كوبرلّي
2010-09-23, 05:40 AM
مقدمة:
مفكرة الإسلام : إن من أكبر المشاكل التي تواجه الأمة الإسلامية خاصة في عصرنا الحاضر هي مشكلة غياب القيادة الربانية, فلقد غابت القدوة وفقد المثل, فأصبحت الأمة جسدًا بلا رأس أو سفينة بلا ربان, وكلما كانت القيادة ربانية كلما كانت الأمة أقرب للتمكين والنصر والسيادة, ولقد فطن أعداء الإسلام لتلك الأهمية فحرصوا كل الحرص على منع وصول أمثال هؤلاء القادة الربانيين لسدة الحكم بالبلاد المسلمة وعملوا على إفساد أنظمة الحكم في البلاد المسلمة حتى تنفصل القاعدة عن القمة, وإذا فشلت القوى المعادية في منع وصول القادة الربانيين لسدة الحكم فإنها تشن حربًا لا هوادة فيها وبكل الوسائل الشريرة من أجل التخلص من هذه القيادة الربانية.
الأحوال العثمانية:
مرت الخلافة العثمانية بعدة أطوار متعاقبة منذ نشأتها سنة 699هـ على يد مؤسسها عثمان الأول وتأرجحت بين قوة وضعف ووحدة وتفرق وتوسع وانحصار, ولكن اللافت للنظر أن طور الضعف والانحدار قد استمر لفترة طويلة 'قرابة الثلاثة قرون' تعاقب خلالها على قيادة الدولة العثمانية ثمانية وعشرون خليفة كان بعضهم ذو همة وعزيمة قوية حاول أن يستعيد قوة الدولة وهيبتها السابقة, وهؤلاء أخروا سقوط الدولة العثمانية إلى وقتها المقدور, وكان السلطان عبد الحميد أقوى هؤلاء الخلفاء.
السلطان عبد الحميد الثاني:
السلطان عبد الحميد هو السلطان الرابع والثلاثون من سلاطين الدولة العثمانية, تولى عرش الدولة وهو في الرابعة والثلاثين من عمره, وقد نشأ يتيم الأم, وتولت رعايته زوجة أبيه وكانت امرأة صالحة ذات دين وعفاف فأثرت على نفسية وشخصية عبد الحميد, فنشأ في بيئة صالحة وتربى على أن يكون من القادة والزعماء الكبار, فتعلم الفروسية والعلوم الشرعية والعلمية, وقد ظهرت بجانبه منذ الصغر خصوصًا فيما يتعلق بالسياسة ومتابعة الأحوال الخارجية.
استفاد عبد الحميد كثيرًا من عمه السلطان عبد العزيز الذي كان المثل والقدوة لعبد الحميد, ولقد قتل عبد العزيز على يد بعض المتآمرين والحاقدين على الخلافة العثمانية قبل تولي عبد الحميد لمقاليد الأمور, وكانت رحلة عبد الحميد إلى أوروبا برفقة عمه السلطان عبد العزيز ذات أثر بالغ في تكوين الرؤية الواقعية لمستقبل الحكم العثماني في عهد عبد الحميد.
استلم السلطان عبد الحميد الحكم في 11 شعبان 1293هـ / 31 أغسطس 1876م في وقت عصيب وحاسم من حياة الأمة الإسلامية عامة والدولة العثمانية خاصة فقد أحدقت بها الأخطار من الداخل والخارج، واجتمعت عليها عوامل الهدم وكانت الدولة العثمانية أشبه ما يكون بسفينة قديمة بالية تبحر في عرض بحر هائج متلاطم الأمواج تعبث بها العواصف من هنا وهناك, ولكن عبد الحميد كان رجل الساعة وفارس الميدان جابه الجميع بكل شجاعة.
الأخطار الداخلية:
لقد كانت الجبهة الداخلية والأخطار الداخلية في حقيقة الأمر أكبر وأشد ضررًا من الأخطار الخارجية, وقد تمثلت الأخطار الداخلية في عدة محاور كما يلي:
1] انتشار الفكر الغربي في الطبقة المثقفة وطبقة رجال الحكم وعلية القوم وافتتان كثير من هؤلاء بما عند أوروبا من تقدم حضاري وفنون وآداب حتى أصبحت لندن وباريس وفيينا قبلة هؤلاء المفتونين وما استتبع ذلك من اندفاعهم في هوة التقليد الأعمى لكل ما هو غربي على كل المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية.
2] ظهور الجمعيات الماسونية ذات الأهداف الخبيثة والتي عملت على نشر الأفكار القومية الطورانية والتي تتعارض مع عقيدة الولاء والبراء في الإسلام, وكانت هذه الجمعيات تحمل أسماء أدبية وعلمية للتمويه والتضليل, وكان النصارى هم نواة هذه الجمعيات عند ظهورها وكانت الإرساليات التنصيرية الداعم الأول لهذه الجمعيات, وكانت جمعية 'تركيا الفتاة' هي أشهر هذه الجمعيات وقد تأسست في الأصل بباريس, كانت جمعية تقوم في الأساس على القومية التركية أو الطورانية, تحت شعار الجمهورية وقد أسس هذه الجمعية بعض الإعلاميين المفتونين بالغرب أمثال 'علي سعاوي', 'نامق كمال', 'محمد ضياء', وقد تكونت لتلك الجمعية الشابة فروع بلسانيك وبرلين واستانبول , وما لبث أن انضم لهذه الجمعية بعض الضباط خاصة من منطقة سلانيك وقرروا تأسيس جناح عسكري للجمعية عرف باسم 'الاتحاد والترقي' والجدير بالذكر أن جمعية 'تركيا الفتاة' وجناحها العسكري 'الاتحاد والترقي' قد تم تنظيمهما وتكوينهما على غرار جمعية 'إيطاليا الفتاة' والتي أسسها الزعيم الإيطالي 'ماتزين' سنة 1831م بل هي مستنسخة منها.
3] أما أشد هذه الأخطار على الجبهة الداخلية فكانوا اليهود المعروفين بيهود 'الدونمة' ومعنى كلمة 'الدونمة' الرجوع والعودة وهم اليهود الذين استوطنوا الدولة العثمانية أيام السلطان سليمان القانوني وكان أصل هؤلاء اليهود من إسبانيا وكانوا قد تعرضوا للاضطهاد بعد سقوط الأندلس, وقد سمح لهم السلطان سليمان بذلك تحت تأثير من زوجته 'روكسلان' الأفعى اليهودية, وفي ظل حكم الدولة العثمانية تمتع اليهود بالأمن والرفاهية ونالوا كافة حقوقهم بل انتظم بعضهم في سلك رجال الدولة ولكنهم كعادتهم قابلوا هذا الجميل والعرفان بالجحود والنكران, وتآمروا مع الجمعيات السرية الماسونية وروجوا للفكر القومي الطوراني, ويعتبر اليهودي 'موئيز كوهين' هو مؤسس الفكر القومي وكتابه 'الروح التركية' هو الكتاب المقدس للسياسة الطورانية.
الأخطار الخارجية:
في هذه الفترة الحرجة من حياة الدولة العثمانية كانت الأخطار الخارجية متمثلة في دول أوروبا بجناحيها الشرقي والغربي, ويقود الجميع وقتها روسيا وإنجلترا, وكانت ألمانيا وقتها قوة جديدة تتطلع لدور على الساحة الدولية, ولقد عملت روسيا على إثارة الفتن الداخلية بالولايات العثمانية بأوروبا الشرقية, فأشعلت روسيا ثورات عنيفة في بلاد البلقان والبوسنة والهرسك والصرب والجبل الأسود, وعندما لم تفلح هذه الثورات في تحقيق الهدف منها أعلنت روسيا الحرب صراحة على الدولة العثمانية بسبب رومانيا وأجبرت الدولة العثمانية لتوقيع معاهدة 'سان استيفانوس' المجحفة بحق العثمانيين بعد أن فقدت الدولة أجزاء منها في هذه الحرب.
لم تكن الدول الأوربية المشهورة بعدائها الشديد للإسلام والمسلمين مثل إنجلترا وفرنسا والنمسا لتقف مكتوفة الأيدي وروسيا تلتهم أجزاء كبيرة من الدولة العثمانية التي أصبحت فريسة سهلة لذئاب الأرض من أعداء الإسلام, فأجبرت هذه الدول مجتمعة الدولة العثمانية على التوقيع على معاهدة برلين سنة 1305هـ, وكان ظاهر هذه المعاهدة الحد من النفوذ الروسي بالمنطقة ولكن باطنها المزيد من تقطيع أوصال الدولة العثمانية وتوزيع أملاكها على المعتدين والطامعين.
أهم إنجازات السلطان عبد الحميد:
لقد كان على السلطان عبد الحميد تبعة كبيرة وتركة ثقيلة وأخطار داخلية وخارجية, وكان عليه أن يواجه الجميع فبدأ أولاً بالإصلاحات الداخلية لتتقوى بها قاعدة الدولة أمام الخارج, ويستطيع أن يتكلم من منطلق قوة وتتمثل أهم الإصلاحات فيما يلي:
1] تعريب الدولة: فقد حاول السلطان عبد الحميد إدخال اللغة العربية كلغة رسمية للدولة في الحكومة والتعاملات واصطدم مع القوميين الأتراك الذين خافوا من زوال التحكم والسيطرة التركية على الدولة لو عربت الدواوين, وكان يهدف عبد الحميد من ذلك القضاء على القوميات الناشئة والمتنامية ليس عند الأتراك فقط ولكن عند العرب خاصة بالشام ومصر؛ ذلك لأن القومية العربية ظهرت كرد فعل للقومية التركية.
2] إصلاح التعليم: رأى عبد الحميد أن نظام التعليم والمدارس التركية أصبحت معامل لتفريخ أتباع الفكر القومي والعلماني والمتغربين والمفتونين بأوروبا, لذلك اتخذ قرارات سريعة لإصلاح التعليم وذلك بعدة خطوات:
أ ـ ألغى كل المواد التعليمية التي تساعد على إذكاء الشعور القومي والتغريب.
ب ـ وضع مناهج مواد شرعية في المدارس الأولية حتى الثانوية 'فقه ـ تفسير ـ أخلاق'.
ج ـ جعل المدارس والجامعات تحت رقابته وإشرافه الخاص مباشرة.
د ـ منع الاختلاط في المدارس والجامعات وأنشأ مدارس خاصة بالنساء.
هـ ـ أنشأ مدرسة العشائر والتي تقوم فكرتها على تعليم أبناء العشائر والقبائل العربية باستانبول عاصمة الخلافة, والدراسة فيها يغلب عليها الجانب الشرعي مع بعض علوم الرياضيات واللغات, وكان الهدف منها إعداد جيل صالح من قادة الأمة والتواصل مع المسلمين في أرجاء الدولة العثمانية الكبيرة.
3] محاربة السفور: قلنا أن العصر الذي تولى فيه عبد الحميد الحكم كان عصر افتتان بالغرب وتقليد أعمى لكل ما هو خارجي وهي أولى علامات الاستيلاء والسقوط والمرأة بطبعها أشد تأثرًا وتقليدًا من الرجل، فبدأ السفور والتبرج يدق وبقوة أبواب المسلمين خاصة بالدولة العثمانية, وأيقن عبد الحميد خطورة ذلك فأصدر قرارات فورية بالاحتشام ومنع لبس المخالف للشرع وإلزام النساء بالحجاب, وأصدر قرارًا آخر بمنع الاختلاط في المدارس والجامعات.
4] جهاز المخابرات: وهذا الأمر يعده كثير من المنتقدين لعصر عبد الحميد من مساوئه الكبيرة, ولكن الحق في هذه المسألة أن إنشاء عبد الحميد لهذا الجهاز كان من أهم إنجازاته؛ لأن هذا العصر قد امتلأ بأصحاب الأفكار الغربية والعلمانيين والمتآمرين للإطاحة بالخلافة والقوميين والانفصاليين والماسونيين, وكان طابور أعداء الخلافة طويلاً حتى صار من الوزراء والكبراء أتباع لروسيا وإنجلترا وفرنسا يتلقون منهم الأوامر والرشاوى, وكان على عبد الحميد أن يتعامل مع كل هؤلاء وهو على دراية كاملة بمخططاتهم وأهدافهم, ووسع عبد الحميد عمل هذا الجهاز حتى شمل جميع أنحاء الدولة العثمانية ومن أجل ذلك لقبوه بالسلطان الأحمر.
السلطان عبد الحميد والجامعة الإسلامية:
كانت فكرة الجامعة الإسلامية حلمًا يراود المخلصين والصادقين من المسلمين في شتى بقاع الأرض بعدما رأوا ضعف عقيدة الولاء والبراء بين أبناء الأمة الذين وقعوا صرعى الفكر القومي والتيارات التغريبية والعلمانية والأكاذيب الباطلة والوعود المعسولة وما أداه هذا الضياع والضعف لوقوع معظم بلاد المسلمين في أسر أعداء الإسلام واستعمار إنجلترا وفرنسا وإيطاليا لمعظم بلاد المسلمين, وهذا الاستعمار عمل على تقوية الفكر القومي والروح الانفصالية عند هذه البلاد, ولقد رأى عبد الحميد أن فكرة الجامعة الإسلامية سوف تحقق أهدافًا عظيمة في مواجهة أعداء الإسلام وتقوية الأمة المسلمة وتقمع الفكر القومي الشعوبي المستشري في ديار الإسلام وتقوي مركز الخلافة الإسلامية في نفوس المسلمين والكافرين أيضًا, وكانت فكرة الجامعة الإسلامية تلقى رواجًا عند المسلمين في كل مكان, والتفت مجموعة من كبار المسلمين حول عبد الحميد وفكرته الإسلامية من أشهرهم مصطفى كامل وأبو الهدى الصيادي وعبد الرشيد إبراهيم وغيرهم, ومن أجل تدعيم هذه الفكرة أنشأ عبد الحميد خط المدينة ودمشق للسكة الحديد ليسهل طريق الحج على المسلمين ويربط العرب بالترك, ولكن الخطأ الذي وقع فيه عبد الحميد ووقوعه كان اضطرارًا منه وليس تعمدًا ألا وهو اعتماده على الطرق الصوفية في الترويج للفكرة وسكوته عن انحرافاتهم العقدية وبدعهم وخرافاتهم من أجل ذلك, وأي عمل لا يقوم على عقيدة صحيحة ونقية لابد أن يفشل ولو بعد حين, هذا غير التصدي الأجنبي لهذه الفكرة وكان اللورد كرومر الإنجليزي والوزير 'هانوتو' الفرنسي من أشد الناس محاربة لهذه الفكرة.
السلطان عبد الحميد والقدس واليهود:
نحن لسنا في حاجة لبيان عداوة اليهود للمسلمين في كل مكان وزمان فهذا أمر عقائدي مستقر بالكتاب والسنة والتاريخ, ولكن عداوة اليهود للسلطان عبد الحميد كانت خاصة ومركزة؛ فلقد حاول اليهود استغلال الأوضاع الداخلية والخارجية التي تحيط بالسلطان عبد الحميد وطلب اليهود من السلطان عبد الحميد على لسان زعيم الصهاينة 'هرتزل' أن يعطيهم فلسطين لتكون وطنًا قوميًا ليهود العالم, وقد استطاع 'هرتزل' أن يتحصل على تأييد أوروبي لفكرته, وأصبحت قوة ضغط على الدولة العثمانية التي كانت تعاني وقتها من ضائقة مالية شديدة, وهذا ما حاول اليهود استغلاله فعرضوا على السلطان عبد الحميد في اللقاء الذي تم بينه وبين 'هرتزل' مبلغ عشرين مليون ليرة ذهبية لسداد ديون الدولة مقابل التنازل عن فلسطين.
فجاء رد السلطان عبد الحميد فخرًا وعزًا لكل مسلم ووسامًا على صدورنا نفخر به في زمن العملاء والخونة والمأجورين حيث قال: 'لا أستطيع أن أتنازل عن شبر واحد من الأراضي المقدسة لأنها ليست ملكي بل هي ملك شعبي وقد قاتل أسلافي من أجل هذه الأرض ورووها بدمائهم، فليحتفظ اليهود بملايينهم، إذا فرقت دولتي من الممكن الحصول على فلسطين بدون مقابل ولكن لزم أن يبدأ التمزيق أولاً في جثتي قبل الحصول على فلسطين'.
بعد أن تأكد اليهود من عزم السلطان عبد الحميد على منعهم من التمكن من فلسطين وفشلت كل إغراءاتهم المالية من أجل ذلك أخذوا في التآمر مع كل القوى المعادية للمسلمين والتنسيق مع كل الاتجاهات من أجل إزاحة السلطان عبد الحميد من طريق أطماعهم بفلسطين, بل قام اليهود بتوحيد صفوف المعارضة وكانت من قبل دون نظام ولا تنسيق, وتولى المحفل الماسوني الإيطالي المعروف باسم 'المشرق الأعظم' هذه المهمة.
المؤامرة العالمية:
كانت أطراف هذه المؤامرة الشريرة تشمل كلاً من العلمانيين والماسونيين وكلاهما ممثل في جمعية 'الاتحاد والترقي' والدول الأوروبية ممثلة في إنجلترا وفرنسا وروسيا والقوميين الطورانيين أي الأتراك ممثل في حزب 'تركيا الفتاة' ومن خلف الجميع اليهود يقودون زمام المؤامرة ويوجهونها لخدمة أغراضهم الخبيثة, وجاء مسلسل خلع السلطان عبد الحميد على الترتيب الآتي:
1] استغلال لعبة الدستور: وذلك أن السلطان عبد الحميد عندما تولى الحكم وتحت ضغط الحركات الداخلية اضطر لإعلان الدستور وتشكيل مجلس عموم, ولكنه استغل خطأ مدحت باشا كبير العلمانيين المنادين بالدستور وعزله من منصبه وألغى الدستور وأعاد العمل بالشريعة وذلك سنة 1296هـ, وظل الدستور معطلاً حتى زادت قوة جمعية الاتحاد والترقي وضعفت الدولة العثمانية من كثرة الفتن الداخلية والخارجية فقامت هذه الجمعية بإشعال المظاهرات المطالبة بتطبيق الدستور وذلك سنة 1326هـ, وكانت المظاهرات عارمة فاضطر السلطان عبد الحميد لإعلان الدستور مرة أخرى.
2] حادثة 30 أبريل: فوت السلطان عبد الحميد الفرصة على المتآمرين عندما وافق على إعلان الدستور إذ كان من المقرر أن يخلعوا عبد الحميد بمجرد رفضه لإعلان الدستور, لذلك عمد هؤلاء المتآمرين لاختلاق حادثة 30 أبريل, وهي حادثة وقعت في استانبول وقتل فيها عدد من عسكر جمعية 'الاتحاد والترقي' وعلى إثر هذه الحادثة تحركت قوات الاتحاد والترقي من 'سلانيك' وتوجهوا إلى استانبول, ودخلوا قصر الخلافة وقتلوا كثيرًا من أهله بلا سبب, وقالوا: إن السلطان يدبر لإلغاء الدستور وإحياء الشريعة وقتل رجال الاتحاد والترقي وأُعلنت الأحكام العرفية, وشكل ما يعرف بالمجلس الملكي الذي وجه عدة تهم لعبد الحميد كلها كذب وزور, بل مضحكة أيضًا منها اتهامه بتدبير حادثة 30 أبريل, والإسراف والظلم وسفك الدماء وإحراق المصاحف! والعجيب في لغة خطاب المنشورات التي كانت توزع ضد عبد الحميد حيث استخدموا الدين لخدمة أغراضهم رغم كونهم من أعدائهم ولم يفتهم أيضًا أن ينتزعوا فتوى من مفتي الدولة وقتها 'محمد ضياء الدين' وتم خلع عبد الحميد في 21 صفر سنة 1327هـ, وذهب وفد مكون من أربعة أشخاص 'آرام' الأرمني, 'أسعد طوبطاني' ألباني, 'عارف حكمت' تركي, 'عمانويل قراصو' يهودي لإبلاغ عبد الحميد خبر خلعه, فوافق في هدوء ولكنه أبى إلا عزًا من أوله إلى آخره؛ حيث أشار إلى 'قراصو' وقال: 'وما هو عمل هذا اليهودي في مقام الخلافة؟ وبأي قصد جئتم بهذا الرجل أمامي', وإنما جاءوا به ليعرف ويعرف العالم كله أن اليهود هم الذين كانوا وراء مؤامرة خلع السلطان عبد الحميد بسبب رفضه إعطائهم فلسطين, وبخلع السلطان عبد الحميد نستطيع أن نقول أن الدولة العثمانية قد سقطت.
مفكرة الإسلام : إن من أكبر المشاكل التي تواجه الأمة الإسلامية خاصة في عصرنا الحاضر هي مشكلة غياب القيادة الربانية, فلقد غابت القدوة وفقد المثل, فأصبحت الأمة جسدًا بلا رأس أو سفينة بلا ربان, وكلما كانت القيادة ربانية كلما كانت الأمة أقرب للتمكين والنصر والسيادة, ولقد فطن أعداء الإسلام لتلك الأهمية فحرصوا كل الحرص على منع وصول أمثال هؤلاء القادة الربانيين لسدة الحكم بالبلاد المسلمة وعملوا على إفساد أنظمة الحكم في البلاد المسلمة حتى تنفصل القاعدة عن القمة, وإذا فشلت القوى المعادية في منع وصول القادة الربانيين لسدة الحكم فإنها تشن حربًا لا هوادة فيها وبكل الوسائل الشريرة من أجل التخلص من هذه القيادة الربانية.
الأحوال العثمانية:
مرت الخلافة العثمانية بعدة أطوار متعاقبة منذ نشأتها سنة 699هـ على يد مؤسسها عثمان الأول وتأرجحت بين قوة وضعف ووحدة وتفرق وتوسع وانحصار, ولكن اللافت للنظر أن طور الضعف والانحدار قد استمر لفترة طويلة 'قرابة الثلاثة قرون' تعاقب خلالها على قيادة الدولة العثمانية ثمانية وعشرون خليفة كان بعضهم ذو همة وعزيمة قوية حاول أن يستعيد قوة الدولة وهيبتها السابقة, وهؤلاء أخروا سقوط الدولة العثمانية إلى وقتها المقدور, وكان السلطان عبد الحميد أقوى هؤلاء الخلفاء.
السلطان عبد الحميد الثاني:
السلطان عبد الحميد هو السلطان الرابع والثلاثون من سلاطين الدولة العثمانية, تولى عرش الدولة وهو في الرابعة والثلاثين من عمره, وقد نشأ يتيم الأم, وتولت رعايته زوجة أبيه وكانت امرأة صالحة ذات دين وعفاف فأثرت على نفسية وشخصية عبد الحميد, فنشأ في بيئة صالحة وتربى على أن يكون من القادة والزعماء الكبار, فتعلم الفروسية والعلوم الشرعية والعلمية, وقد ظهرت بجانبه منذ الصغر خصوصًا فيما يتعلق بالسياسة ومتابعة الأحوال الخارجية.
استفاد عبد الحميد كثيرًا من عمه السلطان عبد العزيز الذي كان المثل والقدوة لعبد الحميد, ولقد قتل عبد العزيز على يد بعض المتآمرين والحاقدين على الخلافة العثمانية قبل تولي عبد الحميد لمقاليد الأمور, وكانت رحلة عبد الحميد إلى أوروبا برفقة عمه السلطان عبد العزيز ذات أثر بالغ في تكوين الرؤية الواقعية لمستقبل الحكم العثماني في عهد عبد الحميد.
استلم السلطان عبد الحميد الحكم في 11 شعبان 1293هـ / 31 أغسطس 1876م في وقت عصيب وحاسم من حياة الأمة الإسلامية عامة والدولة العثمانية خاصة فقد أحدقت بها الأخطار من الداخل والخارج، واجتمعت عليها عوامل الهدم وكانت الدولة العثمانية أشبه ما يكون بسفينة قديمة بالية تبحر في عرض بحر هائج متلاطم الأمواج تعبث بها العواصف من هنا وهناك, ولكن عبد الحميد كان رجل الساعة وفارس الميدان جابه الجميع بكل شجاعة.
الأخطار الداخلية:
لقد كانت الجبهة الداخلية والأخطار الداخلية في حقيقة الأمر أكبر وأشد ضررًا من الأخطار الخارجية, وقد تمثلت الأخطار الداخلية في عدة محاور كما يلي:
1] انتشار الفكر الغربي في الطبقة المثقفة وطبقة رجال الحكم وعلية القوم وافتتان كثير من هؤلاء بما عند أوروبا من تقدم حضاري وفنون وآداب حتى أصبحت لندن وباريس وفيينا قبلة هؤلاء المفتونين وما استتبع ذلك من اندفاعهم في هوة التقليد الأعمى لكل ما هو غربي على كل المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية.
2] ظهور الجمعيات الماسونية ذات الأهداف الخبيثة والتي عملت على نشر الأفكار القومية الطورانية والتي تتعارض مع عقيدة الولاء والبراء في الإسلام, وكانت هذه الجمعيات تحمل أسماء أدبية وعلمية للتمويه والتضليل, وكان النصارى هم نواة هذه الجمعيات عند ظهورها وكانت الإرساليات التنصيرية الداعم الأول لهذه الجمعيات, وكانت جمعية 'تركيا الفتاة' هي أشهر هذه الجمعيات وقد تأسست في الأصل بباريس, كانت جمعية تقوم في الأساس على القومية التركية أو الطورانية, تحت شعار الجمهورية وقد أسس هذه الجمعية بعض الإعلاميين المفتونين بالغرب أمثال 'علي سعاوي', 'نامق كمال', 'محمد ضياء', وقد تكونت لتلك الجمعية الشابة فروع بلسانيك وبرلين واستانبول , وما لبث أن انضم لهذه الجمعية بعض الضباط خاصة من منطقة سلانيك وقرروا تأسيس جناح عسكري للجمعية عرف باسم 'الاتحاد والترقي' والجدير بالذكر أن جمعية 'تركيا الفتاة' وجناحها العسكري 'الاتحاد والترقي' قد تم تنظيمهما وتكوينهما على غرار جمعية 'إيطاليا الفتاة' والتي أسسها الزعيم الإيطالي 'ماتزين' سنة 1831م بل هي مستنسخة منها.
3] أما أشد هذه الأخطار على الجبهة الداخلية فكانوا اليهود المعروفين بيهود 'الدونمة' ومعنى كلمة 'الدونمة' الرجوع والعودة وهم اليهود الذين استوطنوا الدولة العثمانية أيام السلطان سليمان القانوني وكان أصل هؤلاء اليهود من إسبانيا وكانوا قد تعرضوا للاضطهاد بعد سقوط الأندلس, وقد سمح لهم السلطان سليمان بذلك تحت تأثير من زوجته 'روكسلان' الأفعى اليهودية, وفي ظل حكم الدولة العثمانية تمتع اليهود بالأمن والرفاهية ونالوا كافة حقوقهم بل انتظم بعضهم في سلك رجال الدولة ولكنهم كعادتهم قابلوا هذا الجميل والعرفان بالجحود والنكران, وتآمروا مع الجمعيات السرية الماسونية وروجوا للفكر القومي الطوراني, ويعتبر اليهودي 'موئيز كوهين' هو مؤسس الفكر القومي وكتابه 'الروح التركية' هو الكتاب المقدس للسياسة الطورانية.
الأخطار الخارجية:
في هذه الفترة الحرجة من حياة الدولة العثمانية كانت الأخطار الخارجية متمثلة في دول أوروبا بجناحيها الشرقي والغربي, ويقود الجميع وقتها روسيا وإنجلترا, وكانت ألمانيا وقتها قوة جديدة تتطلع لدور على الساحة الدولية, ولقد عملت روسيا على إثارة الفتن الداخلية بالولايات العثمانية بأوروبا الشرقية, فأشعلت روسيا ثورات عنيفة في بلاد البلقان والبوسنة والهرسك والصرب والجبل الأسود, وعندما لم تفلح هذه الثورات في تحقيق الهدف منها أعلنت روسيا الحرب صراحة على الدولة العثمانية بسبب رومانيا وأجبرت الدولة العثمانية لتوقيع معاهدة 'سان استيفانوس' المجحفة بحق العثمانيين بعد أن فقدت الدولة أجزاء منها في هذه الحرب.
لم تكن الدول الأوربية المشهورة بعدائها الشديد للإسلام والمسلمين مثل إنجلترا وفرنسا والنمسا لتقف مكتوفة الأيدي وروسيا تلتهم أجزاء كبيرة من الدولة العثمانية التي أصبحت فريسة سهلة لذئاب الأرض من أعداء الإسلام, فأجبرت هذه الدول مجتمعة الدولة العثمانية على التوقيع على معاهدة برلين سنة 1305هـ, وكان ظاهر هذه المعاهدة الحد من النفوذ الروسي بالمنطقة ولكن باطنها المزيد من تقطيع أوصال الدولة العثمانية وتوزيع أملاكها على المعتدين والطامعين.
أهم إنجازات السلطان عبد الحميد:
لقد كان على السلطان عبد الحميد تبعة كبيرة وتركة ثقيلة وأخطار داخلية وخارجية, وكان عليه أن يواجه الجميع فبدأ أولاً بالإصلاحات الداخلية لتتقوى بها قاعدة الدولة أمام الخارج, ويستطيع أن يتكلم من منطلق قوة وتتمثل أهم الإصلاحات فيما يلي:
1] تعريب الدولة: فقد حاول السلطان عبد الحميد إدخال اللغة العربية كلغة رسمية للدولة في الحكومة والتعاملات واصطدم مع القوميين الأتراك الذين خافوا من زوال التحكم والسيطرة التركية على الدولة لو عربت الدواوين, وكان يهدف عبد الحميد من ذلك القضاء على القوميات الناشئة والمتنامية ليس عند الأتراك فقط ولكن عند العرب خاصة بالشام ومصر؛ ذلك لأن القومية العربية ظهرت كرد فعل للقومية التركية.
2] إصلاح التعليم: رأى عبد الحميد أن نظام التعليم والمدارس التركية أصبحت معامل لتفريخ أتباع الفكر القومي والعلماني والمتغربين والمفتونين بأوروبا, لذلك اتخذ قرارات سريعة لإصلاح التعليم وذلك بعدة خطوات:
أ ـ ألغى كل المواد التعليمية التي تساعد على إذكاء الشعور القومي والتغريب.
ب ـ وضع مناهج مواد شرعية في المدارس الأولية حتى الثانوية 'فقه ـ تفسير ـ أخلاق'.
ج ـ جعل المدارس والجامعات تحت رقابته وإشرافه الخاص مباشرة.
د ـ منع الاختلاط في المدارس والجامعات وأنشأ مدارس خاصة بالنساء.
هـ ـ أنشأ مدرسة العشائر والتي تقوم فكرتها على تعليم أبناء العشائر والقبائل العربية باستانبول عاصمة الخلافة, والدراسة فيها يغلب عليها الجانب الشرعي مع بعض علوم الرياضيات واللغات, وكان الهدف منها إعداد جيل صالح من قادة الأمة والتواصل مع المسلمين في أرجاء الدولة العثمانية الكبيرة.
3] محاربة السفور: قلنا أن العصر الذي تولى فيه عبد الحميد الحكم كان عصر افتتان بالغرب وتقليد أعمى لكل ما هو خارجي وهي أولى علامات الاستيلاء والسقوط والمرأة بطبعها أشد تأثرًا وتقليدًا من الرجل، فبدأ السفور والتبرج يدق وبقوة أبواب المسلمين خاصة بالدولة العثمانية, وأيقن عبد الحميد خطورة ذلك فأصدر قرارات فورية بالاحتشام ومنع لبس المخالف للشرع وإلزام النساء بالحجاب, وأصدر قرارًا آخر بمنع الاختلاط في المدارس والجامعات.
4] جهاز المخابرات: وهذا الأمر يعده كثير من المنتقدين لعصر عبد الحميد من مساوئه الكبيرة, ولكن الحق في هذه المسألة أن إنشاء عبد الحميد لهذا الجهاز كان من أهم إنجازاته؛ لأن هذا العصر قد امتلأ بأصحاب الأفكار الغربية والعلمانيين والمتآمرين للإطاحة بالخلافة والقوميين والانفصاليين والماسونيين, وكان طابور أعداء الخلافة طويلاً حتى صار من الوزراء والكبراء أتباع لروسيا وإنجلترا وفرنسا يتلقون منهم الأوامر والرشاوى, وكان على عبد الحميد أن يتعامل مع كل هؤلاء وهو على دراية كاملة بمخططاتهم وأهدافهم, ووسع عبد الحميد عمل هذا الجهاز حتى شمل جميع أنحاء الدولة العثمانية ومن أجل ذلك لقبوه بالسلطان الأحمر.
السلطان عبد الحميد والجامعة الإسلامية:
كانت فكرة الجامعة الإسلامية حلمًا يراود المخلصين والصادقين من المسلمين في شتى بقاع الأرض بعدما رأوا ضعف عقيدة الولاء والبراء بين أبناء الأمة الذين وقعوا صرعى الفكر القومي والتيارات التغريبية والعلمانية والأكاذيب الباطلة والوعود المعسولة وما أداه هذا الضياع والضعف لوقوع معظم بلاد المسلمين في أسر أعداء الإسلام واستعمار إنجلترا وفرنسا وإيطاليا لمعظم بلاد المسلمين, وهذا الاستعمار عمل على تقوية الفكر القومي والروح الانفصالية عند هذه البلاد, ولقد رأى عبد الحميد أن فكرة الجامعة الإسلامية سوف تحقق أهدافًا عظيمة في مواجهة أعداء الإسلام وتقوية الأمة المسلمة وتقمع الفكر القومي الشعوبي المستشري في ديار الإسلام وتقوي مركز الخلافة الإسلامية في نفوس المسلمين والكافرين أيضًا, وكانت فكرة الجامعة الإسلامية تلقى رواجًا عند المسلمين في كل مكان, والتفت مجموعة من كبار المسلمين حول عبد الحميد وفكرته الإسلامية من أشهرهم مصطفى كامل وأبو الهدى الصيادي وعبد الرشيد إبراهيم وغيرهم, ومن أجل تدعيم هذه الفكرة أنشأ عبد الحميد خط المدينة ودمشق للسكة الحديد ليسهل طريق الحج على المسلمين ويربط العرب بالترك, ولكن الخطأ الذي وقع فيه عبد الحميد ووقوعه كان اضطرارًا منه وليس تعمدًا ألا وهو اعتماده على الطرق الصوفية في الترويج للفكرة وسكوته عن انحرافاتهم العقدية وبدعهم وخرافاتهم من أجل ذلك, وأي عمل لا يقوم على عقيدة صحيحة ونقية لابد أن يفشل ولو بعد حين, هذا غير التصدي الأجنبي لهذه الفكرة وكان اللورد كرومر الإنجليزي والوزير 'هانوتو' الفرنسي من أشد الناس محاربة لهذه الفكرة.
السلطان عبد الحميد والقدس واليهود:
نحن لسنا في حاجة لبيان عداوة اليهود للمسلمين في كل مكان وزمان فهذا أمر عقائدي مستقر بالكتاب والسنة والتاريخ, ولكن عداوة اليهود للسلطان عبد الحميد كانت خاصة ومركزة؛ فلقد حاول اليهود استغلال الأوضاع الداخلية والخارجية التي تحيط بالسلطان عبد الحميد وطلب اليهود من السلطان عبد الحميد على لسان زعيم الصهاينة 'هرتزل' أن يعطيهم فلسطين لتكون وطنًا قوميًا ليهود العالم, وقد استطاع 'هرتزل' أن يتحصل على تأييد أوروبي لفكرته, وأصبحت قوة ضغط على الدولة العثمانية التي كانت تعاني وقتها من ضائقة مالية شديدة, وهذا ما حاول اليهود استغلاله فعرضوا على السلطان عبد الحميد في اللقاء الذي تم بينه وبين 'هرتزل' مبلغ عشرين مليون ليرة ذهبية لسداد ديون الدولة مقابل التنازل عن فلسطين.
فجاء رد السلطان عبد الحميد فخرًا وعزًا لكل مسلم ووسامًا على صدورنا نفخر به في زمن العملاء والخونة والمأجورين حيث قال: 'لا أستطيع أن أتنازل عن شبر واحد من الأراضي المقدسة لأنها ليست ملكي بل هي ملك شعبي وقد قاتل أسلافي من أجل هذه الأرض ورووها بدمائهم، فليحتفظ اليهود بملايينهم، إذا فرقت دولتي من الممكن الحصول على فلسطين بدون مقابل ولكن لزم أن يبدأ التمزيق أولاً في جثتي قبل الحصول على فلسطين'.
بعد أن تأكد اليهود من عزم السلطان عبد الحميد على منعهم من التمكن من فلسطين وفشلت كل إغراءاتهم المالية من أجل ذلك أخذوا في التآمر مع كل القوى المعادية للمسلمين والتنسيق مع كل الاتجاهات من أجل إزاحة السلطان عبد الحميد من طريق أطماعهم بفلسطين, بل قام اليهود بتوحيد صفوف المعارضة وكانت من قبل دون نظام ولا تنسيق, وتولى المحفل الماسوني الإيطالي المعروف باسم 'المشرق الأعظم' هذه المهمة.
المؤامرة العالمية:
كانت أطراف هذه المؤامرة الشريرة تشمل كلاً من العلمانيين والماسونيين وكلاهما ممثل في جمعية 'الاتحاد والترقي' والدول الأوروبية ممثلة في إنجلترا وفرنسا وروسيا والقوميين الطورانيين أي الأتراك ممثل في حزب 'تركيا الفتاة' ومن خلف الجميع اليهود يقودون زمام المؤامرة ويوجهونها لخدمة أغراضهم الخبيثة, وجاء مسلسل خلع السلطان عبد الحميد على الترتيب الآتي:
1] استغلال لعبة الدستور: وذلك أن السلطان عبد الحميد عندما تولى الحكم وتحت ضغط الحركات الداخلية اضطر لإعلان الدستور وتشكيل مجلس عموم, ولكنه استغل خطأ مدحت باشا كبير العلمانيين المنادين بالدستور وعزله من منصبه وألغى الدستور وأعاد العمل بالشريعة وذلك سنة 1296هـ, وظل الدستور معطلاً حتى زادت قوة جمعية الاتحاد والترقي وضعفت الدولة العثمانية من كثرة الفتن الداخلية والخارجية فقامت هذه الجمعية بإشعال المظاهرات المطالبة بتطبيق الدستور وذلك سنة 1326هـ, وكانت المظاهرات عارمة فاضطر السلطان عبد الحميد لإعلان الدستور مرة أخرى.
2] حادثة 30 أبريل: فوت السلطان عبد الحميد الفرصة على المتآمرين عندما وافق على إعلان الدستور إذ كان من المقرر أن يخلعوا عبد الحميد بمجرد رفضه لإعلان الدستور, لذلك عمد هؤلاء المتآمرين لاختلاق حادثة 30 أبريل, وهي حادثة وقعت في استانبول وقتل فيها عدد من عسكر جمعية 'الاتحاد والترقي' وعلى إثر هذه الحادثة تحركت قوات الاتحاد والترقي من 'سلانيك' وتوجهوا إلى استانبول, ودخلوا قصر الخلافة وقتلوا كثيرًا من أهله بلا سبب, وقالوا: إن السلطان يدبر لإلغاء الدستور وإحياء الشريعة وقتل رجال الاتحاد والترقي وأُعلنت الأحكام العرفية, وشكل ما يعرف بالمجلس الملكي الذي وجه عدة تهم لعبد الحميد كلها كذب وزور, بل مضحكة أيضًا منها اتهامه بتدبير حادثة 30 أبريل, والإسراف والظلم وسفك الدماء وإحراق المصاحف! والعجيب في لغة خطاب المنشورات التي كانت توزع ضد عبد الحميد حيث استخدموا الدين لخدمة أغراضهم رغم كونهم من أعدائهم ولم يفتهم أيضًا أن ينتزعوا فتوى من مفتي الدولة وقتها 'محمد ضياء الدين' وتم خلع عبد الحميد في 21 صفر سنة 1327هـ, وذهب وفد مكون من أربعة أشخاص 'آرام' الأرمني, 'أسعد طوبطاني' ألباني, 'عارف حكمت' تركي, 'عمانويل قراصو' يهودي لإبلاغ عبد الحميد خبر خلعه, فوافق في هدوء ولكنه أبى إلا عزًا من أوله إلى آخره؛ حيث أشار إلى 'قراصو' وقال: 'وما هو عمل هذا اليهودي في مقام الخلافة؟ وبأي قصد جئتم بهذا الرجل أمامي', وإنما جاءوا به ليعرف ويعرف العالم كله أن اليهود هم الذين كانوا وراء مؤامرة خلع السلطان عبد الحميد بسبب رفضه إعطائهم فلسطين, وبخلع السلطان عبد الحميد نستطيع أن نقول أن الدولة العثمانية قد سقطت.