًا معه في ذلك، إذ أنني كنت ضمن أول دفعة يدرس لها الدكتور نصر كتابه: "مفهوم النص" بعد عودته من اليابان. ولم يكن الكتاب قد طبع بعد، وإنما كان مجرد مذكرات مكتوبة على الآلة الكاتبة (نعم الآلة الكاتبة وليس الكمبيوتر، فقد كان ذلك منذ 16 عاما). ودرسه لنا ضمن مادة "علوم القرآن"، التي أُسْنِد إليه تدريسها بقسم اللغة العربية بكلية الآداب. كما درس لنا مادة "علوم الحديث" والتي لم يكن هو نفسه دَرَسَها من قبل. ولا أقول ذلك على سبيل التخرُّص، بل كلي يقين من ذلك للحادثة التي ساقصها عليك: كان الدكتور قد قرر علينا كتاب "الباعث الحثيث" وبعض أجزاء من كتابَيْ "فجر الإسلام" و"ضحى الإسلام" لأحمد أمين... وكان الدكتور يشرح كلام أحمد أمين ويتجنب شرح كتاب "الباعث الحثيث"، حتى قام إليه أحد الإخوة وسأله أن يشرح له عبارة في الباعث وهي: "الرواية تخالف الشهادة في شرط الحرية والذكورة وتعدد الراوي". وهذه العبارة وردت في الهامش. أقصد أنها من كلام الشيخ شاكر رحمه الله. ولأن الدكتور كان يرى العبارة للمرة الأولى في حياته، ولأنه لا يدري أصلاً ما هي الرواية وما هي الشهادة، فقد قام بشرح العبارة على أن الشروط الثلاثة المذكورة هي من شروط الرواية، وليست من شروط الشهادة. وكنت جالسًا فما تحملت الجلوس، فقمت لأصحح له هذا الفهم السقيم. وأشهد أن الدكتور كان واسع الصدر لأقصى درجة في مناقشة تلاميذه. أصر على قوله، فأردت أن أفصّلها له واحدة فواحدة، فقلت له: شرط الحرية غير موجود في الرواية، وموجود في الشهادة،. فأصر على أنه موجود في الرواية أيضًا. والطريف أنه لم يخطر ببالي وقتها إلا موالي عبد الله بن عباس فاحتج بأنهم "موالي"، أي تحرروا. ولو بَقُوا عبيدًا لما قُبِلَتْ روايتهم! فلم أُطِل الجدال معه وانتقلت إلى الشرط الثاني: الذكورة، وذكرت له أن المحدِّثات من النساء يملأن بتراجمهن المجلدات، وعلى رأسهن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فراح يلقي عليّ محاضرة عن العصور الوسطى وقرون الظلام وحقوق المرأة إلى آخر تلك الطنطنة التي لا علاقة لها بما كنا نتحدث عنه. وفي أثناء محاضرته تلك لمعت في ذهني نصيحة من شيخي: أنه قال لي ألا أنصح أحدًا أبدًا على الملأ، وسيّما إن كان أكبر مني سنًا أو قَدْرًا، فبادرت بالجلوس وعزمت على أن أذهب إليه في مكتبه بعد المحاضرة. وبالفعل كان، ودخلت مباشرة في الشرط الثالث وسلكت سلوك المستفهم الجاهل، وليس سلوك الند المتحدي، فقلت له: لا أفهم هذا الشرط. فبادر إلى القول إن كثير من العلماء (هكذا!) يرفضون أحاديث الآحاد ولا يأخذون بها. ولم أرد أن أخوض في جدل أعلم أنه لن ينتهي لشيء، فسألت ببراءة: وهل الشيخ شاكر الذي كتب هذا الكلام منهم؟ وهنا تغير لون وجهه وفهم عبارة الشيخ أخيرًا، فقام بعكس الكلام وادعى أن ظاهر لفظ الشيخ كان غامضًا، فشكرته وانصرفت. هذه الحادثة أوجدت عندي يقينًا أن الدكتور مبتوت الصلة بكتب التراث وأنه لم يقرأ كتب علم الحديث بل قرأ عنها، وقرأ عنها في أسوأ المصادر التي يمكن أن يتعلم منها مسلم. أعني كتابات المستشرقين والمستغربين. وهذا ما أثبتته الأيام لي بعد ذلك، فقد راح يدرس لنا من كتب "مشبوهة" مثل كتاب "الثابت والمتحول" للشيعي المتنصر أدونيس وغيره..." ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/archive/index.php/t-88177.html ).
وأذكر، بمناسبة الحديث عن النقل والإبداع وأهمية كل منهما فى الكتابة والتأليف، ما كتبته إحدى الناقدات الغربيات فى تعريف التناص وتصورها أنه يتلخص فى تركيب الفسيفساءات النصية المأخوذة من هنا وههنا بعضها بجوار بعض، وكان الله يحب المحسنين، فنبهت فى الفصل الذى عقدته للتناصيّة فى كتابى: "مناهج النقد العربى الحديث" إلى أن هناك شيئا جوهريا فات الناقدة المذكورة، وهو شخصية الكاتب نفسه وروحه وإبداعه الذى يركب تلك الفسيفساءات بطريقة معينة فيخلق منها خلقا جديدا ويجعل منها شيئا مدهشا للعقل، وممتعا للذوق معا.
والآن إلى بند آخر من الأغلاط والمغالطات. لقد قدم د. نصر حامد أبو زيد، ضمن ما قدم من أعمال بقصد الترقى لمرتبة الأستاذية، كتابه المسمى: "نقد الخطاب الدينى". والمقصود بـ"الخطاب"، فى لغة بسيطة يستطيع أن يفهمها شخص رجعى منغلق لا يفهم فى البنيوية والتفكيكية والسميوطيقية والمهلبية والعسلية ونبوت الغفير كالدكتور شوقى ضيف ثم العبد لله إذا كان لى أن أن ألتحق بشرف مصاحبة الأستاذ الدكتور حتى فى المعيب والمثالب، هو الكتابات أو الأحاديث التى تتناول القضايا الدينية، سواء فى التفسير أو الحديث أو السيرة أو الفقه أو الخطابة أو علم الكلام أو مقارنة الأديان أو الوعظ والإرشاد... وهلم جرا. وفى هذا الكتاب ينتقد أبو زيد الخطاب الدينى كله انتقادا مطلقا يشمل كل ألوان ذلك الخطاب فى جميع العصور والبلاد، ومن كل الألوان والأطياف والاتجاهات، ودون اعتبار للكاتب سواء كان هو الطبرى أو ابن هشام أو الشافعى أو مالك أو ابن حزم أو الغزالى أو ابن العربى أو الشوكانى أو العقاد أو مالك بن نبى أو خالد محمد خالد... إلى آخر هؤلاء الكتاب، وهم بالآلاف، وإلا لحدده مثلا بالخطاب الدينى الشعبى أو الخطاب الدينى فى العصر العباسى أو الخطاب الدينى المعاصر أو الخطاب الدينى السعودى أو الخطاب الدينى عند خطباء المساجد أو الخطاب الدينى عند فلان أو علان أو ترتان من الكتاب أو الخطباء أو المحاضرين. كما أن انفراد الخطاب الدينى بالنقد قد يوحى، بل المراد عند أبو زيد هو أن يوحى، بأن الخطابات (أو بلغة الرجعيين المنغلقين من أمثال د. شوقى ضيف القامع الظالم المفترى: "الكتابات") الأخرى بريئة من هذا العيب. أى أنه عيب ذاتى فيه لصيق به لا يفارقه. لماذا؟ ليس هناك تفسير أمامى إلا فى أن العيب فى الدين نفسه، ثم انجر إلى الخطاب الخاص به. وفى الصفحة الحادية والعشرين وما بعدها من الكتاب يؤكد الكاتب بكل وضوح أن الخطاب الدينى بجميع أنواعه معيب، وأنه خطاب متطرف إرهابى تكفيرى تحريضى (على القتل طبعا) منغلق رجعى لا عقل فيه ولا فكر بل نقل وترديد للنصوص ترديدا آليا دون فهم أو نقد أو تمحيص كما تفعل الببغاوات التى لا عقل لها، وأنه إذا كان هناك فرق بين خطاب وآخر منه فهو فى الدرجة لا فى النوع. فهل فى هذا التعميم المطلق الذى لا يستثنى أحدا ولا عصرا ولا بلدا فى مجال الكتابات الدينية ("الإسلامية" طبعا من فضلك) شىء من المنهجية العلمية والانضباط الفكرى الذى يصدعنا بعض القوم بالجعجعة فيه؟ أترك الحكم للقارئ.
ثم مغالطة أخرى. ففى الصفحة الثانية والثلاثين من "نقد الخطاب الدينى" نرى الكاتب ينكر إنكارا مطلقا أن يكون أبو زيد قد اتهم العقل الغيبى بشىء. وهذا نص ما قال، والإشارة فيه إلى تقرير الأستاذ الدكتور عبد الصبور شاهين الخاص بترقية د. نصر: "ينتزع عبد الصبور شاهين العبارات من سياقها ليقرر فى يقين عجيب وحسم قاطع غريب: "فى المقدمة يهجم الباحث على الغيب بأسلوب غريب فيجعل العقل الغيبى غارقا فى الخرافة والأسطورة مع أن الغيب أساس الإيمان". وحديثنا الذى يشير إليه مولانا الشيخ هو ما يتعلق بالخطاب الدينى الذى ساند شركات توظيف الأموال بالإسلام. ومسألة "العقل الغيبى" لا وجود لها فى النص المشار إليه من حديثنا تصريحا ولا تلميحا حيث قلنا: "إن عملية النصب الكبرى تلك لم يكن لها أن تحقق ما حقتته دون تمهيد الأرض بخطاب يكرّس الأسطورة والخرافة ويقتل العقل". فالحديث عن خطاب، وليس عن العقل الغيبى. لكن الشيخ أراد أن ينسب لنا إنكار الغيب لكى يدلل بعد ذلك على أن الباحث ينكر "ما هو معلوم من الدين بالضرورة" فيلقى به وبخطابه فى غيابة "الكفر" و"الردة"... إلخ. وفى تعليقه على تفرقتنا بين فصل سلطة الدولة وفصل الدين عن الحياة والمجتمع، وعن خلط الخطاب، بينما يهدف تشويه العلمانية وربطها بالإلحاد... يقول كاذبا فض الله فاه: "ولا أدرى إن كان ذلك عن جهل بمفهوم العلمانية أو هو يضاعف من خطورة هذا الاتجاه بتزييف المفاهيم". وهذا ينقلنا إلى تزييف عبد الصبور شاهين وأتباعه للمفاهيم، خاصة العلمانية والماركسية، بل وتزييفه للأقوال التى لم نقلها ونسبتها لنا، وهو ما يكشف عن دلالات خطيرة نناقشها فى الفقرة التالية".
هذا ما يقوله نصر حامد أبو زيد منكرا أن يكون قد هاجم العقل الغيبى على أى نحو من الأنحاء، بل ينفى نفيا قاطعا أن يكون قد ذكره أى ذكر فى كلامه، مع أن تقرير قسم اللغة العربية بآداب القاهرة الذى أخذ على عاتقه الدفاع عنه قد أتى بنص كلام أبو زيد فى هذا المجال، وفيه إدانة واضح صريحة للعقل الغيبى. والكلام موجود فى الصفحة السادسة عشرة من الكتاب الذى بين أيدينا، وهذا نصه: "يقول تقرير اللجنة إن الكاتب فى مقدمة بحثه "يهجم على الغيب بأسلوب غريب فيجعل العقل الغيبى غارقا فى الخرافة والأسطورة مع أن الغيب أساس الإيمان". والواقع أن الكاتب لم يتعرض للغيب الوارد فى قوله تعالى: "يؤمنون بالغيب"، أى ما غاب عنهم مما أخبرهم به النبى صلى الله عليه وسلم من أمر البعث والجنة والنار، وإنما كلامه بالنص (ص10): "لم تكن المعركة (يقصد المعركة التى دارت حول كتاب "الشعر الجاهلى" لطه حسين) معركة الشعر، بل كانت معركة قراءة النصوص الدينية طبقا لآليات العقل الإنسانى التاريخى لا العقل الغيبى الخارق فى الخرافة والأسطورة". ثم يقول فى تفسير ما يقصده بالعقل الغيبى: "قوى الخرافة والأسطورة (المتحدثة) باسم الدين والتمسك بالمعانى الحرفية للنصوص الدينية"...".
إذن فأبو زيد قد ذكر أولا "العقل الغيبى" على عكس ما أكده من أنه لم يأت له على أى ذكر وأن كلامه هو عن الخطاب الدينى ليس إلا. ثم إنه ثانيا لم يكتف بالحديث عن العقل الغيبى، بل هاجمه وحط من قدره كما رأينا. وثالثا سوف نرى من خلال كلامه هو نفسه ما الذى يقصده بذلك العقل الغيبى. فلن نورد شيئا من لدنّا، بل سيكون معتمدنا على ما قال هو ذاته. لقد أشار إلى كتاب "فى الشعر الجاهلى" للدكتور طه حسين قائلا إن المشكلة كانت فى "قراءة النصوص الدينية طبقا لآليات العقل الإنسانى التاريخى لا العقل الغيبى الخارق فى الخرافة والأسطورة". ومن ثم فعلينا أن نعود إلى ما كتبه طه حسين فى هذا الصدد. والنصوص الدينية التى يشير إليها نصر أبو زيد بالمناسبة هى القرآن، ولا شىء سوى القرآن، إلا أنه بطريقة لحن القول لا يريد أن يضع النقاط على الحروف، بل يوارى ويوارب ظنا منه أن جمهور القراء لن يتنبه إلى تلك اللعبة.
قال طه حسين بشأن ذهاب إبراهيم إلى بلاد العرب وبنائه الكعبة فى مكة هو وابنه إسماعيل عليهما السلام كما ذكر القرآن (أو "النصوص الدينية" بالتعبير المراوغ من نصر أبو زيد): "للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضا. ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي، فضلا عن إثبات هذه القصة التي تحدثنا بهجرة إسماعيل بن إبراهيم إلي مكة ونشأة العرب المستعربة فيها. ونحن مضطرون إلي أن نرى في هذهالقصة نوعا من الحيلة في إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة، وبين الإسلام واليهودية من جهة، والقرآن والتوراة من جهة أخرى. وأقدم عصر يمكن أن تكون قد نشأت فيه هذه الفكرة إنما هو هذا العصر الذي أخذ اليهود يستوطنون فيه شمال البلاد العربية وينشئون المستعمرات. فنحن نعلم أن حروبا عنيفة شبت بين هؤلاء اليهود المستعمرين وبين العرب الذين كانوا يقيمون في هذه البلاد، وانتهت بشيء من المسالمة والملاينة ونوع من المخالفة والمهادنة. فليس يبعد أن يكون هذا الصلح الذي استقر بين المغيرين وأصحاب البلاد منشأ هذه القصة التي تجعل العرب واليهودأبناء أعمام، ولا سيما قد رأي أولئك وهؤلاء أن بين الفريقين شيئا من التشابه غير قليل، فأولئك وهؤلاء ساميون. ولكن الشيء الذي لا شك فيه هو أن ظهور الإسلام وما كان من الخصومة العنيفة بينه وبين وثنية العرب من غير أهل الكتاب قد اقتضى أنتثبت الصلة الوثيقة المتينة بين الدين الجديد وبين الديانتين القديمتين: ديانة النصارى واليهود. فأما الصلة الدينية فثابتة وواضحة، فبين القرآن والتوراة والأناجيل اشتراك في الموضوع والصورة والغرض، فكلها ترمي إلي التوحيد، وتعتمد علي أساس واحد هو هذا الذي تشترك فيه الديانات السماوية السامية. ولكن هذه الصلة الدينية معنوية عقلية يحسن أن تؤيدها صلة أخرى مادية ملموسة أو كالملموسة بين العرب وأهل الكتاب. فما الذي يمنع أن تُسْتَغَلّ هذه القصة، قصة القرابة المادية بين العرب العدنانية واليهود؟ وقد كانت قريش مستعدة كل الاستعداد لقبول مثل هذه الأسطورة في القرن السابع للمسيح، فقد كانت في أول هذا القرن قد انتهت إلي حظ من النهضة السياسية والاقتصادية ضَمِنَ لها السيادة في مكة وما حولها وبسط سلطانها المعنوي عليجزء غير قليل من البلاد العربية الوثنية. وكان مصدر هذه النهضة وهذا السلطان أمرين: التجارة من جهة، والدين من جهة أخري. فأما التجارة فنحن نعلم أن قريشاكانت تصطنعها في الشام ومصر وبلاد الفرس واليمن وبلاد الحبشة. وأما الدين فهذه الكعبة التي كانت تجتمع حولها قريش ويحج إليها العرب المشركون في كل عام، والتيأخذت تبسط علي نفوس هؤلاء العرب المشركين نوعا من السلطان قويا، والتي أخذ هؤلاء العرب المشركون يجعلون منها رمزا لدين قوي كأنه كان يريد أن يقف في سبيل انتشار اليهودية من ناحية، والمسيحية من ناحية أخري. فنحن نلمح في الأساطير أن شيئا منالمنافسة الدينية كان قائما بين مكة ونجران. ونحن نلمح في الأساطير أيضاأن هذه المنافسة الدينية بين مكة وبين الكنيسة التي أنشأها الحبشة في صنعاء هي التيدعت إلي حرب الفيل التي ذكرت في القرآن. فقريش إذن كانت في هذا العصر ناهضة نهضة مادية تجارية ونهضة دينية وثنية. وهي بحكم هاتين النهضتين كانت تحاول أنتوجد في البلاد العربية وحدة سياسية وثنية مستقلة تقاوم تدخل الفرس والروم والحبشة وديانتهم في البلاد العربية. وإذا كان هذا حقا، ونحن نعتقد أنه حق، فمنالمعقول جدا أن تبحث هذه المدنية الجديدة لنفسها عن أصل تاريخي قديم يتصل بالأصول التاريخية الماجدة التي تتحدث عنها الأساطير. وإذن فليس ما يمنع قريشا من أنتقبل هذه الأسطورة التي تفيد أن الكعبة من تأسيس إسماعيل وإبراهيم كما قبلت روما قبل ذلك ولأسباب مشابهة أسطورة أخري صنعها لها اليونان تثبت أن روما متصلة بإنياس بن بريام صاحب طروادة. أمر هذه القصة إذن واضح، فهي حديثة العهد ظهرت قبيلالإسلام لسبب ديني، وقبلتها مكة لسبب ديني وسياسي أيضا".
إذن فهذا النص الدينى القرآنى ليست سوى أسطورة وجدها محمد جاهزة فاستغلها. وهذا التصرف من جانبه لا يعنى إلا شيئا من شيئين: أنه كان على علم بأسطوريتها، لكنه قبلها بغرض نفعى لا علاقة له كما نرى بحق أو باطل، فهو إذن رجل براجماتى مكيافيلى، الغاية عنده تبرر الوسيلة، أو أنه كان رجلا جاهلا فصدق هذه الأسطورة ورددها فى قرآنه ظنا منه أنها حق لا ريب فيه. ومن كان عنده تفسير ثالث فليوافنى به، وله المثوبة والأجر من الله! والعقل الغيبى الخرافى الأسطورى هو الذى يصدق ما جاء فى القرآن ويأخذه على أنه حقيقة تاريخية، أما العقل العلمى فيرى فيه أسطورة ملفقة زيفها العرب فى الجاهلية، ثم جاء الإسلام فاستغلها لأسباب سياسية. ومن كان لديه تفسير مختلف لما قاله كل من طه حسين ونصر أبو زيد فله كل الشكر إذا أمدنا به. أما الرد على ذلك الكلام الفارغ الذى تقيأه طه حسين فليس هنا موضعه، إذ تولى كتابى: "معركة الشعر الجاهلى بين الرافعى وطه حسين" وبحثى المنشور فى المشباك: "نظرية طه حسين فى الشعر الجاهلى: سرقة أم ملكية صحيحة؟" هذه المهمة. وكانت نتيجة نشرى لكتابى عن "معركة الشعر الجاهلى" أن انقضت على صاحب الكتاب قوى الظلام والبطش الإجرامى التى لا تطيق أن يخالفها أحد، وبخاصة إذا كشفت المخالفة زيف كلام طه حسين وبينت بالأدلة المنهجية الصارمة سخفه وتهافته، نعم انقضت قوى البطش الإجرامى التى تضرب ضربتها فى ظلام الليل البهيم دائما ولا تظهر فى نور النهار أبدا وانهالت بالمطارق الحديدية الثقيلة على دماغه تريد تحطيمه، وهيهات. وقد احتسبنا نحن ما وقع علينا من أَذَى المجرمين التافهين عند الله، الذى لا يضيع عنده ما يحتسبه عبده الراجى رحمته وثوابه.
وبهذه المناسبة فقد قال طه حسين أيامئذ فى بعض الصحف إن "العالِم ينظر إلى الدين كما ينظر إلى اللغة، وكما ينظر إلى الفقه، وكما ينظر إلى اللباس، من حيث إن هذه الأشياء كلها ظواهر اجتماعية يحدثها وجود الجماعة وتتبع الجماعة فى تطورها. وإذن فالدين فى نظر العلم الحديث ظاهرة كغيره من الظواهر الاجتماعية، لم ينزل من السماء ولم يهبط به الوحى، وإنما خرج من الأرض كما خرجت الجماعة نفسها، وإن رأى دوركايم أن الجماعة تعبد نفسها، أو بعبارة أدق: أنها تؤله نفسها" (مصطفى صادق الرافعى/ تحت راية القرآن/ المكتبة العصرية/ بيروت/ 1423هـ- 2002م/ 267). وبهذه المناسبة أيضا هناك بحث لإسماعيل أدهم بعنوان "طه حسين- دراسة وتحليل" نشرته سامى الكيالى صاحب مجلة "الحديث" الحلبية عام 1938م، يمدح فيه أدهم الدكتور طه واصفا إياه بالإلحاد والثورة على الدين، ومشيرا إلى رأيه فى الأديان الذى نقلناه لتونا. فيمكن القارئ أن يرجع إليه ليتأكد مما نقول.
ومما يتصل بهذا الأمر تأكيد أبو زيد أن الدين الذى يدعو إليه هو الدين بعد تصفيته من الأساطير (انظر "نقد الخطاب الدينى"/ 30). ولنلاحظ أنه يقول: "الدين"، وليس "التدين"، وإن عاد بعد قليل قائلا إنه قد اتضح الآن الفرق بين الدين والتدين. يقصد أنه لا يهاجم الدين بل التدين كما يمارسه بعض المسلمين. إلا أن كلامه الأصلى لا يتحدث إلا عن الدين. نعم الدين نفسه لا فَهْم الناس له. فهل فى الإسلام أساطير؟ وما هى يا ترى؟ ثم كيف ننقيه منها؟ لقد وضعنا أيدينا، عند تحليلنا لكلام الدكتور نصر عن طه حسين فى سياق هجومه على ما سماه: "العقل الغيبى الخرافى الأسطورى"، على مثال مما يُعَدّ عند القوم من الأساطير، وهو زيارة إبراهيم لبلاد العرب وبناؤه هو وابنه إسماعيل الكعبة. فيا ترى ماذا يراد منا أن نصنع بالآيات التى تتحدث فى هذا الموضوع على أنه حقيقة تاريخية ويرى القوم أنها مجرد خرافات وأساطير؟ هل نلغيها من القرآن؟ أنا أكره الكلام المداور، وأحب أن تكون العبارة مُبِينة، وإن كنت أثق بقدرتى على كشف ما وراء اللف والدوران فى كتابات بعض الناس. ولا بد أن نوضح هنا أن سلامة موسى كان دائم الهجوم على "الغيبيات" فى الفاضية والملآنة، ومعروف أن الغيبيات موضوع من موضوعات علم الكلام الإسلامى، وتسمى أيضا بـ"السمعيات"، أى الموضوعات غير القابلة لأن نراها أو نسمعها أو نلمسها أو نشمها، بل نسمع بها من الوحى ليس إلا، مثل الملائكة والجن والجنة والنار والحساب... وما إلى ذلك. وأكتفى بهذا.
وثم نقطة أخرى، إذ يقول نصر أبو زيد: "لقد كان ارتباط ظاهرتَىِ الشعر والكهانة بالجن فى العقل العربى وما ارتبط بهما من اعتقاد العربى بإمكانية الاتصال بين البشر والجن هو الأساس الثقافى لظاهرة الوحى الدينى ذاتها. ولو تصورنا خلو الثقافة العربية قبل الإسلام من هذه التصورات لكان استيعاب ظاهرة الوحى أمرا مستحيلا من الوجهة الثقافية. فكيف يمكن للعربى أن يتقبل فكرة نزول ملك من السماء على بشر مثله ما لم يكن لهذا التصور جذور فى تكوينه العقلى والفكرى؟ وهذا كله يؤكد أن ظاهرة الوحى (القرآن) لم تكن ظاهرة مفارقة للواقع أو تمثل وثبا عليه وتجاوزا لقوانينه، بل كانت جزءا من مفاهيم الثقافة ونابعة من مواضعاتها وتصوراتها. إن العربى الذى يدرك أن الجنِّىّ يخاطب الشاعر ويلهمه شعره، ويدرك أن العراف والكاهن يستمدان نبوءاتهما من الجن، لا يستحيل عليه أن يصدق بملك ينزل بكلام على بشر. لذلك لا نجد من العرب المعاصرين لنزول القرآن اعتراضا على ظاهرة الوحى ذاتها، وإنما انصب الاعتراض إما على مضمون كلام الوحى أو على شخص الموحَى إليه. ولذلك أيضا يمكن أن نفهم حرص أهل مكة على رد النص الجديد (القرآن) إلى آفاق النصوص المألوفة فى الثقافة، سواء كانت شعرا أم كهانة... إن العلاقة بين النبوة والكهانة فى التصور العربى أن كليهما "وحى"، اتصال بين إنسان وبين كائن آخر ينتمى إلى مرتبة وجودية أخرى: ملَكٌ فى حالة النبى، وشيطانٌ فى حالة الكاهن. وفى هذا الاتصال/ الوحى ثمة رسالة عبر شفرة خاصة لا يتاح لطرف ثالث أن يفهمها على الأقل لحظة الاتصال، وذلك لأن النبى "يبلِّغ" للناس بعد ذلك الرسالة، والكاهن "ينبئ" عن محتوى ما تلقاه. وفى هذا كله تصبح ظاهرة "الوحى" ظاهرة غير طارئة على الثقافة ولا مفروضة عليه من خارج" (ص38- 39، 44 من كتاب مفهوم النص- دراسة فى علوم القرآن/ الهيئة المصرية العامة للكتاب/ 1993م).
وقبل أن ندخل فى مناقشة تفاصيل هذا الكلام نتساءل: هل كان الجاهليون يسمون وسوسة الشياطين للكهان: "وحيا"، ومن ثم يصح أن يقول نصر أبو زيد إن هناك علاقة بين مفهوم الوحى الجاهلى ومفهوم الوحى فى الإسلام؟ كل ما أورده د. نصر فى هذا الصدد نصان شعريان جاهليان ليس فيهما أدنى إشارة إلى أى وحى (ص39). وهذان هما النصان، ولا أدرى لم أوردهما ما داما لا يحتويان على الشاهد المراد. فأما النص الأول فهو للأعشى، ويتحدث فيه عن قرينه مِسْحَل، أى الشيطان الذى كان يعتقد أنه يساعده فى نظم الأشعار:
وَما كُنتُ شاحِردا وَلَكِن حَسِبتُني * إِذا مِسْحَلٌ سَدَّى لِيَ القَولَ أَنطِقُ
شَريكانِ فيما بَيْنَنا مِن هَوادَةٍ * صَفِيّانِ: جِنِّيٌّ وَإِنسٌ مُوَفَّقُ
يَقولُ فَلا أَعْيَا لِشَيءٍ أَقولُهُ * كَفانِيَ لا عَيٌّ وَلا هُوَ أَخرَقُ
وأما النص الثانى فلبدر بن عامر:
ولقد نطقتُ قوافيًا إنسيةً * ولقد نطقتُ قوافىَ التجنينِ
وهناك شاهد آخر أورده نصر أبو زيد لعلقمة الفحل، لا بمعنى اتصال الجن بالإنس، بل بمعنى حديث الثور الوحشى إلى أبقاره، وشتان الأمران. وهذا هو الشاهد:
يوحي إِلَيها بِإِنقاضٍ وَنَقنَقَةٍ * كَما تَراطَنُ في أَفدانِها الرومُ
ولقد بحثت بنفسى فى الموسوعة الشعرية الإماراتية لعلى أجد شيئا يعضد ما زعمه د. أبو زيد عن تسمية الجاهليين لاتصال الكهان والشعراء بالجن: "وحيا" فلم أجد فى الشعر الجاهلى إلا نصا واحدا لزهير بن جناب الكلبى أتت فيه فعلا كلمة "وحى"، ولكن بمعنى "حديث" الأطلال إلى الشاعر الحزين على فراق حبيبته لا بمعنى وسوسة الجن إلى الإنس كما يقول أبو زيد:
فَكادَت تُبينُ الوَحيَ لَمّا سَأَلتُها * فَتُخبِرُنا لَو كانَتِ الدارُ تَنطِقُ
هذا فى مجال الأسماء، أما فى مجال الأفعال فلم أعثر إلا على البيت الذى ساقه د. نصر لعلقمة الفحل ليس غير. ونخرج من هذا كله أن الأساس الذى أقام عليه نصر حامد أبو زيد دعواه بمشابهة الوحى القرآنى للوحى الكهانى والوحى الشعرى هو أساس منهار لم يكن يصح أن يتخذه مستندا فى مثل هذه القضية الحساسة التى يمكن أن يُزِيغ الأبصارَ فيها كلامُه المندفع غير المسؤول.
ولقد لاحظ القارئ كيف يكرر د. نصر أبو زيد عبارة "ظاهرة الوحى القرآنى"، مع أن القرآن حالة فردية لا تمثل ظاهرة، إذ هو لم ينزل على غير محمد صلى الله عليه وسلم، ولو كان ظاهرة لرأينا كثيرا من العرب أنبياء يتنزل القرآن عليهم. هذا هو معنى الظاهرة، أما إذا كانت الحالة فردية أو محصورة فى نطاق ضيق فلا تسمَّى: ظاهرة. ترى هل إذا اكتشف السكان مثلا فى مدينة من المدن أن بينهم لصا، هل يقال إن اللصوصية أصبحت تمثل ظاهرة فى مدينتهم؟ هل إذا اكتشف الأطباء فى بلد من البلاد حالةَ فشلٍ كٌلْوِىّ، هل يقال إن هذا المرض صار يشكل ظاهرة؟ واضح أن نصر أبو زيد لا يراعى معانى المصطلحات التى يستعملها، ويترك لنفسه العنان فى استخدامها كما يعنّ له دون تدقيق أو تبصر أو مراعاة لما استقر عليه العُرْف اللغوى والاصطلاحى. لو كان نصر أبو زيد قال إن "الوحى" (الوحى بإطلاق) يمثل ظاهرة لكان كلامه معقولا، فالوحى فعلا يمثل ظاهرة لتكرره وشيوعه فى التاريخ البشرى، إذ ما من أمة إلا وقد ظهر فيها نذير أو أكثر حسبما ينبئنا القرآن المجيد، أما الوحى القرآنى بالذات فهو حالة من الحالات التى تتمثل فيها تلك الظاهرة، لكنه لا يشكل وحده ظاهرة.
أيا ما يكن الأمر فإن كلام أبو زيد يفيد أن مفهوم الوحى فى الإسلام هو انعكاس للفكر الجاهلى. لكن هل جاء الإسلام للعرب وحدهم فاستغل مفهوم الكهانة عندهم ورتب عليه مفهوم النبوة؟ أم كيف يا ترى يفسر انتشار الإسلام فى كل بلاد العالم قديما وحديثا، وهم ليسوا عربا، ومنهم اليهودى والنصرانى والوثنى والمادى، والموحد والمثلث والثنوى والمتشكك، والفارسى والمصرى والتركى والإسبانى والأمريكى والهندى والصينى واليابانى والمكسيكى والأسترالى...؟ وبالمثل كيف يفسر تكذيب العرب بالكهانة بعد مجىء الإسلام بل تَرْك كثير من الكهان لكهانتهم إذا كان مفهوم النبوة امتدادا لمفهوم الكهانة؟ كذلك لو كان ما يحاوله أبو زيد من الربط بين الكهانة والنبوة صحيحا لكان الجاهليون قد سارعوا إلى الإيمان بالنبى من أول وهلة ما دام الأمران واحدا. لكنهم، فى واقع الأمر، كانوا بوجه عام يصدقون الكهان ولا يصدقون النبى إلا بعد أخذ ورد ومجادلات وحروب على ما هو معروف للجميع. وقد قال أبو جهل إن قبيلته وقبيلة النبى كانتا كفرسى رهان، أى متساويتين فى الشرف والكرامة، إلى أن قال محمد إنه نبى، وهو ما أكد أبو جهل أن قبيلته لا يمكنها شىء من ذلك. ترى لماذا؟ الواقع أنه لو كانت النبوة امتدادا للكهانة كما يزعم نصر أبو زيد ما قال أبو جهل ما قال. ولقد كان بعض الجاهليين، حسبما حكى القرآن فى مواضع عدة منه، يقولون عن النبى إنه كاهن، ومع هذا كذبوه. فلماذا إذن لم يؤمنوا به كما كانوا يؤمنون بصدق ما يقوله الكاهن لهم؟ وفوق هذا فإن وظيفة النبى ووظيفة الكاهن مختلفتان بل متناقضتان، إذ الكاهن إنما يزعم مقدرته على علم الغيب، وكان العرب لا يقصدونه إلا لمعرفة ما خفى عليهم، أما النبى فقد فاجأهم منذ البداية بالقول بأنه لا يعلم الغيب، إذ لا يعلم الغيب إلا الله، فضلا عن أن رسالته هى تتميم مكارم الأخلاق والدعوة إلى الإيمان بالله الواحد الأحد وإلى العبادة والعمل الصالح، وهو ما زادهم منه نفورا. كما أن الكاهن كان يحرص على لفلفة أقاويله فى ثياب الغموض حتى تحتمل عدة معان بحيث تصدُق على أى وضع، أما القرآن والحديث فمعانيهما واضحة لا لفلفة فيها ولا غموض. ثم إن كلام الكاهن قصير جدا لا يتجاوز عدة جمل، أما القرآن فقد يطول النص منه حتى ليبلغ صفحات وصفحات وصفحات، كما فى "البقرة" و"آل عمران" مثلا. ليس ذلك فقط، بل كان الكهان يأخذون جُعْلاً على ما يقولون، أما النبى فقد كرر القرآن منذ وقت جد مبكر أنه لا يسأل قومه على ما يقوله أى أجر. واضح أن الأمرين مختلفان تماما حتى فى عقول الجاهليين.
وفى الصفحة السابعة والخمسين بعد المائة من كتاب "مفهوم النص" يزعم نصر أبو زيد أن العرب لم تستطع التمييز بين القرآن وبين الشعر وسجع الكهان، فلذلك قالوا عنه إنه شعر أو إنه من اسجاع الكاهنين. وهذا كلام غير صحيح، وإلا فإذا كان القرآن فى نظرهم شعرا وكهانة، فلماذا لم يؤمنوا به كما كانوا يؤمنون بصحة كلام الكهان مثلا؟ إن الفروق بين القرآن والشعر والسجع الكهانى واضحة تمام الوضوح، لكن عنادهم هو الذى أملى لهم فى الغى والكفر. وإذا كان القرآن قد اختلط عندهم بالشعر، وتحداهم بأن يأتوا ولو بسورة منه، فلماذا لم يقف من بينهم أحد ويقول: "هأنذا آتى بسورة من مثله"، ثم ينشد قصيدة من قصائده؟ كذلك قد رموا الرسول بالكذب، فهل كان القرآن فى ثقافتهم يشبه كذب الكذابين؟ وقالوا عنه إنه سحر، فهل كان السحر هكذا؟ وعلى كل حال هأنذا أسوق وصف عتبة بن ربيعة للقرآن، ومنه يتبين أن العرب كانوا واعين بالفروق التى تميز بين القرآن والكهانة والشعر تمام الوعى.
ففى سيرة ابن هشام أن "عتبة بن ربيعة، وكان سيدا حليما، قال ذات يوم وهو جالس في نادي قريش، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وحده في المسجد: يا معشر قريش، ألا أقوم إلى هذا فأكلمه أمورا لعله أن يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكفّ عنا؟ وذلك حين أسلم حمزة بن عبد المطلب، ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون. فقالوا: بلى يا أبا الوليد، فقم فكلمه. فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا ابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من السِّطَة في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت من مضى من آبائهم. فاسمع مني أَعْرِض عليك أمورا تنظر فيها لعلك أن تقبل منها بعضها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل يا أبا الوليد أسمع. فقال يا بن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت من هذا القول مالا جمعنا من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت إنما تريد شرفا شرّفناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد مُلْكا ملَّكناك، وإن كان هذا الذي يأتيك رَئِيًّا تراه ولا تستطيع أن ترده عن نفسك طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوَى منه. ولعل هذا الذي تأتي به شعر جاش به صدرك، فإنكم، لَعَمْرِي يا بني عبد المطلب، تقدرون منه على ما لا يقدر عليه أحد. حتى إذا فرغ عتبة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفرغتَ يا أبا الوليد؟ قال: نعم. قال: فاستمع مني. قال: أفعل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بسم الله الرحمن الرحيم* حم* تنزيلٌ من الرحمن الرحيم* كتابٌ فُصِّلَتْ آياته قرآنا عربيا". فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها عليه. فلما سمعها عتبة أنصت له، وألقى بيده خلف ظهره معتمدا عليها يستمع منه حتى انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة فسجد فيها، ثم قال: قد سمعتَ يا أبا الوليد ما سمعتَ، فأنت وذاك. فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به. فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ فقال: ورائي أني والله قد سمعت قولا ما سمعت بمثله قط. والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا الكهانة. يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها بي. خَلُّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه واعتزلوه. فو الله ليكونن لقوله الذي سمعتُ نبأ. فإن تُصِبْه العرب فقد كُفِيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فمُلْكه مُلْككم، وعِزُّه عِزُّكم، وكنتم أسعد الناس به. قالوا: سَحَرك والله يا أبا الوليد بلسانه. فقال: هذا رأيي، فاصنعوا ما بدا لكم".
ثم إن نصر أبو زيد لا يكتفى بهذا، بل يمضى على غُلَوائه فيرمى القرآن بالبراجماتية، إذ يزعم أن القرآن قد تقبل الكهانة فى البداية لأنها سبق أن بشرت بمجىء النبى، ثم لما تمت له الاستفادة من تبشير الكهان بمجىء النبى عليه السلام عاد فأنكرها وولاها ظهره بعدما أخذ منها ما يريد. كيف؟ يقول نصر أبو زيد إن القرآن فى السور المكية، أى فى المرحلة التى كان بحاجة إلى من يشهد له بالصدق (يقصد الكهان، الذين يقال إنهم قد بشروا بالنبى قبل مجيئه فمهدوا له الطريق)، قد حرص على ممائلة سجعهم فكانت الفاصلة فى سور المرحلة المكية، ولكنه بعدما أخذ من الكهان ما يريد واستقرت دعائمه ولم يعد فى حاجة إلى شهادتهم، حرص على أن يخالف سجعهم، فخلت السور المدنية أو كادت من الفاصلة (انظر "مفهوم النص"/ 161- 164).
هذا ما زعمه أبو زيد، أما حقائق التاريخ والواقع فشىء آخر غير هذه التخريفات: فأولا لقد نفى القرآن منذ وقت مبكر فى مكة أن يكون الرسول كاهنا، وهو ما يبرهن بكل قوة وحسم أنه يدين الكهانة والكهان ويتبرأ منهم منذ البداية، فكيف يقال إنه كان حريصا على مماثلتهم؟ يقول جل شأنه: "فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ" (الطور/ 29)، "وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ* وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ" (الحاقة/ 41- 42). وثانيا لم يكن السجع خصيصة مقصورة على كلام الكهان، بل كان الجاهليون يراعونه فى الخطب والأمثال. كل ما هنالك أنه عند الكهان كان متكلفا ثقيلا وغامضا يحتمل معانى متعددة كبيت الثعلب له عدة أبواب بحيث إذا أطبق عليه الصائد من بابٍ تسلل هو من بابٍ غيره دون أن يشعر الصائد به، أما فى الخطب والأمثال فكان السجع طبيعيا سلسا. وثالثا من قال إن الفاصلة قد اختفت أو ندرت فى القرآن المدنى؟ إنها موجودة فى كل سور القرآن: مكيها ومدنيها، وإلا فليشرح لنا د. نصر ماذا يعنيه بمصطلح "الفاصلة" حتى نفهم مرمى كلامه ذاك العجيب.
وهذه بعض الأمثلة من سجع الخطب والأمثال. فمن ذلك خطبة عبد المطب بن هاشم جد الرسول عليه السلام حين ذهب مع وفد من قريش لتهنئة سيف بن ذى يزن ملك اليمن على تخلص بلاده من الاحتلال الحبشى: "إن الله تعالى أيها الملك أَحَلَّك محلاًّ رفيعًا، صعبًا منيعًا، باذخًا شامخًا، وأنبتك منبتًا طابت أَرُومَتُه، وعزَّتْ جرثومتُه، وثبَتَ أصله، وبَسَقَ فرعه، في أكرم معدن، وأطيب موطن. فأنت، أَبَيْتَ اللعن، رأْسُ العرب وربيعُها الذي به تُخْصِب، ومَلِكها الذي به تنقاد، وعمودها الذي عليه العِمَاد، ومعقلها الذي إليه يلجأ العباد. سَلَفُك خير سلف، وأنت لنا بعدهم خير خَلَف. ولن يَهْلِك من أنت خَلَفُه، ولن يَخْمُل من أنت سَلَفُه. نحن، أيها الملك، أهل حَرَم الله وذمّته وسَدَنة بيته. أَشْخَصَنا إليك الذي أبهجك بكشف الكَرْب الذي فدحنا، فنحن وفد التهنئة لا وفد الَمْرِزَئة". ومنها خطبة قس بن ساعدة الإيادى فى سوق عكاظ: "أيها الناس، اجتمعوا واسمعوا وعوا. إنه من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آتٍ آت، أقسم قس قسما لا كذب فيه ولا إثم إن في السماء لخبرا، وإن في الأرض لعِبَرا. سقف مرفوعٌ، ومهادٌ موضوعٌ، وبحرٌ مسجورٌ، ونجومٌ تسير ولا تغور. ما لي أرى الناس يذهبون ولا يرجعون؟ أرَضُوا بالمقام فأقاموا أم تُرِكوا فناموا؟ أقسم بالله قسمًا إن لله دينا هو أرضى من دينٍ نحن عليه. وأراكم قدتفرقتم بآلهةٍ شتى. وإن كان الله رب هذه الآلهة، إنه ليجب أن يعبد وحده". ومن الأمثال: "اختلط الحابل بالنابل"، "إذا أردتَ المحاجزة فقَبْلَ المناجزة، "إذا لم تَغْلِبْ فاخْلُبْ"، "إذا جاء الحَيْن، حارَ العَيْن"، "اِرْقَ على ظَلْعك، واقْدِرْ بذَرْعك"، "أَرِنِيها نَمِرَة أُرِكَها مَطَرَة"، "أَعْذَرَ من أَنْذَر"، "إننى لن أَضِيرَه. إنما أطوى مَصِيرَه"، "استغنت التُّفَّة عن الرُّفَّة"، "بِعْتُ جارى، ولم أَبِعْ دارى"، "جاء بالطِّمّ والرِّمّ"، "جَدَّك لا كَدَّك"، "حال الجَرِيض دون القَرِيض"، "الخَلاء بَلاء"، "دُهْدُرَّيْن سَعْد القَيْن"، "رُبَّ قَوْل أشد من صَوْل"، "الطريفُ خفيف، والتَّليدُ بليد"، "قُرْبُ الوِسَاد، وطُولُ السَّوَاد"، "لولا اللئام لهَلَكَ الأَنَام"، "ليس من العَدْل سرعة العَذْل"، "مَنْ لى بالسانِح بعد البارِح؟"، "المنايا على البلايا"، "اليومَ خَمْر، وغدًا أَمْر".
وهذا كله لو كان الكهان قد بشروا فعلا بالنبى عليه السلام قبل مجيئه فمهدوا له الطريق. بيد أن هذا غير صحيح، فهم لم يبشروا به. وكيف يبشرون به وهم بشر من البشر لا يعلمون الغيب؟ ثم لو كانوا بشروا به حقا فكيف لم يتخذ القرآن ولا الرسول ذلك حجة على الوثنيين فينبههم إلى ما كان الكهان يقولونه فى حقه قبل مجيئه، والكهان فى نظر العرب مصدَّقون؟ إن كل ما ذكره القرآن هو أن أهل الكتاب كانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم لإتيان البشارة به فى كتبهم، ولم يقل شيئا من ذلك عن الكهان. ومع هذا فإنه لم يداهن أهل الكتاب، بل أعلن منذ وقتٍ جِدّ مبكرٍ رأيه فى مواقفهم وعقائدهم، وذَمَّهم بل كفّرهم ودعاهم إلى نبذ ما هم عليه والدخول فى الدين الجديد إذا أرادوا النجاة يوم القيامة. فإذا كان هذا حاله مع من ذكر أن كتابهم قد بشر بمحمد عليه الصلاة والسلام، فكيف يقال إنه قد حرص على مجاملة الكهان باحتذاء أسجاعهم حتى تم له ما أراد من اعتراف العرب به، وعندئذ انقلب عليهم وقلب لهم ظهر المجنّ؟ وإذا كان الأمر كذلك فلماذا يا ترى لم يحرص أيضا على مراعاة خاطر الوثنيين فيثنى على آلهتهم فى البداية حتى يجد لنفسه فى مجتمعهم موطئ قدم، ثم يلعن أبا خاشهم بعدئذ ولا يبالى؟
ولسوف آخذ نصا من نصوص الكهان التى يقال إنها فى التبشير بنبوة النبى عليه السلام قبل مجيئه بالرسالة، وهو حديث خنافر بن التوأم الحِمْيَرِيّ مع رَئِيّه شَصَار، وذلك كى أُرِىَ القارئ على الطبيعة تهافُت ما يقال عن تبشير الكهان الوثنيين به صلى الله عليه وسلم. ولسوف نقرأ النص أولا ثم نرى فيه رأينا بعد ذلك: "كان خُنَافر بن التوأم الحميري كاهنا، وكان قد أُوتِيَ بسطة في الجسم وسَعة في المال، وكان عاتيا. فلما وفدتْ وفود اليمن على النبي وظَهَر الإسلام أغار على إبلٍ لِمُرَاد فاكتسحها، وخرج بأهله وماله ولحق بالشِّحْر، فخالف جَوْدان بن يحيى الفِرْضِمي، وكان سيدا منيعا، ونزل بواد من أودية الشِّحْر مُخْصِبًا كثير الشجر من الأيك والعَرِين. قال خنافر: وكان رَئِيِّي في الجاهلية لا يكاد يتغيب عني، فلما شاع الإسلام فقدتُه مدة طويلة، وساءني ذلك. فبينا أنا ليلةً بذلك الوادي نائما إذ هَوَى (انحدر فى الجَوّ) هُوِىَّ العُقَاب، فقال: خنافر؟ فقلت: شصار؟ فقال: اسْمَعْ أَقُلْ. قلت: قُلْ أَسْمَعْ. فقال: عِهْ تَغْنَمْ. لكل مدةٍ نهاية، وكلُّ ذي أمدٍ إلى غاية. قلت: أجل. فقال: كل دولةٍ إلى أجل، ثم يتاح لها حِوَل. انتُسِخت النِّحَل، ورجعت إلى حقائقها المِلَل. إنك سَجِيرٌ (أى صديق) موصول، والنصح لك مبذول، وإني آنَسْتُ بأرض الشأم نَفَرًا من آل العُذَّام (يقصد قبيلة من الجن)، حكّاما على الحكّام، يَذْبُرون (يقرأون) ذا رونق من الكلام، ليس بالشِّعر المؤلَّف، ولا السجع المتكلَّف، فأصغيتُ فزُجِرْتُ، فعاودتُ فظُلِفْتُ (أى مُنِعْتُ)، فقلت: بم تُهَيْنِمون؟ وإلام تَعْتَزُون؟ قالوا: خِطَابٌ كُبَّار، جاء من عند الملك الجبار، فاسمع يا شَصَار، عن أصدق الأخبار، واسلك أوضح الآثار، تَنْجُ من أُوَار النار. فقلت: وما هذا الكلام؟ فقالوا: فرقانٌ بين الكفر والإيمان. رسول من مُضَر، من أهل المـَدَر، ابتُعِث فظهر، فجاء بقَوْلٍ قد بَهَر، وأَوْضَحَ نَهْجًا قد دَثَر، فيه مواعظ لمن اعتبر، ومَعَاذٌ لمن ازدجر، أُلِّف بالآىِ الكُبَر. قلت: ومن هذا المبعوث من مُضَر؟ قال: أحمد خير البشر. فإن آمنتَ أُعْطِيتَ الشَّبَر (أى الخير)، وإن خالفت أُصْلِيتَ سَقَر. فآمنتُ يا خُنَافر، وأقبلت إليك أبادر، فجانِبْ كل كافر، وشايِعْ كل مؤمن طاهر، وإلا فهو الفراق، لا عن تلاق. قلت: من أين أبغي هذا الدين؟ قال: من ذات الإِحَرِّين، والنَّفَر اليمانين، أهل الماء والطين. قلت: أَوْضِحْ. قال: اِلْحَقْ بيثربَ ذات النخل، والحَرّة ذات النعل، فهناك أهل الطَّوْل والفضل، والمواساة والبذل. ثم امَّلَسَ عنى، فبِتُّ مذعورا أراعي الصباح. فلما برق لي النور امتطيتُ راحلتي وآذنتُ أَعْبُدِي واحتملتُ بأهلي حتى وردتُ الجوف، فرددتُ الإبل على أربابها بحَوْلها وسِقَابها (أى بجِمَالها ونُوقها. جَمْع: "حائل" و"سَقْب") وأقبلتُ أريد صنعاء، فأصبت بها معاذ بن جبل أميرا لرسول الله فبايعته على الإسلام، وعلَّمني سورا من القرآن، فمنّ الله علي بالهدى بعد الضلالة والعلم بعد الجهالة".
وفى هذا الحديث نلاحظ ما يلى: أن رَئِىّ خنافر قد تركه فى عمايته فلم يُعْلِمه بأن نبيا جديدا ظهر بدعوته فى بلاد العرب، إلى أن أصبح الناس فى تلك البلاد كلهم يعلمون ذلك، اللهم إلا خنافرا. فعندئذ، وعندئذ فقط، تذكر شَصَارُ صاحبَه الكاهن المسكين النائم على أذنه لا يدرى خبر الإسلام رغم أن نوره كان قد دخل اليمن وأضحى لدولته فيها رسولٌ من لدن النبى الكريم هو معاذ بن جبل رضى الله عنه. ترى ما دور شصار إذن إذا لم يكن ما أنبأ به خنافرًا إلا خبرا يعرفه القاصى والدانى؟ إن معنى هذا أن شيطان خنافر قد هجره هجرا غير جميل طَوَال ما يقرب من عشرين سنة، أى منذ بدء النبوة إلى وقت دخول الإسلام اليمن فى أواخر حياته صلى الله عليه وسلم، فكيف كان خنافر يمارس كهانته إذن دون رَئِىٍّ من الجن؟ أم تراه توقف عن ممارستها كل تلك الفترة؟ لكن هل يمكن أن يكون ذلك؟ وهل يمكن أن يستعيض كاهن عن كهانته بالسرقة والإغارة على إبل الآخرين، وبخاصةٍ أن خنافرا لم يكن، كما هو بَيِّنٌ من القصة، ذا عزوة تمنعه من طلب القبائل المعتدَى عليها وعملها على الثأر منه؟ كذلك ليس هناك سبب مفهوم لهجر شَصَار لصاحبه كل تلك المدة، وهذه ثُغْرَة فى القصة تحتاج إلى ما يملؤها. كما أن تهديده له بأنه إذا لم يعتنق الإسلام مثله فلن يراه مرة أخرى هو تهديد لا معنى له، لأن معنى هذا التهديد أن شَصَار لن يساعد خُنَافِرًا فى كهانته، مع أننا نعرف جيدا أن الإسلام يكفِّر الكهان ويحاربهم دون هوادة، وهو ما يعنى بكل وضوح أن اللقاء بينهما من الآن فصاعدا سيكون لقاء مجرَّما ومحرَّما أشد التجريم والتحريم، وهذا إن قَبِلَ الجنى أن يقوم بدوره القديم المناقض لعقيدته الجديدة التى يدعو إليها خنافرا! فكما ترى هذه ثُغْرَة أخرى فى القصة يصعب بل يستحيل سَدّها. ثم أليست القصة تريد أن تقول إن شصار قد أتاه بخبر الغيب، فأى غيب هذا الذى كان يعرفه الجميع فى أرجاء الجزيرة الأربعة؟ بل لماذا لم يعرف شصار بدوره بنبإ الإسلام إلا من إخوان له من الجن كانوا قد آمنوا قبله؟ ولماذا يا ترى كانوا يزجرونه عن سماع القرآن الذى كانوا يتلونه؟ ألم يأت القرآن لهداية الجن والإنس؟ فهل مما يتناسب مع هذه الغاية أن يُزْجَر عنه من يريد سماعه؟ فكيف يعرف إذن ما جاء فيه من هدى ونور؟ إن سورة "الجن" والآيات 29- 32 من سورة "الأحقاف" تحدثاننا عن سماع نفر من الجن للقرآن من الرسول عليه السلام دون أن يزجرهم زاجر، فلماذا جرى الأمر فى قصتنا هذه على خلاف ذلك؟ ولماذا كان هؤلاء النفر من الجن من أهل الشام لا من أهل اليمن؟ أترى القصة تريد أن تقول إن "الشيخ البعيد سره باتع"؟ أم تريد أن تجرى على سُنّة المثل القائل: "من أين أذنك يا جحا؟"؟ كذلك ألم ينصح شَصَارُ لخنافر بأن يأتى النبىَّ فى المدينة؟ فلماذا اكتفى خُنَافِرُنا بلقاء مُعَاذ بن جبل بعد كل هذا الكلام المشوِّق لرؤية النبى الكريم؟ يا له من كاهن كسول! بل لماذا أراد صنعاءَ من الأصل، ولم يأت لها ذكر فى الحوار بينه وبين رَئِيّه؟
ثم إذا كان الأمر على ما ترويه القصة، فهل كان خبر خنافر لِيغيب عن كُتُب الحديث؟ إنه لا وجود له فيها. كذلك لو كان ما قرأناه هنا صحيحا لقد كان خبر ذلك الكاهن اليمنى سلاحا بتارا فى الدعاية لهذا الدين، فلماذا لم يستغله المسلمون؟ صحيح أنه إنما أسلم، كما رأينا، بأُخَرة، لكن لا شك أن خبره كان يمكن أن يكون ذا نفع جزيل فى معركة الدعاية بحيث يسهِّل إنجاز المهمة الباقية، وهى القضاء على فلول الوثنية فى بلاد العرب، تلك الوثنية التى لم تكن قد خمدت تماما حتى بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام وانفجرت متخذةً شكل رِدَّةٍ مستطيرة. ثم مصطلح "السجع المتكلَّف"، هذا المصطلح البلاغى الذى لم يعرفه العرب قبل عصر الازدهار الثقافى فى العصر العباسى، من أين يا ترى للعرب الجاهليين بمعرفته؟ بل إن فى النص سجعا متكلَّفا لا قِبَل للجاهليين به كما هو واضح فى المثال التالى: "خِطَابٌ كُبَّار، جاء من عند الملك الجبار، فاسمع يا شَصَار، عن أصدق الأخبار، واسلك أوضح الآثار، تَنْجُ من أُوَار النار"، علاوة على هذه البهلوانية البلاغية الجميلة المتمثلة فى هاتين الجملتين اللتين تبادلهما الكاهن والجنى: "قال: اسْمَعْ أَقُلْ. قلت: قُلْ أَسْمَعْ" والتى يصعب علىّ أن أتصورها من شِيَم الأدب الجاهلى. ليس ذلك فحسب، فهذا الكلام المنسوب للجن، هل يمكن أن نصدقه؟ إن الجن عالم خفىٌّ لا نعرف نحن البشر عنه شيئا سوى ما جاء فى الوحى كما هو الحال فيما أنبأنا به رب العزة من كلامهم عندما استمعت طائفة منهم إلى القرآن الكريم لأول مرة، أما ما عدا هذا فأنا لا أستطيع أن أهضم شيئا منه كما هو الحال هنا، وبخاصة أنه كلام عربى، فهل الجن يتحدثون العربية، ويصطنعون السَّجْع والجِنَاس وسائر المحسِّنات البديعية أيضا؟ وبطبيعة الحال لا يمكن القول بأنهم فى سُورَتَىِ "الأحقاف" و"الجن" قد استخدموا كذلك لسان بنى يعرب، إذ الواقع أن ما نقرؤه هناك من كلامهم إنما هو ترجمة لما قالوه بلغتهم التى لا ندرى نحن البشر عنها شيئا.
على أن القضية لمّا تنته عند هذا الحد، إذ نقرأ قوله: "كان رَئِيِّي في الجاهلية لا يكاد يتغيب عنى، فلما شاع الإسلام فقدتُه مدة طويلة، وساءني ذلك. فبينا أنا ليلةً بذلك الوادي نائما إذ هَوَى هُوِىَّ العُقَاب، فقال: خنافر؟ فقلت: شصار؟ فقال: اسْمَعْ أَقُلْ. قلت: قُلْ أَسْمَعْ. فقال: عِهْ تَغْنَمْ. لكل مدة نهاية، وكل ذي أمد إلى غاية. قلت: أجل. فقال: كل دولة إلى أَجَل، ثم يتاح لها حِوَل. انتُسِخت النِّحَل، ورجعت إلى حقائقها المِلَل. إنك سَجِيرٌ (أى صديقٌ) موصول، والنصح لك مبذول، وإني آنَسْتُ بأرض الشأم نَفَرًا من آل العُذَّام (يقصد أنه قابل قبيلة من الجن)، حُكّامًا على الحُكّام، يَذْبُرون ذا رونقٍ من الكلام، ليس بالشِّعر المؤلَّف، ولا السجع المتكلَّف، فأصغيتُ فزُجِرْتُ، فعاودتُ فظُلِفْتُ (أى مُنِعْتُ)، فقلت: بم تُهَيْنِمون؟ وإلام تَعْتَزُون؟ قالوا: خِطَابٌ كُبَّار، جاء من عند الملك الجبار، فاسمع يا شَصَار، عن أصدق الأخبار، واسلك أوضح الآثار، تَنْجُ من أُوَار النار. فقلت: وما هذا الكلام؟ فقالوا: فرقانٌ بين الكفر والإيمان. رسول من مُضَر، من أهل المَدَر، ابتُعِث فظهر، فجاء بقَوْلٍ قد بَهَر، وأوضحَ نهجًا قد دَثَر، فيه مواعظُ لمن اعتبر، ومعاذٌ لمن ازدجر، أُلِّف بالآى الكُبَر. قلت: ومن هذا المبعوث من مُضَر؟ قال: أحمد خير البشر. فإن آمنتَ أُعْطِيتَ الشَّبَر (أى الخير)، وإن خالفت أُصْلِيتَ سَقَر. فآمنتُ يا خُنَافر، وأقبلت إليك أبادر، فجانِبْ كل كافر، وشايِعْ كل مؤمن طاهر، وإلا فهو الفراق، لا عن تلاق. قلت: من أين أبغي هذا الدين؟ قال: من ذات الإِحَرِّين (أى الحجارة السُّود)، والنَّفَر اليمانين، أهل الماء والطين". ومعنى هذا الكلام أن خنافرا، كما هو واضح من مفتتح حديثه، كان يعرف بمجىء الإسلام منذ البداية، لكننا نفاجأ، من خلال أسئلته عن الدين الجديد والرسول الذى جاء به والكتاب الذى نزل عليه، بأنه لم يكن يعرف شيئا من ذلك بالمرة. فكيف يسوغ فى العقل هذا؟ وبعد هذه الجولة هل بقى فى ضمير القارئ شك فى تهافت ما قاله نصر أبو زيد عن استغلال القرآن لسجع الكهان فى توطيد دعائمه فى نفوس العرب ثم انقلابه عليهم بعد أن استقرت له الأوضاع؟
ومما تعرض له د. أبو زيد فى كتابه: "نقد الخطاب الدينى" رواية سلمان رشدى المسماة بـ"الآيات الشيطانية". ففى الطبعة الأولى للكتاب نراه يؤكد أنه لن يقوم بالحكم على القيمة الأدبية لتلك الرواية لأن هذا أمر له متخصصوه، بما يعنى أنه ليس منهم (انظر ص74 من الطبعة الثانية، وهى الطبعة المتاحة لى)، مع أنه فى مقدمة الطبعة الثانية من ذات الكتاب نجده ينسى هذا ويصدر حكما على الرواية مؤكدا أنها تافهة ليست ذات قيمة أدبية (انظر ص57- 58). ثم زاد فأخرج علماء الدين من نطاق القدرة على تقييمها، واتهم د. عبد الصبور شاهين بالعجز عن ذلك مع أنه أستاذ جامعى مثله بل بمثابة أستاذه، وأقرب إلى التعامل مع النصوص الأدبية منه، إذ هو متخصص فى اللغة، أما أبو زيد ففى الدراسات الدينية. وعلى كل حال فمعروف أن سبب غضب علماء الدين والمسلمين عموما من الرواية ليس قيمتها الأدبية، بل ما فيها من فحش ضد الإسلام والله والرسول وأمهات المؤمنين. ويكفى ما قيل فيها بتفصيل شنيع عن بيت الدعارة المسمى بـ"الحجاب" بمومساته التى يتسمين: عائشة وحفصة وزينب...، أى بأسماء أمهات المؤمنين وصفاتهن المعروفة وما يصنعه طالبو الدعارة معهن أثناء الجماع غير معف من ذلك زينب بنت خزيمة، التى توفيت فى حياة الرسول فجاء سلمان رشدى بعاهرة على اسمها وملامحها وجعلها تمارس الزنا وهى متخشبة الجسد كأنها ميتة حتى تكون صورة دقيقة لأم المؤمنين التى انتقلت إلى رحمة ربها، وذلك إرضاء لزبائنها الشواذّ المبتلَيْنَ برغبة ممارسة الزنا مع الموتى، فضلا عن اتهام النبى عليه الصلاة والسلام بمساومة قريش على حساب مبدإ التوحيد، وإن كان قد عاد عما كان بدأه من مساومة، لا لأن ضميره استيقظ بل لأن أتباعه قد اعترضوا عليه ورفضوا أن يتخلى عن مبادئه فتراجع، فضلا عن تصويره للرسول صلى الله عليه وسلم فى الفراش مع امرأة شبقة تداعبه فى صدره وتطعمه قطع البطيخ فى فمه هى هند زوجة أبو سمبل، أى زوجة أبى سفيان، حسب نظام الهلوسة التى تقوم عليها الرواية. ومعنى هذا أن د. نصر قد جرد علماء الدين من كل قدرة وذوق، وأسند إلى نفسه صلاحية الحكم على الرواية من ناحية الفن الأدبى والمضمون العقيدى والأخلاقى، مع أنه ليس ناقدا أدبيا ولا عالما من علماء الدين مهمته التصدى لمثل تلك الرواية. وأنا حين أقول هذا إنما أنطلق من منطلقه هو، وإلا فالأمر ليس بهذا الإعضال.
وهو يرجع غضب المسلمين من رواية سلمان رشدى إلى أخطار من صنع أوهامهم وخيالاتهم (انظر ص74)، وكأن الرواية بريئة مما نسبه إليها الغاضبون، وليست ممتلئة بل تفيض فيضانا بالهجوم على الله والتطاول عليه وعلى الإسلام والرسول وسيدنا إبراهيم والقرآن والصحابة، حتى إن شخصياتها لتشتم الله وتجدف فى حقه، وتسمى إبراهيم عليه السلام بـ"ابن الحرام"، وتسخر من كتاب الله بزعم أنه يتدخل حتى فى تنظيم عملية الفُسَاء وتحديد الجهة التى ينبغى أن يستقبلها المسلمون حين يريدون أن يخرجوا ريحا. والملاحظ أن نصر أبو زيد يأخذ دفاع سلمان رشدى عن روايته الشنعاء على أنه كلام صحيح، ويحاول أن يقنعنا أن الرواية ليس فيها ما يناقض الدين، مع أنها كلها من أولها إلى آخرها تناقض الدين بل تشوهه وتسخر منه وترسم له صورة فى منتهى القبح والشنع والتوحش والإجرام والميكافيلية. يقول سلمان رشدى حسبما نقل عنه نصر أبو زيد نقل المصدق لما يقول: "ليس فى الرواية هجوم على الإسلام ولا تتضمن أى استهزاء بالعقيدة. كما أنها لا تعنى توجيه إهانة لأحد. وأنا أشك أن يكون الإمام الخومينى أو أحد من المعترضين فى إيران قد قرأ الرواية، بل هم فى الغالب يستندون فى أحكامهم على الرواية إلى العبارات أو الجمل المنتزعة من سياقها... وإنه لأمر مخيف أن يكون رد الناس بهذه الدرجة من العنف ضد رواية، مجرد رواية، يتصورون أنها تهدد العقيدة وتقف ضد التاريخ الإسلامى كله" (نفس الصفحة الماضية).
وأستطيع أن أؤكد تأكيد من قرأ الرواية لدن صدورها ووَضَع عنها كتابا من مائتين وخمسين صفحة لم يكد يترك فيها شيئا لا فى اللغة ولا فى البناء الفنى ولا فى الموضوعات التى تناولتها ولا فى النزعة الأدبية التى اعتمدها صاحبها فى كتابتها، وهى النزعة الخـُرْئِيّة المغرمة بالبذاءات ولحس الوساخات وتشمم الفضلات... إلخ، إلا وفصل القول فيه تفصيلا، أستطيع أن أؤكد أن رشدى كاذب كاذب كاذب فى كل ما يقوله عن خلو الرواية من الإساءة إلى الدين أو إلى أحد من المسلمين. وما دام قد تطرق لسيرة الخومينى فلا بد من القول بأنه قد صوره تصويرا بشعا يبعث على النفور والقهقهة، ومسخه على نحو شنيع أخرجه من الإنسانية تماما جاعلا منه كائنا عجيبا لا ندرى إلى أى جنس من المخلوقات الوحشية ينتمى. بل ليغلو رشدى فى الهجوم على الإسلام والمسلمين فيدعى أنهم فى قرية من قرى الهند قتلوا بعد صلاة الجمعة طفلا رضيعا تقربا إلى الله لأنه لقيط، مع أن شيئا من هذا لم يحدث فى أى بلد من بلاد الإسلام ولا فى أية فترة من تاريخه، إذ ما ذنب هذا الكائن البرىء فيما صنعه والداه؟ ومعروف أن الإسلام، حتى عند مشاهدة أحدنا لامرأة ورجل يزنيان، يؤثر أن نغلق أفواهنا فلا نتكلم بما رأينا، بل نستر على الزانيين ولا نفضحهما، فضلا عن أن نشنّع بهما، طبقا لما قاله الرسول الكريم الرحيم لبعض صحابته حين حدثه عن زانيين رآهما: لو سترتهما بثوبك كان خيرا لك! فأين هذا مما يفتريه ذلك الكَيْذُبَان على ديننا العظيم؟ ثم يأتى د. نصر فيورد كلامه على أنه حجة مفحمة! ألا إنه لأمر عجيب!
كذلك يأخذ نصر أبو زيد على الخطاب الدينى تمسكه بعنصرين هما النص والقول بالحاكمية الإلهية (انظر ص67 من "نقد الخطاب الدينى"). والنص طبعا هو النص القرآنى كما هو واضح من عنونته لكتابه الذى يتناول دراسة علوم القرآن باسم "مفهوم النص". وإذا عبنا الخطاب الدينى بأنه يتمسك بالنص، أى النص القرآنى، فما الذى يبقى من الإسلام؟ وبأى نص يا ترى ينبغى أن يتمسك المسلم؟ برأس المال مثلا؟ أم بـ"مفهوم النص"؟ إن القرآن هو دستور المسلمين ومدوَّنة شريعتهم وكتاب عقيدتهم. فإذا نبذوه وراء ظهورهم واشتروا به مشورة أبو زيد حتى يرضى عنهم فهل يظلون حينئذ مسلمين؟ وهل القرآن معيب حتى نتبرأ منه؟ قد يراه بعض الناس كذلك، ويَرَوْن أن الرسول هو مؤلفه، وأنه حتى لو كان مفيدا فى وقته فقد تجاوزه الزمن. فليكن، فكل إنسان حر فيما يعتقد. والمسلمون بنفس المبدإ أحرار فيما يؤمنون به، ومن واجبهم، لا من حقهم فقط، أن يتمسكوا بالنص القرآنى، وإلا ما كانوا مسلمين. ترى لم جاء الإسلام ونزل القرآن على الرسول محمد عليه الصلاة والسلام إذا لم نتمسك بتشريعاته وأحكامه وننزل على مبادئه الأخلاقية والفكرية والذوقية؟ أم ترى القرآن نزل من السماء لنلفه فى ورق سيلوفان ونضعه فى الدواليب ثم نخرجه من مكمنه لنستمتع بمرآه ولمسه فى المناسبات؟ الأمر فى حقيقته لا يخرج عن الاحتمالات التالية: إما أننا نؤمن بأن هذا الكتاب هو من عند الله فنعض عليه بالنواجذ ونجتهد بكل طاقاتنا فى تطبيقه، وإما أننا لا نصدق بإلهية مصدره، بل نعتقد بأن محمدا هو مؤلفه، لكنه كذب علينا قائلا إنه من عند الله أو توهَّم مخدوعا بحسن نية أنه فعلا من عند الله، وإن لم يكن فى الواقع من عند الله، وإما أننا نعتقد بأنه نزل من السماء، لكنه لا يناسب ظروفنا وأوضاعنا الآن لأنه ليس صالحا لكل زمان ومكان، بل للعرب وحدهم فى القرون الهجرية الأولى. فأما الاحتمال الأخير فأرجو ممن يقول به أو يتظاهر أنه يقول به، حتى لو لم يؤمن حقا بأنه من عند الله لا على سبيل التأبيد ولا على سبيل التوقيت، أن يدلنا على نص فيه أو فى الأحاديث النبوية يقول هذا. وأما الاحتمال الثانى فنحن بطبيعة الحال، بوصفنا مسلمين نؤمن بالله وبالرسول محمد عليه الصلاة والسلام لا نبيا فحسب بل سيدا للأنبياء أجمعين، نرفضه رفضا باتا قاطعا. وهو ما لا ينبغى أن يلومنا عليه أحد حتى لو رأى أن فى عقولنا مسا شيطانيا أو فى سلوكنا وتصرفاتنا وتفكيرنا تخلفا حضاريا. ومع هذا فلصاحب الاحتمال الثانى الحق كل الحق فى أن يعتقد به، ولا دخل لنا فى اعتقاده، وكل ما نستطيعه ويحق لنا فى ذات الوقت هو أن نرد على ما يقول بكلام مثله. وعلى القراء أن يوازنوا بين ما نقول وما يقوله هو ويختاروا ما يرونه مقنعا للعقل ومتسقا مع المنطق والحضارة والتقدم والسعادة.