مشاهدة النسخة كاملة : ثلاثون طريقة لخدمة الدين
جمال المر
2010-10-05, 10:36 PM
ثلاثون طريقة لخدمة الدين
بقلم : رضا بن أحمد صمدى
بسم الله الرحمن الرحيم
كلمةٌ قالها اليهود عندما استولوا على القدس في عام 67 ، حيث عبروا عن فرحهم وخرجوا في مظاهرات عارِمة وصاحوا قائلين : محمد مات مات .. محمد خلَّف بنات . قرأت تلك الكلمة – في إحدى الكتب - وأنا بعد غَضُّ الإِهاب ، لا أفقه المَعْنِيَّ بالكَلِم ، ولكنها وقعت في قلبي كالإعصار المدمر الذي غير كثيرا من توجهات حياتي ومستقبلي الذي كنت أحلم به كأي فتى يافع ، وبكيت ساعتها وقلت في نفسي : لا . محمد صلى الله عليه وسلم لم يخلف بنات .
ومرت الأيام .. بل السنون ، وتعاظم إدراكي للورطة التي تعيش فيها أمتي ، وصرت أرقب بحرقة ما يدور حولي :
فأنَّـا التفتُّ فحقٌ سليبْ وأنَّا أَصَخْتُ فرَجْعُ النَّحيبْ
وأنَّا سَرَيتُ فدَرْبٌ مُريبْ وَصَفٌّ عجيبٌ ولُؤْمٌ رهيبْ
أَصِيْحُ بِقَومي إلى المَكْرُمَاتْ فَمَا مِنْ مُلَبٍّ وما مِنْ مُجيبْ
وصارت نفسي تشك وتذهب بها الظنون كل مَذهب ، هَلْ مَن حولنا رجال ؟ هل مَن يعيش بيننا ذكور ؟
عايشت نكباتٍ كثيرةً أَلَمَّت بأمتي وأنا ذو عقل وَاعٍ ، شاهدتُ اقتحام اليهود لبيروت ، ومرت بي أحداث صَبْرا وشاتيلا كَمَا الكابوس المريع ، دَرَسْتُ أزمة الخليج بِتَدَاعِيَاتِهَا ، وشاهدت مأساة البوسنة بنكباتها ، وتابعت كارثة الصومال وتَبِعَاتِهَا ، وعاصرتُ زلزال كوسوفا وتوابعَـه ، ورأيت الأشباح هي الأشباح ، والديار هي الديار ، ولكنني لاحظت أمرا مستنكرا لم ألاحظه قبل ، لقد صرتُ أَشَمُّ رائحة البَلادة ، وأجد نَتْنَها في أنفي أينما حلَلْتُ ، العامة يسمونها ( التَنْبَلَـة ) ، وقد سماها الرسول صلى الله عليه وسلم دِيَاثة ، وهو أن يرى الرجل المنكر في أهل بيته ولا يُغَيِّرُه .
وقد رأيت أعراضَ أمتي تُنْتَهَك ، ومحارمَها تُستباح ، وثرواتِها تُنْتَهَب ، وإذا بصياح اليهود يقفز إلى خاطري مُذَكِّرا .
أَتَسَمَّعُ أخبار المنصِّرين في كل حَدَبٍ وصَوْب تَخْرِق جدران قلبي ، عشرات المليارات تُنْفَق للتنصير ، أَتَرَقّبُ العَلْمَنَة تَجوْسُ خلال ديار الإسلام ، وأرى الإباحية والانحلال يتحولان إلى قانون وطريقة حياة في بلادي بلاد الإسلام .
تابعت الإحصائيات التي تصدرها هيئات البحوث في البلاد الإسلامية ، فَرَاعَنِي انتشارُ الجريمة ، وتَدَنِّي مستوى الأخلاق ، وهبوطُ معدل الأمن الاجتماعي ، بل الأنكى من ذلك كله اعوجاجُ المفاهيم الإسلامية ، واستيرادُ العاداتِ من الغرب والشرق ، وجَعْلُها من طرائق حياة المسلمين التي لا يُراد عنها حِوَلاً .
ثم رأيت الصحوة الإسلامية تَمْتَدُّ وتَتَجَذّر حتى أَضْحَتْ واقعا لا ينكره إلا معاند ، ولكنني
صرت أرى مع ذلك انتكاسا وقعودا وكسلا ، صرت أرى خمولاً يشبه خمول تنابلة السلطان – على نحو ما تقول العامة – ولكنني أبصره الآن بين صفوف الصحوة .
نَفَضْتُ الغُبار وأَزَحْتُ الدِّثار ، وقلت : لا والله ، لَتَعْلَمَنَّ يَهُودُ أن نبينا ما خلف بنات ، وسيعلم العالمَُ أَجْمَعُ أنّ وراءَ الأَكَمَةِ ما وراءَها .
يا أمّتي إن قسوتُ اليوم معذرةً فإن كَفِّـــيَ في النيران تلتهبُ
فَكَمْ يَحُزُّ بقلبي أن أرى أُمَمَـًا طارتْ إلى المجد والعُرْبانَ قد رَسَبُوا
ونحنُ كنا بهذا الكــون أَلْوِيَةً ونحن كنــا لِعِزِّ الشَمْسِ نَنْتَسِبُ
مَهْمَا دَجَى الليلُ فالتاريخُ أَنْبَأَني أنَّ النهـارَ بَأَحْشَاءِ الدُّجى يَثِبُ
إني لأَسْمَعُ وَقْعَ الخيـلِ في أُذُني وأُبْصِرُ الزمنَ الـموعـودَ يقتربُ
وفِتْيَةً في رياضِ الذِّكرِ مَرْتَعُهُـمْ للهِ ما جَمَعــوا للهِ ما وَهَبـوا
جاءوا على قَدَرٍ واللهُ يَحْرُسُهـمْ وشِرْعَةُ اللهِ نِعْمَ الغَـايُ والنَّسَبُ
وأَجْمَعْتُ أمري ولم يكن عَلَيّ غُمّةً ، وبحثتُ وتباحثتُ هذا الهَمَّ مع بعض الغيورين من حَمَلَة هذا الدين فقلنا : إن ثَمّة خلل ، فأمتي عددها يربو على الألف مليون ، وثرواتها الطبيعية ( كالبترول والذهب والمعادن الأخرى ) تُقَدّر بنصف ثروات العالم ، ومساحة الأراضي التي تسيطر عليها أمتي تقدر بثلُث بِخُمُس مساحة العالم أو أقل بقليل .
وليس العِلْم ينقُصُها ، بل منها عباقرةٌ شاركوا في بناء حضارة القرن العشرين ، وزاحموا أساطين التقنية الحديثة ، ولهم نظريات علمية بأسمائهم ، تشهد أن عقل المسلم لا يَقِلُّ ذكاء عن عقول بني الأَصْفَر .
ورُحْتُ أقلّب نظري في أزمات أمتي الكثيرة ، وطَفِقْت أستخلص العبرة من تاريخ أمتي القديم لعلي أَجِدُ ما يَدْرَأُ حَيْرَتي ويَقتل ش#### .
وقُدِّر لي أن أُكلَّف ببعض المهام الدعوية ، وكانت مهمة شاقة وعسيرة ، ولم أجد من يساعدُني في تلك المهمة ، فبدأت أفكر مَلِيَّاً في تلك المهمة كيف يمكن أن تُؤدَّى ، وبقليل من التحليل خَلُصْتُ إلى أنه لا بد لهذا العمل من فريق يقوم به ، ولا بد أن يكون هذا الفريق متفهِّما لطبيعة العمل ، ولديه الاستعداد للقيام به .
وقد قمت باختيار من توسَّمْت فيهم تلك الصفتين ، وقمنا باستحداث أسلوب جديد لأداء ذلك العمل قائم على الدراسة المتأنية والإدارة الحازمة والتخطيط والمتابعة ، وتعاهدنا على ضرورة الصبر حتى يُؤْتِيَ المشروع أُكُلَه ، ويَبْدُوَ صلاحُه .
وبِجَلَدٍ وصبرٍ وأَنَاةٍ قام ذلك الفريق بأداء العمل ، حتى بَدَى أثرُه ، وشَهِد القاصي والداني بنجاح الإدارة الجديدة في عملها .
وكانت هذه التجربة هي التي ألْهمتني جانبا مهما من جوانب النفس الإنسانية ، وخللا ظاهرا – في نفس الوقت – في الآلية التي ارتضى بعض الدعاة أن تسير بها الصحوة الإسلامية المباركة .
ذلك الجانب الإنساني أن النفس البشرية قادرةٌ على أداء أي عمل إذا تم تدريبُها كما ينبغي ، وهذا ما أثبتَتْه الدراساتُ النفسيةُ الحديثة ، وأقول : بل هذا ما أَمَرَ به الشرع المطهَّر ، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( اسْتَعِنْ بالله ولا تَعْجِزْ ) . وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم : ( اللهم إني أعوذ بك من العَجْزِ والكَسَل ) .
وفي أساليب الإدارة الحديثة : يُلَقَّنُ العامِل عبارةَ : سَأُحاول ، بدلا من عبارة : لا أستطيع . ويُعَلَّم أن يستعمل عبارة : هذا تَحَدٍّ ، بدل أن يقول : هذا الأمر صَعْب .
والخلل هو أن تُهْمَلَ تلك النفس البشرية ، ويُهْمَلَ تدريبُها ، ويَرْضَى مَنْ حولَها بمستواها الـدون ، وإذا ما حاولت أمرا ترقّب الناس فشلها كأنه أجل محتوم .
إن هذه هي المصيبة ، والرُّزْءُ المُعْضِل ، إن رجالَ أمتي كُثُرٌ ، وأبطالَها موفورون ، وكُمَاتَها يملئون الأفق ، ولكن أحدا لم يُجرِّبْهم ، كما أن أحدا لم يُكَلِّفْهم ، كما أن أحدا لم يكتشفْهم .
فتوالت الأجيال على هذه الوتيرة من الإهمال والتناسي ، حتى تولّد في الشعور الجَمْعي تلك البَلادةُ التي ذكرتها ، وصار اليأسُ طَبْعاً ، والقنوطُ سَجِيّةً وخُلُقاً ، ولم يُجْدِ مع هذا الداء دواء .
واسْتيقنْت أن شباب الإسلام يجب أن يُولَدوا ولادة جديدة ، ويتلقّوا عقائدهم الاجتماعية من جديد حتى تَزْدان نفوسُهم بفطرة سَوِيّة ، قابلةٍ لتَلقّي أوامر الشرع ، بل قادرة على فَهْم ما يدور حولها من كيد ومكر .
وصار دَيْدَني وهِجِّيرَايَ اسْتنفار شبيبة الإسلام لتكذيب دعوى اليهود أن محمد صلى الله عليه وسلم خلف بنات . وكانت محاوراتي مع كل مَن حولي حول ضرورة تدريب كوادر الدعوة على الدعوة ، وضرورة احتراف خدمة الدين عبر إيجاد الجيل الدعوي الحاذق المحترف المدرب على كل المهارات الدعوية .
ووجدت في البداية صدوداً ، ثم تَعَاظم الاقتناع بالفكرة لولا عوائق خارجة عن إرادة الدعاة ، وقلت في نفسي : إن الأمر لا يكفي فيه مجردُ الاقتناع ، بل لا بد أن يعمل الدعاة جميعا على الرُّقِيِّ بمستواهم فعلا ، وأن تكون خدمة الدين هَمَّاً شاغلا ، وليست هوايةً تُمَارَس في أوقات الفراغ .
وعملْتُ على أن تكون كل كتاباتي ومحاضراتي عمليّةً وواقعيّة ، تشخّص الداء ، وتحلّل الواقع ، وتقترح الدواء المناسب ، وكيفية تناول ذلك الدواء ، وأحسَب أن هذا المسلك هو ما ينبغي أن يتبناه كل الدعاة في كتاباتهم ومحاضراتهم . فإن قضايا الدين لم تَعُدْ تحتمل التعميم والإطلاق ، ومشكلات الأمة ما عادت تصبر على التحليلات الجُزَافِيّة ، والتقديرات الهُلامية ، والمعالجات السطْحية ، بل تحتاج إلى تفصيل ، وتَرْنو إلى منهج دقيق للخروج من الأزمة .
وبين يديك أيها القارئ : محاولة بَدائيّة ، أُجاري فيها آمالي ، وأُناطِح فيها أحلامي ، أَدَعُ السرابَ للهائمِ في الفَيافي بلا مَقْصِد ، وأُيَمِّمُ وجهي نحو الماء القُراح سالكا الجادّة السويّة والفَجَّ الموصِل للمراد .
ثلاثون طريقة لخدمة الدين ، انتقيتُها لتكون أُنْموذَجا للطُّرُق الأخرى التي لم أذكرْها ، بأن تسْلُك على منوالها في الفَهم والتقعيد والتطبيق ، ولِتَقْطَعَ المعاذير على شيطانك وهواك ونفسك الأمّارة بالسوء ، ولِتعْلم أنك من جنود الحق ، لا يَسَعُكَ التَّوَلِّي يوم الزحف إلا مُتَحَرِّفا لقتال أو مُتَحَيِّزَا إلى فئـة .
مجالاتٍ طَرَّقْتُها ، وفتحت بعض مغاليقها ، أدعو الدعاة أن يُديموا الدرْسَ فيها ، ويتوسعوا في التنظير لها والتطبيق والتخصُّص . وأحسب أن كل طريقة تحتاج إلى تخصص مستقل ، وتحتاج إلى تصنيف مستقل ، يستفيد منه الدعاة في مشارق الأرض ومغاربها .
وإذا كانت العلوم العصرية تَجْنَحُ إلى التخصص الدقيق ، وتعتبره دليلا على الإتقان ، فأَجْدِرْ بدعاتنا أن يكونوا أَتْقَنَ الناس لعملهم ، وأكثر الناس استجابة لما تتطلبه دعوتهم .
وأنا أدعو كلَّ داعية غيور أن يَنبِذ الارتجالية في دعوته ، ولْيَقصِد هذه الطُّرُق ، ولْيتخصص فيها أو في بعضها بل في واحدة منها ، وليصنف فيها مؤلفا مستقلا يضع فيه خبرته ، ويعالج فيه كل المشكلات التي واجهها والتي يتوقعُها ، بل إنني أدعو كل مثقف مسلم أن يُدْلِيَ بدلْوه في شئون الدعوة في حدود تخصصه غير متجاوز لها ، معاونا إخوانه الدعاة بخبْراته واطّلاعاته ، لعله أن يستفيد من علمه مستفيد أو ينجو به ناج .
فها هي ذي مسالك خدمة الدين ، فَجَرِّدْ نفسك لها كلها ، { وما يُلَقّاها إلا الذين صبروا ، وما يُلقاها إلا ذو حظ عظيم } . أو انْتَقِ منها ما تُتْقُنُه ، أو تَخَصَّصْ فيما تَجدُ نفسك قادرةً عليه مستطيعةً إياه .
واعلم أن ما أوردته هنا من اقتراحات وأفكار مُرْتَهَنٌ تطبيقُها بالاستطاعة والمناسبة ، وكلُّ داعيةٍ خبيرٌ بواقعه وما يلائمُه . وكلُّ داعيةٍ بصيرٌ بما يجب المصيرُ إليه من مسالك خدمة الدين .
وما كان من أصول دعوية جامعة فهي مما لا يقبل النسخ والتخصيص ، بل يجب أن نُوجِد له الصيغةَ التي يحصل بها الإجماع . وما عاد وقتُ الدعاة يسمح بالخلافات اللفظية ، والمُمَاحَكَاتِ الكلامية ، والاعتراضاتِ الفلسفية الفارغة ، بل يجب البِدارُ إلى التّفاهُم ، والمسارعةُ إلى التعاون ، والسعيُ الحثيث إلى كلمةٍ سواءٍ تجمع بين المسلمين في كل مكان .
وقد أطلْتُ النَّفَسَ في بعض الطرق للاحْتياج ، ولِغُموضٍ في فَهْم الناس لتلك الطريقة ، وقد أشير إلى كثير من الطرق الأخرى لخدمة الدين عبْر شرح طريقة معينة ، فليس عدد الثلاثين مقصودا لذاته ، فقد تكون طرق خدمة الدين بالمئات ، عَلِمَها مَن علِمَها وجَهِلهَا من جَهِلها ، والسعيد من وفقه الله للعلم والعمل .
وفي بعض القضايا احتجت أن أُؤَصِّل لها من الناحية الشرعية ، فتوسَّعت في سَوْقِ الأدلة وَرَدِّ الاعتراضات لأن حَسْمَ النـزاع في تلك المسألة ينبني عليه عمل عظيم .
ولا أُحِلُّ لأحد أن ينسب إليَّ ما سكتُّ عنه ، أو أن يستخدم مفهوم المخالفة بأنواعه ، أو دلالة الالتزام أو التضمّن ، بل المُعتمد هو مَنْصوصُ الكلام ومنطوقُه ، أو ما كان من قبيل قياس الأولى أو ما هو في حكم المنصوص عليه .
وما كان من خطأ في التأصيل والتقدير والتحليل يراه القارئ لهذه الكتاب فَحَقِّي عليه النصيحـة ، وحقُّه عليَّ القَبول ، { والله يحكم بيننا وإليه المصير } .
وأنا مُلْتَمِسٌ من قارئ حازَ من هذا السِّفر نَفْعَاً ألا ينساني بدعوة صالحة خالصة في السَّحَر ، وليعلم أن ما في هذا الكتاب مِن غُنْم فحلال زُلال له ولغيره ، وما كان مِن غرم فهو عَلَى كاهلي وظهري ، وأبرأ إلى الله من كل خطأ مقصود ، وأستعيذه من كل مأثم ومغرم .
فدونك أيها القارئ هذا الكتاب ، اقرأه واعمل بما فيه ، فإن عجزت فَأَقْرِأْهُ غيرَك وادْعُه أن يعمل بما فيه ، فإن عجزتَ – وما إِخَالُكَ بِعَاجِزٍ – فبطْن الأرض حينئذ خيرٌ لك من ظاهرها .
ومن سويداء قلبي أسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعك بما فيه وأن يقوّيَك على العمل بما انتفعت به ، وأن يرزقك الصبر على ما قد يلحقك من عَنَتٍ وأذى ، وأن يتقبل منك سعيك في خدمة الدين ، وعند الله اللقاء ، وعند الله الجزاء .
( القاعدة الأولى )
خدمة الدين من ضروريات الدين
نعم ! إنها خدمة يَشْرُفُ بها العبد وليست مَهْنَةً قَسْرية يُهان بها ، أو منصبا تشريفيا يخيّر بين القبول به أو الإعراض عنه ، وليست تبرعا ولا فرض كفاية ولا مجرد أداء واجب ، وإنما خدمة الدين ركن من أركانه وضروريٌّ من ضرورياته وأساس من أسسه . ولقد كان هذا المعنى مستقرا عند السلف الصالح استقرارَ المعتقَد في القلوب ، ولم يحتاجوا أن يستدلوا له أو أن يقرِّروه لأنفسهم بشتى وجوه الاستدلال ، بل كان يكفي أن يُسْلِمَ الواحد منهم أو يستقرَّ الإسلام في قلبه ليعتبرَ نفسه بعد ذلك مَنْذورَةً لهذا الدين ، ويجنِّدَها في خدمته ، ويَصرِفَ مجهوداتِها في نصرته والذَّوْدِ عن حَوْزَتِه .
إن هذا الدين إذا تأمّله المتأمِّل عَلم أنه صِيْغَ ليكون المتمسّكُ به داعيةً إليه ، ودَلاّلاً عليه . ومع مَزِيد تأمّل يرى المرء أن مَن أراد أن يكون مسلما دون تَبِعات ومسئوليات تجاه إسلامه فإنه رَامَ ضرْبا من التديّن شبيهاً بتدين الرهبان في الكهوف والصوامع والبِيَعِ ، وقد تقرر أنه لا رهبانية في الإسلام .
إن من أوائل الأوامر الربانية التي نزلت في القرآن : الأمر بالنِّذارة وتبليغ الوحي للخليقة ، يقول تعالى : ( يا أيها المدّثر . قُمْ فأنذِر ) . ثم توالى بعد ذلك ما يمكن أن نسمّيَه فقهَ الدعوة ، حيث تضمّن التنـزيل أوامرَ عُنيتْ بالشأْن الدعوي مثل قوله تعالى : ( فاصْدَعْ بما تُؤْمَرُ وأَعْرِضْ عن المشركين ) وقوله تعالى : ( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين ) وقوله : ( ادْعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادِلْهم بالتي هي أحسـن ) ، وهي آيات ترسم صورة المسلم الداعية الذي يتبع نهج نبيه صلى الله عليه وسلم .
بل إن النبي صلى الله عليه وسلم كان من أوائل اهتماماته صِيَاغَةُ الشَّخصية الدعوية التي تحمل هَمَّ الدين وتبذُل له . وكان أول من دعاه النبي صلى الله عليه وسلم للإسلام هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، فلم يكن ذلك الصديق عَالَةً على الدعوة وعِبْئَاً عليها ، بل تحرك من أول يوم ينشر هذا الدين حتى دخل بجهوده الدعوية في أول الأمر ستة من سادات قريش الشبان ، إضافةً إلى سعايته في فِكاك العبيد الذين أسلموا من أَسْر الرِّق .
وإنّ تحرك صحابة النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته في أقطار الأرض لَدَليلٌ على أن الشخصية التي صاغها النبي صلى الله عليه وسلم ورباهم عليها هي الشخصية المتحركة للدين التي لا تعرف السكون ولا الكمون .
( وفي تفسير قوله تعالى : { يا أيها المدثر . قم فأنذر } يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمـه الله - : فواجب على الأمة أن يبلغوا ما أُنزل إليه ( أي النبي صلى الله عليه وسلم ) ، ويُنْذِروا كما أَنْذَرَ ، قال الله تعالى : { فلولا نَفَر من كل فِرْقَةٍ منهم طائفةٌ ليتفقوا في الدين ولينذِروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يَحْذرون } ، والجنُّ لما سمعوا القرآن :{ وَلّوْا إلى قومهم منذرين } . ويقول ابن القيم رحمه الله : وتبليغ سنته صلى الله عليه وسلم إلى الأمة أفضلُ من تبليغ السهام إلى نحور العدو ، لأن تبليغ السهام يفعله كثير من الناس ، وأما تبليغ السنن فلا يقوم به إلا ورثة الأنبياء وخلفاؤهم في أممهم ، جعلنا الله تعالى منهم بمنه وكرمه . ويقول الغزالي رحمه الله : اعلم أن كل قاعد في بيته أينما كان فليس خاليا في هذا الزمان عن مُنْكر ، من حيث التَّقاعد عن إرشاد الناس وتعليمهم وحمْلهم على المعروف ، فأكثر الناس جاهلون بالشرع في شروط الصلاة في البـلاد ، فكيف في القرى والبوادي ومنهم الأعرابُ والأكْراد والتُّرْكُمانِية ، وسائرُ أصناف الخلْق ، وواجبٌ أن يكون في كل مسجدٍ ومَحَلَّةٍ من البلد فقيهٌ يعلّم الناس دينَهم وكذا في كل قرية ، وواجب على كل فقيه – فرغ من فرض عينه لفرض الكفاية – أن يخرج إلى ما يجاور بلده من أهل السواد ومن العرب والأكراد وغيرهم ، ويعلِّمَهم دينهم وفرائض شرعهم . أهـ وعن جعفر بن سليمان قال : سمعت مالك بن دينار يقول : لو استطعت ألا أنامَ لَمْ أَنَمْ مَخافةَ أن يَنـزِلَ العذابُ وأنا نائم ، ولو وجدت أعوانا لفرَّقْتُهم ينادون في سائر الدنيا : يا أيها الناس : النارَ النارَ . وقال إبراهيم بن أَشْعَث : كنا إذا خرجنا مع الفُضيل ( بن عِياض ) في جنازة لا يزال يَعِظُ ويذكّر ويبكي حتى لَكَأَنّه يودّع أصحابه ذاهبٌ إلى الآخرة حتى يبلغَ المقابر ، فيجلس فكأنه بين الموتى ، جلس من الحزن والبكاء حتى يقوم وَلَكَأَنّه رجع من الآخرة يُخْبِرُ عنها . وعن شجاع بن الوليد قال : كنت أخرج مع سفيان الثوري ، فما يكاد لسانُه يفتر عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذاهبا وراجعا . والإمام الزهري لم يَكْتَفِ بتربية الأجيال وتخريج أئمة الحديث ، بل كان ينـزل إلى الأعراب يعلّمهم . وكان الفقيه الواعظ أحمد الغزالي – شقيق أبي حامد الغزالي رحمهما الله – كان يدخل القرى والضِّياع ويعظ لأهل البوادي تقربـا إلى الله . يقول الراشد حفظه الله : ولا ينبغي للداعية أن يَبْتَئِس إن لم يجد فَضْلَ وقت لقيام الليل يوميا ، والإكثار من ختْمات القرآن ، فإن ما هو فيه من الدعوة وتعليم الناس وتربية الشباب خيرٌ وأجْزَلُ أجـرا ، وقدوته في ذلك ورائده أئمة الدعاة من السلف الصالح الذين كانوا يسيحون لنشر الدعوة وتبليغها ، ويبادئون الناس بالكلام ، ويحتكون بهم احتكاكا هادفا ، ولا ينتظرون مجيء الناس لهم ليسألوهم ..ثم ذكر قصة الأعرابي الذي جاء النبي صلى الله عليه وسلم وسأله قائلا : يا محمد أتانا رسولُك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أَرسلَك ؟ قال الراشد : أتاهم رسولُ رسولِ الله داعيا ، وكذلك الناس تُؤْتَى ، ومن انتظر أن يأتيه الناس فليس بداعية ، ولو فصّلت كلمة الأعرابي لتبين لك كيف فارق ذلك الصحابي الداعية المدينةَ لما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم لقومِ هذا ، وكيف فَارَقَ أهلَه وبيتَه وأولادَه ، وكيف اجْتازَ المَفَاوِزَ وصحْراءَ مِن بعدِ صحْراء ، وكيف تعرّض للمخاطر والحر أو البرد ، ليبلّغ دعوة الإسلام . وهذا شأن الدعوة التي تريد أن تصل إلى أهدافها ، لابد من تَحرّك ومُبادَأَة وغُدُوٍّ ورَوَاحٍ وتَكَلُّمٍ وزَعْمٍ ، ليس القعـودُ والتمني من الطرق الموصلة ، فافْقَهْ سيرةَ سلفك وقلّدْهم تَصِلْ ، وإلا فَرَاوِحْ مكانَك فإنك لن تَبْرَحَه .. ) أهـ
إن التحرك للدين وبذل المجهود في الدعوة إلى الله والتمكين لشرع الله وإعلاء كلمته في الأرض يجب أن يكون عنصرا أصيلا في النسيج الإيماني لكل مسلم ، فلا يَفْتَأُ يحاسب نفسه في كل زمان : ماذا قدم لدين الله ؟ يَتَقَلَّبُ في مَضْجَعِه قَلِقَا ، لا يَهْنَأُ بِنَوْمَة ، ولا يطِيبُ له وَسَن ، ترتاده أخبار المسلمين فيَهْتَمُّ ويَغْتَمُّ ، يفكّر في سبل إيصال الحق إلى الخلق فيخافُ أن يقصّر ، يقلق من تنامي الكفر والفسق ، يَجْزَعُ من قلة الناصرين لدين الله ، إنه لا يفكر في جاره فقط أو صديقه كيف يدعـوه ، إنه يفكر في سكّان الكرة الأرضية كيف يُدخلهم في دين الله أفواجا . يالها من همة لو وجدت لها فؤادا . وأحسب أن مثل هذه النفس لو تَلِفت هَمّا على حال الدين لما كان ذلك كثيرا جَلَلاً .
ومن أعظم مَن نرفعهم قدوة ومثالا في التحرك للتدين جماعة التبليغ العالمية ، التي ما فتئت تضرب لنا أروع الأمثلة في الحركة والتضحية وبذل الغالي والرخيص في خدمة الدين .
يقول الشيخ محمد بن إسماعيل في كتابه علو الهمة : ( بالرغم من التحفظات على فِكر ومنهج جماعة التبليغ إلا أننا نُقِرُّ بأنها أوْفرُ الجماعات حظا من علو الهمة في الحركة الواسعة الدَّءوب ، ولهم في ذلك إنجازات رائعة أثمرت إسلامَ كثير من المشركين وهداية كثير من الفاسقين ، وتبليغ دين الله في آفاق المعمورة .
حكى من شَهِدَ مجلسا لهم قال : جلسنا يوما في المسجد للتعارف ، فقام شيخٌ وَقور يعرِّف نفسه ، وقد جاوز السبعين من عمره : اسمي الحاج وحيد الدين ، أعمل في التجارة ، وعمري الآن تسع سنوات ، فاستغربْنا ، وقلنا في دَهْشَة : تسع سنوات ؟! قال : نعم ، لأنني أعتبر عمـري ضـائعا .. وكان هذا الرجل إذا وَعَظ قال : لا تضيّعوا أعماركم مثلي ، واشتغلوا بالدعوة إلى الله تعالى .
وقد حدث أن سألنا أميرَهم : لماذا تذهبون إلى المقاهي لدعوة الناس . قال : أرأيتم إن كان عندكم مريض ماذا تفعلون له ؟ قلنا : إن كان مرضُه ثقيلا نُحضر له الطبيب في المنـزل ، وأما إذا كان مرضه خفيفا فإنه يذهب بنفسه إلى الطبيب . قال : فكذلك الذين لم يعرفوا طريق المسجد ، مرضهم الإيماني ثقيل ، فنحن نذهب إليهم .
وسمعت بعض مشايخهم يروي موقفا تعرض له ، إذْ خرج للدعوة في حانة خمر في مدينة أوروبيـة ، واسْتَهْدَفَ رجلا مسلما كان يُجالس امرأة وهو يشرب الخمر ، فوعظه ونصحه وذكّـره بالله ، حتى لان قلبه ودمعت عيناه ، فأخذ بذراعه ليقوده إلى المسجد ، وأخذت المرأة بذراعه الآخر تنازعه فيه ، وكانت الغَلَبَةُ له بعد تَجَاذُب شديد من الطرفين ، وأتى به إلى المسجد وعلّمه كيف يتطهر ويصلي ثم تاب وحَسُنَت توبته .
وهم يجتهدون في ابتكار الحِيَل الخيرية لجذْب الناس إلى الدين ، كذلك التبليغي الذي أراد دعوة طبيب مشهور ، فدفع قيمة الفَحْص ، ولما جاءت نوبته دخل عليه ، فتهيأ الطبيب لفحصه ، فإذا به يخبره أنه ليس بمريض ، وإنما رَغِب أن يذكّره الله ، وينصحه في الدين ، وراح يفعل ذلك ، حتى رقّ قلب الطبيب ، وتأثر بموعظته ، وأراد أن يرد عليه قيمة الكشف ، فأبى قائلا : هذه قيمة ما استغرقته من وقتك .
ومن ذلك أنه لما صَعَّد الإنسان إلى القمر ، قال أحدهم : ولو صَعَّد الناس إلى القمر ، وتحول بعض منهم عن الأرض لَنُرْسِلَنَّ وراءهم قافلة تخرج في سبيل الله ، وتَصَّعَّد إلى القمر لتدعوَهم .
يقول الأستاذ الراشد حفظه الله : حركة التبليغ أجادت غرس الثقة في دعاتها ، وبخطبة واحدة يتعلمونها يجوبون الآفاق ويواجهون المجتمع ، وآخرون يأمرون وإخوانهم بضمّ الرأس ، ويقولون لفتى الصحوة : أنت في خندق ، احْترِسْ وأَتْقِن الاخْتباء !! .
وهذا أخ مؤذّن يأسَف ويحزن حزنا شديدا ، إذْ بَلَغَه أن بُرْج ( بِجْ بِنْ ) الشهير في لندن قد مـال ، وأنه مُهدّد بالانهيار فلما سُئل عن سر أسفه وحزنه قال : ما زِلْتُ أُؤَمِّل أن يُعِزَّ الله المسلمين ويفتحوا بريطانيا ، وأصعدَ على هذا البرج كي أُؤَذِّنَ فوقه .
وأعرف ( والكلام مازال للشيخ محمد بن إسماعيل ) : أخا أمريكيا من أصل أسباني ممن أسلم لله ، وحسن إسلامه ، يعيش مع زوجته الأمريكية التي أسلمت أيضا في مدينة ( نيويورك ) وقد انتدب نفسه للدعوة إلى الله ، فيخرج هو وزوجته ويقفان أمام الكنيسة ليلتقط روادَها من الرجال ، ويدعوهم إلى الإسلام ، وكذلك تفعل زوجته مع النساء وذلك كل يوم أحد .
وأعرف – والكلام ما زال للشيخ محمد إسماعيل حفظه الله - أخا يعيش في ألمانيا أحسبه – والله حسيبه – مجتهدا في الدعوة إلى الله غاية الاجتهاد ، حتى لا يكادُ يذوق طَعْمَا للراحة ، وقد اسْتَحْوَذَت الدعوة على كل كيانه ، حتى أَرْهَقَ نفسه ، وشُغِل عن بيته وأهله وولده ، فرأى إخوانُه أن يُمنح عطلة إجبارية ، وذهبوا به صحبةَ أسرته إلى مُنْتَجَع ناءٍ لا يعرفه فيه أحد ، ولا يعرف فيه أحدا كي يَهْنَأَ ببعض الراحـة ، وواعدوه أن يعودوا لإرجاعه بعد أيام ، ولما رجعوا إليه وجدوه قد أسّسَ جمعية إسلامية في هذا المكان قوامها بعض العمال المغاربة وغيرهم ممن انقطعت صلته بالدين ، ففتش عنهم في مَظَانّ وجودهم ودعاهم إلى طاعة الله وألّف بينهم وأقاموا مسجدا كان فيما بعد منطلقا للدعوة إلى لله في تلك البلدة ..ثم ينقل عن الأستاذ الراشد قوله : وقد كنت في الأيام الخوالي ألاطف إخواني فأفتّش عن أحذيتهم ، ليس على نظافتها وصَبْغها ورَوْنَقِها كالتفتيش العسكري ، بل على استهلاكها وتقطّعها والغبار الذي عليها ، وأقلّبها فأرى النَّعْل ، فمن كان أسفل حذائه مُتَهَرِّئا تالفا فهو الناجح ، وأقول له : شاهدُك معك ، حذاؤك يشهد لك أنك تعمل وتغدو في مصالح الدعوة وتروح ، وتطبق قاعدة : { وجاء من أقصى المدينة رجل يَسْعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين } ، وبكثرة حركتك تلف حذاؤك فأنت المجتاز المرضي عندي . قال صباح ( من تلاميذ الأستاذ ) : قد – والله – بعد عشرين سنة يأخذني تأنيب الضمير كلما رأيت حذائي لا غبار عليه وأتذكر ذاك التفتيش . ) أهـ
وإذا تأملنا بعض النصوص الشرعية التي عالجت الوضع الاجتماعي المسلم نجد أنها تركز على الإصلاح كجانب أساس في قيام الدين ، وكما أنه لا إِصلاح بدون صلاح فلا صلاح بدون إِصــلاح ، وفي هذا المعنى يقول الله تعالى : { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر } ويقول صلى الله عليه وسلم : ( الدين النصيحة ) رواه مسلم .
فتأمّل – يرعاك الله – كيف أن خيريّة الأمة مبنية على القيام بواجب الإصلاح وأن الدين مشتمل على أُسُسٍ من أهمها النصيحة ، وعلى هذا بايع النبيَّ صلى الله عليه وسلم بعضُ الصحابة : أن ينصح لكل مسلم .
وقد قرَّرَ علماء الأصول أن الحكمة التي لأجلها شرع الله الأحكام منها ما هو ضروري ومنها ما هو حَاجِيٌّ ومنها ما هو تَحْسِيْنِي ، فأما الضروري فهو أصول المصالح التي لا تقوم الحياة إلا بها ، ولو تُصُوِّر زوالها لأدى إلى فَوات حياة الناس ويصبح عيشهم تَهَارُجا وفوضى .
وأصول الضروريات ترجع إلى حفظ خمسة أمور هي : الدين والنفس والعقل والنسب والمــال ، وبدون حفظ هذه الأمور يعيش الناس عِيشة البهائم الرتّع ، وتفوت حياتهم الكريمة التي أرادها الله لهم .
وجعل العلماء حفظ الدين من أولى الضروريات التي اهتم بها الشرع ، فإن مَدار الأحكام الشرعية على هذا الضروري مثل وجوب لزوم الاعتقاد الصحيح الذي هو أُسُّ الدِّيانة ومرورا بالأركان الخمسة التي عليها يقوم بناء الدين وأركان الإيمان التي بها يصح العمل والإحسان الذي به يقبل العمل ، وكذلك الجهاد الذي هو ذِرْوَةُ سَنَام الدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو رُوح الشرع والنصيحة التي هي الدين كما قال صلى الله عليه وسلم .
كل تلك التكاليف الشرعية مقصودها حفظ الدين ، وفي سياق ذلك يُفهم أن أعمال المكلف لابد أن تدور حول هذا الضروري ( حفظ الدين ) ، والذي يتخيل حياةً حافلة بالأعمال الصالحة دون أن يستحضر هذه النية فيخشى عليه أن يكون داخلا في قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين قيل لهم كُفُّوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية ، وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا } .
بل إنني أزعم أن من سمات العلمانية الواضحة أنها تريد من المسلم أن يعيش إسلامه كطقوس منـزوعةِ المعنى ، بعيدةٍ عن هذا المَقْصِد الذي نحن بصدده ، فيصير الإسلام مجرد فكرة جميلة المبادئ يعيشها المسلم دون التزام بنصرة هذه الفكرة التي يحياها كعاشق حالم ، وإذا بنا نبصر هذه الشخصيات المسلمة الممسوخة التي ليس عندها أدنى استعداد لتقديم أي شيء في سبيل نُصرة قضايا دينها وأمتها .
وليس خافيا أن مجهودات وسائل الإعلام – المعادية للدين – تركّز على جانب خبيث في الفكر الإعلامي يعرف بمصطلح : ( حشد اهتمام الرأي العام ) ، ولو تتبع أيُّ أحد اتجاهات الإعلام ( لا أقول في دول الكفر بل في الدول التي تستظل بمظلة الإسلام ) سيجدها في أقل أحوالها منصبّة في تخدير الشعور الديني ، وإذا زاد الخُبث قليلا فإنهم يعملون على إثارة الغرائز وإغراق النفوس بالشهوات الحيوانية ، وإذا تعاظم الخبث فإنهم يعملون حينئذ على تشويه معالم الدين وقلْب الحقائق ، وهذا لَعَمْري أعظم الأَثَافي .
وكما يحكي بعض الدعاة : أن البرامج الإعلامية غدت ذات تناقضات من قبيل المضحك المبكي ، فلا غَضَاضَةَ عند القوم أن يكون بعد الحديث الديني فيلم أمريكي داعر ، ولا ملامة على مقدمة البرامج المتبرجة أن تُجري حديثا تلفزيونيا مع شيخ مُعَمّم ، ثم تستطيع أن تسمع مذهولا عن مسلسلات تسمى دينية يظهر فيها الأئمة عُشّاقا وأصحاب مزاج موسيقي وتذوق عال لجمال النساء والفن !
إن هذه التناقضات المقصودة يراد منها أن يتجرع المسلم دواء يزيل عنه الجانب التطبيقي من تدينه ، فيصبح مسلما مصليا صائما حاجا لكنه لا يجد تعارضا بين ذلك وبين موالاة الكافرين ومصاحبة الفاسقين وأكل الربا وغشيان الفجور والتحاكم لغير شرع الله عز وجل ، وأصبح من العادي أن أسمع من كثير من الشباب يلبس ملابس لاتَنُمُّ عن دين وحياء وبجانبه اصْطَفَّ فريق النساء المترجلات أو الرجال المتخنثين يمسك بسيجارة عفراء أو يمضغ علكا بطريقة أنثوية ثم يقول : الحمد لله أنا لا أعمل شيئا يغضب الله !
إن هذا الجيل قد تعرض لحملة من التشويه الإعلامي تضارع في شراستها حملة محاكم التفتيش في العصور الوسطى لإِثْنَاءِ الناس عن الإسلام إلى النصرانية ، ولكنها تغلّفت في القرن العشرين بميكيافيلية خبيثة ، إذ صار الفجور عَصْرَنَة وتطورا ، والالتزام تحجّرا ورجعيّة ، وصار حجاب المرأة المسلمة تخلفا والسفور تقدما . والأدهى والأمر أن الإعلام قد علم قوة الدين في قلوب الناس وسرعة استجابتهم لنداء الحق إذا سمعوه ، فأطفئوا ذاك النور الباقي ، ولقّحوا عقول الناس بمصلٍ يقي من التديـن ، فما أن يتعرض الواحد منهم إلى شعاع بسيط من نور الحق إلا ويبادره هواه بالردود المعلّبة : الدين يُسْر ، وإياك والغلو في الدين ، والتطرف عاقبته كذا وكذا .. هذا عدا من جعل بينه وبين التدين ستارا واقيا بزعم أن التدين يقود إلى السجون والمعتقلات .
والأعجب من هذا – إذا لم تتعجب مما مضى – أن كثيرا من الأكاديميات الإسلامية العريقة تمارس ذات الدور الذي تمارسه وسائل الإعلام ، بل إنها قد تفوق بما تبثه في قلوب الشبيبة من احتكار المتخصصين في الشرع للدعوة وضرورة أن يحصل على إذن الدعوة من الجهات التي تُخَوِّلُ للناس أن يدعوا إلى الله ، ناهيك عن الدور التربوي القاصر الذي تقوم به تلك الأكاديميات مع الطلاب الذي يتوقع منهم أن يكونوا دعاة الغد .
وفي بعض المخيمات الصيفية الشبابية التي تقيمها بعض تلك الأكاديميات تحدث المهازل والطوام التي يشيب لها الولدان ، فإذا ما سألت عن القوم وجدت منهم خريجي الشريعة والدعوة ونحوهما .
ولقد سمعت بنفسي في الكلية الشرعية التي درست فيها من طلبتها من يسب دين الله ، أما المتخنثين وتاركي الصلاة والمدخنين فحدث عن ذا ولا حرج . أوليس من الغريب أن نرى تلك الألوف من خريجي الكليات الشرعية هي أول من يحارب الدين ويعاديه ، أوليس الغريب أن نرى العمائم هي التي تحارب صحوة الشباب المسلم .
لقد ضبط في بعض البلاد الإسلامية تنظيما لعبدة الشيطان ، وقد ظهر من التحقيقات أن هذا التنظيم يمارس بالفعل عبادة الشيطان وتقديم القرابين له وفعل المنكرات الشنيعة التي يأمرهم بها شيطانـهم . ولم تكن مفاجأة كبيرة أن يفتي بعض المعممين بأن هؤلاء الشباب الطائش لا يقصد –حقيقةً – عبادةَ غيرِ الله ، وأن مثل هؤلاء لا يُقام عليهم حَدُّ الرِّدَّة ، فقد كان معظم التنظيم من الشباب الصغير الذي عانى من الثراء الفاحش والتفكك الأسري ، وتعرض لغسيل مخ من قبل بعض الأفراد في الخارج والداخل .
ولكن الغريب المستهجن ، والذي ليس له تفسير : أن يفتي نفس ذلك المعمم في حق بعض الشباب المسلم المتهور في تغيير المنكر بأنهم من المحاربين الذين يجب أن يُقْتَلوا أو يُصَلَّبوا أو تقطَّع أيديهم وأرجلهم من خِلاف .
وهكذا تُخْتَزَلُ الحقائق ، ويطيش الميزان ، ويتبين لكل ذي لُبٍّ أن طريق خدمة الدين مآله تقطيع الرقاب ، وأما عبادة الشياطين فهو أمر يمكن للمجتمع أن يَغُضَّ عنه الطَّرْف .
أَوَلَيْس كل ذلك مما يزهد الناس في خدمة دين ربهم وينأى بهم عن القيام بما يُمليه عليه واجبُ وجودهم في هذه الحياة أصــلا . وليس يخفى أن هناك أدوار أخرى خبيثة غرضها التأثير في أخلاق المسلمين ، بزرع الجُبْن والهَلَع والرضا بالضَّيْم ، ونَزْعِ المكارم والمثُل كالشجاعة والنَّجْدة والحَمِيَّة للدين ونحو ذلك ، مما استتبع وجود شخصيات قابلة للمسخ والتشويه .
تبقى الإشكالية التي تحتاج إلى مجهودات ضخمة لعلاجها : وهو كيفية بث هـذه العقيــدة ( أعني عقيدة خدمة الدين ) في قلوب كل المسلمين فضلا عن الدعاة والغيورين على دين الله تعالى .
إن مثل هذا الأمر لو حدث فإن الدعوة ستقطع شوطا واسعا في إعلاء كلمة الله تبارك وتعالى ، إذ لا يزال من أهم العوائق التي تحول بين الدين وبين انتشاره في قلوب الناس أنهم يظنون الدعوة مهمةَ ذوي العمائم والِّلحى ، وأن الواحد ما دام محافظا على شعائر الدين فإنه غيرُ مسئول بعد ذلك عن أية قضية تُلِمُّ بالمسلمين ، وقد قرأنا وجهة النظر هذه بقلم كبار الكتاب والصحفيين يستعلنون بين الناس بأن قضية مثل قضية البوسنة لا يجب أن تشغلنا عن مشاكلنا الداخلية ، بينما نجد دولا مثل النرويج تعتني بمثل هذه القضية لتأثيرها عليها من ناحية نزوح اللاجئين ، فكيف لا تكون هذه القضية ذات أثر علينا نحن المسلمين وهم شركاؤنا في الدين .
لقد رأينا البرتغال تدخل أنفها في قضية تيمور الشرقية ( وهو إقليم ذو أكثرية نصرانية في إندونيسيا يطالب بالاستقلال ) لا لشيء إلا أن هذا الإقليم إِرْث استعماري يربطه بالدولة الأم آصرة الديانة الكاثوليكية .
إن الاهتمام بقضية الدين وبقضايا المسلمين لا تزال تشكل في مجتمعاتنا الإسلامية حِسَّا ثانويا يتوارى وراء الاهتمامات التافهة لشرائح المجتمع ، وكم رأينا أمتنا تَحْشِد شبابها عن بَكْرَةِ أبيهم لتنظيم دورة ألعاب أو استقبال مُطرب عالمي أو تنظيم مهرجان سينمائي أو غنائي ، ولكن عندما يُمس جَنَاب الدين فإن الجمل يَسْتَنْوِق ، وترى الهِرَّ يحْكي انتفاشا صَوْلةَ الأسد :
فما المعنى بأن نَحْيَا فلا نُحْيِي بنا الدينا
وما المعنى بأن نجتـَـرَّ مجـدا ماضيا حينا
وحينا نطلق الآهـــات ترْويحا وتسْكينا
وقد نسي قِطاع كبير من أولئك الذي يهتمون بشعائر الإسلام الظاهرة ( كالصلاة والصيام والحج ) أن من أعظم شعائر الدين الاهتمام بأمر المسلمين ، حتى توعد الله تبارك وتعالى المتقاعسين عن خدمة الدين بالخزي في الحياة الدنيا والآخرة ، قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض ، أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة ، فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل . إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضرونه شيئا ، والله على كل شيء قدير ) .
إن خدمة الدين ليست قضية أصحاب العمائم واللحى – كما استقر في وجدان البعض خطأً – بل هي قضية كل مسلم ينتمي للإسلام لِمَحْضِ كونه مسلما ، وتَرْكِيْبَتَه كمسلم لن تستقيم إلا بتبني هذه القضية بحيث تُضحي حياة المسلم ممزوجة بهذا الهَمّ ، إذا سأل عن طعامه وشرابه فلن ينسى أن يسأل نفسه ماذا قدم لدين الله تبارك وتعالى .
وسيبقى المسلمون يعانون ظُلْمَ الغَيْرِ وبَغْيَه ما لم يوجد هذا الحِسُّ في وجدانهم طَبْعَاً ، يُستنفر عند كل مُلِمَّة ، ويتعاظم عند كل دائرة تدور على المسلمين .
( إن الأمر لم يعد مجرد فساد خلقي وفجور وخمور يمكن أن ينحصر وعظ الواعظين إزاءها – كما يقول الراشد - بل صراع سياسي حزبي منظم لإقامة الدولة الجاهلية ، ولقد أقاموها ، وصراعهم مستمر لإدامتها ، وترسيخها وتربية الأجيال الجديدة على الكفر ، وفي هذا ما يوجب على أصحاب الغَيرة الإسلامية والعقيدة الإيمانية في كل مكان أشياء من التعاونِ والانتظامِ والتخطيطِ ، وتكميلِ النقص التربوي والتوسّع العددي ، في عمليةٍ اسْتِدْراكية ، من خلال ممارسة جهادية سياسية غير متهورة ، تقام بها دولة إسلامية رجالُها دعاةٌ حركيّون .
وكل مسلم مُطالَب بإِبْدَاء أَثَر في هذا الاستدراك ، والمشاركة فيه بنوع من الخير ، حَسَبَ استطاعته ، ولا معنى لحياة امرئ سلبي يرتع في هذه الدنيا أكلا وشربا وتلذُّذا بالنساء والمفكّرون من حوله لا يحاول أن يبدي موقفه منهم ، والسياسيون عن يمينه وشماله بين صالح وطالح يَصْطَرِعون وهو يتفرج .
إن السلبية والانعزالية والتفرج ما هي إلا تعابير مخففة مجازية يأباها الصادقون المحترقون على الأمة بل يعدون ذلك موتا ، فالمرء والسيف ما لم يُبْدِيَا أَثَرَاً : حَيٌّ كَمَيِّتٍ ، مَسْلُوْلٌ كَمَغْمُود .
وبلغ الرافعي مبلغا أقصى ، فرأى وجود السلبي غير مبرَّر ، وأَنْذَرَكَ بوجوب الـجلاء ، وأنك : ( إن لم تُزِدْ شيئا على الدنيا كنتَ أنت زائدا على الدنيا ) أهـ
أين الخلل ؟!
وفي ظني أن العصبية للدين توارت وراء العصبيات الأخرى التي تَرَبَّى عليها المسلمون ، كعُبِّيَاتِ الجاهلية الحديثة من قَوْمِيّة وشُعُوبيّة وقُطْرِيّة بل وحِزْبِيّات ضيقة ، حتى تضاءلت مساحة الإسلام في بُؤْرة الشعور . وردُّ الفِعْل التَّلْقائي عند أي أزمة تَنْـزِل بالإنسان يكون قويا بقدر المساحة التي تحتلها تلك الأزمة من بؤرة شعوره ، ولا شك أن مشاعر المسلمين تحتلها أولويات أخرى غير دين الله تعالى ، هذا ينبغي ألا نماري فيه – حتى على صعيد الملتزمين والغيورين على الدين – كنقطة انطلاق لعلاج هذا الخلل ، أما إذا توارينا زُوْرَاً وراء الادعاءات الكاذبة فإنها لن تخدع رب العباد ولن تغني عن واقع الأمر فتيلا .
وأعياني أن أبحث في علاج هذا الداء العُضال الذي تعانيه الأمة الإسلامية حيث لا أستثني نفسي منه ، ولكنني من استقراء كثير من النصوص الشرعية ومن سيرة السلف ومراجعة حال النفس وأحوال كثير ممن حولي وجدت أن أساس تراجع الدين في سلم أولويات المسلمين يرجع إلى مزاحمة الدنيا للدين ، وهو ما يفهم من قوله تعالى : { أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة } في معرض لوم المتأخرين عن الجهاد في سبيل الله . ولعمري إنها آفة الأولين والآخرين ، وفي حُبِّها تَجَنْدَلَ الصَّنَاديد صَرْعَى كأنهم أعْجَازُ نخْل خاوية ، وما حَذِرَها امرؤٌ إلا كان أولَ فوْز يَحُوزُه تَفَرُّغُ قلبه للاهتمام بما أمره الله به .
والعجيب أيضا أن الخلل في مسألة تفضيل الدنيا على الآخرة لا يرجع إلا عدم فهم النصوص أو عدم الاقتناع بها ، ولكنه يرجع إلا التركيبة النفسية والاجتماعية التي ينشأ عليها الإنسان .
ولقد رأيت أفرادا من أُسَرٍ واسعة الثَّراء لكنهم تَرَبَّوْا على يَدِ آباء ذوي حصافة ودراية بمكائد الدنيا ، فنشأوا على البساطة وعدم التكلّف ، بل إنهم إذا تعرضوا لبلاء من بلاءات الدنيا لم نر لهم جزعا كجزع عبدة الدرهم والدينار .
وآخرون من ذوي الإِمْلاق لكنهم تَنَشَّأوا على حب هذه الفانية والتعلق بملذاتها وتمني الحصول على كل شهواتها ، فإذا ما أَلَمَّتْ بهم مُلِمّة – وإن دَقّت – رأيتَ السَّخَطَ يعلن نفسه بعبارات كفرية جريئة لا يَلْفِظُها إلا من خلا قلبه من الإيمان والرضا بالقضاء والقدر .
إن هذه التركيبة النفسية هي التي تسهّل وجود الخونة بين أفراد الأمة ، كما أن هذه التركيبة النفسية كفيلة بأن تجعل صاحبها يتخذُ من الدنيا كعْبةً يستقبلُها ، فيتعبّدَ في مِحْراب شهواتها مخْلِصا ، لا يخطُر له الدين على بال فضلا عن أن يبذل له أو يجاهد في سبيله .
وكذلك التركيبة الاجتماعية التي وضعت مفاهيم في الرَّفاه ومستوى المعيشة لا يعرفها شرع ولا عرف ، فأضحى كل الناس يتسابقون ويتراكضون في حَلْبَة السَّبْق لتحقيق هذا المستوى فإذا ما عَرَضَ لهم من أزمات المسلمين عارض تحجّجوا بأن ضروريات حياتهم لما يسْتكملوها وأن للدين رب يحميه . ولن تَعْدَم أن تسمع أمثالا تُصاغ من قبيل : ما يحتاجه بيتك يكون حراما على المسجد ، وجُحَا أَوْلى بِلَحْمِ ثَوْرِه ، في خَسَاسَةٍ لا تُعْهَد إلا عند بني إسرائيل .
وحتى نُصلِح هذا العِوَجَ فإننا لا بد أن نمارِس دورا تربويا واسع المدى ، على نطاق الأفراد والمجتمعات ، لإصلاح هذه التركيبة الخاطئة ، ومقاومة زحف الشهوات المهلك الذي هو عَرَضٌ من أعراض حب الدنيا وداء عُضال في نفس الوقت .
ومن أساسيات الدور التربوي الذي يجب أن يمارَس على نطاق الأفراد والجماعات لإصلاح التركيبة النفسية والاجتماعية ما يلي :
(1) تربية النشأ الصغير على مثل التضحية في سبيل الدين والبذل له والجهاد في سبيله : ويكون ذلك بالأساليب الآتية :
- تضمين المناهج العلمية والأدبية هذا المنحى التربوي ، سواء على نطاق التعليم الرسمي أو الأهلي .
- وجود جهد أدبي قصصي للأطفال يعالج هذا الجانب في الإصدارات الأدبية .
- تفعيل دور الناشئة عبر تشريكهم في قضايا المسلمين ومطالبتهم بالبذل ولو بالقليل ، ومما أبهجني أن أطفال النرويج استطاعوا جمع الملايين من الدولارات لأطفال البوسنة في حَمْلَةِ تبرُّعات مَرْعِيّة من وزارة التعليم أثبتت أن توجيه الناشئة كفيل بزرع نوازع الخير في قلوبهم ، وأَدْمَى قلبي أَنْ لم يكن من بين بلاد المسلمين من يوجّه أطفالَنا هذه الوِجْهـة ، وأنى لهم ذلك والكبار في سُبات ؟!
- تكثيف دور الأسرة في غَرْس قِيَمِ التضحية والبذل والعطاء للدين ، ولا شك أن أُولى المبادئ التي يتعلمها الطفل إنما هي التي يَرْضَعُها من والديه ارْتِضَاعـا .
(2) ممارسة دور مماثل لهذا الدور الذي يمارس مع النشأ الصغير مع الشباب ، وخاصة ذوي الميول الدينية ، لأن هؤلاء بطبعهم يميلون إلى تبنّي قضايا الدين .
(3) تكثيف الدور الإعلامي الإسلامي في عرض قضايا المسلمين ، بحيث يتواجد الصوت الإسلامي الذي يشرح القضية من وِجْهَة نظر المسلمين لا على هَوَى : ( رُوْيْـتــَرْ ) و ( أَسُوْشِيْتِدْبرسْ ). ولنا مع هذا الدور عَوْد في وسائل الدعوة .
(4) تكثيف الأدبيات الراقية التي تخاطب كل المستويات ، فمن شأن هذه المؤلفات – من نثر وشعر – أن تستنفر الوجدان وتحفز الهمم .
(5) رعاية المؤتمرات التي تعقد لمناقشة أو مناصر قضايا المسلمين ، لأن مثل ذلك له دور في تحريك الهم ورفع مستوى الإحساس بالقضايا المعالجة .
(6) تحريك دور الهيئات والجمعيات الإسلامية وتطوير أدائها ومعالجة العقبات التي تعترض دورها التربوي في تناول قضايا المسلمين .
(7) ضرورة مراجعة مفردات الخطاب الديني المتمثل في الخطبة والدرس وتقويم الاتجاه الإصلاحي الذي يركّز على مسائل أساسية في الدين مع عدم الإحاطة به ، وضرورة أن يستشعر المستمع العادي ثِقَل الهَمِّ عبر الخطبة والدرس ليبدأ التشارك في قضايا المسلمين .
(8) على صعيد الموضوعات التي يجب تكثيف طرحها على الناس : الزهد في الدنيا وملذاتها ، ولعمري إن هذه القضية من أساسيات الدين ، ولم تكن مواعظ القرآن والسنة إلا مُدَنْدِنَةً حولهما . ومع وجود المواعظ الزهدية لا بد أن توجد النماذج الزاهدة التي تذكر الناس بالله والدار الآخرة ، ويجب استغلال المناسبات التي تحضر فيها القلوب كمناسبات احتضار المرضى وعند الموت والدفن في التزهيد في الدنيا والترغيب فيما عند الله تبارك وتعالى .
(9) تنشيط دور الكتيّب والشريط الإسلامي ، وأن تكون الموضوعات التي تتناولها تلك الوسيلتان ذات قسط من قضايا المسلمين ، وكذلك في علاج التركيبة النفسية والاجتماعية الخاطئة في المجتمع المسلم .
(10) استغلال المناسبات الاجتماعية – كعقود الزواج والزيارات ونحوها – في طرح الموضوعات ذات الصلة .
وكما نرى من تلك المقترحات أنها رهينة الظرف ، فاجتهاد الداعية في استغلال الأفكار له دور في توليد كثير من الحلول والعلاجات التي من شأنها أن تؤثّر تأثيرا شديدا في تلافي الخطأ التربوي الذي أفرز هذا الجيل الذي لا يعْبأ إلا بشهواته .
القاعدة الثانية
(تَعَالَوْا إلى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بيننا وبينكم )
مما لا شك فيه أن الساحة تشهد زَخَمَاً في التحركات الدعوية النشطة ، ومنافسة في وجوه البرِّ والخير ، ومسابقة إلى صَبْغِ المجتمع بالصِّبْغَة الإسلامية ، وخلْع سِرْبَال الجاهلية عنه .
ولن تخطئ عينك أيها القارئ الكريم رؤية اختلافات في موضوعات الخطاب الدعوي التي تسمعها من الدعاة على اختلاف مشاربهم ، مما قد يظنه البعض تناقضا أو خللا في مناهج تلك الحركات الإسلامية فيَعْمِد إلى التشغيب ووصف الحركات الإسلامية بصفات الأحزاب السياسية التي تسعى إلى الزعامة والكرسي وغير ذلك من الكلام المريض الذي لا يصدر إلا عن قلب مريض خلا عن الغَيْرة على دين الله تبارك وتعالى .
ولاشك أن بعض الحركات تُصِرُّ على مسالك في الدعوة تتناقض مع توجهاتها الدعوية مما يفقدها المصداقية على مر الأيام ولكنه ليس بمسلك عام ، ولا قاعدة مطردة فالحق أن مناهج الحركات الإسلامية العاملة على صعيد الساحة الدعوية ممن ينتسب إلى أهل السنة والجماعة لا تتعارض في الخطوط العامة مع أصول أهل السنة والجماعة ، وغاية ما في الأمر أن الحركات الإسلامية تختلف فيما بينها حول الأولى بالاهتمام والصدارة في الخطاب الدعوي .
ونود هنا أن نؤصل للخطاب الدعوي وآليته الذي بها تستقر اهتمامات الدعاة ، وتتوازى مفردات خطابهم بما لا يؤدي إلى خَلَلٍ مُرْبِك ، أو تصادم مُؤَخِّر .
وما سنتحدث عنه ليس خطا نلزم به كل الحركات الدعوية بقدر ما هي رؤى أرى أنها محل إجماع ، أو ينبغي أن تكون محل إجماع ، أدعو الأفراد ( أولا بحكم كون هذا الكتاب يخاطبهم بالدرجة الأولى ) والجماعات أن تتجاوب معه ، أو تتبنى بحثه والتشاور في شأنه ، لعله قد يتمخض عنه استقامة وتعاونا على جادة وكلمة سواء .
إن دين الإسلام واضح الأركان ، بَيِّنُ المعالم ، وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم لا يجهله إي داعية إلى الله تبارك وتعالى .
وما إخال داعية يماري أن النبي صلى الله عليه وسلم دارت دعوته على التوحيد وكان قطب رحاها تمحيص التوجه إلى الله تعالى في العبادة والطاعة ، وعدم الحيد عن الإخلاص للمولى ، تجاه أي طاغوت يستحوذ على وجدان الإنسان وينال من تعظيمه المطلق لله عز وجل .كما لا أحسب أن هناك من ينازع أن حاكمية الله تبارك وتعالى على الخلق ، وانضواء الخليقة تحت حكم شريعته من آكد ما أصله القرآن والحديث النبوي ، ولنطلق على هذا الخط أو الأصل ( أصل التوحيد ) .
ولا يمكن أن يدور بخلد أي منتم لدين الله تبارك وتعالى أن يتخذ أسوة وقدوة حياتية في هذه الدنيا غير النبي صلى الله عليه وسلم ، أو أن يتلقى عن أحد شرعا أو طريقة حياة أو منهج اتباع خلا نبي الهدى صلوات الله وسلامه عليه ، ولنطلق على هذا الأصل ( أصل الاتباع ) .
كما أن الجميع مجمع أن الأنبياء والرسل لم يأتوا بالشرائع لأجل أن تتزين بها الكتب ودور العبادة ، بل لأجل أن يوجد لها واقع ملموس في دنيا الناس ، ولأجل أن توجد النماذج البشرية الكاملة التي اصطبغت بمنهج التزكية الشرعي متأسية بالأسوة العليا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ومن أوصانا باتباعهم والتأسي بهم وهم السلف الصالح من الصحابة والتابعين من أهل القرون الخيرية المباركة ، ولنطلق على هذا الأصل ( أصل التزكية ) .
إن هذه الأولويات ليست من قبيل الأولويات المتغيرة ، أي التي تقبل النقل والتبديل عند حصول الغايات والأهداف ، بل هي من الأولويات المطلقة التي يسميها خبراء الاجتماع والسياسة بالاستراتيجيات الكبرى ، مثل أمن الدولة والأمان الاجتماعي والأمن الغذائي ، أو ما يسميه الفلاسفة بالثوابت المطلقة أو البدهيات أو المسلمات أو ما يمكن أن نستعير له اصطلاح الفقهاء : الضروريات الأصيلة . وعليه فإن الدعوة تتبنى مثل هذه الخطوط وإن رزقت التمكين ، لأنها من أصول الدين وثوابت الشرع المطهر .
وبإزاء هذه الخطوط العريضة يمكننا أن نتصفح الواقع الذي تحياه الأمة الإسلامية بل البشرية على نهج سواء .
فتوحيد الله مختل في القلوب ، والإخلاص في التوجه إلى الرب تبارك وتعالى غير متأصل في النفوس كمنهج حياة ، وحاكمية الله مهزوزة في نفوس الكثير من المسلمين أو قل : إنها غير واضحة المعالم ، ومرجعية النبي صلى الله عليه وسلم أو الشرع بمجمله أمر محتمل عند طائفة متكاثرة من المثقفين . وغالبية المسلمين لا يقومون بأي مجهود جاد في تطهير نفوسهم وتزكيتها بتطبيق أحكام الشرع المطهر والقيام بما أمر الوحي ونهى ، بل يهيمون في أودية الدنيا سعيا وراء المادة والشهوة .
وكل ما نراه من ظواهر أخرى مختلة في المجتمع فما هي إلا نتاج لاختلال تلك الأصول ، واهتزاز تلك الثوابت في قلوب الناس أو لنقل : في ضمير المجتمع المسلم .
وبعض هذه الظواهر آخذ بِحُجَزِ بعض ، ورابطة العقد إنما هي تلك الأصول والثوابت ، فمتى انقطع منها شيء انفرط العقد أيما انفراط .
وعلى أساس هذا التنظير الذي استعرضنا فيه الواقع الإسلامي يجب أن يرتب الدعاة أولويات اهتماماتهم في الخطاب الدعوي العام . أما الخطاب الدعوي الخاص والذي يتضمن الدور التربوي الدقيق الذي يمارسه الدعاة في تهيئة وتنشئة أجناد الحق فله استراتيجية خاصة تناسبه ، وسنتحدث عنه بالتفصيل إن شاء الله في الطريقة الحادية والعشرون ( العناية بالشباب ) .
ومعنى اهتمام الدعاة بهذه الأصول التي ذكرناها ( التوحيد ، الاتباع ، التزكية ) أن يكون خطابهم الدعوي ملاحظا لها متبنيا إياها في كل مداولة ، معتدا بمضمونها ، منافحا عن سمات هذه الأصول ومظاهرها رابطا كل فروع الدين بِآخِيَتِهَا .
وأهداف الحركة الإسلامية ووسائلها يجب أن تتسق مع هذه الأصول الجامعة ولا تصطدم مع ثوابتها ، فالتمكين الذي ينشده كل مسلم وعاقبة النصر وظهور الدين وهيمنة أحكامه وتعبيد الخلق لرب الخلق ..كل هذه الأهداف مستقاة من تلك الأصول دائرة في فلكها مهتدية بنورها .
كما ينبغي أن تتبنى الحركات الإسلامية هذه الأصول دستورا عمليا تراقب على ضوئه الخطوط العامة التي ترسمها لكوادرها في أي مشروع إسلامي .
وإذا كان الفقهاء يستخدمون عبارة : ( هذا الفرع مخالف للأصول ) أي الأدلة والقواعد العامة والنظريات الكلية ، فبإمكان الدعاة أن يستخدموها بذات النسق قائلين : هذا التصرف الدعوي مخالف للأصول الدعوية ، أي القواعد العامة التي تقوم عليها الدعوة الإسلامية .
فإذا تناصح الدعاة مثلا فما أحراهم أن يجعلوا هذه الأصول مادة نصحهم ، فلو انتهج داعية منهجا مبتدعا في الدعوة – كالدعوة إلى الذكر الجماعي - فيذكر بأن هذا المسلك يخالف أصل الاتباع الذي جعلناه خطا أصيلا نتمسك به لضمان نقاوة الخط الدعوي وثبات مصداقيته .
وليس معنى ما سبق أن نجحد إمكان الاختلاف بين صفوف الحركة الإسلامية فيما يسوغ فيه الاختلاف ، أو نحلم بواقع دعوي خال من أية اختلافات أو تباينات في الأفكار والرؤى ، فذلك فوق كونه غير واقع قدرا فهو غير مأمور شرعا .
بل المأمور شرعا أن يُرد الخلاف إلى الله والرسول صلى الله عليه وسلم ؛ قال الله تعالى : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } ، وأن يبذل كل مجتهد الوسع في البحث عن الحق وسلوك دربه وسبيله ؛ قال الله تعالى : { فاتقوا الله ما استطعتم } ، وما عليه من جناح بعد ذلك إن أصاب الحق عند الله أو أخطأه ، بل هو في كلتا الحالين مأجور غير مأزور مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم : ( إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد ) .
والواجب أيضا أن يتغافر الدعاة فيما بينهم وأن يتخلقوا بآداب الإسلام وفضائل الأخوة الإيمانية ومهيع السلف الصالح في الخلاف الرشيد .
وأنا أظن الصحوة الإسلامية في واقعنا الراهن قد تداركت كثيرا من مظاهر التعصب المقيت الذي هو من ميراث عبية الجاهلية وفخرها بالآباء ، وصار ورود الحق والصدور عنه جادة يتواصى عليها جل الدعاة شفقة منهم على حال الإسلام والمسلمين ، وغيرة على ما آل إليه أمرهم بسبب الاختلاف المذموم .
ولكن ينقصهم أن يزيدوا من التواصي بالحق في هذا الباب ، وأن يجعلوا من مقاصد اهتماماتهم في المرحلة الراهنة والقادمة توحيد الصف وتصفية المناهج الفكرية والدعوية من رواسب الجاهلية الممقوتة وآثار المخالفات الشرعية وبقايا الحزبية الضيقة .
ولعمري إن ذلك إن لم يكن واجبا شرعيا فهو ضرورة دعوية يمليها الواقع الذي انتهز فيه أعداء الإسلام تشرذم الدعاة وتفرق الحركات الإسلامية فرصة للكيد الخبيث والمكر السيء .
ولئن لم يتدارك الدعاة فرصتهم في نبذ الجاهلية المنتنة المتمثلة في الأهواء الدفينة وشهوات النفس المسيطرة على إرادات العقل فليس لهم من أمل في كسر قوة الكفر والظلم ودحر جحافل الشر التي تمالأت على عداوتهم وحربهم .
القاعدة الثالثة
حكم ابتكار الوسائل الدعوية
إن الشريعة الإسلامية الغراء قد حوت من مقتضيات الحفظ والصيانة ما يضمن لها الاستمرار والخلود ودوام البهاء والنضارة . ومن هذه المقتضيات : النهي عن الابتداع في الدين والأمر بلزوم حدود ما شرع الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم دون زيادة أو نقصان ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا حدثتكم حديثا فلا تزيدن علي ) ، وقال صلى الله عليه وسلم : ( وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ) ، وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : ( اتبعوا ولا تبتدعوا ، فقد كفيتم ) .
وبإزاء هذه النصوص يزداد حرص أهل السنة على لزومها وعدم تعديها خشية الوقوع في مذمة الابتداع ، وقد تداعى الدعاة في هذا العصر على ضرورة نقاء الصحوة من شائبة بدعة أو تهمة إحداث في الدين ، لأن من شأن ذلك أن يعود باللائمة على مصداقية الصحوة الإسلامية نفسها ، وبالتالي على أهليتها أن تكون حجة لله على الخلق .
والذي لاشك فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينص على بدعية كل البدع بأن عينها وبينها ، لاستحالة ذلك مع تمادي الزمان وتولد المحدثات الكثيرة ، فكان تنبيهه صلى الله عليه وسلم على كليات القضية وأصول الابتداع ليقيس السني بعد ذلك ويتحرى الاتباع كيفما تيسر .
والذي لاشك في أيضا أن جانب الابتداع مبني على الاحتياط لا التساهل ، فإذا تفاوت القول في قضية بين تبديعها وعدم تبديعها فالأحوط في جنب المتحري للسنة أن يزهد فيها وأن يلتمس البراءة من الابتداع ما استطاع إلى ذلك سبيلا .
لكن سمات الفعل المبدع وملامحه قد يختلط بملامح وسمات الفعل المشروع ، ويتجاور ذلك مع عدم وجود دليل خاص على التبديع ، بل قد يتضافر مع ذلك اجتماع جمهرة من أهل العلم على اعتبار مشروعية ذلك الفعل في ظل تبديع الآخرين ، فوجب عندئذ أن يأخذ الدعاة حِذرَهم ويسلكوا سبيل الأناة في تناول هذا الفعل ، وألا تأخذهم العزة بالإثم في سماع الهدى وتفيؤ ظل الشريعة .
وفي المقابل لا بد أن يتهادن الدعاة فيما اختلفوا فيه من الحق ، وأن يتركوا التهاجر عند كل نازلة تنـزل بالمسلمين ، وألا يفزعوا إلى التبديع سلاحا يشهرونه عندما يعييهم الدليل ، فإن شأن العلماء التريث فيما لم يستبن لهم حتى يستجلوا غامضه فيكون الإنكار على بصيرة من الهدى والبينـات .
وإذ نحض على التثبت – علما وعملا – فيما نأتي وما نذر من أمور الدعوة قبل اللجوء لسلاح التبديع ، فإننا نحذر – وبصرامة – أن يتخذ الدعاة من منهج التغافر في المختلف فيه تُكَأَةً للتوسع في استعمال الوسائل بزعم أنه لم يرد دليل بحظرها . وقد ابتليت الدعوة بزمرة من الناس تمالأت على هذا المهيع حتى وصل بها التساهل إلى الوقوع في المحرم الصريح بزعم أنه البديل عن جاهليات المجتمع المعاصر ، ولمثلهم يقال :
أوردها سعد وسعد مشتمل ما هكذا تورد يا سعد الإبل
وقد تعرضت اهتمامات دعاة الصحوة الإسلامية لاستقطاب حاد حول قضية الوسائل الدعوية ، وهل يجب أن تكون توقيفية ، أم أنه يجوز اختراعها وابتكارها دون خوف من مذمة الابتداع ؟ والحق الذي لا مرية فيه أن هذه المسألة من المسائل التي ينبغي ردها للكتاب والسنة ، واستقراء عمل السلف وسبيلهم مع اعتبار كلام الأئمة المعتبرين من أهل السنة والجماعة .
وفي ثنايا البحث لا بد أن نفرق بين ما هو من تخريج المناط وبين ما هو من تحقيقه ، فالأول بحث في دلالة الدليل ، والثاني بحث في تحقق وقوع الدليل على الفرد الخارجي ( أي على المسألة الواقعة بالفعل ) .
وكثيرا ما يكثر اللغط في مسألة لعدم التفريق بين هذه الأمرين ، فيكون الفريقان كمثل العميان الذين أمسك كل منهم بعضو من الفيل وأخذ يصف ما أمسك به متهما صاحبه بالجهل بما يصف .
فمن المعلوم أن من أهم أمارات البدعة عدم ورد الدليل الشرعي على اعتبار أصلها أو وصفها فيظن المبتدع أنه بنيته الحسنة في اختراعها قد استزاد بابا للخير وانفرد بطريق إلى الله قد هجرها السالكون ، فهذه هي البدعة الأصلية ، التي لم يعتبرها الشرع بأي وجه من الوجوه . فإذا ما اعتبر الشرع أصلها دون وصفها ( كالذكر الجماعي دبر كل صلاة فرض ) فهذه البدعة الإضافية وهي التي شهد الدليل على جواز حقيقتها كمطلق الذكر ولكنه لم يشهد على اعتبار وصفها ككون هذا الذكر جماعيا ودبر كل صلاة فرض ، فجمهور أهل العلم على أن مذمة الابتداع تلحقها أيضا ، ويفهم من نقل الشاطبي رحمه الله لآثار السلف في هذا الباب عدم اختلافهم في ذم البدعة الإضافية أيضا ، ولولا الاحتياط في نقل الإجماع لاعتبرته إجماعا عن السلف .
وعلم بالاستقراء أن الأوصاف التي بابتداعها تكون البدعة إضافية هي الأوصاف التي توجد بها العبادة وهي : (1) المقدار (2) الكيف (3) الزمان (4) المكان (5) السبب ( الوسيلة ) (6) الغاية – أي النية – (7) الجنس ( الماهية ) .
والمعنى أن هذه الأوصاف متى لم يرد باعتبارها دليل شرعي تكون البدعة العبادة بذلك بدعة إضافية . وما يعنينا في هذا المقام هو الوسيلة ، إذ تقرر في علم أصول الفقه أن الوسائل لها أحكام المقاصد ، والمراد دخول الوسائل في إطار شرعية المقاصد ، وفرعوا على هذا الأصل : أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، وأن ما لا يتم الحرام إلا به فهو حرام .
والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن : هل هناك تعارض بين هذا الأصل ( الوسائل لها أحكام المقاصد ) وبين كون الإحداث في وسيلة العبادة يجعل العبادة داخلة في إطار البدعة ؟
إن الإجابة على هذا السؤال تحتاج إلى تقرير أمرين :
الأول : أن هناك فرق بين البدعة وبين المصلحة المرسلة والاستحسان عند من يقول بهما ، يقول الشاطبي رحمه الله : فإن كثيرا من الناس عدوا أكثر المصالح المرسلة بدعا ونسبوها إلى الصحابة والتابعين ، وجعلوها حجة فيما ذهبوا إليه من اختراع العبادات ..ثم أخذ الشاطبي رحمه الله يبين أصل المصلحة المرسلة وأن الاعتداد بها يرجع إلى اعتبار المناسب الذي لم يشهد له أصل معين ثم ساق عشرة أمثلة جرت في عهد الصحابة خرجت على جهة المصلحة المرسلة ولم تعتبر من البدع المحدثة ككتابة المصحف وتضمين الصناع ونحو ذلك ، وبين أن ضابط المصلحة المرسلة أنها لا تنافي أصلا من أصوله ولا دليلا من دلائله وأن عامة النظر فيها ( المصلحة المرسلة ) إنما هو فيما عقل معناه وجرى على ذوق المناسبات المعقولة التي إذا عرضت على العقول تلقتها بالقبول فلا مدخل لها في التعبدات ولا ما جرى مجراها من الأمور الشرعية ، لأن عامة التعبدات لا يعقل لها معنى على التفصيل كالوضوء والصلاة والصيام .
الثاني : أن حاصل المصلحة المرسلة – كما قال الشاطبي – يرجع إلى حفظ أمر ضروري ورفع حرج لازم في الدين ، وأيضا مرجعها إلى حفظ الضروري من باب ما لم يتم الواجب إلا به .. فهي إذا من الوسائل لا من المقاصد .. ثم قال : وأما كونها في الضروري من قبيل الوسائل وما لا يتم الواجب إلا به : إن نُص على اشتراطه فهو شرط شرعي فلا مدخل له في هذا الباب ، لأن نص الشارع فيه قد كفانا مئونة النظر فيه .
وإن لم ينص الشارع على اشتراطه فهو إما عقلي أو عادي ، فلا يلزم أن يكون شرعيا ، كما أنه لا يلزم أن يكون على كيفية معلومة ، فإنا لو فرضنا حفظ القرآن والعلم بغير كتب عاديا مطردا لصح ذلك ، وكذلك سائر المصالح الضرورية يصح لنا حفظها ، كما أنا لو فرضنا حصول مصلحة الإمامة الكبرى بغير إمام على تقدير عدم النص بها لصح ذلك ..ثم قال : إذا تقررت هذه الشروطعلم أن البدع كالمضادة للمصالح المرسلة ..
ثم أخذ الشاطبي يفرق بين الاستحسان وبين الابتداع فقال : فإن الاستحسان لا يكون إلا بمستحسن وهو إما العقل أو الشرع . أما الشرع فاستحسانه واستقباحه قد فرغ منهما ( يعنى أنهما هما المعتبران دون غيرهما ) لأن الأدلة اقتضت ذلك ، فلا فائدة لتسميته استحسانا ، ولا لوضع ترجمة له زائدة على الكتاب والسنة والإجماع وما ينشأ عنها من القياس والاستدلال فلم يبق إلا العقل هو المستحسن : فإن كان بدليل فلا فائدة لهذه التسمية ، لرجوعه إلى الأدلة لا إلى غيرها ، وإن كان بغير دليل فذلك هو البدعة التي تستحسن .. ثم ساق كلاما طويلا مفيدا في تعريفات الاستحسان عند العلماء واختار أن الاستحسان المعتبر هو ما استند إلى أصول شرعية وثوابت دينية وأن الحكم بمجرد الهوى وميل الطبع هو عين الابتداع .
مما سبق يمكننا تحرير المسألة كالآتي :
(1) إن الوسيلة من جهات الابتداع التي إذا أُحدث فيها كانت البدعة إضافية ، وقاعدة : الوسائل لها أحكام المقاصد صحيحة مطردة .
(2) إن قاعدة الوسائل لها أحكام المقاصد إنما هو في الوسائل الشرعية ( كالشرط الشرعي والسبب الشرعي ) أما الوسائل العقلية والعادية فلا تدخل في تلك القاعدة ، بل قد يكون لها حكما مستقلا يخالف حكم مقصدها .
ويمكننا صوغ القاعدة كالآتي : الوسيلة إذا لم يتحقق المقصد إلا بها شرعا فالإحداث فيها ابتداع مذموم ، وإذا تحقق المقصد بها أو بغيرها ولم يدل دليل على اعتبارها أو عدم اعتبارها فالإحداث فيها ليس من الابتداع المذموم .
وبهذا تلتقي القاعدتان ولا تتعارضان .
وبذلك نعلم أن الوسائل الدعوية يجب أن تخضع لهذا التقدير العلمي ، وألا تكون خاضعة في منهج الدعاة إلى الهوى أو الطبع أو ما استقر في أعرافهم الدعوية ، فلا حاكم بينهم إلا شرع الله تبارك وتعالى .
ولكن قد يختلف العلماء في تبديع مسألة ، فماذا يكون موقف الداعية من هذه المسألة ؟ والجواب أنه لا بد من التفريق بين ما هو بدعة في أصول الدين وفروعه ، فالابتداع في أصول الدين دائر بين الفسق والكفر والضلالة المحضة ، أما الابتداع في فروع الدين إن كان في أصول المسائل ( أي المقاصد ) كأصول العبادات مثل الصلاة والذكر ونحو ذلك فهي حرية بوصف الضلال الذي ألصقه الرسول صلى الله عليه وسلم بالبدعة . أما إذا كانت فيما دون ذلك فليس الخطب فيها كغيرها .
وقد قرر الإمام الشاطبي رحمه الله أن أحكام البدع ليست على رتبة واحدة وأن منها البدع المحرمة ومنها البدع المكروهة وأن المحرم منها ينقسم إلى صغير وكبير ، وإذا تقرر ذلك كان تصرف الداعية مع تلك المسألة المختلف فيها بحسب مكانتها وجلالة أمرها .
ثم إن البدعة تنشأ على أربعة أوجه – كما قال الشاطبي - :
أحدها : وهو أظهر الأقسام أن يخترعها المبتدع .
والثاني : أن يعمل بها العالم على وجه المخالفة فيفهمها الجاهل مشروعة .
الثالث : أن يعمل بها الجاهل مع سكوت العالم عن الإنكار وهو قادر عليه ، فيفهم الجاهل أنها ليست بمخالفة .
الرابع : من باب الذرائع ، وهي أن يكون العمل في أصله معروفا إلا أنه يتبدل الاعتقاد فيه مع طول العهد . ثم يقول الشاطبي رحمه الله : إلا أن هذه الأقسام ليست على وزان واحد ، ولا يقع اسم البدعة عليها بالتواطؤ بل هي في القرب والبعد على تفاوت . فالأول هو الحقيق باسم البدعة فإنها تؤخذ علة بالنص عليها ويليه القسم الثاني ثم الثالث فالرابع . قال : وأما القسم الثاني والثالث فالمخالفة فيه بالذات والبدعة من خارج ، إلا أنها لازمة لها لزوما عاديا ، ولزوم الثاني أقوى من لزوم الأول .
وقد ظهر لي في بعض المسائل أنها من البدع التي لا يجوز إقرارها ، مثل إمساك ورقة فيها أسماء أشخاص عند ذبح الأضحية وذكر هذه الأسماء عند الذبح ، فلما راجعت فيها الشيخ العلامة ابن باز رحمه الله رد في فتوى مكتوبة لدي أن هذا ليس ببدعة وأنه يشهد له أصل مثل قوله صلى الله عليه وسلم عند ذبح أضحيته : ( اللهم هذا عن محمد وآل محمد ) .
فعلمت حينها أن أمر التبديع ينبغي عدم التسرع فيه والهجوم على أحكامه . وقد استبان لنا مما سبق أن الداعية ينبغي أن يتصف بما يلي :
أولا : الإلمام بالقواعد الأصولية التي تحكم مسائل البدعة والتبديع .
ثانيا : أن يأخذ في الاعتبار تفاوت البدعة في مراتبها .
ثالثا : ألا يتسرع في تبديع مسألة إلا بعد البحث التام لجوانبها ومراجعة أهل العلم بها .
رابعا : أن يتسم بالحكمة في التعامل مع المخالف ( المبتدع ) .
وقد حرصت أن أضع هذه القواعد وأن أحررها مجافيا التحيز لأحد ، مفضلا عدم التفصيل وضرب الأمثلة حتى لا يتكئ على هذه التفاصيل متكئ فيحسب نفسه أولى بكلامي من غيره ، وكان هدفي ( الذي يجب أن يعلم ) أن ينضبط الدعاة بالقسطاس المستقيم وألا يشوهوا الدين بالتوسع في ابتكار الوسائل الدعوية المبتدعة ، وألا يجوروا على بعضهم إذا حصل الخلاف في بعض المسائل والله تبارك وتعالى هو المسئول أن يصلح أحوال المسلمين .
القاعدة الرابعة
( احتراف خدمة الدين )
تتواتر النصوص الشرعية الآمرة بإتقان العمل وإحسانه بقدر نفس النصوص الآمرة بالعمل نفسه ، يقول تبارك وتعالى : ( وأحسنوا إن الله يحب المحسنين ) ، وقال : ( وجاهدوا في الله حق جهاده ) ، وقال : ( اتقوا الله حق تقاته ) ، وقال : ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين ) ، وقال صلى الله عليه وسلم : ( إن الله كتب الإحسان في كل شيء ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة ) .
ومن شأن الأذكياء ذوي الهمم العالية الراقية أن يحرصوا على إتقان أعمالهم ، وأدائها على الوجه الذي يحسون معه ببذل كل الوسع وعدم القدرة على التدارك . وفوق كون ذلك مأمورا شرعيا ، فهو من كمال مروءة الإنسان أن يكون العمل عنوانا على جلالة الهمة وصفائها :
على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم
وتعظم في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائم
وقد استقر في وجدان كل مسلم ضرورة إتقان عباداته كالصلاة والصوم والحج ، ولا شك أن هذا مطرد في كل مناحي الشريعة ، بل إننا نجد في القرآن أمرا لو أعطيناه حقه من الفهم لاستطعنا أن ندرك حقيقة ما نتكلم عنه ، ألا وهو قوله تعالى : ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم ) والاستطاعة لا شك متفاوتة بين المكلفين ، لكن المتيقن أن في استطاعة كل مكلف أن يبذل لدينه على الأقل مثل ما يبذل لدنياه .
وإن إتقان العمل يتوازى بدرجة عالية مع حجم العوائق والتحديات التي تفسد العمل ، بل وإن الاهتمام بالعمل يتعاظم بقدر مكانة العمل نفسه ، فاستحضار الخشوع في الصلاة يتعاظم إذا علم العبد قدر الوساوس التي تحول بينه وبين الخشوع وقدر ما يبذله الشيطان اللعين في الحئول بينه وبين ثمرة الصلاة ، وليس الاهتمام بإتقان ذكاة البهائم كمثل الاهتمام بإتقان مجاهدة العدو المستعد بأعلى الاستعدادات للإفناء القيم والمثل الإسلامية .
وإنه ليس من البذل للدين في شيء أن نرى أعداء الله تبارك وتعالى يستغلون كل المستجدات العصرية المتطورة ثم إذا نظرنا نظرة إلى الدعوة الإسلامية إذا هي تدار بطريقة عشوائية ، وإذا بالمسلمين يعجزون عن خوض المعركة الحضارية الكبرى مع ملل الكفر بشيء من إتقان العمل وإحسانه .
إن الله تبارك وتعالى لا يحابي في سننه أحدا ، وجعل في سيرة الأنبياء مدكرا لكل ذي لب ، فلم يشفع لهم كونهم رسلا من عند الله تبارك وتعالى ، ولم يشفع لهم نقاء الحق الذي يحملونه ، فكذبوا وأوذوا وطردوا وحوربوا بل وجرحوا وقتلوا ، ومع ذلك فقد بذلوا الوسع في القيام بالدعوة ، فدعوا إلى الله سرا وجهرا وجيشوا الجيوش واشتروا السلاح واستعاروه وحفروا الخنادق وابتكروا وسائل الكر والفر ، ولم تلن لهم قناة في أمر الدين .
وهكذا ينبغي أن يكون دعاة اليوم ، في هذا العصر الذي صار المحك في الغلبة للأخذ بالمتطور من مستجدات العصر كأجهزة اتصالات وتقنية إدارة الأعمال وغير ذلك مما يحتاج إلى ملاحقة وبحث لا أن ننتظر استعمال الخلق لها حتى إذا اهترأت فكرنا أن نخدم الدين بها بينما سوح الكفر تهنأ بأحدث وسائل الخدمة والمواجهة .
وإذا كنا قد تجاوزنا إشكالية الوسائل الدعوية فإن أول بدهية يجب أن تحتل مساحتها اللائقة في عقولنا أن العلوم العصرية بكل أصنافها لها دور فعال في تسخير قوانين الكون لخدمة الإنسان .
وفي الصحاح قال صلى الله عليه وسلم : ( ما أنزل الله من داء إلا وأنزل له دواء ، علمه من علمه وجهله من جهله ) ، فتأمل قوله : ( علمه من علمه وجهله من جهله ) وأنه لا يحول بين المكلف وبين الاستفادة مما بثه الله من منافع وطيبات في الكون إلا ببحث المكلف وسعيه في تحصيل ما ينفعه .
وهكذا في مواجهة أهل الإيمان لعروش الكفر ، فإنه لن يحول بينهم وبين النصر إلا عجزهم عن السعي الحثيث في بذل المستطاع ، وإذا تقرر أن نصر الله يتلو نصر العبد لدينه ، فإن تقصير المجاهدين في بذل المستطاع يعد سببا وجيها لتأخر نصر الله .
إن قناعة الدعاة إلى الله بضرورة احتراف الدعوة سبب رئيس من أسباب النصر ، فلا تجدي في هذه العصور محاولات الهواة لمزاحمة المحترفين في مجالاتهم . وقد تصاعدت اهتمامات دعاة الكفر بما يدعون إليه حتى إنه في سبيل ذلك سخروا كل العلوم العصرية لخدمة كفرهم .
وإذا أردنا أن نؤرخ لابتداء احتراف جهد الدعوة إلى أية فكرة فنستطيع أن نذكر محاولات التنصير الحاذقة التي ابتدأت في قارة آسيا مع مطلع القرن السابع عشر حيث تزامن مع الحركة الاستعمارية الاقتصادية الأولى - على يد الشركات الشرقية - زحفُ المنصرين من كل المذاهب على تلك البلاد البكر ( كالهند وما جاورها ) فنشأت أولى الحركات التنصيرية المحترفة التي كانت تمول بأموال الشركات الاقتصادية الاستعمارية ، وتدار بجمعيات علمية ( جغرافية وطبية اجتماعية ) تحت رعاية التاج البريطاني رأسا ، حيث كانت الملكة إيلزابيث الأولى ملكة التاج البريطاني وراعية الكنيسة الإنجيلية .
ثم تطورت جهود المنصرين العالمية في توسيع رقعة نشاطاتهم حتى غدت جهدا دوليا مكثفا تتوجه لخدمته كل الإمكانات المتاحة وبإدارة مجلس الكنائس العالمي الذي تأسس للتنسيق بين ملل النصرانية المتناحرة .
وفي إحصائية متأخرة ذكر بعض الباحثين أن ميزانية جمعيات التنصير لعام 1999 م قد فاقت 200 مليار دولار ، ولا شك أن هذا المبلغ متواضع جدا مقارنة بالمبلغ الحقيقي الذي تنفقه الدول النصرانية في تسيير سياسات العالم بما يصب في مصلحة المنصرين لا محالة .
أمام هذا البذل الذي يبذله أهل الكفر ، فإن أول ما يتبادر إلى الذهن من أسئلة : ماذا أعد الدعاة أمام هذا الإتقان في العداء للدين ؟! إن الجواب الذي يرضي كل منصف أن دين الله تبارك وتعالى يأخذ مجراه في قلوب الناس ويغزو كل الأقطار بتقدير الله وحسب ، ولم يأخذ حقه من جهد الدعاة بل المسلمين .
حتى المجهودات التي تبذلها الهيئات الإسلامية العالمية نجدها – مع كثرتها وتشعب أنشطتها – تدار بطرق بدائية ، ولا يعتمد في إدارتها على المتخصصين ، كما أن تلك الهيئات لا تملك تصورات محددة لأنشطتها المستقبلية ، وغدت أعمال الدعاة – كمال قال بعض الغيورين – مجرد ردود أفعال للمآسي التي تحيق بالمسلمين بين الحين والحين .
إن الفاتيكان قد أعلن في خطط واضحة وصريحة جعل عام 2000 من الميلاد هو عام تنصير أفريقيا ، وبينما كان كرادلة الفاتيكان يمدون إلى وزارات الأوقاف في العالم الإسلامي يدا حانية زاعمين رغبتهم في الحوار بين الأديان كانت يدهم الثانية الملوثة بنجاسة الكفر تمتد إلى أدغال أفريقيا وغابات إندونيسيا ، بل إن إرساليات التنصير التي تعتمد على المدارس الراقية والمستشفيات المتقدمة ما فتئت تجوس خلال ديار الإسلام بل وديار الكفر على السواء تمارس دورها التنصيري في كل أرجاء العالم دون حياء أو خفر .
وبينما نرى الكاتدرائيات النصرانية والكليات اللاهوتية تخرج من بين جدرانها منصرين على مستوى عال من المهارة والإتقان في دعوة الناس فإننا نرى مناهج الكليات الإسلامية والدعوية في كل جامعات العالم الإسلامي ( لا نستثني والله شيئا منها ) لا تلبي في قليل أو كثير طموح الزحف الإسلامي الذي بدأت جحافله تطرق أبواب الفاتيكان دون إراقة قطرة دم تحقيقا لبشارة الرسول صلى الله عليه وسلم .
وقد عقد في إحدى الولايات الأمريكية – لاحظ – مؤتمرا تنصيريا عالميا كان الهدف منه دراسة أوضاع البعثات التنصيرية في جميع أنحاء العالم ، وقد اطلعت على كل أبحاث هذا المؤتمر التي طبعت في مجلد ضخم ، ولشد ما تعجبت حينما وقعت عيني على تلك الأبحاث . لقد كانوا يطرحون كل المشكلات التي تواجه البعثات التنصيرية في كل بلاد العالم ، وكم كانت المسائل التي يعالجونها دقيقة تعتمد على دراسات أنثربولوجية راقية ، وكان يتبع الأبحاث مناقشات دقيقة واعية لما يطرح . وعلى سبيل المثال فقد كان من ضمن الأبحاث التي طرحت : مدى تأثير الروحانيات ( السحر والاعتقاد في الحسد ) على العوام من المسلمين ، ولم أدرك حينها مع التمعن فائدة دراسة عادات المسلمين واعتقاداتهم الاجتماعية ولو كانت باطلة أو خرافية ، ثم تراءى لي أن القوم من الذكاء بمكان ، فهم يعملون كما تعمل أجهزة المخابرات التي تستقصي كل معلومة عن عملائها في كل أنحاء العالم ، لعل أن تكون المعلومة الواحدة – وإن كانت تافهة في ذاتها – ذات أثر في يوم من الأيام .
وهكذا يتحرك التنصير في أنحاء العالم ، وفي بلد مثل تايلاند حدثني بعض المسلمين هناك أن مجموعة من المنصرين الشباب ذوي السحنة الأوروبية طرقوا عليه الباب وأخذوا يكلمونه عن النصرانية بلغة تايلندية طليقة تنبئ عن أن القوم إذا أعدوا لشيء أعدوه على الوجه الذي يظن به بلوغ الأرب .
ولقد رُزئت الأمة الإسلامية في العقد الأخير بنكبات مدوية هزت أركان عزيمتها وأثخنتها بجراح غائرة في عزتها وكبريائها ما زالت تعاني نزيفها المتوالي .
ولقد كانت التحديات التي واجهت الأمة الإسلامية في البوسنة وكوسوفا بمثابة امتحان حقيقي لإمكاناتها البشرية والاقتصادية والسياسية ، فسقطت بجدارة في الجميع .
وقد رأينا كيف كانت c.i.a ( المخابرات الأمريكية ) والبنتاجون ( وزارة الدفاع الأمريكية ) والناتو ( حلف شمال الأطلسي ) والاتحاد الأوروبي يديرون الأزمة وسط همسات الدول الإسلامية وهمهمات أصحاب القضية بحجم المؤامرة الكبير .
ووسط مرارات وصلت إلى الحلقوم رأينا كيف استقبلت إسرائيل عشرات الأسر المسلمة من كوسوفا في استعراض سياسي مدروس الأبعاد بينما لم تتقدم أية دولة إسلامية باستعراض مماثل !
إن مثل ردود الأفعال هذه هي التي تنبيك أيها المسلم بحجم التخبط الذي يعتري جهودنا في خدمة الدين ، ولست بلائم أفرادا بأخطاء دول ، كما أن اعتذار البعض بأن أوزار الحكام في تشرذم الأمة لا يجوز أن يتحملها المحكومون اعتذار صحيح وتخلص وجيه ، ولكنني أزعم أن الهيئات والجماعات الإسلامية ما زالت تخنس عن دورها الأصيل في تبني القضايا الكبرى ، وما زالت تتوارى وراء طرق بالية في إدارة الدعوة حتى أضحت رهينة العادة والهوى والآلية الصماء التي لا تغني عن نصرة الدين فتيلا .
وبإزاء قناعة الأفراد بأهمية احتراف خدمة الدين لا بد أن تتولد في وجدانات القيادات الدعوية مثل هذه القناعة حتى تهب الهمم لمشروع حضاري كبير يستنقذ الأمة من نكباتها وهزائمها .
حقا إن التحديات التي تواجهها الصحوة في كل الأصعدة شديدة وخطيرة ، وتربص أعدائها بها على كل المستويات وفي كل زمان ومكان ، لكل ذلك كله في نظري سيضمحل أمام الإمكانات الحقيقية لقطاعات الصحوة المتكاثرة ، وظني أن الصحوة تفتقر بشدة إلى شخصيات إدارية عالية المهارة تعمل على تفعيل الكوادر الموجودة بالفعل ، والرقي بإمكانياتها والنهوض بمستوياتها ورفع درجة الاستفادة من الخبرات التي تمارس عملها بالفعل ، ولنا مع هذا الموضوع عود .
لم يعد من المجدي أن يمارس الداعية في أي ميدان نشاطه بارتجالية ، ولم يعد مقبولا أن نترك دعاتنا فريسة للتجارب الدعوية التي تستقطع وقتا ومجهودا أولى بنا أن نسخره في التدريب وصقل الخبرات .
إننا نرى بوضوح كيف أن الغيورين من شباب الأمة يبذلون الغالي والرخيص في سبيل رفعة شأن الأمة ، وكيف أنهم يضحون بأوقاتهم وأموالهم وبكل ما يظنون أن الدعوة تحتاج إليه ، لكنهم يفاجئون أن محاولاتهم الدعوية تذهب أدراج الرياح ومجهوداتهم تصير رهينة أماكنها ، لا لشيء إلا أنهم واجهوا واقعا دعويا صعبا بآلات بدائية وبدون خبرة أو ممارسة سابقة .
تأمل ( مثلا ) الجهد التربوي الذي يقوم به الدعاة ، إن جميعهم – إلا من رحم ربي – يشكو كثرة مشكلات الشباب وتعقيدها وصعوبة فهم شخصيات المراهقين . ولا شك أن هؤلاء الدعاة سيعانون أكثر عندما يلتزم الشباب بالدين دون أن تحل مشكلاتهم التي تنشأوا عليها في الجاهلية . وقد رأينا كيف أن رواسب التربية الخاطئة التي بدأ التزام هؤلاء الشباب عليها تطفوا سريعا عندما تتعرض تلك الشخصيات لأول محك في حياتها الجديدة ، بل إن علماءنا قد نصوا على أن فساد الانتهاء من فساد الابتداء .
إن مثل هذه الإشكالية في نظري مأتاها من تقصير الدعاة في العلوم الاجتماعية والتربوية ، وقلة مطالعاتهم لكتابات ذوي الخبرة والديانة في هذا المجال ، وأنا أجزم غير شاك أن قطاعا كبيرا ممن يمارسون دعوة الشباب جاهلون بأساسيات العلوم التربوية مما يتعلق بنفسية المراهق ونحو ذلك .
ومما لا شك فيه أن هذه العلوم فيها الغث والسمين ، وأن واضعيها بعضهم ممن لا خلاق له في دين الله تبارك وتعالى ، ولا شك أيضا أننا لا نقصد بالاستفادة من هذه العلوم أن نعتمد قوانينها واكتشافاتها وتجاربها الغضة ، بل المقصود أن يستفيد الداعية والمربي من تلك الدراسات التربوية والنفسية والاجتماعية في فهم النفسية البشرية ، ولا شك أيضا أن الممارسة التربوية قائمة بالدرجة الأولى على براعة فهم الشخصية التي يراد تربيتها واختيار المنهج التربوي الملائم ، وكل ذلك راجع إلا ذكاء المربي في فهم الشخصية التي يربيها ، وهذا الفهم يرجع جزء كبير منه للفراسة التي بعضها كسبي يُجتنى بالخبرة وبالبعض الآخر فطري يُمنح من الله تبارك وتعالى .
وليس على الدعاة من بأس إن هم حاولوا صقل تجاربهم بمثل هذه العلوم والقراءات التي وإن لم يستفيدوا منها في دعوتهم فلا شك أنها ستفيدهم في أمور دنياهم لا محالة .
بل إنه يمكننا أن نمثل لإشكاليتنا بأمثلة أعمق في آلامها ونتائجها ، ألا وهي قضية خلق الداعية ، فإنه مما لا شك فيه أن ثمة تقصيرا حادا على مستوى الأفراد والجماعات في تلقين الدعاة المثل الأخلاقية العليا التي تليق بدعاة الإسلام والمتحدثين باسمه بين الناس .
وإنه لمن الطبعي أن نجد بعض الدعاة يأتي أفعالا هي في عرف الشرع من المباح الذي لا إثم فيه ولكنها في بعض الأعراف من المستشنعات ، والعادة محكّمة ، وسيحتاج الداعية حتما حينئذ إلى تهذيب بعض عاداته حتى يدرأ المطاعن عن نفسه وعن الدين ، فالجهلاء أعداء أنفسهم ، وهؤلاء وغيرهم من أعداء الدين متربصون بالدعاة يعدون عليهم هناتهم ، فما أحرانا أن نقطع على هؤلاء محاولاتهم ونقدم لهم نماذج دعوية تبهر العقول والألباب .
والعجيب أن مثل هذا التلقين – أعني تلقين الأخلاق – كان سلفنا وعلماؤنا يجعلونه علما مستقلا يدرس في حلقاتهم ، وكانت لهم مؤلفات حافلة في علم الآداب حوت المنظومات الألفية وشروحها وتناولت أدق تفاصيل الآداب حتى إنهم تعرضوا لآداب استعارة الكتب وآداب المسلم في السوق وفي الشارع على نحو ما تراه في كتاب الجامع في الآداب للشيخ جمال الدين القاسمي رحمه الله ، وقد رأيت متنا مشروحا في آداب النكاح والزواج لأحد المالكية ينبئ أن تراثنا جمع فأوعى .
وفي قضية احتراف خدمة الدين : لا أريد أن أعقد المشاكل أو أن ألزم الدعاة بما لا يلزمهم شرعا ، فإنني لا أماري في أن في شرع الله غنية عن كل شيء ، ولكن شرع الله نفسه قد حض على المعرفة وبارك أهل التخصص وألزم الناس بالرجوع إليهم والاعتداد برأيهم ومشورتهم.
والمنصف لا يمكن أن يتخيل مفتيا في مسائل الاقتصاد والتجارة لا يعرف في عرف التجار والاقتصاديين نقيرا ، كما لا يمكن أن نأخذ بقول من يفتي الناس في الفرائض حال كونه لا يحسن حساب الكسور .
ولو تجاوزنا القضايا الجزئية في جانب احتراف الدين إلى القضايا الكبرى العامة ، كقضية الصراع الحضاري بين الإسلام والأيديولجيات الأرضية فإننا سنبصر هوة سحيقة تفصل بين الحركات التي تتبنى موقف الإسلام وبين خصومها المختلفين .
إن اليهود عندما فكروا في إقامة دولتهم ، وحددوا موقعها على خريطة العالم ، بل وحددوا موعد إعلان تلك الدولة ، لم يعيشوا بعدها معيشة الحالم المتمني ، بل تناسب البذل مع ضخامة المهمة ، ولا أعتقد أن وعد بلفور هو الذي أفرز الكيان وأوجده على وجه الأرض ، بل تحديد الأهداف والتخطيط السليم والتنفيذ الدقيق والمتابعة المستمرة هي التي أعطت اليهود حق الوجود ، وتأمل قوله تعالى : { ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا } . إن إسرائيل لم تنتظر من الأمريكان أن يدافعوا عنها ، بل ولم تعتمد على أسلحتهم أبد الدهر ، فقد كونت جيشها من خلّص اليهود ، وتبنت عقيدة عسكرية واضحة المعالم ، وسعت لتطوير تقنية صناعتها العسكرية ، وجعلت الرافد الذي يغذي كل ذلك اقتصاد قوي مرموق ، حتى أضحت تلك الدولة اللقيطة في خمسين عاما أقوى دولة في المنطقة اقتصاديا وعسكريا ، وأصبح متوسط الدخل في هذا الكيان من أعـلى المستويات .
وأنا أهمس إلى كل المسلمين بمزايا أخرى أقامت هذه الدولة على ساق قوية ، ألا وهو تبنيها لمبادئ في الحرية والعدل وصيانة حقوق الإنسان لا يوجد في غيرها من بلدان المنطقة . وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : إن الله يقيم دولة العدل وإن كانت كافرة ويديل دولة الظلم وإن كانت مسلمة . معنى كلامه رحمه الله .
ولا أظن دعاة الإسلام يرضون أن يواجهوا هذا المعترك العالمي والخضم الدولي بكيانات هشة ، وإمكانيات متواضعة ، فكان لزاما قبل كل شيء أن تبث عقيدة الاحتراف في صفوف الدعاة جماعة وأفرادا ، بحيث نصل إلى المستوى الذي يستنكف معه الداعية أن يؤدي عملا دون أن يعد له العدة المطلوبة ، فيكون بذلك معظما لشعائر الله صادق الغيرة على دينه .
القاعدة الخامسة
( نحو عالمية الدعوة )
ليست شخصية حالمة تلك التي تتطلع في بذلها للدين أن يصل مجهودها إلى المستوى العالمي . وليست من الأماني الكاذبة أن يتمادى الدعاة في تمني اليوم الذي تصبح دعوتهم الإسلامية شأنا عالميا يحسب له ألف حساب .
ونحن في حديثنا عن قضية خدمة الدين نحاول أن نجمع بين الواقعية والطموح العالي ، ونجنح عن الدعة والخطط الساذجة بقدر جنوحنا عن التهور والخيال المستحيل . وفرق بين يقين النصر الذي يمثل دعامة أساسية في عقيدة الداعية ، وبين مصادمة السنن الكونية بل والشرعية بزعم أن الله سينصر عباده المؤمنين .
تلك الكلمات السابقة وإن كانت صارمة فهي ضرورية قبل أن نشرع في تفصيل العنوان ، ذلكم أن من بدهيات العقول أن النتائج رهينة الإمكانيات ، والنجاح قرين البذل المتاح ، وتحقق الغاية مرتبط بتحقق الوسيلة ، وكل ذلك لا يقدح في كرامة الله لأوليائه بالنصر مع الذلة والقلة ، فحديثنا عما يجب أن يعتمل في صدر الداعية من حرص على اتخاذ الأسباب .
إن عالمية الدعوة الإسلامية هاجس ينبغي أن يلح في طموح كل داعية إلى دين الله تبارك وتعالى ، ومشروع ينبغي ألا يغيب عن أذهان الغيورين على دين الإسلام .
فهي حقيقة شرعية بلا امتراء ، قال الله تعالى : ( إن الدين عند الله الإسلام ) وقال تعالى : ( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ) وقال تعالى : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس ) وقال تعالى : ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ) وقال تعالى : ( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ) .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها ، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها ) رواه مسلم .
وقال صلى الله عليه وسلم : ( ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين ، بعز عزيز ، أو بذل ذليل ، عزا يعز به الإسلام ، وذلا يذل به الكفر ) . رواه أحمد والحاكم .
وفوق كونها حقيقة شرعية هي ضرورة إنسانية تستنهض همة كل مشفق على حال البشر وسكان الكرة الأرضية ، فالكفر يلف أرجاء الأرض ، والفجور يستعلن على حين غفلة من القيم والمثل ، وأضحى للكفر والفجور دولة وسلطان ، وصارت ممارسات الفسقة تتحلى بغطاء الشرعية ، فالكفر يتزيا بحلة حرية الفكر ، والشذوذ الجنسي ينافح عن حقوقه تحت غطاء الحرية الشخصية ، والمرأة تريد أن تتبرأ من الحياء بزعم التحرر من القيود الجائرة ، بل إن براءة الأطفال تغتال بالخطف والاستغلال الجنسي تحت أضواء المدنية الكاذبة .
كل ذلك ألا ينادي على النفوس الأبية أن تسعى لخلاص لتلك البشرية المغلولة ، أو تنافح عن القيم والمثل الضائعة في غابة الشهوات والغرائز البهيمية .
لم تعد مسئولية الدعاة محصورة في نطاق المسجد الذي يخطبون فيه أو يلقون محاضراتهم ، وفي حدود قاطني الحي الذي يسكنون فيه ، إن حزام المسئولية يتمادى في الاتساع ليصل إلى كل نفس منفوسة تدب على هذه الأرض .
يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( وإن العالم يستغفر له من في السموات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء ) رواه الترمذي ، وإسناده حسن . قال العلماء في تفسير هذه الحديث أن العلماء لهم دور في الوصية بالكائنات الحية ، حتى إنهم يوصون الناس بإحسان الذبحة كما أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم ، فنفعم عام على كل الخلاق ، ولذلك تتذكرهم بالخير والدعاء .
وإذا كان هذا حال الحيتان فما بال البشرية التي التائهة في سرداب شهواتها ، إنها أحرى بأن تحتل مساحة من اهتمامنا معاشر الدعاة . وقد كاد النبي صلى الله عليه وسلم أن يهلك نفسه حزنا على الناس ألا يكونوا مؤمنين ، وسهر الليالي ساجدا يدعو ربه متضرعا : أمتي أمتي ! فصلى الله وسلم على ذلك النبي الشفيق الذي حمل هم توصيل الدين إلى كل البشرية .
وإذا كانت هذه الهمة العالية تمثل نسيج طموح كل داعية إلى الله تعالى ، فإنه إزاء تعظيمه لشعائر الله وفرائضه يأبى أن يكون مجرد مراهق ينشغل بالأحلام والأماني الخادعة ، ويجمح وراء خيال هاو وسراب كاذب .
إنه يمزج هذا الطموح بتخطيط واقعي ، ويبني آمالا صادقة على جهود مخلصة ، ثم يكل النتائج إلى الله تبارك وتعالى . هو لا ينظر إلى كراسي الحكم والسلطة بقدر ما يتمنى أن يحوز كرسيا واحدا في جنة الخلد . يحدوه الطمع في رضا الله فيبذل حق البذل ليحوز السلعة الغالية { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنـة } .
إنه قليل الكلام كثير العمل ، سريع التأثر بواقع المسلمين والاستجابة لنداء البذل ، إذا ما أقبل على عمل دعوي تسامى في العطاء له ، وإذا فكر في مشروع أعد له العدة الكاملة . يتخذ الأسباب التامة محاطة بتوكل على الله وثيق ، يحترم التخصصات ويأبى الفوضى والارتجالية ، إنه مثال الداعية الذي يحمل هما عالميا ، ويغذيه طموح عال ، ومثل هذا تفتقر إليه الدعوات العالمية ، ويعد طاقة دفاقة لكل من حوله من العاملين .
إن نصف مساحة العالم الإسلامي دخلت في الإسلام صلحا ودعوة ومعاشرة لا عنوة وحربـا ، مما يثبت أن عالمية الإسلام في عالمية الداعية ، وأن السيف لم يرفع إلا على الظالمين والغاصبين لحق البشرية أن تؤمن بربها وإلهها .
وإن تغلغل الإسلام في أوروبا والأمريكتين بل وفي روسيا والصين وإفريقيا وأستراليا مع قلة الدعاة وضعف الإمكانيات لدليل على أن هذا الدين الحق لو قُيض له من الحملة من يجهرون به في كل ميدان ويطوفون به في كل صقع لتغيرت خريطة العالم في سنوات معدودة .
إن طرق خدمة الدين كثيرة ، وأساليب نشره بين الناس وفيرة ، وميادين النداء إليه شاسعة ، وما سطرناه في هذه الأوراق مساهمة متواضعة نحو عالمية الدعوة ، فمن أمانينا أن تتجيش كل الطاقات في خدمة الدين فنفاجيء الباطل بجندي للحق في كل شبر على وجه الأرض ، ونجابه الظلم والطغيان ، ونواجه الكفر والفجور ، ونضيق الخناق على إبليس وجنوده ، ونحكم الحصار على إغواءات الشياطين .
إن عالمية الدعوة ستتحقق بجلاء ويقين يوم نرى كل مسلم يساهم بأي جهد في سبيل دينه وأمته ، يوم نرى كل مسلم يحاسب نفسه : ماذا قدم لدينه وأمته ؟ يوم نرى حديث الناس في المقاهي والطرقات والبيوتات ومجالس السمر يدور حول هم الدين وشأن المسلمين ، يوم نرى الأسرة تَدَّخِرُ من قوتها رغيفا تبذله لجائع أو محتاج ، يوم نرى الأغنياء يتبارون في أَرْيَحِيَّة صِدِّيقِيَّة نحو الإنفاق في سبيل الدين ، يوم نرى الدعاة قدوة لغيرهم في حمل أمانة الدعوة وتبليغها للناس .
وفي سبيل بث هذه الروح العالية العالمية في نفوس الدعاة ، بل في نفس كل مسلم نقترح الاقتراحات الآتية :
(1) ينبغي أن يعلو في خطاب الدعاة إلى الناس : الشعور بالمسئولية العالمية للإسلام ، ومسئولية الأمة بأسرها عن حمل رسالة الدين : { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله } ، وأن يستشعر كل من يستمع إلى صوت الصحوة أنها تحمل دورا رساليا ساميا وأنها تنادي على الناس أن يهبوا لتحمل هذا الدور معهم لمحض كونهم ينتمون لهذا الدين الرسالي الشامخ .
(2) من اللازم أن تتناول الأدبيات الإسلامية هذه القضية في كل المناسبات حتى تضحي عالمية الإسلام هما مشتركا يحيى في قلوب كل الناس . ولا بد أن تتنوع تلك الأدبيات في عرض هذه الفكرة ، ما بين شعر راق ونثر بليغ وقصة هادفة ومقال مؤثر أو نشيد حماسي محفز أو نحو ذلك من الأساليب المعروفة والتي سنتناولها بالتفصيل عند الكلام عن طرق خدمة الدين .
(3) يجب أن تقام المؤتمرات العالمية التي تذكر الناس بهذه القضية ( عالمية الدين ) ، ويتم اتخاذ قرارات وتوصيات تصب في هذا الصدد .
(4) إرسال برقيات ورسائل نصح إلى ملوك ورؤساء الدول الإسلامية وأصحاب المناصب الرفيعة النافذة في الحكومات الإسلامية والمنظمات الإسلامية العالمية والهيئات الإسلامية الخيرية العالمية وتحميلهم أمانة هذا الدين وتوجيه النصيحة الصادقة إليهم ، ورفع كل ظلامة وتصرف يتصادم مع واجبهم في القيام بحماية حوزة الدين والذود عن حياضه . وقد يظن البعض في هذا المسلك نوعا من الحماقة والأماني الحالمة ، وأنا أؤكد أن هذه الوسيلة إن لم تكن من الواجبات الشرعية والفروض الكفائية فإنها على أقل تقدير من الوسائل الجديرة بالمحاولة والتجربة . وكم رأينا في التاريخ من حركات إصلاحية تمت بسبب خطوة خطاها أصحابها لم تكن في الحسبان .
(5) تكوين رابطة حكماء من العلماء المشهورين والدعاة البارزين تكون مهمتها رأب الصدع بين الحركات الإسلامية والهيئات الدينية ، ومراقبة مسار الدعوة على المستوى العالمي ، وتوجيه النصح والاستشارة إلى كل أولئك ، مع تقديم يد العون والمساعدة لكل مجهود يبذل لخدمة الدين . ويمكن أن يبدأ عمل هذه الرابطة على مستويات دنيا لتكوين جبهة دعوية قوية من طلبة العلم والدعاة التنفيذيين ، يكون نواة لحركة ضغط وشعور شعبي موجه لإرادات الأمة وقرارات القادة . ومنذ زمان بعيد وأنا على يقين أن حركة الإصلاح التي يجب أن تحدث للصحوة الإسلامية جمعاء ينبغي أن يقوم بها طلبة العلم الصغار الذين لهم دور في إشعار القيادات الروحية للصحوة بضرورة الإصلاح وضرورة المصارحة والمكاشفة ، وهذه القضية ليس لها محل هنا ولكنني ذكرتها من باب الذكرى لعل الفرصة تواتي في تأصيلها وتنظيرها في القريب العاجل إن شاء الله تعالى .
وبعد أيها القارئ الكريم .. لعلي لا أكون ممن يهرب من واقعه بالتلهي ، كمن يبني قصر الرمال لينسى أنه يسكن في كوخ من صفيح ، بل إنني على يقين أن جوانحك تحوي مثل هذه الآمال العظام ، وأنا على يقين أنك على يقين من هذه الآمال ، وأنها ليست من أحلام الكرى ، وأحتاج أنا وأنت وكل غيور أن نتواصى بالحق ونتناصح ، وأن نغذي الحزن والقلق بين الفينة والفينة بروافد الأمل الناصع ليتبدد ظلام الانهزامية عن فجر المستقبل الصادق ، وتتقشع غيوم القنوط عن شمس النصر الأكيد .
الطريقة الأولى
( إخلاص النيات وإصلاح السرائر )
إن إشكالية كثير من الناس في شأن علاقتهم بالله تبارك وتعالى أنهم لا يعون شفافية الطاعة ، ولا يدركون أن الله تبارك وتعالى قد وضع لكل شيء في هذا الكون قانونا ونظاما ، فكما جعل النار محرقة والماء الزلال مُرْوِيَاً والهواء النقي منعشا فكذلك ما جعله الله تبارك وتعالى قربة لذاته ووسيلة لمرضاته ، فإن له قانونا لا يقل صرامة عن قوانين الكون الأخرى .
والأعمق من ذلك أن الله عز وجل جعل من بعض الأشياء – على ضآلة شأنها فيما يعتقد الناس بادي الرأي – سببا لنوال الفتوح ، وحصول البركة والنماء بما لا يتفق والقوانين العادية .
ومن تلك الأشياء : النية الصالحة للعمل الصالح . فغني عن القول أن عمل العبد مشروط قبوله بإخلاص النية وبمتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فذانك هما النية الصالحة والعمل الصالح المقصودان بقول الله تعالى : { فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا } .
وقضية الإخلاص بالنسبة للدعاة وحملة الدين تأخذ غورا لا تسعفه العبارات الساذجة ، أو الإيضاحات العادية ، فهو يحتاج إلى شفافية روحية توقن بكرامة الله لأوليائه وتعتقد أن القلب هو محل نظر الإله من العبد .
فإذا ما توارد على الداعية المخلص شيء من كدر الحياة لجأ إلى تصفية شوائب المقاصد ليقينه أن ثمة علاقة طردية بين التوفيق الإلهي وبين سلامة النية وحسن الطوية ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص : ( إنك لن تُخَلَّف فتعمل عملا تبتغي به وجه الله إلا ازددت به خيرا ودرجة ورفعة ) .
لاجرم أن الآيات القرآنية – مكيها ومدنيها – تواطأت على تأكيد أهمية النية وجلالة شأنها . قال تعالى : { فاعبد الله مخلصا له الدين إلا لله الدين الخالص } وقال عز من قائل : { قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين } وقال : { قل الله أعبد مخلصا له ديني } وقال : { وادعوه مخلصين له الدين } وقال : { فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون } وقال تعـالى : { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة } ، ذلك الدين القويم أن نطيع الله مخلصين ونعبده مصححين للقصد والإرادة .
بل إن في الإخلاص من البركة العائدة على محيط الدعاة وصفاء الود ونقاء السيرة بينهم ما يدعو إلى العجب ، ومصداق ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : ( ثلاث لا يُغَلُّ عليهن قلب مسلم : إخلاص العمل لله ، ومناصحة ولاة الأمر ، ولزوم جماعة المسلمين ، فإن دعوتهم تحيط بهم من ورائهم ) . يقول ابن القيم– رحمه الله - : إي لا يبقى فيه غل ، ولا يحمل الغل مع هذه الثلاثة بل تنفي عنه غله وتنقيه منه ، وتخرجه عنه ، فإن القلب يغل على الشرك أعظم غل ، وكذلك يغل على الغش ، وعلى خروجه عن جماعة المسلمين بالبدعة والضلالة ، فهذه الثلاثة تملؤه غِلا ودغلا ، ودواء هذا الدغل واستخراج أخلاطه بتجريد الإخلاص والنصح ومتابعة السنة …ثم يقول ابن القيم – في معرض كلامه عن تعريف الإخلاص - : وقد تنوعت عبارتهم في الإخلاص والصدق والقصد ، فقيل : هو إفراد الحق سبحانه بالقصد في الطاعة . وقيل : تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين ، وقيل : التوقي من ملاحظة الخلق حتى عن نفسك ، والصدق : التنقي عن مطالعة النفس . فالمخلص لا رياء له والصادق لا إعجاب له ، ولا يتم الإخلاص إلا بالصدق ولا الصدق إلا بالإخلاص ، ولا يتمان إلا بالصبر . وقيل : الإخلاص استواء أعمال العبد في الظاهر والباطن ، والرياء أن يكون ظاهره خيرا من باطنه ، والصدق في الإخلاص أن يكون باطنه أعمر من ظاهره . وقيل : الإخلاص نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الخالق ، ومن تزين للناس بما ليس فيه سقط من عين الله . ومن كلام الفضيل : ترك العمل من أجل الناس رياء ، والعمل من أجل الناس شرك ، والإخلاص أن يعافيك الله منهما . قال الجنيد : الإخلاص سر بين الله وبين العبد ، لا يعلمه ملك فيكتبه ، ولا شيطان فيفسده ، ولا هوى فيميله . وقيل لسهل : أي شيء أشد على النفس ؟ فقال : الإخلاص ، لأنه ليس لها فيه نصيب . وقال بعضهم : الإخلاص ألا تطلب على عملك شاهدا غير الله ولا مجازيا سواه . وقال مكحول : ما أخلص عبد قط أربعين يوما إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه . وقال أبو سليمان الداراني : إذا أخلص العبد انقطعت عنه كثرة الوساوس والرياء . أما الهروي فجعل الإخلاص تصفية العمل من كل شوب . أي لا يمازج عمله ما يشوبه من شوائب إرادات النفس ، إما طلب التزين في قلوب الخلق وإما طلب مدحهم والهرب من ذمهم ، أو طلب تعظيمهم ، أو طلب أموالهم ، أو خدمتهم ومحبتهم ، وقضاء حوائجه ، أو غير ذلك من العلل والشوائب ، التي عَقْدُ متفرقاتها هو إرادة ما سوى الله بعمله ، كائنا ما كان .
وأول درجاته عنده : إخراج رؤية العمل عن العمل ، والخلاص من طلب العوض على العمل ، والنـزول عن الرضا بالعمل .
يعرض للعامل في عمله ثلاث آفات : (1) رؤيته وملاحظته (2) وطلب العوض عليه (3) ورضاه به وسكونه إليه . ففي هذه الدرجة يتخلص من هذه البلية .
فالذي يخلصه من رؤية عمله مشاهدته لمنة الله عليه وفضله وتوفيقه له ، وأنه بالله لا بنفسه ، وأنه إنما أوجب عمله مشيئة الله لا مشيئته هو ، كما قال تعالى : { وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين } … ثم قال رحمه الله : والذي يخلصه من رضاه بعمله وسكونه إليه أمران : أحدهما : مطالعة عيوبه وآفاته وتقصيره فيه ، وما فيه من حظ النفس ونصيب الشيطان ، فقل عمل من الأعمال إلا وللشيطان فيه نصيب وإن قل ، وللنفس فيه حظ . سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن التفات الرجل في صلاته ؟ فقال : ( هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد ) ، فإذا كان هذا التفات طرفه أو لحظه ، فكيف التفات قلبه إلى ما سوى الله ؟ هذا اعظم نصيب الشيطان من العبودية ، قال ابن مسعود : لا يجعل أحدكم للشيطان حظا من صلاته ، يرى أن حقا عليه ألا ينصرف إلا عن يمينه . فجعل هذا القدر اليسير حظا ونصيبا للشيطان من العبد ، فما الظن بما فوقه ؟ وأما حظ النفس من العمل فلا يعرفه إلا أهل البصائر الصادقون . الثاني : علمه لما يستحقه الرب جل جلاله من حقوق العبودية ، وآدابها الظاهرة والباطنة ، وشروطها ، وأن العبد أضعف وأعجز وأقل من أن يوفيها حقا ، وأن يرضى بها لربه ، فالعارف لا يرضى بشيء من عمله لربه ، ولا يرضى نفسه لله طرفة عين ، ويستحيي من مقابلة الله بعمله . فسوء ظنه بنفسه وعمله وبغضه لها وكراهته لأنفاسه وصعودها لله يحول بينه وبين الرضا بعمله والرضا عن نفسه . وقال بعضهم : آفة العبد ورضاه عن نفسه ، ومن لم يتهم نفسه على دوام الأوقات فهو مغرور . وقيل : لا بد من الخجل من العمل ، مع بذل المجهود . فمن إخلاص العابد خجله من عمله ، وهو شدة حيائه من الله إذا لم ير ذلك العمل صالحا له مع بذل مجهوده ، قال تعالى : { والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون } ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( هو الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف ألا يقبل منه ) . أهـ
وأنت ترى مما نقلته عن ابن القيم فقه رياضة النفس في :
(1) تحضير الإخلاص وتقويته في القلب .
(2) ودرء الشرك والرياء والسمعة والعجب ، ولا ريب أن الدعاة إلى الله تبارك وتعالى أقوى الخلق قلوبا وأنقاهم أفئدة وأصفاهم سريرة ، لأنهم موصولون بالوحي المطهر في نذارتهم الخلق وتعبدهم لربهم به .
وقد تيقنت من تجربتي في الدعوة أن الدعاة من أحوج الناس وأقربهم إلى الله تبارك وتعالى ، فقلوبهم مملوءة بالشفقة على المسلمين ورغبتهم ( الدعاة ) في هداية الخلق ، وقد علموا بالاضطرار أيضا أن الهداية في يد الله تعالى ، فتكامل اضطرارهم إلى الله تعالى أن يجعل الهداية متحققة بسببهم ، ولن يجدوا صعوبة – إن شاء الله – في تطهير قلوبهم من عوالق الرياء وعوائق الشرك .
وحري بالدعاة أن يتعهدوا قلوبهم على الدوام مفتشين عن رواسب الهوى وبقايا الدغل الذي يتخلل ثنايا النيات القلبية ، وأخطرها الذي يتغلف بقصد سوي معتبر زيّنه له هواه فاتبعه ، فإنها والله القاصمة ، قال تعالى : { أفرأيت من اتبع إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا } ، وقال : { أفمن زين به سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء } .
ويتعاظم دور إبليس اللعين في تزيين المقاصد الخبيثة وإلباسها خلعة الولاية وزينة الإخلاص ونزاهة الضمير ، فيحس الداعية بالطهارة والبراءة حال كونه متلبسا بأعظم زور وأشنع بهتان ، وما أتعس الذي يدعو إلى نفسه زاعما أنه يدعوا إلى الله ، يدل الخلق إلى ذاته متزلفا إليهم بصورة الداعية المخلص . إن مثل هذا النوع قليل بين الدعاة ، ووالله ليسوا من الدعاة ، ولكن داءهم لم ينج منه داع بل مسلم ، وأي نفس تلك التي لا ترجو لنفسها عزا وجاها وسلطانا ، كل نفوس الخلق تطلبه ، ولكن ما أعظم تلك النفس التي تتصدر عند البذل وتتوارى عند المغانم وتعف ، إنها النفس المخلصة التي تمحض بذلها لربها ، فلسان حالها يقول : { لا نريد منكم جزاء ولا شكورا ، إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا } .
لقد كان السلف الصالح لا يستحيون من مواجهة أنفسهم بنياتهم السيئة وما أكثر ما رأيناهم يكلمون ويحذرون أنفسهم من نية خبيثة تسللت على حين غرة وولجت في سانحة غفلة ، ولم يتحرجوا رحمهم الله من التصريح بهذه النية التي تسللت ليعلموا الأجيال كيف يكون الإخلاص والتجرد ، فجزاهم الله عن الأمة خيرا .
ومن أهم ما يجب أن ننبه له الدعاة على كل مستوياتهم أن قضية الإخلاص على خطورتها ليس من جنس ما لا يطاق أو من قبيل ما يعسر على المكلفين إتيانه ، وإلا ما كلفهم الله به وجعله ركنا في قبول الأعمال ، إذ لا يكلف الله ولا يأمر إلا بما هو داخل في حيز استطاعة المكلفين كما معلوم في محله ، وما ورد عن بعض السلف من صعوبة الإخلاص وأنه عزيز وعسير فمحمول على استحضار الإخلاص مع وجود وَالِجَاتِ الهوى ونوازع الإرادة الخبيثة ، أو أنه محمول على التبرؤ من الإخلاص لأن ادعاءه دليل عدمه ، وإلا فإن متواتر سيرة الصحابة – وهم أقل الناس تكلفا – يثبت أنهم كانوا يعالجون قلوبهم هونا ، ولم يتجشموا معارك وهمية مع النفس والهوى ، فينصرف الهم حينئذ للتفتيش عن عدو داخلي خيالي وينسى معركته الأساسية مع الأعداء الخارجيين . وقد كان مما ذُم به الحارث المحاسبي يرحمه الله كثرة كلامه في النيات على غير طريقة السلف ففي سير أعلام النبلاء للذهبي (13/112) قال : قال سعيد بن عمرو البرذعي شهدت أبا زرعة الرازي وسئل عن المحاسبي وكتبه فقال إياك وهذه الكتب هذه كتب بدع وضلالات عليك بالأثر تجد غنية هل بلغكم أن مالكا والثوري والأوزاعي صنفوا في الخطرات والوساوس ، ما أسرع الناس إلى البدع . أهـ ولا أستريب أن في كلام أبي زرعة شدة بيد أن المفهوم من كلامه أن السلف لم يكونوا يعالجون نياتهم على نحو ما ورد في الرعاية ونحوها من كتب المحاسبي ، ولابن القيم وابن كثير كلام مشابه لا يحضرني ذكره .
وقد نبهت على هذا الأمر لأنه كثر بين شباب الصحوة من يتنصل من العمل للدين بزعم خوف الرياء والسمعة وعزة الإخلاص ونحو ذلك من المعاذير الساذجة التي يمليها عليهم شيطان مريد أو نفس عاجزة كسول . فيضيع الدين بين ورع كاذب وكسل مقنع .
ولولا هذا الداء الذي استشرى وتولى كبره زمرة من الناس زعموه الدين الخالص فحذروا الشباب من التصدر دفعا للرياء ومنعوا المبتدئين من الدعوة بزعم ضرورة التحصرم قبل التزبب ، أقـول : لولا استشراء هذا الداء لما أوليت هذا الشأن اهتماما ولما ألقيت إليه بالا ، لأن الأصل اتهام النية ومحاسبة الدواخل وعدم تزكية النفس ، ولكنني رأيت الأمر أمرا منكرا ، وأبصرت طاقات هائلة من شبيبة الدين تتخاذل عن البذل وتتوارى عن المصافة في كتائب الحق ، وتنـزوي في صوامع التزكية ( زعموا ) ، وتترك مناجزة الباطل وأهله بدعوى إصلاح النية والخوف من فساد القلب بالتصدر ، حتى خلا الجو لأهل البدعة والكفر ، وصدق فيهم قول القديم :
خلا لك الجو فبيضي واصفري ونـقري ما شـئت أن تنقري
وبينما نرى هذا النكوص يقنن في صفوف شباب الصحوة نرى نبتة الكفر تترعرع على أكتاف شبيبة يعدون إعدادا جيدا ويتصدرون في المحافل داعين إلى كفرهم مدافعين عن باطلهم ، وأخسر بها من صفقة أن تعمر دور العبادة بالركع السجد بينما الباطل يجول جولته ويصول صولته في ميادين الثقافة والاقتصاد والسياسة ، وقد نادى القرآن أهل الإيمان نداء صارما وأوضح حقيقة الصفقة بين العباد وربهم ، فقال تعالى { انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله } وقال { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن } .
وقد نص أئمتنا على ضرورة التصدر في زمان الفتن وعند غلبة الأهواء ، وفي أبواب القضاء من كتب الفقه تجد نصا صريحا بلزوم السعي لمنصب القضاء إذا تعين أو رأى من تعين عليه القضاء تصدر المفسدين وتطاولهم للحصول عليه ، بل تجد أن بعض الفقهاء رخص في دفع البرطيل ( الرشوة ) لنوال منصب القضاء إذا تعين ، وعللوا ذلك بأن في تسنم القضاء رجل جاهل أو مبتدع أو فاسق مفسدةً تربو على مفسدة الرشوة ، وفي حصولها لمن هو أحق بها وأهلها مصالحَ تربو على مصلحة الزهادة في هذا المنصب كما هو شأن السلف ( أعني زهادتهم في مناصب الدولة ) .
ولنا في مسلك النبي يوسف عليه السلام - حين علم تأهله لعلاج الخطر المحدق بالبلاد – مدكرٌ وأسوة ، فقالها غَيْرَ وَجِلٍ : { اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم } . وأولئكم فتية أهل الكهف { قاموا فقالوا ربنا رب السموات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا } . وإبراهيم كسر الأصنام وواجه انتفاشة الكفر وهو بعد غض الإهاب فكان يسفه الأصنام ويبين عوار مسلك من يعبدها حتى تسامع الناس بدعوته فقالوا { سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم } . ولم يخش الرسول صلى الله عليه وسلم على علي بن أبي طالب من زهو الأبطال وخيلاء الشجعان غداة قتل عمرو بن وُدٍّ في غزوة الخندق وقد عجز عن ذلك العتل خيرة الكماة من الصحابة .
نعم : ينبغي التحرز من تصدير من عرف بطره وكبره وحبه للوجاهة والمنصب ، لأن الولايات الشرعية لا تقلد لمن طلبها كما تقرر في السياسة الشرعية ولأن المفسدة التي قد يحدثها صاحب العجب والكبر بالناس أعظم من مصلحة توليه وإن كان ذا كفاءة ودراية .
ولا جناح أن نولي ونصدر من يخشى عليه العجب والكبر – ومن الذي لا يخشى عليه ذلك ؟ - إذا كان هناك منهج رشيد في تلافي ولوج تلكم الأمراض إليه ، أو كانت المصلحة في توليه تربو على مفسدة مرض نفسه .
وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي سفيان بن حرب غداة فتح مكة شيئا لأنـه يـحب الذكر ، ولم يقل : بل نحميه من الكبر والعجب ونحو ذلك ، وولى أسامة بن زيد قبل وفاته وأنفذه إلى الشام في ركب حـوى كبـار البدريين من المهاجرين والأنصار .
ولقد أذن للشافعي في الإفتاء وهو ابن خمس عشرة سنة ، وحدث أبو زرعة الرازي في الثانية والثلاثين ، وأُخذ عن البخاري ولما يخضر شاربه ، وأفتى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية وجلس للإفادة والتدريس ولما يبلغ الخامسة والعشرين .
وقد تقرر أن اليقين لا يزول بالشك ، واليقين الذي يجب وجوده لتولية المستورين أو الأغمار أو من يخشى عليهم أمراض القلوب من صغار السن أو التجربة : أن تحتدم المعركة بين أهل الإسلام وملة الكفر ، وتتعاظم الفروض والتكاليف ويقل الناصر والمعين ، وأن يكون في المولَّى من الكفاءة والأهلية والاحتياج إليه ما ينفي الغضاضة من توليه .
وقد احتج القائلون بضرورة رعاية أحوال القلوب عند تولية الولايات الشرعية بعزل عمر بن الخطاب لخالد بن الوليد رضي الله عنهما عن إمرة الجيوش الإسلامية وتولية أبي عبيدة مكانه .
والجواب عن ذلك أنه لاشك أن رعاية أحوال القلوب من أجل ما يعتني به السالكـون إلى الله ، ومن أهم ما ينبغي أن يولى من الاهتمام عند الدعاة والمربين ، بيد أن عزل عمر لخالد أملته مصالح شرعية أخرى ، واقتضته مجريات الحوادث ، ونظرة عمر بن الخطاب إلى مستقبل الجيوش الإسلامية ، ومستقبل الفتوح أيضا . وقد أثبتت العسكرية الحديثة أن القيادة لابد أن تتجدد درءا للرجعية التي تفسد مشروعات التطوير ، ومنعا لاستقطاب قيادي داخل المؤسسة العسكرية ، ودفعا لأطماع القيادات في الاستحواذ بتدبير أمور الجيش ، إذ تجنح نفسية القائد العسكري للديكتاتورية وتشمئز من الشورى كما علم من تجارب الأمم .
ولا شك أن كلامي لا يفهم منه قدح في عمر أو خالد ، فهما من هما ، ولكن قراءة متأنية في ملف القضية ينبيك بأن العزل اقتضته أمور جليلة ارتآها عمر ، ولا يمكن أن نستدل بالحادثة على ما نحن فيه من منع تصدر المتأهلين في مناصب الدعوة خوفا عليهم من الرياء والسمعة والعجب .
ومن قبيل ما نحن فيه : دفن العبقريات ومواراة الأفذاذ خلف الكواليس بدافع الحسد والخوف على الجاه ، وكم رأينا من عناصر شابة صاعدة رزقت البركة والتوفيق في العلم والعمل ، فحيل بينها وبين التنامي لأن جلالة المناصب التي كانوا سيتأهلون لها - في نظر كبرائهم - لا تناسب أسنانهم .
وقد شكا إليّ أحد طلبة العلم أن أستاذه الذي يشرف على رسالته في الماجستير يأمره بالتمهل لأن سنه – خمسة وعشرون آنذاك – صغيرة على هذه الدرجة العلمية وأنه لم ينلها أحد في كليته في هذا العمر .
أعود للتأكيد أنني لا أماري في خطورة أمر النيات وأحوال القلوب وضرورة تزكيتها وحمايتها من حمأة الأمراض والآفات وفورة حب الرياسة والتصدر ، ولكننا نعالج ذات المرض فيمن يمنعون الشبيبة من خدمة الدين والبذل له حسدا من عند أنفسهم من بعدما تبين لهم أن في تصدرهم خطورة على وجاهتهم .
والسؤال الذي لا بد أن أسمعه ، كما لا بد أن أجيب عليه : هل تريد إذا أن نولي الأحداث وصغار السن مناصب تحتاج إلى الحنكة والخبرة وطول التجربة ؟ وهل تريد أن نترك المجال فسيحا لكل ذي هوى مغرض أن يتسنم مناصب الدعوة فيحدث من الفتنة – بما في قلبه من الفتنة – ما تُصطلم معه روح الجماعية بين الدعاة ؟ وقد علمنا كم جر أولئك الأغمار على الدعوة من ويلات بسبب فتاواهم الجريئة المتسرعة ، وخطواتهم الدعوية غير المحسوبة ، وافتقادهم لآداب العلماء وخصال الأئمة ، وبعدهم عن الروية والأناة .
والجواب أن المرض يعالج ، والأضرار الدعوية نتلافها ، ولا تبتر الأعضاء النافعة بزعم الخوف عليها من التلف إذا عملت ، ولا توأد الطاقات بزعم حمايتها من فورتها ونشاطها .
إن العلم النافع والعمل الصالح والدعوة المخلصة أمور كفيلة بتنقية القلوب من كل دغل ، وقد نص القرآن على أن الدعوة من أحسن القول : { ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين } . ورقابة القادة والعلماء وتربيتهم لصغار السن ضامن من ولوج الهوى إلى نفوسهم . ولله الأمر من قبل ومن بعد .
وقد مر معنا حديث النبي صلى الله عليه وسلم : ( ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم : إخلاص العمل لله ، ومناصحة ولاة الأمر ، ولزوم جماعة المسلمين فإن دعوتهم تحيط بهم من ورائهم ) .
ولم يقل أحد من أهل العلم أن علاج الرياء وآفات العمل بترك العمل ، بل المنقول عن السلف أن ترك العمل لأجل الناس رياء ، ومثل الذي يهجر العمل أو يمنع الناس منه خشية على القلوب من آفاتها كمثل من ترك الطعام والشراب خوفا من الجراثيم الكامنة فيها ، أو كمثل من هجر الناس ولم يلامسهم خوفا من عدوى الأمراض وانتقال الحمى .
ومن رام عملا خاليا من الشوائب نقيا من المعايب فقد ركب متن الشطط وأعظم على نفسه الفرية . وأنى السبيل إلى عمل خالص صاف والله تعالى يقول : { والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون . أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون } ، وقد أخرج الفريابي وأحمد وعبد بن حميد والترمذي وابن ماجه وابن أبي الدنيا في نعت الخائفين وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن عائشة قالت : قلت : يا رسول الله ! قول الله : { والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة } أهو الرجل يسرق ويزني ويشرب الخمر وهو مع ذلك يخاف الله ؟ قال : ( لا ولكنه الرجل يصوم ويتصدق ويصلي وهو مع ذلك يخاف الله أن لا يتقبل منه ) وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس فى قولـه { وقلوبهم وجلة } قال : يعملون خائفين . وأخرج سعيد بن منصور وعبد ابن حميد وابن المنذر عن عائشة : { والذين يأتون ما أتوا } قالت : هم الذين يخشون الله ويطيعونه .
وأنت ترى بجلاء أن الآية نصت على أن أولئك المؤمنين يعملون ، مع الخوف والوجل من عدم قبول العمل ، ولم يصرفهم هذا الوجل عن تجشم عناء العمل ، ومجاهدة الرياء وآفات النفس .
إن المقصود من هذه الطريقة تطهير الضمير الدعوي ، وتنقية المقاصد من الخبث الذي يعتور المتنافسين على الدنيا ، وتمحيص الخطو الحركي للدعاة من عرجة الرياء وعثرة الشرك الخفي .
إن مرادنا أن نحقق في دعاتنا النـزاهة المطلقة في إراداتهم ، وأن نصرف أبصارهم عن رؤية أعمالهم ، وأن يتجافى كل داعية عن بطرٍ مردٍ أو غرور مطغٍ .
وليس عسيرا على كل فرد ينتمي إلى هذه الصحوة المباركة أن يبادر إلى نياته فينشأ منها ما يصلح للعرض على الله تبارك وتعالى ، أو يسارع إلى الفاسد منها فيتداركه بالإصلاح والتنقية ، ويضرع إلى الله تبارك وتعالى أن يرزقه النية الخالصة والعمل الصالح .
يتبع بأذن الله
جمال المر
2010-10-05, 10:40 PM
الطريقة الثانية :
( إيجاد نماذج كاملة في الصلاح )
إن نفوس البشر تتباين ، وطباعهم لا تتفق ، فما كان شاقا عن قوم سهل على آخرين ، وما استصعبه ناس كان سهلا ذلولا عند جمع آخرين ، ومن الخلق ذوو أفئدة ناشزة وقلوب نافرة ، ومنهم من بلغ في اليقين والإيمان الرتبة العليا ، منهم البخيل الشحيح ، ومنهم الكريم الأريحي البذول ، منهم الجبان الرعديد ، ومنهم الهصور المقدام ، نفوس أبية وذوو خصال دنية ، منهم الشكور ومنهم الكفور ، عيون فاجرة ومقل من خشية الله دامعة ، قال تعالى : { إن سعيكم لشتى } ، وقال تعالى : { هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن } ، وقال تعالى : { إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا } ، وقال تعالى : { ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام } ثم قال : { ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد } وقال تعالى : { فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق . ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار } .
ولكن الله تبارك وتعالى يسر للإنسان اختيار المعالي وخلع الدنايا ، فقال تعالى : { وهديناه النجدين } ، وقـال تعـالى : { فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى . فسنيسره لليسرى . وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى } ، وقال تعالى : { إنا هدينا السبيل إما شاكرا وإما كفورا } .
وقال تبارك وتعالى : { والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم } . وقال تعالى : { ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا } ، وقال تعالى : { ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين } .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اعملوا فكل ميسر لما خلق له ) . وقال صلى الله عليه وسلم : ( احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز ) .
إن همة الإنسان هي التي تقوده إلى المعالي ، وخساسته ترديه في الدنايا ، وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم . فمن ألزم نفسه لأواء السعي علا ، ومن ارتضى الرخاوة والدعة فلا .
ولولا تكاليف السيادة لم يخب جبان ولم يحو الفضيلة ثائر
وأبواب الفضائل كثيرة جمة ، ومناحي السبق في الخير موفورة ، وإذا اختار المرء منها بابا ، وأتقن منها ميدانا فقد أقام للإسلام صرحا من القيم شاخصا ، وأبدى للناس نموذجا من المثل كاملا . فأقام الحجة لله على خلقه ، وأعلى للحق راية على مدى أفقه ، واستنار بنموذجيته أقوام ، واقتدى بِهُدَى دَرْبِه فئام ، وارْعَوَى بصرامة حقِّه طغام .
ومما ينبغي تقريره أن الكمال البشري لم يثبت إلا للمعصومين من الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، ومن عداهم فكل نقص وذنب وتقصير فهو جائز عليهم وثابت في حقهم على وجه اللزوم ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كل بني آدم خطاء ، وخير الخطائين التوابون ) .
وعليه فلا مطمح لأحد في بلوغ رتب الأنبياء والمرسلين أصلا ، ولكن مراتب الطاعة المختلفة مأذون بتسنمها مسموح برقيها من كل البشر .
لا جرم تنافس على تلك المراتب المتنافسون ، وتسابق إليها الحريصون ، فذاك صوام وهذا قوام وآخر بذول ورابع من الذاكرين الله كثيرا وخامس ممن شمر الساعد في طلب العلم وبلغ رتب العلماء ، ( ولكلٍ وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات ) .
وعلى هذا التنظير فإن المتصور أن تتحقق في واقعنا نماذج السلف الصالح الراقية ، ويتجسم في نطاق حواسنا ما نقرأه في تراجم أئمتنا الأعلام .
ونفس هذا التنظير يتطابق مع منهج السلف في التزكية ، فسلفنا لم يطمحوا أن يكون كل المجتمع قواما لليل ، أو صواما للنهار لأن هذا لم يتحقق في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أصلا ، فكيف نرجوه في أجيال لاحقة والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : ( لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه ) .
بل المتصور أن تتنوع نماذج الطاعة في المجتمع الواحد ، وتتوزع رتب الطاعة العليا بين الطاقات المختلفة ، فهناك من بلغ في الزهادة واطراح ملذات الدنيا مقام معروف الكرخي ، ومنهم من استوفى من التقوى نصيب أحمد بن حنبل ، ومنهم من نذر نفسه للجهاد فلا تراه إلا مخاطرا بنفسه في كل ميدان ، ومنهم من تفرغ لمقارعة المبتدعة والزنادقة أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية ، ومنهم من تصدر للوعظ والإفادة والنصح للأمة أمثال الحسن البصري .
وعلى هذا المنوال ينبغي أن ينظر المسلمون لمنهج الصلاح والإصلاح : أن يتوجه كل امرئ إلى ما تطيب نفسه به من رتب الطاعة فيرقى في درجاتها ، ويتسنم منها المقام الأسمى ، ويبلغ فيها الدرجة العليا ، فإن وجد زكاة قلبه في قيام الليل أدمنه ، وإن تلذذ بالصيام أدامه ، وإن أتقن العلم تخصص فيه وأفاد الناس ، وإن استحلى تلاوة القرآن جعله نَفَسَا يحيا به ، وإن كانت نفسه ذات سجايا صالحات كالكرم والحياء تمادى في الخلق ليكون مضرب المثل فيها .
وهكذا توجد في المجتمع أمثلة المعالي ، فإذا ما التفت طالب هدى ليقتدي بكريم في حسن الرفادة والقرى رأى نموذجا حاتميا ، وإذا بحث متنسك عن أسوته في الصيام والقيام وجد شبيه الفضيل ومثيل المحاسبي . والمطلوب أن يترفع كل ذي خصلة في درجاتها حتى يصير أحدوثة الدهر ، متسابقا متسارعا غيورا أن يسبقه إلى الله مشمِّر ، لا يقنع من نفسه بسير الهوينى حتى يعدو كالمُصَلِّي وينبذ الحَجْل المقيت .
إن الذي يعجز عن أن يقدم لدينه نشاطا دعويا ملموسا في معترك الصراع مع الباطل ، وفي لجة الحرب الضروس مع عروش الكفر وأصنام المذاهب الباطلة المعبودة من دون الله ، لن يعجز إن شاء الله أن يقدم لأمته نموذجا يقتدى به فيما عجز عنه الدعاة المنشغلون بمواجهة صناديد الكفر العنيد والفسق العتيد .
بل إن هؤلاء على الحقيقة هم الجنود المجهولون الذي يقوى بنماذجهم بنيان الصحوة ، ويصفو الكدر ، وتتلاشى الشوائب .
وهؤلاء هم الذي على أصداء صلاحهم تتنـزل الفتوح ويهبط النصر المبين ، يقول الأستاذ الراشد : إن الداعية إذا ألزم نفسه بالورع كانت لورعه أصداء يحدث تكررها وترددها تحريكا للناس ، ويوضح ذلك ما اكتشفه الزاهد يحيى بن معاذ من أنك ( على قدر شغلك بالله : يشتغل في أمرك الخلق ) ، وتوفيق الله تعالى لنا في عملنا التجميعي منوط بإقبالنا عليه ، وما أزمة صدود الناس عنا إلا من نتائج أزمة قلة اهتمامنا بما أوجبه الله ، ومن أقبل بقلبه على الله تعالى : أقبل بقلوب العباد إليه . إن الدعاة كثيرا ما يشطون عزوف الناس عنهم والتهاءهم بشكليات عادية يجدونها عند الأحزاب الأخرى ، وبالغث لا بالسمين ، وباللغو لا بالعلم ، وما من شك في أن هذه الظاهرة هي من الجهالة التي قوبل بها الأنبياء عليهم السلام وبعض المصلحين ، وأنها صفة متوقعة من البشر ، وأنها من علامات اقتراب الساعة ، ولكن يبدو أن صدود الناس هذه الأيام قد فاق كل صدود سابق ، وأن جهالة الناس بلغت حضيضا واطئا ، وأصبح أمر الإصلاح عسيرا على المقل الماشي في طريق الإيمان بهدوء وبرودة ، ولا بد أن يتصدى المكثر ، الراكض ، الفائر ، ذو الحرارة .
إن للتقوى آثار تشغيل ، وبمقدار جديتنا : يكون الناس جديين ، ولنا شاهد دائم في أنفسنا ، فإننا نتفاوت بين يوم ويوم ، وإيماننا يزيد وينقص ، فإذا كنا حينا في إيمان جيد : رأينا إقبال الناس علينا ، وإذا كان فينا جزر إيماني وقسوة قلب في حين آخر : رأينا قلة جدوى نشاطنا ، مع كثرة غدونا ورواحنا ، وكل منا قد تعاقبت عليه مثل هذه الأحوال ولمس بنفسه اختلاف مواقف الناس مـنه ، وضوابط إنتاج الجماعة تعتمد في كثير من جوانبها على ضوابط إنتاج الفرد . أهـ .
إن الأمة تحتاج أن يوجد من بينها من إذا أقسم على الله أبره الله ، من إذا رفع أصبعه إلى السماء داعيا تفتحت له أبواب القبول والإجابة ، من إذا ألح على الله تبارك وتعالى نزل التأييد من الله عاجلا غير آجل .
تحتاج الأمة إلى البذول المضحي بالمال والثروات لا يخاف الفقر والإملاق ، نموذجا في الإنفاق كأبي بكر الصديق يوم خرج من ماله كله فلما سأله الرسول صلى الله عليه وسلم : ماذا تركت لأهلك يا أبا بكر ؟ قال : تركت لهم الله ورسوله .
إن الأمة أحوج ما تكون إلى فتيان صدق يعيدون إلينا ذكرى المتنسكين الأول أمثال الفضيل بن عياض وابنه علي والسفيانين وعبد الله بن المبارك والكرخي وأحمد بن حنبل وأضرابهم .
إن الأمة لفقيرة إلى أنموذج في الزهد يذكر الناس بحقيقة الدنيا ويريهم أن في البشر من يمكنه أن يغالب نفسه ويطلق هذه الدنيا طلاق البتة وأن يقنع من هذه الدنيا بالقليل الذي يكفي .
محتاجة والله هذه الأمة المنكوبة إلى من يعيد لها ذكريات وأمجاد الأكارم الأول كحلم الأحنف بن قيس وجود ابن المبارك وصبر أحمد في المحن وجلد ابن تيمية في مواجهة قوى الفساد والعتو والبغي .
وما أجمل أن يتلفت الناس من حولهم في كل مدينة وقرية فيجدون هذه النماذج حجة لله عليهم ، وصرخة نذير تذكرهم بما يجب عليهم ، وتلفت أنظارهم إلى أن المكارم والمعاليَ ثَمَّ تنادي عليهم بالرقي والسمو بأحوالهم .
وليت الدعاة والمربون يلاحظون هذا الاتجاه في تربية النشأ ، فقد يجدون من بين الشبيبة من تقصر به همته عن مواجهة الناس بخطبة أو درس ولكنه سيجده في الزهادة والتقوى غرسا يحتاج إلى السقاية والعناية . وقد يجد من بينهم من لا يتقن فنون العلم ولكنه سيجده في رقة القلب وسرعة الدمعة ما يستحق أن تُنَمَّى فيه هذه الخصلة ليكون قدوة للعيون الجامدة والمُقَل المتحجرة .
وليس على الدعاة والمربين من بأس أن يندر - في نشأهم الذين يربونهم - طلبة العلم أو الراغبون في التخصص ، ويكون بدلا منهم المتنافسون في الخيرات والعبادات .
بل إني لأرى أن العلم فيه ما يرغب الناس فيه ، فآثاره في الناس مشهودة ، وفضائله في النصوص معلومة ، ورتبته في دنيا الناس لا ينكرها أو يزهد فيها إلا غر جهول .
أما الفضائل الأخرى كالزهد والاجتهاد في العبادة وتحقيق معالي الأخلاق ومكارمها فليس لها من وازع إلا نجابة الساعي إليها وسمو عقل من شمر للتمثل بها .
والصحوة الآن تمر بحالة تشبع في طلبة العلم الذين قنعوا من العلم باسمه ، واكتفوا من مزاياه بشكله ورسمه . وندر من بينهم من حقق في دنيا الناس شيئا مما تعلمه أو علمه لا أستثني ورب الكعبة نفسي .
والصحوة أشد ما تكون احتياجا إلى نماذج الصلاح العليا التي سيكون لها دور المناعة والحصانة لهذه الصحوة من الانحلال والتآكل .
ويمكننا أن لخص خطوات هذه الطريقة في الفقرات الآتية :
(1) اهتمام الدعاة والمربين بالقيم والمثل والأخلاق ونماذج الصلاح والعبادة أثناء ممارسة النشاطات التربوية والدعوية المختلفة .
(2) أن تتوافر في المكتبة الإسلامية الأدبيات التي تظهر هذه النماذج من السلف الصالح بحيث تكون وسيلة ميسورة لتعليمها للناشئة أو تعميمها على الناس وتذكرهم بها في الخطب والدروس والمواعظ .
(3) أن يقوم الدعاة بدور تربوي دقيق في ملاحظة العناصر عالية المستوى من الناشئة ، والتدقيق في صلاحيتهم لأي اتجاه ، وتنمية ذلك الاتجاه بما يحقق نبوغهم فيه ورقيهم على دربه .
(4) أن يجتهد كل الدعاة بل كل الغيورين على الدين في أن يحقق كل واحد منهم نموذجا من نماذج الصلاح التي يحبها وينوي بهذا الاجتهاد في بلوغ رتبة الصلاح أن يكون داعيا بصلاحه إلى الله تعالى وحجة له على خلقه ورمزا لشموخ هذا الدين وأثره في نفوس أتباعه .
(5) شحذ همم الناشئة للتنافس في درب الاستقامة عبر المسابقات العلمية والمخيمات التربوية والاعتكافات في المساجد والندوات الترفيهية .
وبعد .. فإن الصلاح حركة ذاتية في أعماق النفس حيث تتفاعل الإرادات ، وتتجاذب الأهواء وتتعارك النوازع ، وينتصر في النهاية العزم القوي .
والنفس الطاهرة هي التي تسمو على الخبث ، وتتجذر في تربتها قيم الحق ، ويمكث في أرض فطرتها ما ينفع الناس ، { وأما الزبد فيذهب جفا ء } ، فأكرم بها من نفس تلك التي اسْتَعْدَتْ على شهواتها جنود الإرادة ، وقفزت على أسوار المصاعب تتسنم ذرى المعالي والمكارم ، تخوض حرب التزكية واثقة أنها ستخرج من المعركة بنصر مبين وفلاح أكيد فـ{ قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها } ، لا تتهيب من مساءة شانئ أو ملامة عاذل ، قد أركزت أوتاد الحق في أرض العزم الوثيق ، وتغلغل اليقين يسري في همة متعاظمة كما سرى المداد في الماء القراح .
ومن باب رد العجز إلى الصدر .. نقول : إن كل مكلف يستطيع أن يخدم الدين بأن يكون عبقريا في درب من دروب الاستقامة ، فذا في سبيل من سبل المرحمة ، يتخصص في شأن من شئون الآخرة كما يتخصص الناس في مفردات شئون الدنيا .
وقد أشار إلى هذا المعنى نبينا صلى الله عليه وسلم حيث قال : وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كل سلامى من الناس عليه صدقة ،كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين الاثنين صدقة ، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة ، والكلمة الطيبة صدقة ، وبكل خطوة يمشيها إلى الصلاة صدقة ، وتميط الأذى عن الطريق صدقة ) . رواه البخاري ومسلم .
وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم : ( الإيمان بضع وستون شعبة ، أعلاها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ) . رواه البخاري ومسلم .
الطريقة الثالثة
( التنوع في وسائل الدعوة )
قد مر معنا أن الدعوة معنى شامل لكل فعل يرغب الناس في دين الله تبارك وتعالى مما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة ، وهي بهذا المعنى تأبى أن تنحصر في هيئة الموعظة سواء تشكلت في صورة الخطبة أو الدرس أو نحو ذلك .
والعجب الذي لا ينقضي من أناس أرادوا أن يحصروا مفهوم الدعوة في خطبة الجمعة ودرس العلم في المسجد ، ناسين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعظ على القبر وفي سوح القتال ، بل وعظ الناس بفعله قبل قوله ، وخصص للنساء يوما يعظهن فيه ، وكان يخص عائشة بمزيد علم لكونها المطلعة على خفي أمره فتكون بذلك المبلغ للناس ما خفي من سنــة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجعل فداء أسرى بدر أن يعلموا صبية المسلمين الكتابة ، فكل ذلك أَوَلا ينبئ أن الدعوة وخدمة الدين يمكن أن تكون خارج حدود المسجد ؟ ! ولنا أن نسأل : كيف للدعوة أن تقتحم أسوار الطلبة الشيوعيين في الجامعات إذا لم نخرّج من طلائعنا أوتادا في العقيدة الإسلامية ومتخصصين في الأفكار الهدامة يكونون جحافل حق تهدم عروش الكفر بالحجة الواضحة والبرهان الناصع .
إنني أستقبح أن يتطاول شيوعي وقح على أحد الشباب الملتزمين ويتهمه بأنه ليس له أيديولوجية ، أو أن يَتَجَهْرَمَ علماني في مدرجات الكليات أمام آلاف الطلبة والطالبات بعقيدة الفصل بين الدين والدولة فلا يجد من الغيورين على دين الله من يقف له بالمرصاد .
ولقد شُهد للكفر جولة وحظي النفاق بدولة يوم أن توارى أهل الديانة في المساجد وتركوا الجهاد باللسان الذي أمروا به في غير ما آية : ( يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ) ، ( وجاهدهم به جهادا كبيرا ) أي بالقرآن .
إن الدعوة كما تحتاج خطيبا مصقعا فلا غنى لها أيضا عن صحفي نابه وكاتب ذي قلم سيال ومؤلف حسن الجمع والعرض ومناظر يقطع خصوم الإسلام بحججه القوية وأساليب إقناعه المبهرة ، بل إن الدعوة لا بد أن تطمح أن يكون لديها إعلاميون ذوي دراية بتقنية الإعلام حتى إذا ما تمكنت من إطلاق إذاعة أو قناة تليفزيونية كان ثمة كوادر تحمل هم الدين معها إلى تلك المواقع .
وكتابنا مؤلف حال كون المسلمين يعيشون عصر الاستضعاف ، ولكن هذا ليس بحائل أن نتطلع إلا دعوة طلائع الإسلام أن يستعدوا لعصر التمكين بالولوج في كل التخصصات ، فأسلمة العلوم لن تتحقق في أرض الواقع بدون علماء مسلمين نبغوا وأبدعوا وبهروا .
وحصر الدين في حلة الوعظ والخطبة كيد علماني عتيق ، أرادوا من ورائه أن يتسربل الإسلام ثوب الكنيسة ، فيظهر الواعظ في لباسه الرسمي المعهود ويلوك كلماته بترنيمة تشبه ترنيمة المنشدين في الكنائس ، لكأن الشيخ يريدونه صنو القسيس الذي يعظ فتتلاشى شمولية الدين في هذا الديكور المصطنع ، وإذا ما هب طبيب أو مهندس أو تاجر يريد تطبيق شرع الله وتعظيم حرماته استعظموا فريته وحسبوه كلابس ثوبي زور ، وهكذا تفر معالم الحقيقة من فحيح الكائدين .
من الذي رسم القانون الذي به أُلزم الناس ألا يروا أهل العلم إلا في مقام الوعظ ، وألا يسمعوا آيات الله تتلى إلا عن طريق الدرس أو المحاضرة ، بل من الذي يلزم الدعاة أن ينصهروا في هذه البوتقة فلا يخرجون منها ولا يحيدون عنها .
إن نصوص الشرع – من القرآن أو السنة وسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع سلف الأمة الصالح – تشير بوضوح إلى أن الدعوة الإسلامية لابد أن تكون جارفة غازية ، لا تقف عند هيئة ولا تتحجر عند تَمثال مكرور ، ومع مراعاة الضوابط الشرعية التي تحدثنا عنها فإن الدعوة لا بد أن تنطلق في أفق رحيب ، تقاوم الباطل وإلحاده ، تهاجم عرش الكفر وتهزه بثبات ورسوخ ، وليس ذلك يأتي إلا بتلمس الوجوه التي بها نلج إلى قلوب الناس ، ومعرفة الفنون ( الأنواع ) التي بها نحوز قناعاتهم .
وتأمل في القرآن كيف يحكي الله عز وجل قصة نبي من أولي العزم من الرسل ، أعيته الحيل في إسماع قومه صوت الحق ، فما برح يبتكر الوسائل ويتحين الفرص بها يجهر بالدعوة ، ذلكم هو نبي الله نوح ، قال عنه الله تبارك وتعالى : { قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا ، فلم يزدهم دعائي إلا فرارا ، وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا ، ثم إني دعوتهم جهارا ، ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا } .
قال الأستاذ سيد قطب رحمه الله : وهي صورة لإصرار الداعية على الدعوة وتحين كل فرصة ليبلغهم إياها .. ومع الدأب على الدعوة وتحين كل فرصة والإصرار على المواجهة اتبع نوح عليه السلام كل الأساليب ، فجهر بالدعوة تارة ثم زاوج بين الإعلان والإسرار تارة ..وفي أثناء ذلك كله أطمعهم في خير الدنيا والآخرة ، أطمعهم في الغفران إذا استغفروا ربهم ، فهو سبحانه غفار للذنوب .. وأطمعهم في الرزق الوفير الميسور من أسبابه التي يعرفونها ويرجونها وهي المطر الغزير .. كما وعدهم برزقهم الآخر من الذرية التي يحبونها – وهي البنين – والأموال التي يطلبونها . أهـ
وكما كان التنوع مسلك الأنبياء من قديم ، فقد رأينا سلف الأمة ينهجون ذات المنهج في خدمة دينهم . تأمل حركة التصنيف في بدايات القرون الأولى ، وكيف أنها بدأت بكتابة المصحف ثم جمع الحديث وكتابته ، ثم إفراد الصحيح ثم جمعه على أبواب السنن ، ثم جمعه على أسماء الصحابة ثم على أسماء الشيوخ ، واستتبع ذلك ضرورة معرفة الرواة الثقات من الضعفاء فتكلموا في الثقات والضعفاء وأحوالهم وتواريخ ولادتهم ووفياتهم .
وإذا عرجنا على باب آخر غير العلم وجدنا كيف أن سلفنا الصالح كانوا أول من أسس فن إدارة دور العلم ، وإذا طالعت كتاب الدارس في تاريخ المدارس أو تاريخ البداية والنهاية لابن كثير لوقفت على المستوى الراقي الذي وصلت إليه فنون الإدارة في زمان كانت أوروبا تخبط خبط عشـواء .
ولو قرأت كتاب : شمس العرب تشرق على الغرب للمستشرقة الألمانية زيغريد هونكه لعلمت أن حضارة المسلمين لم تقم على الأماني والأحلام ، بل قامت على سواعد أقوام أخذوا بأسباب المدنية ، وتنافسوا في خدمة دينهم ليعلو صرحه وتشمخ هامته فتكون العزة لله ولرسوله وللمؤمنين .
وقد مر معنا في ( احتراف خدمة الدين ) اجتهاد جماعة التبليغ في التفنن في طرق وأساليب الدعوة والوصول إلى قلوب الخلق وتلمس كل الوسائل الممكنة للدعوة إلى الله .
والتنوع ليس مزاجا مطاعا أو هوى متبعا ، ولكنه علم وذوق ، ثم دربة ومنافسة ، إذ لا بد من معرفة أوجه النفع والقصور في كل وسيلة من وسائل الدعوة ، ولا بد من وجود الإحصائيات التي تفيدنا في معرفة الإيجابيات والسلبيات ، ثم إن طرح البدائل مسبقا مع دراستها وتمحيصها ( كما هو معلوم في علم الإدارة ) له دور في تلافي الفشل الذي يعتري الوسائل القاصرة .
ولذوق الداعية دور مهم في جماليات الوسائل حتى تكون ذات رونق يتميز به الداعية المسلم عن غيره . أما منافسة الداعية لغيره ودربته في تنويع وسائله فعاملان مهمان في شحذ الهمم والإمكانيات واستنباط الأفكار الجديدة والعبقرية .
وليس يغيب عنا أن ننبه أن الجهد الجماعي في تنويع وسائل الدعوة أثرى وأغزر في الفائدة من الجهد الفردي ، كما أن قضية التنوع وغيرها من ملامح دعوية مرتهنة بقضية العمل الجماعي ولا ريب ، فقد برهنّا أن جهد الجماعة محاط برعاية الله مشمول بعنايته ومباركته .
ونختم هذا الفصل بتوصيات عملية تفيد قضية التنوع بالنسبة للداعية :
(1) ضرورة فهم مبدأ الابتكار في الوسائل الدعوية وأنها مشروطة بشروط شرعية حتى لا تدخل في دائرة الابتداع ، والمعنيّ : أن الدعاة يجب أن يفرقوا بين ما هو مسموح وغير مسموح في وسائل الدعوة حتى يستطيعوا الإبداع دون تهيب من حساسية الابتداع ( إبداع دون ابتداع ) .
(2) صقل الخبرات الدعوية بالأساليب الآتية :
أ. التعرف على الدعاة والتجمعات الدعوية والاحتكاك بجهودهم .
ب. مطالعة المؤلفات الدعوية التي تعنى بهذه القضية مثل كتاب : دليل التنمية البشرية لهشام طالب
والمسار للأستاذ محمد أحمد الراشد ومقدمات للنهوض بالدعوة للأستاذ بكار .
ج. صقل الذوق الدعوي بالثقافة العامة ومطالعة الدوريات العالمية التي يستفيد الداعية منها في أساليب العرض ومتابعة كل جديد في عالم الإعلام .
د. الإعداد لمؤتمرات ومعسكرات تدريب لتنمية قدرات الدعاة .
هـ. جمع تجارب الدعاة وخبراتهم ومهاراتهم في كتاب مطبوع لتعميم الاستفادة من تلك الخبرات .
(3) ضرورة مطالعة كل ما هو جديد عند دعاة الديانات والمذاهب الباطلة حتى يتمكن الدعاة من مقاومة إغراءاتهم
ومواجهتها بالأنفع والأرجى لقبول الناس .
(4) الاهتمام بجانب حسن العرض وبخاصة في الأنشطة الإعلامية . وقد أضحى هذا المجال علما له تقنيته ، وتواتر عندنا كيف أن المتنافسين في الحملات الانتخابية في الغرب يستعينون بمدير لحملاتهم تكون مهمته الترويج لشعبية تلك الشخصية بين الناخبين ، وما أجدرنا – في سبيل ديننا – أن تعلم كيف نروج له ونجعله غازيا لقلوب الناس .
(5) من الأهمية بمكان أن نولي هذا الجانب مزيدا من الاهتمام عبر إيجاد المتخصصين المتفرغين ( مكاتب خبرة ) لابتكار وسائل دعوية تفيد الدعاة وتعينهم في مجهودهم الدعوي .
الطريقة الرابعة :
( التعلم والتعليم )
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لكُميل – رجل من أصحابه - : احفظ ما أقول لك : الناس ثلاثة ، فعالم رباني ، وعالم متعلم على سبيل نجاة ، وهمج رَعاع ، أتباع كل ناعق ، يميلون مع كل ريح ، لم يستضيئوا بنور العلم ، ولم يلجئوا إلي ركن وثيق ، العلم خير من المال ، يحرسك وأنت تحرس المال ، العلم يزكو على العمل ، والمال ينقصه النفقة ، ومحبة العالم دين يدان بها باكتساب الطاعة في حياته ، وجميل الأحدوثة بعد موته وصنيعه ، وصنيعة المال تزول بزوال صاحبه ، مات خزان الأموال وهم أحياء ، والعلماء باقون ما بقي الدهر ، أعيانهم مفقودة ، وأمثالهم في القلوب موجودة أهـ.
نصوص الشرع المطهر وآثار السلف وأقاويل أهل العلم في فضل العلم والعلماء والتعلم والتعليم خارجة عن حوزة الحصر ، والمقصود من هذا الباب بيان خطر العلم والتعلم في رفع راية الدين وسموق لوائه بين العالمين .
والمقصود بالعلم ههنا كل علم أورث خشية لله وعزة للدين ، وإن كان من علوم الدنيا ، وعلوم الدين مقصودة لذاتها ، أما علوم الدنيا فمقصودة بالتبع ، فمن ابتغى علما من علوم الدنيا كالطب والهندسة والفلك والكيمياء والإدارة والمحاسبة وتقنية الحاسب الآلي واحتسب المثوبة وصدق في تسخير علمه لخدمة الدين رُجي أن تكون هذه العلوم بمثابة علوم الدين ، بل طلبها حينئذ أشرف ممن طلب علوم الدين ولم يرفع بها رأسا .
إن المقصود بكلامنا عن العلم هنا ما يعين على إعزاز الدين ورفع راية الحق ، ولا يكون ذلك إلا بثلاثة أمور :
الأول : تعظيم العلم وإجلاله واعتقاد خطورته كما قال حافظ حكمي رحمه الله :
وقدس العلم واعرف قدر حرمته لو يعلم المرء قدر العلم لم ينم
الثاني : الجد في طلبة وترك الدعة والكسل ، ومسابقة الغير فيه ، والتفوق على أهل ملة الكفر والعناد .
الثالث : الالتزام بمنهج جاد يسير عليه ويعول .
ثم إن المقصود بالتعلم والتعليم ههنا أيضا بلوغ الرتبة العليا والغاية الكبرى منهما ، وليس مجرد نوال حظ منه ولو كان قليلا .
فهمة الدعاة والغيورين على الدين يجب أن تسابق الريح ، وأن تكتسح الصعوبات ، وتتجاوز الأزمات ، فترقى بصاحبها إلى ذرى المجد والناس قعود .
أما آلية التعلم والتعليم فهي المقصودة من بحثنا ههنا ، وكيف يستطيع الدعاة أن يوظفوا هذا الركن الركين ( العلم ) في خدمة الدين ؟
إنه ما من شك أن كل أمر من أمور الدنيا له مقاصد ووسائل ومتممات ، والمقاصد هي التي تحدوا طالبها للرغبة فيها ، والوسائل سبيله الجادة لنيل مرغوبه ومطلوبه ، والمتممات مسلكه في حفظ ما ناله وحصل عليه .
ومقصود العلم بالنسبة لطلاب الآخرة نوال رضا الله تبارك وتعالى والفوز بجائزته تبارك وتعالى ، ومن مقاصد العلم تطهير النفس وتزكيتها وترقي المراتب العليا في العبودية ، ومسامتة الملائكة في مراتب الطاعة ، إذ بالعلم تزداد الخشية وتعظم الإنابة .
أما وسيلة السالك طريق الآخرة في نيل مطلوبه من العلم وتتميم ذلك بحفظه من الزوال وعدم النفع ، فيكون بما سنسطره ههنا .
فالذي ينبغي أن يعلمه كل غيور على الدين ومساهم في إعزاز الدين أن العلم كيان استراتيجي وحيوي للدعوة الإسلامية ، وهو بمثابة الروح السارية في بنيان الصحوة ، وماء حياتها ورواؤها ، وبقد ما تبلغ الصحوة من العلم شأوا بقدر ما تنال من الإعزاز قدرا .
ومعنى كون العلم كيانا استراتيجيا أنه صار ثابتا لا يقبل التغير أو المساومة ، وأنه يجب أن يوضع في أول سلم الأولويات ، كما أن اشتراطه وصفا لازما في حملة هذه الدعوة يجب أن يكون صارما لا يقبل التنازل أو التنازع .
فالدعوة لا يمكن أن تبدأ خطواتها بالجهل ، ولا يمكن أن تتسارع في الخطو بأقدام الجهلاء ، ولن تستطيع أن تقيم للدين صرحا شامخا وهي من عدة العلم خاوية على عروشها .
وقد أثبت التاريخ بالتجربة - بعد أن ثبت ذلك بنص الوحي المعصوم - أنه ما من أثر يخلد أو جهد يبقى أو تركة تدوم إلا العلم النافع الذي يستفيد به صاحبه ويفيده الناس .
فيجب والحال كما ذكرنا أن تتواصى همم الدعاة على تبني ميثاق غليظ في إحياء هذه القيمة في قلوب أفراد المجتمع ، ومن باب أولى في نفوس من ينتمون إلى هذه الصحوة المباركة ، وتحريك ماء الكسل الآسن الذي أنتن بطول الخمول والمكث ، وحفز الطاقات الهادرة التي تنصرف في أودية الدنيا إلى احتضان العلم وتبنيه وإنزاله المنزلة اللائقة به .
لم يعد من المقبول أن نكون من أصحاب دين أول كلمة في الوحي الذي اختصصنا به الأمر بالقراءة فإذا بنا نقف في ذيل القراء والناهلين من العلم القراح ، كما لم يعد من المقبول أن نرى جلد الكفار والفجار في طلب العلم ورقي مراتبه وتسنم مدارجه وحملة الحق يحملقون وللشفاه يمصمصـون .
يقول الراشد : إن من مصائب أمتنا اليوم أنها لا تقرأ ، ومع ذلك فلا يتجه هذا الخطاب لها ، لأن طريق الاستدراك طويل ، ويبدأ بيقظة الخاصة من دعاة الإسلام ليقودوا البقية ، وإنما الخطاب متجه لهذه الخاصة الرائدة القائدة ، بل ولفتيان الدعوة الميامين ، الذين هم قادة المستقبل ، فنعم الفتيان فتيان الدعوة لو قرءوا .
لقد عرفت شباب الإسلام وصاحبتهم واقتربت منهم ، فوجدتهم من أنقى الناس سريرة وأنصعهم طهرا وأصفاهم عقيدة وأجزلهم وعيا ، ورأيت منهم تشميرا إلى الخير في حرص دائب وفرارا إلى الله تعالى من خلال طريق عريض لاحب ، لكنها كثافة المطالعة تنقصهم ، ولو أنهم أحنوا ظهورهم على كتب التفسير والحديث والفقه والتاريخ طويلا ، واكتالوا لهم من الأدب والثقافة العالمية العامة جزيلا لكملت أوصافهم ولتفردوا في المناقب .
وإني لأعجب من دعاة الإسلام الذين أراهم اليوم ، كيف يجرؤ أحدهم على إطالة العنق في المجالس ، والنشر في الصحف ، قبل أن يجمع شيئا من البيان جمعه الطبري في تأول آي القرآن ، وقبل أن يرفع له راية مع ابن حجر في فتحه ، ولم ينل بعد من رفق أم الشافعي وحنانها ولا كان له انبساط مع السرخسي في مبسوطه ، أو موافقة للشاطبي في موافقاته ؟
وكيف يقنع الداعية وهو لم يقرأ بعد المهم من كتب ابن تيمية ، وابن القيم ، والغزالي ، وابن حزم ؟ وكيف يسرع داعية إلى ذلك وهو لم يكثر من مطالعة كتب الأدب العربي القديم ، ولم يعكف مع الجاحظ وأبي حيان أو ابن قتيبة وأديبي أصبهان ؟
وأعجب أكثر من هذا لداعية أثير حماسته لهذه العلوم والآداب فيقول : ليس لي وقت ، كأنه غير مطالب بإتعاب نفسه تعبا مضاعفا ، ولا شرع له السهر !
ثم أعجب أكثر إذا ذكرت له كتابا فيأتيني من الغد مغاضبا ، لخطأ وقع فيه كاتبه ، أو بدعة طفيفة ، كأن العلم لا يؤخذ إلا من صاحب سنة محضة وكتاب مصون !
وماذا عليك لو أنك قرأت ونقحت ، وتخيرت وانتقيت ، وأخذت وأعرضت ؟ .
إن أول خطوة يجب أن تخطوها الصحوة المباركة في هذا الدرب أن يتواصى الأفراد فيما بينهم على ضرورة تدارك العمر في تحصيل العلم ، وحفز الهمة في التنافس إليه ، وإشاعة هذه الروح بين كل المنتمين إلى الصحوة المباركة ، وأن يتحرك العلماء والدعاة في النداء إلى ثورة في مجال العلم ننفض به غبار الجهل العالق عبر مئات السنين ، نبعث روح السلف الصالح في أجسادنا لتنتبه من رقدتها وتستيقظ من نومتها .
وبعد ذلك يجب أن توضع المناهج التفصيلية في تربية الناشئة على العلم وحبه وطلبه والشغف به ، فإن ذلك هو الأساس المكين في إيجاد أمة تعظم العلم وتحييه وتقوم به .
كما يجب أن يعمل المسئولون في الحركات الإسلامية على توفير كل الإمكانيات المتاحة لتسهيل عملية طلب العلم لشباب الصحوة ، وتشجيعهم وتبني العبقريات الفذة منهم ، ولإصلاح المناهج التربوية بما لا يتعارض مع هذه المقاصد المذكورة .
إن مساجد الدعوة وبيوتات الدعاة يجب أن تكون صروحا للعلم ، ومنارات لطلبته ، ويجب أن يتعاون الدعاة في إيجاد المرجعيات العلمية لكل العلوم ، بحيث يسهل على طلبة العلم أن يختاروا العلوم التي تميل نفوسهم إليها .
إننا لا نطمع أن يكون المجتمع كله علماء ، ولكننا نتمنى أن يكون المجتمع بأكمله من طلاب العلم الذي يدعو العقل ليحيى من رقدته فلا يستسلم للظلم والجور أو يرضى بالهزيمة والهون .
وطالب العلم الذي بإمكانه أن ينفع دعوته ودينه هو الذي يسلك جادة العلم بجد ، وينأى بنفسه عن أماني الحالمين ، وخطو الكسالى الخاملين .
ومن أجل رفع معنويات طلبة العلم وحفز هممهم فيجب ألا يترك لهم طريق الطلب يتخبطون في دياجيره وأساليبه المختلفة المتباينة ، بل يجب أن توضع مناهج الطلب بإزاء تيسير الشيوخ المتخصصين الذين سيكون لهم اليد الطولى في توجيه الطلبة .
والآفة التي يعلمها كل طلبة العلم الآن أن مسيرة طالب العلم – إذا كانت له مسيرة أصلا – متروكة لهواه ومزاجه الشخصي ، فهو يقرأ اليوم كتابا فإذا مله أو وجده ثقيل الدم استساغ الترحل عنه إلى كتاب آخر دون استشارة شيخ أو انتهاج منهج .
وآخرون يقرءون الكتب التي اشتهرت بين العلماء دون اعتبار لمستواهم وإمكانياتهم في فهم أو هضم المعلومة ، وآخرون يقرءون الكتب ذات التجليد الجميل والغلاف الخلاب ، فإذا ما كان الكتاب ذا ورق أصفر أو تجليد منفر نفرت منه قلوبهم وتذرعوا بأن أعينهم لا تطيق النظر إلى الكتب الصفراء .
والأمزجة في هذا الباب لا حصر لها ، وقد عانيت شخصيا أثناء الطلب من بعض هذه الأمزجة الهوائية – لقلة الشيوخ والموجهين آنئذ – ولا شك أن هذا المسلك من شأنه أن يكون عائقا كبيرا في اتجاه تخريج طلبة العلم الجادين المثابرين .
وفي مقابل هذا المزاج الهوائي لطلبة العلم فإننا نجد بعض الشيوخ والعلماء والدعاة – للأسـف – يساهمون بدور ذي بال في تقعيد هذا المسلك وتقنينه ، وذلك عن طريق انتهاجهم نفس الطريقة في التدريس ، فبعض الشيوخ لا يثبت على كتاب ، فهو كالحال المرتحل ، بل ربما لا يثبت على علم واحد ، وإنما هو موسوعي مثل القاموس المحيط والقابوس الوسيط الجامع لما ذهب من كلام العرب شماطيط .
وآخر من العلماء والشيوخ لا عناية له بتلامذته ومريدي علمه ، فهو يلقي لهم بالمعلومات ولا يبالي فهمها فاهم أو أخطأ في تلقيها ساذج ، وربما توجد عنده عبقريات فذة لا يلقي لها بالا .
وآخر همه تلقين العلم الشرعي دون أدبه ، فيتخرج تلامذته كالخشب المسندة أو العظام النخرة أو كأعجاز نخل خاوية ، ولربما كان أول من يحاربه ويعارضه ويهاجمه هم تلامذته لأنهم لم يتنشأوا على احترام أهل العلم وتوقير حملته . وقد رأينا في عصرنا من طلبة العلم من نشأ على هذه الشاكلة فأرداه سوء منهجه في الوقيعة بالعلماء والأئمة وسبهم والحط من أقدارهم .
وآخرون كثر ليسوا بعلماء ولا أنصاف علماء ، ولكنهم متطفلون على موائد العلم ، شعارهم : قلت وعندنا ( ومن أنتم حتى يكون لكم عند ؟!!) ، وهذا الإمام لم يفهم الحديث ، وذلك الصحابي قوله مردود ، ونحو ذلك من العبارات التي لا طعم لها ، ولكنها خرجت من أفئدة خاوية من توقير العلم وأهله ، ومن عقول مفلسة من العلم وعدته .
إن هذه الآفات الناهشة في نسيج الصحوة يجب أن تستأصل من الجذور ، وتستبدل بالمثل الكاملة التي كان عليها سلف الأمة ، فلن يصلح آخرها إلا بما صلح به أولها كما قال الإمام مالك رحمه الله .
ولقد شهدت الصحوة تجربة المعاهد العلمية الخاصة التي استظل بها كثير من طلبة العلم دهرا ثم قلب لها الطغاة ظهر المجن حينما رأوا الأثر الجارف الذي أحدثته في الصف الإسلامي ، بل تواصل زحف الطغاة إلى الدعاة في بيوتهم لأجل منع دروس العلم وتجفيف أي ينبوع حكمة في المجتمع الإسلامي وإطفاء كل شعاع ينبثق في زاوية من زواياه ، وليس من شيء نتسلى به ونتعزى إلا قول الله تعالى : { يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون } ، وقال : { ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون } .
ولكن ذلك لا ينبغي أن يفت من فؤادنا أو ينال من عزيمتنا ، فإن العلم كما أسلفنا استراتيجية لا تراجع عنها ، ويجب أن نستغل كل الوسائل الممكنة للرقي بمستوى المنتمين إلى الصحوة علميا حتى ولو كان بابتكار المناهج التعليمية الجديدة والجادة التي تعالج الوضع المنقوص الذي نعيشه ونحياه .
وقد كان لكاتب هذه السطور معاناة لمأساة طلبة العلم ، فتم وضع منهج يعالج إشكاليتين حاصلتين ، الأولى : إشكالية عدم وجود العلماء أو قلتهم أو عدم تفرغهم الكامل لطلبة العلم ، والثانية : إشكالية نوعية الكتب التي يجب قراءتها في كل علم مع اعتبار المرحلية والتدرج في الطلب والتحصيل .
فعلى صعيد قلة العلماء عالج المنهج قضية التلقي باعتبارها الأساس الذي اشترطه السلف الصالح في اعتبار العلم ، حتى قال قائلهم :
من يأخذ العلم عن شيخ مشافهة يكن عن الزيغ والتحريف في حرم
ومن يكن آخذا للعلم من صحف فعلمه عند أهل العلم كالعــدم
وذلك بتقنين قراءة الطلبة للكتب ، عن طريق التدرج في مستوى الكتاب حتى تقل نسبة العبارات الغامضة والمسائل الصعبة ، مع اشتراط وجود الشيخ المتابع الذي يجري اختبارات شفوية وتحريرية ويشرح عينات مختلفة من الكتب أو العناوين التي يقرؤها الطالب .
وعلى صعيد نوعية الكتب فقد تم اختيار الكتب التي يسهل قراءتها ( مع الحرص أن تكون نسبة كبيرة منها من كتب التراث الأصيل ) وتصعيد مستواها مرحليا بعد نجاح الطالب في اجتياز الاختبار التحريري والشفوي .
وتضمن المنهج بحثا مختصرا في كيفية الاستفادة من قراءة الكتب ، تم فيه تقعيد أسس القراءة النافعة ، والوسائل العملية لتحصيل أعظم فائدة للقارئ العادي والمتوسط والعالي المستوى ، وكل ذلك عن طريق أبحاث نفسية واجتماعية تم الاستفادة منها وتأطيرها في إطار شرعي إسلامي .
إن أقل ما يجب أن يبذله دعاة اليوم هو تكوين مجموعات علمية والإشراف عليها ، والرقي بمستواها العلمي والتطبيقي ، وإكسابها الدربة اللازمة لكل ما تحتاجه الدعوة من علوم ومعارف ، حتى الدنيوي منها ، وبدون ذلك فإخال كل المحاولات المبذولة قد أثبتت التجربة أنها باءت بالفشل .
وينبغي أن يتدارس الدعاة دوما هذه القضية باعتبارها مشكلة حقيقية تهدد المستقبل الدعوي بحق ، وما لم يعلم الدعاة على تدارك هذا الأمر في مؤتمراتهم واجتماعاتهم فإن الصحوة إما أن تنحسر كما أو كيفا ، وفي كلتا الحالتين فالخاسر الوحيد هو مستقبل هذا الدين .
ولكن على صعيد المجهود الفردي نقول : إن أي منتم للصحوة المباركة بل للدين الحنيف لا بد أن يقوم لله قومة صدق ، ينفض عن سربال إيمانه غبار الجهل ، ويتحلى بزينة العلم ، ويصطف في مسيرة الساعين إليه الباحثين عنه الطالبين له .
ويكون ذلك ببذل كل جهد مستطاع في مخالطة العلماء وطلبة العلم والأخذ بنصائحهم في قراءة الكتب ، ومشافهة الشيوخ في مسائل العلم ، وعرض ما يصعب أو يستغلق فهمه عليهم .
الطريقة الخامسة
( اكتساب مهارات الدعوة )
إن الدعوة كغيرها من الأعمال تحتاج إلى دربة وخبرة ، وما من عمل أتقنه صاحبه بالفطرة ، مصداق ذلك قوله تعالى : { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون } .
وموسى عليه السلام طلب الاستعانة بذي الخبرة حين قال : { واجعل لي وزيرا من أهلي . هارون أخي . أشدد به أزري وأشركه في أمري } . كما أن مما رشحه أن يؤاجره صاحب مدين للعمل توفر الشرطين الذين ذكرتهما إحدى البنتين : { إن خير من استأجرت القوي الأمين } . وطالوت استحق الملك بما أوتي من بسطة في العلم والجسم .
وهكذا يجب أن يمضي الدعاة ، يجابهون الصعاب ويواجهون المواقف بمهارات مكتسبة ، وخبرات مجتناة ، ودربة مستقاة . ما أعظمها من همة لا تترك لكلمة ( ظروف ) حجة لمحتج ، أو عذرا لمعتذر ، إنه يأبى إلا الكمال ، لأن النفوس الكاملة تستقبح النقص :
ولم أر في عيوب الناس عيبا كنقص القادرين على التمـام
وتكامله في إتقان الأسباب مواز ليقينه في معونة الله تعالى ، لأنها لا تأتي إلا على قدر المئونة ، وهداية التوفيق منوطة باتباع هداية الإرشاد ، والله لا يضيع أجر المحسنين .
إذا أسند إلى أحدهم عمل من أعمال الدعوة أقبل عليه بالدرس والتحليل والتمحيص ، واقترح الأساليب ودرس إمكانية تطبيقها ، والعوائق التي قد تحول دون نجاحها ، كما يدرس النتائج المتوقعة واحتمالات الفشل والبدائل المقترحة
إن الداعية الناجح ذو قلب عقول ولسان سئول ، يبغض الجهل ، ويعظم العلم ، ويحترم التخصص ، يرفض أن يقوم بعمل لا يتقنه حتى يتقنه . فهو لا يحتج بعدم الإتقان على ترك العمل ، بل يعتذر عن العمل ريثما يتقنه ويقوم به حق القيام .
إن الداعية الناجح إذا أسندت إليه خطبة حال كونه لا يجيد الخطابة ، استأذن أصحابه شهرا ليتعلم فن الخطابة ويجيد أساليبها ، ليرقى المنبر متمكنا من صنعته مالئا مكانه الذي وضع فيه .
إن الداعية الناجح إذا اكتشف أنه لا يتقن محادثة الناس على الملأ ، هرع إلى المكتبات يبحث عن الكتب التي صنفت في كيفية تنمية مهارات المحادثة ومواجهة الجماهير .
إن الداعية الناجح إذا خطب في موضوع أشبعه ، وإذا تحدث في قضية أتى على تفاصيلها فلم يترك تعقيبا لمعقب .
إن مشاريع الدعاة الناجحين لا يعتريها الفشل من قبل تقصيرهم ، أو يصيبها الشلل بسبب أخطائهم ، بل بأقدار وحكم لا يعلمها إلا الله تعالى .
وهم في بذلهم الوسع مثل الأنبياء الذين مكثوا في أقوامهم مئات أو عشرات السنين ثم لا يأتون يوم القيامة مع أقوامهم إلا بالرهط وبالواحد والاثنين وربما يأتي النبي وليس معه أحد .
والمهارات الدعوية تخصص يجب أن نؤمن به ونحترمه ، فليس كل عالم داعية والعكس صحيح أيضا ، وكم من علماء متخصصين ملئوا الدنيا علما ولكنهم يفشلون في أي موقف دعوي ساذج .
وكما يجب على الدعاة ألا يفتئتوا على وظيفة العلماء في الفتوى والإفادة ، فيجب على العلماء ألا يحتكروا الدعوة بزعم احتكارهم للعلم .
والواقع يشهد بأن المهارات الدعوية صارت تتطلب تخصصات مختلفة ومعقدة لا يسد احتياجاتها المتخصصون في الفقه والحديث .
فالدعوة تحتاج إلى المربين لمختلف الأعمار ، والذي يتعهد الأطفال والصبية الصغار ليس كمن يربي الشبيبة المراهقين ، ومن يعنى بمقارعة المنصرين ومجابهة العلمانيين لن يتفرغ كثيرا للاهتمام بسد حاجة الفقراء المسلمين مثلا .
إنها وظائف كثيرة ، تحتاج إلى جهود متضافرة ، وفي نفس الوقت إلى مهارات مكتسبة تتناسب وتلك الوظائف .
إذ لم يعد من المقبول أن يقوم داعية واحد بكل تلك الأنشطة التي ذكرناها ، أو يهتم بها ويفكر فيها ، إن ذلك سيؤدي به إلى خلل في الأداء أو قصور في التخطيط والتنظيم ولا ريب .
فناسب حينئذ أن تتوزع اختصاصات الدعوة على الدعاة ، مع ضرورة أن يقوم كل داعية بإتقان الدور الذي أسند إليه وأن يتخصص فيه ، ويعد نفسه أن يكون مرجعا لغيره من الدعاة فيما أسند إليه .
إننا لن نستطيع إيجاد العالم الموسوعي ، والداعية الجامع لكل الفنون والعلوم ، إلا أن يكون ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ، ولكن ينبغي أن نتعامل مع السنن الكونية بواقعية ، وألا نركن إلى الأماني الكاذبة والأحلام الشاردة .
ومن الواقعية بمكان أن يدرك الدعاة أن مجال الدعوة واسع الأرجاء ، وأنه يحتاج إلى جهود جبارة ، وطاقات هائلة ، وسواعد متضافرة .
وأن الساحة مليئة بالأعداء الذين أتقنوا كل المهارات الممكنة للمواجهة مع الإسلام ، وأنهم يعدون العدة الكاملة لاستئصال الدين ، وأن عدتهم في ذلك متكاملة التجهيز والتنسيق ، وأنهم متفقون على تسخير كل تقنية متاحة في نصرة باطلهم .
وبإزاء ذلك يتعامل بعض الدعاة مع واقعهم بسذاجة وبساطة لدرجة تدعو للرثاء أو الشفقـة ، مدفوعون بعواطف صادقة لكنها لا تغني فتيلا أمام سنة الله التي لن تجد لها تبديلا .
فسنة الله لا تحابي أحدا ، حتى الأنبياء والمرسلين ، اجترفتهم أقدار الإله لما حصل التقصير من بعض أتباعهم . أخذت الرجفة موسى ومن اختاره لميقات ربه بفعل بعض السفهاء ، ويهزم جيش فيه خير البشر وخيرة الله من العالمين محمد صلى الله عليه وسلم لأن من جنده من كان يريد الدنيا .
إن المسلمين قد عاشوا – للأسف – قرونا في ظل ثقافة تواكلية ، وتحت سقف سلبية مقننة ، وقد وجد من علماء المسلمين – للأسف أيضا – من يقعد مبدأ السياحة في الأرض والخلوة في الفيافي في وقت كان التتار يدكون حصون الشام والصليبيون يدكون حصون مصر .
إن في بعض الأدبيات الصوفية جنوح لما يمكن أن نسميه دعوة للكسل والخمول ، ولن نعجب أن يستقر في أذهان العامة أن الصوفية أو رواد المساجد في الجملة أصحاب بطون ، أو أنهم عشاق الفَتَّة .
إن هذه الثقافة التواكلية سرت في وجدان الأمة حتى أضحت عقيدة يُعْتدُّ بها ومَهْيَعا يرتاده كل من أراد التدين . ولا أغالي إذا قلت إن شيئا من هذه التواكلية سرى إلى أوصال الصحوة المباركة بفعل التجاور والمعاشرة .
ورأينا من يقنن لهذا الكسل ، ويقعد لما اصطلح عليه العوام اسم ( البركة ) ، أي أن كل شيء يمشي بالبركة أي بدون اتخاذ الأسباب وبدون اكتساب المهارة اللازمة لأدائه .
وسمعت بعض الدعاة ينفر من التخطيط السليم لإدارة الدعوة ، وأن الخير في عدم تعقيد الأمور ، وآخر يبدع العمل الجماعي ، وثالث يحرم ابتكار الوسائل الدعوية ، في نمط من السذاجة لا يتناسب مع مقامهم في العلم والفضل .
الطريقة السادسة
( الدعاء )
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره ) . رواه البخاري ومسلم .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ألا أنبئكم بأهل الجنة كل ضعيف متضعِّف لو أقسم على الله لأبره ألا أنبئكم بأهل النار كل عتل جوّاظ متكبر ) رواه البخاري ومسلم .
وعن محمد بن المنكدر قال : كنت في المسجد ، فإذا أنا برجل عند المنبر يدعو بالمطر فجاء المطر بصوت ورعد ، فقال : يا رب ليس هكذا . قال :فمطرت ، فتبعته حتى دخل دار حزم أو آل عمر ، فعرفت مكانه ، فجئت من الغد فعرضت عليه شيئا ، فأبى وقال : لا حاجة لي بهذا . فقلت : فحج معي . فقال : هذا شيء لك فيه أجر ، فأكره أن أنافسك عليه ، وأما شيء آخذه فلا .
وقال الأصمعي : لما صافَّ قتيبةُ بن مسلم للتُرْك وهَالَهُ أمرُهم ؛ سأل عن محمد بن واسع ، فقيل : هو ذاك في الميمنة جامح على قوسه يبصبص بأصبعه نحو السماء . قال : تلك الأصبع أحب إلي من مائة ألف سيف ، شهير وشاب طرير .
إن المتتبع لنصوص الشرع ليجد بدون فكر أو تأمل أن قضية الدعاء تحتل أهمية قصوى في سياق ما وصى به الشرع ، كما تجد مساحة واسعة في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم تنبيك بالقطع أن القوم كانوا يعولون على هذا الأمر جل مشكلاتهم .
لا جرم قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( الدعاء هو العبادة ) رواه أبو داود والنسائي والترمذي وقال : حسن صحيح .
وهو سلاح ماض ، وعدة عتيدة ، ووسيلة موصلة ، ودرب نافذ ، وسالكه مفلح ورابح في كل الأحوال . وقد علم سلفنا الصالح قوة هذا السلاح فاستعملوه في كل شئون حياتهم ، حتى روي عن أحدهم أنه كان يدعو في دعائه قائلا : اللهم ارزقني طبيخا اللهم ارزقني كذا وكذا .
وعن بعضهم أنه يسأل ربه كل شيء حتى الملح . وهذا هو المذهب السديد في الباب ، أن يلح العبد في المسألة ولو في الصغير من الشأن إذا أظهر الفقر إلى الله في ذلك الحقير ، وأنه غير مقضي إلا بإذن ربه ذي النعم والآلاء . وما ورد عن بعض السلف من أنه يستحيي من الله أن يسأله شيئا من أمور الدنيا ، فذلك محمول على أنه جازم بفقره إلى الله في تلك الأمور وفضل الاجتهاد في الدعاء والتضرع والسؤال للغايات الكبرى كالفوز بالجنة والنجاة من النار . ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات .
وفي سياق موضوعنا حول البذل للدين ، فإننا نلاحظ أن طائفة كبيرة من المسلمين ، ومنهم كثير من الدعاة في كثير من بقاع العالم عجزوا عن كثير من أوجه البذل التي ذكرناها وسنذكرها ، ولم يبق لهم من شيء يقدموه أو جهد ليبذلوه إلا أن يبسطوا الأكف ويتضرعوا إلى القوي العزيز بنصرة الدين .
فليكن الدعاء إذا تخصصا من التخصصات التي ينبري لها الغيورون على دين الله ، ولتكن تلك الأيدي الضارعة سيوفا مصلتة على هام أعداء الدين ، ولتكن تضرعاتها صرخات نذير في وجوه الكافرين .
والذي يجب أن نحشد له اعتقاد الناس : وثاقة اليقين بالله تبارك وتعالى ، وحسن الظن به ، والتعويل على نصرته ، فيدعوا الناس حال كونهم على يقين أن دعاءهم ينفع كما ينفع المال والسلاح وكل مئونة محسوسة .
وقد نطق بذلك الوحي كتابا وسنة ، فقد قال تعالى : { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم } وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا يرد القضاء إلا الدعاء ، ولا يزيد في العمر إلا البر ) رواه الترمذي والحاكم وحسنه الشيخ الألباني في صحيح الجامع .
وما أحوج الدعوة إلى مثل أصبع محمد بن واسع رحمه الله تشكو إلى الله غربة الدين ، وتستنـزل نصره ومدده . وما أحوجنا إلى ذاك الخفي النقي التقي الضعيف المتضعف الذي لو أقسم على الله لأبره .
إن جهود هؤلاء الداعين ليست بأقل من جهود من ينكر المنكر بكل جوارحه ، أو من يواجه صناديد الكفر والنفاق في كل ميدان ، وليست بأقل من جهود الخطباء والوعاظ وكل داعية في كل ميدان ، بل هم الجنود الأخفياء الذين علامة صدقهم خفاؤهم ، وحري بغيور أن يجتهد ليصل إلى مثل ما وصل القوم ، من باب البذل لدين الله تبارك وتعالى .
ولا مجال أن نعدد ههنا ما ورد في استجابة الله لعباده ، حتى ما ظهر من الكرامات في هذا العصر ، فهو مما لا يخفى على أحد ، وذلك أننا – وكل مؤمن حق – لا يربط الاستمرار في الدعاء بحصول الإجابة ، فهذا شأن المنافقين أو الكافرين الجاحدين لقدرة الله تبارك وتعالى ، بل قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا من موانع الإجابة ، فقال صلى الله عليه وسلم : ( يستجاب لأحدكم ما لم يعجل ، يقول : دعوت فلم يستجب لي ) رواه البخاري ومسلم .
كما أن الإلحاح في الإجابة يجب أن يكون دأب كل الدعاة إلى الله تعالى ، وهو شأن علاقتهم بالله القائمة على دوام المناجاة والاجتهاد والتضرع .
وقال الأوزاعي يقال : أفضل الدعاء الإلحاح على الله والتضرع إليه . رواه البيهقي في شعب الإيمان .
وعن عبدا لله بن عكيم قال : خطبنا أبو بكر رضي الله عنه فقال : أما بعد أوصيكم بتقوى الله ، وأن تثنوا عليه بما هو له أهل ، وتخلطوا الرغبة بالرهبة ، وتجمعوا الإلحاح بالمسألة ، فإن الله أثنى على زكريا وأهل بيته ، فقال : { إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين } .
ويستلزم لمن صدر نفسه لخدمة الدين عن طريق الدعاء أن يحصل أسباب وشروط الإجابة بأن يطعم من الحلال وأن يتحرى المكان والزمان الأحرى بالقبول ، وكل ذلك مسطور في كتب أهل السنة بما لا مزيد عليه .
الطريقة السابعة
( تربية أفراد الأسرة )
يقول الله تبارك وتعالى : { يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون } .
عن علي رضي الله عنه في قوله تعالى :{ قوا أنفسكم وأهليكم نارا } ، يقول : أدبوهم وعلموهم ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابـن عبـاس : { قوا أنفسكم وأهليكم نارا } يقول : اعملوا بطاعة الله واتقوا معاصي الله وأمروا أهلكم بالذكر ينجيكم الله من النار . وقال مجاهد : { قوا أنفسكم وأهليكم نارا } قال : اتقوا الله وأوصوا أهليكم بتقوى الله . وقال قتادة : تأمرهم بطاعة الله وتنهاهم عن معصية الله وأن تقوم عليهم بأمر الله وتأمرهم به وتساعدهم عليه فإذا رأيت لله معصية قذعتهم عنها وزجرتهم عنها . وهكذا قال الضحاك ومقاتل : حق المسلم أن يعلم أهله من قرابته وإمائه وعبيده ما فرض الله عليهم وما نهاهم الله عنه . وفي معنى هذه الآية الحديث الذي رواه أحمد 3/210 وأبو داود 494 والترمذي 407 من حديث عبد الملك بن الربيع بن سبرة عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين فإذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها ) هذا لفظ أبي داود ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن . وروى أبو داود 495 من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك .
قال الفقهاء : وهكذا في الصوم ليكون ذلك تمرينا له على العبادة لكي يبلغ وهو مستمر على العبادة والطاعة ومجانبة المعاصي وترك المنكر . والله الموفق .
وقال الله تبارك وتعالى مادحا إسماعيل عليه السلام : { وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا } . قال ابن كثير – رحمه الله - : هذا أيضا من الثناء الجميل والصفة الحميدة والخلة السديدة حيث كان صابرا على طاعة ربه عز وجل آمرا بها لأهله كما قال تعالى لرسوله : { وأمر أهلك بالصلاة وأصطبر عليها } الآية . وقال : { يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمـرون } أي مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر ولا تدعوهم هملا فتأكلهم النار يوم القيامة .
وقد جاء في الحديث عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( رحم الله رجلا قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته فإن أبت نضح في وجهها الماء ، ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها فإن أبى نضحت في وجهه الماء ) أخرجه أبو داود وابن ماجه وقال الشيخ الألباني في صحيح أبي داود : حسن صحيح .
وعن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا استيقظ الرجل من الليل وأيقظ امرأته فصليا ركعتين كتبا من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات ) رواه أبو داود والنسائي كبرى وابن ماجه واللفظ له وقال الشيخ الألباني في صحيح أبي داود : صحيح .
وهكذا حال من وقف نفسه على إصلاح الناس ودعوتهم إلى الخير ، فإن أول من يبتدئ بهم أهله الأدنون كما قال تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : { وأنذر عشيرتك الأقربين } ، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ) ، وقال صلى الله عليه وسلم : ( كفى بالمرء إثما أن يضيع من يعول ) ، وتضييعهم بعدم التربية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتجافي بهم عن موارد الهلكة أعظم ضررا من تضييعهم بعدم الإنفاق والإطعام .
إن انشغال الداعية أو أي مسلم بإصلاح أسرته من أعظم طرق التمكين لدين الله تبارك وتعالى ، ومن أيسر الوسائل لأسلمة المجتمع بصورة أفقية ورأسية ، بل هو أيسر من المعتركات التي يخوضها الدعاة في مواقع المجتمع المختلفة دون أن يكون لديهم الظن الغالب في النصرة والغلبة ، هذا من حيث الكم ، أما من حيث الكيف فإن اعتناء المسلم بأسرته أعظم أثرا من إصلاحه لفرد خارج الأسرة ، فهو يتمتع بولاية شرعية تتيح له ممارسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بكل مراتبه ، وتفرغه للعناية بالمشكلات داخل الأسرة وعلاجها أكثر من تفرغه خارجها بل إن تأثر أفراد الأسرة به كقدوة تفوق تأثر غيرهم ، وما ذلك إلا لطول العشرة والمعاينة والمعاملة .
ولكن الذي يجب الاعتناء به تلك المناهج الكفيلة بتحقيق أعلى قدر من الثمرة التربوية المرجوة ، إذ المسببات تبع لأسبابها ، والنهج التربوي الذي يجب أن يلاحظه كل عائل يقوم على دعائم أساسية هي بمثابة الأهداف أو الاستراتيجيات التي تنبني عليها الوسائل والمعالجات .
أما تلك الدعائم فهي :
(1) تأسيس حياة إسلامية في المنزل قوامها الخضوع التام لأحكام الشرع والاستجابة السريعة لأوامر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .
(2) العمل على ازدياد الإيمان عبر رحلة الحياة ، والاجتهاد في الطاعات والعبادات .
(3) بناء أسرة قوية إيمانيا وعلميا ونفسيا وأخلاقيا .
(4) تأسيس العلاقة بين أفراد الأسرة على الحب والإيثار والشفقة والنصح .
(5) تحصين أفراد الأسرة بمناعة إيمانية ضد ابتلاءات الدنيا كالأمراض والفقر ونحو ذلك .
(6) الاهتمام بالجوانب المتممة للضروريات مثل النظام والنظافة والذوق العالي والآداب الرفيعة .
(7) العمل على تحصين أفراد الأسرة ضد فتن العصر المختلفة الهادمة لبناء الدين .
(8) إعلاء الحس الجهادي ، والتعويد على البذل في سبيل الدين .
(9) الاهتمام باللغة العربية ، والعلوم الشرعية ، والثقافة العامة .
(10) تأسيس مبدأ التنافس على الفضائل والتسابق إلى الخيرات .
وعلى ضوء هذه الأسس والمفردات العامة الملاحظة في العملية التربوية طوال عمر هذه الأسرة يتم وضع المناهج التربوية العملية التي تتجه لتحقيق تلك الأهداف .
وليس هذا الدور التربوي مقصورا على رب الأسرة وقيمها وهو الأب ، بل كل منتم إلى أسرة وإن قل قدره وضعف شأنه لكن علت همته في جانب الإصلاح والرغبة في معالجة الخلل .
فكل من انتمى للصحوة المباركة مدعو أن يمارس دوره التربوي داخل أسرته مساهمة في نشر نور الدين ، وإشاعة الخير والهدى بين أفراد المجتمع .
وساطر هذه الكلمات على يقين أن لو كان في كل أسرة فرد منتصب للقيام بحق الله في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الهدى وإصلاح العوج فالتمكين لدين الله عز وجل يكون من باب تحصيل الحاصل .
ولا شك أن من أهداف الصحوة في المرحلة المقبلة تفعيل دور كل منتم إليها ، والرقي بمستواه العلمي والتربوي ، فيصبح في كل ميدان صوت حق ينادى على الخلائق ، ويتدخل لإصلاح العوج ، وتعميق الانتماء للدين الحنيف .
الطريقة الثامنة
( المناصب المؤثرة )
يقول الأستاذ محمد محمد حسين في كتابه ( حصوننا مهددة من داخلها ) بعد أن استعرض جهود الدول الغربية الكبرى – كأمريكا –في تغريب المناهج التعليمية والتربوية والاجتماعية السائدة في العالم الإسلامي ، وعقدها لمؤتمرات حاشدة تدعو فيها مسئولي التعليم في الدول الإسلامية منفقة على هذه المؤتمرات ببذخ شديد ، يقول – رحمه الله - : ثم إن هذه المؤتمرات هي – من ناحية أخرى – وسيلة للاتصال القريب المباشر بالمسئولين ، يعجمون عودهم ، ويدرسونهم عن قرب ، ويختبرون مدى مناعتهم ومدى استعدادهم للتجارب مع الأهداف الخفية للسياسة الاستعمارية ، كما يختبرون مواطن القوة ومواطن الضعف في كل واحد منهم لمعرفة أنجح الوسائل للاتصال بهم والتأثر عليهم …… ثم يقول : وهدف آخر من هذه الأهداف الواضحة هو السيطرة على توجيه المجتمع ، عن طريق هؤلاء الأصدقاء من أصحاب النفوذ . أهـ
وفي مجلة سان دياجو عدد شهر أغسطس 1985م يقول جيمس ميلز الرئيس السابق لمجلس الشيوخ : إن الرئيس ريجان ( رونالد ريجان ) أظهر بصورة دائمة التزامه القيام بواجباته تمشيا مع إرادة الله ، وذلك كأي مواطن آخر يحتل منصبا عاليا ، وقال ميلز أيضا في المقال : إن ريجان كان يشعر بهذا الالتزام خصيصا وهو يعمل على بناء القدرة العسكرية للولايات المتحدة ولحلفائها . وقال : إذا كان ريجان يؤمن بما قاله لي في عام 1971 وسواء كان أو لم يكن موضع تخمينات معلقي الصحف في السنوات القليلة الأخيرة ، لا يخامرني شك في أنه ينظر إلى مسؤولياته كقائد للعالم الغربي ، ويبدو لي أن معظم قراراته السياسية متأثرة بهذا المفهوم . وقال أيضا : إن سياسات الرئيس ريجان الداخلية والمالية منسجمة مع التفسير اللفظي للنبوءات التوراتية – الإنجيلية . أهـ
وقال ابن كثير في تفسير قوله تعالى : {واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا ..} : وفي الحديث إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن أي ليمنع بالسلطان عن ارتكاب الفواحش والآثام ما لا يمتنع كثير من الناس بالقرآن وما فيه من الوعيد الأكيد والتهديد الشديد وهذا هو الواقع أهـ
إن مناصب الحكم قد جعل الله تبارك وتعالى فيها من التسلط والقهر – بحكم عرف الناس ومواثيقهم التي جبلوا عليها – ما لم يجعل في غيرها من المناصب . وإذعان الناس لرأي السلطان والقوة أعم وأفشى من إذعانهم لرأي ذي الحجة والبينة .
ولما أراد الله تبارك وتعالى انقياد القلوب إليه بالرسالة الخاتمة لم يرسل رسولا مَلِكا بل عبدا رسولا متواضعا ، يأمر من موقع رساليته ، ويوجه من منطلق إبوته البشرية العامة ، وما ذلك إلا ليكون إقبال الناس بقلوبهم لا بأبدانهم .
ولكن ذلك لم يمنع النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ بأسباب القوة ويقيم قواعد الحكم والسياسة الشرعية التي ألزم الناس أن ينضووا تحت لوائها ، ولم يترك لأحد الاختيار في شأن الطاعة المطلقة له كرسول وحاكم يحكم بما أنزل الله تبارك وتعالى .
ومجتمعاتنا الإسلامية في الغالب ما زالت تحافظ على الشعائر الظاهرة أو تحترمها في الجملة ، كالصلاة والحج ونحو ذلك ، ولا بد أن يستغل الدعاة هذه العقيدة الاجتماعية في إحياء شعائر الإسلام ليصطبغ المجتمع بصبغة الدين ، وتعلو كلمة الله على الدين كله .
وأقوم ما يمكن سلوكه لبث هذه الشعائر في ميادين المجتمع أن نستعين بأولياء الأمور من ذوي المناصب الرفيعة والنافذة ، ونحفز غيرتهم على الدين ، ونستنفر شعورهم الإسلامي الدفين ، مطالبينهم القيام بأمر الله تبارك وتعالى في حق الممكنين في الأرض حيث قال عز من قائل : { الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ، ولله عاقبة الأمور } . قال الحسن وأبو العالية : هم هذه الأمة إذا فتح الله عيهم أقاموا الصلاة وقال ابن أبي نجيح : يعني الولاة وقال الضحاك : هو شرط شرطه الله عز وجل على من آتاه الملك ، وهذا حسن ، قال سهل بن عبد الله : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على السلطان وعلى العلماء الذين يأتونه وليس على الناس أن يأمروا السلطان لأن ذلك لازم له واجب عليه ولا يأمر العلماء فإن الحجة قد وجبت عليهم .
وقد خبرت عن كثير من الدعاة أخذهم بمبدأ مجانبة السلطان وعدم الدخول عليه ، ولا شك أن هذا منهج السلف ، ولكنه ليس مطردا في كل الأحوال ، بل كان السلف لا يدخلون على السلاطين في أمور الدنيا زهدا فيما في أيديهم ، إما إن كان ألم بالمسلمين رزيئة أو حدث منكر متعاظم فتكاسل السلطان عن إنكاره نصحه العلماء سرا فإن أبى أعلنوا وقاموا هم بالأمر دونه .
كما أنه ليس صحيحا أن الأصل في نصيحة ولاة الأمر أن تكون في السر ، بل قد يحتاج الأمر إلى المناصحة في الجهر كما لو جحد الحاكم حكم الشرع وأبى تطبيقه ، أو علم جهله وعمايته عن النصيحة بالتفاف بطانة السوء حوله .
وفي سيرة النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين نماذج تبيح مبدأ المناصحة من قبل المتأهل لها ، وأنها الأصل فيما بين الحاكم والمحكوم ، وأن الحاكم لو جحد هذا الأصل جاز للناصح بل استحب – وربما وجب – أن يناصحه رغما عنه ما دام قد رآه على منكر لا يجوز السكوت عليه .
ومن أقل أحوال المناصحة أن نحض أولي الأمر على التمسك بشرع الله ، والمبادأة بهذه النصيحة لا تحتاج إلى وجود سبب أو مناسبة ، فكيف لو كانت هناك أسباب كثيرة تدعونا إلى الإكثار من مناصحة أولي الأمر حول هذا الفرض المهجور ( أعني تطبيق شرع الله والتمسك به ) .
الطريقة التاسعة
( المال المبارك )
جاء في جريدة الشرق الأوسط عدد الاثنين 20 ربيع الآخر 1420 هـ 2 أغسطس 1999 م الصفحة الأولى ما يلي : العنوان بالخط العريض ( بيل غيتس يعتزم التبرع بـ 100 مليار ( مائة ألف مليون ) دولار للأعمال الخيرية . ثم تفاصيل الخبر كما يلي : يخطط الملياردير بيل غيتس رئيس شركة مايكروسوفت العملاقة لمنح ثروته التي تقدر بأكثر من مائة مليار دولار ، للمساهمة في القضاء على أمراض قاتلة مثل الإيدز والملاريا من خلال المؤسسة الخيرية التي يرعاها والتي تحمل اسمه ، بحيث يحتل المرتبة الأولى في قائمة المانحين من الأفراد في العالم . وقال والد بيل غيتس : إن ابنه – الذي أصيب بصدمة قاسية من جراء المناظر المروعة التي شاهدها أثناء زيارة للهند وجنوب أفريقيا – ينوي بذل جهود للمساعدة في تخليص العالم من الأمراض الخطيرة ، وأنه سيعلن خلال الأيام المقبلة الخطوات العملية في هذا الاتجاه . وكشف والد غيتس ، الذي يرأس مؤسسة غيتس الخيرية في مقابلة مع صحيفة – صنداي تايمز – البريطانية أمس أن ابنه سيعلن خلال ثلاثة أشهر عدة مشروعات مالية تجعل من مؤسسته الأكبر في العالم في المجالات الخيرية . وأشار إلى أن ابنه بيل غيتس وزوجته ميليندا ينويان تقديم الثروة التي جمعها بيل من تأسيسه لشركة مايكروسوفت إلى المؤسسة الخيرية خلال حياتهما وليس بعد وفاتهما ولكنه لم يحدد تاريخا معينا . وتعد مؤسسة ( وليام غيتس فاونديشن ) الخامسة في الترتيب العالمي من حيث الأموال المستثمرة فيها ، وقد شاركت أخيرا في تقديم الدعم للعديد من المؤسسات التعليمية في بريطانيا ، مثل جامعة كيمبردج ( 18 مليون دولار ) . أهـ الخبر .
ليس هذا هو المال المبارك ، وإنما جئت بهذا الخبر وصدرت به هذه الطريقة لأشعل الغيرة في قلوب أهل الإيمان ، ولا أقول في قلوب أهل الثروات والمال ، والعظة واضحة جلية : ثروة تعادل احتياطي العملة الأجنبية الموجود في كل البنوك المصرية قاطبة أو يزيد ، يتبرع بها صاحبها - الكافر – لمؤسسة خيرية باسمه ، شفقة على مرضى الإيدز والملاريا ، فكيف بنا ونحن مسلمون ، والبذل في سبيل الدين واسع ، ولو كان بالقليل من المال .
وأبو بكر الصديق رضي الله عنه خرج من ماله كله ، والعظة فيه أقوم ، ولكن الناس إذا سمعوا من يستخدم فئة المليار في التبرعات تعجبوا ، وإذا كان كافرا زاد العجب ، وإلا فإن خروج أبي بكر من ماله كله أوقع أثرا في القلب ، وقد قال في ذلك الموقف لما سأله الرسول صلى الله عليه وسلم : ( ماذا تركت لأهلك يا أبا بكر ؟ ) قال : تركـت لهم الله ورسوله – صلى الله عليه وسلم - .
ولعمري فإن هذا هو المال المبارك : ما أنفقه صاحبه في سبيل الله ، ولو كان به خصاصة ، لا يرجو من الناس جزاء ولا شكورا ، { وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى } ، ثم لا يتبع ما أنفق منا ولا أذى ، أولئك { لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } .
إن استثمار المال في كل مجال دنيوي محفوف بمخاطر الإفلاس والسرقة وإتلاف الجوائح واختلاس الخونة وكساد السلع وإعراض المشتري ومنافسة السوق ، أما التجارة واستثمار المال في الدعوة إلى الله ونصرة الدين فمن أضمن الاستثمارات ، فأصحاب هذا المال { يرجون تجارة لن تبور } وأصحاب هذا الاستثمار هم الآمنون يوم الخوف الأكبر ، ولنتعظ ببذل أبي بكر الصديق للدين ، ولنعتبر بقول النبي صلى الله عليه وسلم : (ما نفعني مال قط إلا مال أبي بكر ) قال أبو هريرة : فبكى أبو بكر ، وقال : وهل نفعني الله إلا بك ، وهل نفعني الله إلا بك ، وهل نفعني الله إلا بك . رواه أحمد والترمذي وابن حبان وغيرهم .
والبذل الذاتي للدين سيظل هو المورد الأساسي الذي تنفق منه الدعوة ، وقد تبتكر الدعوة أساليب ( سنتحدث عنها ) في تحصيل المال الكافي للإنفاق على أوجه النشاط الدعوي المختلفة ، وقد يكون لها أملاك خاصة تدر عليها أرباحا ، ولكن العطاء الذي يمنحه الأفراد لدينهم يبقى هو الأصل والباقي كله فرع .
فالدعوة تحتاج أفرادا كأبي بكر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وأضرابهم من أثرياء الصحابة ممن أوقفوا أموالهم وأَعْتُدَهُمْ في سبيل الله ، فلم يقدموا على البذل للدين زوجا ولا ولدا .
وذلك لأن الأصل أن المسلمين ما وجدوا إلى ليكون الإسلام مصدر عزهم في هذه الدنيا ، فهم يبذلون في سبيل رفعته ونصرته ، ويعلمون أن أي مال ينفق في سبيل الدين فهو في سبيل إعزازهم هم .
ولذلك كثرت النصوص الآمرة بالإنفاق ، الداعية إلى البذل ، لأن الإنفاق في حد ذاته عبادة مقصودة لكل مسلم ، قال تعالى : { والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم } .
ونحن لن نعول كثيرا على إنفاق الحكومات ، وإن كان مهما في ذات الأمر ، وذلك لما يصحبه من مداخلات ومعوقات تقلل من فائدته ، وتحول بينه وبين الانتفاع المثمر .
ومن أهم الأسس التي يجب أن تعول عليها الدعوة الإسلامية في توفير النفقة اللازمة للمشروعات الدعوية أساس المبادأة في تحصيل النفقة والتبرع ، لا الانتظار لما يفيض به المحسنون على الدعوة من فضول أموالهم .
فيجب أن يلتزم كل الدعاة والمنتمون للصحوة بمبلغ مالي معتبر يقدمونه للدعوة كمورد ثابت ، كل حسب استطاعته ، كما يجب أن يسعى الدعاة لدى المحسنون من ذوي الكرم والمروءات والنجدة والديانة ليمدوا مشروعات الدعوة بما تحتاجه ، ومن الأفضل أن تكون مشروعات الدعوة مدروسة ومنظمة ومعروضة على شكل بيان مكتوب ، يمكن تقديمه للمحسنين ليقتنعوا بوجود مشروعات حقيقية تقوم بها الدعوة ، والسيء أن بعض الساعين في الأعمال الخيرية ضربوا مثلا غير لائقة في جمع التبرعات حتى احتاط أهل الإحسان في أموالهم فلم يعد البذل كما كان في الماضي لتغير الزمان وكثرة المتسلقين واللصوص الذي اقتحموا الميدان ، فإلى الله المشتكى .
كما يجب أن تقوم الدعوة بدور فاعل في جمع زكاة المال من المسلمين ، إذا تيسر دون مشكلات أو مضايقات ، وكذلك حث الناس على أبواب الخير الأخرى ، كالصدقات المطلقة والصدقة الجارية والوصية قبل الموت والوقف على أعمال البر وكفارات الأيمان والنذور ، ورعاية طلبة العلم وبناء المساجد وحفر الآبار ونحو ذلك من أوجه الإنفاق وأضعاف ذلك ولا ريب .
وإذا تصدرت الدعوة لمثل هذا النشاط فلا بد أن يكون لديها جهاز إداري ذو كفاءة وقدرة على عملية جمع النفقة وإدارتها وكيفية إنفاقها أو استثمارها على حسب الضوابط الشرعية التي أقرتها الشريعة؟؟؟ .
كما أنه من الأهمية بمكان أن يكون لهذا الجهاز الإداري لجنة شرعية تراقب تعاملاته ، أو أن يستعين ذاك الجهاز بالعلماء ويستفتونهم في المسائل المتعلقة بعملهم .
إن المال المبارك الذي ينفقه أي مسلم على الدعوة جزء من الجهاد في سبيل الله ، بل ركن عظيم منه ، وجُلُّ الآيات التي تحدثت عن الجهاد في سبيل الله قرنت الإنفاق بالقتال .
وليست العبرة بالكثرة ، بل العبرة بفعل النفقة نفسها ، وقد قال صلى الله عليه وســلم : ( سبق درهم مائة ألف درهم : رجل له درهمان أخذ أحدهما فتصدق به ، ورجل له مال كثير فأخذ من عرضه مائة ألف فتصدق بها ) . رواه النسائي وحسنه الشيخ الألباني في صحيح الجامع .
ويغيب عن كثير من الدعاة والغيورين على الصحوة حديث النبي صلى الله عليه وسلم : ( أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل ) .
فما داوم الناس في إنفاقه على الدعوة – وإن قل – أكثر بركة وأعظم نفعا من الكثير المنقطع ، فالله عز وجل إذا أحب عملا من ابن آدم باركه له وأعانه عليه كما قال تعالى : { إن رحمت الله قريب من المحسنين } وكما قال تعالى : { وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد } ، وكما قال صلى الله عليه وسلم : ( إن الله قال لي : أَنْفق أُنْفق عليك ) رواه مسلم في الصحيح .
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينـزلان ، فيقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا ، ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا ) رواه البخاري ومسلم .
وعن أبي هريرة أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله بعفو إلا عز أو ما تواضع أحد لله إلا رفعه ) رواه مسلم أيضا .
وهذه القلة في المال والإمكانيات ما ينبغي أن تفت من عضد الدعاة وتيأِّسهم من نصرة الله ومعونته ، فالعقيدة الصامدة الشامخة مع بذل المستطاع يستجلب معونة الله على حسب موعود الله تبارك وتعالى ، كما قال عز وجل : { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ، والله مع الصابرين } وقال عز وجل : { ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون } ،وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن المعونة تأتي من الله على قدر المؤونة ، وإن الصبر يأتي من الله على قدر البلاء ) .
ويمكننا أن نمثل بكرامات معاصرة لإمكانيات قليلة تيسرت للدعاة واستطاعوا بها أن يفتحوا أبواب بلاد وقلوب عباد ، ولكننا نمثل بنموذج واضح بين ، وهو نموذج الصحوة الإسلامية في العالم كله ، حيث تقل الإمكانيات الدعوية أو تنعدم ، بل وتحارب من كل قوى الاستكبار العالمي ، ويطارد الدعاة ويشردون ، وتحمل عليهم وسائل الإعلام بحملات تشويه مسعورة ، إضافة إلى ما يعانيه صف الدعاة من فرقة وتشرذم أيضا ، ولكنهم يخرجون بعافية أكثر من ذي قبل ونصر أعلى من السابق ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، وما إخال ذلك إلا من بقية إخلاص وقليل من البذل المبارك وعدد من الدعوات الصادقة الخالصة ، فكيف بنا نحن معاشر الدعاة لو تمحض صدقنا وإخلاصنا ولو تكاتفت سواعدنا في التعاون والنفقة والبذل لدين الله تبارك وتعالى .
وعلى صعيد المجهود الفردي ، فالمال وسيلة مهمة لكل نشاط ، ويستطيع كل داعية إلى الله بل كل غيور أن يكون صندوقا للدعوة في كل منطقة ينادي الغيورين على الدين للبذل ولو بالقليل ، وقد أخبرني بعض الدعاة أنه يلزم إخوانه ببذل قروش ( بمعنى القروش الحقيقي ) كل يوم ، فتعاظم عنده من المال ما قام به بمشروعات كثيرة .
وإذا تعسر مثل هذا النظام فليجعلها كل داعية في خاصة نفسه ، يُسِرُّ إلى إخوانه بمشروعات الدعوة – ولو كانت صغيرة كعيادة مرضى أو تأليف قلب عاص بهدية ونحو ذلك – ويجمع منهم ما يستطيع به تنفيذ ذلك المشروع .
وما إخال الأمر عسيرا على أحد : أن يدخر الداعية من حر ماله هو ما ينفق به على الدعوة ، ولا خير في داعية لا يحتوش من طعامه وشرابه ولباسه في سبيل دينه وأمته إن اتخاذ الأسباب عقيدة كما أن التوكل نفسه من العبادات القلبية الأصيلة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين الاثنين في أسلوب بليغ حين قال : ( لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير ، تغدو خماصا وتروح بطانا ) . أي تذهب في الصباح المبكر خالية الحواصل ، فإذا عادت في المساء كانت ممتلئة البطون . ولو كان التوكل في ترك الأسباب ، لَقَرَّت الطير في وُكُنَاتِها وأوكارها تنتظر رزقها رغدا يأتيها من كل مكان . ولكنها خرجت وطارت وسعت في أرجاء الحقول تبحث عن الحب والدود ، والفقيه من اعتبر .
إنني استحيي والله من نفسي حين أرى المنافق أو الفاسق يتقن من حرفة الدعاية لنحلته ومنهجه مالا أتقن ، وأتوارى خجلا وأذوب كمدا حينما أرى جحافل الكفر تغير على موقع من مواقع المجتمع والدعاة يقفون في دهشة واجمين .
إن هذه الثقافة الغبية ، يجب أن تُسْتَأْصل من وجداننا ، ويحل محلها الإيمان بأهمية السبب ، والاستعداد به لمواجهة الباطل ، والبحث عنه ( أعني السبب ) واستفراغ الوسع في طلبه والحصول عليه ، وإعمال سبيل الدربة لاستعماله وتطبيقه واكتساب المهارة فيه .
وقادة الصحوة الإسلامية إذا أرادوا أن تخطوا الصحوة خطوات واثقة نحو العالمية التي تتناسب مع رسالتها وضخامة تبعتها فيجب عليهم أن يتدارسوا بجدية مبدأ تدريب الدعاة على المهارات الدعوية ، وتثقيفهم بالثقافات التي يحتاجونها في مسيرتهم .
إنه ما من هيئة إدارية أو شركة تجارية إلا وتعقد لموظفيها دورات تدريبية في كل المناحي التي يحتاجها قطاع أعمالهم ، بحيث يترقى الموظفون في درجات المهارة ولا يبقون أسرى المعلومات العتيقة والأساليب البالية .
إذن ..فليس على الدعوة من بأس أن تعقد دورات تدريبية لتنمية مهارات الدعاة في الخطابة والموعظة والتأثير على الناس ، أو دورات تدريبية في تحضير الموضوعات وتنسيقها ، أو دورات في إدارة الدعوة في المساجد أو في الجهات التي يكثر تواجد الدعاة فيها .
مثل هذه الاتجاه كفيل بتكثير سواد الدعاة عبر رفع كفاءة آحادهم ممن لم يشارك في الدعوة بفعالية من قبل ، ومن شأن هذه الطريقة أن ترفع مستوى أداء الداعية فيتحسن النشاط الدعوي بالتبع ولا ريب .
إن من العادي في الدول المتقدمة أن تعقد مؤتمرات بحثية على مستوى الجامعات والصحف والشركات – في كل المجالات – وفي المدارس على مستوى المدرسين والطلبة ، تعرف هذه المؤتمرات بجلسات ( السمنار ) يستضاف فيها متخصص في مجال معين ليتحدث عن تخصصه وكيفية الاستفادة منه في القطاع الذي يستمع إليه ، ثم يتم إتاحة فرصة المناقشة ثم يتم صياغة توصيات يُدلى بها إلى ذوي الاختصاص ليروا ما يمكن تنفيذه من عدمه .
ومن الأمور الطريفة التي علمتها مؤخرا أن شهادة الأيزو ( الجودة العالية العالمية ) تعدّى مجالها الجانب الإداري والصناعي ليشمل العملية التعليمية ، فصارت المدارس تمنح شهادة الجودة التي تثبت رقي مستوى مدرسيها وإدارتها وعمليتها التربوية والتعليمية وغير ذلك من الشروط الصارمة التي يجب أن تتوفر في المدرسة النموذجية .
ولا شك أن هذا الأمر يستدعي إسقاطا مباشرا على شأننا الدعوي ، حيث إن نشاطاتنا الدعوية تفتقر إلى الجودة ، بل تفتقر إلى معايير الجودة نفسها ، لدرجة أن بعض الجماعات العاملة في حقل الدعوة تستسيغ لأفرادها التصدر للخطابة والإفادة حال كونهم أميين لا يعلمون الكتاب إلا أماني ، ولا ريب أن هذه جرأة على الله تعالى ، واستهزاء بجناب الشرع الموقر ، واستخفاف بعظمة شعائر الله .
إنني أتصور قوة الدعوة في قوة دعاتها وثباتها في ثباتهم ، وقدرتها على غزو قلوب الناس من قدرة دعاتها على حل مشكلاتهم : كل مشكلاتهم ، ولا يمكن أن نرجو نصرا في معركة ما تخاذلت همتنا فيها عن استعمال نفس السلاح الذي يستعمله أعداؤنا أو استعمال ما هو أفضل منه .
إن معارك حامية الوطيس دارت بين شيخ الإسلام ابن تيمية وخصومه كان محك الغلبة فيها لمن أحاط بعلوم الشرع ، ولولا أن قيض الله لأهل السنة مثل شيخ الإسلام في ذلك الزمان لكانت السنة تعاني الآن غربة حالكة ، فكان في تصدي شيخ الإسلام للبدع الكلامية والانحرافات العقدية والسلوكية في المجتمع الإسلامي مع شهادة الخصوم له بطول الباع في علوم الشريعة ، كان ذلك له أعظم الأثر في رفعة شأن أهل السنة وعلو كعبهم بين الناس .
وكذلك كانت مجهودات العلامة المحدث الشيخ الألباني - يحفظه الله - في علوم السنة ، ومن قبله جهود الإمام ابن باز رحمه الله في الدعوة والفتوى ، فأعظم الله منـزلة أهل السنة بهما ، وجعل لهم بين الناس وجاهة وصيتا ، وأحسب أن الدعوة تحتاج إلى عشرات من مثل هؤلاء حتى تخوض المعركة بخطى واثقة .
وإذا أردنا أن نصوغ مهمات هذه الطريقة في عناصر عملية محددة فيمكننا أن نلخصها فيما يلي :
(1) تكوين مكاتب لتبادل الخبرات بين الدعاة مهمتها البحث عن كل جديد في تقنيات العصر مما له مسيس صلة بواقع الدعوة وتسخيره في خدمة الدين ، مع إيجاد الكوادر التي تستطيع التعامل مع تلك التقنيات الحديثة .
(2) أن تتواصى همم الجماعات والهيئات الإسلامية على تدريب أفرادها وصياغة مناهج علمية تدريبية ، مع الحرص على متابعة المستوى ومحاسبة المقصرين مع توليد القناعة في نفوس الأفراد والجماعات بأهمية اكتساب الخبرات والتخصصات المناسبة التي تحتاجها الدعوة ، وأن ذلك من صميم الإتقان والإحسان الذي أمر به الشرع المطهر .
(3) قد يعسر تنفيذ مثل هذه المناهج التدريبية بطريقة جماعية ، فلا أقل من أن توجد تلك المناهج في صورة مؤلفات متاحة لكل قطاعات الدعاة حتى يتمكنوا من النهوض بإمكانياتهم الدعوية بصفة ذاتية .
(4) ضرورة وجود متخصصين في المناهج التدريبية ، مهمتهم متابعة احتياجات الدعوة والدعاة وملاحقة هذه الاحتياجات على صورة كتب أو أشرطة سمعية أو برامج حاسب آلي .
(5) من الأهمية بمكان أن يعمل هؤلاء المتخصصين على متابعة الجديد مما تحتاجه الدعوة من المؤلفات الأجنبية وترجمتها وتيسير تداولها على مستوى الدعاة .
(6) الاهتمام بالجانب الإحصائي في الأنشطة الدعوية ، لأنها من أهم سمات الموضوعية في تقدير جدوى الوسائل ومدى نجاح التجارب ، وأرى أن القصور الحاد في إحصائيات الدعوة له دور كبير في الارتجالية في معالجة المشكلات .
(7) من أهم الجوانب التي يجب على الدعاة إتقانها أو الإلمام بها على أقل تقدير : تقنيات الحاسب الآلي وإمكانياته المتعاظمة وبخاصة في ثورة المعلومات التي أتاحها الحاسب الآلي ، حتى أضحت آلاف الكتب التي يجمعها طلبة العلم في عشرات السنين مخزنة في قرص من أقراص الحاسب الآلي .
(8) إصدار دوريات متخصصة في الجوانب التي يحتاجها الدعاة لاسيما الأخبار والقضايا الدعوية الملحة ، وحشد آراء أئمة الصحوة وقادتها فيها لضمان أعلى نسبة توحّد في الاتجاهات وردود الأفعال .
(10) عقد المؤتمرات واجتماعات البحث باستمرار على مستوى القادة والأفراد – عند الإمكان – لمناقشة أوضاع الصحوة ودراسة المشكلات واقتراح الحلول والعلاجات ، والتركيز على جانب المشروعات الدعوية العملاقة التي تتطلب مجهودات جماعية وإمكانيات متضافرة .
يتبع بأذن الله
جمال المر
2010-10-05, 10:43 PM
الطريقة العاشرة
( عمارة المسجد )
قال الرسول صلى الله عليه وسلم : ( المسجد بيت كل تقي ) رواه الطبراني في الكبير والقضاعي في مسنده والبيهقي في شعب الإيمان وقال الشيخ الألباني في الصحيحة 719 : حسن .
لقد كان من مقاصد الشريعة أن يحصل الاجتماع على الطاعة ، والتعاون على البر والتقوى بما يحفظ جناب الشريعة في المجتمع ويعلي من حرمة الدين في قلوب الخلق ، فشرع الله تبارك وتعالى بناء المساجد في كل البقاع ، وإحيائها بكل أنواع العمارة ، وتقديسها وتعظيمها ، وإعطاءها المقام الذي تستحقه من هويِّ الأفئدة إليها ، وحنوها عليها ، وإلفها المقام بها ، وتعلق القلوب بها .
وقد كان المسجد هو عماد المجتمع المسلم منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، يشير إلى هذا المعنى ابتداء النبي صلى الله عليه وسلم ببناء المسجد كأول مشروع عند هجرته إلى المدينة .
وظل المسجد يحتل هذه المكانة في كل العصور الإسلامية ، حتى في عصور الضعف والهزيمة ، كان المسجد هو ملتقى المسلمين ، ومحل ندواتهم واجتماعاتهم ودروسهم .
بل المتأمل في العمارة الإسلامية في كل بقاع العالم الإسلامية – كالعمارة الأندلسية والمملوكية والعباسية – يجدها تجعل المسجد محور كل مشروع ، فالمدرسة كان المسجد مركزها ، وقصر الخليفة أو الأمير كان لا بد أن يحوي مسجدا ، بل وكل مدينة تخط : كان المسجد هو نقطة الارتكاز ، ومحور طرقات المدينة الجديدة .
والحقيقة أن احتلال المسجد لهذه المكانة في المجتمع المسلم مأتاه من حرمته العظيمة في قلوب المسلمين ، وتعظيمهم لأمره ، وكل ذلك لكثرة ما ورد من النصوص في شأن عمارة المساجد .
ومعنى عمارة المسجد بناؤه وإصلاح شأنه بتنظيفه وتطييبه ، والمقصود الأعظم من عمارته الصلاة فيه وامتلاؤه بالمصلين للفرائض والنوافل ، وتعظيم حرمته قولا وفعلا ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أول ما يفعل إذا جاء من سفر أن يذهب إلى المسجد ويصلى ركعتين .
وقد استعادت المساجد مكانتها عندما أخذت الصحوة الإسلامية تشق طريقها في هذا العصر ، فكانت آية صدق ودليل طهارة ، وعلامة على أنها سلكت الطريق الصحيحة .
وعندما مالت بعض الحركات الإسلامية في طرائقها التربوية عن محورية المسجد صرخ فيهم الراشد قائلا : كلا ، بل علينا أن نوازن ولا نجعل اللبث في المساجد ضامرا ، فإن خريج المسجد غالبا ما يكون عاقلا رزنا مترويا ، ذائقا لثمرات الإيمان ، ذاتي الاندفاع ، ليس بالمطيع فقط ، ولكنه المبتكر ، ولا السائر بحركة مسيرة أصحابه فحسب ، ولكنه المتقدم الحادي .
كأننا أيها الاخوة نلمس تكبرا على المسجد عند بعض جدد المصلين المثقفين والجامعيين ، يدخلونه وقت الفرض فقط ، ويأنسون بالمجالس خارجه ، وربما كانت هذه الظاهرة ناتجة عن الدعاية العرفية التي تعلي مكانة الجامعة في تطوير المجتمع ، فتأخذ طالبها وخريجها نشوة جاهلية تختلط بصلاته ، ومن اللائق أن نرده إلى قيمته الحقيقية ، وأن ندله على طريق البداية الإيمانية الذي لابد وأن يمر بالمسجد طويلا .
إن العيش في المجتمع العام ، والتفاعل مع أحداثه ، قد يستهلكان المخزون الإيماني الذي يملكه المدعو ، فيقف عطاؤه عند حد ويفلس ، وعلاج ذلك أن نجعل له موردا دائما تتكفل به حياة المسجد ، وما فيها من سكون وصفاء نفس ، ورحمة متنـزلة وإلهام . أهـ
إن المسجد ميدان خصب لخدمة الدين ، وسبب ذلك أنه مهوى أفئدة المسلمين في كل مكان ، فمن لا تستطيع لقياه خارج المسجد ، ومن تتحرج من نصيحته ودعوته في الطرقات والمنازل ، ستجده في المسجد مستعدا لكل نصيحة ، وراغبا في كل خير . بل إنني أجزم أن كثيرا من الناس الذي يحتاجون النصيحة ، يعلمون أن الدعاة يخافون ويستحيون من إعطائها لهم خارج المسجد ، فيأتون ونفوسهم في شوق أن يرزقهم الله رجلا صالحا يأخذ بأيديهم إليه .
وقد حدثني كثير من الشباب أنهم كانوا في جاهليتهم ينظرون إلى الملتزم بالدين نظرة إكبار وإجلال ، وأنهم كانوا يرون ترداده إلى المسجد مظهرا يحرك كوان الإيمان في قلوبهم ، وأنهم كانوا يتمنون أن يكونوا مثله في الطاعة ، وأن لو كانوا مثله : كثير الترداد على المسجد .
وما سبق : قدمته لتأسيس قاعدة في قلوب الدعاة ، وهي أن أية دعوة لا بد أن تكون نقطة انطلاقتها من المسجد ، وأن المسجد يجب أن يكون المحور في كل عملية إصلاحية ، أو دور تربوي يراد تفعيله وتطبيقه .
ولقد آن الأوان أن ندرك هذه المسلمة لتنطلق جهودنا واثقة ، وتتحفز هممنا في يقين ، فالمسجد متنزل السكينة ، ومهبط الملائكة ، ومحط الرحمات الإلهية .
إن جهود خدمة الدين تتضاعف في المسجد ، ويكتب لها من البركة والقبول أكثر مما يبذل خارجه ، ولذلك وجب أن نستغل كل نشاط ممكن ، ونستثمره في المسجد بالصورة الشرعية التي تحقق مقاصد الدعوة الإسلامية الأصيلة .
ولا ينبغي أن يغيب عن الذهن أن المساجد لم تبن إلا لإقامة الشعائر وتعظيم حرمات الله ، كما قال صلى الله عليه وسلم للأعرابي الذي بال في المسجد : ( إن المساجد لم تبن لهذا ، إنما بنيت لذكر الله والصلاة فيها ) رواه البخاري ومسلم .
وفي غمرة النشاط الدعوي يجب أن نحقق هذا المقصود حتى لا ينقلب المسجد إلا ساحة لعب ولهو ، فنكون – والعياذ بالله – ممن بدلوا نعمة الله كفرا .
إن أهم ما يبدأ به في أنشطة المسجد أن ندعو الناس للصلاة فيه ، وذلك يستلزم إعداده وتهيئته لاستقبال المصلين ، بتنظيفه وتطييبه والاعتناء بدورة المياه فيه .
وكذلك الاهتمام بوجود المؤذن الراتب والإمام الراتب ، وتنظيم جدول الخطابة بما يسمح باستمرار إقامة الشعائر فيه بديمومة تدعو الناس للتعلق بذلك المسجد .
ثم يبدأ القائمون على النشاط في المسجد في إنشاء الدروس والمحاضرات العلمية وجذب الناس إليها عن طريق الإعلان بالطرق المختلفة . ويجب أن يراعى في الخطب والدروس والمحاضرات ما سننبه عليه في الطريقة الرابعة عشرة من طرق خدمة الدين .
ومن الأنشطة التي يجب أن يهتم بها وجود المتخصص في الفتوى في أوقات معلومة محددة ليجد الناس من أهل العلم من يسألونه في شئون دينهم ودنياهم ، وهذا لعمري من أهم المقاصد التي يجب أن يعتني بها الدعاة في أنشطة المساجد ، ففي نظري أن هذا المسلك هو أول طريق للتمهيد لحاكمية الله تبارك وتعالى ، فإننا حين نوفر للناس مرجعية علمية في الفتوى نكون قد اجتذبنا تبعيتهم وملكنا توجيههم ، فالناس مجبولة على طاعة أهل العلم ، وخاصة لو كان ذلك العالم موفور الأدب واسع الفضل محترم الجناب .
والمتصور أنه لو كان في كل مسجد جامع أو في كل منطقة سكنية عالما يفيد الناس في قضايا دينهم ودنياهم ويرشدهم إلى مقاصد الشرع فإنا نضمن بذلك قيادة المجتمع بسهولة .
ومن أنشطة المسجد المهمة عقد مجالس تلاوة القرآن وتعليمه وتلقين أحكام التلاوة ، للصغار والكبار ، وقد أهملت الدعوة هذا الجانب على حساب العلوم الشرعية الأخرى ، حتى غدا تعلم القرآن وتعليمه في آخر سلم الأولويات ، بل نرى من الناس من لا يرفع بهذا القرآن رأسا ، ويعتقد أن المهتم بحفظه وتلاوته من الدراويش الذي يرثى لحالهم ، وقد رأينا بعض الشبيبة الذين تنشئوا على هذا المسلك وقد تضلعوا من بعض العلوم كالفقه وأصوله والحديث والرجال ولكن الواحد منهم لا يتقن سورة من سور – عم يتساءلون – وهذا واقع تستطيع كل عين فاحصة أن تراه ، وأكثر من هذا إيلاما بعض الدعوات التي جعلت المسجد مكانا يتجمع فيه الشباب من أجل ترتيب لقاء رياضي أو نحو ذلك ، فلا يتعلق في قلوبهم من المهابة له والتعظيم لأمره ما يقر في القلب ويثبت في الاعتقاد ، بل يرتبط في ذهن مثل أولئك أن المساجد لم تبن إلا لهذا الغرض ، فأخسر بها من صفقة أن تكون مساجدنا ملتقى للاهين والعابثين .
ومن الأنشطة الجديرة بالاهتمام في المسجد تعليق مجلة حائط تحوي مقالات تعالج القضايا المتفرقة التي تظهر في المجتمع ، ويراعى ألا تعلق هذه المجلة بحث تكون في مواجهة المصلين ، بل يجب أن تعلق من وراء ظهورهم حتى لا تلهيهم في صلاتهم .
ومن الأنشطة المهمة أيضا تكوين مكتبة صوتية تحوى خطب ودروس العلماء والدعاة في شتى الموضوعات التي يحتاجها الناس .
وجدير أيضا بالمسئولين عن أنشطة المسجد أن يوفروا المصاحف لتلاوة القرآن والكتب الدينية المهمة التي يحتاجها الناس ، وخاصة الكتيبات الصغيرة التي تعالج الموضوعات الملحة بحيث يسهل على المصلين قراءتها أثناء انتظار الصلاة مثلا .
وننبه إلى ضرورة تعاون الجميع في أنشطة المسجد ، وصورة ذلك أن توجد لجنة للعناية بأنشطة المسجد ، حيث تقوم هذه اللجنة بتوزيع الأعمال على المستعدين للتعاون ، كما تقوم بدراسة متطلبات المسجد وما يحتاجه من أنشطة تتناسب مع حجمه وحجم المترددين عليه ، ثم تقوم بتنفيذ ما تستطيع القيام به .
الطريقة الحادية عشرة
( التخصصات النادرة )
لما علم يوسف عليه السلام من نفسه الأهلية من حكمة وتأويل للأحاديث ، وعلم أنه احتل من مقام العزيز مكانة طلب منه أن يوليه على خزائن الأرض ، وأبدى قدراته التي تؤهله للمنصب دون أن يستغل إعجاب العزيز به في توليته منصبا لا يتقنه .
وكان من صفات يوسف التي أهلته للمنصب : الحفظ والعلم ، أي حفظ الحساب والعلم بالألسن كما رجح الطبري رحمه الله .
وفي سياق التأهل للقيادة رأينا كيف أعان الله الأنبياء بالمعجزات القاهرة التي يذعن لها ذوو العناد ممن لا يقتنعون إلا بالغلبة المادية والقوة الدنيوية ، ويصعب عليهم الاستجابة لطهارة نداء الوحـي .
وفي عصرنا نرى غالبية المجتمع لم يعد يبالي كثيرا بفتاوى العلماء ووعظ الوعاظ ، لغلبة التفكير المادي على أبنائه ، واعتباره بالمؤهلات العلمية الدنيوية ، وتراه جليا في كثير من القضايا التي يُبَت فيها إلا بفكر الفقيه المجتهد المفتي ، ولكنك ترى الناس يعرضون عن قوله ويقبلون قول أي متخصص آخر في شئون الدنيا .
وتندر بعض الوعاظ حينما نعى على المدخنين أنهم لا يستجيبون لأمر الله بترك الخبائث مثل الدخان والخمر والمخدرات ولا يلتفتون إلى فتاوى أهل العلم بحرمة هذه الأمور ، ولكنه سرعان ما يبادر إلى الإقلاع لو أفاده طبيب بشري ، أو متخصص في السموم أن تلك المُتناولات من شأنها أن تدمر صحة الإنسان تدميرا ، أو أفاده طبيبه الخاص أنه إن لم يمتنع عن التدخين فسيصاب بالسرطان ونحو ذلك .
وما مثلت به يسري على كثير من شئون الحياة ، حينما نرى الناس يوسدون الأمر إلى غير أهله ، فلا يجوز أن ننساق وراء هذه الخيانة الجماعية ، بل نقاومها ونحاربها بأن نؤهل الدعاة لتلك المناصب التي توسد إلى غير أهلها ، أو نؤهل هؤلاء الناقصين ليكونوا على مستوى الأمانة التي تحملوها .
وقد طغى بين الناس حب الدنيا لدرجة اعتبار أن تعلم الدين وأحكام الشرع يدرج صاحبه في عداد المفاليس ، فلزم أن يرى الناس دارسي الدين والشرع في قمة التخصصات الدنيوية ليقتنع الناس بإمكانية المعادلة التي يزعمون أنها مستحيلة الحل .
وللأستاذ الراشد كلام نفيس في كتاب له سماه : صناعة الحياة ، ضمنه النظرية النووية في الدعوة ، حيث زعم أن المجتمع أشبه ما يكون بالذرة التي تحوي النواة وحولها تدور ( ) وسبب دوران ( ) حول النواة وعدم شرودها أن النواة قد حوت من الشحنات أكثر مما في توابعها فهن في حاجة إليها ومنجذبين إليها بحكم قانون الاحتياج الذي بثه الله في الكون .
ويشير إلى أن الدعاة ينبغي أن يكونوا بمثابة النواة التي تدور حولها توابعها وهم أفراد المجتمع ، وأنه يجب أن يبلغ الدعاة في العلم والتخصص والريادة ما يؤهلهم أن ينجذب لهم المجتمع انجذاب ( ) إلى النواة ، وذلك بأن يكونوا صناع حياة ، لا يستغني عنهم المجتمع بحال .
وضرب مثلا بالفقيه المتخصص المجتهد الذي تحتاجه الأمة مرجعا وثيقا مطلعا في كل مجالات الحياة ، والخطيب المصقع الذي إذا قال أسمع ، وإذا خطب أخضع ، والمهندس العبقري الذي يبهر الناس بجمال تصميماته والطبيب الحاذق المتخصص في مجالاته ، وحتى الخطاط الذي يخط العربية في جمال ووسامة مسبغة قيم الجمال ورونق البهاء على اللغة العربية التي أعجزت في مبناها وأعربت في معناها وأدهشت في جمال رسم حروفها وكلماتها .
ويرى – حفظه الله – أن الدعوة لو عملت في مدة دعوتها على تكوين النويات التي تستقطب أفراد المجتمع فإنها بذلك ستقود المجتمع تلقائيا ، وتسيطر على اتجاهاته ببساطة .
ولن نغالي إذا قلنا : إن الدعاة الآن هم المستقطبون وليس الناس ، فكثير من الدعاة تذهب بهم الريح حيث مالت ، وتعوج بهم التيارات حيث سارت ، وذلك لأنهم لم يمارسوا دورهم في جذب قلوب الناس عبر التخصصات النادرة ، فيما يرى المجتمع ضرورة الإذعان لها والتسليم بها والاعتماد عليـها .
إن الطبيب المتخصص في الأفرع النادرة إذا أجرى عملية جراحية صعبة لمريض ، وكتب الله لها النجاح فإن ذلك الطبيب يكون بمثابة المنقذ والبطل ، حتى إذا ما ألقى الطبيب نصيحة – ولو كانت عن أمور الدين – فإن المريض سيتلقاها بصدر رحب وقد يكون بتنفيذ سريع .
وقد رأينا أناسا أوصاهم أطباؤهم بالصلاة لعلاج آلام المفاصل فهرعوا سراعا إلى طاعة الله عز وجل ، وبعض شداة الأدب واللغة إذا رأوا أستاذهم وقدوتهم فيما يحبوه غيورا على الدين منافحا عن الشرع اقتدوا به تأثرا ، وتابعوه إعجابا وإكبارا .
ولن أذهب بك كل مذهب أيها القارئ ، بل أكتفى لك بمثال أخير واضح لكل عيان ، وهو كيف أننا نرى الطالب المجتهد المتفوق قدوة لزملائه وأسوه لأصدقائه ، وكيف أن ذو المهارة على الدوام يقول : من معي ؟ ، وذو البلادة في تبعية يقول : أنا مع من ؟ .
إنها سنة الله في الخلق أن يجعل المتميزين قادة ، والمتفوقين ساسة ، ولن تخطئ عيناك هذه القاعدة في البهائم الرتع ، كيف أنها تنقاد للفحل القوي ، وتذعن لإرادته وتتبع طريقه .
فليكن هذا الأمر على الخاطر حينما نوصي أبناء الدعوة بشيء من علوم الدنيا ، بل ينبغي أن نستقطب تلك التخصصات النادرة في المجتمع ونحملها أمانة الدين ، ومسئولية الدعوة إلى الله تعالى ، كما يجب أن يكون هناك تواصل دائم بين الدعاة وبين مشاهير الأدب والطب والهندسة والعلوم كافة ، لأن هؤلاء هم واجهة المجتمع وقادته في الغالب ، فلزم أن تتحدث الدعوة بنفسها عن نفسها ، وتمنع الوسطاء من التعريف بها لهم .
كما ينبغي أن نتواصى مع الشباب في كل الميادين على ضرورة التفوق العلمي ، وتسخير هذا التفوق في خدمة الدين ، وهي غاية يجب أن يتنشأ عليها شباب الصحوة ، ويجب أن نعرفها لكل شاب مسلم .7
الطريقة الثانية عشرة
( الجهاد أو العزم عليه )
لم يأمر الله تبارك وتعالى في القرآن أمرا مؤكدا بكلمة الحق إلا في موضعين : الأول في سورة آل عمران ، حول التقوى ، فقال عز من قائل : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته } والثاني في سورة الأنبياء ، حول الجهاد حيث قال جل جلاله : { وجاهدوا في الله حق جهاده } .
ولا يأمر الله تبارك وتعالى أمرا مؤكدا إلا إذا كان المأمور به قد بلغ رتبة سامية في معاني الشرع التي جاء بها الوحي . ولذلك كانت التقوى وصية الله للأولين والآخرين ، كما قال تبارك وتعالى : { ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب وإياكم أن اتقوا الله } . وأكد على معنى الجهاد لأنه ذروة سنام الإسلام كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم : ( رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد ) رواه الترمذي وقال : حسن صحيح .
وقيمة الجهاد لا يختلف عليها مسلمان ، فهي الروح الساري في ضمير الأمة ، يخيف عدوها ويرهب المتربص بها والعازم على نوال خيراتها وثرواتها ، وما زال الكفار في كل زمان ومكان يتوجسون من هذه الكلمة التي لها أثر كآثار القنابل ، بل أشد ، ولعمري هي من ميراث مخصصات النبوة التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم حين قال : ( نصرت بالرعب مسيرة شهر ) .
وليس الجهاد الذي نتكلم عنه ونريد توطينه معانيه وقيمه في أعماق قلوبنا بذاك الذي يفعله بعض المتهورون من المنسوبين للصحوة ، ونحن لا ننكر غيرتهم ، ولا نتهم نياتهم ، ولكننا في الوقت نفسه لسنا مضطرين أن نحرف الحق ليلائم فكرة ارتآها ناقص في العلم أو قاصر في التجربة .
إن المقصود بالجهاد الذي - مدحه الشرع - ما أحدث النكاية بالكفار لا ما ألحق بالمسلمين الاستئصال والدمار . وإذ نؤكد على معاني الجهاد في زمان اعتبره الناس تطرفا وإرهابا وتخلفا ورجعية ، فإننا في الوقت نفسه نملك الشجاعة في نقد الذات واتهام النفس ومواجهة الضمير بالخطأ والرجوع عنه ، فالحق أبلج ، والرجوع إليه فرض ، ونقاء ديننا أغلى من أن نفضل عليه كبرياء نفس أو تأخذنا عنه عزة بالإثم .
وقد بدى لكل ذي بصيرة كيف أن بعضا من الجماعات التي تبنت خطا جهاديا بعيدا عن مشاورة أهل العلم وبصيرة أهل الخبرة والنصيحة قد اكتشفوا بعد فوات الأوان أنهم كانوا يسيرون في الطريق الخطأ ، وأن خطأهم هذا كبدهم الكثير من الخسائر ، ومن أخطرها أن تسلك الدعوة طريقها بثقة ، وأن تتدرج في صراعها على وفق القوانين الشرعية والكونية .
وقد اكتشف أولئك – فيما بعد - أنهم لم يكونوا يخدمون الدين ، بل جروا عليه وعلى أهله من الأذى والصد ما ستظل الصحوة تذكرها أبد الدهر . ونحن بحمد الله لسنا بالشانئين على أهل الإيمان – كيفما كانوا – ولا الشامتين بمبتلى – قدر ما كان بلاؤه – بل يعلم الله سريرتنا في مولاة أهل الإيمان والسنة ، وتعظيم مقامهم ، والدعاء لهم في السر والعلن ، وحب الخير لهم ، وإرادة نصرتهم والعزم عليه ، وفعله كلما سنحت الفرصة ، ولكن النصح واجب ، وإن كان ثقيلا .
ولقد كان شرط الكتاب ألا أورد فيه إلا طريقة ممكنة التنفيذ سائغة العمل ، فلما تصفحت الواقع وجدت الجهاد من دوائر الخطر التي صار يخشى الحديث عنها الكثير من الدعاة ، ولعمري هذا من غربة الدين في هذا الزمان ولا حول ولا قوة إلا بالله .
وخشيت أن يتوالى الزمان ويتطاول العمر ويدوم التساكت فينسى الناس فريضة من فرائض الله وشعيرة من شعائر الدين ، فأحببت أن أؤكد أن الجهاد بكل معانيه واجب ، باللسان وباليد وبالمال وبالقلب أيضا كما قال شيخ الإسلام بن تيمية ، وكما يدل عليه حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه مسلم وأبو داود والنسائي في السنن الكبرى قال : ( من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من نفاق ) .
والظاهر من الحديث وجوب أحد الأمرين ، إذا المعنى : أن من غزا فقد برئت ذمته ، ومن لم يغز فلا أقل من أن يحدث نفسه بالغزو .
هذا وللجهاد أحكام وشروط ومقتضيات لا يتسع المقام لذكرها ، ولكننا ننبه على أن كل صورة من صور خدمة الدين داخلة في معنى الجهاد بالأصالة أو بالتبع ، ويبقى أن نستنفر همة المسلمين أن يناصروا إخوانهم المستضعفين في كل مكان على وجه الأرض ، سواء باليد أو بالمال أو بالدعاء وشحذ الهمم وهو أقل القليل .
كما أننا ندعو الحكومات الإسلامية أن تقوم بدورها في نصرة قضايا المسلمين في كل مكان كالشيشان والبوسنة وكوسوفا والفليبين وغيرها من البلاد التي يعاني أهلها الضيم والتشريد والتقتيل والإبادة والتعذيب .
وندعو كل كاتب وصحفي وأديب وصاحب لسان أو قلم أن يسخر قلمه ولسانه في نصرة قضايا المسلمين حيثما حل أو ارتحل ، ونستثير غيرته في الصدع بكلمة الحق أينما ووقتما كان .
إن ضيما يعلو ولا يشمئز له ضمير حر أو يستنفر نخوة غيور حري له أن يطأ بميسمه كل أنوف الخائرين ، وليس على الجبناء بعد النكوص من بأس أن يقال لهم كما قيل للأمير عبد الله آخر أمراء الأندلس حينما سقطت قرطبة فبكى : ابك على ملك ضيعته كما يبكي النساء .
الطريقة الثالثة عشرة
( محاربة المنكرات )
إن شريعة الإسلام شريعة تدفع الخبث كالماء الطهور المتدفق ، يرفع الحدث ويدفع الخبث ، وهي شريعة تأبى الوهن والتَذَيُّل ، أقامها المولى تبارك وتعالى ليكون الناس جميعا أسرى في زمام قيادتها ، لا يحال غَرٌّ أن يتقحَّم أسوارها هاربا منها إلا خسر ، غائرا عليها إلا ندم .
شريعة جامعة قاهرة ، تبهر العقول وتخلب الألباب ، تسيطر على نوازع النفس الشاردة ، التي لا يقوى عليها الإنسان نفسه ولكن تقوى الشريعة على كبح جماحها وترويضها .
ولأجل ذلك كان لزاما على الأمة أن يكون منها من يقوم بأمر هذا الشرع علما وتعلما وتبليغا ونِذَارة ، حتى ترعوي وساوس الزيغ في النفوس عندما ترى مهابة الشرع وجلالة أحكامه مسيطرة على ميدان الإرادات النفسية .
فالشرع هو الذي يقنن للنفس ما يجوز لها إتيانه وما لا يجوز ، وهو الذي يضع الحدود لما يحل ويحرم ، وهو الذي يرسم لها الإطار الذي لا يجوز أن تتجاوزه في مجال المباحات والطيبات .
يقول الله تبارك وتعالى : { فلو نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون } .
وقال تعالى : { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون } .
وقال تعالى : { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله } .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقـول : ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ) . رواه مسلم والترمذي وابن ماجه والنسائي ولفظه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من رأى منكم منكرا فغيره بيده فقد برىء ومن لم يستطع أن يغيره بيده فغيره بلسانه فقد برىء ومن لم يستطع أن يغيره بلسانه فغيره بقلبه فقد برىء وذلك أضعف الإيمان ) .
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وعلى أثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لـومة لائم . رواه البخاري ومسلم .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( على كل ميسم من الإنسان صلاة كل يوم ) فقال رجل من القوم : هذا من أشد ما أنبأتنا به ، قال : ( أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صلاة ، وحملك عن الضعيف صلاة ، وإنحاؤك القذى عن الطريق صلاة ، وكل خطوة تخطوها إلى الصلاة صلاة ) . رواه ابن خزيمة في صحيحه وله روايات أخرى صحيحة تشهد للفظ هذا الحديث .
وعن أبي عبد الله طارق بن شهاب البجلي الأحمسي أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم وقد وضع رجله في الغرز : أي الجهاد أفضل ؟ قال : ( كلمة حق عند سلطان جائر ) رواه النسائي بإسناد صحيح .
وعن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله ) .رواه الترمذي والحاكم وقال صحيح الإسناد .
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا ) . رواه البخاري والترمذي .
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل ) .
رواه مسلم . الحواري هو الناصر للرجل والمختص به .
وعن زينب بنت جحش رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فزعا يقـول : ( لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه –وحلق بين أصبعيه الإبهام والتي تليها – فقلت يا رسول الله : أنهلك وفينا الصالحون ؟ قــال : ( نعم إذا كثر الخبث ) . رواه البخاري ومسلم .
وعن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله يبعث عليكم عذابا منه ثم تدعونه فلا يستجيب لكم ) رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب وحسنه الشيخ الألباني .
إن حشد هذه الأحاديث بين يدي هذه الطريقة هنا من الأهمية بمكان ، فقضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بدأت تتقلص في بؤرة الاهتمام الدعوي لدى شريحة متعاظمة من المشتغلين بالشأن الدعوي ، وغدت محاربة المنكرات أمرا نتحاشى الحديث عنه إما تهربا من المسئولية – وهي محيقة بنا لا محالة – وإما خوفا من تكرار المآسي التي حدثت بسبب تهور بعض الشباب في ممارسة هذا الدور الحيوي في المجتمع المسلم .
وكل ذلك لا يغير نقيرا من حقيقة الأمر ، وهي أن قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أساسيات العمل الدعوي ، وأن ما يصيب الدعاة من جرائه – بشرط الالتزام بالضوابط الشرعية – سنة قدرية حالّة بكل من تصدر للصدع بالحق في كل زمان ومكان ، وأن القيام بهذا الفرض الكفائي متعين على الحركات الإسلامية بالأصالة – باعتبارها هي التي تمثل الإسلام في هذا الزمان – وعلى الدعاة والعلماء وطلبة العلم بالتبع – باعتبارهم يمثلون شريحة المرجعية العلمية والعملية للمجتمع - .
وما من شك أن ممارسات بعض الجماعات الإسلامية لهذه الفريضة – أعني الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – قد أورثت إسقاطا سيئا لدى معظم شرائح المجتمع ، حيث لم يتواكب مع القيام بهذا الفرض دور إعلامي أو خطاب دعوي مكثف يشرح وجهة نظر الدعاة فيما يقومون به من إنكار للمنكرات ، مع تحرك آلة الإعلام العلمانية في تشويه صورة المحتسبين وتلطيخ سمعتهم بالتهم الباطلة والإشاعات الكاذبة والتمثيليات السخيفة ، فصارت تحركات الدعوة الإسلامية في هذا المجال عقيمة النتائج إن لم تكن قد حققت أضرارا بالغة في البناء الدعوي .
ونحن لن نملأ صفحات هذا الكتاب بأحكام فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فكتابنا بصدد تفعيل الدور الحركي للمنتمين للصحوة وليس بالدرجة الأولى كتابا يشرح مفردات التنظير العلمي للمسائل الفقهية ، ومثل هذه الأحكام أحيل القارئ أن يتلقاها على وجه التفصيل والتدقيق في مباحث خاصة لشيوخ الصحوة ودعاتها مستبصرا بفتاواهم واستشارتهم ، نائيا عن الإجمال والإطلاق والتعميم في مثل هذه المباحث التي هي ألصق بالوظيفة القضائية عنها بالوظيفة الإفتائية .
واهتمامنا سينصب في تناول أساليب تطبيق هذا الدور ، مع مدارسة الآليات النافعة للحصول على نتائج حاسمة من هذه الطريقة الدعوية ، مع التعرض لماما لبعض الأحكام والقواعد العامة التي يجب أن تحكم ممارسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وبادئ ذي بدء ألفت نظر القارئ الكريم أن بين الفكرة وتطبيق الفكرة بون شاسع ومساحة تتسع لكثير من التعديلات حتى يتسنى للفكرة أن تخرج إلى حيز الخارج بأكثر عائد وأقل ضرر .
والذي يتوهم أن أي فرض أو تكليف شرعي يجب أن يطبق بحذافيره وأهدابه دون مراعاة لشروط التكليف من استطاعة وتحقق وجوب ودخول وقت وحصول مصلحة واندفاع مفسدة فقد سلك دربا غير مرضي في تحقيق طاعة الله تبارك وتعالى وإقامة الشرع .
إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان في وسعه أن يطيح بالأصنام الثلاثمائة التي كانت معلقة حول الكعبة ، ولكنه صلى الله عليه وسلم قد انتظر أكثر من عشرين سنة يحطم أصنام الهوى في القلوب حتى إذا ما جاء الميعاد وحطم أصنام الكعبة قرت العيون ورضيت النفوس ولم تشمئز .
وفي ذلك بوب البخاري رحمه الله في الصحيح فقال : باب : من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشد منه . وأورد حديث عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يا عائشة ، لولا قومك حديثٌ عهدُهم – قال ابن الزبير : بكفر – لنقضت الكعبة فجعلت لها بابين : باب يدخل الناس وباب يخرجون ) . قال ابن حجر في الفتح ( 1/271) : ويستفاد منه ترك المصلحة لأمن الوقوع في المفسدة ، ومنه ترك إنكار المنكر خشية الوقوع في أنكر منه ، وأن الإمام يسوس رعيته بما فيه إصلاحهم ولو كان مفضولا ما لم يكن محرما .
وهذا الذي ذكرناه أصل يجب أن نستحضره في موضوعنا مع اعتبار الثوابت التي تأخذ حكما أكثر أصالة ورسوخا ، والمعنى أن الأصل عدم تغيير المنكر إذا خيف الوقوع في ما هو أنكر ، إلا إذا كان المنكر هو الشرك نفسه فيجب الإنكار بأي حال لأنه ليس بعد الشرك والكفر منكر أعظم منه ، وهذا هو المقصود بالثوابت .
ومما ينبغي ملاحظته أن دور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجب أن ينتقل من الأداء الفردي إلى الحشد الجماعي الهادر ، كما يجب أن تتكثف الجهود الدعوية لتعميم قضية النهي عن المنكر خاصة ، وتطعيم الخطاب الدعوي بعناوين بارزة حول هذا الصدد بحيث يكون عاملا في توجيه دفة اهتمام الناس إلى هذه الفريضة الغائبة .
لم يعد من المجدي أن يمارس الدعاة النهي عن المنكر بعيدا عن تأييد كل قطاع الصحوة بل المجتمع ، أو بعيدا عن التعاطف الإيجابي الذي يشعر به الناهي عن المنكر أنه ينافح عن كيان مجتمعه الذي يقف من ورائه مؤيدا وناصرا .
وليس التأييد والنصرة صورة في ذهن أحد منا يجب أن تتحقق ، فليس التأييد مثلا أن تتمدح وسائل الإعلام جهود الدعاة في محاربة المنكرات ، أو أن ينتظر الدعاة من علماء السلطة فتوى تؤيد أعمالهم وتحركاتهم ، أو أن يقوم المسلمون بمظاهرات هادرة معلنة تأييدها للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر .
ولكن المقصود بالتأييد أن يصل الدعاة إلى مستوى يقتنع الناس فيه بوجاهة ما يفعلونه وأن تصرفاتهم موزونة وتمثل مصالح الأمة ومنافع المجتمع ، وأن تتجاوب الشرائح المهمة في المجتمع كالمثقفين والطلبة والعلماء ورموز المجتمع مع تحركات الدعاة في هذه الصدد .
وكما ذكرت : فإنه ليس من الضروري أن يكون هذا التجاوب صريحا واضحا ، فقد يسكت المجتمع ويسود الصمت قطاع المعترضين فيفهم الحصيف أن تصرفات الدعاة لم يستطع أحد أن يتناولها بقدح لأنه إما أن يكون مقتنعا بها أو خائفا من مواجهة الناس بإنكارها فيخسر هو تعاطفهم وجماهيريته بينهم .
وسأضرب مثالا واقعيا حول إنكار المنكرات العامة العظيمة في المجتمع يثبت هذا المعنى : ففي بداية التسعينيات من القرن الميلادي الحالي انبرى مجموعة من الدعاة وأصحاب الغيرة على حرمات الله تبارك وتعالى من أعيان المجتمع لمحاربة حملة الإلحاد والعلمنة والإباحية التي استشرت في المجتمع المصري ، فأعياهم البحث عن وسيلة يناهضون بها شياطين الإنس المجندين لتنفيذ مآرب قوى الشر ، فوجدوا أن أقوم سبيل لضمان تأييد الرأي العام أن تواجه تلك المنكرات عبر القنوات المعتبرة في الدولة ، فقرروا مخاصمة أصحاب تلك المنكرات إلى المحاكم وإعمال كل نصوص القانون الوضعي التي يحتمل منطوقها ومفهوها تجريم تلك المنكرات .
وبدأ أولئك الغيورون في رفع القضايا على رموز الانحلال والعلمنة المجاهرين بفجورهم وكفرهم ، وتم رفع قضايا على بعض الممثلين والممثلات الذين اعتادوا تقديم مشاهد مخلة في أفلامهم وعلى صور الإعلانات المعلقة في الشوارع والطرقات ، وخوصم بعض رموز العلمنة في الجامعات المصرية الذين ما فتئوا يصرحون بضرورة هدم الموروثات الدينية التي يقوم عليها الأمن الاجتماعي مثل إنكار العقائد المسلمة أو بعض النصوص القطعية .
ومن أروع الأمثلة التي طرب لها قلب كل غيور وشفى الله به صدور قوم مؤمنين : القضية التي تم على أساسها طلب التفريق بين أستاذ جامعي وزوجته لإتيانه في كتاباته التي يدرسها أقوالا نص العلماء في كل المذاهب على عدها ردة يستتاب قائلها وإلا قتل .
وقد حكمت المحكمة الابتدائية برفض الدعوى لرفعها من غير ذي صفة ، فلم ييأس المجاهدون وأعادوا رفعها في الاستئناف فحكمت لصالحهم ، وأمرت بالتفريق بين الأستاذ الجامعي وزوجته ( وهي أستاذه جامعية أيضا ) ، فعاند أولئك الخصوم وأعادوا رفع القضية في محكمة النقض التي تتسم أحكامها بمهابة وتوصف بأنها نهائية لا يجوز معارضتها ، وكانت القاصمة حين حكمت محكمة النقض بتأييد حكم الاستئناف والأمر بالتفريق بين الزوجين ، ولكن الزوجين كانا قد أعدا عدتهما وسافرا إلى بلد أوروبي لاجئين لائذين بديار المشركين مستجيرين ، فأخسر بها من سفرة يبيع فيها المرء دينه بعرض من الدنيا قليل .
وعند متابعتي للصحف والمجلات وتحليل الأخبار التي تناولت الموضوع وجدت ما يلي :
- كانت الجرائد الرسمية تتناول القضية بشيء من الحياد ، وترغب في عدم إظهار التعاطف مع ذلك العلماني – مع أن تلك الجرائد علمانية في نحلتها – وذلك خوفا من الوقوع تحت طائلة الاعتراض على أحكام القضاء أو التأثير في مجريات القضية .
- معظم الجرائد التي هاجمت كتيبة المجاهدين كانت محدودة التأثير وكانت معروفة بانتحالها لكل ما يناقض الدين ، فلم يستغرب الناس قيامها بتلك الحملة ، ولكنها ( الحملة ) مع ذلك لم تدم طويلا ، إذا ما أن صدر حكم النقض حتى لاذت تلك الصحف بالصمت المطبق .
- سكوت كثير من كبار الكتاب والصحفيين عن التعليق على هذه القضية لأنهم خافوا أن يخسروا بين الناس صفة انتمائهم للدين ، إذا ظهر في هذه القضية أن ذلك الأستاذ الجامعي كان ينافح عن كفر بواح وأن المؤيدين له كانوا يدافعون عن حق كل إنسان في الكفر بما شاء وكيف شاء .
- صرح كثير من الكتاب العلمانيين بقلقهم من هذا الحكم القضائي ( الذي وصفوه بأنه أخطر حكم في تاريخ القضاء المصري ) وأن منهم من صار يحتاط في كلامهم وكتاباتهم خشية أن ينالهم حكم من هذه الأحكام .
وبغض النظر عن الغبار الذي أثاره العلمانيون على هذه القضية فإن الحملة لا شك قد آتت أكلها ، وحصل المقصود بإنهاء المنكر وتهديد أصحاب المنكرات بلحوق الضرر بهم إذا ما حاولوا تكرار ذلك المنكر .
من هذا المثال أيها القارئ : لعلك لاحظت مظهرا وددت أن أؤكد عليه ، وهو أن إنكار المنكر يحتاج في هذا الزمان إلى الكيد لأعداء الله بنفس ما يكيدون للإسلام ، قد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( الحرب خُدَعَة ) . وتلاحظ أيضا أن وسيلة الإنكار لا يجوز أن تنحصر في الإنكار باليد أو بتكسير رأس أصحاب المنكرات ، فأي نصر أعظم من أن ولّى ذلك العلماني هاربا من البلاد ولم يعقب .
وقد رأينا كيف أن القضاء العلماني الوضعي أمكن إخضاعه لمصلحة الإسلام والمسلمين ، فكيف لو تخاصمنا إلى ضمير المجتمع المسلم النقي ، وإلى تقاليده وموروثاته ، إننا لن نعدم بين المجتمعات المسلمة حسا إيمانيا عاليا يؤيد كل حملة نقودها ضد المنكرات ، ولكننا يجب أن نفكر مليا في الطريقة التي نستفز بها هذا الحس الإيماني ليعبر عن غضبته .
لقد بعث بعض الشباب الغيورين برسالة إلى إحدى الصحف يستنهض فيها غيرة علماء الدين للذب عن النبي صلى الله عليه وسلم ، حيث دأب أستاذ الأدب في الجامعة الأمريكية على تناول النبي صلى الله عليه وسلم بالقدح في كتابه الذي يدرسه للطلبة .
فثار المجتمع مستنكرا مطالبا بوقف هذه الحملة الكفرية المسعورة ضد رموز الأمة ، وخطب كثير من خطباء مساجد الأوقاف ذامين الموقف السلبي تجاه هذا الشأن الجلل .
وآخر شاهد فيلما أجنبيا يقدح في الذات الإلهية ، فبعث إلى إحدى الصحف واسعة الانتشار يستنكر سكوت الرقابة على تمرير هذا الفيلم . فتأمل كيف أن عامة الناس على استعداد للتعبير عن غضبتهم إزاء التجاوزات التي تمس صلب المسلمات التي نشأوا عليها .
إن هذا الرجل لم ينكر على نفسه أو على مجتمعه وجود دور عرض تعرض الأفلام الأجنبية التي لا بد وأن تحوي مشاهد لا يقرها الشرع المطهر ، وذلك لجهله وعمايته وغفلته عن هذه الأحكام ، ولكنه فيما يعلم ويعتقد كان إيجابيا لدرجة بعيدة المدى .
إن فن إثارة الرأي العام مسلك يستخدمه أعداؤنا بالباطل ، فلماذا لا نستخدمه بالحق ، وإذا كانوا يدغدغون عواطف الناس ببعض المسلسلات والتمثيليات والأفلام مستغلين انكباب الناس على الشهوات فلماذا لا نستغل نوازع الإيمان والخير في قلوب المجتمع لتكون حربا على أعدائهم الحقيقـيين .
هذا هو لب الموضوع في بحثنا ، إننا يجب أن نفكر كيف ننكر المنكر قبل أن نقرر أن ننكره ، ويجب أن نخطط لذلك وبأناة وإتقان قبل أن نبادر إلى اتخاذ خطوات عقيمة نخسر من ورائها نقاطا كثيرة من سمعة الدعوة ووجاهتها بين الناس .
ولا بد أن يكون في الحسبان أن الدعاة يعملون في مجتمع ملوث بعقائد فاسدة وأفكار منحرفة ، وأن أفراد هذا المجتمع مجروفون بشهواتهم وغرائزهم إلى اتجاهات لا تلتقي مع ما يدعو إليه الدعاة في الغالب ، بل قد تصطدم تلك الشهوات مع الدعوة في كثير من الأحوال .
ولا بد أن يكون مُستحضرا أيضا أن هذا الفساد الذي نعالج بتره قد بدأ ينهش في نسيج الأمة منذ قرنين من الزمان ، وأنه سرى حتى بلغ النخاع ، لا جرم يحتاج إلى وقت مديد لاستئصاله واستخراج مادته .
وعليه : فإن الأناة في مواجهة الباطل والتريث في الإعداد له مسلك رشيد لنصرة الحق ، وليس جبنا أو خنوعا أو ذلة .
أما المنكرات الصغيرة المتكررة التي نواجهها كل يوم فتحتاج أيضا إلى فلسفة جديدة – إن جاز التعبير – في التغيير وفي آلياته .
فالواجب على كل مسلم أن يتفانى – قبل كل شيء – في محاربة المنكر أينما كان ، وبعد ذلك فإنه يجب أن يتخذ العدة والعتاد لمجاهدة الباطل ، وقد ذم الله تبارك وتعالى طائفة متخاذلة عن نصرة الحق ، فقال تعالى :{ ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة } ، وأمر طائفة أخرى إن هي أرادت نصرة الحق أن تنصره بالعدة اللازمة ، قال تعالى : { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم } .
والإعداد لإنكار المنكر دليل على جدية المحتسب في قيامه بهذا الفرض ، وعلى رغبته في تحقيق ثمرة مرجوة من الإنكار ، وليس الإنكار لمجرد الإنكار .
فمن العدة اللازمة : العلم الواجب توافره للإنكار ، فقد يكون مرتكب المنكر جاهلا يحتاج إلى التعليم والتفهيم ، وقد يواجه المحتسب أقواما يجادلونه في كون المنكر مختلفا فيه فلا يسوغ الإنكار فيما هو بصدده مثلا . وهذا كله يتطلب عدة علمية تؤهل المحتسب للقيام بواجبه .
ومن العدة التي يجب أن يتخذها المحتسب اختيار الوقت المناسب للإنكار ، وتقدير المصلحة والمفسدة المترتبة ، إلا في المواقف التي تتطلب إعلاما وبيانا وقت الحاجة فلا يجوز التأخير حتى لو لم تترتب مصلحة ظاهرة من الإنكار ، فالمصلحة المتحققة قيام الحجة في حق الجاهلين .
ومن العدة التي يجب أن يتخذها المحتسب أيضا قلب عامر باليقين والثقة بالله تبارك وتعالى ، ولسان رطب بذكره عز وجل ، واستخدام الكلمات اللينة عند بداية الإنكار والرفق بصاحب المنكر وإنزال الناس منازلهم وإقالة ذوي الهيئات عثراتهم .
وأهم ما يجب أن يراعيه المحتسب أن يكسب تعاطف الناس من حوله قبل إنكار المنكر ، وذلك باستنفار المشاعر الإيمانية في الحال ، وإظهار المنكر في أشنع صورة ، بحيث يحصل الإجماع من الموجودين على استقباحه واستهجانه ، ثم يبدأ بعد ذلك في بيان عقوبة الله تبارك وتعالى والتخويف من سطوته وانتقامه ، ولا ينبغي أن يقصر في بيان البديل الذي جعله الشرع لهذا المنكر ، ورسم صورة واضحة لما ينبغي أن يكون عليه حال المسلم والمؤمن من توقير حرمات الله وتعظيم شعائره .
وسأقترح هنا حوارا في كيفية تغيير المنكر بإمكان كل مسلم أن يقيس عليه حالته التي يتعرض لها :
يركب محمد سيارة الأجرة الجماعية ( ميكروباس ) .
محمد : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
الركاب : البعض يرد السلام والآخر منشغل في سماع الأغنية الصاخبة الشهيرة التي أدار سائق السيارة التسجيل بها .
محمد : لو سمحت وتكرمت يا أخي الكريم ، أرجو أن تغلق هذه الأغنية ، جزاك الله خيرا .
الركاب والسائق : في وجوم .
سائق : ( وقد يكون أي راكب ) : حاضر يا عم الشيخ . ( وتمضي السيارة ولا يغلق التسجيـل ) .
محمد في إلحاح : لو تكرمت يا أخي أغلق هذا التسجيل ، أما تعرف أن سماع الأغاني والموسيقى حرام .
السائق ( يلتفت مذهولا ) : ماذا تقول ؟ لما ذا تعقد الأمور يا عم الشيخ ، أنا لم أزن أو أشرب الخمر ، فماذا في سماع أغنية بريئة ؟!
محمد : أنا أعرف يا أخي أنك لم تزن ولم تشرب الخمر وأنك تصلي وتصوم ، ولكن نبينا صلى الله عليه وسلم هو الذي أخبر بهذا حيث قال : ( ليأتين على أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف ) . وقد أجمعت المذاهب الأربعة على تحريم الأغاني والموسيقى .
أحد الركاب : لا تبالغ يا عم الشيخ فقد رأيت الشيخ فلان الفلاني ( مشهور طبعا ) يسمع أغاني الست .
محمد : يا أخي إذا سألك الله يوم القيامة : سمعت حديث رسولي في تحريم الغناء ولم تنته هل ستقول لأنني رأيت الشيخ فلان الفلاني يسمع الأغاني ؟! أيها الاخوة إن سماع الأغاني داء يجب أن نتخلص منه ، إنه ينبت النفاق في القلب كما قال الصحابي عبد الله بن مسعود ، ثم إنه مزمار الشيطان وقرآنه ، وما سكن الغناء في قلب امرئ إلا وطرد منه كلام الرحمن ، فمن منا يسمع إلى القرآن ويستمتع به كما يستمتع بسماع الأغاني ؟ إن القرآن هو غذاء الروح وليست الموسيقى والأغاني .
أحد الركاب : ساعة لقلبك وساعة لربك يا عم الشيخ !
محمد : لا يا أخي هذا العبارة ليست صحيحة ، فأنت كُلُّكَ لله ، أنت مخلوق لله وليس لنفسك ، وربك الذي تعبده وتصلي له وتحبه يقول لك : { قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين } . إن حياتك كلها لله ، ثم إننا لا نلتزم بهذه العبارة ، فهل نحن نعطي نصف أوقاتنا لله عز وجل ، إننا نبخل عليه – حتى – بالصلاة أن نصليها في أوقاتها .
أحد الركاب : كلام عم الشيخ صحيح . أغلق هذه الأغنية وسمعنا القرآن يا أسطا .
راكب آخر : انتظر ، لا تغلق التسجيل ، لماذا تريد أن تفرض رأيك على الجميع يا عم الشيخ ، أنتم هكذا أيها المتزمتون ، متسلطون وديكتاتوريون .
محمد ( وهو يبتسم ) : يا أخي أنا لم أفرض رأيي ، أنا قلت للسائق لو سمحت وتكرمت ، ولو رفض في النهاية أن يغلق التسجيل كنت سأضطر للنـزول من السيارة . ثم إن النصيحة بمقتضى شرع الله عز وجل ليست فرضا للرأي ، بل مصلحة عامة لكل الناس .
السائق ( متحديا ) : طيب عندك شريط قرآن يا عم الشيخ ؟
محمد ( يمد يده مسرعا في جيب قميصه ) : نعم ، ولكن افرض أنه ليس معي شريط فيمكنك أن تفتح إذاعة القرآن الكريم ، وإلا فإغلاق التسجيل غنيمة على كل حال .
أحد الركاب ( مقاطعا ) : صحيح يا عم الشيخ كنت ستنـزل لو لم يغلق السائق التسجيل ؟
محمد ( مبتسما وفي ثقة ) : نعم فإن المنكر إذا لم أستطع أن أزيله يجب أن أزول عنه . فقد تتعرض السيارة لحادث اصطدام – لا سمح الله – فنموت جميعا ونحن متلبسين بهذه المعصية ، ولست مستعدا أن ألقى الله وأنا عاص .
الراكب يبتلع لعابه في وجل : حادث ! ولماذا تقول ذلك ؟ لماذا هذا التشاؤم ؟
محمد ( بنبرة حزن عميقة ) : يا أخي إن تذكر الموت ليس تشاؤما ، فقد قال صلى الله عليه وسلم : ( أكثروا من ذكر هاذم اللذات ) وهو الموت . كما أن الذي ينسى الموت ويتناساه يصاب بالغفلة وتكثر منه المعاصي ، ثم إن الموت حق كما نعلم ، ما منه مفر ومهرب .
تمر السيارة على حادث اصطدام يموت فيه السائق ويرى الركاب ذلك الميت والناس يخرجونه من السيارة المحطمة .
محمد ( منتهزا الفرصة ) : هل رأيتم ؟ ترى ما ذا كان يسمع هذا السائق قبل أن يموت ؟ لو كان يسمع القرآن فهنيئا له بهذه الموتة ، وإن كان يسمع الغناء ويدندن مع الموسيقى فقد مات على معصية وختم الله له بشر ، ونسأل الله السلامة .
في هدوء يمد السائق يده إلى التسجيل ويفتح شريط القرآن ، فينطلق صوت الحصري تاليا قول الله تعالى : { قل إني أخاف إن عصيب ربي عذاب يوم عظيم ..} .انتهت القصة .
إننا نمر يوميا بالعديد من هذه المواقف التي تحتاج إلى حنكة وبدهية في التصرف وتقدير الموقف وإعطاؤه ما يناسبه من الكلام . وقد ضربت المثل بهذه القصة لأفترض أن إنكار المنكر قد يكون بالأمر بالمعروف ، وقد يكون بالكتيب الأنيق وبالهدية المرققة للقلوب .
إن الداعية حاذق في التصرف ، يدرس شخصية من أمامه ويعاملها بما أوتي من فراسة وتوسم ، ليس بالغضوب الألد الخصم ، بل شعاره اللين ، وقد أمر الله عز وجل موسى أن ينكر على فرعون باللين فقال تعالى : { فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى } ، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم : ( ما كان الرفق في شيء إلا زانه وما نزع من شيء إلا شانه ) .
إن الغلظة لا تناسب إلا أهلها ومن يستحقها من صناديد الكفر والنفاق . بل إن القرآن لم يأمر بالغلظة في موضع إلا مع الكفار والمنافقين حال مجاهدتهم ومحاربتهم ، قال تعالى : { قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة } ، وقال تعالى : { يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير } .
ومع ذلك فقد أمر الله تعالى بعدم انتهاج هذه الغلظة في مطرد الأحوال حتى مع الكفار ، قال تعالى : { ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك } .
وبعد أيها الداعية الأريب .. إن النهي عن المنكر يأخذ وسائل أخرى كثيرة ، مثل إرسال الخطابات ، وإهداء الأشرطة الصوتية التي تتناول المنكر المراد تغييره ، أو زيارة ودية يتم مناصحة صاحب المنكر فيها برفق ولين ، أو مكالمة هاتفية يتم تفهيمه فيها ضرورة الانتهاء عن ذلك المنكر ، أو حث من يحترمه صاحب المنكر على القيام بدور في نصيحته وزجره .
الطريقة الرابعة عشرة
( مخاطبة الجماهير )
إن الحركة الإسلامية قد اتهمت بأنها نخبوية تنتقي الصفوة لتوجه إليهم الخطاب الديني ، بينما لا تبذل مجهودا يذكر في إيصال أنموذج الحق ناصعا إلى العامة .
ولو استثنينا جماعة التبليغ من هذا الاتهام فإنه سيكون ذا وجاهة وإصابة ، بيد أن مفهوم الخطاب الجماهيري أوسع في الدلالة من مجرد دعوة الطبقات الدنيا من الناس أو ارتياد المقاهي والبيوتات على نحو ما تصنع جماعة التبليغ ( مشكورة في ذلك ولا ريب ) . إن الصدع بالحق يقتضي أن يتوجه الخطاب الإلهي إلى الكافة أينما حل الداعية أو ارتحل ، بلسان الحال أو المقال .
وقد ذكرت لنا كتب السيرة نشاط النبي صلى الله عليه وسلم عندما أمر بالجهر بالدعوة في قوله تعالى : { فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين } فنبذ الدعوة السرية وأقبل على آحاد الناس في منتدياتهم وأسواقهم وبيوتاتهم يجهر بالحق بسيطا قويا عاليا .
وقد يأتي على الحركة الإسلامية زمان سيكون خطاب الجماهير هو النشاط الوحيد الذي يستطيع ممارسته الداعية ، إذ لن يلاحق إذا زار جارا له ، ولن يوقف إن هو كلم جليسه في وسيلة المواصلات أو أدار حديثا قصيرا مع بائع يتعامل معه أو الحلاق الذي يزين له شعره أو مع الطبيب أو السباك .. وقد سمعت عن بعض الناشطين في الدعوة ممن صاروا يلقون بالموعظة بين ظهراني الناس غير آبهين أن استجاب لهم الخلق أم لم يستجيبوا . وسمعت عن داعية إذا رأى متبرجة قال لها : أختاه الحجاب فريضة ، ثم يولي مدبرا ولا يعقب ، وهذا لعمري أرجى في براءة الذمة للداعية .
أن سمة الخطاب الجماهيري أنه سهل ميسور مفهوم كمثل نذارة الرسل لأقوامهم ، ما فتئوا يكررون لهم : { اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } .
وينبغي كذلك أن يكون خطاب الدعوة الإسلامية بكل فصائلها : سهلا مختصرا ، فإنه أدعى للحفظ والاستقرار في الوجدان . ولقد استطاعت بعض الفلسفات الأرضية والأفكار المنحرفة أن تطرح شعارات مختصرة تعبر عن أيديوليجياتها وانتماءاتها ، وأن تجمع الناس حول هذه الشعارات فغدت كأنها حكر عليها ووقف من أوقافها ، فتأمل كيف أصبح شعار ( الحرية والعدل والمساواة ) من شعارات الثورة الفرنسية التي عرفت بها منذ قامت حتى زعم الزاعمون أنها أم الثورات التحررية وزعيمة الحركات التي نادت بالعدل والمساواة . وما نحن بصدده هنا : هو كيفية توسيع مستوى الخطاب الجماهيري لدى الخطاب الدعوي بعامة ، بحيث تستطيع الدعوات أن تحتل أكبر مساحة ممكنة من المواقع .
فالملاحظ أن مفردات الخطاب الدعوي لدى بعض الحركات الإسلامية تنحو جانبا تخصصيا زائدا عن المطلوب ، حتى في صعيد الخطاب الجماهيري الذي يتطلب نزولا في المستوى إلى أفهام العامة حتى لا تنشأ حواجز نفسية مع مرور الزمن بين الجماهير وبين تلك الحركات الإسلامية .
ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد علم الدعاة هذا الأصل ، ونبههم إلى ضرورة الحذر عند التحدث مع العامة ، ولعمري إن الحديث إلى عامة الناس لا يقل أهمية في ضرورة الاستعداد وانتقاء الألفاظ عن الحديث إلى المتخصصين والمتبحرين .
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ( خاطبوا الناس بما يعرفون ، أتحبون أن يكذب الله ورسوله ؟ ) . رواه البخاري في صحيحه . وقال عبد الله بن مسعود : ( ما أنت محدثا قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة ) . رواه مسلم .
ويعلم من ذلك أن الداعية يجب أن يتجافى عن كثير من الموضوعات التي قد يظنها مهمة ، ولكن مقتضيات الواقع تفرض عليه التريث في مواجهة الجماهير تلك الموضوعات لما قد يترتب على ذلك من المفاسد الشرعية المعتبرة أو تأخر المصلحة الأولوية .
ولا شك أن خطاب الجماهير ينبغي أن يخضع لسياسة إعلامية سنتحدث عنها في الجهد الإعلامي ( الطريقة الخامسة عشرة ) ، ونود هنا أن نؤصل للخطاب الجماهيري الذي نريده أن يكون حسا دعويا لكل داعية ، فهو يلاحظ أثناء دعوته أن المراد تجييش الأمة نحو أهداف معينة ، وتوحيد الطرح الذي يتكثف حوله الاهتمام الشعبي بما يصب في تعميق الانتماء الديني لدى الأفراد والجماعات المختلفة في المجتمع .
إن الجماهيرية تعني أن يتبنى عامة الناس قضايا الدين ، وتتوجه جهود البسطاء نحو خدمة مصالح الإسلام والمسلمين ، وتترفع همم الأفراد العاديين عن دنايا الاهتمامات الأرضية التي تعودوا عليها في الحياة الجاهلية ، لتكون لهم اهتمامات تتسق وأمانة المسئولية التي يتحملونها مع الدعاة .
إن مخاطبة الجماهير عبر ملاحظة هذا المنحنى يتطلب أن نركز على أمرين :
الأول : ميادين الخطاب الجماهيري .
الثاني : أساليب الخطاب الجماهيري .
أما الأول : فالمقصود به أن يحرص الدعاة على الاعتناء بالتجمعات التي يتكثف حضور الناس فيها ، ليس في أزمنة العبادات والأعياد الشرعية فحسب ، كصلاة الجمعة والعيدين والاستسقاء وصلاة الكسوف ، ولكن ينبغي أن يتجاوز الاهتمام إلى غزو الناس في منتدياتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ومواجهة الباطل في عقر داره ، ومقارعة الجاهلية في عرينها .
ليس يجدي في الخطاب الجماهيري أن ننتظر مجيء الناس إلينا ، ونترقب جلوسهم منصتين أمامنا ، بل يجب أن نجأر بالحق بين ظهرانيهم عاليا مدويا ، كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم حين صعد على الصفا وأعلن أنه النذير بين يدي عذاب شديد ، وكما خرج إلى وفود الحجيج يسمعهم كلام الله ، وكما خرج إلى الطائف يستنصر وجهاء القوم للقيام بدين الله .
إن المجتمعات تموج بتحركات مختلفة التوجه ، ويتكثف الحضور الجماهيري حول تلك التحركات ، فمنها النوادي والدورات الرياضية ، والنقابات المهنية ، والندوات الأدبية والسياسية ونحوها ، والمؤتمرات العلمية المختلفة ، وعلى مستوى أجهزة الإعلام الجماهيرية ( ولها حديث خـاص ) ، ينبغي أن يتكثف الحضور الدعوي ، مستخدما كل السبل في التوغل إلى سويداء تلك المنتديات والتجمعات المختلفة .
إننا نريد أن تصل كلمة الحق الناصعة إلى أسماع الناس ، أن تصل وحسب ، وما يضرنا بعد ذلك أن لبى نداءها الناسُ أو أعرضوا ، نصروا أو خذلوا .
أما الأمر الثاني : أساليب الخطاب الجماهيري : فالمقصود به اعتماد الآليات الفنية لتحقيق هذا الخطاب الجماهيري ، بحيث نرقى بتحرك الدعاة نحو هذه الجماهيرية بخطىً علمية مدروسة ، ولا نترك فرصة لمجهوداتنا أن تتسم بطابع رد الفعل ، وترقب ما يحتاجه الناس لنوافيهم به ، بل يجب أن يكون زمام المبادرة بأيدي الدعاة ، فمقاليد القيادة الجماهيرية بحق يجب أن تكون في أيدي قادة الصحوة الإسلامية المباركة ، لا في أيدي القوى السياسية التي تملي على الدعاة وتقرر لهم ما يجوز مخاطبة الناس به وما لا يجوز .
ويمكننا أن نلخص هذه الآلية في النقاط الآتية :
(1) حصر التجمعات التي يتكثف فيها حضور الناس وترتيب تواجد الدعاة فيها بما لا يتعارض مع أنظمة تلك التجمعات ، كالنقابات والنوادي الرياضية والأفراح التي تلتزم بالشرع المطهـر .
(2) تنظيم جداول الخطب والدروس والمواعظ في المساجد بتوسع أفقي ، حتى يصل الخطاب الدعوي إلى أبعد بقعة ممكنة .
(3) ترتيب العمل الدعوي في الجامعات والمدارس عبر التلاميذ والطلبة الملتزمين ، وتنشيط جهودهم الدعوية عبر تدريبهم على فنون إلقاء الخطب والكلمات في المدرجات وتنظيم الندوات وتنسيق المعارض الثقافية وتصميم مجلات الحائط .
(4) حث العناصر المتدينة من الموظفين على بذل المجهود الدعوي في المصالح الحكومية والشركات والهيئات ، وتكثيف المظاهر الدينية في تلك المواقع مثل إقامة شعائر صلاة الجماعة ، والدعوة إلى حجاب المرأة المسلمة ، وترتيب المعارض التجارية التي تبيع بالأجل كبديل عن طريقة البيع بالقرض الربوي .
(5) الاهتمام بالكتيب الشعبي الذي يطبع بكميات كبيرة ويوزع بالمجان ، بحيث يتناول قضايا الدين المهمة ، ويخاطب وجدان المجتمع ، ويوجهه نحو الالتزام بشرع الله تبارك وتعالى .
(6) الاهتمام بدور الشريط الصوتي الذي أثبت تأثيره البالغ في كل أوساط المجتمع ، مع ضرورة الاهتمام بالإخراج الصوتي والتوسع في التسويق التجاري والتوزيع المجاني .
(7) توزيع أرقام هواتف العلماء والدعاة وشيوخ الصحوة ( المتفرغ لهذا الدور منهم ) ، وحث أفراد المجتمع على الرجوع إليهم في قضايا العصر ومسائل الفتوى .
(8) ضرورة أن تتناول مصنفات الدعاة ومقالاتهم - في الصحف والمجلات – مشكلات المجتمع وقضاياه محل الاهتمام ، وألا يغيب الدعاة عنها بزعم التركيز على قضايا الدين الأكثر أهمية ، فإن إشعار الناس بعدم غياب الدعاة عن قضايا المجتمع له دور في توثيق مرجعيتهم لدى كل شرائح المجتمع .
(9) الاهتمام بالأنشطة الدعوية المختلفة التي لها دور في تعميق انتماء المجتمع لدينه ، مثل مسابقات القرآن الكريم والمسابقات الدينية في المواسم كشهر رمضان والأعياد ، وعلى نفس الصعيد أن تتبنى الحركة الإسلامية قضايا الأمة وتدعو الناس إلى المشاركة في تحمل مسئولية حمل أمانة الدين ، فإن ذلك يورث شعورا تلقائيا لدى الكافة أن الحركات الإسلامية تمثل الدين والأمة .
(10) أما بالنسبة لمفردات الخطاب الديني فيجب أن تتعاون الحركات على تأصيل الأولويات التي تضعها في الخطاب الدعوي ، وعلى أقل تقدير أن تجتمع على القاسم المشترك الذي يجمع بينها ، وأن يسود التفاهم في نقاط الاختلاف بشرط عدم الاصطدام مع الثوابت والمسلمات . كما ينبغي أن يتفق الدعاة على تبسيط الخطاب الدعوي ، وتيسير وصوله إلى كل شرائح المجتمع ، ونبذ النخبوية والانتقائية المطلقة في توجيه الخطاب الدعوي . فمن أمارات الدعوة الحقة أن كل شرائح المجتمع تنتمي إليها وتتبنى صدى خطابها وتنافح عن رموزها ونستجيب لنداءات أقطابهـا .
جمال المر
2010-10-05, 10:47 PM
الطريقة الخامسة عشرة
( الخطبة والدرس )
ستظل الخطبة والدرس في المسجد يحتلان الموقع الرائد في سلسلة أساليب الدعوة إلى الله تبارك وتعالى . وسيستمر تعظيم الناس لهاتين الشعيرتين باعتبارهما مظهرا تقليديا نشأت الأمة جمعاء على التأثر به والتجاوب معه .
وما من مجتمع مسلم إلا وينظر إلى هذين الأمرين ( الخطبة والدرس ) نظرة تختلف عن نظرته لمظاهر الدعوة الأخرى ، فأضحت الخطبة والدرس لذلك من أيسر الوسائل وأكثرها تأثيرا على شرائح المجتمع المختلفة .
وإذ ننكر على من يريد قصر مفهوم الدعوة على الخطبة والدرس فلا يعني ذلك أننا نستقل من شأنهما أو نهون من خطرهما ، فالمقطوع به أنه ما من وسيلة يضمن الدعاة حشد الناس بها ويضمنون تواجد كل الشرائح من غني وفقير وعالم وجاهل وصغير وكبير كما يضمنون استماع كل أولئك للخطاب الدعوي مثل الخطبة أو الدرس ، ومن المقطوع به أيضا أنه ما من وسيلة نضمن بها تنشئة الأجيال في جو مقدس ومحيط طاهر مثل الخطبة والدرس حيث يرتع الحاضرون في رياض الجنة ويجوبون بأرواحهم في بساتين الذكر الفياحة فتطهر قلوبهم وتزكو نفوسهم وتتعطر أرواحهم بأريج الجو الإيماني الذي يحيط بهم من كل صوب .
وإذا كان ذلك كذلك فلا بد أن يعمل الدعاة على استغلال هذه الوسيلة بما يحقق المقصود وينتج الثمرة المرجوة ، فلا يليق أن نرى الجموع الغفيرة تأتي إلى المساجد طوعا أو كرها ثم تكون خطبنا عامل هدم وتنفير لتلك الجموع .
الخطبة موصوفة في القرآن بالذكر ، وقد أجمع أهل العلم أنها مشروعة للتذكير بالله تبارك وتعالى وبقضايا الدين المهمة ، وكانت خطب النبي صلى الله عليه وسلم موصوفة بالقصر مع طول الصلاة ( أي صلاة الجمعة ) ، وأن هذا المسلك هو من فقه الإمام ودرايته بما ينفع ويفيد .
إن هذه الصفات يجب أن تراعى من الدعاة التزاما بسنة النبي صلى الله عليه وسلم ، واعترافا بأن الحيدة عنها ضار غير نافع ، وليس من الفقه والعلم بالدين .
فليس من المناسب أن يخطب بعض الدعاة في ساعتين أو أكثر ، كما أنه ليس من المناسب بعد ذلك أن يقصر الصلاة فكأنه يتعمد مخالفة السنة ، مع أن الدعاة أحق الناس باتباع السنة .
وليس من المناسب أن تكرس الخطبة للكلام في موضوعات لا تمت للتذكير بِصلة ، كأن يخطب الدعاة في الأمور الخلافية ، ويسخرون خطب الجمعة للرد على بعضهم البعض ، أو نحو ذلك من المسالك التي تنال من مصداقية الدين قبل أن تنال مصداقية الدعاة أنفسهم .
فليس على الدعاة من بأس أن يقصروا الخطبة في حدود النصف ساعة ولا يزيدون عن الساعة بحال ، وإذا أرادوا بسط الكلام في قضية تحتاج إلى تطويل أن يكون ذلك بعد الصلاة وبشريطة ألا يتخذ عادة وسنة ، وإلا قد يدخل الاعتياد على هذا المهيع في باب الابتداع .
أما موضوعات الخطبة فيجب أن تدور حول أساسيات الدين ، وأقول مؤكدا ( تدور ) وليس المعنى أن ترتكز على الأساسيات ولا تزحزح عنها ، فقد يحتاج الدعاة إلى التذكير ببعض القضايا الملحة التي ليست من ضروريات الدين ولكنها ذات خطر وشأن في الحالة الراهنة .
والأفضل أن يدور فلك الخطبة حول موضوع واحد ، متحاشيا – الخطيب – أن تكون خطبته من النوع الهلامي الذي لا يمكن الإمساك بمضمونه أو التعبير عن عنوانه .
وتوحيد الموضوع في الخطبة الواحدة يفيد المستمع في تركيز الاستفادة من عناصر الخطبة فيخرج بفائدة متحققة ، بخلاف ما لو استمع إلى موضوعات متعددة واستمتع بهذه النـزهة العلمية ولكنه في ذات الوقت لا يستطيع أن يختزل فوائد الخطبة في عناصر محددة .
وقد كنت أتعمد أن أسأل إخواني بعد استماعهم لأي خطبة أو درس عما استفادوه لأتبين طريقة انتفاع الناس من الخطبة أو الدرس ، فتبين لي أن معظم الناس تطربهم الخطب ذات القصص والحكايات ، ويتبرمون من الخطب العلمية الصماء التي لا تحرك القلوب ، وأن نسبة التركيز تكون في أعلى معدلاتها في بداية الخطبة أو في أوقات الذروة من الحماسة والإثارة ، وأن نسبة الذين تسرح عقولهم في مراعي الدنيا أو ينامون ليست بالقليلة ، وبخاصة عندما تكون الخطبة مشجعة على هذا المسلك .
هذه فوائد أضعها بين يدي الخطباء والدعاة ليقرروا لأنفسهم ولمستمعيهم النافع المفيد وينأوا عما يضعف من تأثير الخطبة على الناس .
ولكننا – كدعاة – يجب ألا نتأثر بطريقة الناس في الاستماع ونكيف أنفسنا ودعوتنا وموضوعاتنا المهمة على نمط المستمعين وهواهم .
وبئس الخطيب الذي يطربه صخب الدهماء إذا سمعوا قصة مؤثرة أو موعظة بليغة ، وبئس الخطيب الذي يبحث عما يثير الناس ليخطب به ، ويفتش عن نقاط التأثر عند الناس فيعمد لاستثارتها على الدوام وإن لم تكن مناسبة للمقام ، وقد قيل قديما : لكل مقام مقال .
فمثل هذا الخطيب أو الداعية ستضمحل قضايا دعوته أمام شهوته في الضجيج والصخب وما يسمونه بالديماجوجية أي الهياج الجماهيري الفارغ .
وقد اتعظ كثير من الخطباء والدعاة بهذا الأمر حين استبان لهم بعد دهر أن من كانوا يصيحون حولهم ويهيجون متأثرين بمواعظهم هم أول جمع يتفرق عنهم عند حلول المدلهمات .
وينبغي أن يكون الخطيب أو المحاضر مرتبا منظما في خطبته ، ينتقل من المقدمة إلى الموضوع فالخاتمة في سلاسة ونظام ، وإذا تحدث في الموضوع ينتقل من فكرة إلى نتيجتها ، ولا يقفز على التسلسل معتمدا على ذكاء المتلقي والمستمع ، فالخطيب المؤثر يفترض دوما أنه يخاطب أدون الناس علما وثقافة .
كما ينبغي على الخطيب والمحاضر أن ينتقي الموضوعات بعناية ، بحيث يتوفر فيها عناصر الأهمية واحتياج الناس والواقعية والتأصيل الشرعي في التشخيص واقتراح العلاج .
فالخطبة البتراء هي التي تهيم بالناس في أودية المشكلات والمخالفات الشرعية ثم تتركهم دون أن تقترح لهم العلاج الشرعي لما هم فيه .
والخطبة المنقوصة هي التي يعيش ملقيها في أحلام الكرى بعيدا عن معترك الواقع الدامي الذي يموج فيه الناس ويحتاجون إلى من يقنن لهم حياتهم تلك على وفق شرع الله تبارك وتعالى .
والخطبة القصماء ( نقيض العصماء ) هي التي يسخرها ملقيها لتصفية حسابات شخصية فيكون كأهل الكتاب الذي بدلوا كلام الله ليشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون .
وينبغي على الخطيب أن يكون رشيقا مؤثرا في تحركاته على المنبر ، وأن تتوازى مستويات صوته مع مدى تأثير الكلام وقوته . وأن يتحاشى في تعبيرات قسماته ما يعده الناس عيبا أو مما لا يليق صدوره من الدعاة وأهل العلم كالغمز وإخراج الأصوات المنكرة من الفم والأنف . وكذا أن يتحاشى أي حركة معيبة في عرف الناس ، فكل ذلك من شأنه أن يجعل للخطبة رونقا وبهاء .
ومن أقبح القبيح أن يكون دعاتنا ملحنين ، ليس من لحن الموسيقى بل لحن الكلام أي خطؤه وانحرافه عن الوزان العربي الفصيح . ومثله في القبح أن يخطب الدعاة بالعامية الهابطة ، معرضين عن اللسان العربي المبين ( لغة القرآن الكريم ) . كما أنه ليس من السوي أبدا أن يخرق آذان المستمعين فتح المجرور وجر المنصوب ونحوه مما يجعل الآذان تدمى عند سماع الخطبة .
وليس من العسير على الخطباء والدعاة أن يتدارسوا بينهم علوم العربية كما يتدارسون العلوم الشرعية الأخرى ، مع اعتبار أن علوم العربية شرط أساس لفهم القرآن الكريم ، فضلا عن إفهامه الناس .
كما أنه ليس من العسير أن يجول الداعية والخطيب ببصره بين الفينة والفينة في كتب الأدب والشعر ليصقل ملكته البيانية ، ويرقى بمستوى أدائه اللغوي ، فلو طالع العقد الفريد أو البيان والتبيين أو ديوان الحماسة أو المتنبي لكان له شأن في صياغة فصيح الكلام وبلوغ الرتبة الراقية في البلاغة والبيان .
والداعية والخطيب لا يجوز أن يكون مغيبا عن مجتمعه هائما في كواكب الكون بعيدا عن أرض الواقع الذي يعيش فيه ، فيجب عليه أن يكون مطالعا للصحف السيارة ليباشر بنفسه معرفة الأخبار الجديدة ، والتي قد يكون لها أثر في الصعيد الدعوي ، أو يكون لها أثر على الشرائح التي يقوم بمباشرة علاج أمراضها وآفاتها .
كما أن على الخطيب والمحاضر ألا يكون أحادي العطاء ، أي يخطب ويحاضر فقط ، ويستنكف أن يتكاسل عن حضور خطب الآخرين ومحاضراتهم ، فإن من ذلك من شأنه أن يحصره في مستوى واحد من الأداء والإفادة ، فإن من يستمع أكثر استفادة ممن يتكلم ، ومن يتكلم ولا يستمع فسيأتي عليه الوقت الذي يشعر فيه أنه لا يملك ما يتكلم به ، ولذلك نبه بعض الأذكياء أن للإنسان فم واحد وأذنان وعينان ، ليتكلم قليلا ويسمع كثيرا ويرى كثيرا ، والمراد بالسمع والنظر ما يكون وسيلة لحصول المعلومة في الفؤاد كما أشار الله تعالى إلى ذلك في قوله : { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون } .
ويجب على الخطيب أن يعود نفسه على الارتجال ، أي بداهة الإلقاء ، وسرعة تحضير الموضوع ، ويكون ذلك بالدربة وكثرة القراءة والمطالعة ، والإكثار من محفوظات النصوص ، وبخاصة التي يمكن استعمالها في كل المواطن كالشواهد الشعرية والحكم العربية القديمة ، أما الآيات والأحاديث فلا ينبغي أن يحتاج الخطيب إلى من يوصيه بحفظها ، فهي رأس ماله وعدته وعتاده .
أما الموضوعات المطروحة فلا بد أن تكون مناسبة لمستوى الحضور ، ومناسبة للزمان والمكان ، فلا يليق أن يخطب بين الناس في دقائق علم السلوك حال كون جمهور المستمعين ممن لا يصلون إلا الجمعة ، أو يحدثهم عن اللحية والنقاب بينما المسجد الذي يخطب فيه يؤمه العلمانيون الذي يرون حاكمية الشرع من أصله محل نظر .
وكذا موضوعات المحاضرات يجب أن تلبي حاجات المجتمع ، وخاصة شبابه الذين هم أكثر رواد المساجد هذه الأيام – بحمد الله تعالى - ، فينبغي أن يبحث الداعية عن الموضوعات التي تهم الناس ويعدها إعدادا جيدا ويعرضها عرضا حسنا .
وحبذا لو اجتمع الدعاة على عقد دورة تدريبية بين حين وحين ، ويفضل أن تكون هذه الدورة نصف سنوية ، يدعى إلى المحاضرة فيها كبار الخطباء والدعاة والمتخصصين في أساليب الإلقاء وفنون محادثة الناس ، بحيث نوفر للخطباء في مدة يسيرة مادة علمية تعتبر خلاصة تجارب المجربين وعصارة جهود المشتغلين في الحقل الدعوي عموما وفي حقل الخطابة خصوصا .
ولا بد أن يكون في حسبان الدعاة ومسئولي النشاط الدعوي في أي منطقة أن يخرجوا للمساجد خطباء جددا ، يقومون بسد حاجة المساجد من الخطباء والدعاة ، فهذا من شأنه أن يوسع مساحة الدعوة ، ويقوي تجذرها في أنحاء المجتمع عبر توزع الدعاة على مختلف مساجد المناطق المختلفة .
وفي الختام ألفت نظر الخطباء والدعاة إلى شيء مهم يجب أن يتنبهوا له – استفدته بالتجربة – ولم أجده مسطورا في الأسفار ، ألا وهو تفاعل الداعية مع ما يدعو إليه ، فإن كل إناء بما فيه ينضح ، والداعية الذي آلمه ترك المسلمين للصلاة سيستطيع أن يخطب خطبة مؤثرة في هذا الموضوع ، ومن تمزق فؤاده قلقا على مستقبل شباب المسلمين وما آل إليه حالهم سيستطيع أن يؤثر في كل من حوله ، ولو كانت كلماته يسيرة ومفرداته بسيطة .
إنه الصدق الذي جعله الله علامة للتوفيق ، والإخلاص الذي يجب أن يكون شعار الداعية في كل ما يأتي وما يذر .
وبدونهما ستجد الداعية بارد العواطف ، رَخِيَّ الأشجان ، بطيء التفاعل ، ومثله لا يصلح أن يرعى شئون المسلمين ويقوم بدور الإصلاح فيهم .
الطريقة السادسة عشرة
( الجهد الإعلامي )
إن الإسلام دين عالمي ، جاء للناس كافة ، وأنزله الله تبارك وتعالى مهيمنا على الدين كله ، وناسخا لكل شريعة سابقة ، ومبطلا لكل مذهب فلسفي أو قانون أرضي أو اتجاه فكري ، قال الله تبارك وتعالى : { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره الدين كله ولو كره المشركــون } .
ومن قول الله تعالى : { فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين } نفهم البعد الإعلامي في الدعوة الإسلامية ، وأنها لم توجد لتكون سرية متوارية ، أو قطرية منـزوية ، أو إقليمية محدودة .
إنه دين كل الناس ، ويجب أن يسمع به كل الناس وأن يتعرف عليه كل الناس . ونحن لا يمكن أن ندعي أن دعاة اليوم على صعيد الدول والحكومات أو الحركات الإسلامية والهيئات العالمية العملاقة أو الأفراد لهم نظرة إعلامية واضحة لدينهم الذي يدعون إليه .
وقد يسارع البعض قائلا : لا ضرورة لتعقيد الأمور ، فإن دعوة الله ستسري سريان النار في الهشيم ، وهذا وعد الله الأكيد . وليس لنا أن ندخل في جدال حول أن دين الله منتصر لا محالة ، فإن إيراد الاعتراض على هذا النحو إلزام بما لا يلزم ، ومغالطة في مقدمات النتيجة .
والذي يجب أن نعترف به جميعا أن نصر الله لا يؤتاه كسول أو خذول أو مرجف ، ولن يصل الدين إلى الناس بينما حملته نيام . ولن يعلو صوته إذا كان أصحابه قد صاموا عن الكلام .
وفي ظل الواقع السياسي والاقتصادي المعاصر لا يمكن أن نسمح بالمثالية الكاذبة أن تحرك اتجاه التفكير وطريقة التدبير . فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن مثاليا يوم هاجر من مكة إلى المدينة فاتخذ الصاحب والراحلة والزاد والخريت ، ولم يكن مثاليا يوم حارب حروبه مع الكفار وأعد العدة والعتاد وحشد الجنود وجهزهم بجهازهم .
إنه واقع شرس دام ، استعملت فيه كل الوسائل – المشروع منها وغير المشروع – لتدمير هذا الدين والقضاء عليه ، ويجب أن نتعامل مع هذا الواقع بشراسة أيضا كما قال تبارك وتعالى : { ما لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض } وقوله تعالى : { فإذا لقيتم الذي كفروا فضرب الرقاب فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها } وقوله تعالى : { فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان . ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله } .
وعلى الصعيد الإعلامي فإننا لو ذهبنا نحصي ما يستخدمه أعداء الله من آلة إعلامية في إضلال الكون ، وما سخره الشيطان لهم من أسلحة شهوانية فتاكة لطال بنا الحديث .
لكنني سأتعرض لتحد واحد ماثل أمام عين كل ذي عين ، ولا يمكن أن ينكره إلا عنيد ، وعلى ضوء هذا التحدي نتعرض للجهد الإعلامي الدعوي .
إننا نشاهد في قلق واجف ذلك الزحف الفضائي التلفازي الذي اقتحم كل بيت عبر القنوات الفضائية المشفرة وغير المشفرة ، وعبر شبكات الإنترنت التي تعرض كل شي ، ومثل هذه الوسائل قد دخلت بيوت المسلمين بالفعل ، شئنا أم أبينا فإنه واقع يجب أن نعترف بأنه يمثل تحديا خطيرا للدعوة لم تمر به عبر قرون متطاولة .
والأخطر من ذلك أن من القائمين على هذا الزحف الإعلامي الفاجر جهات تنتسب إلى الإسلام وتتكلم باسمه .
وفي ظلال هذه الصورة الواضحة لكل عيان يمكننا أن نتصور ( مجرد تصور ) حجم المجهود الإعلامي الذي يجب أن يقوم به الدعاة لرقع هذا الفتق .
إن الهوة ليست بالسحيقة ، فما زال في الزمان متسع إذا تضافرت الهمم ، وتعاون الأفراد مع الجماعات العاملة للدين في تدارك هذا المشكل .
ونحن نبني تصورنا لمقاومة هذا التحدي عبر اتجاهين :
الاتجاه الأول : اتجاه الهدم ، أعني هدم هذا الركام الإعلامي في قلوب المسلمين ، وتدمير ذلك التعلق الماثل في انجذاب المجتمع أفرادا وجماعات إلى هذه الوسيلة الإعلامية الغازية .
ويتحقق هذا الاتجاه بمثل الطرق الآتية :
(1) نشر فتاوى العلماء التي تحرم اقتناء التلفاز أو أجهزة الاستقبال لغرض غير شرعي ، والجهر بهذه الفتاوى في خطب الجمعة والمحاضرات والدروس وعبر الأشرطة الصوتية وغير ذلك من وسائل .
(2) مراسلة الشركات التي تقوم باستيراد أو تصنيع أو بيع هذه الأجهزة ومناصحتها بترك هذا الجانب التجاري بتوضيح أثره الهدام في المجتمع ، من باب : { وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين } .
(3) مراسلة أفراد المجتمع بهذا الصدد وتحذيرهم من آثار هذا الغزو الإعلامي على البيوت في انتشار المخدرات والانحلال الخلقي ، وذلك بضرب الأمثلة من واقع المجتمع الغربي نفسه .
(4) مناصحة ولاة الأمور حول هذا القضية وحثهم على منع بيع وشراء مثل هذه الأجهزة المفسدة .
(5) القيام بجهد مضاعف مع الشباب والناشئة في تحذيرهم من خطر هذا الدور الإعلامي على الأمة عامة وعلى شبابها خاصة .
الاتجاه الثاني : اتجاه البناء . ويتضمن إيجاد البدائل وتحقيق السبل الكفيلة بملأ فراغ الأوقات لدى الناس ، وتقوية الشعور الإيماني ، وتكوين الموقف الشرعي لدى قلوب الناس ضد الغزو الإعلامي الفاجر ، وهو ما يمكن أن نسميه : المناعة الإيمانية .
ويمكن أن نجمل طرق هذا الاتجاه فيما يلي :
(1) حث الحكومات الإسلامية والهيئات العالمية على تبني مشروع قناة فضائية إسلامية عالمية مهمتها أداء الدور الإعلامي الإسلامي وصرف الناس عن الغزو الإعلامي المدمر الذي يجتاح بيوت المسلمين . وإن تعسر هذا المسلك فلا أقل من أن تتداعى همم الغيورين من أصحاب الثروات على تكوين شركة تجارية لتأسيس قناة فضائية إسلامية كما فعل المستثمرون الآخرون عندما أسسوا شركات تجارية تملك قنوات ترفيهية .
(2) تشجيع بعض الشركات – ذات الاتجاه الإسلامي – الناشئة على إنتاج برامج مطابقة للمواصفات الشرعية ، بحيث تحوي عنصر الجذب والإثارة في نفس الوقت .
(3) تثقيف المجتمع المسلم وتوجيهه في كيفية قضاء أوقات الفراغ ، وذلك عبر نشر الكتب التي تبين أهمية الوقت ، وتشرح قضايا الإسلام والمسلمين ، وضرورة تكاتف القوى في مواجهة الكيد العالمي ضد الإسلام والمسلمين ، واستلزام ذلك أن تستغل كل الأوقات فيما ينفع ويفيد وعدم إضاعتها في اللهو والعبث . ولا شك أن هذه الطريقة تحتاج إلحاحا ، وتركيزا على شريحة الشباب الذي هم أكثر الشرائح عرضة للحيرة في كيفية قضاء أوقات الفراغ . كما يستلزم على الدعاة القيام بدور اجتماعي في الأحياء بتنظيم الدورات الرياضية والمناسبات الثقافية والدعوية لمحاولة إيجاد البديل النافع للشباب ، لئلا يجدوا الفرصة للانزلاق مع قرناء السوء بقضاء أوقات الفراغ معهم .
(4) توجيه خطاب دعوي مباشر إلى الآباء والأمهات لحثهم على القيام بدور توجيهي فاعل مع الأبناء لمساعدتهم في قضاء أوقات فراغهم – وخاصة في الإجازات الصيفية – فإن هذا من شأنه أن يكون حصارا تربويا على النشأ ، ولا يترك فرصة لعناصر الفساد أن تتسلل إلى محيطهم لتنشج شباك صيدها حولهم .
(5) أن تقوم الدعوة بدور توجيهي مباشر في المدارس ومحافل العلم كالجامعات والمعاهد المختلفة ، من خلال المدرسين المنتمين إلى الصحوة ، أو بطريق غير مباشر عبر مناصحة المسؤولين بضرورة القيام بدور تربوي فاعل لإنقاذ النشأ من الغزو الإعلامي المدمر الذي يجتاح بيوت المسلمين ، والذي لن تخطئه عينٌ مراقبة .
والحق أيها القارئ الكريم أنني أكتب هذه الكلمات وأقترح هذه المقترحات ولست على يقين من تطبيقها على المدى القريب ، ولكن يقيني بضرورة بذل أي جهد بعد يقيني بخطورة الوضع الراهن أَمْلَى علي أن أكون بعيد المدى في تصور الحلول ، والذي نتصوره مستحيلا ليس مستحيلا لذاته ، بل لعارض طارئ ينبغي إزالته .
وأما على صعيد المجهود الفردي فإن الحصن الإيماني الذي يقيمه كل راعٍ على أهل بيته كفيل أن يقيهم شرور هذا الزحف الإعلامي ، ولعلك ستعجب أيها القارئ أيما عجب إذا علمت أن هناك مدارس أجنبية تشترط على أولياء الأمور أن يمنعوا أولادهم من مشاهدة التلفاز ، وإلا فإن إدارة المدرسة ستكون غير مسئولة عن نتيجة مستواه التعليمي والتربوي .
والعجيب أيضا أن دراسة قديمة صدرت في الثمانينيات من هيئة اليونسكو تثبت أن مشاهدة الأطفال برامج التلفزيون تورث تخلفا عقليا بنسبة 5% كل عام ، وأنا لا أشك أن البلادة التي تعانيها أمتنا أول أسبابها ذلك الركام الإعلامي الذي مسخ العقول ، وشوه الفطر ، وقلب الحقائق ، وأنسى الناس ربهم والدار الآخرة ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
الطريقة السابعة عشرة
( حركة التأليف )
إن المتابع للنشاط العلمي والثقافي الذي يموج في بلاد المسلمين ليدرك مدى الخلل الذي يعتور عقلية المسلمين ، والهزال المعرفي الذي أصاب ذاكرتهم الثقافية . وتأخر البلاد الإسلامية في حجم الكتب المؤلفة مقارنة بالدول الأخرى أمر أثبتته الإحصاءات الرسمية بما لا يدع مجالا للشك أن المسلمين يعانون ضمورا في المعرفة والثقافة لا يقل عن ضمور إرادتهم في الصلاح والإصلاح .
إن حجم المطبوعات في دولة مثل المجر التي لا يتجاوز سكانها بضعة ملايين – في سنة واحدة – يفوق حجم المطبوعات في الدول العربية مجتمعة حيث يبلغ سكان الأخيرة أكثر من مائتي مليون نسمة .
وعدد العناوين التي يتم التأليف حولها في البلاد الأوروبية مثلا – حيث يبلغ عدد السكان قرابة الخمسمائة مليون نسمة - يتجاوز عشرات المرات ما يتم التأليف حوله في البلاد الإسلامية مجتمعة حيث يبلغ سكان الأخيرة ألفا ومائتي مليون نسمة .
ولست من المنبهرين بمثل هذه الإحصاءات أو من يعول عليها في التقويم بصورة مطلقة ، فنظامنا المعرفي الإسلامي يختلف عن منطلقات القوم في التقويم والإحصاء ، ورؤانا في اعتبار المفيد وغير المفيد تتباين كل التباين عما يراه القوم ويعتبرونه .
ولكن الذي لا شك فيه أن حركة التأليف المستعرة في الدول الغربية لدليل على رواج سوق المعرفة – مطلق المعرفة – وأن الناس عطاش للثقافة والعلم بالدرجة التي لا نجدها في بلادنا الإسلامية . ولا شك أن هذا النهم في المعرفة نتاج طبعي لأساليب التربية والتعليم والتثقيف التي تمارس في دور العلم عندهم – وليس هذا هو محل البحث – ولكن الذي نريد أن نقرره أن سوق المعرفة عند أولئك الأقوام تتميز بحالة تشبع موضوعي عال ، فلا يوجد أمر أو قضية إلا وفيها مصنف أو اثنين على الأقـل ، فهذا هو المقصود من السبر .
كما أن لديهم تقنية عالية المستوى في الاستفادة من هذه العناوين المتكاثرة ، وآلية سهلة لتيسير تداول تلك المصنفات وتقريبها من راغبيها .
فالمكتبات مجهزة بأحدث الأجهزة لتسهيل الوصول إلى الكتاب أو الكتب محل الاهتمام ، وأنظمة الفهرسة الموضوعية باتت فنا يتخصص له أمناء المكتبات لمساعدة شداة المعرفة في التجوال عبر عالم الكتب .
كما أن صفحات الإنترنت قد وفرت في هذه الآونة خدمات عالية التقنية لوصول أي كتاب إلى أي مكان في العالم .
ونحن كدعاة حريصون على وصول كلمة الحق إلى الناس واستغلال التأليف كوسيلة لخدمة الدين : يجب أن نستوعب كل هذه التطورات أو بعضها لنبلغ في البذل شأوا معتبرا .
كما أن تأليف الكتب النافعة لم يعد أمرا متروكا للكاتب والمؤلف ليقرر هو ما الذي ينفع أو لا ينفع . فالأكاديميات العلمية والهيئات التعليمية والدوائر ذات الاهتمام بالشأن المعلوماتي وحتى الشركات التجارية ودور النشر العملاقة صارت تستكب المؤلفين ، وتؤاجرهم على التأليف ، فتحدد عنوان الكتاب وموضوعاته وعدد صفحاته ومدة التأليف .
ولعل كثير من الدعاة المخلصين يستهجن هذه الطريقة في التعامل مع العلم والعلماء ، وهذا ولا ريب صحيح وجيه ، ولكننا نسوق هذه الأمثلة للاعتبار فقط ، ولنذهب بالتأمل مدىً يساعدنا على الوصول إلى أفضل السبل لتقنين هذا السيل الجارف من المؤلفات الغثة ، والكتب العقيمة ، والمجلدات الهشة ( أي الضخمة في الحجم القليلة في النفع ) .
إن مجال التأليف قد يكون أسلوبا نقود به المجتمعات ، ومسلكا نوجه به تحركات الشعوب ، ويمكننا أن نستدل على ذلك بمذكرات الشيوعيين التي أحدث هزة في الفكر السياسي والاقتصادي الغربي على مدى قرنين من الزمان حتى تمخض عن تحركاتهم قيام دولة عظمى هيمنت على القرار الدولي ردحا من الزمان .
وعلى صعيد صحوتنا المباركة وجدت بعض المؤلفات المباركة التي كتب الله لها القبول في الأرض ، وهدى الله بها من الخلائق ما لا يحصيهم إلا هو ، ومثاله الناصع كتاب : ففروا إلى الله للداعية الرباني الشيخ أبي ذر القلموني الذي فاقت طبعاته المائة على أقل تقدير غير ما يطبع بدون إذن المؤلف بقصد الاتجار والتربح .
وكذلك كتاب ( عودة الحجاب ) للشيخ العلامة محمد إسماعيل ، والذي طبعت منه أكثر من عشر طبعات في سنوات قلائل ، وكان لهذه الكتاب بأجزائه الثلاثة أثره الفاتح على كثير من الأسر ، وبخاصة على شريحة النساء المتبرجات ، فقد أحيا الله به الحجاب الشرعي ، وأقام به صرحا من صروح العفة والطهر .
والملاحظ أن الذي يملك زمام المبادرة الإصلاحية في هذا الشأن طرفان مهمان : المؤلف والناشر ، فهما المحوران الأساسان في عملية صنع الكتاب ووصوله إلى القراء .
والصحوة الإسلامية بحمد الله تضم بين المنتمين إليها عدد لا بأس به من المؤلفين والناشرين الذي صار لهم دور دولي في نشر الكتاب الإسلامي ، ولا شك أن هؤلاء يستطيعون أن يتضامنوا لتقنين عملية التأليف والنشر حتى يكون للكتاب الإسلامي دوره الفاعل في إصلاح المجتمعات .
ولا يمكن أن ننكر أن هناك فريقا من المؤلفين والناشرين قد اتخذوا من الكتاب الإسلامي حرفة وتجارة للتكسب ، ولو كان ذلك على حساب المضمون والنفع العائد على القراء .
وصرنا نرى وجوها من الحيل في طبع الكتب تنم عن جشع غير مسبوق ورغبة في الحصول على المال بأقصر الطرق .
فبعض المؤلفين لا يتورع عن تحضير بعض الملازم ليدبج على طرة الكتاب عنوانا عرمرما يذكرك ببيت الحجاج :
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا متى أضع العمامة تعرفوني
وإذا ما تصفحت الكتاب ( وما هو بكتاب ) ألفيت الموضوع بحثا في ورقة واحدة ولكنها مفرقة على صفحات معدودات وفي كل صفحة حاشية واسعة المفاوز من تراجم لا فائدة منها أو نقول لا علاقة لها بالموضوع أو تعليقات ساذجة تنم عن ضحالة في العلم والتخصص .
وآخر يعمد إلى مخطوطة ( أي مخطوطة ) ويوسعها تعليقا وتخريجا وتحقيقا وتعقيبا ، فإذا ما تبينت اسم المخطوط علمت أنه مُؤَلَّف مُطَّرَح عند أهل الفن يغني عنه ما هو أجدر بتحقيقه وإخراجه للناس ، أما إذا تفحصت التحقيق ألفيت العجب العجاب ، فما أسهل أن يسوّد مثلُ أولئك حواشيَ تحقيقاتِهم بأمثال : كذا في الشامية والصواب كذا ، كذا في النسخة التركية وأظن أن كذا أصح ، وليس كل ذلك إلا تبعية حمقاء لمنهج المستشرقين في التخريج والتحقيق تبين للأفذاذ خطؤه وعواره ، وقد نبه العلامة المحقق الشيخ أحمد شاكر إلى هذه المسألة وبين أن التحقيق الصحيح النافع بعيد كل البعد عن هذه الفذلكة الأوربية والتي يسميها الأكاديميون : أصول التحقيق والتدقيق ، والواقع أنه من التشقيق الذي لا طائل تحته ولا نفع من جرائه .
أما أحابيل الناشرين – الجشعين منهم – في التغرير بالقراء وخداعهم فحدث عن ذلك ولا حرج ، فبعضهم يعمد إلى كتاب ضخم مشهور ويقطعه إربا إربا ، ويطبع كل باب في كتاب مستقل بعنوان مستقل حتى يظن الظان بادي الرأي أن المؤلف – وهو مشهور بالضرورة – صدر له كتاب جديد ، فيبادر القارئ المسكين لشراء الكتاب فإذا قرأه اكتشف عملية الخداع والتزوير .
وناشر آخر كالأسد الضاري ، يفترس كل من أمامه ويفرق أشلاءه شذر مذر ، يعمد إلى أي كتاب مشتهر بين الناس فيعيد طبعه في سرعة جنونية ليحصل على قصب السبق في سوق الكتاب ، وينافس الآخرين بأسعار مُحْبِطَة ، ولكنك ما أن تتصفح الكتاب حتى تتذكر المثل السائر : اِخْبَرْ تَقْلَهْ . أي اعرف الأمر جيدا عندها ستهجر ما عرفته وتترك ما خبرته .
ولست مستمتعا والله بسرد هذه الأقاصيص ، فإنها لا بد أن تمثّل هَمَّاً يجأر منه الغيورون على دين الله تبارك وتعالى .
ولذلك نحن ندعو ذانكم الطرفين ( المؤلف والناشر ) إلى ميثاق شرف يتواطآن عليه ويلتزمان به ويمضيان على سبيله ، وندعو القراء كذلك إلى التكاتف لمحاربة الثلة المنحرفة التي تتخذ من التأليف والطبع حرفة للكسب السريع فحسب .
ندعو المؤلف إلى احترام الذات ، واحترام عقول القراء ، ومن قبل ذلك وبعده إلى مراقبة الله تبارك وتعالى فيما يكتب ، وندعوه إلى اختيار الموضوع على أساس موضوعي يعتمد على :
- أهمية الموضوع .
- احتياج الناس إليه .
- خلو المكتبة من كتاب يعالج ذلك الموضوع .
كما ينبغي أن يحسن التأليف والعرض وذلك عن طريق :
- دراسة الشريحة التي يؤلف لها ، وما هو الأصلح لمستواها .
- ينتقي المادة العلمية التي يحتاجها الموضوع بعيدا عن الحشو .
- يحسن تناول القضية بالتركيز على النقاط المهمة والتأكيد عليها وبيانها .
- أن ينسق المعلومة عن طريق ترتيبها في عناصر يسهل حفظها واستحضارها .
أما الناشر فندعوه إلى ثلاثة أمور مهمة يجب أن يوجد لها المعادلة التي تحققها :
- طبع الكتاب بصورة مقبوله ( ولا نقول ممتازة ) ، بمعنى أن يختار لها ورقا مناسبا وأحبارا جيدة ، ولا يشترط أن يكون الطبع على مستوى راق جدا ، والمنصوح به أن تطبع طبعتان : طبعة شعبية ( بأعداد كثيرة لأن غالبية القراء من ذوي الدخل المحدود ) وطبعة فاخرة لمن أراد اقتناء الكتاب الفاخر .
- الاهتمام بمعالجة الأخطاء المطبعية ، وذلك عن طريق صف الكتاب بالحاسب الآلي الذي توجد به إمكانيات عالية لعلاج الأخطاء ، أو بتدارك تلك الأخطاء عبر المراجعة وتكرار تجارب الطبع ، أو بإلحاق صحيفة تتضمن الأخطاء المطبعية وأماكن وجودها . وقد صارت كثير من المطابع لا يوثق بطبعاتها بسبب فضائحها في هذا الباب .
- الاهتمام بسعر الكتاب ، وتسويقه ، والسعر له دور كبير في سرعة تسويق الكتاب ، وبعض الناشرين – للأسف – قد يعمد إلى إماتة الكتاب عن طريق رفع سعره لأنه واثق من تسويقه باحتكاره للكتاب واحتياج الناس له ، ولكنه سرعان ما يكتشف أن جشعه هذا له نماذج شبيهة ، فيبتليه الله بناشر آخر يطبع الكتاب ( أو يسرقه باصطلاح الناشرين ) ويبيعه بسعر زهيد منافس ، مما ينتج عنه نفوق كتابه وإعراض الناس عن طبعته .
أما على صعيد الفرد العادي فإن له دورا أيضا في استغلال هذه الوسيلة في خدمة الدين ، فالواقع يشهد أن الذي - يجعل للكتاب قيمة فيشتهر المؤلف ويكسب الناشر – إنما هو القارئ الذي هو أنا وأنت وكل فرد مخلص وغيور في الصحوة المباركة ، وما رزقناه الله من عقل وعلم وبصيرة وروية يجبرنا أن نهجر الردئ ونلفظه ، وأن نشجع الجيد ونتبنى نشره بين الناس .
وبناء على ما سبق فأنا أدعو الناشئة والمربين على نهج سواء أن يتناصحوا بينهم فيما يقتنونه من الكتب ، أويستعملونه في دعوتهم ، وليسألوا أهل الدراية والعلم والخبرة والتجربة في الكتب النافعة الجديرة بالاقتناء ، وليعملوا بنصائحهم في هجر الكتب أو الكتيبات التجارية التي لا تمت لعاطفة الإسلام بصلة فضلا عن أن تنخرط في حمل أمانة الدين فيما سطر بين ثناياها .
الطريقة الثامنة عشرة
( المطبوعات والمسموعات والمرئيات )
إن الذي يطالع أساليب الدعوة منذ قرن من الزمان سيدرك بسهولة مقدار الفرق بين عصرنا وعصر من قبلنا ، بل سيدرك بجلاء أن كل عصر له أسلوبه وتقنيته في التعامل مع الحياة .
والمتأمل لنصوص الشريعة الغراء يلاحظ بوضوح أنها لم تتعرض للوسائل كثيرا بقدر تعرضها للمقاصد ، وذلك لأن هذا الدين قد قدر الله أن يكون خاتم الأديان ، والمهيمن على غيره من الملل ، وأن يكون أهله هم قادة البشر إلى يوم الدين .
فناسب ألا تأخذ المقاصد قوالب معينة ، أو تتحدد الأوامر والنواهي في نماذج جامدة لا يجوز الحيدة عنها ، ونعني بذلك ما لم يأت في تحديده نص أو في تعيينه أثر .
ولسنا من ذلك الفريق الذي يتخذ من هذه الملحظ تُكَأَةً ليُغير على النصوص يروم تبديلها بزعم العصرنة والتطور ، وعدم الجمود والتحجر .
وقد بينا في ( ابتكار الوسائل الدعوية ) ضوابط الابتكار في الوسائل بما يقطع مآرب المنافقين وغايات الهدّامين .
وقد شهد عصرنا فتوحات كبيرة في الجانب الدعوي تمثل في اتساع مساحة الميدان الدعـوي ، وتعاظم عدد المدعوين لكثرة الوسائل الدعوية التي تخاطب الناس .
وكان من جملة الوسائل التي استفحل خطرها وعظم أثرها في الناس : ( المرئيات والمسموعات والمطبوعات ) وأعني بذلك أشرطة العرض المرئي ( الفيديو ) والأشرطة الصوتية ( الكاسيتات ) والكتب والصحف والمجلات والمنشورات المختلفة .
إن هذه الوسائل الكافة تعتبر عنصر بناء أو عنصر هدم ، والغالب في دنيا الناس أنها لا تستعمل إلا في هدم الدين وتقويض أركانه ومحاربة المتمسكين به والمعتصمين بأهدابه .
وغدت هذه الوسائل سلاحا يشهر في وجه الدعوة الإسلامية في كل مكان وحصنا منيعا يحول بين الناس وبين وصول صوت الحق إليهم ، حتى عرف الناس جميعا أن الإعلام المتمثل في صناعة السينما والصحافة ( هذان بشكل خاص ) أصبحا ملك الأصابع الصهيونية الخفية التي صاغت بروتوكولات حكماء صهيون ، ولم يعد خفيا أن تلك الأصابع هي التي تصوغ الرأي العام العالمي ، وهي التي تقرر ما يجوز نشره وما لا يجوز ، وما يستحق الاهتمام وما يستحق الإهمال .
والصحوة الإسلامية في مقابل هذا التحدي لا بد أن تحدث انقلابا على هذا الاحتكار الإعلامي في المرئيات والمسموعات والمطبوعات ، وفي إطار الشرعية التي تحكم كل تصرفاتنا في هذه الدنيا ، وهي شرعية الكتاب والسنة والمثل والأخلاق الإسلامية التي نلتزم بها في السلم والحرب .
وقبل أن يتمادى التفكير بك أيها القارئ ، فأنا لا أدعو إلى إقامة سينما أو مسارح أو أشرطة غنائية إسلامية ( كما ينادي البعض ممن انحرف فهمهم لمقصود الخطاب الدعوي القرآني بل لمقصود الوجود الإنساني على هذه الأرض ) بل في وضوح وجلاء : أنا أدعو إلى استعمال كل التقنيات الممكنة والمتاحة من تلك الآلة الإعلامية وتسخيرها للخطاب الدعوي ، وبذل كل وسع ممكن في ملاحقة المستجدات الإعلامية التقنية وإمداد الكتائب الدعوية بها .
إن أشرطة الفيديو يجب أن تستغل في الحركة الدعوية ، وأشرطة الكاسيت ( ومثلها الأقراص المرنة – سي دي - ) يجب أن نؤصل طريقة الاستفادة منها ، والصحف والكتب المطبوعة كذلك .
ونحن أمام هذه الوسائل ما بين بادئين لها أو لم نخط فيها خطوات جادة ، مثل أشرطة الفيديـو ، أو مجربين ولكن ينقصنا التصور الاستراتيجي لاستخدام تلك الوسيلة مثل الصحف والمجلات وأشرطة الكاسيت .
في مجال أِشرطة الفيديو أرى أن الدعوة لا يجوز أن تستأخر أي وقت في استغلال هذه الطريقة ، فالذي لا مراء فيه أن كل البيوت تملك جهاز العرض – الفيديو – حتى الكثير من البيوت الفقيرة ، ولا أدل على ذلك من انتشار نوادي الفيديو ومحلات تأجير وبيع أشرطة الفيديو في الأحياء الفقيرة والشعبية ، بما يعطي انطباعا مباشرا أن الناس كافة صاروا يتعاملون مع هذا الجهاز .
والذي لا مراء فيه أيضا أن الناس لديهم استعداد لمشاهدة أي شريط إذا تضمن جانبا يثير فضولهم واهتمامهم ، نعم .. يهتم الغالب بأفلام الإثارة بأنواعها كالعنف والجنس ونحو ذلك ، ولكن الجميع مستعد للتجاوب مع أية مادة يرى أنها تجذب اهتمامه .
والدليل على صحة دعواي أن كثيرا من القطاعات استجابت لأشرطة المناظرة بين الداعية الإسلامية الشهير الأستاذ أحمد ديدات – رحمه الله – وبين القسيسين والمنصرين ، وكان لهذه الأشرطة صدى عالميا أقلق جنوب أولياء الكفر والشرك ، وهز عروشهم من الأساس ، وذلك لأن العامة والسذج والبسطاء صاروا يهتمون بهذه القضية بحكم حماستهم الفطرية وتعصبهم الجبلي لدينهم ، فكأن هذه الأشرطة قد أيقظت في الناس شعورهم الديني وحركت انتماءاتهم الفكرية .
كما أن أقراص – سي دي – التي تتضمن دروس مرئية لبعض الدعاة والعلماء لاقت قبولا فائقا من قطاع المتدينين وذوي الشعور الإسلامي العالي .
والمطلوب أن يتبنى إنتاج شرائط الفيديو جهات دعوية ( حتى لو كانت تجارية ) تسوق لأشرطة الفيديو التي تعرض أنشطة الدعوة المختلفة مثل المحاضرات الدينية أو الأشرطة الموضوعية التي تعالج شأنا شرعيا كتربية الأولاد أو تطرح الرؤية التي تتبناها الحركة الإسلامية لجوانب سياسية أو اقتصادية معينة ، أو أشرطة تتضمن أخبرا العالم الإسلامي وعرض أحوال المسلمين ونكباتهم ، على نحو ما حاولته بعض هيئات الإغاثة الإسلامية حينما سوقت لشريط يشرح مأساة المسلمين في البوسنـة ، ولا شك أن هناك مجهودات أخرى وكثيرة ولكنها تفقد عنصرين مهمين : الإتقان في الإخراج وحسن التسويق .
أما جانب الإخراج التصويري فليس لي فيه ناقة ولا جمل ، ولكن المتيقن أن الأمر لو احتاج تكليف شركات متخصصة لتصنيع مادة الشريط فليس في ذلك من بأس ، وقد وجدت شركات ذات اتجاه إسلامي تتبنى مثل هذه المشروعات وهي جديرة بالتأييد والإعانة .
أما الذي يجب أن ألفت الأنظار إليه ، فهو الجانب التسويقي ، حيث تتقاصر همم الدعاة والقائمين بالشأن الدعوي عموما عن الترويج للمنتج الدعوي ( إن جاز التعبير ) ، مع أن فرصة توزيعه على نطاق واسع ليست مستحيلة ، بل إننا نرى كيف تتمكن المصانع والشركات التجارية من تسويق المنتج الرديء عن طريق آليات تسويقية معروفة مبنية على التعريف بالمنتج ( الإعلانات ) وتسهيل وصوله للمستهلك ( المحلات – باختلاف درجاتها – ومندوبي المبيعات ) ، وقد توسعت أساليب التسويق في العصر الحاضر ، حيث أصبح بإمكان المستهلك أن يشتري السلعة عبر الهاتف بعد مشاهدة مواصفات السلعة في التلفاز ، مع ضمان أن يأتي إليه المنتج في بيته ، وتدخلت خدمات الإنترنت في تسويق السلع حيث يقوم المشترك في الشبكة بشراء كل احتياجاته عبر معاينته لأوصاف السلعة من خلال الشبكة واختياره لما يناسبه ثم استخدام البطاقات الائتمانية في سداد المصروفات .
أما الأشرطة الصوتية ( الكاسيتات ) فأنا أنقل لك كلاما بديعا قديما للأستاذ الراشد حفظه الله ، كتبه منذ أكثر من عشر سنين ، وكان ما سطره مجرد أحلام وأمنيات كما عبر هو ، ولكن في هذه الآونة قد تحقق كثير من أحلامه تلك ، مما ينبئ أن كثيرا من الطموحات الواقعية قابلة للتحقيق إذا اتخذت لها الأسباب الموصلة . يقول حفظه الله : ومنها ( من نداءات الدعوة ) استثمار منظم لأشرطة الكاسيت ، فإنها اليوم تنتشر بلا تخطيطات مركزية ينبغي أن تكون في كل بلد ، وبلا انتقاء للمتكلمين ، وفيها ما فيها من الارتجال أو التكرار أو الخلط أو الأحاديث الموضوعة أو الصخب أحيانا .
إن بإمكاننا أن نسجل مائتي شريط أو أكثر ، وفق قائمة مواضيع متكاملة ، ولمتحدثين من ثقاة الدعاة وبأثمان مخفضة فتدخل كلماتنا قلوب ربات الخدور ، ويتجاوب معها الشيخ والأمي والانعزالي والنائي الذي لا يصله الدعاة ، وتملأ أوقات سمر الفلاحين في الليالي ، وتشغل رواد المقاهي وركاب السيارات ، كل أولئك على درجة سواء مع المثقف الذي يبتغي التكرار فترطب هذه الأشرطة أرواحهم عند إنصاتهم لها … ثم يقول : إن إشاعة الأشرطة تعتمد اليوم على مبادرات فردية وأذواق مختلفة ، ومن الواجب أن تبرمج قياديا في كل قطر ، لتكون سلاحا إعلاميا رديفا للكتب والمجلات تحكمه موازين ويسيره تخطيط واضح في أهدافه الجزئية التي يراد تحقيقها ، ومن الممكن أن تستورد الدعوة الأشرطة الخام لينخفض السعر إلى أقل من النصف وأن تتحمل بعض تكلفتها لينخفض السعر إلى الربع فتشيع أكثر ، ويحسن آنذاك أن يتم طبع دليل لهذه الأشرطة تخصص كل صفحة فيه لإيجاز معاني شريط معين والتعريف بالخطوط العامة للكلام الذي يحتويه .
ثم يقول حفظه الله : إنها نعمة كبرى هذه الأشرطة ، قلبت الموازين وفتقت على الحكومات الطاغية فتقا ليس له رفاء ، ولكننا ما زلنا لا نجيد استخدام هذه النعمة نحن معاشر دعاة الإسلام ، وبإمكاننا أن نحدث بواسطتها هزة سياسية كبيرة ونهضة فكرية تربوية معنوية قوية ، وبأرخص التكاليف ولكننا قوم نحب الكسل . سيقول العجزة من الدعاة : إن هذا العمل سيعرضهم لمتاعب مع زبانية الطغاة من رجال المباحث والأمن ، وعجبا لهم ثم عجبا ، كأن طريق الدعوة خلا يوما من المتاعب والتضحيات ! قد تكون مثل هذه العملية صعبة في بعض البلاد التي تحكمها الأحزاب الإرهابية ولكن أكثر بلاد الإسلام الأخرى يسهل فيها مثل هذا العمل ، ولا يحتاج إلا إلى عزمة جد قيادية ، والتبكير في شراء آلات الطباعة وأجهزة استنساخ الأشرطة واجب قبل أن تمنعهـا الحكومات .
أما في مجال المطبوعات فلا شك أن الكتاب الإسلامي يحظى بشعبية جارفة أهلته أن يحتل صدارة الكتب الأكثر مبيعا على مستوى معارض الكتاب في العالم الإسلامي ، والذي نقطع به أن الكتاب الإسلامي لو أخذ حريته الكاملة ( من جانب قوى الطغيان ) وتلقى العناية الفائقة ( من جانب المؤلفين والناشرين ) لكان له عندئذ أعظم الأثر في نشر الصحوة الإسلامية على أوسع نطاق .
وقد عالجنا في الطريقة السابقة من طرق خدمة الدين ( السادسة عشر بعنوان : حركة التأليف ) كيفية النهوض بالكتاب الإسلامي تأليفا ونشرا وتسويقا ، وهنا نريد أن نتباحث في بعض الوسائل الممكنة لجعل المطبوعات وسيلة حيوية من وسائل الدعوة إلى الله تبارك وتعالى .
فالملاحظ أن الكتاب الإسلامي ينحو تسويقه جانبا تجاريا ، والمطلوب أن تعتمده الدعوة وسيلة دعوية محضة تعويلا على أن الأصل في وصول كلمة الحق وتعليمه للناس أن يكون حسبة .
والأمران الجديران بالطرح هنا : تمويل طبع الكتب المجانية ، وحسن اختيار الموضوعات مع إتقان نشر هذه المطبوعات .
أما قضية نفقات توزيع الكتب بالمجان فهي فرع ما تحدثنا عنه في الطريقة الثامنة بعنوان ( المال المبارك ) ، ولا بأس أن نطرح هنا بعض الأفكار التي لم تذكر هناك .
ففي مجال طبع الكتيب الإسلامي مازالت هناك مندوحة وفسحة ، ويجب أن تبحث الدعوة عن كل الوسائل المتاحة ليتبنى ذوو اليسار طبع الكتيب الإسلامي .
تقوم بعض الجمعيات الإسلامية التي تنتمي للصحوة بطبع بعضا من هذه الكتيبات ولكنها طريق التوزيع كما اختيار الموضوعات ، تتم بلا تنسيق وروية .
والواجب أن يتباحث الدعاة في أصلح الكتب الصالحة للنشر ، أو بالأحرى التي يحتاجها المجتمع المسلم على ضوء الأولويات المتفق عليها ، ويقبح أن نستغل توزيع الكتب بالمجان في الترويج لفكرة ساذجة أو الانتصار لخلاف سائغ . فالساحة مليئة بالقضايا المصيرية التي تتطلب شفافية أكثر من هذا الزخم الثقافي الكاذب .
ومن الضروري أيضا أن يناصح الدعاة أصحاب دور النشر في تحديد نسبة من الكتب التي يطبعونها لتوزيعها على طلبة العلم الفقراء أو على من يحتاجها من الدعاة لاستعمالها في حركته الدعوية ، أو الاتفاق مع بعض الأثرياء وذوي اليسار على طبع كتاب واحد كل سنة .
أما الكتيبات الصغيرة التي تتناول قضية معينة ذات شأن ويبتغى توزيعها بالمجان فإنها لن تشكل عائقا أمام الدعاة ، فالمال اليسير يكفي الآن لطبع الآلاف من تلك الكتيبات الصغيرة .
ولو تعاون الدعاة والغيورون على الدين في جمع فتات المال كل حين وحين ، لأثمر عندهم من الرصيد في طبع تلك الكتب ما لا يقع في الحسبان ، والمطلوب أن يكون من بين الدعاة والقائمين بالشأن الدعوي من يحسن عرض فكرة طبع الكتاب على ذوي الشأن ويطلب منهم التبرعات المطلوبة لتكون عونا للدعوة على طبع الكتب المطلوبة .
وطبع الكتب من أرجى الصدقات الجارية إذا ضُمن توزيعها بطريقة تجر النفع على المسلمين عامة وطلب العلم خاصة ، فينبغي حض ذوي اليسار الذين يرغبون في إجراء الصدقات الجارية لهم أو لذويهم الأموات أن يساهموا في طبع الكتب الإسلامية التي تناصر شرع الله وقضاياه .
وعلى صعيد المجهود الفردي ، فإن الاستفادة من هذه الوسائل أمر ميسور كل إنسان ، ولو اجتهد كل غيور على الدين بتكوين مكتبة صوتية أو تجميع بعض الكتيبات التي تحوي موضوعات ذات صلة بواقع المجتمع المسلم ثم عمل على تسخير سماعها لجيرانه وأقربائه وأصدقائه لأسهم بعامل قوي وفاعل في بناء صرح الصحوة ، فبهذا المسلك ستصل كلمة الحق ولا ريب إلى كل أذن وسيعلو نداء الإسلام في كل بيت ، وعندئذ تبدأ إرهاصات النصر المبين .
ولا شك أن هناك الكثير من الأفكار التي ذكرت هنا أو لم تذكر قد نفذت بالفعل ، وبإمكان الدعاة أن يتناصحوا فيما بينهم حول أفضل السبل والوسائل لإحياء أو تنشيط هذه الوسيلة من وسائل خدمة الدين .
ويمكننا أن صوغ أفكار هذا الباب فيما يلي :
(1) تكوين لجان اختصاصية في كل منطقة دعوية من مهمتها الاعتناء بجانب المطبوعات والمرئيات والمسموعات ، حيث يكون من اختصاصها اختيار الموضوعات باستشارة قادة الدعوة وعلمائها ، واتخاذ الآليات الضرورية لتنفيذ المشروعات الإعلامية المطلوبة .
(2) يجب أن تعتني الدعوة بالجانب التمويلي لهذه الطريقة ، وذلك عبر الوسائل التي ذكرنا في الطريقة الثامنة والتي ذكرت ههنا .
(3) تبني سياسة إعلامية واضحة المعالم كما سبق وبينا في الطريقة الخامسة عشر ، فمن شأن السياسة الإعلامية أن تحدد للصحوة مسارا عمليا وحركيا معينا تتواثب الجهود على تنفيذه وتنشيطه . وأي نشاط في هذا الجانب دون تبني هذه السياسة من شأنه أن يصم أي مجهود بالارتجالية والعشوائية .
(4) على صعيد العمل الفردي بإمكان أي داعية أن يجتهد في الاستفادة من الأشرطة الصوتية والمرئية والمطبوعات ، وذلك عبر شرائها أو طبعها ونسخها ، واستعمالها في نشاطه الدعوي الميداني أو تغذية مكتبة المسجد الصوتية ، أو تكون نادي إعلامي في المنطقة لإعارة تلك الأشرطة على اختلاف أنواعها لسكان المنطقة نظير أجر رمزي أو بدون أجر ، أو على حسب ما يرتئي كل داعية في منطقته .
(5) مناصحة الناشرين وأصحاب الشركات الإعلامية الإسلامية على تبني دور دعوي واضح والمساهمة في نشر الصحوة عبر منتجاتهم الإعلامية ، مع التأكيد على ضرورة أن يلتزم كل أولئك بالخط الدعوي السائد ، وألا يكونوا أداة في يد المنافقين والمبتدعة من أعداء الصحوة المباركة .
الطريقة التاسعة عشرة
( ثورة الاتصالات )
الحاسب الآلي
والوسائل العصرية في الاتصالات
قد مر معنا في حكم الوسائل الدعوية أن شريعة الله الغراء لا تأبى المستحدث من طرق عادية في خدمة حوزة الدين ، وأن نصوص الشرع تنادي ببذل كل متاح وإعداد كل مستطاع لرفع راية الحق والذب عن حماه .
وإذا تقرر ذلك ، فإن الدعوة لابد أن تأخذ مجراها في كل القنوات التي تلتقي فيها أفكار البشر ، ولا يجوز أن تنأى عن هذه المواطن بزعم عدم ملاءمتها أو تضمنها ما لا يليق اقتران نصوص الشرع المطهر به .
وقد أكد الباحثون أن ثورة الاتصالات في هذا العصر ستُحدث انقلابات جوهرية في كل مناحي الحياة ( سياسيا واقتصاديا واجتماعيا ) ، وبدورنا لا بد أن نضيف أننا سنحدث بهذه الثورة انقلابا دعويا ، ابتداء من الهاتف والبيجر والهاتف المحمول ومرورا بإمكانيات جهاز الحاسب الآلي وانتهاء بقنوات الاتصال الدولية المسماة في عرف عصرنا بالإنترنت .
وقد تم توظيف هذه الإمكانيات في بعض الأنشطة الدعوية ، بيد أنها مازالت تأخذ طابعا فرديا ومنحى اجتهاديا ، والذي لا ريب فيه أن تقنية الاتصالات لها تقنية استخدام ، ولابد أن يتجاور مع شعورنا بأهمية هذه التقنية أن نتخصص في أدق تفاصيلها ، وليس ذلك بمستبعد أو مستصعب إذا صدقت مشاعرنا في قضية البذل للدين .
لقد علمت أن الرهبان البوذيين في بعض بلاد الوثنية تتطاول هممهم لإتقان التعامل مع الحاسب الآلي ، ورأيت حركة التنصير في بلاد العالم تدار بتقنية إدارية عالية المستوى تنبئ عن مهارة وعبقرية في أداء العمل وتنفيذه .
بل من أعجب من سمعته أن بعض الشباب المتحمس في أمريكا ضاق ذرعا باحتكار شركة مايكروسوفت للبرمجيات المحاسبية ، لدرجة أنها احتكرت سوق أنظمة التشغيل بالاتفاق مع الشركات المصنعة للحاسب الآلي أن تلزم المشتري بشراء الجهاز ومعه نظام التشغيل ( وندوز ) التابع لمايكروسوفت ، فانبرى طالب جامعي مغمور ( حانق على تلك الشركة المذكورة ) وابتكر نظام تشغيل عالي الكفاءة وبثه في الإنترنت بالمجان ، فاجتمع على نصرته كل الشبيبة الذين اشتركوا معه في الحنق على مايكروسوفت ، حتى وصل عدد من صاروا يجتهدون في تطوير ذلك البرنامج المجاني وتحسين كفاءته : ألف من الشباب المتحمسين المتخصصين في تقنية الحاسب الآلي .
فانظر أيها الأريب كيف جمع أولئك وحزبهم تبرهم من الضيم ، وإباؤهم أن يفرض أحد عليه وصاية تكنولوجية ، فثاروا ثورة تلقائية على وضع اقتصادي ليس ذا بال ، فأجدر بدعاتنا بل بكل شبابنا الغيور ممن أوتي بسطة في العلم والاطلاع على تقنيات العصر أن يستنفرهم حب البذل للدين ، وليقدموا لأمتهم ما يقض مضاجع الكافرين ويشفي الله به صدور قوم مؤمنين .
ولست بالذي يتمنى الأماني الحالمة ، ويغرق في بحار الوهم العميقة ، لكنني أزعم أن الدعوة الإسلامية بآليتها الفكرية تستطيع أن تستعين بخبرات الأفذاذ من المتخصصين في كل المجالات التقنية المذكورة آنفا دون أن نلزم كل المنفّذين أن يكونوا من أصحاب هذه التخصصات .
وفي إطار ما ذكرناه مرارا أن الدعوة ليست حكرا على أصحاب العمائم والشهادات الشرعية ، فإننا نؤكد هاهنا أيضا أن كل المتخصصين في كل المجالات العصرية لا بد أن يكونوا جندا من جنود الإسلام ، وأن تُسخر هممهم وطاقاتهم وإبداعاتهم في خدمة الدين ، ولا بد أن يُبث في روح كل الشباب أن أي علم يدرسونه أو تخصص يتقنونه إذا لم يكن للدين منه نصيب فهو وبال على صاحبه ونقمة تلعنه أينما حل وارتحل ، فالذي يعيش بنعمة الله لنفسه دون أن يبذل زكاتها ويؤدي حق الله فيها حريٌّ به أن يتوارى عن مجتمع الناس وأن ينـزوي في دائرة النسيان كما نسيَ هو حق الله عليه .
وإذا ما أردنا أن نحرر أوجه الاستفادة من هذه الطريقة التي نحن بصددها فينبغي أن نعلم أن ثورة الاتصالات في هذا العصر قوامها على الأقمار الصناعية التي صارت الشركات التقنية تتنافس على تصنيعها بأسعار منافسة .ط
وصارت دول – ليست ذات شأن – بإمكانها أن تشتري قمرا صناعيا لتطور إمكانياتها التقنية في الاتصالات سواء في مجال الإعلام أو في مجال نظم المعلومات .
وكما سبق أن بحثنا فإن الكلام عن الطرق التي يجب أن تستثمر في خدمة الدين يجب أن ينأى عن دائرة الممكن أو غير الممكن ، لأننا نزعم أن الحركات الإسلامية الآن تملك ثروات ضخمة وإمكانيات فذة ، لكنها غير مستثمرة ، وغير موظفة على الوجه المطلوب ، أو على أحسن الظنون : تحول كثير من العوائق دون توظيفها .
وسيأتي الزمان القريب الذي يصبح التعاون بين كل الحركات الإسلامية لتكون كلمة الله هي العليا حقيقة ماثلة ، وواقع جاثم رغم أنف الحاسدين . وعندئذ لابد أن تستدعى كل المشروعات التي كان الظن استحالة تطبيقها في ظل التشرذم .
وساطر هذه الكلمات له تجارب مثيرة حول إمكانية صنع مشروعات عملاقة لا تتناسب مع حجم الإمكانيات المتاحة إذا توافر لها جانب الإرادة الجازمة والإدارة الحازمة .
وإذا كان الشأن كذلك فأنا لا أستبعد أن تملك الحركات الإسلامية في القريب العاجل قمرا صناعيا يكون بمثابة انطلاقة كبرى لمشروعاتها الدعوية . ولقد سمعت أن جمعية النور في تركيا ( وأحسبها تتبنى نهج الشيخ بديع الزمان النورسي رحمه الله ) تملك قناة تليفزيونية فضائية والكثير من محطات الإذاعة المحلية ، والعشرات من الصحف والمجلات . ولا ريب أن دعوة تدخل البيوت باستدعاء أصحابها لها عبر أزرار التليفزيون تستطيع حينئذ أن تناطح خصومها بقدم راسخة وخطوات واثقة .
ولقد ذكرنا بعض الوسائل المتاحة لتوفير التمويل اللازم لمشروعات الدعوة الكبرى ، والأمر كما ألححت مرارا ليس مجرد حلم أو أمنية مغرورة ، بل هو واجب لا بد أن ننذر صوما عن النوم حتى يتأدى .
وفي مجال الاتصالات نرى التقنية قد أفرزت لنا الكثير من الاختراعات التي تحتاج قبل كل شيء إلى دراسة وتمحيص لمعرفة أوجه الاستفادة منها ، فكما علمنا أن تقنية الاتصالات تحتاج إلى تقنية استخدام ، وقد رأينا كثيرا من الهيئات الحكومية وغير الحكومية في بعض الدول الإسلامية عاجزة عن الاستفادة من إمكانيات الحاسب الآلي بسبب عدم درايتها بمجالات الاستفادة .
إن الهاتف والمحمول وجهاز الاستدعاء ( البيجر ) بتقنياته صار يمثل عنصرا حيويا لكثير من الناس ، وأجدر الناس بالاستفادة منه هم الدعاة الذي تتطلب احتياجات الدعوة تواجدهم في أكثر من مكان في وقت واحد ، كما أن احتياج كل الناس إليهم يلزم معه ضرورة ربطهم بالناس وربط الناس بهم ، كنوع من المبادرة في مخاطبة الجماهير ، والسابقون في الوصول إلى الناس هم القادرون على التأثير فيهم أكثر من غيرهم .
فمن الضروري أن تكون بعض أرقام هواتف الدعاة مشاعا بين الناس ( أرقام معينة ) ، وأن يعمل طلبة العلم والمعنيون بالشأن الدعوي أن يحثوا الناس على استفتاء الدعاة وعرض مشكلاتهم عليهم . ولو استطاعت الدعوة أن تسهل اتصال الناس بالدعاة - بحيث يكون الدعاة أول من يفكر فيهم الناس عند حدوث أية مشكلة - فإنها بذلك تكون قد ضمنت قيادة المجتمع ، وامتلكت ناصيته ، وأمسكت بدفة توجيهه ، ومع مرور الزمن فإن الدعوة هي التي ستملك توجيه الناس إلى أي موقف تتبناه أو تريد للناس أن يتبنوه .
وفي مجال الاتصالات يبرز الحاسب الآلي وثورة البرمجيات . فهذان القطاعان صارا يمثلان عصب السياسة والاقتصاد والعسكرية في معظم دول العالم . وحتى نتصور أهمية هذين القطاعين فيمكننا تذكر مشكلة عام ألفين ( ويعرف بمشكلة الصفرين ) ، وهي مشكلة عجز الحاسبات القديمة على التأريخ لعام ألفين لعدم تصميمها آنذاك إلا على التأريخ لخانتين فقط ، وبحلول عام ألفين ميلادي ستعجز الحاسبات القديمة عن التأريخ للعام الجديد مما سيتسبب في خلل في كل البرامج والمعلومات المحملة على تلك الحاسبات القديمة . وقد قدر بعض الباحثين أن دول العالم ستحتاج إلى ما يقرب من ثلاثمائة مليار دولار على أقل تقدير لحل هذه المعضلة .
وضخامة المشكل ناتج عن أن العشرين سنة الماضية كانت كل المعلومات الاقتصادية والعسكرية والعلمية المختلفة تخزن في ذاكرة الحاسبات القديمة ، واضطراب عمل تلك الحاسبات سيؤدي إلى خلل في كل تلك المعلومات كأرقام حسابات البنوك ونظم الدفاع في جيوش العالم ، حتى أن أمريكا وروسيا قد عقدتا اتفاقية للتعاون في حل هذا المشكل على صعيد الترسانة النووية التي يحتمل بعض الباحثين أن تكون مشكلة الصفرين ذات أثر بعيد المدى في البرامج التي صممت لإطلاق القنابل آليا .
وخوفا من أبعاد هذه المشكلة نصح بعض كبار المصرفيين بسحب الأرصدة من البنوك قبل حلول عام ألفين ، حيث تنبأ بأن تسبب هذه المشكلة في عمليات نهب وسطو أو خلط في أرقام الحسابات وأرقام الأرصدة .
كل ذلك ذكرته حتى نولي هذا الجانب بعض الاهتمام ، لأنه من المتفق عليه أن قطاعات عريضة من الدعاة وغير الدعاة من المعنيين بالشأن الدعوي يهملون الاستفادة من هذه الوسيلة .
وسنذكر بعض أوجه الاستفادة من هذه الطريقة وكيفية الاستفادة منها بالنسبة للدعاة ليكون ذلك من باب التذكير والله الموفق والمعين .
أولا : الاستفادة من الحاسب الآلي في إطار برامج الخدمات :
إن البرامج التي صار باستطاعة الحاسب الآلي أن يتعامل معها صارت لا تعد ولا تحصى ، ومما هو معلوم أن سوق البرمجيات تعدى مرحلة الضروريات إلى البرامج المسلية بل المضيعة للوقت ، مما ينبيك أن أطر استعمال هذه البرامج تناولت جوانب شتى من الحياة ، بحيث أصبح بالإمكان إدارة هيئة دعوية عالمية ببرنامج واحد تخزن فيه كل المعلومات المتاحة ويتم استدعاؤها وفق أي منظومة .
وصار بإمكان الدعاة أن يستخدموا برامج كتابية تسهل عليهم تخزين المعلومات والتصنيف والرجوع أيضا لكل ذلك وبمنتهى السهولة ، ولا شك أن هذا يوفر على الداعية من الوقت والجهد الكثير الذي يجب أن يوفره في مصالح أخرى مهمة .
وقد انتشرت البرامج التي تخزن كتب العلوم الإسلامية من معارف شتى ، حتى أصبح تخزين آلاف المجلدات في قرص مرن يوضع في الحاسب الآلي أمرا عاديا ، بحيث يمكن استدعاء أية معلومة وبسرعة غير عادية ، وبينما كان الداعية يحتاج إلى الألوف المؤلفة من الأموال ويحتاج إلى الغرف الفسيحة ليملأها بالكتب ، أصبح باستطاعته أن يشتري هذا الجهاز بثمن زهيد وكذلك البرامج المذكورة .
وليس من الغريب الآن أن الطبيب والمهندس والمدرس والمحاسب لا يستطيع أن يستغني عن هذا الجهاز المهم . فلقد عمل هذا الجهاز على توفير المجهودات والمصروفات بطريقة مذهلة .
إن الداعية يجب أن يكون ضنينا بوقته شحيحا بزمانه ، ويجب أن يهتبل كل فرصة في توفير الدقائق بله الساعات . وإذا أمكن لدعاتنا أن يجتهدوا قليلا في تعلم نظم الحاسب ولو بالقدر الذي يؤهلهم للتعامل معه فإنهم بذلك يخطون خطوة واسعة المدى في خدمة الدين ، فإن أوجه الانتفاع من الحاسب الآلي تتضاعف كما يقول الخبراء .
ثانيا : الاستفادة من الحاسب الآلي في إطار الاتصالات :
لقد غدا الإنترنت وسيلة العصر في الاتصالات السريعة ، بل تعدى ليصبح في بعض الدولة وسيلة التسوق والتسويق للسلع ، وصار بإمكان المعلومة أن تنتقل إلى أرجاء المعمورة في أقل من الثانية وفي أي وقت وفي أي مكان بواسطة الضغط على مفتاح واحد من لوحة المفاتيح .
وصار البريد الإلكتروني وسيلة كل ذوي المعارف في تبادل الخبرات والعلوم ، فيتم الإعلان عن المحاضرات والندوات واللقاءات بصورة فورية عبر عناوين البريد الإلكتروني دون تجشم عناء تبليغ المواعيد شفاهية .
بل صار من الممكن عقد الندوات عن طريق الحاسب الآلي عبر خطوط عديدة ولو كانت متباعدة بعد المشرق والمغرب . ومثل هذه الثورة في الاتصالات لا بد أن تنال منها الدعوة النصيب الأكبر . ونحن لم نتحدث عن ضرورة دخول سوق تصنيع الحاسب والبرمجيات ، فهذه قضية تحتاج إلى مصنف خاص استوفاه بعض الغيورين من أبناء الأمة ، ولكننا نتحدث عن إمكانية استغلال الحاسب الآلي والانتفاع بالإمكانيات التي توصلت إليها تقنية الاتصالات .
إنني أرسم صورة عامة لما يجب تداركه من أوجه خدمة الدين ، أما تفاصيل أوجه استخدام الحاسب الآلي في خدمة الدين فمما لا يفي به مصنف مستقل ، ولكننا نحسب أن أوجه الانتفاع ستحتاج إلى متخصصين من الجانب التقني والجانب الشرعي .
وقد رأيت في إحدى الكليات الإسلامية أجهزة الحاسب الآلي قد ملأت غرف الأساتذة والمدرسين ، بيد أن التراب قد علا أركانها ، فأضحت كقطع الآثار التي تحتاج أماكن عرض مناسبة . فلما سألت عن هذه الأجهزة قالوا : تبرع بها بعض المحسنين لتلك الكلية ، فلم يروا بدا من حبسها في غرفة المدرسين ، فقلت : أولم يكن من الأحرى أن تجمع تلك الأجهزة في غرفة ويتم تدريب الأساتذة عليها وكذلك الطلبة ؟!! أولم يكن من الأجدر أن يعطى الجهاز الإداري في الكلية جهازا واحدا يتم تخزين المعلومات فيها وكذلك طبع الأوراق المطلوبة بدلا من الكيفيات البدائية التي يتعامل بها الإداريون ؟!!
وإذا كنا سنعتبر مجرد استعمال الحاسب – دون أن يكون للأمة الإسلامية دور في تصنيعه – نقص يجب تداركه ، وفرض كفائي يجب السعي لدرء الإثم عن الأمة بأدائه . فكيف بنا ونحن نرى البعض يقنع من الغنيمة بالإياب ، ويستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير .
يتابع بأذن الله
جمال المر
2010-10-05, 10:50 PM
الطريقة العشرون
( إصلاح ذات البين )
من أكثر ما يتألم له قلب غيور على دين الله تعالى : ما نراه كل يوم من اتساع هوة الخلافات بين الأفراد والجماعات – على نطاق الصحوة الإسلامية – وبين كل الناس وفي كل مكان – على نطاق المجتمع المسلم كله .
ولا شك أن هذا من شؤم تنكب الصراط المستقيم ، وهجران المنهج الصحيح ، وخطأ التربية الإسلامية القويمة ، مما يستتبع بالضرورة نهضة لاستدراك هذا الخطأ ، وذلك بمحاربة الفرقة ، والتأكيد على مبادئ الوحدة ولم الشمل وجمع الصف .
وقد يتساءل البعض ، كيف يمكن أن نتصور هذا العمل طريقة من طرق خدمة الدين ؟
وأنا أخبرك أيها اللبيب ، كيف نستطيع أن نبني أمة واحدة ، ونبدأ في تأسيس هذا البنيان بالمجهودات البسيطة ، التي قد يظنها بعض الناس هزلا ، وما هي إلا الجد الذي لا هزل فيه .
قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين } ، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم : ( وكل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين اثنين صدقة ) .
لقد درس بعض الباحثين في المجال الاقتصادي عن سبب تفوق اليابان على الدول الغربية في المجال الصناعي والتقني والإداري ، مع أن الدول الغربية أسبق في كل هذه المجالات .
فخلص هذا الباحث إلا أن التنمية اليابانية بما فيها من حركة اقتصادية وصناعية وإدارية تتضمن عنصرا اجتماعيا حيويا ليس موجودا في المجتمع الرأسمالي الغربي ، ألا وهو الروح الجماعية في آلية التنمية اليابانية ، ويعني بذلك أن الصناعة والتجارة والإدارة اليابانية – وإن كانت رأسمالية – ولكنها كانت بعيدة عن الفردية المتطرفة التي نادى بها رأسماليوا الولايات المتحدة ، والتي هي أشبه ما تكون بالإقطاع ، أو نظام الرق المقنن .
إن عجلة التنمية اليابانية حرصت على ألا تجعل لأصحاب رؤوس الأموال خاصية تسلطية على من تحتهم ، وأضحى هذا المسلك عقيدة اجتماعية لدى أصحاب رؤوس الأموال أنفسهم ، فصاغوا فكرا اقتصاديا قائما على إشراك كل العمال في الوحدة الصناعية أو التجارية في مصير الربح والخسارة ، فإذا ابتكر عامل طريقة جديدة لحل مشكل صناعي ، نسب هذا الابتكار الجديد إلى كل الوحدة ، مع عدم إهمال مكافأة المتميز .
كما أن التنمية اليابانية احتفظت بالطابع الشرقي الذي يعظم مكانة الأستاذ والمعلم ، فالعامل الصغير يعظم رئيسه في العمل بمقتضى موروثاته الاجتماعية ، مما أكسب العمال ترابطا تلقائيا كسر من حدة أي تسلط رأسمالي على حساب طبقة العمال .
ويمكنك أن تلمح هذا الترابط الاجتماعي في المجتمع الياباني عبر احترام بعضهم لبعض ، وحرصهم على أداء التحية اليابانية المعروفة في كل لقاء .
ونحن لسنا بصدد نقد حضارة وثنية مثل الحضارة اليابانية ، ولكننا نتبصر في جوانب الخير والحكمة التي هي ضالة المؤمنين ، لنتمثلها في أخلاقنا وعاداتنا ، فالشرع من ترك من خير إلا وأمر به ، وما ودع من شر إلا ونهانا عنه ، وقد قال الله تبارك وتعالى : { إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ، يعظكم لعلكم تذكرون } .
وما نحن بصدده الآن أن نوجد ذلك المجتمع المتوحد في معرفة المصير والهدف ، وأن نقلل من الخلافات المحتدمة فيه ، وأن نوجد الآلية التي نضمن بها اجتماع المسلمين على كلمة سواء .
إن ترابط المسلمين من شأنه أن يخطو بنا خطوات واسعة نحو النصر والتمكين ، وتعاون الجماعات العاملة في حقل الدعوة من شأنه أن يكسب رصيد الصحوة زخما يؤثر ولا شك في انطلاقتها العالمية .
ولا شك أن ما ننادي به هنا يعده بعض الناس حلما ، وبعض الناس يعده أمرا غير مطلوبا بالدرجة الأولى ، ونحن لا ننكر صعوبة ما نتحدث عنه ، كما لا ننكر أن قضية الوحدة في هذا الوقت ليست من أولى الأولويات ، ولكننا يجب أن نعتقد أنها واجب مهم من واجبات الشرع ، وأساس متين من أسس الجماعة المسلمة التي وعدها الله بالنصر والتمكين .
وعليه فلا يجوز التعامي عنها كهدف نسعى إلى تحقيقه ، حتى ولو بصورة بدائية ، أو بطريقة مرحلية ، تتحقق فيها الأناة والروية اللذان هما شرطان أساسان في كل عمل ناجح ودائم .
نعم أيها القارئ الكريم … إن إصلاح ذات البين يجب أن يكون هدفا نسعى لتحقيقها بالقدر المستطاع ، وغاية يجب أن تعم كل تطلعات شباب الصحوة ودعاتها .
بل هي هدف اجتماعي يجب أن يتحقق على مستوى الأفراد بالصورة التي تكون سببا في تحققها على مستوى الجماعات .
إننا نراقب بكثير من الألم والقلق مواقف كثير من الدعاة من بعضهم البعض ، وندهش من هذا التراشق الذي يحدث بين أناس يجمعهم منهج واحد في فهم الكتاب والسنة ، بل وتحدوهم غاية واحدة في إعزاز الدين ، بل ويجمعهم مصير مشترك ضد أعداء معروفين للإسلام والمسلمين .
والأدعى للتعجب أن هؤلاء لا يتفرقون في أصول عقدية واضحة ، بل في مسائل هي معدودة على التحقيق من فروع المعتقد ، بل يعدها بعض الأئمة من الخلاف اللفظي .
أنا لا أنكر بدهية وجود خلاف واختلاف ، ولكنني أزعم أنه ليس من ضرورة الخلاف أن تحدث العداوة والبراءة بل والمحاربة ، وأن تستخدم المنابر التي ما نصبت إلا للأمر بكل معروف ، والنهي عن كل منكر .
وقد رأى أحد السلف رجلا يغتابا مسلما ، فسأله : هل غزوت هذا العام ؟ فقال : لا ! فقال : سلمت الروم والكفار من سيفك ولم يسلم المسلمون من لسانك ؟
وأرى أن هذا المشهد يحدث بحذافيره ، فقد سلم أعداء الله من العلمانيين والشيوعيين وأهل البدع المنكر كالقاديانيين والشيعة الرافضة من ألسنتنا معاشر دعاة أهل السنة ، ولم يسلم بعضنا من لسان بعض .
لعمر الله إنها الفاقرة التي تركت الديار بلاقع ، والحالقة التي تحلق الدين ، وموروثات الهوى ورواسب الجاهلية ما زالت متمكنة في النفوس ، وتحتاج إلى قومة لله صادقة ، نستأصل بها هذا الدرن ، ونصلح بها حنايا القلب ، ونحرر النية ، ونطهر الطوية ، ونمحض القصد ، ونمحص الإرادة ، والله الموفق والمعين .
إن الصحوة تشهد استقطابا حادا في مسائل فروعية ، وليت الخلاف يبقى في دائرته الضيقة الشرعية من مناصحة بالأدلة وتغافر بعد المحاورة واعتقاد ثبوت الأجر للجميع ، ولكن الأمر لم يركن إلى شيء من هذه الآداب الإسلامية ، بل تعداها إلى تحزب وتناحر ،حتى صارت بعض الجماعات توالي وتعادي على مسألة واحدة من فروع المعتقد ، وكل ذلك من شؤم الخلاف والفرقة ، والله المسئول أن يصلح أحوال المسلمين .
إن هذا - الكتاب أيها القارئ الكريم – يخاطب قلب ووجدان من اعتصره حال الإسلام والمسلمين ، وينادي على كل ذرة شفقة في قلوب المسلمين ليقفوا وقفة واحدة أمام أعدائهم ، ولن أقول كما يقول بعض الهلاميين : أن ننسى خلافاتنا ، فإن هذا ليس معقولا ، ولا مشروعا ، فالخلاف سنة قدرية ، واعتقاد الراجح سنة شرعية ، والمعقول والمشروع ألا يكون الخلاف السائغ سببا في الفرقة والتنازع .
وقد نادى بعض الدعاة بتكوين لجنة حكماء وظيفتها تدارك الخلاف بين الجماعات التي تجمعها آصرة أهل السنة والجماعة ، بحيث تقوم بدور لجنة المساعي الحميدة بين المتخاصمين والمختلفين من الدعاة أو الأفراد .
وهي فكرة جديرة بالتطبيق ، وحري أن يهتم بها ولها كل غيور على دين الله تبارك وتعالى ، ولكن في إطار الشرعية العقدية والجماعية التي أصلتها نصوص الشرع ومنهج السلف الصالح في الاجتماع والولاء والبراء .
إن لنا أن نتصور المصالح العظيمة التي ستعود على الصحوة لو تحقق مثل هذا الأمر ، ويمكننا أن نتصور كمية الجهود التي كانت تبذل في تلك الخلافات العقيمة ، وكيف أنها ستصرف في صالح الإسلام والمسلمين .
إذ لم يعد من المقبول أن نرى العالم كله يتوحد ، والأعداء كلهم يتعاونون لتحقيق غاياتهم وأهدافهم ، ونحن نرى المسلمين ، بل أهل السنة والجماعة متشرذمين ، وهم نقاوة المسلمين وخلاصة الخلق أجمعين .
وهذه بعض الأفكار التي نقترحها لتحقيق وحدة الجماعات العاملة في حقل الدعوة بالدرجة الأولى :
(1) تلاقي القيادات الإسلامية والدعاة والعلماء في المناسبات المختلفة ، والأفضل أن تكون هناك لقاءات دورية ومؤتمرات لمناقشة شئون الدعوة .
(2) تكثيف الأدبيات التي تعنى بتوحيد المناهج وفق الكتاب والسنة ، وضرورة الأخذ بمبدأ المناصحة ، وعدم احتكار الحق ، والتغافر في قضايا الخلاف السائغ .
(3) تكثيف التعاون بين الجماعات في القضايا المصيرية ، والتوحد في المواقف التي تستلزم عدم التنازع والفرقة أمام أعداء الدين .
(4) الرقي بمستوى التعاون بين الجماعات العاملة في حقل الدعوة عبر تكثيف تبادل الخبرات الدعوية لتوسيع مساحة الدعوة بين شرائح المجتمع ، ومن مقاصد هذا الاتجاه أن يتم التنسيق بين القيادات في الأعمال الدعوية بحيث لا يجور بعضنا على بعض . فالمجتمع ساحته رحبة تتسع لعمل كل الدعاة ، فلنهجر مسلك التناحر والتسابق إلى احتلال المواقع من بعض ، وليكن النـزاع بيننا وبين أعداء الله تعالى .
(5) تنمية روح المودة في الأفراد عبر هجر مسلك التحذير وتشويه الصورة ، بأن يكون حديث الدعاة عن بعضهم حديث أخ محب لأخيه محترم لغيبته ، فينشأ الناشئون في الصحوة على احترام كل الدعاة وتوقيرهم والتماس المعاذير لمخطئهم ، والدعاء لهم جميعا بظهر الغيب .
(6) تشجيع المخيمات الصيفية المشتركة لتنمية روح المودة بين الأفراد والجماعات والدعاة ، ولتكن هذه المخيمات نواة وبداية لتوحد الصف .
(7) تكوين مجلس حكماء من قادة ودعاة الجماعات العاملة في الساحة يقوم بحسم النزاعات بينها ، والتخطيط والسعي لوحدة الصف الإسلامي .
(8) إصدار البيانات المشتركة في حالة الأحداث الجسيمة التي تلم بالأمة ، فإن هذا من شأنه أن يشعر الشباب بتوحد القيادات ، فتنمو روح العزة الإسلامية في نفوس الشباب ويزدادون ثقة وطاعة لقياداتهم .
(9) درء كل خلاف يحدث بين الأفراد والجماعات ، ومحاولة منع تفاقمه ، أو التقليل من أضراره ومفاسده . وتسوية الخلافات عبر المسئولين ، وعدم استخدام المنابر ووسائل الإعلام للحديث عن الخلافات بين الدعوات والدعاة .
(10) ضرورة التخلق بآداب العمل الجماعي ، وبآداب الأخوة الإسلامية على وجه العموم ، وتطبيق مواثيق المودة والموالاة بين المؤمنين .
الطريقة الحادية والعشرون
( الدعوة الفردية )
إن الدعوة إلى الله تبارك وتعالى سمة من سمات المسلم لمحض كونه مسلما ، وقد سبق أن استدللنا لهذه القضية عند كلامنا عن ( خدمة الدين ضروري من ضروريات الدين ) .
ونريد هنا أن نفعّل دور المسلم في البنيان الدعوي ، لنجعل مصير الدعوة هما مشتركا بين جميع المسلمين ، فالمتصور أن الصراع بين الحضارات الآن يأخذ طابع الصراع المصيري الذي هو أشبه ما يكون بميدان حرب تستخدم فيه كل الأسلحة ، ومثل هذا الصراع المصيري الذي يكون شعاره : نكون أو لا نكون ، لا بد أن يتحمل كل فرد منتم لحضارة ما مسئوليته في الدفاع عن مصيره بل وجوده ، ولم يعد الأمر مجرد دفاعات جماعية حول الحصون المغْزُوَّة من كل جانب .
وعصرنا الذي نعيشه الآن يحمل هذه السمات ، لذا كان لزاما أن تتفاعل جهود كل المسلمين للذب عن دينهم والقيام بأمره . ونحن لا ننتظر من مسلمي البطاقات شيئا ، ولكننا ننظر بعين الأمل ، ونرقب بهاجس الاستبشار إلى من خالط الإيمان بشاشة قلبه ، واحترق ألما لما يراه من مكر الليل والنهار ، والكيد العظيم الذي يكاد للمسلمين في كل بقاع الأرض .
إلى مثل هذا الغيور نمد أيدينا وننادي عليه أن هلم إلى القافلة ، وبادر إلى تسجيل نفسك في كتيبة المدافعين عن حياض الدين ، ولا تكن كالمخلفين الذي فرحوا بمقعدهم خلاف ركب الإيمان ، ورضوا بأن يكونوا مع الخوالف ، ذرهم في ريبهم يترددون وانهض بهمة المجاهد إلى نادي الفلاح ، واجعل الإيمان من خير العتاد .
إننا نتصور أن أي واحد من أولئك يستطيع أن يقيم للإسلام صرحا لو أنه ساهم بجهد قليل في الدعوة إلى الله ، ونحن نضع بين يديك أيها الغيور على دين الله هذه الطريقة وهذه الأفكار لنقطع عليك المعاذير ، ونلجم إرادتك بلجام العزيمة القوية ، فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين .
المسلم موجود في كل مكان على هذه الأرض ، موجود في الفاتيكان ( مقر البابوية الكاثوليكية ) موجود في تل أبيب ، موجود في أمريكا أرض الفساد والشرور ، موجود في كل البلاد الوثنية وغير الوثنية ، موجود في أدغال أفريقيا والأمازون ، وصحاري العالم أجمع موجود فيها ذلك المسلم .
ونريد من ذلك المسلم أن يقوم بوظيفة واحدة ، سهلة يسيرة ، أن يتكلم مع غيره ، أن يفتح حوارا ، أن يختار هو مادة هذا الحوار ، أن يوجه دفته بذكائه ، أن يأخذ بن يحاوره ذات اليمنة واليسرة ليقوده إلى النتيجة بنفسه ، فإذا هو خصمه قد حج نفسه بنفسه .
نريد ذلك المسلم أينما كان أن يتبنى قضية سهلة ، يستطيع أن يجوب بها البلاد ، لا نريد أن نعقد له الأمور ، نريده أن يحمل هما واحدا ، ويجعله القضية التي يجول بها ويصول ، ويفكر ويدبر ويخطط ، نريد أن نجعله يحدد أهدافه على ضوء تلك القضية التي جعلها محور دعوته .
إن الدعوة الفردية عالم خصب من الجهود والأفكار والأعمال ، وأكثر ما يمتع فيه أنه سهل التنفيذ سريع الأثر . وهذان هما المقصدان الأساسان في الدعوة الفردية .
إن الدعوة الفردية ليست تربية عميقة الأثر ، فذلك مقصد أفردنا له طريقة خاصة بل طرقا ، ولكن الدعوة الفردية رسالة متنقلة يحملها الداعية الميداني إلى كل مكان ، إنه لن يعاني كما يعاني المربي ، لأنه ليس مخاطبا بالنتيجة ومحاسبا عليها كذاك ، ولكنه يحمل قضية الإسلام كدين يجوب بها في كل مكان ، إنه يخاطب كل البشر ، يدعو كل الطوائف ، ينصح كل الناس ، يحاور كل الأجناس ، يتداخل مع كل الأنواع والأصناف .
عدته ما تعمله من العلم ولو كان قليلا ، فهو ينصح من يراه لا يصلي لأنه يعرف أن ترك الصلاة من كبائر الذنوب ، ويزجر شارب الدخان لأنه علم دليل حرمته ، ويحارب المخدرات ومن يتاجر فيها لأنه تبين له وجه الخطر والشر على المجتمع منها ، يواجه التبرج والسفور باعتباره رذيلة تهدد عفة المجتمع ومثله ، يجابه الانحلال في أجهزة الإعلام لأنه يعلم خطر ذلك على البناء الخلقي للمجتمع .
إن مثل هذه القضايا يحملها كل مسلم أينما حل أو ارتحل ، ونحن نطالب كل مسلم ألا يقف موقف المتفرج ، بل يبادر إلى الصدع بالحق في كل ميدان ، ليحاور زملاءه في العمل ، ليحاور المدرس تلاميذه ، ليحاور طالب الجامعة أصدقاءه ، ليحاور الراكب في المواصلات من معه من الركاب ، ليحاور المسلم أقرباءه في كل زيارة أو مناسبة اجتماعية ، ليحاور المسلم كل من حوله من الناس .
إن هذه الدعوة الدءوب هي التي ستجعل الإسلام قضية المجتمع ، وهي التي ستحيي في الناس عاطفة التدين ، وتصرف اهتماماتهم إلى المعالي ، ومثل هؤلاء الدعاة في كل ميدان هم الذين يحددون للمجتمع أولويات اهتماماته ، وهم الذي يصوغون الرأي العام إن جاز التعبير .
إن المطلوب من المسلم الذي يمارس الدعوة الفردية ألا ييأس من النتائج ، وألا يقنط من التخاذل ، فهو لا يدعو ليهدي ، ولكنه يدعو لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفـلى .
إن المتصور في هذه الطريقة أن نستثير اهتمامات الناس بالدين ، لا أن نصل بهم إلى نقطة معينة في الالتزام بالدين ، فالعملية الدعوة التي تفرز إنسانا ملتزما بالدين عملية معقدة ، وهي أشبه بالدورة التي يلتقط فيها المدعو من كل بستان زهرة حتى تتكون لديه باقة من الأزهار إن أعجبته جمعها وزين بها بيته ، فيعلم الداخل أن ذلك المدعو قد أعجب بتلك الأزهار ، إذ لو لم تعجبه لما زين بها بيته ، وقضايانا التي ندعو الناس إليها أشبه بتلك الأزهار ، فيتلقى المدعو زهرة في مكان عمله ، حتى إذا ركب وسيلة المواصلات وجد من يقدم له زهرة أخرى ، فإذا أفضى إلى الشارع الذي يسكن فيه وجد من جيرانه من يقدمه له أخرى ، ثم إذا عرج على دكان ليشتري شيئا وجد داعية في الدكان يهديه زهرة رابعة ، ثم إذا دخل البيت قد يجد ابنه الملتزم يبادر إليه بزهرة خامسة ، ثم تتوالى الأزهار على ذلك المدعو حتى تتم الهداية بتوفيق الله تعالى .
إن هذه الصورة التي رسمتها لك – أيها الأريب – هي أقرب ما تكون للواقع الذي نعيشه ونحياه ، فالناس من حولنا يرون بساتين الصحوة في كل مكان ، منهم من يجفل ويخاف ، فيرقب من بعيد ، فهذا يحتاج إلى تشجيع ، ومنهم من يشك ويظن الظنون ، فهذا يحتاج إلى إقناع ، ومنهم من اقتنع ولكنه واهن العزيمة فهذا يحتاج إلى دفعة ، ومنهم من اقتنع واندفع ولكنه انتكس وملّ ، فهذا يحتاج إلى شحنة .
وكلما تعمقت في فهم أسرار الحركة الاجتماعية الدعوية والتي أسميها نظرية الكيس الممتلئ ، ستعلم أن الدعوة الفردية من أكثر طرق الدعوة تأثيرا في المجتمع .
ومن باب الاحتراف في خدمة الدين فنحن نطالب كل من تصدى وسيتصدى للدعوة الفردية أن يتسلح بعدة هذه الدعوة ، وهي الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن .
والحكمة وضع الأمور في نصابها ، والموعظة الحسنة هي التي لا غلظة فيها ، والجدال بالتي هي أحسن هو ما كان مثمرا ، لا الجدال العقيم الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتركه .
وسأسوق أمامك بعض الوصايا التي أعتقد أنها من الأهمية بمكان حتى تستطيع ممارسة الدعوة الفردية بصورة أفضل ، وبعد قراءتك لهذه الوصايا ستحصل ما يلي – إن شاء الله - :
(1) الثقة بالنفس ، والثقة في الله .
(2) الاستعداد وعدم الارتجال .
(3) الهدوء والروية وعدم الاستعجال .
(4) التركيز وعدم التشتت وراء الموضوعات الفرعية .
(5) تلخيص نتائج دعوتك للخروج بفائدة واضحة .
أولا : اقتنع بالقضية واعتبر نفسك الجندي الوحيد في الميدان ، وأن معركتك مع شيطان الهوى سيحسم بمجهودك .
ثانيا : تبرأ من حولك وطولك واستيقن أن الهداية بيد الله عز وجل .
ثالثا : اختر الزمان والمكان المناسب ، إلا في بعض الحالات التي تقتضي الصدع بالحق خوف فوات الفرصة .
رابعا : الأصل في سمتك الهدوء والابتسام ، فإذا احتجت إلى التجهم لصرامة الموضوع فلا بأس ، شريطة ألا يئول ذلك إلى التنفير ، وأنت خبير بردود أفعال من أمامك .
خامسا : تكلم في المنكر الحال ، وتجنب النصح في أمور لا تعلم عن حال المدعو فيها شيئا ( إلا إذا كنت تعلم من المدعو أمرا بعينه يحتاج إلى النصح فيه ) ، فإذا رأيته يدخن فلتكن نصيحتك عن حرمة التدخين ، ولا تكلمه عن غض البصر مثلا حال كونك لا تدري : هل هو ممن يغض البصر عن المحرمات أم لا ؟
سادسا : نحن دعاة الحق نتكلم بسان الشرع ، فلا بد من النطق بأحكام الشرع لا أحكام العرف ، فلا يناسب أن تنصح متبرجة قائلا إن السفور عيب ، بل يجب أن تعلم حكم الشرع فإن جهلته بينته لها .
سابعا : إن التخويف بالنار قد لا يصادف محلا عند البعض فلا بأس أن تميل بهم إلى الحديث عن البشارة ، وما أعد الله للطائعين ، ثم تردف ذلك بلفحة من نار جهنم .
ثامنا : كن بسيطا في حديثك ، وتجنب التفيهق والتقعر واستخدام غريب الألفاظ والمعاني ، ومن لوازم الدعوة الناجحة رشاقة العرض ، ويكون ذلك بالتناسق بين تعبير الوجه ومعاني الكلمات وحسن المنطق وعدم التكلف في حركة الشفتين ولفظ الحروف ، وكذا التناسق بين تعبير الوجه ومعاني الكلمات مع حركة اليد ، ولتحرص على تناسب إشارة اليد مع حركة اليد لتكون معبرة عن ثقة في المتحدث وجدية في الحديث ، ويناسب عند الحديث عن الأمور الصارمة مثلا أن يشير بقبضة اليد ، وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم شواهد على هذا المعنى .
تاسعا : ركز نظرك في وجه من تحدثه ، فللعين جزالة في التأثير وتعبير عن الصدق يفوق ما في فصيح الكلام .
عاشرا : لا تهجر نصوص الوحي المطهر عندما تحدث الناس ، فإنهم مخاطبون بكلام ربهم بالأصالة ، وليس بكلامك ، فاستيقن إذا أن في كلام الله عز وجل وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم من البركة في التأثير أكثر مما في كلامك .
الحادي عشر : لا تكثر من الكلام عن نفسك وعن غيرك ، فتقول أنا وفلان ، وفلان وأنا ، بل حاول أن تجعل من تحدثه في محل اهتمامك نظرا وحديثا ، فحاول إذا أن تستغل خصلة فيه محمودة فتمدحه عليها مكتسبا وده وإعجابه .
الثاني عشر : حاول أن ترطب الحوار ببعض الفكاهة إن اقتضى المقام ، وخاصة إلى احتدم الحوار، وذلك للإبقاء على ركن المودة الذي هو بابك إلى قلبه .
الثالث عشر : لا تجعل القيادة للحوار بيد أحد غيرك ، فإذا حاول أن يصول بك ويجول فالزم نقطة الحوار ولا تتشتت في أودية الحديث ، حيث لا جدوى من جراء ذلك إلا الجدال العقيم ، وقد علمت حكمه .
الرابع عشر : حاول أن تركز في موضوعك ، وأن تسوق له من الأدلة والشواهد الشرعية والمنطقية ما تغزو به ضميره ، فإذا احتللت مكانا في القلب فحافظ على هذا المكان ثم ابدأ هجومك الكاسح من ذلك الموقع ( لا تتراجع أو تتأخر إلى مواقع سابقة ) .
الخامس عشر : حاول أن تستخلص من كلام من تحاوره ما يفسده ، مع التلطف في بيان وجه الاستدلال ، مبتعدا في كل ما سبق عن حب الظهور والرياء والاستعلاء .
السادس عشر : ألا فاعلم أنك تتكلم بلسان الحق ، فاجعل له هيبة ووقارا ، وأحسن عرض ما عندك من الحق ، يزهد الناس في ما في أيديهم من الباطل ، واصبر على أذى لاحق من عنت من تدعوه فهذا ثمن الهداية ( لعلك باخع نفسك على آثرهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا ) .
كما ينبغي أن تعطي الاحترام المناسب بمقام وعمر من تحدثه ، فلا يناسب أن ينصح الصغير الكبير دون أن يضمن نصيحته بالغ التوقير وفائق الاحترام .
وبعد أيها الداعية الأريب .. فإن للدعوة الفردية حديثا ذا شجون ، وأنا أحيلك على بعض المصادر الهمة في الباب لتنهل وتستفيد ، فإنما ذكرنا هنا رؤوس الأقلام ، واختصرنا المقاصد لتكون منها على ذكر والله المستعان .
الطريقة الثانية والعشرون
( العناية بالشباب )
إن الدعوة وهي تستحث خطاها في محاربة الجاهلية ترنو إلى من هم أكثر الناس عرضة للافتتان بمظاهرها وتسرّبا إلى مصارفها .
وليس هناك مجال للمراء في أن مرحلة الشباب هي مرحلة نضج الغرائز واكتمال فورتها وتعاظم حاجتها ، وأن هذه الغرائز هي التي تتعامل معها النفس إيجابا أو سلبا ، أي استجابة أو رفضـا ، وأن هذا التعامل هو الذي يفرز نوعية الأخلاق التي تتخلق بها تلك النفس .
فالذي تنـزع نفسه لشهوة الفرج وتتهاوى حصونه أمام فِتَنِها سرعان ما تُسْتَعْبَدُ نفسُه للخبائث ، فيظل أسير شهوته ورهين فتنته ، سادانا في محراب الصور ، عاشقا للأوهام والخيال ، يُمَنِّي نفسه باللذة فإذا هي حسرة وندامة ، وشؤم وتَبِعَة .
والذي تُبْهِرُه زخارف الدنيا وبهارجها سرعان ما سيجد حياته مكيّفة على اللهث وراء جمع حطامها ومنازعة كلابها فتاتَها .
إنهم أولئك الشباب الذين عَدِموا التَجْرِبة وفقدوا الحكمة وافتقروا إلى الأناة ، فتراهم حريصين أشد ما يكون الحرص على خوض كل مغامرة بذواتهم ، ويأبون النصح أشد الإباء ، وتغريهم الحيل بسهولة ، وتشدهم حبائل الكيد دون رهق أو إلحاح .
أغرار أغمار ، لا يعترفون بالخطأ بسهولة ، تقلبهم رياح الفتن ظهرا لبطن ، يدخلون إلى كهف المعصية لاهثين ، ويخرجون منه نادمين منكسرين .
وبنفس الوتيرة النفسية فقلوب هؤلاء الشباب أسرع ما تكون نـزوعا إلى الحق وقبولا به وإقبالا عليه وقرارا فيه ومنافحة عنه .
وفي ذلك يقول الإمام ابن كثير في تفسير قوله تعالى : { إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هـدى } : ذكر تعالى أنهم فتية ، وهم الشباب ، وهم أقبل للحق وأهدى للسبيل من الشيوخ الذين قد عَتَوْا وانغمسوا في دين الباطل ، ولهذا كان أكثر المستجيبين لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم شبابا ، وأما المشايخ من قريش فعامتهم بقوا على دينهم ولم يسلم منهم إلا القليل ، وهكذا أخبر تعالى عن أصحاب الكهف أنهم كانوا فتية شبابا . أهـ
وذلك لما أسلفنا من أن قلوبهم لم تجرب الحياة ومذاهبها ، ولم تُلَوّث تربة فطرتهم بأهواء المصالح وأنانية الذات وحب البقاء ، لأنهم ليسوا كالشيوخ أحرص ما يكونون على حياة ، بل تراهم أنزع للتضحية من الشيوخ ، أسرع للفداء بما عندهم ، أخف لنصرة ما يؤمنون به ويعتقدونه .
وقد أدرك صنفان من أعدائنا جلية هذا الأمر وهما إبليس اللعين ، وقوى الجاهلية العتيدة من يهود ونصارى ومجوس وغيرهم ، فطفقوا يتخذون كل الوسائل في اختطاف هذه الشريحة ( أعني الشباب ) وتنحيتها عن جادة الحق ( على أقل تقدير ) أو غمسها في مستنقعات الرذيلة والكفر ( على أكثر تقدير ) .
ولن تخطيء عيناك الصرعى من أولئك الشباب ممن هوى في ظلمات الكفر السحيق أو انغمس في مستنقعات الفسق الشنيع ، أو المكردس أو المخدوش ، أما الناجي المسلَّم فقليل ماهم .
لذلك كان من أهم الأولويات التي يجب أن تتبناها الدعوة : العناية بشريحة الشباب ، فمما لا شك فيه أن دعوتهم ليست بالمهمة اليسيرة ، وخاصة في ظل فتن هذا الزمان ، ولكنه سيبقى الحل الوحيد لمواجهة الطوفان الجارف من الانحلال ، مع الكفر الذي نراه يزحف أول ما يزحف في شريحة الشباب .
ومخطئ من يظن أن دعوة الشباب قضية عادية لا تستحق أن نفرد لها بابا خاصا ، بَلْهَ كتبا مستقلة ، ويظن أولئك أن دعوة الشباب مثل دعوة غيرهم ، بل إنني أعلم أن كثيرا من الدعاة يتعاملون مع شريحة الشباب مثل تعاملهم مع أي شريحة في المجتمع ، ومن الدعاة من يعاملهم مثل الأطفال ، وكل ذلك خطأ أقل ما يوصف به أنه تنكب عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم في التعامل مع الشباب .
إن دعوة الشباب وتربيتهم وتخريج الدعاة والعلماء والقادة وحملة الدين من بينهم من أعظم الأمانات والمسئوليات التي نيطت بالدعاة ، ولا يدرك خطورة هذا الشأن إلا من عانى هذا الدور وخاض غماره وتجرع من مشكلاته ، وصبر على الطريق ثم رأى النتاج وذاق الثمرة .
أجل أيها القارئ الكريم .. إننا معاشر الدعاة يجب أن نوقف المهزلة التي ترتكب في حق الشبيبة ، والتي نسميها دعوة ، وما هي بدعوة ، إن هي إلا نصائح – على الماشي – بينما الكفر والفسق يكيد بليل ويدبر من مكر الليل والنهار ما تزول به الجبال .
وحتى أوقفك على حجم المهزلة فأنا سائلك : كم هي – ولن أقول : ما هي – المصنفات الإسلامية التي عنيت بمشكلات الشباب وعلاجها بالطرح الإسلامي الرشيد .
بل قل : كم من الدعاة من يهتم بهذا الشأن بحيث يكون مفزعا ومرجعا للشباب يهرعون إليه عندما تعييهم الحيل وتضيق بهم السبل .
لقد عاين كاتب هذه السطور بنفسه في أول النسك مشكلات جمة كان مأتاها عدم وجود المرشد والمربي ، وانعدام التصور الواضح لسمات كل مرحلة يمر بها الشاب فكريا واجتماعيا ودعويا ، حتى أضحت حياة كثير من الشباب الملتزم – فكيف بغير الملتزم – مجموعة من التجارب الحياتية التي يخرج من كل تجربة منها جريحا منهك القوى مستأنفا طريقة من جديد ، ومنهم من يخرج صريعا منتكسا ( ولنا مع قضية الانتكاس عود إن شاء الله ) .
ليس بكثير على شباب الإسلام أن يتواصى الدعاة فيما بينهم على تعيين مجموعة من بينهم تهتم بأمر الشباب تربويا وفكريا ، بحيث يكون همهم الشاغل مشكلات الشباب ، ويكونون هم بالضرورة أيضا مرجع الشباب في كل ما يعرض لهم من قضايا وخطوب .
أن وجود لجنة تعنى بقضايا الشباب هي أول خطوة في بناء سد منيع ضد طوفان الإباحية والانحلال الذي تواجهه مجتمعاتنا الإسلامية الآن ، وليس يخفى أن أول الصرعى من هذا الطوفان هم الشباب ، إدمان وفجور وشذوذ وزندقة وعلمنة وإلحاد بل وعبادة للشيطان ، فماذا ننتظر بعد كل ذلك ؟ هل ننتظر حتى نرى الشيطان باديا بخلقته يخطف الشباب عيانا لنبدأ التحرك ؟!!
ومن وظائف تلك اللجنة تحديد القضايا ذات الخطر وتبني الأولويات في مشكلات الشباب وطرح سبل العلاج – بمشاورة أهل العلم – ووضع تصور واضح لمراحل دعوة الشباب مع تصور واضح لأهداف كل مرحلة ووسائلها .
ولا بأس – إذا سمحت الظروف – أن يُجعل لكل شاب ملف تربوي تسجل فيه كل مشكلاته وتطورات حياته من بداية النسك ، ومقترحات علاجه ونحو ذلك ، ولا بأس أيضا أن تعرض مشكلات بعض الشباب على متخصصين تربويين أو ذوي خبرة عالية في قضايا الشباب للاستنارة بآرائهم والاستفادة من خبراتهم ، ومثل هذا المسلك وإن رآه بعض الناس جافيا غليظا جافا فأنا أعتبره سببا شرعيا – وإن لم يكن واجب السلوك – في ازدياد نسبة نجاح الدور التربوي .
إن توثيق المعلومات – أو حفظها على الأقل – له أثر بالغ في إثمار الدور التربوي الذي يمارسه الداعية مع الشباب ، وقد رأيت شيخنا الوالد المربي الشيخ محمد حسين يعقوب حفظه الله وأمتع المسلمين به ؛ كيف كان يستقبل الشباب في منـزله منذ الظهيرة وحتى صلاة المغرب يستمع إلى مشكلاتهم ويتلقى مكالماتهم الهاتفية بل ويهاتفهم بنفسه مستفهما عن حالهم مع الله وعن مشكلاتهم التي اقترح لهم علاجا لها من قبل ، ثم يحاضر في دروسه التربوية إلى الليل ، ثم يبدأ زياراته الميدانية والتربوية إلى منتصف الليل ، ويعود إلى بيته منهك القوى ، فإذا جن الليل دخل مكتبه وقرأ وطالع ثم يسطر كل ما رآه وواجهه محللا معالجا مسترشدا بمنهج السلف الصالح وسيرتهم متمثلا قول مالك : ( لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها ) ، وكان لا يستنكف – حفظه الله – من عرض بعض المشكلات على الدعاة طالبا منهم النصح والمشورة ، كما كان لا يستحيي عن الاعتراف بالخطأ إذا تبين له .
إن الدور التربوي إذا لم تصاحبه حرقة على حال الشباب وهم على مشكلاتهم وقلق على أحوالهم فسيظل دورا رتيبا باردا ، عديم النفع مبتور الأثر .
وقد بدأ دعاتنا بحمد الله يدركون أهمية وجود الطرح الإسلامي السلفي في علاج مشكلات الشباب ، فصرنا نرى المؤلفات التي تعنى بعلاج الواقع الشبابي ، ولكننا بعد لم نصل لدرجة العمق المطلوب في هذا الطرح ، مقارنة بطرح المناهج الكفرية الباطلة ، والمأمول أن تكون المكتبة الإسلامية – على صعيد المطبوعات أو المسموعات – تحوي مراجع كافية للدعاة والمربين والشباب على حد سواء ، تعينهم على تناول مشكلات الشباب وعلاجها .
وبإزاء أهمية وجود الطرح الإسلامي الموثّق يبرز دور الداعية المباشر في التربية ، وحرفته في التعرف على مشكلات الشباب وعلاجها وإثمار الطاقات الهائلة لديهم بما يعود بالنفع على الإٍسلام والمسلمين .
ومن المهم جدا أن يكون الداعية على بصيرة بواقع الشباب وبحقيقة مشكلاتهم وأسبابها والعلاجات المقترحة ، حتى لا يتعرض لمحاولات فاشلة أثناء أدائه الدور الدعوي مع الشباب .
ومن مقتضيات هذه البصيرة أن يكون الداعية المتصدر لدعوة الشباب لين المعشر واسع الصبر ، ذا شفقة بالغة وتحنان مؤثر ، عليما بمشكلات فترة المراهقة إجمالا ، خبيرا بما يدور في كواليس الشباب تفصيلا ، دقيق الملاحظة لما يسمعه ويراه ، ماهرا بأساليب الاستنباط والتحليل لما لديه من معلومات ، لديه حظ وافر من فراسة المؤمن وإحساس الصادق المرهف الذي نادرا ما يخطئ له توسـم .
قد تداعب أيها القارئ وتقول : إنها صفات ساحر وليست صفات مرب ، فأقول : أجل إن المربي أشبه ما يكون بساحر ، ولكنه السحر الحلال الذي أودعه الله في قدرات من امتلأ قلبه شفقة على حال المسلمين .
وجل الصفات المؤثرة التي في المربي تحصل بالاكتساب والدربة والخبرة والتجربة المتكررة ، والقليل هو الذي يحصل بالقواعد والعلوم – نظريها وعمليها – لأن المربي ليس كالطبيب الذي تعامل مع أدواء وأدوية معروفة ، وجسد يمكنه أن يكتشف ما فيه عبر الأشعات والتحاليل ، بل إنه يتعامل مع نفس وروح لا يمكن لأحد أن يزعم الإحاطة بما فيها ، لذلك فإن المربي يحتمي بأوامر الشرع التي هي زكاة للنفوس ولا ريب ، ويتسلح بالوحي المطهر دواء من كل داء روحي ، وحلا لكل مشكل اجتماعي نفسي ، ولعل هذه الصفة هي التي تكسب المربي مصداقية لدى الخلق أكثر من مصداقية الطبيب ، لدرجة أن المربي قد يكتسب الأبوة الروحية بممارسة ذلك الدور الإصلاحي ، وإنها ولا شك منزلة هو حري بها ، فالمربي هو الذي يقود الإنسان إلى الله ، ويعرفه به ، ويعالج له وساوس الصدر ، ويجمع عليه شتات الأمر ، ولذلك اعترف السلف بفضل المربي ودوره في تبيين الدرب والطريق إلى الله فقال : لولا المربي ما عرفت ربي .
ولا شك أن هذه القضية تحتاج مصنفا خاصا بل مصنفات ، ولكننا نمر هنا على بعض القضايا المهمة والقواعد العامة التي ترشد إلى المطلوب ، وعلى الحصيف أن يقيس الغائب على الشاهد والخفي على الجلي ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .
ونحب أن نشير هنا إلى ما يجب أن يهتم به المربي والداعي الذي يمارس دورا تربويا أو دعويا ما مع الشباب .
(1) وضوح فكرة الدعوة والتربية لدى الداعية والمربي ، وذلك عبر تصور واضح للمراحل التي سيمر بها مع المدعو ، ولا مانع أن تحتاج بعض تفاصيل العملية التربوية لتعديلات على حسب شخصية المدعو ، ولكن المهم أن ينبذ الدعاة الطريقة الارتجالية في التربية ، وذلك يستتبع بالضرورة تكثيف التحصيل العلمي حول شأن التربية ، ومشاورة أهل الخبرة ، وتلقي النصيحة من المتخصصين .
(2) إن أهم نقطة ترتكز إليها العملية التربوية هي فهم المُرَبى ، أي فهم شخصيته ، وسبر أغوارها ، ومعرفة ميولاته ، وتشخيص عيوبه ، وحصر خصاله وأخلاقه الحميدة ، والمقصود وضع خريطة نفسية له بحيث يسهل على المربي تناول هذه الشخصية بالتربية على بصيرة وهدى ، ولا يكون كالذي يخبط خيط عشواء ويجري التجارب تلو التجارب دون أن يكون هناك أساس علمي أو اتجاه تربوي أو خط دعوي معين يسير عليه . وكمثال نقول : إن كثيرا من الدعاة يبدأ عملية التربية الإسلامية دون أن يتعرف على مشكلات الشاب المدعو ، فيتعرض في مسيرته التربوية لأزمات انتكاس ، أو مصاعب كثيرة منشؤها أن مشكلات الشاب لم تعالج من البداية . فقد يكون ذلك الشاب يعاني أزمة أسرية مع أبيه أو أمه أو أخيه ، أو أنه يعاني قلقا نفسيا معينا ، أو أنه يعاني مشكلة الشهوة مثلا ، فلا يستساغ أن نبادر إلى تحميله هم الإسلام والمسلمين دون أن نوجد الشخصية السوية التي تستطيع على الأقل أن تواجه مثل تلك المصاعب بإيمان واثق ويقين راسخ . إن عملية فهم شخصية الشاب معقدة جدا ، وقد تبنت بعض الدراسات النفسية عقد اختبارات نفسية لمعرفة مشكلات الشباب ، ولكنها ستبقى عديمة الفائدة إذا قام بها غير متخصص ، وستظل هذه الاختبارات في كل الأحوال ظنية النتائج لكثير من الاعتبارات التي لا يتسع المقام لذكرها . ولكن المربي الذي يتبنى نهجا إسلاميا يستغني عن هذه الاختبارات النفسية المعقدة بالاخوة الإيمانية ومبدأ المناصحة الذي يتسم بالشفافية من المنظور الشرعي . ولا شك أن الاخوة والنصيحة لن تتم على الوجه المطلوب إلا عبر اكتساب ثقة الشاب ، ويستلزم ذلك القيام بدور سابق على الدور التربوي وهو ما يمكن أن نسميه تأليف القلب ، وجذب الثقة ، وإزالة الحواجز النفسية . وبعض الدعاة يتعامل مع مشكلات الشباب بشيء من الغلظة والجفاء ، مما لا يناسب والدور التربوي الذي يقوم به ، والذي يستلزم عطفا وحنانا وشفقة . إن بعض الشباب قد يحتاج أبا فقده في البيت ، أو صديقا وفيا لم توفره له المدرسة أو صحبة الجيران . قد يحتاج قلبا يحمل عنه بعض الهموم ، قد يحتاج عقلا ليفكر معه في بعض الحلول لبعض المشكلات . وقد يكون حل مشكلة أو بعض من عطف أو حنان أو صحبة صادقة كفيلة بأن تجعل ذلك الشاب كالظل للمربي ، والقاعدة : أن يتعرف المربي على الباب الذي يستطيع أن يدخل منه إلى قلب الشاب .
(3) تأجيل معركة المدعو مع أهله ، في شأن المنكرات التي قد تعترض طريق التزامه بالدين ، وهي معركة قد تكلفه الكثير إذا أصر على خوضها ، ونحن نعلم أن المجتمع المسلم يحوي الكثير من المنكرات التي صارت كالموروثات والعادات والتقاليد المقدسة ، ونعرف أن مثل هذه التقاليد لا يمكن أن تلتقي مع أحكام الشرع في طريق ، فناسب أن يقتنع بها المدعو كمرحلة أولى ، مع توفير بعض الوظائف الإيمانية لتثبيت كراهية المنكر في قلبه ، ومناصحته بالصبر على أهله ، وعدم التسرع في محاربة المنكرات التي تلبسوا بها . وقد تكون هناك بعض المنكرات التي لا تحتمل السكوت أو الصبر ، فيجب على المدعو أن يتخذ قرارا مصيريا في حياته ، ويجب أن يساعده المربي ومن ورائه الدعوة ، فنحن ملتزمون أمام الله تعالى بمناصرة المؤمنين ، ومد يد العون لهم والذب عنهم والمصابرة معهم في طريق الإيمان .
(4) إن من أهم ما يجب أن يتلقنه الشاب من أصول : طاعة الله وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واحترام أهل العلم . وهذه الأسس الثلاثة التي يجب أن يقوم عليها إيمان الشاب واجتهاده في الطاعة والدعوة . ويتأكد ذلك في عصرنا هذا الذي اضطربت فيه الأفكار ، وماجت المناهج بأهلها ، واختلط الحابل بالنابل ، فلا عاصم من هذا الهيجان الفكري إلا تلمس خطا العلماء المعتبرين ، الذين شهدت الأمة لهم باستقامة النهج ، وكتب الله لهم القبول بين الخلق ، وذاع صيتهم بين الناس بالصلاح والتقوى ، واستقر إجماع أهل المعرفة على علمهم وتمكنهم من تخصصات الشريعة .
(5) يظن بعض الدعاة أن فترة ما بعد الالتزام ( التنسك ) أسهل مما قبلها ، والحق أنها من أدق مراحل حياة الإنسان على الإطلاق ، وفيها يقول أهل السلوك : إن فساد النهايات من فساد البدايات . وبداية حياة الإنسان يوم أن تتم معرفته بالله ، ويبدأ في سلوك طريق الآخرة . وأشد ما يكون الشاب محتاجا إلى الإرشاد والمعونة عندما يبدأ هذه المرحلة ، فليس الإشكال أن يصلي الشاب في جماعة ، ولكن أن يداوم على صلاة الجماعة ، وليس الإشكال أن يحب الشاب سنة النبي صلى الله عليه وسلم ويحرص على اتباع أحكامها ، ولكن الصعب هو أن يتعلق بها طوال حياته ، متمسكا بأهدابها ، منافحا عنها . إن وظيفة المربي الحقيقية تبدأ منذ أن وضع الشاب قدمه الأولى في طريق الالتزام . إنه البناء الإيماني الجاد الذي يجب أن نحكم إعلاءه حتى نصون ذلك الشاب من خطر احتمالات الانتكاس . وهي الحال التي يشكو من انتشارها الكثير من الدعاة ، ويتساءلون عن سببها ، وعن علة تكررها في هذه الآونة . وتبيان هذا الخطب أن الدور التربوي قد ضعف في هذه الآونة لقلة المربين ، وكثرة الملتزمين ، ولم يكن لنرَ هذه الانتكاسات في العقود السابقة ، أي بدايات الصحوة الإسلامية ، حيث وجد الكثير من القائمين بالدور التربوي ، ولقلة عدد الملتزمين ، فكان الالتزام يحظى بالوفرة الكيفية لا الوفرة الكمية ، والعكس من ذلك هو الذي أحدث هذا الخلل الذي نراه ، فعلاجه إذا أن تحاول الدعوة توفير المربين القادرين والكافين للقيام بالدور التربوي التي تحتاجه الجموع الغفيرة من الشباب الذين ينتمون للصحوة المباركة يوما بعد يوم . ثم إنه يجب أن يقوم الدعاة بدور إصلاحي جذري للعملية التربوية التي يقومون بها ، وأن ترتكز عمليتهم التربوية إلى التجارب السابقة ، كما يجب على الدعاة أن ينحو بالتربية جانبا علميا ، فإننا لا ندعو العصاة للصلاة وحسب ، بل إن دعوتنا ستواجه الشاب الملحد والعلماني والشيوعي والشهواني والمنبهر بالثقافة الغربية ، وستحتاج إلى غزو قلوب من يظنون أنفسهم مثقفين ومتنورين ، وسلاح الدعاة حينئذ علم قاهر ويقين ظافر ، والتعمق في معرفة طبيعة النفس البشرية ، وطبيعة المجتمعات التي ندعو فيها تستلزم توسعا معرفيا فائقا ، قوامه البحث والتحليل والاستنتاج ، ولا مجال لأن نجفل أمام زحف الجاهلية ، وقد طرقت أفكار المدنية الغربية حصون الصحوة بجرأة ، وفرضت بعض النظريات العلمانية نفسها على الأطر الفكرية لكثير من المثقفين الإسلاميين ، حتى صرنا نسمع منهم من ينادي بدولة إسلامية تتبنى تعدد الأحزاب حتى لو كان منها أحزاب علمانية وشيوعية . إن أي خرق يتسع في سربال الصحوة فمنشؤه الفرار من الزحف الدعوي والفكري الذي يخوضه دعاة الصحوة ومفكروها ، وأي انهيار أو ثلم في جدار الصحوة فمأتاه من تقصير حماتها والمدافعين عنها من الرد على مدافع الجاهلية العتيدة . إن حالات الانتكاس المتكررة التي نشاهدها هي في نظري رد فعل بدهي لحالة الإفلاس التي يعانيها بعض الدعاة ، فأفلس معهم ذووهم ، وكان عاقبة أمرهم خسرا . وأي علاج نغفل فيه جانب العلم الرصين والمعرفة الواسعة والتحصين الثقافي الراقي يعد ترقيعا ببال وجبرا بمنكسر . والله الهادي إلى طريق الرشاد .
(6) إن المربي يجب أن يكون له دور مؤثر في توجيه المرَبى إلى العملية التعليمية التي تتخلل فترة التربية ، ويجب أن يهتم المربون بأمرين :
(1) كبح جماح الشباب في شراء الكتب والمراجع العلمية ، وحثهم على استشارة المتخصصين لدى الرغبة في شراء أي كتاب جديد .
(2) تنمية المهارات البحثية لدى الشباب ، ومساعدتهم في إجراء البحوث الميدانية النافعة ، بالتوازي مع الاهتمام بجانب العلوم الشرعيـة ، والتركيز على الجوانب التطبيقية .
(3)الاهتمام بجانب حفظ النصوص ، وبخاصة القرآن الكريم ، فالملاحظ تقصير الدعاة مع الشباب في هذه الناحية ، مع أن المأمول من هؤلاء الشباب أن يكونوا خطباء الغد ودعاة المستقبل ، ولا شك أن عدة الداعية في محفوظاته المختلفة .
(7) إن الطاعة والعبادة من آكد القضايا التي يتأسس عليها التزام الشاب ، ويجب أن يعلم الشباب الملتزم أن النسك لا يتم لهم إذا تكاسلوا في جانب العبادات ، وأن اجتهادهم في العبادة دليل صدق السلوك ، ومن هنا وجب على الدعاة أن يلقنوا هؤلاء الشباب أسس العبادة الصحيحة وفقه الاجتهاد في العبادة ، وسياسة النفس عند الملال والتعب ، وأرحب ميدان يمكن تطبيق هذا المنهج من خلاله ميدان الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان ، أو في المخيمات الصيفية التي يختلط الشباب فيها بالدعاة عن كثب ، وتكون التربية بالقدوة حينئذ من أكثر أساليب التربية تأثيرا .
(8) التربية على العزائم ، والحذر من مسلك المترخصين ، فالدعاة قادة المجتمع ، واجتهادهم محل نظر العامة والخاصة ، فلزم أن يُرَبَّوا على معالي الأمور ، وتوطن نفوسهم على الصعب لا الذلول ، وذلك في كل مجال يسلكه المربي مع من يربيه . ففي مجال العلم يجب أن يدرب الشاب على بعض العزمات في طلب العلم مثل الإقلال من الطعام والنوم ، وفي مجال العبادة يجب أن يتعاهد نفسه ببذل أقصى الطاقة في الاجتهاد ، ويكون ذلك بمثابة تمارين يلين بها قسوة قلبه بين الحين والحين ، ولا يليق أن يكون داعية المستقبل كثير الشكاية من طول صلاة التراويح في رمضان ، أو دائم التململ من كثرة الأبحاث التي أُلزم بإعدادها . بل ينبغي أن يتمرس على تلقي المهام الصعبة وتنفيذها دون شكاية .
(9) طاعة المربي من الصفات المهمة التي يجب أن تغرس في الشاب أول النسك ، ومنشأ هذه الطاعة الاحترام والتعظيم لمقام شيخه ومربيه ، وهذا مما يدعو له الإسلام ويحث عليه . ولا يليق بالملتزم أن يعامله مربيه معاملة العوام والسوقة ، واحترام العالم والشيخ والمربي مما يجلب البركة في العلم ويحدث عظيم الأثر في الانتفاع من الشيخ . ومن لوازم ذلك أن يفهم الشاب أن الشيخ بشر ككل البشر ، وليس بكامل في الصفات والأعمال ، وبالتالي فليس متصورا أن يكون معصوما من أي خطأ ، وأنه متى رأى خطأ فإن أمكن التأويل الشرعي السائغ تأول ، وإلا لزم أن يدعو الله بستر عيوب شيخه عنه ، وأن ينفعه بعلمه وقدوته .
(10) التوازن في المقاصد من أهم ما ينبغي مراعاته طوال فترة التربية الأولى ، فيجب على المربي أن يعنى بالجوانب التي ترطب القلب ، وتمنع عنه الإياس والقنوط ، فليس مشينا أن يمنح المربي من يربيه بعض الوقت للهو المباح ، وليس قادحا في المروءة أن يشاركهم الضحك والتبسم فيما لا يوقع في مأثم أو مغرم ، بل إن ذلك أدعى إلى انصهار المربَّى مع المربِّي ، وإفضائه لأسراره ومشكلاته لشيخه فيمكنه التداول معه في حلها وعلاجها . وكثير من المشايخ يقيم سياجا منيعا من الوقار والحشمة الزائدة التي تنقلب مع مرور الأيام إلى عتو ونفور . لقد كانت في أخوة الرسول صلى الله عليه وسلم وأبوته الحانية على الصحابة مثلا لكل مرب في منهج التربية ، وحري بكل مرب أن يهجر التكلف ويربي الشباب على عدم التكلف أيضا ، فالتكلف في كل أمر مذموم ، والمناسب أن يتعامل المربي مع الشباب من منطلق الأبوة الروحية التي تكسبه احتراما ووقارا تلقائيا ، ويبقى على المربي أن يزيل الجليد بعد ذلك بمداخلاته ومناقشاته ومحاولته لفهم الشاب الذي يريد أن يربيه .
الطريقة الثالثة والعشرون :
( العناية بالمرأة )
عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة فيحسن عليها الثناء فذكرها يوما من الأيام فأدركتني الغيرة فقلت : هل كانت إلا عجوزا قد أخلف الله لك خيرا منها ؟ قالت : فغضب حتى اهتز مقدم شعره من الغضب ، ثم قال : لا والله ما أخلف الله لي خيرا منها ، لقد آمنت إذ كفر الناس ، وصدقتني إذ كذبني الناس ، وواستني بمالها إذ حرمني الناس ، ورزقني الله عز وجل أولادها إذ حرمني أولاد النساء . قالت : فقلت بيني وبين نفسي : لا أذكرها بسوء أبدا . رواه أحمد ومسلم .
وقد استفاض عند أهل السير تسمية العام الذي ماتت فيه خديجة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وأبو طالب عمه بعام الحزن ، لما كان لهما من يد في نصرة الإسلام .
والشاهد من حديثنا مكانة خديجة رضي الله عنها عند النبي صلى الله عليه وسلم ، ودورها الذي كان له أبلغ الأثر في تقوية جأش النبي صلى الله عليه وسلم .
وعن عائشة أم المؤمنين أنها قالت : أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ، ثم حبب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه - وهو التعبد - الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك ، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها ، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء ، فجاءه الملك فقال : اقرأ . قال : ما أنا بقارئ . قال : فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني فقال : اقرأ . قلت : ما أنا بقارئ . فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني فقال : اقرأ . فقلت : ما أنا بقارئ . فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال : { اقرأ باسم ربك الذي خلق . خلق الإنسان من علق . اقرأ وربك الأكرم } . فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده ، فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله تعالى عنها فقال : زملوني زملوني . فزملوه حتى ذهب عنه الروع . فقال لخديجة وأخبرها الخبر : لقد خشيت على نفسي . فقالت خديجة : كلا والله ما يخزيك الله أبدا ، إنك لتصل الرحم ، وتحمل الكل ، وتكسب المعدوم ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق . فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة ، وكان امرأ تنصر في الجاهلية ، وكان يكتب الكتاب العبراني ، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب ، وكان شيخا كبيرا قد عمي ، فقالت له خديجة : يا ابن عم اسمع من ابن أخيك . فقال له ورقة : يا ابن أخي ماذا ترى . فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى . فقال له ورقة : هذا الناموس الذي نزل الله على موسى ، يا ليتني فيها جذعا ، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أَوَ مُخْرِجِيَّ هم ؟! قال : نعم ، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي ، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا . ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي . رواه البخاري .
إن المرأة عنصر مكمل للرجل في كثير من مناحي الحياة ، لا جرم جعل الله السكنية الكاملة في التقائهما ومعاشرة أحدهما للآخر .
ومظهر البطولة في حياة خديجة أنها كانت أول من آمن به وأسلم من النساء ، والحق أنها أول من آمن من البشر بالنبي صلى الله عليه وسلم . يدل عليه حديث عائشة السابق ، وكانت أول من أيد ونصر وثبّت ، ثم كانت أول من بذلت مالها وبيتها وحياتها لدين الله تبارك وتعالى .
وإذا تقررت هذه المعاني ، فإننا نستطيع أن نفهم : كيف يمكن للمرأة أن تكون أداة لخدمة دين الله تبارك وتعالى .
إن الدعوة الإسلامية للأسف لم تستطع حتى الآن أن توجد المعادلة الصائبة لتقوم المرأة بدورها في الدعوة إلى الله تبارك وتعالى .
ومن خلال تجربتي الدعوة أيقنت أن المرأة في كثير من الأحوال أقدر على إصلاح الأسرة من الرجل ، ودورها في إصلاح العوج والمعونة عليه في معظم الأحوال – إذا كان في نطاق الأسرة – أعظم من دور الرجل .
وقد علمت أسرا ينقلب حالها من الجاهلية إلى الالتزام بأحكام الدين عندما تبدأ الزوجة في النسك والتوبة ، وكم رأيت من أولاد صغار أينعت في قلوبهم شجرة الإيمان لأن الغرس قد طاب بطيب أصله ، وتلقى السقيا المباركة ممن حوله ، فاستوى على سوقه واشتد عود الخلق الإسلامي الأصيل في أعماقه ، فصار أرضا خصبة للفضائل ، تغرس ما شئت فيها من الخير والحكمة .
إن الخطاب الدعوي يجب أن يهتم بالمرأة من باب الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم ، فهاهو صلوات ربي وسلامه عليه يخص النساء بالموعظة ، فعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ومعه بلال ، فظن أنه لم يسمع فوعظهن وأمرهن بالصدقة فجعلت المرأة تلقي القرط والخاتم وبلال يأخذ في طرف ثوبه . ويبوب لذلك الإمام البخاري في كتاب العلم من صحيحه قائلا : باب عظة الإمام النساء وتعليمهن ، وبعد بابين يعقد بابا خاصا لهذه المسألة فيقول : باب : هل يجعل للنساء يوم على حدة في العلم ؟ ويورد حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قالت النساء للنبي صلى الله عليه وسلم : غلبنا عليك الرجال ، فاجعل لنا يوما من نفسك ، فوعدهن يوما ، لقيهن فيه فوعظهن وأمرهن ، فكان فيما قال لهن : ( ما منكن امرأة تقدم ثلاثة من ولدها إلا كان حجابا من النار ) فقالت امرأة : واثنين ؟ فقال : ( واثنين ) .
ثم عقد بابا آخر في كتاب الصلاة من صحيحه ، فقال : باب موعظة الإمام النساء يوم العيد ثم أورد فيه حديث جابر بن عبد الله قال قام النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفطر فصلى ، فبدأ بالصلاة ثم خطب فلما فرغ نزل فأتى النساء فذكرهن وهو يتوكأ على يد بلال ، وبلال باسط ثوبه يلقي فيه النساء الصدقة ، قلت لعطاء : زكاة يوم الفطر ؟ قال : لا ، ولكن صدقة يتصدقن ، حينئذ تلقي فتخها ويلقين ، قلت : أترى حقا على الإمام ذلك يأتيهن ويذكرهن ؟ قال : إنه لحق عليهم وما لهم لا يفعلونه ؟!
قال ابن حجر رحمه الله : وفي هذا الحديث من الفوائد أيضا استحباب وعظ النساء وتعليمهن أحكام الإسلام ، وتذكيرهن بما يجب عليهن ، ويستحب حثهن على الصدقة ، وتخصيصهن بذلك في مجلس منفرد ، ومحل ذلك كله إذا أمن الفتنة والمفسدة . أهـ
وهذا كالنص في ضرورة الاهتمام بتعليم النساء وتثقيفهن في أمور الدين ، فلزم أن تهتم الدعوة بتوفير الدروس الخاصة التي تعنى بفقه النساء ، من حيض ونفاس ونكاح وتربية أولاد على منهاج الشرع ، بل إن هذا الزمان قد احتاج فيه النساء لمن يعلمهن أحكام الحجاب ، بعد أن ضيعه الكثير وتساهل فيه منهن أكثر .
وأمام الحملة الشرسة التي يقودها الطابور الخامس في المجتمع المسلم ضد الحجاب والعفة ، لزم أن يتصدى الدعاة لها بتحصين المرأة المسلمة من محاولات التشكيك في أحكام الشرع المطهر ، وحرصه على طهارة المرأة وعفتها ، وصيانتها من الابتذال والامتهان .
وكثير من النساء يحتج أكثر ما يحتجن إلى أحكام النكاح ، وكيفية معاملة الزوج بمقتضى الشرع ، وكيفية تربية الأولاد تربية إسلامية صحيحة ، وكيفية المحافظة على أحكام الشرع طبع المنزل بطابع الإسلام والإيمان .
وليس خافيا أن هناك الكثير من الأسر الملتزمة بدين الله تعالى في الظاهر ، ولكنها تفتقد المعرفة الكافية بأحكام الشرع ، ومع انتشار الصحوة على مستوى كل الشرائح الاجتماعية صرنا نرى ركاما هائلا من المظاهر الإسلامية الطيبة كالحجاب والنقاب واللحية والمصلين ، ولكن هذه المظاهر تفتقد الجوهر الإسلامي النقي ، والتطبيق المتكامل – ولا أقول : الكامل – لشرع الله تبارك وتعالى .
وقد شاهدت بنفسي بعض المحجبات حجابا شرعيا كاملا يسرن في الطرقات مع بعض الشباب الفاجر بمشية خليعة لا تتناسب مع وقار الحجاب ، فعلمت أن مثل هذه النماذج تنشأ من انتشار الدعوة كما لا كيفا ، حيث يطغى المظهر على حساب الجوهر .
وكل هذه الملاحظات تملي علينا أن نعيد الحسابات في الدور التربوي الذي يجب أن نحمّله للمرأة كأمانة تقوم بها في ملكوتها ، وهو بيتها وبيت زوجها .
وقد أتت إلي امرأة تعمل موجهة في وزارة التربية والتعليم (!) ، تشكو إلي فساد ابنها وإدمانه المخدرات وأنها فعلت المستطاع في سبيل درء الفساد عنه .
ولسوء حظ هذه المرأة أن ابنها قد سبقها يشكو سوء معاملة أبيه وأمه ، وتفريقهما في المعاملة بينه وبين اخوته ، وأن أباه يسبه كثيرا بأقذع السباب ، وأمه ليس لها دور مؤثر في البيت ، مع أنه يحبها ويقدرها ، وشكا إلي أنه عندما كان يحرص على الصلاة في المسجد وجد أسرته في موقف المستنكر عليه لأن أخاه على وشك الحصول على ترقية في مركز حساس ، وأن من شأن صلاته في المسجد أن تؤثر على هذه الترقية .
فأخبرت تلك الأم بجلية الأمر ، وأن الجاني في الحقيقة ليس الابن ، بل الأسرة ، بل الأم في المقام الأول ، وأن الأولاد هم ضحية جهل الأسرة بأحكام الشرع ، وضحية بلادة الأم في رعاية أبنائها وفق شرع الله تبارك وتعالى .
وأنا أتصور حجم الخسائر التي تقع في مجتمعنا الإسلامي كل يوم بسبب هذا الإهمال ، كما أتصور ما يمكن أن نجنيه من نجاح تربوي هائل ، وفتح دعوي كاسح إذا كان للمرأة مساحة مناسبة من الخطاب الدعوي ، بل الأم بالدرجة الأهم ، ونحن نظن أن دعوة النساء مقصورة على أمرهن بالحجاب وطاعة الزوج ، ولعمري ليس هذا كل الدين في حق المرأة ، فإنها تحمل من أمانة التربية في بيتها ما لا يحمله الرجل ، لا جرم جعل الرسول صلى الله عليه وسلم مسئولية البيت للمرأة ، أي القيام بأمر الأبناء ورعاية شئونهم وتلقينهم مبادئ الدين والأخلاق .
وفي ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( كلكم راع ومسؤول عن رعيته الإمام راع ومسؤول عن رعيته ، والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته ، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها ، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته ، وكلكم راع ومسؤول عن رعيته ) . رواه البخاري ومسلم .
وتأمل كيف جعل مسئولية الرجل رعاية أهله ، إذ القوامة في يده ، كما قال تعالى : { الرجال قوامون على النساء } . وجعل مسئولية المرأة رعاية البيت ، وبيت المرأة يشمل نشأها الذين أنجبتهم وأمرت بالقيام بأمرهم وتأديبهم ورعايتهم .
والجانب الذي يلاحظ في نساء عصرنا أنهن يملن للدعة والخمول أكثر من نساء الأزمنة الغابرة ، فبينما كنا نسمع ونقرأ عن الأديبات والفقيهات والمقرئات والمحدثات ، وبينما كانت سلسلة الإسناد لأي محدث لا تخلو من ( شيخة ) ، فإننا نرى نساء عصرنا – حتى اللواتي تنسكن – ينتشر بينهم الخوض أعراض الناس ، والغيبة والنميمة ، والشكوى من الأزواج والأولاد ، وإفشاء أسرار الأسرة إلى الغرباء ، وتضييع الأوقات في الزيارات غير المفيدة ، وإثقال كاهل الزوج بالطلبات الكثيرة المضنية . ويندر أن تسمع عن امرأة حفظت القرآن ، أو اشتهرت بفقه أو حديث أو غير ذلك من العلوم ، ومن تخصصت في علم من العلوم فإنك ستجدها لا محالة في المرتبة الدنيا من متخصصي ذلك العلم .
ونحن لا نلقي الملام كله على المرأة ، بل نحمل الدعاة جزءا عظيما من المسئولية ، فعلى عاتقهم تقع مسئولية تعليم أولئك النساء وتربيتهن التربية الصحيحة المستمرة .
والمقصود هنا بيان خطورة الاهتمام بهذه الشريحة ، والعناية بتوفير المناهج الملائمة لها ، حتى تتبوأ المرأة مكانتها في تنشئة الأبطال ، وتربية القادة والخالدين .
كما أن المقصود تفهيم المرأة لدورها ، ودعوتها للاضطلاع به ، وتحريك فعاليتها في الإطار الذي رسمه لها الشرع ، مع أيجاد التنسيق المناسب لتكامل دور المرأة مع بقية الأدوار الدعوية التي تتم في محيط المجتمع المسلم .
فأول ما يجب أن تنصرف إليه جهود الدعاة بالنسبة لشريحة النساء أن يوجدوا الآلية التي تسهل طلب العلم للنساء ، وتجعل الثقافة الإسلامية – بالدرجة الأولى – أمرا ميسرا عليهن جُمَعَا .
وقد أقام بعض الدعاة مدرسة لتعليم النساء العلوم الشرعية بالمراسلة ، حيث وفر لهن الأشرطة التي تشرح المناهج ، ووضع في المسجد صندوقا لتلقي الأسئلة ، ثم يعقد الامتحان بعد فترة محددة متفق عليها ، وقد آتت هذه المدرسة بعض ثمارها ولكنها لم تستمر لافتقادها لآليات الإدارة الأكاديمية التي توفر جهود المدرسين وتضفي رونقا نظاميا محترما .
ولا شك أن الدعوة – بإمكانياتها القليلة – ستضطر أن تخوض الكثير من التجارب حتى توفر لشريحة النساء جوا علميا مناسبا ، بل إنها ستحتاج إلى مجهودات المفكرين من الدعاة في تصور الحل المناسب لمشكلات طلب العلم بالنسبة للمرأة الحامل والمرضع ونحوهما .
ثم إن حركة التأليف يجب أن تتوافق مع هذا الاتجاه في توفير المؤلفات التي يحتاج إليها النساء ، وخاصة ما يتعلق الأحكام الشرعية للمرأة ، فإنها متفرقة في بطون كتب الفقه ، وقد تصدى لهذا المشروع جملة من العلماء الغيورين جزاهم الله خيرا ، ولكن يبقى الباب مفتوحا لتيسير تناول هذه المؤلفات وجعلها مناهج علمية لتدرس لا لتكون مجرد ديكور منزلي تزين به المرأة بيتها .
ومع هذا الدور الدعوي للدعاة مع المرأة ، فإن المرأة يجب أن يكون لها دور ذاتي مستقل في تكوين الأسرة ، وحمايتها من لوثات العصرنة الكاذبة ، والتطور الزائف ، وتحاول المرأة المسلمة – من باب التعاون من الدعاة – في صبغ بيتها بالصبغة الدينية ، وذلك بمقاومتها لكل عناصر الفساد والانحلال التي ينجرف لها المجتمع .
والمرأة في كل مكان في العالم لها قدرة على التأثير في مجريات أمور البيت أكثر من الرجل ، حتى التي تكون شخصيتها ضعيفة ، فإنها تستطيع أن تكون الموئل والمرجع لكل مشكلات البيت ، وهي التي تستطيع أن تستوعب كل ما يحيق بالأسرة من نكبات وغِيَر .
فالمرأة كأم لها دور واسع في رسم الخطوط العريضة للتربية التي يجب أن يتلقاها أولادها ، فهي التي تعودهم على الصلاة وقراءة القرآن واحترام الكبير وبر الوالدين ، بل هي التي ترضعهم مخافة الله تبارك وتعالى ، وهي أول من يعلم الأبناء كلمتي الحلال والحرام .
والمرأة كزوجة لها دور متعاظم في إصلاح اعوجاج سلوك زوجها ، وهي التي تستطيع أن تأطره على الحق أطرا ، إذا توفرت لها العزيمة الصادقة .
كما أن للمرأة دور مع صويحباتها وجاراتها وقريباتها ، في نصحهن ووعظهن ومهاداتهن بالكتيبات والأشرطة ، ولا يخفى أن كل ما ذكرناه من طرق يجري على النساء كما الرجال فهن شقائقهم ، ولا يخرجن عن القاعدة إلا بما دل دليل من الشرع على استثنائهن .
الطريقة الرابعة والعشرون
( العناية بالأطفال )
اعتبرت دراسات صادرة عن الأمم المتحدة أن الدول التي تنفق من ميزانياتها قدرا مخصصا للأمومة والطفل هي دول متقدمة أو ساعية في التقدم ، أما الدول التي يعاني فيها الأطفال والأمهات مشكلات في الصحة والتغذية والعلاج فهي دول متخلفة أو آخذة في التخلف .
واهتمام الدعاة المسلمون بالأطفال لن يتجه بالطبع إلى تقديم الحليب والألعاب والحلوى ، ولكن المقصود من إيراد تلك الدراسة التنبيه على أن الأطفال هم رجال المستقبل وعدة الأمة في التحضر ، وبقدر الاهتمام بتربيتهم وتنشئتهم وتعليمهم نستطيع التنبؤ بالمستقبل الذي ينتظر أمتنا .
وليس خافيا أن الاهتمام بالطفل عندنا معاشر الدعاة يحتل مرتبة متأخرة من أولوياتنا ، بل الواقع المشاهد يعطينا الحق في الجزم بأن كثيرا من الدعاة لا يعير هذا الجانب أي اهتمام أصلا .
ونحن لن نتحدث عن قوافل التنصير التي تتصيد الصبية بالحلوى أو عصابات المافيا التي تخطف الأطفال لسرقة أعضائهم وبيعها أو استخدامهم في شبكات الدعارة العالمية مما هو معلوم لكل متابع لأخبار العالم اليوم .
ولكننا سنتحدث عن الدور الإجرامي الذي تقوم به وسائل الإعلام تجاه عقول الأطفال ، والتقاليد والعادات المنحرفة التي ينشئون عليها ، وحملة التغريب التي تمارس من قبل من يتولون تربيتهم ، بالإضافة إلى الحملات الضارية من علمانية موتورة أو قومية مفلسة .
فماذا ننتظر أن نرى من نشئنا بعد كل هذا ؟!!
إننا لا نتعجب الآن حينما نرى أطفال المدارس يتبارون في استعراض تبعيتهم للغرب عبر التقليد الأعمى في الملبس والعادات وحتى في المأكل والمشرب .ولم نعد نستغرب تنافس الأطفال الصغار في ملاحقة الموضات العالمية أو في تقليد مغنني الغرب أو ممثليهم وراقصيهم .
ومنذ خمسة عشر عاما تقريبا أحضر إلي بعض الأصدقاء طفلا لم يتجاوز عمره السابعة ، وقال لي ذلك الصديق إن هذا الطفل من بيت مغرم بمايكل جاكسون وقد شاهد هذا الطفل كل رقصاته وسمع كل أغانيه ، ثم فاجأني ذلك الصديق بطلب غريب فقال : لو سألت هذا الطفل – وهو مسلم للمعلومية - تحب الله أكثر أم مايكل جاكسون ؟ لأجابك بالعجب . فلما سألته هذا السؤال ، ويبدوا أنه يُسْأَلُ عنه كثيرا أجاب بما يذهب اللب ويجن له العقل .
إن هذا الطفل الذي لم يبلغ الحلم ليس له من ذنب أن يقول إنني أحب مايكل جاكسون أكثر من الله ، ولكن الذنب على المجتمع الذي أوجد صبغة وهوية لهذا الطفل تستسيغ أن تحب المخنثين ( وسأغض الطرف عن الكفرة والفجار ) .
إن هذا الهوس الذي يبرز في مجتمعاتنا كمظهر من مظاهر الانحراف الأخلاقي يتمادى في تأثيره ليصل إلى براءة النشء الصغير وفطرته الطاهرة فيغتالها بدعاوى العصرنة والتطور والموضة .
من لهؤلاء الأطفال ؟ من الذي سيحميهم من هذه الموجات الجارفة ؟ من الذي سيتقلب أرقاً
لملايين الأطفال الذين تستعبدهم تقاليد مجتمع منهزم مخذول ؟
إننا بصدد خيانة جماعية يمارسه الآباء والأمهات لهؤلاء الأطفال ، فلم يعد أحد من المسلمين
يأبه لهم أو يلتفت للأخطار المحدقة بهم ، ومما زاد الطين بلة ذلك الميراث الأخرق الذي أجتناه الناس
من المدنية الحديثة ألا وهو مذهب الأنامالية ، فصار كل امرئ يقول : نفسي نفسي ، وإذا ما رأى أطفال المسلمين يتهاوون من حوله لا يتحرك له ساكن ، ولن يتحرك حتى يصاب في ولده نفسه .
وهكذا صرنا نرى الأسر يقع أبناؤها صرعى الإدمان وعصابات المجون وعبدة الشيطان والشُّذّاذ ، فلا يتحرك لإصلاحهم غيور ، حتى إذا ما وقعت الفأس وبانت الرأس عضوا الأنامل من الندم .
إن أطفال المسلمين مسئولية كل المسلمين ، ومستقبلهم هو مستقبل الإسلام نفسه ، ومن يغامر في إهمال مستقبله فهو سفيه يجب أن يحجر عليه ، ويعامل معاملة السفهاء .لم يعد الأمر يقبل تطييب الخواطر ، ولو ملكت من الأمر شيء لأسقطت ولاية كثير من الآباء لأبنائهم ، فما هم بآبـاء ، بل والله ما هم من البشر الأسوياء .
إن أية فرصة تسنح لداعية في تربية طفل ، سواء كان قريبا أو جارا أو ابن صديق أو تلميذ
عند الداعية المدرس فلا بد أن يهتبلها ما استطاع إلى ذلك سبيلا .
وفي إطار الأنشطة التي عرضنا لها في كتابنا كدور المسجد ( الطريقة …… ) ودور التأليف ( الطريقة ….) ودور الجهد الإعلامي ( الطريقة ….) يجب إن تحتل تربية الطفل المسلم مساحة تتناسب مع خطورة الأمر .
وعلى هذا المنظور فإن الدعاة يجب أن يكونوا أبويين أكثر من الآباء ، ويجب أن تتضافر جهودهم لجعل هذا النشاط المهم سائغا لدى المجتمع ، فالذي لا شك فيه أن كثير من المجتمعات تنظر إلى الدعاة نظرة ريبة ، بل الواقع أن الإعلام قد مارس دورا قذرا في تشويه صورة الدعاة عند الناس ، بحيث صارت الأسر تحذر أطفالها والناشئة فيها من الملتزمين بالدين ومن دخول المسجد كما تحذرهم من الحيات والعقارب وبيوت السحالي السامة .
إن اكتساب ثقة الأسر من أهم الخطوات التي يجب أن يتخذها الدعاة للقيام بدور تربوي فعال تجاه الأطفال ، وقد أثبت التجارب أن سد الحاجات الأساسية للأسر له دور مهم في كسب الثقة وكسر الحواجز .
فالداعية المدرس الذي يعطي درسا خصوصيا مخفضا أو بدون أجر يستطيع أن يدخل أي بيت أراد ، والداعية الطبيب الذي يعالج الأطفال مجانا أو يوزع الأدوية على المرضى مجانا يلقي بنصائحه وهو على ثقة أنها ستلقى أرضا خصبة مستعدة للإثمار .
وعلى ذلك فإن الدور التربوي الذي سيقوم به الداعية تجاه الأطفال ليس بالضرورة أن يكون دورا تربويا مباشرا ، فقد يكون الداعية نموذجا لأطفال المنطقة إذا كان حديث بيوتاتهم ومضرب المثل في المروءة عند أسرهم .
ويكتسب الدور التربوي مع الأطفال فعالية عالية في التأثير على شخصية الطفل بعد ذلك ، كون الطفل مستعدا للتلقي أكثر من تأهله للمناقشة والمجادلة والتمرد الذي هو من شيمة المراهقين والفتيان .
ثم إن غرس الفضائل في الأطفال أحرى لثباتها وتجذرها في الطبع من أن يتعلمها بعد أن يشب عن الطوق ، وقد أثبتت الدراسات الاجتماعية أن العقائد الاجتماعية والعادات والتقاليد تتأصل في مرحلة الطفولة أكثر من أية مرحلة أخرى .
ولنا عبرة في حديث النبي صلى الله عليه وسلم حين قال : ( مروا أولادكم وهم أبناء سبع سنين ، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين ) ، فالحديث يوضح بجلاء أن سن الطفولة سن أمر ، لأنه غير مجبول إلا على التلقي والاستيعاب والتطبيق دون مناقشة أو مجادلة .
وهناك الكثير من الوسائل التي نخطو بها دربا إلى قلوب الأطفال إن لم نستطع أن نستولي عليها استيلاء ، وهي وسائل يسيرة وعفوية ، لكنها تحتاج إلى انتهاز الفرص ومواتاة الظروف .
من تلك الوسائل كثرة مهاداتهم ، ومشاركتهم في ألعابهم والتودد إليهم بجميل الألفاظ والمعاملة الحسنة ، وكثرة التبسم في وجوههم ، وإظهار الحنان والعطف عليهم ، ومناداتهم بأحب الأسماء إليهم ، واللعب معهم ومضاحكتهم ، والتجاوب مع أسئلتهم وعدم النفور من إلحاحاتهم وحب استطلاعهم .
وقد أكدت لي التجربة المتكررة أن الأطفال أكثر ما يكونون استعدادا لقبول النصيحة والتوجيه ممن يحترم عقلياتهم ويتعامل معهم بود وتفاهم ، ويكسب احترامهم بأن يغمرهم من فيض حبه وعطفه عليهم .
والأطفال في حقيقة الأمر كتلة من المشاعر الفياضة التي لا تستخدم العقل في الغالب ، وإذا استخدمه الطفل فإنه لن يتعمق في فلسفة الأمور والبحث عن عللها الأولى كما يفعل من عركتهم الحياة وطحنتهم رحاها .
ومن خصائص الأطفال أن لديهم طاقة متعاظمة لتلقي الجديد من العلم والأخلاق والمثل والمكارم والمعالي ، وأن ما يتلقونه في أيام طفولتهم من تلك المكارم يصبح من المسلمات إلى أن يأتي من يغيرها ويبدلها لهم .
إن عقد مقارئ القرآن في المساجد في الإجازات الأسبوعية والصيفية نشاط يجب ألا تخلو منه أي منطقة يتحرك فيها الدعاة ، بل هي من لب الأنشطة الاستراتيجية ، وإذا ضاقت السبل في عقد هذه المقارئ في المساجد فلن يعدم الدعاة مكانا في بيوتاتهم يجمعون فيه أولادهم وأولاد الجيران والحي ليحفظوهم من كتاب الله تعالى آية كل يوم .
إن فطرة هؤلاء الأطفال ستكون فطرة قرآنية كاملة ، تتجه بمحض ما تنشأت عليه إلى معالي الأمور ومكارمها وتنبذ السفساف الحقير لأنها تحصنت ضد الشر وينابيعه .
كما أن استغلال الأعياد كالفطر والأضحى في إدخال السرور على الأطفال عبر مهاداتهم وتوزيع الحلوى والألعاب من أيسر السبل لتنمية الشعور الديني تلقائيا ، إذ تقرر أن صغار السن تتكون تصوراتهم عن الشأن المهم في حياتهم بما يلحظون أنه يجلب لهم مصلحة ما ، فالصغير ما أسهل أن تعلمه أهمية حفظ القرآن بمجازاته بالهدايا – ولو كانت رمزية – عند كل سورة يتم حفظها .
ومما يتعلق بهذا الصدد قضية على جانب كبير من الخطورة ، وهي غرس محبة المسجد في قلوب الصغار ، والعمل على تنمية الحنين إلى المسجد داخل نفسية الطفل على مر الأيام .
وسبيل ذلك أن نوفر للصغار جوا من العطف والمرح والسرور عبر أنشطة المسجد المختلفة ، وأن يصبر الناس على أخطائهم التي يرتكبونها في المسجد ، واستخدام جانب اللين في عقوبة المخطئ منهم ، وقد
نتابع بأذن الله
جمال المر
2010-10-05, 11:01 PM
الطريقة الخامسة والعشرون :
( الفقراء والمساكين )
إن الإحصائيات المتداولة تثبت أن نسبة الفقراء في العالم الإسلامي تزيد عن النصف من تعداد السكان ، مما ينبئ بالخلل العظيم في تبادل الحقوق والواجبات .
ومن المعلوم أن ثروات العالم الإسلامي تكفي لإطعام العالم كله ، كيف لا ، وقد كانت مصر وحدها تطعم إمبراطورية روما من محصول قمحها .
فوجب التضافر حينئذ لتدارك هذا الخلل بين الأغنياء والفقراء . والدعوة الإسلامية بدعاتها ورجالها مأمورون أن يكون لهم قصب السبق في تحمل مسئولية الفقراء والمساكين في كل مجتمع ، من باب الديانة والتقرب إلى الله أولا ، ثم من باب الدعوة إلى الدين ونشر الحق بين كل شرائح المجتمع .
وما من شك أن الدور الذي يضطلع به الدعاة الآن في توزيع الصدقات وأعمال البر يحتاج إلى الترشيد والتدريب لتحقيق أعلى قدر من الاستفادة .
فإذا تحملنا إطعام الفقراء لسد خلتهم وإشباع جوعتهم فأولى بنا أن نرتفق لأرواحهم من زاد الإيمان ما ينجون به يوم القيامة ، وهذا لعمر الله أولى بالاهتمام .
وطريق الدعاة إلى قلوب الناس مع الإحسان أيسر وأمضى ، فالقلوب جبلت على حب من أحسن إليها ، فلزم أن نعرف كيف يمكن أن نجعل المساعدات التي تقدم للفقراء والمساكين وسيلة لجذب قلوبهم لدين الله تبارك وتعالى .
وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم العطاء والصدقات سبيلا لتأليف القلوب ، فألف قلوب الكثير من مشركي العرب بما كان يعطيهم من الأنعام والهدايا ، وكان وجهه صلى الله عليه وسلم يتمعر إذا رأى من المسلمين من ظهرت عليه بوادر الجوع والمخمصة .
ونصوص الشرع المطهر تجعل الإطعام والدعوة إليه من آكد الواجبات الاجتماعية المحققة لمقصود الإيمان ، والمستجلبة لمرضاة الله ، والمؤدية للنجاة يوم القيامة .
يقول الله تبارك وتعالى : { كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين . في جنات يتساءلون . عن المجرمين . ما سلككم في سقر . قالوا لم نك من المصلين . ولم نك نطعـم المسـكين ..}
وقال عز وجل : { فلا اقتحم العقبة . فك رقبة . أو إطعام في يوم ذي مسغبة } ، ومدح المؤمنين المخلصين فقال : { ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا . إنما نطعمكم لوجه الله ، لا نريد منكم جزاء ولا شكورا } ، وذم من خصال المشركين بخلهم فقال : { أرأيت الذي يكذب بالدين . فذلك الذي يدع اليتيم . ولا يحض على طعام المسكين } ، وذم المتعلقين بالدنيا فقال : { كلا بل لا تكرمون اليتيم . ولا تحاضون على طعام المسكين . وتأكلون التراث أكلا لما . وتحبون المال حبا جما }.
وعن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أيها الناس ، أفشوا السلام ، وأطعموا الطعام ، وصلوا بالليل والناس نيام ، تدخلوا الجنة بسلام ) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح وابن ماجه والحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين .
فإطعام الطعام من شعار الدين التي يجب أن يحييها الدعاة ، ويعملوا على حض الناس عليها ، ويتعاونوا فيما بينهم على القيام بها كفرض كفائي لرفع المأثم عن الأمة .
ومن أول ما يجب أن يعتني به الدعاة للاستفادة من مساعدات الفقراء والمساكين في الدعوة إلى الله أن يكون القائمين على البحث الاجتماعي وتوزيع النفقات والمساعدات والصدقات مدربون على المعاملة الحسنة والصبر على إلحاح بعض الفقراء ، وعلى امتثال آداب الصدقة من السماحة والتبسم في الوجه وعدم نهر السائل واستعمال طيب الكلام عند انعدام النفقة .
ومن شأن تصرفات بعض القائمين على الصدقات أن يصد الناس عن دين الله تبارك وتعالى ، كأن يتعامل مع الفقراء من منطلق أنهم لصوص أو مستغلون ، وإغلاظ الكلام لهم ونهرهم ، والتطاول عليهم بالسباب ، والتكبر والتعالي عليهم ، وإتباع الصدقات بالمن والأذى ، وكل ذلك من شأنه أن يشوه صورة الدعاة عند الناس ، وخاصة لو كانت الصدقات توزع عبر المساجد وعن طريق الدعاة .
وقد ضرب لنا السلف أروع الأمثلة في آداب التصدق ، وقد يطول المقام بذكر تلك الأمثلة ، ولكننا نشير إلى أن المنصرين استخدموا الآداب الإسلامية في الإحسان إلى الناس ، وجعلوا الإحسان وسيلة لتنصير الفقراء والسذج من الخلق ، وهاهي ذي أصقاع العالم تشهد مستشفيات ومراكز رعاية الفقراء واليتامى والمرضى والعجزة والمشردين ، ورأينا كيف هرعت منظمات التنصير إلى الصومال وإلى البوسنة لرفع المعاناة والآلام عن المسلمين بزعم أن يسوع المسيح جاء لينقذهم .
ثم إن الأصل في الدعاة أن ينفقوا بسخاء مما في أيديهم ، وألا يخشوا الفقر والإملاق ، ولا يليق أن تدخر أموال الزكاة والصدقة بزعم الإنفاق منها عند قلة المتصدقين والممولين لمشروعات الإحسان والبر . وإقتار بعض الدعاة في الإحسان إلى الفقراء من شأنه أن يؤدي إلى نتيجة عكسية .
ولا نريد أن يأتي اليوم الذي يستقر في قلوب الناس أن الدعاة إلى الله من أبخل الناس ، فليس على الإنسان من بأس أن يعطي بسخاء مما في يده ، فإذا انعدمت النفقة اعتذر للناس ، وهذا أرجى مما لو رأى الناس ما في يديه ثم لاحظوا بخله وإقتاره .
وقد رجع أعرابي إلى باديته بعد أن أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم غنما بين جبلين فقال لقومه : يا قوم أسلموا ! فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر .
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لبلال : ( أنفق بلال ، ولا تخش من ذي العرش إقلالا ) رواه البزار والطبراني في الكبير وصححه الشيخ الألباني في صحيح الترغيب والترهيب .
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدخر شيئا لغد . رواه ابن حبان وصححه الشيخ الألباني في صحيح الترغيب والترهيب .
كما يجب على القائمين على الصدقات أن يبحثوا عما يسد خلة الفقير ويعملوا على تحصيلها عبر المتصدقين ، وليس بالضرورة أن يكون طعاما ، فقد يحتاج الفقير إلى الملبس ، وقد يحتاج إلى مصروفات تعليم أبنائه في المدارس وتجهيز ما يحتاجون إليه ، وقد يحتاج مصروفات علاج باهظة .
وهناك الكثير من الأساليب والطرق في رعاية الفقراء واليتامى والمساكين ، ولكن المقصود هنا أن نوفر لهم فرصة لتعلم أحكام الدين ، وأن نأمرهم بالمعروف ونعينهم على أدائه ، وننهاهم عن المنكر ونعينهم على تركه ، بل إن الدعاة يستطيعون أن يقوموا بدور في دعوة الطلبة الفقراء عن طريق تنظيم مجموعات تقوية ، ودروس دينية خاصة ، مع الاهتمام بالأطفال ، وتنشئتهم نشأة إسلامية صحيحة .
ولن يغيب عنا أن ننبه أن كل ما يقوم به الدعاة في سبيل هؤلاء الفقراء إن هو إلا حق مكتسب ، وواجب يجب ألا يشعروا فيه بمنة على أحد لئلا تحبط أعمالهم وهم لا يشعرون .
وقد قال الله تعالى : { وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل } ، وقال صلى الله عليه وسلم في وصيته لمعاذ بن جبل لما أوفده إلى اليمن : ( ثم أعلمهم أن الله قد أفترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد إلى فقرائهم ) ، وكأن الصدقة سترد إلى أصحابها الحقيقين بها والجديرين بنوالها .
وعلى الصعيد الفردي ، فكل متصدق يستطيع أن يبذل مع الصدقة نصيحة ، فيأمر الفقير بتقوى الله والمحافظة على الصلاة ، ويحذره من أن يستخدم المال فيما يغضب الله كشرب الدخان ونحو ذلك ، وليس علينا أن قبل منا الناس أو أبوا ، ولكن المقصود أن تتكامل أعمالنا الدعوية ، فلا ندع بابا إلا ولجناه ، ولا جادة إلا سلكناها ، وتلكم هي الدعوة الصادقة التي تجعل حياة الداعية كلها دعوة إلى الله تبارك وتعالى .
وقد يعجز بعض الفقراء عن تحصيل العلم الشرعي ، وسماع الموعظة ، فمن حقه على الدعاة أن يوفروا له الكتب ومصروفات المواصلات وأشرطة الدروس والمواعظ ، ولربما كان النفع والرجاء فيه أعظم من غيره ، وقد قال تبارك وتعالى : { أما من استغنى فأنت له تصدى . وما عليك ألا يزكى . وأما من جاءك يسعى . وهو يخشى . فأنت عنه تلهى . كلا ، إنها تذكره } .
وليعلم الدعاة والناس أجمعون أن السعي على الفقراء والمساكين من أرجى القربات عند الله تعالى ، فقد جعله الرسول صلى الله عليه وسلم عِدْل قيام الليل وصيام النهار ، ثم إن لهم يوم القيامة دولة ووجاهة عند الله ، ويسبقون الخلائق إلى الجنة بخمسمائة عام .
فأجدر به من سبيل خير ، وأخلق بالدعاة أن يكونوا أول السالكين فيه ، وليكن شعارهـم : { إنما نطعمكم لوجه الله ، لا نريد منكم جزاء ولا شكورا . إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا } .
الطريقة السادسة والعشرون
( إيجاد الداعية الميداني )
إنه الداعية المتحرك في كل صوب ، المتقن لدعوته في كل ثوب ، إن كان في بيته فنعم العائل والمربي ، فإن نزل الشارع وخالط الناس وَسِعَهُم بدعوته ، فإن ركب وسيلة مواصلات تناثرت بركات دعوته على من حوله من الركب ، إذا دخل مصلحة لم يخرج منها إلا بغنيمة دعوية ، نصيحة يسار بها موظفا ، أو موعظة يسمعها لسافرة ، أو كلمة معروف يذكر بها من يقف معه في الطابور ، إنه المبارك في حله وترحاله ، كالغيث أينما وَقَعَ نَفَعَ :
فلا مُزْنةٌ وَدَقَتْ وَدْقَهَا ولا أرضُ أَبْقَلَتِ ابْقَالَها
قلبٌ عامرٌ وعقلٌ يثابرُ ، وعزمُ مُغامرٍ وإيمانٌ يجاهرُ ، تقيّ حفيّ ، نقيّ أبيّ ، جبهته شَمَّاء ، كبرياءُ دينه بلغَ عَنَانَ السماء ، ونفعُه مُتَعَدّ ، وخيرُه عامٌّ ، يَتَجَذَّرُ هُدَاهُ في كل أرض أقام فيها ، ويَيْنَعُ غَرْسُه حتى في الأرض القاحلة ، تَنْدَاحُ جَحَافِلُ وعظِه كالسَّيْلِ العَرِمِ تذهب بكل سد منيع جَاثِمٍ على قلوب الغافين ، إذا قال أَسْمَع وإذا وعظ أَخْضَع ، دؤوبُ الخَطْوِ بَدَهِيُّ التصرف ، إذا اعترضته العوائق نظر إليها شَزْرَاً وقال : أَقْبِلِي يا صِعَابُ أو لاتَكُوني ، محمّدي الخُلُق ، صِدِّيقِيُّ الإيمان ، عُمَرِيُّ الشَّكِيمَة ، عُثْمَانيُّ الحياء ، عَلَوِيُّ الصلابة ، فُضَيْلِيُّ العَبْرَة ، حَنْبَلِي الإمامة ، تَيْمَوِيُّ الثبات .
إنه الداعية الذي لا تعوقه عوائق الكون عن القيام بواجب الدعوة أينما كان ، إذا حيل بينه وبين الدعوة فكأنما أخرجت سمكا من ماء ، أو أسكنت بشرا في الصحراء ، حركي كالنمـل والنحل لا يعرف القرار .
إنه الداعية الفصيح ، جنانه حاضر ، وبديهته كالبرق الخاطف ، ولسانه لا يفتر عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الخير ، وما عدا ذلك فذاكر شاكر ، أو صامت صابر .
إن مظهره متناسق مع وظيفته السرمدية ، هندام نظيف ومتواضع ، وهيئة تقية ، وإخبات غير متكلف ، إذا رآه الخلق ذكروا الله تعالى .
وهو داعية متعال على السفاسف ، لا يستنكف عن فعل الخير وإن استهجنه الناس ، إنه لا يساوم الباعة ويلح في خفض الأسعار ، ولا يأنف من إماطة الأذى عن الطريق ، يسلم على من عرف ومن لم يعرف ، يبتسم في وجوه الناس أجمعين ، ويحفظ حشمته من نزق الطائشين وسمود العـابثين .
مستعد للدعوة في كل ميدان ، إذا فتشت حقيبته وجدتها مليئة بالحلوى والكتيبات والهدايا الصغيرة غير المكلفة . يصطحب معه في سيره أشرطة الدعاة والخطباء والوعاظ بل وأشرطة القرآن الكريم لمشاهير القراء . يحمل معه العطر والطيب دوما . إنها أسلحة الداعية الميداني .
يستخدم الحلوى في التعارف ، والكتيبات في التأليف والوعظ والإرشاد ، والهدايا مع دعوة لحضور محاضرة أو خطبة ، والأشرطة لتكون البديل عن شريط غناء أقنع صاحبه بهجره ، والطيب لإزالة حزازات النفوس ، وتوجس الخائفين من مظهر الدعاة .
حتى إذا ما ألقى السلام فكأنك تسمع ترنيمة كونية تطرب لها أذناك ، ذاك صوت الداعية الشجي ، فإذا ما رأيته أقبل بوجهه الضحوك وسلامه المرونق ( ألفيت كل تميمة لا تنفع ) .
لقد وقع القلب في شَرَك هذا الداعية ، واشتبكت القلوب المؤمنة وائتلفت ، والتقت العيون والمقل ، فإذا أَدْمُعُ الخوف من الله تتعرف على نفسها ، حتى إذا ما سكب ذلك الداعية الميداني كلمات الود والمحبة في الله والتقت إرادةَ الله بالهداية أبصرتَ الهوى صريعا في ساحته ، والقلب تتهاوى شهواته وغرائزه أمام هذا السيل الدافق من فيض الإيمان والتُّقَى ، وكأنك بالشيطان رابض ثمةَّ ينادي بالويل والثبور : ويلي ويلي قد اختطفه فلان الصالح مني !
إن الداعية الميداني متحرك لدينه ، سواء كان مدرسا أو طالبا ، مهندسا أو طبيبا ، عالما أو متعلما ، سائقا أو راكبا ، حالا أو مرتحلا ، أميرا أو مأمورا ، رئيسا أو مرؤوسا ، زوجا كان أو عزبا ، فقيرا كان أو غنيا ، صحيحا كان أو سقيما ، مبصرا كان أو أعمى ، سليم الأعضاء أو معوقا ، في الشارع أو في البيت أو في الجامعة أو في المدرسة ، أو في الدكان أو في الحافلة أو في الشارع أو في أي مصلحة حكومية ، بلسانه ويده ، بنفسه وماله ، بكله يتحرك للدين وينافح عنه ، لسان حاله : { إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين } ، وشعاره : { هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ، وسبحان الله وما أنا من المشركين } .
ولْنحاول صياغة بعض وظائف هذا الداعية الميداني واستعداداته وصفاته في نقاط مركزة فيما يلي :
(1) داعية مخلص يمحص النية قبل العمل ، ولا يعتذر عن أي جهد يستطيع القيام به بزعم العجز أو خوف الرياء ، بل يتعلم ويعالج الهوى ويخوض غمار التكليف مملوء الثقة بمعونة الله وكلاءتـه .
(2) لا يبخل على الدعوة بأي مجهود أو طاقة ، فأينما دعاه داعي البذل شمر ، لا يدخر وقتا خاصا للدعوة ، بل أصل عمره موقوف للدعوة إلى الله تبارك وتعالى .
(3) يهتم بالمظهر الذي له دور في التأثير على الناس ، هندامه محترم ، منظم الخطوات ، رشيق العبارة ( ينتقي الألفاظ ولا يلقيها خبط عشواء ) ، يخلب اللب إذا تحدث أو وعظ أو حاضر أو نصح ، طيب الرائحة ، حلو المعشر ، طلق الوجه متبسمه .
(4) مستعد لكل موقف ، فلدية الحلوى والكتيبات والأوراق الإرشادية ، ولديه الأساليب الجاهزة لغزو القلوب ، والطرق المنمقة لاستمالتها ، والأسلحة الفتاكة في محاربة هوى النفوس ، والمغريات الشرعية في جذب الشاردين .
(5) إنه لا يجعل مقصوده الأساسي في الدعوة أن يتنسك كل الناس وينخرطوا في سلك الدعوة إلى الله وإن كان يتمنى حصول ذلك ، بل يتفانى في تقديم كل معونة للرقي بحال المدعوين إلى أي مستوى ينقذهم من نفوسهم الأمارة بالسوء وشياطينهم الغوية أو أعداء مِلَّتِهِم المتربصين بهم .
(6) إن الداعية الميداني يترقب الفرص ويسعى إليها ولا ينتظر مجيئها إليه ، يباغت المواقف ولا يكون هو رد فعل لها ، لا يترك فرصة لما يسميه الناس الصدف أو الفجأة ، بل تراه بدهيا مستعدا لكل موقف بما يناسبه .
(7) إن الداعية الميداني يتجاوب مع المشكلات التي تهدد المجتمع المسلم ، ولا يشغل نفسه بتوافه الأمور وسفسافها ، يقيم لأولويات الدين قسطاسا مستقيما يضبط اهتماماتـه ، ويوجه تحركاته . يتعامى عن أذية المغرضين وسفه المستهزئين ، يمضي إلى هدفه غير ملتفت ، قد أرقه حال الإسلام والمسلمين ، وأفزعه طرق العدو لأبواب الحصون ، فكأنه في رباط ينافح عن ثغر مثلوم يرد العدو من قبله .
(8) يعتمد الداعية الميداني على كل الإمكانيات المتاحة ، ويستغل الظروف لصالحة ، لا يلعن الظلام ولكنه يشارك في إيقاد شمعة ، إذا قصرت به وسيلة نزل إلى التي دونها ، حتى لو لم يجد إلا لسانة أو الإشارة باليدين لاستعملهما متوكلا على الله الهادي إلى صراط مستقيم .
(9) الداعية الميداني متحرك في كل الجهات ، يشارك في كل مجالات الدعوة ، بالقدر الذي يتقن به دوره ، ولكنه عنصر حيوي في كل عمل ، فالدعوة تعتمد على حركيته الواسعة وعلاقاته المتشعبة وقبوله لدى قلوب الناس وتمكنه من الانخراط في أي عمل يسند إليه .
(10) من أكثر سمات الداعية الميداني جدية أنه يعمل في صمت ، ويؤثر العمل الدؤوب على الثرثرة والتفيهق ، ليس بالمنان ولا بالمعجب ، شعاره بعد سماع الأمر من القادة : علم وسينفذ إن شاء الله ، وإذا سئل عن تكليف أنيط به قال : جار التنفيذ بعون الله ، فإذا أتم مهامه أبلغ المسئول في صمت : تم التنفيذ والحمد لله . إنها الجندية في أرقى صورها .
وبهذه الصفة الأخيرة نختم ناقلين قول الراشد حفظه الله : قال بعض السلف : ما ادعى أحد قط إلا لخلوه عن الحقائق ، ولو تحقق في شيء نطقت عنه الحقيقة وأغنته الدعوى .
فكما أن الفرد إذا امتلأ سكت ونطق عنه حاله ، ولم تكن به حاجة إلى دعاية نفسه ، فكذلك جماعة المؤمنين ، إذا اتصفت بما تدعو إليه ، وانبثت وأحكمت صفوفها ووفرت أسباب القوة ، أغنتها هذه الحقائق عن الدعوى والمقال ، وكان فعلها مغنيا لها عن الوصف أو التهديد ، ولست ترى جماعة كثيرة الكلام إلا كان كلامها دليلا على ضعف رصيدها العملي .
إنها حقائق معبرة تتمثل في كل جزء من مفردات الأخلاق تحوزه ، وفي كل لبنة من البناء التنظيمي ، وفي كل فن من فنون التخصص والخبرة العملية ، وتعبيرها يكفي ويغني ، وإنما يطيل اللسان ويذكر الأمنيات من لا يملك الشيء وأما من يملك فإن ملكه يفصح عنه والناس تشعر بالقوة الحقيقية تلقائيا ، ويأسرها النظر وتتبع الأثر . أهـ .
الطريقة السابعة والعشرون :
( العمل الجماعي )
إن من سمات أية حركة اجتماعية وليدة أن تكون ضعيفة تتلمس أسباب القوة وتنفر من عوامل الضعف ، وهكذا كانت دعوات الأنبياء ، مصداقه قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( بدأ الدين غريبا وسيعود غريبا كما بدأ ، فطوبى للغرباء ) .
ومن البداهة أن نقول : إن أية دعوة ربانية يجب أن تتخذ من أسباب القوة ما بها تعلو على عروش الباطل وتدكه دكا . فقوة الحق بدون حق القوة ضعف ، والدين بدون سيف ينصره : هضيمٌ عزه مهيضٌ جناحه ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( بعثت بين يدي الساعة بالسيف ) .
وتحتاج الصحوة الإسلامية أكثر ما تحتاج إلى أن تُبَصَّر بأسباب القوة فتتخذها وبمواطن الضعف لتجتنبه . ويعوزنا مع هذا الاحتياج تجرّد وموضوعية في تناول القضايا وسموا في استيعاب روح الشريعة والبعد عن الحرفية والظاهرية المحضة ، والمماحكة في تحكيم ظواهر نصوص قليلة في مسألة ضخمة عظيمة بُعْدٌ عن حقيقة الاجتهاد والاستنباط .
ومن الأسباب التي تبث القوة في أوصال الصحوة فكر الحركة وحركة الفكر ، فقعود العقول عن فهم الواقع والتكيف مع متطلباته من أعظك الشؤم الذي أصاب واقع الصحوة الإسلامية .
فالحق الذي نبذله للناس ونناضل دونه لابد أن يكون له رجال فقهوا واقع أمتهم واستطاعوا أن يهضموا من المعارف والفنون ما يجابهون به واقعا مدنيا معقدا لم يعد ينفع معه مجرد حفظ المتون وقراءة الشروح .
إننا نحتاج إلى كوادر تفهم واجبها وتتقنه أيضا ، تلم بواقع العصر ولا تغيب عن التراث وتتجاهله .
وإن أخطر قضية شغلت شباب الصحوة وتوقف على حسمها سريان روح النشاط في أجسادهم قضية العمل الجماعي ومشروعيته . ونحتاج - ونحن بصدد الكلام عن خدمة الدين - أن نتحدث عن هذه القضية متعرضين لمفهومها الحركي وحكمها الشرعي ، متعرضين للأدلة الشرعية التي تفيد في هذا الباب ، مع مناقشة أهم الشبهات التي تطرح حول هذا الموضوع .
ولجلالة هذا الموضوع في نظري وارتباط نشاط كثير من الدعاة بمعرفة المحك الشرعي لهذه القضية رأيت أن أوليه شيئا من الاهتمام . وسأحاول طرحه عن طريق عناوين ذات مقدمات متسلسلة تسوق إلى النتيجة الصحيحة آملا أن يُنـزّل الكلام منـزله وألا تحمل العبارات أكثر مما تحتمل .
(تحرير محل النـزاع في المسألة )
نعني بقضية العمل الجماعي : أي تعاون مثمر بناء مستطاع يدخل في حيز القدرة الشرعية ويؤدي إلى تنشيط واقع الدعوة الإسلامية ويسهم في إعزاز الدين ونصرته والتمكين للشرع المطهر ، ويؤدي إلى النكاية في الكافرين بالضوابط الشرعية المعتبرة عند العلماء المعتبرين وبما لا يترتب على هذا التعاون مفسدة راجحة تمنع من الإقدام عليه ) .
وكل قيد في هذا التعريف مقصود به إخراج ما يخالفه فليعتبر . ولا التفات بعد ذلك إلى أي إيرادات على غير محل النـزاع كأن يقال : إن العمل الجماعي يؤدي إلى مفسدة وذلك بما توجهه قوى العدوان والبغي ضد الدعاة ، فهذا لا يكون العمل الجماعي في حقهم ضروريا فليفهم وليقس الغائب على الشاهد .
ثم إن المقصود بالضوابط الشرعية كل القواعد العامة والأصول العلمية التي اعتبرها أئمتنا في فقه السياسة الشرعية ، ومنها عدم التعاون مع الكافر والمبتدع إلا بشروط ، وعدم تولية الفساق وأهل البدعة لولاية عمل إلا بشروط أيضا . فكل هذا يسري فيما نحن فيه بل أجدر .
والمقصود بالعمـل ما يشمل القول والفعل ، كالدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد باللسان والأموال والأبدان .
والمراد بالجماعية هنا محض التعاون المشترك بين أكثر من فرد ، فالجماعة المقصودة هنا : الجماعة الخاصة ، لا الجماعة المسلمة العامة التي تنضوي تحت إمرة حاكم شرعي ، فأن العمل بالنسبة لهم على حسب قانون دولتهم المسلمة وأمر حاكمهم الشرعي وبالضوابط والأصول المعتبرة أيضا .
فكلامنا إذا في جماعة الدعوة التي تنشد عزة الدين والتمكين له في بلدان لا تتمتع بحكم إسلامي شرعي ولا بوجود حاكم يرعى حمى الدين ( ولا نقول مسلما ) فمجرد وجود الحاكم المسلم مع غشه وظلمه وفسقه ليس سببا للقعود عن نصرة الدين بل والقيام بما تأخر عنه ذلك الحاكم المسلم ، فليتنبه .
(شبهات القائلين ببدعية العمل الجماعي )
لاشك أن كثيرا من المسائل التي يتداولها الدعاة تكون الحقيقة فيها تائهة بين اختلاف العبارات وتباين المصطلحات وعم تلاقي المقاصد من الكلمات ، فكان من الأهمية بمكان أن نحرر محل النـزاع فيما نحن بصدده لنقلل مساحة الاختلاف ما استطعنا إلى ذلك سبيلا .
ولكننا سنجد من تبقى لديه بعض الشبهات التي حالت بينه وبين إدراك مقصد شرعي أو واقع دعوي ، فمن الإنصاف أن نتعرض لأشهر ما يتداوله الدعاة من شبهات في هذا الباب لنوفي المقام حقه من التمحيص والدرس .
الشبهة الأولى : يقول الذاهبون إلى بدعية العمل الجماعي إن الأدلة العامة التي أمرت بالاجتماع ونهت عن الفرقة تنص على عدم شرعية التجمعات الدعوية التي تمزق كيان الأمة .
ومنها قوله تعالى : { ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم .. } يقولون : إن العمل الجماعي يؤدي إلى التحزب والفرقة بين الجماعة وهذا منهي عنه ، فما كان كذلك لا يكون مشروعا .
وهذا الاستدلال غير مستقيم ، لأنه يقال : هل مجرد وجود الجماعة وتعاون الأفراد فيما بينهم هو النـزاع والافتراق ؟ أم أن النـزاع أمر خارج وطارئ ؟ فإن قلنا بالأول : لزم اطّراح كل النصوص التي تأمر بالاجتماع ، وإن قلنا بالثاني : فيقال : لو كانت الطاعة تؤدي إلى مفسدة من قبل البعض فهل هذا يسوغ أن نقول ببدعية الطاعة وعدم مشروعيتها ؟!
إننا يجب أن نتبرأ من كل التصرفات التي تتنافى مع الاجتماع والتعاون كالعصبية والحزبية وعقد الولاء والبراء على غير الإسلام ، وإذا حدث هذا من بعض الجماعات بل من كل الجماعات فليس هذا دليلا على حرمة الاجتماع وبدعيته ، بل يُنهى عن المحرم ويُقَرُّ الصالح على صلاحه ، قال تعالى : { ولا تزو وازرة وزر أخرى } وقال : { ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا ، اعدلوا هو أقرب للتقوى } .
الشبهة الثانية : ( الأدلة الخاصة ) التي تنهى عن التحزب ، والصريح في هذا الباب حديث حذيفة بن اليمان الذي رواه البخاري وبوب له في الصحيح فقال : باب : كيف يكون الأمر إذا لم تكن جماعة . ثم روى حديث حذيفة قال : كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير ، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني ، فقلت يا رسول الله ! إنا كنا في جاهلية وشر ، فجاءنا الله بهذا الخير ، فهل بعد هذا الخير من شر ؟ قال : ( نعم ) . قلت : وهل بعد ذلك الشر من خير ؟ قال : ( نعم ، وفيه دخن ) قلت : وما دخنه ؟ قال : ( قوم يهدون بغير هديي ، تعرف منهم وتنكر ) قلت : فهل بعد ذلك الخير من شر ؟ قال : ( نعم ، دعاة على أبواب جهنم ، من أجابهم إليها قذفوه فيها ) قلت : يا رسول الله صفهم لنا . قال : ( هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا ) قلت : فما تأمرني إن أدركني ذلك ؟ قال : ( تلزم جماعة المسلمين وإمامهم ) قلت : فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام ؟ قال : ( فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك ) . الحديث .
قالوا : فهذا أمر نبوي صريح باعتزال كل تلك الفرق والجماعات المتناحرة المختلفة حال كون المسلمين فاقدين للإمام الشرعي والجماعة المسلمة الكبرى المنضوية تحت لواء شرع إسلامي وحاكم مسلم .
والجواب عن هذه الشبهة أن قوله صلى الله عليه وسلم : ( اعتزل تلك الفرق كلها ) يعود إلى أقرب مذكور وهم الدعاة على أبواب جهنم ، ولو عاد إلى أبعد منه فهم القوم الذين يهدون بغير هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا شك أن كليهما يجب اعتزالهما ، كما لا شك أن الجماعات الإسلامية العاملة في حقل الدعوة والمنضوية تحت لواء أهل السنة والجماعة والمستظلة بظل الصحوة الدينية المباركة ، والساعية في سبيل إعلاء كلمة الله ليست من الدعاة على أبواب جهنم ، وليسوا أيضا ممن يهتدون بغير هدي النبي صلى الله عليه وسلم . ولا يجوز أن يقال إن ( أل ) في كلمة ( الفرق ) للعهد الذهني ، لأن اسم الإشارة ( تلك ) المنوه بما سبق قرينة على تعيين المراد . هذا وجه .
الوجه الثاني : أن الاعتزال لا يكون إلا بعد انعدام الجماعة والإمام ، والواقع ليس كذلك ، فإن الإمام إذا كان معدوما فلم تنعدم الجماعة المسلمة ، فإن زعم زاعم أن الجماعة المسلمة أيضا منعدمة فإننا نحيله على :
الوجه الثالث : قال الحافظ في الفتح : ( 13/41) قال الطبري : والصواب أن المراد من الخبر لزوم الجماعة الذين في طاعة من اجتمعوا على تأميره ، فمن نكث بيعته خرج عن الجماعة . أهـ
تنبيه : قال الطبري بعد النقل السابق : وفي الحديث أنه متى لم يكن للناس إمام فافترق الناس أحزابا فلا يتبع أحدا من الفرق ويعتزل الجميع إن استطاع ذلك خشية من الوقوع في الشر . أهـ
اتكأ على هذا النقل القائلون ببدعية العمل الجماعي وقالوا بوجوب مفارقة الجماعات العاملة في حقل الدعوة . وليس لهم مستند فيه ، لأن مراد الطبري رحمه الله الأحزاب التي تتنافس على الإمارة والإمامة والحكم ، ولذلك قال عقبه : خشية من الوقوع في الشر . وهو شر التنافس على الدنيا ، لأن السعي إلى الإمامة مذموم شرعا . أما الأحزاب العاملة للدين ولا تتنافس على الإمارة بل تسعى لنصرة الدين والتمكين له فليست على شر ، بل هي ساعية في دفعه ، وفي جلب الخير المحض ، ولا تدخل في النهي عن الاعتزال جزما .
ولسر بديع أعقب البخاري الباب الفائت وهو : كيف الأمر إذا لم تكن جماعة . بباب آخر قال فيه : باب من كره أن يكثر سواد الفتن والظلم . وساق فيه حديث ابن عباس أن أناسا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيأتي السهم فيرمى به فيصيب أحدهم فيقتله أو يضربه فيقتله ، فأنزل الله تعالى : { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم .. } وهذا السر البديع هو أن الأمر بالاعتزال السابق في الباب قبله مشروط بألا يؤدي إلى تكثير سواد المشركين والظالمين وأهل الفتنة والظلم ، ولا شك أن تفرق الدعاة وعدم تعاونهم يؤدي إلى تقوية الظالمين ونكايتهم للمؤمنين .
وما أشبه أولئك القائلين باعتزال الجماعات العاملة في حقل الدعوة بأولئك المسلمين الذي بقوا في ديار الكفر وكثروا سواد المشركين . ففي الوقت الذي نرى ملل الكفر تتلاقى على هدم الإسلام وتتناسى خلافاتها لتتفق على مناوأة المسلمين نرى المسلمين عاجزين - حتى - عن التعاون في تكتلات ذات أثر .
الشبهة الثالثة : استدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا حلف في الإسلام ) رواه البخاري ومسلم . قالوا : لا يجوز الانتماء إلى التجمعات الدعوية ولا التعاون معها لأنها أحلاف نهى عنها الشرع ونفى اعتبارها في الإسلام .
والجواب عن هذه الشبهة من وجوه :
أولها : أن الوقوف عن ظواهر النصوص والتقيد بحرفيتها وإهدار روحها لا يخدم المسألة بل ينحرف بها عن فهم المقصد الشرعي الذي هو أساس الاجتهاد في مسائل النوازل .
ثانيها : أن المراد بالحلف ما كان يتحالف عليه أهل الجاهلية من إيصال الحقوق إلى أربابها ، وكان المتحالفون يجمع بينهم آصرة الحلف ويترتب عليها من الحقوق في الإرث والقرابة والزيجة والالتزامات ونحوها ما يتعارض مع الشرع ، ويدل لذلك رواية مسلم حيث قال صلى الله عليه وسلم : ( لا حلف في الإسلام ، وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة ) وهو من رواية جبير بن مطعم رضي الله عنه .
قال الطبري فيما نقله عنه الحافظ في الفتح : ما استدل به أنس على إثبات الحلف لا ينافي حديث جبير بن مطعم في نفيه ، فإن الإخاء المذكور كان في أول الهجرة وكانوا يتوارثون به ثم نسخ من ذلك الميراث وبقي ما لم يبطله القرآن وهو التعاون على الحق والنصر والأخذ على يد الظالم كما قال ابن عباس : إلا النصر والنصيحة والرفادة ويوصى له ، وقد ذهب الميراث . ثم نقل عن الخطابي قوله : قال ابن عيينة : حالف بينهم أي آخى بينهم . يريد أن معنى الحلف في الجاهلية معنى الأخوة في الإسلام لكنه في الإسلام جار على أحكام الدين وحدوده ، وحلف الجاهلية جرى على ما كانوا يتواضعونه بينهم بآرائهم فبطل منه ما خالف الإسلام وبقي ما عدا ذلك . أهـ
وخلاصة القول أنه قد ورد إثبات الحلف ونفيه ، ولا شك أن فهم الصحابي أجدر بالتأسي ، وما جمع به الطبري يجري وفق طرق الترجيح ويأتي على نسق قاعدة : الجمع بين الدليلين أولى من إهمال أحدهما . ( الإعمال أولى من الإهمال ) .
ثالث الوجوه : أن الحلف كلمة مجملة يرجى ممن استدل بها على بدعية العمل الجماعي أن يحد هو معناها ، فإن أراد العموم لزم تحريم أي حلف حتى لو كان ذلك الحلف بيعة الإمام الشرعي ، وهو معلوم البطلان ، وإذا كان التخصيص قد ثبت بالقطع علمنا جواز التخصيص بغيره ، والمزعوم : أن عموم النهي أو النفي في حديث ( لا حلف في الإسلام ) مخصص بآيات حفظ العهود والوفاء بالوعود والعقود ، كما أن ( لا حلف في الإسلام ) قضية مهملة سالبة ، والتحقيق أنها لا تفيد سورا معينا ، بل قد يراد بها الجزئية وقد يراد بها الكلية ، ومع هذا الأجمال في السور نلجأ إلى التخصيص بدليل آخر وهو ما فعله أنس بن مالك رحمه الله ، فقد فهم الراوي أن ( لا حلف في الإسلام ) بقوة : كل حلف في الإسلام منهي عنه ، فصحح له أنس سور القضية قائلا : قد حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين قريش والأنصار في داري ، وكأن أنسا رضي الله عنه أراد أن يصحح مدلول الحديث كالآتي : بعض الحلف في الإسلام منهي عنه . وهو ما أكده الطبري رحمه الله في جمعه بين حديث النفي والإثبات .
ولا مجال لادعاء أن (لا) نافية للجنس وهي تفيد القطع في نفي كل مفردات اللفظ ، وهي عند الأصوليين تفيد العموم ولا ريب ، بيد أن عموم النفي مسلط على الجنس المعهود ( وهو الحلف المذموم ) فلا يشمل الحلف المحمود ، ودليله ورود التخصيص بعد عموم النفي في رواية جبير بن مطعم ، فأفادت تلك الرواية نفي العموم لا عموم النفي .
وقد زعم الطحاوي رحمه الله في شرح مشكل الآثار أن حديث أنس في إثبات الحلف منسوخ بحديث النفي لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قاله في فتح مكة . وإذا سلمنا بصحة النسخ فإن البحث سيظل دائرا حول مورد النفي ، وقد ثبت بالدليل الصحيح وتفسير الصحابي المعتبر كابن عباس وأنس رضي الله عنهما ثبوت الحلف بمعنى النصرة والمؤاخاة بشروطها المعتبرة ، فيكون النسخ واردا على ما منعته النصوص الأخرى كالتوراث والعصبية والنصرة حتى بالباطل ويبقى ما أقرته النصوص ولم تمنعه .
الشبهة الرابعة : يحتج المبدعون للعمل الجماعي بأن جماعية العمل تورث البغضاء والشحناء والتحزب والولاء والبراء على الاسم ، على حساب المسمى .
والجواب على جزأين : الأول : في شرعية التسمي بأسماء لقبية غير اسم الإسلام وأن ذلك لا حرج فيه ، بل قد يكون واجبا إذا احتيج إليه شرعا .والثاني : أن كل الآفات المترتبة على العمل الجماعي نتبرأ منها ونحذر منها وننهى عنها ، كما لا نعترف أنها ناشئة عن مشروعية العمل الجماعي منهجا ، بل هي في الغالب بسبب أخطاء شخصية وانحرافات تطبيقية أو مساوئ خلقية وتربوية ناتجة عن عدم فهم منهج العمل الجماعي والتحلي بآدابه . وسبب ذلك أمور :
(1) أن الأمة عاشت دهورا لم تستظل فيها بظل الدولة المسلمة ، ولم تستنشق عبير الحكم الإسلامي الذي من أركانه السمع والطاعة لأولي الأمر ومراعاة مصالح الأمة . بل نشأت في الأمة جماعات على نسق النظريات الغربية التي تعتمد الحرية المطلقة طريقة حياة ( ليبرالية ) والفردية منهجا للتعامل مع الآخرين ، والنسبية نظرية للحكم على الأشياء ، فلم يأنس الناس حب الاجتماع على أساس ديني ، ولا البذل للدين والتضحية له من منطلق جهادي .
(2) جهل الكثير بأدب الخلاف وفقهه ، حتى أضحت المسائل التي تتبناها أي حركة – وإن كانت فروعية – لا تقبل النقض أو المناقشة من أحد .
(3) شيوع الروح الاتهامية وتلاشي مبدأ المناصحة والتواصي بالحق الذي أمر به القرآن .
(4) غلبة الهوى عند البعض ( دون تعيين ) ، والهوى هو منشأ الظلم ، والظلم هو منشأ الاختلاف والتناحر بين الناس .
وتلافي ذلك يكون بأضداده لا بنقض مبدأ الاجتماع من أصله وأساسه ، فالعمل الجماعي نسق فطري لأية حركة اجتماعية تنشد التغيير الصحيح .
هذا وليس من الإنصاف أن نؤاخذ التجمعات الدعوية بجريرة بعض الأفراد ، وننسى أو نتناسى حسناتها وأثرها في واقع الأمة ، وأنها التي حفظت على الناس عقيدة الإسلام وآدابه وأحكامه . وكم رأينا من دعاة كانوا يتحركون فرادى بيد أن أثرهم لا يتجاوز مساجدهم وإقليمهم ، وآخرون اجتمعوا ونسقوا فكانت شجرتهم الباسقة تظل أرجاء الدنيا .
الشبهة الخامسة : يقولون : إن كل ما ذكر عن ضرورة الاجتماع والعمل النظامي والسمع والطاعة للمسئولين عن العمل الدعوي ، كل ذلك لا يكون إلا في ظل دولة إسلامية وتحت إمرة خليفة شرعي ، والنصوص الشرعية التي استدللتم بها إنما هي في حق الإمامة العظمى وفي ظل الخلافة المسلمة .
والجواب : بعدم التسليم أن النصوص الشرعية الآمرة بالاجتماع والسمع والطاعة في حق الإمامة العظمى فقط ، بل هي عامة ، كقوله تعالى : { وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } وقوله : { ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم ..} وقوله صلى الله عليه وسلم : ( من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية ) . رواه البخاري .
فلا بد للمسلمين من جماعة ولا بد لهم من إمام ، فإن لم يستطيعوا تكوين الجماعة العامة التي تنتظم الأمة تحتها والإمام الذي يحكم الجميع عدلوا إلى القدر الذي يستطيعونه ، ريثما يتيسر لهم إقامة الخلافة العظمى ، لأن الميسور لا يسقط بالمعسور ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( إذا أمرتك بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) وعندما تولى أبو بكر الصديق رضي الله عنه الخلافة لم يتولها إلا على مكة والمدينة والبحرين ، أما بقية الجزيرة فقد ارتدت عن بكرة أبيها ، ولا ولاء لها للمدينة ولا لأحد من الصحابة ، فلم يثنهم ذلك عن السعي للإمامة والاجتماع حتى تنتظم حياتهم .
ثم إننا نتساءل عن الفرق بين التجمعات الدعوية في ظل الحكم الإسلامي وفي غيره ! أوليس مفروضا في الدولة الإسلامية أن تكون لها هيئات ترعى شئون المسلمين في كل المجالات ؟ فما الفرق بين تلك الهيئات التي تعمل في ظل الأنظمة الوضعية ساعية لإقامة الحكم الإسلامي واسترجاع الحياة الإسلامية وبين تلك التي تعمل بالفعل تحت نظام حكم إسلامي ؟!! اللهم إنه لا فرق إلا أن يقال إن تلك تعمل تحت إمرة حاكم شرعي ، والأخرى ليست كذلك ، وهذا ليس بوصف مؤثر في الحكم ، للإجماع على أن جل التكاليف الشرعية لا يشترط فيها وجود الإمام ، ومن ثم اتفق العلماء في العصور المتأخرة على عدم اشتراط وجود الإمام في الجمعة مع أن بعض المذاهب اشترطت ذلك ، ولم يقل أحد الآن بلزوم وجود الإمام حتى نؤدي الجمع .
وثمة أمر ينبغي أن يتنبه له الجميع : وهي أن التجمعات الدعوية التي نقصد ضروريتها لا يمكن تصور الدعاة الآن بدونها ، حتى أولئك الذين يبدعون العمل الجماعي ، فهم يقومون بمقتضاه ، شاءوا أم أبوا .
فتنظيم محاضرة عمل جماعي ، وتنظيم دورة علمية عمل جماعي ، وطبع كتاب إسلامي وتوزيعه في أي خانة ندرجه ؟! ولا يقال إن هذا الأخير لا يندرج تحت العبادات ! إذا خاب سعي كل من يطبع كتابا إسلاميا حتى لو قصد مع ذلك التربح ، لا أيها الإخوان .. إن الأمر أيسر من أن نتناوله بهذه الطريقة ، وأخطر من أن نعالجه بهذا النحو ، فدين الله ينادي علينا بالبذل ، وخطاب القرآن يخترق الآذان قائلا : { انفروا خفافا وثقالا ..} ويقول : { خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا } .
فكيف نتشاغل عن هذا النفير بقضايا من قبيل : نعمل فرادى أو جماعات ، نتعاون أو نعتـزل ؟!!
ونختم بهذه الومضات :
(1) إن قضية العمل للدين يجب أن يتناسب فيها الجانب التطبيقي مع الاستدلال الشرعي ، فلزوم الدعة والخمول وترك الجهاد بالمال والنفس بحجة الوقوف عند النصوص موقف سيسأل عنه أمام الله عز وجل يوم القيامة .
(2) الملاحظ أن المبدعين للعمل الجماعي لم يطرحوا البدائل لموجهة طغيان الظالمين والمحاربين لدين الله رب العالمين ، وأن مجهوداته قاصرة على إلقاء الدروس العلمية ، مع أن نظرة بسيطة إلى شرائح المجتمع تخبرك بهول المهمة .
(3) الاجتماع على عمل معين والتسمي باسم معين لا يعني احتكار العمل واحتكار الاسم ، فمنهج الحق مشاع بين أهله { ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون } .
(4) لقد استطاع الرافضة أن يقيموا دولة تناطح أمريكا وترهب إسرائيل ، وما زال أهل السنة ( وهم نقاوة المسلمين كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ) يتجادلون في شرعية العمل الجماعي !!!
أيها الدعاة : إن الإسلام تنقض عراه عروة عروة والمسلمون يتخطفون من حولكم فقوموا لله قومة صدق { ومن نكث فإنما ينكث على نفسه } ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
نتابع بأذن الله
جمال المر
2010-10-05, 11:05 PM
الطريقة الثامنة والعشرون :
( الترجمة )
ما زالت الدعوة الإسلامية تخطو خطوات وئيدة في نشر الدين على مستوى الشعوب ، فلو ارتضينا المقارنة بين ترجمات معاني القرآن وترجمات الإنجيل لوجدنا أن الفاتيكان قد قام بترجمة الإنجيل المعتمد لديه إلى كل اللغات الحية تقريبا ، وكان ذلك قبل أن تبدأ حركة ترجمة معاني القرآن لدى المسلمين بصورة منظمة ذات أثر .
أما إذا أتينا لنقارن بين صراع نشر ثقافة الحضارات لوجدنا أن المسلمين لا يعدون أن تكون حضارتهم مثل حضارة الهند والصين اللتان ينتقي منهما الغرب ما شاء ليترجمه دون أن تكون تلكما الحضارتان ذاتي ثقافة غازية .
والواقع أن الحضارة الإسلامية عريقة العلوم والمعارف أصيلة المثل والقيم ، بهرت العالم كله بمنظومتها المعرفية ، وأقامت للبشرية صرحا من المعارف والعلوم مازال شاخصا شامخا في ضمير العقل الإنساني .
ومثل هذه الحضارة الشماء لا يليق بها أن تتوارى عن أعين الخلق وتتشرنق مستترة عن احتياجات الإنسانية بزعم اعتزازها باللغة العربية الأصيلة ، أو بزعم أنها غنية بنفسها ، أو بزعم عدم قدرتها على منافسة الزحف الحضاري الغربي .
فلقد اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم ترجمانا هو زيد بن ثابت أمره أن يتعلم السريانية فتعلمها في بضع عشرة يوما . واستطاع القرآن أن يكون كتاب البشرية الأول في خلال عشر سنين عندما استقر في وجدان الشعوب التي فتح بلادها المسلمـون الأول .
وكان ترجمة التراث العربي هو السلاح الثاني في الفتوح الإسلامي حتى غدت اللغة العربية هي لغة الثقافة والمعرفة ، لأنها صارت اللغة الوسيطة بين كل الشعوب لنوال العلوم الراقية .
وبدأ الضعف يدب في أوصال الثقافة الإسلامية يوم انتدب بعض ضعاف النفوس أنفسهم لترجمة علوم الحضارات الأخرى إلى اللغة العربية ، واشتغلت الحركة الثقافية بهذا الزخم الفارغ ، الذي كان نفعه في ميزان الحضارات الأخرى . إذ جعلت المعايير الفلسفية اليونانية هي الحاكمة على الحق المطلق في النظام المعرفي الإسلامي .
وصار القرآن نفسه يحاكم إلى منطق أرسطو وأفلاطون ، وشغل المسلمون دهورا بالنـزاع بين الإشراقيين والرواقيين ، وكان الجاهل بعلوم تلك الحضارات الوافدة معدودا فيمن لا يوثق بعلمه أصلا وإن كان إماما من أئمة الدين .
وكل ذلك حينما انعكس الدور الأصيل الذي كانت تقوم به الفتوحات الإسلامية ألا وهو غزو العقول والقلوب بإيصال معاني هذا الدين المتين .
وقد فطن الاستعمار ( وإن شئت فقل : الاستخراب ) لدور الترجمة في توطين الثقافة الغازيـة ، فأسس بجوار الترسانات العسكرية الجرارة هيئات علمية راقية المستوى كانت مهمتها مساعدة الزحف العسكري عبر استعراض ثقافة المستعمر بلغة الدولة المغزوة ، وعندما ظهر الفرق جليا بين تخلف الدول المغزوة وإمكانيات الدول الاستعمارية في المجال الاقتصادي والعسكري وفي المجالات المدنية المتنوعة تقبلت الناس هزيمتهم باقتناع وراحت نفسية الهزيمة تتغلغل في جذور الضمير حتى مسخت الأفئدة ووجدنا من أفراد الأمة الإسلامية من ينادي بكتابة اللغة العربية بحروف لاتينية ومن يطلب الكفران بكل ما منتم إلى الإسلام .
تلك الهيئات العلمية هي المحافل الاستشراقية التي كانت تلعب دورا لا يقل خطورة عن الدور التنصيري الذي صاحب الاستعمار في مراحله المختلفة .
والغريب أن جل الباحثين لم يفهموا أو لم يحاولوا أن يتفهموا أسباب قيام المحافل الاستشراقية بترجمة كثير من المراجع العربية إلى لغاتهم اللاتينية على اختلافها . فبلغت سذاجة البعض إلى الزعم أن المستشرقين قد انبهروا بالثقافة العربية فكانوا خداما في محرابها وسدنة في معبدها هياما بجمالها وعظمتها .
ونحن لا ننكر وجود المستشرقين المنصفين لكن عددهم أو انتماءاتهم لا تمت بصلة للدور الجمعي الذي كان يقوم به جل المستشرقين ألا وهو القيام بحركة ترجمة واسعة النطاق من وإلى اللغة العربية بغرض أن يتخصصوا هم في اللغة العربية فيحتلوا مرجعيتها دون علماء المسلمين أنفسهم .
وهذا ما قد حدث بالفعل ، فمن الذي ينكر عظمة مشروع المعجم المفهرس لألفاظ الحديث ، أو مَن من الأدباء يستطيع أن يتعامى عن
وفي غضون بضعة عقود أواخر القرن التاسع عشر كانت الأكاديميات الغربية موئلا لكثير من الباحثين العرب والمسلمين لدراسة اللغة العربية والإسلام نفسه ، وصارت دكتوراه السوربون أو دكتوراه الدولة من فرنسا وأكسفورد وهارفارد من إنجلترا تهيؤ صاحبها لتبوئ أعلى المناصب العلمية في جامعات بلاده .
وصار بعض الأكاديميين يتفاخرون أنهم درسوا آداب اللغة العربية في أروقة جامعات أوروبا ، والأنكى أن منهم من يزهو أنه درس الحديث أو التاريخ الإسلامي أو سيرة الخلفاء على يد أساتذة الكراسي في الجامعات المسيحية .
لكن المشاهد لكل ذي لب أن الدراسات العربية والإسلامية في تلك الجامعات لا تتم باللغة العربية ، كما ندرس مثلا الأدب الإنجليزي باللغة الإنجليزية ، بل إن كل الدراسات بما في ذلك البحث الذي يتقدم به الباحث تتم بغير اللغة العربية ، لا لشيء إلا لأن المشرفين أعاجم ، والمراجع التي يطالب الباحث العربي والمسلم بالرجوع إليها جلها كتبه المستشرقون بلغاتهم الأعجمية .
وهكذا نرى كيف أن حركة الترجمة التي قام بها المستشرقون كان لها دور واسع بعد ذلك في تبوئ الثقافة الغربية منصب المرجعية في العلوم اللغوية العربية والإسلامية أيضا .
ونحن إذا أردنا أن نستعيد المرجعية العلمية للحضارة الإسلامية ( في إطار لغتنا وديننا على الأقل ) فلابد من القيام بحركة ترجمة واسعة لعلومنا الإسلامية واللغوية بحث نكون – نحن – المتحدثين باسم لغتنا وديننا لا أن يكون وسطاء أعاجم أعلاج هم الناطقون الرسميون باسم الإسلام .
إن طموح الدعاة يجب أن يتجاوز مجرد ترجمة معاني القرآن إلى ترجمة التراث الإسلامي الأصيل ، حتى يقرأ العالم عن ديننا كما نفهمه نحن لا كما يفهمه الأعاجم الأعلاج .
وهذا يستتبع بالضرورة أن يكون من بين أبناء الأمة عامة والدعاة المخلصين خاصة من يتقن لغات الأمم حتى تأخذ حركة الترجمة جانب الأصالة ، وتأمن التحريف ، وتضمن الأمانة في النقل والصياغة .
وقد سمعت عن مركز للترجمة أسسه وأقام بنيانه الداعية المتخصص الشيخ سفر الحوالي في أوائل العقد الثاني من القرن الخامس عشر ، لهدف ترجمة تراث شيخ الإسلام ابن تيمية للغة الإنجليزية بدعم من بعض المحسنين الغيورين من أهل السنة ، بيد أن هذا المركز ما كاد يخطو خطواته الأولى حتى تعرض لحملة خبيثة من أعداء الإسلام فتم إجهاضه ولما يخرج نتاجه للناس ، ولا شك أن هذا المركز لو استمر نشاطه من حينه لأضحى علامة بارزة في السعي الدعوي المخلص لنشر الدين على المستوى العالمي .
ولا ريب أن حركة الترجمة التي نعنيها تحتاج إلى دعم دولي أو معونة هيئات إسلامية عالمية ، وهي أشبه بالدور الجهادي الذي تقوم به هيئات الإغاثة في المناطق الإسلامية المنكوبة ، لأننا لا نرى نكبة أعظم من أن نتعلم الدين واللغة من غيرنا .
وإضافة إلى ذلك لا بد أن يتجاور مع حركة الترجمة حركة علمية بحثية راقية المستوى تقوم بتعقب كتابات المستشرقين والرد عليها بنفس اللغة سواء عبر طبع كتب مستقلة أو في دورياتهم العلمية أو على صفحات الإعلام أو حتى على صفحات الإنترنت .
وحديثنا على الترجمة لا يتطرق إلا محاربة الاستشراق والتنصير فقط ، بل إلى مواجهة كل المذاهب الهدامة والمنحرفة أيضا من حيث إن خطرها على الدين الحق لا يقل تشويها عن الكفر الصراح .
وهاهي ذي قوى الرفض والمجوسية المتشيعة تنفث سمها بكل لغات العالم عبر المجلات التي تصدرها سفاراتها بلغات تلك البلدان ، وترصد ميزانيات ضخمة لمساعدة الأقليات الشيعية في كل العالم عبر المنح الدراسية للتعلم في قُمْ ومَشْهَد والترويج للمراجع الشيعية - وبخاصة أفكار الخميني - بكل لغات العالم .
وقد رأيت في بعض الدول السُنّية جهود السفارة الإيرانية في الترويج للمذهب الإثني عشري بين جموع أهل السنة لدرجة طبع مجلة فاخرة بلغة تلك الدولة وتوزيع الكتب والمنشورات بالمجان .
وهاهي ذي القاديانية والبهائية تحرص على طبع أدبياتها بكل لغات العالم مع الاهتمام باللغات العالمية كالإنجليزية والفرنسية والعربية ، مما ينبيك - أيها الغيور على دينك - أن الترجمة سلاح ماض في نشر الأفكار .
ويمكننا صياغة الأفكار المهمة بالنسبة لهذه الطريقة فيما يلي :
(1) إيجاد الكوادر التي تتقن اللغات العالمية ، ومخاطبة الدعاة في كل بلدان العالم ممن يتقنون لغة بلدانهم مع اللغة العربية ، وتكوين جبهة عالمية للتعريف بالإسلام ، تمولها الحكومات والدول والهيئات الإسلامية والأفراد ، على أن يترك إشرافها للدعاة .
(2) عقد مؤتمرات عالمية أو محلية لمناقشة هذا الموضوع ، ومساهمة الدعاة في تقديم الأبحاث التي تخص هذا الصدد ، مع تقديم خبرات ذوي الخبرة في هذا المجال .
(3) تكوين مكاتب ترجمة لدى كل حركة أو اتجاه دعوي يقوم بترجمة الكتب التي تشرح حقائق الإسلام مع التنسيق بين تلك المكاتب حتى لا يحصل التكرار .
(4) تنمية مهارات الترجمة لدى الدعاة بعقد دورات تدريبية للترجمة ، واستضافة المتخصصين في هذا المجال لتدريس أحدث تقنيات الترجمة .
(5) صقل لغات المترجمين والرقي بمستواها حتى تكون ترجماتهم محل احترام أصحاب تلك اللغات ، ويكون ذلك بمزيد من التخصص في أدبيات اللغة الثانية التي يتقنها المترجم .
(6) إنشاء صحف ومجلات بلغات مختلفة تترجم فيها كتابات علماء العصر وفتاواهم ، ويوقف الناس من خلالها على أخبار المسلمين برؤانا وليس برؤى رويتر وأسوشيتدبرس .
(7) المسارعة في استكمال ترجمة معاني القرآن الكريم إلى كل لغات العالم سدا للفرض الكفائي العالق بكاهل الأمة .
(8) البدء في مشروع ترجمة الحديث النبوي إلى لغات العالم الحية ، واختيار الكتب المعتمدة مثل الصحاح أو رياض الصالحين ونحوها من الكتب التي عم نفعها بين المسلمين .
(9) البدء في مشروع جاد لترجمة عقائد أهل السنة والجماعة إلى كل لغات العالم ، في مواجهة الحملات الشرسة التي تقوم بها المذاهب الضالة في دعوة غير المسلمين ، وإنقاذا لأولئك الأفراد الذي وقعوا في براثن تلك المذاهب جهلا منهم بحقيقة الإسلام .
(10) تلافي القصور الإعلامي ، والبدء في مشروع جاد لقناة إسلامية دعوية عالمية تستخدم اللغات العالمية الحية في عرض الإسلام وتبيان حقائقه .
إن هذه الأفكار – أيها القارئ العزيز – قد تبدو لك ضربا من الأحلام الشاردة ، ولكنني أجزم لك غير شاك ، أن إمكانياتنا تستطيع أن تفعل ما هو أكثر من ذلك ، ولكن المطلوب : أن تحصل البداءة ، وتنشأ المبادرة الأولى ، وستجد الأمر بعد ذلك توجها يتصاعد ، ومسلكا يرتاده كل المخلصون .
الطريقة التاسعة والعشرون :
( المراسلات )
استعمل الرسول صلى الله عليه وسلم طريقة المراسلة في عهد مبكر من زمان الدعوة ، وراسل الملوك في عهده ودعاهم إلى الإسلام ، فكان لهذه الرسائل دور مهم في توسيع نطاق الدعوة وكسر الحصار الإعلامي الذي فرضته اهتمامات الناس العادية .
كما كان المراسلات بين أفراد الأمة ذات بعد إعلامي مهم ، حيث كانت هي الوسيلة الوحيدة لمعرفة الأخبار بين الناس وكانت الرسائل الإخوانية أيضا تلعب دورا اجتماعيا مهما .
وقد عمل المسلمون على تطوير نظم نقل البريد حتى كانوا أول من ابتكر نقل الرسائل بالحمام الزاجل مما أحدث ثورة في سرعة نقل الرسائل ووصول المعلومات المهمة إلى كل الأصقاع .
ومازالت المراسلات البريدية حتى عصرنا تلعب دورا اتصاليا مهما بين كل الشعوب ، بل مازالت البشرية تعتمد على نظام البريد العادي وسيلة في كثير من التعاملات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في عصر البريد الإلكتروني والهاتف النقال .
والمظنون أن البريد العادي سيظل متربعا على عرش وسائل الاتصال العادية باعتباره الوسيلة التي تتيح الناس التعبير عما يجيش في قلوبهم بسهولة عبر سطر الكلمات .
ومع تطور نظم نقل البريد العادي بين الدول أصبح بإمكان كل إنسان أن يراسل أي فرد أو هيئة في العالم متى توفر العنوان الصحيح . كما أن كثيرا من الدول والشركات الاستثمارية أنشأت هيئات لنقل البريد السريع يضمن وصول الخطاب أو الطرد في مدة يسيرة جدا حتى لو كان المرسل إليه يسكن في أقاصي العالم .
لقد وجدت منظمة عالمية تسهل على الشباب من الجنسين التراسل عبر البريد ، بحيث توفر العناوين والمعلومات المطلوبة بين الطرفين ، وفي الغالب ما يتم التعارف بين فتى وفتاة من ذوي المراهقة ، وفي الغالب أيضا ما يتم التعارف لأسباب تتنافى مع الشرائع السماوية ، فما أشبه دور هذه المنظمة بدور القواد الذي يسهل الفجور لراغبيه .
وقد ظهر أن وراء هذه المنظمة هيئات دولية وأجهزة مخابرات تخطط لاصطياد الجواسيس وتجميع المعلومات عن دول معينة ، ولا نريد أن نغالي فنتهم بالشطط فنقول إنه مخطط عالمي لنشر الفجور بين شباب المسلمين .
وقد تنبه لخطورة المراسلات ودورها في توسيع دائرة التعارف مع الناس كل الكنائس العالمية ، فأسست في هيئاتها الدعوية مكاتب خاصة للمراسلات ، مهمتها مخاطبة الناس عن طريق الخطابات ، وتجميع العناوين بكل السبل الممكنة ، والتجاوب مع الشخصيات الفضولية ، واستخدام طريقة الطعم في صيد الفريسة .
ولن نتمادى في سرد تفاصيل المكائد التي تحيكها الكنائس عبر المراسلات ، فهو جزء من كيد التنصير الذي بينا كثيرا من أساليبه في طريقة ( مقاومة التنصير ) ، ولكننا سنؤكد على الفائدة المستوحاة من هذه الطريقة ، وهي أن قطاعا عريضا ممن يتخذون المراسلة هواية يمكنهم أن يسمعوا كلمة الحق إذا وجد من يحسن استغلال هذه الوسيلة .
كما أن المراسلة أضحت خير وسيلة للتبادل العلمي بين الأفراد ، وعن طريق البريد الإلكتروني تستطيع الهيئات العلمية أن تتعاون في كل المجالات عبر التواصل المستمر والسريع على صفحات الإنترنت . وليس يخفى أن كثيرا من الجامعات والمعاهد صارت تمنح الدرجات العلمية للدارسين عن طريق المراسلة .
وفي البلدان الرأسمالية تلجأ شركات الدعاية إلى الحصول على أسماء المواطنين بكل وسيلة ممكنة ، كما أنها تنتقي الشرائح ذات الدخل المرتفع ، ثم تقوم بإرسال خطابات تتضمن الدعاية لمنتجات معينة أو أسواق تجارية معينة مع إرفاق الصور الإيضاحية المطبوعة بأعلى مستوى من طرق الطباعة .
ولا يمكن لتلك الشركات الدعائية أن تلجأ لهذه الوسيلة ما لم تكن قد أجرت دراسات إحصائية دقيقة على أساسها استعملت وسيلة المراسلات في الدعاية .
وقد مر معنا كيف أن الكنائس العالمية استشعرت الأثر البالغ للمراسلات فعملت على تطوير هذا الجانب الإعلامي في أجهزتها الدعوية ، فما برحنا نسمع كثيرا عن أناس تصلهم رسائل من الكنائس تدعوهم للتنصر مع عرض كثير من المغريات الدنيوية .
وفد فطن اللاعبون في المجال السياسي هذه الأهمية ، فصارت الأحزاب التي تتنافس على الحكم في الأنظمة الديمقراطية التي تتبع نظام الانتخاب الحر تقوم بإرسال الخطابات إلى كل المواطنين في الدوائر التي يتنافسون فيها لأجل كسب أصواتهم .
ويبرز دور المراسلة في إشعار الجهات التي يتم مراسلتها بوجود رأي عام موحد في مسألة معينة ، وتتبلور أهمية تكوين هذا الرأي العام الموحد في تصعيد موقف الدعوة الإسلامية تجاه استنكار بعض الممارسات الإعلامية بما يشعر تلك الأجهزة أن ممارستها لا تغضب فئة المتدينين فقط ، بل إنها بالإصرار على ممارساتها ستغضب الرأي العام الذي تخدم اتجاهاته ومشاعره .
وقد قامت بعض الهيئات الإسلامية في الولايات المتحدة الأمريكية بحملة مراسلة ضد شركة مشروبات استخدمت الكعبة المشرفة في إحدى إعلاناتها التسويقية ، فما كان من تلك الشركة إلا أن قدمت اعتذارها للمسلمين وسحبت هذا الإعلان ولم تجز عرضه بعد ذلك . ومن المواقف المشابهة ما لاحظته من بعض الصحفيين ذوي الاتجاه العلماني أنهم بمجرد أن تصلهم رسائل احتجاج على بعض الممارسات اللادينية في المجتمع من جهات مختلفة فإنهم يسارعون إلى المشاركة في استنكار تلك الممارسات لشعورهم أن ذلك يستجلب ود الرأي العام لهم . ومن سبر الممارسة الصحفية لكثير من الجرائد والمجلات لاحظت أن الإعلام الصحفي يتأثر كثيرا بالتجاوب الذي يبديه القراء مع تلك الصحيفة أو المجلة ، وذلك عبر الرسائل التي تصل إليهم بالبريد .
لذلك فإن مما يجدر بالدعوة الإسلامية أن تهتم به وتوليه عناية جليلة : وسيلة المراسلات الدعوية . فبها يمكن توسيع مستوى الشرائح التي تخاطبها الدعوة ، وخلخلة أي حصار يمكن أن يفرض عليها من قوى الطغيان . وبإمكان الدعوة أن توجد رأيا عاما إذا استطاعت أن تجعل من هذه الوسيلة نمطا دعويا مدروس الأبعاد .
وإن أهم خطوة يجب أن تتخذ لتطبيق هذه الوسيلة أن يوجد الأفراد المهتمون بهذه الوسيلة والمستعدون لمواجهة كل مصاعبها ، إذ لا شك أنها وسيلة تتطلب جهدا وتفرغا واسع المدى .
والدعوة الإسلامية إذا كانت تقوم بها هيئة منظمة ذات إمكانيات مادية فأحرى بها أن تؤسس مكتبا للمراسلات يتبعها يقوم بالدور الدعوي المنوط به بحيث يتفرغ هذا المكتب كليا لهذه الوسيلة .
أما على مستوى المناطق التي لا تسعفها الظروف في إيجاد دعوة منظمة فليس من العسير حينئذ أن يتعاون على أداء هذا الدور بعض الدعاة بحيث يتناوبون في توزيع المهمات والأدوار فيما بينهم .
وهذه جملة من الأفكار التي يمكن الأخذ بها في مجال المراسلات مع اعتبار أن هذه الوسيلة تحتاج إلى التطوير المستمر والمنافسة الضروس مع الخصوم أعني خصوم الإسلام .
أولا : تفريغ بعض الأفراد للقيام بمهمة المراسلات ، قد يكون دور هؤلاء الأفراد مجرد تحضير العناوين وكتابة الرسائل – أعني نسخها – ثم إرسالها لأصحابها ، بحيث يكون معهم آخرون يعدون المادة العلمية ويخططون لعملية المراسلات جملة وتفصيلا .
وهؤلاء المخططون هم الذي يحددون الشرائح التي يجب الاهتمام بها ويحددون الأولويات التي ستطبق في نظام العمل . كما أن هؤلاء هم الذين يعدون الخطابات والردود بالتعاون مع أهل العلم والمتخصصين في كل المجالات .
ومن وظيفة المخططين أنهم يقومون – بالاستشارة مع أهل العلم – باختيار الشرائح التي يمكن مخاطبتها عبر المراسلة مثل الشرائح التالية :
(1) مراسلة ذوي المناصب ومناصحتهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو المساعدة في ذلك .
(2) مراسلة شريحة المفسدين في المجتمع مثل باعة الخمور والمغنين والممثلين أو الصحفيين والكتاب العلمانيين أو الفئات ذات الانحراف الاجتماعي مثل المدمنين والزناة والشواذ .. الخ .
(3) مراسلة الصحف والمجلات على وجه التأييد لبعض المواقف الجمعية أو استنكارها ، ويدخل ضمن ذلك مراسلة وسائل الإعلام المختلفة كالإذاعة والتلفاز للتعبير عن موقف الدعوة الإسلامية تجاه بعض الممارسات الإعلامية .
(4) مراسلة الشركات أو المصانع التي تنتج منتجات تتعارض مع الشريعة الإسلامية ، أو بغرض أن تقوم تلك الشركات بإنتاج منتجات تخدم المجتمع المسلم ، فالسوق الاقتصادي يقوم على العرض والطلب ، والإنتاج عند تلك الشريحة متوقف على وجود الطلب ، والمراسلة خير وسيلة لإفهام تلك الشريحة .
(5) مراسلة الدعاة والمصلحين في كل مكان لتكوين جبهة إسلامية عالمية أقل أوجه التعاون فيما بينها التواصل بالمراسلة ، ويدخل ضمن ذلك مراسلة العلماء والمفتين لطلب فتاواهم أو مطالبتهم بتبني مواقف معينة تجاه المجتمع ، فالملاحظ أن هناك مجموعة من العلماء الذين يتاورون عن المجاهرة بمواقفهم لسبب أو لآخر ، ومثل هؤلاء يحتاجون إلى تحفيز من قطاع الدعاة والمصلحين ، حتى يقوم أهل العلم بالدور الذي أناطه الله بهم ، كما قال تعالى : { وإذا أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون } .
(6) مراسلة الأفراد العاديين في المجتمع بمختلف الشرائح كالطلاب والمدرسين والموظفين والعمال وربات البيوت وأصحاب المحلات والأنشطة الاقتصادية .
(7) مراسلة الأغنياء وأصحاب الثروات لحثهم على الإنفاق والبذل في سبيل خدمة الدين أو إخراج الزكاة للفقراء والمساكين والمستحقين .
(8) أما بالنسبة للعناوين فيمكن الاعتماد على المجلات التي تعلن عن عناوين بعض الممثلين والمغنين أو لاعبي الكرة ، أو بالاستفسار من الدليل أو غير ذلك من الأساليب والسبل .
(9) من الأفضل للهيئات التي تخصص مكتبا إعلاميا للمراسلة أن تضع خططا وتصورات واضحة لنشاطها بحيث يراعى معقولية الهدف والغاية وواقعية الوسيلة مع مراقبة الأداء وإصلاحه كلما أمكن .
(10) استخدام المراسلة للإعلان عن الأنشطة الدعوية كالدروس والمحاضرات والندوات والمؤتمرات سواء عبر البريد العادي أو الإلكتروني على صفحات الإنترنت .
(11) مما ينبغي الاعتناء به : استغلال المناسبات المختلفة في المراسلة ، كالأعياد الشرعية ( الفطر والأضحى ) والمناسبات الاجتماعية كأفراح الزفاف للتهنئة أو مناسبات الجنائز للتعزية أو مناسبات نجاح الطلبة أو قدوم مولود جديد أو الفوز بجائزة علمية أو منصب مرموق ونحو ذلك ، فمراسلة أصحاب الشأن في هذه المناسبات مع إرفاق الرسالة بنصيحة تناسب المقام دور يسير ومؤثر لا ينبغي أن نغفل عنه .
هذه جملة من الأفكار ، ما قصدت منها الحصر – كما أشرت – ولكن كان المراد فتح الآفاق تجاه وسيلة قد تكون غائبة عن التفكير الجماعي لمنظري الدعوة والمهتمين بشئونها .
والمطلوب أن تقوم الدعوة في كل مكان باستخدام هذه الوسيلة مع مراعاة إمكانياتها وما هو أصلح لبرامجها ، مع اعتبار أن هذه الوسيلة كغيرها من الوسائل تخضع لضابط المصلحة والمفسدة الشرعية المعتبرة وما لهما من دور في تحديد القرار لتطبيق وسيلة من الوسائل .
وقد يبدو لبعض الدعاة من هذا العرض أن طريقة المراسلة تحتاج إلى إمكانيات ضخمة تنوء بالعصبة أولي القوة ، وليس ذلك بالمقصود لما أسلفناه مرارا أننا صغنا هذه الطرق في خدمة الدين بما يتناسب مع قدرات كل فرد على حدة ، بحيث نفترض عدم وجود الإمكانات والمعونات ، فيستطيع كل داعية أن يقوم بدور ما في هذه الطريقة .
وقد رأيت بعض الشباب المسلم الغيور يكتب رسائل تأييد ومناصحة وتثبيت للدعاة الذين تعرضوا لبـعض الضغوط والظلم ، لأنهم أحسوا أن مثل هذه الرسائل قد يكون لها دور بعيد المدى في رفع معنويات هؤلاء الدعاة ، فأكبرت فيهم هذا الفهم وحمدت الله أن وجد من بين شبيبة المسلمين من يحمل هم هذا الدين بل ويسعى بذمة دعاته وعلمائه .
وليس من العسير أن يقوم بعض الأفراد في منطقة واحدة بالتعاون في بينهم لمراسلة تاركي الصلاة أو المجاهرين بالمعاصي أو قيام المتحجبات بمراسلة المتبرجات في الحي أو اللاتي يسببن خللا خلقيا أو رواجا لمظهر الفجور .
كما أنه من اليسير جدا أن يراسل الفرد الواحد جريدة يقرؤها ويواظب عليها ، يناصحهم في انحراف صحفي عن جادة الحق أو في عرض صور مخلة بالآداب أو في التعرض لقطعيات الدين بقدح أو عيب .
كل هذه الاقتراحات وغيرها مما لا يزال رهين عقول الدعاة الأذكياء الغيورين يمكن تطبيقه دون احتياج إلى إمكانيات ذات بال ، وبالنية الصادقة والعزيمة القوية يرتفع البنيان ويعلو { وإن الله لمع المحسنين } .
نتابع بأذن الله
جمال المر
2010-10-05, 11:21 PM
الطريقة الثلاثون :
( المؤتمرات )
( الشورى بين الدعاة في أمور الدين )
إن تماسك بنيان الجماعة المسلمة مؤسس على ركنين مهمين ، بهما يستقر الاجتماع ، وعليهما يتعاظم العمل والبذل :
الأول : التعاون ، وعدم التفرق والاختلاف .
الثاني : الشورى بين المسلمين .
وقد نطق القرآن بهذه الأمرين حيث قال الله تعالى : { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } وقال تعالى : { ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا } وقال تعالى : { واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذا كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون } ، وقال تعالى : { والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون } .
وقد أعطينا الركن الأول ( التعاون وعدم التفرق ) حظه من البحث والتنظير عند الكلام عن العمل الجماعي ، وبقي أن نجيل النظر في قضية الشورى التي ثار حولها الكثير من الجدل بين تيارات الدعوة الإسلامية على اختلاف اتجاهاتها .
وقد فضلت أن أعنون للشورى بعنوان أساسي هو : ( المؤتمرات ) لأن المقصود تفصيل الوسائل الخادمة للدين وليس بحث المشكلات الدعوية لذاتها ، فليس إيثار عنوان ( المؤتمرات ) زهدا في اللفظ القرآني إذن ، إذ أن قضية الشورى من حيث هي مشكل سياسي دعوي ينبغي أن يبت في مسائلة الشائكة من خلال الإقرار بضرورة الاجتماع والتشاور والتباحث ، وإلا فإن ذات قضية الشورى ستبقى معلقة وغير محسومة .
وكثير من الدعاة لا يزال ينظر إلى هذه القضية باعتبارها ترفا فكريا ينبغي أن ينأى بنفسه عنه ، والحقيقة أن قضية الشورى من أخطر المشكلات التي واجهت المسلمين عبر تاريخهم الطويل ، كما أنها القضية الأولى في جانب فقه السياسة الشرعية وإدارة شئون الدولة ، وغدت – لغياب الخلافة – قضية متصدرة في جانب فقه الدعوة وإدارة شئونها .
وليس خافيا على أحد من الدعاة أن أهم المشكلات التي تواجه الدعاة هي حيرتهم تجاه القضايا التي تتفجر في الساحة ، بدءا من القضايا المصيرية مثل المواجهة مع قوى الظلم والعدوان كاليهود ومن عاونهم ومرورا بالقضايا ذات البعد التأثيري الغائر في المجتمع المسلم مثل كيفية مواجهة أثر الإعلام في تدين المسلمين أو محاربة الأفكار المنحرفة والضالة كالعلمانية والتشيع الغالي ( وأعني به الرفـض ) وانتهاء بالمسائل ذات الاهتمام المشترك بين جميع الناس مثل حكم التعامل مع البنوك الربوية والعمل في الفنادق ونحو ذلك مما يتكرر السؤال عنه .
وإزاء هذا المشكل تبرز المؤتمرات كحل لهذه المشكلة ، وأنا أعني بلفظ المؤتمرات معناه اللغوي لا الاصطلاحي ، فليس ضروريا أن يضم المؤتمر مئات المشاركين ، كما أنه ليس جوهريا أن يعقد في صالة للمؤتمرات ، ولا أن يأخذ تنظيمه الطابع التقليدي الذي نراه أو نسمع عنه ( وإن كان تنظيم المؤتمرات في حد ذاته أمرا محمودا بل قد يكون ضروريا ) ، فكل اجتماع يعقده مجموعة من الدعاة للبحث والتشاور في أمر من أمور الدعوة فهو مؤتمر ويمكن أن نسميه اجتماعا .
وعلى ذلك فصورة المؤتمرات التي ندعو إليها كوسيلة من وسائل خدمة الدين : هي الاجتماع الدائم بين الدعاة للتباحث والتشاور في قضايا الدعوة سواء اتخذوا رأيا موحدا أم لا ، وسواء ترتب على هذه الاجتماعات عمل أم لا ، فالتشاور والتباحث مقصود لذاته .
ولعل سائلا يتعجب : كيف يكون التشاور مقصودا لذاته ؟! والجواب أن هذا التشاور عامل مهم في تقريب الأفهام ووجهات النظر بين الدعاة ، بحيث تذوب به الحزازات بين الدعاة ، وتتعاظم مساحة القاسم المشترك الذي يجمع بينهم ، كما تتضاءل الفوارق ويضمحل سوء الظن ووسواس الصدر ، وتتجه الاهتمامات بعد إذا لتضييق الفجوات واتخاذ الخطوات البنّاءة ، بعيدا عن النقاش العقيم والنقد المفرغ من أهدافه .
ولقد صارت المجتمعات المتمدنة تولي المؤتمرات اهتماما بالغا ، حيث أضحت هذه المؤتمرات علامة بارزة على قوة المجتمع وتماسكه وتطلعه إلى مستقبله بالخطو الرشيد .
ولن تخطيء عيناك الندوات التي تعقدها كل الهيئات العلمية وغيرها لمنسوبيها بهدف رفع مستوى الوعي لدى هؤلاء تجاه القضية التي يدعون المتخصصين للحديث عنها .
وقد بينا قبل أن هذه المؤتمرات يطلق عليها في اللسان الغربي ( سمنار ) حتى سرى استعمال اللفظ بين المتخصصين من أبناء اللسان العربي ، والحري أن يستبدلوه بلفظ المؤتمر البحثي أو الندوة أو ما شابه من الألفاظ العربية الأصيلة .
وفي هذه المؤتمرات البحثية يتم دعوة المتخصصين من ذوي الخبرات للحديث عن القضية التي يراد بحثها ، ويتم مناقشة هؤلاء المتخصصين وسؤالهم والتحاور معهم بروح علمية موضوعية .
وفي الغالب ما يتم ختم تلك المؤتمرات بقرارات وتوصيات وإعلان ، من شأن كل ذلك أن يكون خطوة مساهمة في أي مشروع يراد إقامته ، فكل شيء أقامه الإنسان على وجه الأرض إن هو إلا وليد فكرة تضافرت مع مثلها وغذتها العزيمة وطبقتها الإمكانيات المتاحة .
وما أجدر الدعاة أن يتنادوا إلى مثل هذه المؤتمرات فيطرحوا على بساط البحث والمناقشة كل قضاياهم ومشكلاتهم ، ليس بالضرورة أن يجدوا لها حلا ناجعا ، فمجرد الاجتماع والتشاور سيكون له دور في وضع اللبنة الأولى لحل أي مشكل .
وأصل الشورى يستند في التنظير السياسي الإسلامي إلى مبدأ النصيحة الذي بين الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يمثل ركنا مهما من الدين حيث قال : ( الدين النصيحة ) ، قلنا لمن يا رسول الله ؟ قال : ( لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ) .
لكن الشورى الإسلامية تختلف عن نظرية الديمقراطيات الغربية التي تجعل الفرد العادي في المجتمع عضوا مشاركا في صنع السياسة العامة واتخاذ القرار حتى لو كان الشأن متعلقا بأساسيات الدين وقطعياته وحتى لو كان ذلك الفرد لين الديانة .
فالشورى الإسلامية تحترم رأي كل مسلم وتعطيه الحق في التعبير عن رأيه ولكن في إطار نظام تصاعدي لا يخل بمبدأ التخصص ، ويمنع افتئات الحقوق وانتقاصها من ذويها مع جعل المصالح العامة للأمة فوق كل اعتبار .
فليس مقبولا أن يناقش الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب مشروع قانون في الدولة – كما يحدث في بعض الدول – كما أنه ليس من المنطقي أن يتدخل مقدوحوا العدالة في وضع سياسة تربوية للأجيال الصاعدة .
وقد رأينا المهزلة العالمية التي كان بطلها رئيس دولة خرق الآذان بكلامه عن مبادئ العدل الذي يجب أن يسود العالم وإذا به كهل بهيمي الشهوة افتضح أمره بين شعوب العالم .
مثل هذه المشاركة الفوضوية تأباها شريعة الإسلام ، حرصا على النظام العام ومحافظة على كيان المجتمع من المتسلقين الوصوليين الذين يقدمون في الغالب مصالحهم الشخصية على مصلحة الأمة .
كما أن الشورى التي نتحدث عنها لابد أن توجد السلام الاجتماعي المنشود ، لا أن تكون سببا للتهارج كما يحدث في الكرنفالات الانتخابية في دول العالم حيث يظهر لكل ذي لب أن المقصود بالانتخاب تحقيق مصالح شخصية أو فئوية يتقاتل دونها المنتخبون ، وتذهب مصالح الأمة أدراج الرياح أو تحت الأقدام .
كما أننا يجب أن نفهم أن الشورى وسيلة وليست غاية ، وخلق وشيمة وليست شهوة وغريزة ، فممارس الشورى عندئذ لا بد أن يتحلى بآداب الشورى مثل :
(1) احترام القطعيات والأساسيات وعدم استنفاد المجهودات في نقض الثوابت .
(2) احترام الرأي المخالف وعدم تسفيهه إذا لم يتعارض مع الثوابت والقطعيات .
(3) سلوك السبيل السوية في الرد على آراء المخالفين واستحضار النيات الصالحة في التقويم والرد .
(4) عدم إهمال أخلاق الأخوة الإسلامية العالية مثل التسامح والبشاشة والابتسام في الوجه مما يورث مناخا وديا عند التشاور والتباحث .
(5) الالتزام برأي المجموع وعدم الخروج عليه أو قدحه حتى لو ظهر خطؤه بعد ذلك ، ومن أرقى الأخلاق في الشورى أن يمدح رأي المجموع وإن كان مخالفا لرأيه ويروجه بين الناس .
إن تطبيق نظام الشورى الإسلامية في المؤتمرات الدعوية طريق ضرورية لتأهيل الدعاة لحمل مسئولية القيادة فيما بعد ، فإن هذه الشورى هي التي تضمن تكوين شخصية القائـد المنظـم العملي المتسامح ، وتختصر الشورى من شخصيات أصحابها حب السيطرة والأنانية ورؤية الذات .
ويمكننا أن نصوغ كيفية تطبيق هذه الوسيلة في النقاط الآتية :
(1) تنمية الروح الجماعية واحترام مبدأ الشورى بين الدعاة خاصة وبين المنتمين للصحوة المباركة عامة ، واعتماد المناهج العلمية والتربوية التي تلمح هذا البعد ، مع محاولة تلقينه للأجيال الناشئة عبر الطرق التي ذكرناها في الطريقة الثالثـة بعد العشـرين ( العناية بالأطفال ) .
(2) تداول الأدبيات التي تغذي هذا الجانب بين الدعاة وفي الملتقيات العلمية كالخطب والدروس حتى يتحول مبدأ الشورى إلى عقيدة اجتماعية لا مجرد مظهر اعتيادي .
(3) أن تتعاهد الحركات الإسلامية على اعتماد مبدأ الشورى في آلياتها الحركية ، وأن تنبذ احتكار القرارات المصيرية ، وأن تُشعر الواقع الدعوي أنها تصدر في مواقفها عن آراء المتخصصين من أهل العلم المعتبرين .
(4) قيام المجموعات الدعوية في كل مكان بتكوين مجالس تنفيذية ، ومن أعمال هذه المجالس التنفيذية الاجتماع الدوري لمناقشة مستجدات العمل الدعوي ، ومتابعة الأنشطة المعتمدة ، والتحاور في إيجابيات وسلبيات الأداء الدعوي لتلك المجالس التنفيذية . ويسري هذا النظام على أي مجموعة تدعو إلى الله ولو صغرت ، فأمارة جديتها أن يتشاور أفرادها ، ويتحركوا تحركات مدروسة ، ويخطوا خطوات واضحة المعالم بينة المراحل جلية الأهداف والوسائل .
(5) أن يعمل الدعاة على اعتماد الأبحاث الإحصائية قبل تبنيهم لمواقف معينة ذات خطر ، فمن علامات الجهل والاستبداد والمخاطرة بمصير الدعوة أن تصدر المواقف دون سبر لاستعداد الناس للمشاركة في تبني ذات الموقف .
وقد حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على أخذ رأي الأنصار قبل اتخاذ قرار المواجهة في غزوة بدر لأنهم الكثرة التي سيعتمد عليها في مواجهة قريش ، فلـما اطمأن إلى تأييدهم أصدر قرار الحرب وهو مطمئن لتأييد الصحابة أجمعين .
(6) تحديد مواعيد دورية للمؤتمرات والاجتماعات الدعوية ، والحرص على ألا تكون عشوائية الهدف والغاية ، مع مراعاة الجوانب التنظيمية لإنجاح تلك الاجتماعات .
(7) أصبح بالإمكان عقد المؤتمرات والاجتماعات عبر شبكات الإنترنت بحيث يتحدث مجموعة من الأفراد بالصوت والصورة ، مما يتيح قدرا من الأمان لتلك الاجتماعات في حق من يحال بينهم وبين عقدها بصورة علنية .
(8) يفضل أن تعلن توصيات المؤتمرات العامة وتنشر بين قطاعات الصحوة حتى يتبنى الأفراد توجهات القادة .
(9) يفضل للمؤتمرات الدعوية الكبرى أن تعقد بدون إشراف حكومي حتى تكون في مأمن من الضغوط المعروفة ، وحتى تعتمد الشفافية المطلوبة لتحقيق مصداقيتها لدى قطاعات الصحوة .
(10) الوقوف بحزم أمام الشخصيات المريضة التي تشغّب في المؤتمرات ، وعدم إتاحة الفرصة لها لإفساد الجمع أو تحزيب المجتمعين .
(11) تكريم الشخصيات الدعوية الناشطة والتنويه بجهودها وإجلال بذلها من باب : ( من لا يشكر الناس لا يشكر الله ) .
(12) الاجتهاد في عقد المؤتمرات العالمية لشرح قضية الإسلام للناس ، ومواجهة حملات التشويه التي تمارس ضد الصحوة المباركة ، وتجديد دعوة الأنبياء والرسل بالجهر بنداء التوحيد عبر المنابر العالمية لإقامة الحجة لله تبارك وتعالى والإعذار بأداء الأمانة .
(13) تبني ميثاق عمل إسلامي بين الحركات الإسلامية لعقد المؤتمرات التي تفيد المسلمين ، بحيث يظهر المسلمون كقوة ذات شأن .
(14) استغلال تلك المؤتمرات في التبرؤ من المذاهب الضالة والاتجاهات المنحرفة عن منهج أهل السنة والجماعة ، والتي تتمسح بالإسلام وأهله ، حتى يعتمد الناس معايير أهل الصحوة المباركة في تقويم الاتجاهات الجديدة .
(15) محاولة حشد تأييد علماء العصر وأئمة الدين من أهل السنة لتلك المؤتمرات حتى تغدو هذه المؤتمرات ذات مرجعية علمية دعوية عالمية ينظر إليها المسلمون نظرة إجلال واحترام .
وبعد .. فإن هذا الجانب لا تكفيه مثل هذه العناصر المجملة ، ولكنه يحتاج إلى صياغة آليات تتناسب مع كل مجموعة دعوية على حدة ، وحسبي أنني قدمت الأفكار العامة داعيا طاقات المبدعين من الكتاب أن يفصلوا المجمل وأن يقدموا للناس تصورات مختلفة لتطبيق هذه الوسيلة المهمة .
ومن آمالي أن أرى شبيبة الإسلام تعتمد نهج الشورى في عملها الدعوي دق أو جل ، وتقديم صورة عملية للدعوة المنظمة التي تمارس العمل الدعوي بطرق راقية الأسلوب ، وأن تنبذ العشوائية والاستبدادية ، وأن تعظم آراء أهل العلم وتحترم أفكار المتخصصين ، وأن يسود بينهم الخطاب العلمي في تناول الآراء دون الخطاب العاطفي .
وبعد .. أيضا .. فإن دعوتنا تستحق منا الصمود أمام كل العوائق التي تعوق تطوير أداء الدعاة ، كما تستحق منا أن نؤمن أن نمو ورقي الأساليب الدعوية هو من شروط نجاح الدعـوة نفسها .
فلتَصْفُ القلوب وَتُنَقَّ من أغراضها ، ولْتَعْنُ الوجوه جميعا للحي القيوم ، ولْتَصْطَفَّ الأقدام في جادة واحدة ، وتتشابك الأيدي والسواعد في نسق جامع ، وليكن لسان حال دعاتنا :
هو الحق يحشد أجناده ويعتد للموقف الفاصل
فصفوا الجحافل آساده ودكوا به دولة الباطل
نقلا عن علو الهمة لمحمد بن إسماعيل المقدم حفظه الله ص (264) فما بعدها .
السابق ص (281) فما بعدها .
عن جرير بن عبد الله - رضي الله تعالى عنه – قال : بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والسمع والطاعة والنصح لكل مسلم . رواه البخاري في صحيحه .
أما الحاجي فهو من مهمات المصالح التي لو تُصُوِّر زوالُها لكانت معيشة الخلق قائمة على مشقة غير محتملة ، ولكنها لا تؤدي إلى فوت تلك الحياة وزوالها بالكلية .
وأما التحسيني فهو من مُلَح المصالح بحيث لو تُصُوِّر زوالها لما حصل فوات الحياة ولا حصول المشقة الشديدة ، وإنما هي من قبيل الزينة التي توفر حياة رغدة هنيئة سوية . ( راجع كتاب الموافقات للشاطبي رحمه الله ) .
ومن مرجئة العصر من يقول : ما دام القلب سليما أبيض لا يُكِنُّ عداوة إلى أحد فليس من بأس إن ترك الصلاة والزكاة والصوم أيضا ، فإذا خوصم إلى أدلة الشرع ، قال إن هذه الأمور بينه وبين الله فلماذا يدخل الناس فيما لا يعنيهم ، وإنك لن تعدم في هذا الزمان من يظن نفسه في مرتبة الصديقين لا لشيء إلا أنه يمسك سبحة يلهو بها ، بينما هو من مضمون الإسلام فارغ ، فإلى الله المشتكى من غربة الزمان .
المسار ص18 بتصرف .
وهي عصبية مشروعة ، ومعناها إنكار أي ولاء مطلق إلا الولاء للدين ، ودليله قول الله تعالى : { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ، ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون } وقال تعالى : { ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين } وقال تعالى : { إن الدين عند الله الإسلام } وقال صلى الله عليه وسلم : ( الإسلام يَعْلو ولا يُعْلَى ) رواه البخاري تعليقا بصيغة الجزم وقال ابن حَجَر في الفتح ( 3/220) : قوله : وقال : ( الإسلام يعلو ولا يعلى ) كذا في جميع نسخ البخاري ، لم يعين القائل ، وكنت أظن أنه معطوف على قول بن عباس فيكون من كلامه ثم لم أجده من كلامه بعد التتبع الكثير ، ورأيته موصولا مرفوعا من حديث غيره ، أخرجه الدَّارَقُطْنِيُّ ومحمد بن هارون الرُّوْياني في مسنده من حديث عائذ بن عمرو المزني بسند حسن ، ورويناه في فوائد أبي يَعْلَى الخَليلي من هذا الوجه وزاد في أوله قصة..ثم ذكرها .أهـ
ولن ننسى أن نذكر بأثر الصوفية ومناهجهم في تشويه معالم الدين عبر الإرجاء والجبر الذي لزم كل عقائدهم وانسحب إلى منهجهم العملي في الحياة والتعامل مع مجريات الأمور .
هذا الحكم في الجملة ، وباعتبار التوجهات العامة التي تقرها تلك الحركات الإسلامية بصفة رسمية ، أما ما هو من قبيل الرأي الشخصي الشاذ أو التوجه الفردي المخالف لمنهج أهل السنة لا التوجه الجماعي ، فلا نقيم له في اعتبارنا وزنا ، وإن كان صدوره من الشخصيات الدعوية المرموقة قد يؤثر على النسيج الوحدوي للصحوة الإسلامية .
كما أن احترامنا للحركات الإسلامية على اختلاف توجهاتها لا يمنعنا من توجيه النصيحة إليها أو إلى فرد من أفرادها أخطأ وزل ، وأن نبين عوار الرأي الذي انتحله إذا كان ذاك الرأي مخالفا لإجماع السلف الصالح أو يعارض نصا واضح الدلالة . ولكن يجب أن يسود جو الود والتفاهم والتغافر والتحاب وأن يتأكد حرص الجميع على الروح الجماعية المفقودة .
ما ننظره هنا إنما هو لأجل توحيد مفردات الخطاب الدعوي لكل الحركات والجماعات الإسلامية العاملة ، وسنتحدث عن الطريقة العملية التطبيقية لتوحيد الجهد الدعوي نفسه في الطريقة ( إصلاح ذات البين )
راجع في هذا الصدد ( الأصول العلمية للدعوة السلفية ) للشيخ عبد الرحمن عبد الخالق ، ( واقعنا المعاصر ) للأستاذ محمد قطب .
إن كثيرا من الناس يظن الإخلاص مجرد درجة عالية ومرتبة سامية من مراتب الصلاح والولاية ، وأن الإخلاص ليس أصلا من أصول العبادة وركنا من أركانها ، فالمرء في مجتمع المسلمين اليوم لا يبالي إن تعلم لأجل دنيا أو توظف في سبيل حياة زوجية سعيدة أو تزوج لأجل وجاهة اجتماعية أو أنجب لأجل عزة يتقوى بها ويستند إليها .
بل قليل ما هم الذي يفتشون في أعمالهم عن خفي الشرك وجليه ، وإذا ما صارح نفسه وتبين له بجلاء أن أعماله لم يبتغ بها وجه الله لم يعدم هواه أعذارا جاهزة يقنع بها غروره وغفلته .
الآخِيَّةُ بالمد والتشديد واحدة الأَوَاخِي وهو مثل عروة تشد إليها الدابة وهي أيضا الحرمة والذمة ( مختار الصحاح ) .
أي أنه لا يوجد في الشرع أمر بضرورة التوحد في الآراء وعدم الاختلاف في الأفكار ، إذ هو من المستحيل اعتيادا لتباين العقول وتمايزها ، والأمر بالمستحيل لا يقع في الشرع كما تقرر في أصول الدين والفقه .
وما أحسن أن يتفقه الدعاة في علم الخلاف وأدبه وأن يستنيروا بهدي الإسلام عند وجود الاشتباه ، ومن خير ما صنف في هذا الباب كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله المسمى : رفع الملام عن الأئمة الأعلام ، فإنه فريد في بابه وحيد في طرازه لم يصنف أحد على منواله ، حاشا كتاب : فقه الخلاف بين المسلمين للشيخ ياسر برهامي حفظه الله ، فإنه عالج مسائل شائكة وتخطى حدودا مربكة لا يخوض غمارها إلا الراسخون . ومن المحاولات المنهجية الرائدة في هذا الباب كتاب فقه الخلاف للأستاذ جمال سلطان وكتاب الثوابت والمتغيرات للأستاذ الشيخ صلاح الصاوي .
إن البحث حول تخريج المناط وتحقيقه من أهم المسائل التي يجدر بطلبة العلم والدعاة فهمها على الوجه المطلوب ، إذ أن فهم هذه المسألة الأصولية كفيل بحل إشكالات كثيرة يحصل بها الاختلاف والتهاجر .
وكثيرا ما نجد بعض الدعاة يتبنى في مسألة ( عقدية أو فقهية ) رأيا معينا ، ويتبنى مخالفه نفس الرأي بيد أنه يرى أن حكم المسألة لا ينطبق على بعض أفرادها ( كمثل مسألة كفر الحاكم المبدل لشرع الله ) إذ لا يتمارى اثنان أنه كافر كفرا أكبر مخرجا من ملة الإسلام ، لكن المخالف في تحقيق المناط ( وهو من يرى أن فلانا الحاكم ليس مبدلا ) لا يجوز تجهيله أو تضليله أو تبديعه ، والعكس صحيح أيضا ، لأن كل خلاف سائغ ( وهو ما احتمله الدليل الشرعي المعتبر ) يمنع الإنكار الجافي ، ولكن يستحب النصح الجميل والجدال بالتي هي أحسن .
انظر الاعتصام لأبي إسحاق الشاطبي رحمه الله ( 2/367 فما بعدها ) .
المراد بالمناسب هنا : الوصف الذي يناط به الحكم ، وهو العلة التي يوجد لوجودها الحكم الشرعي وينتفي بانتفائها ، وينقسم المناسب إلى ثلاثة أقسام :
(1) مناسب مؤثر لظهور تأثيره بما اعتبره الشرع به ويدخل فيه ضمنا الملائم .
(2) مناسب غير مؤثر وهو المسمى بالغريب الذي ألغى الشارع اعتباره .
(3) مناسب مرسل وهو ما جهل اعتبار الشارع له بأن لم يدل دليل معين على اعتباره أو إلغائه ، ويسمى بالاستصلاح وبالمرسل وبالمصالح المرسلة ، سمي بالاستصلاح لما فيه من مطلق المصلحة للناس وبالمرسل لإرساله أي لإهماله عما يدل على اعتباره وإلغائه .
مثل حفظ القرآن عن طريق التسجيلات الصوتية ، وبالنسبة للأعمى عن طريق كتابة ( برايل ) البارزة .
يعني ألا ينافي المناسب المقصود أصلا من أصول الشرع ، وألا يكون في مجال التعبدات ، وأن يرجع إلى حفظ ضروري أو رفع حرج لازم في الدين فيكون من باب ما لا يتم الواجب إلا به .
راجع الباب الثامن من الاعتصام ، فإنني اختصرت منه المقصود ، وقد ناقش الشاطبي رحمه الله شبهات المتمسكين بالاستحسان والمصلحة المرسلة في باب الابتداع بما يقطع الطريق على المتساهلين في الابتداع وعلى المتوسعين في التبديع .
راجع الباب السادس من الاعتصام .
راجع آخر الباب السابع من الاعتصام .
ولا ينبغي أن يفهم من كلامنا أو كلام الشاطبي التهوين من أمر البدعة ، ولكن لما كان يترتب على فهم مراتب البدعة في الدين عمل مهم كالبراء والإنكار والتعاون مع المخالف في أمور أخرى لزم بيان هذه المراتب وأنه لا يجوز التسوية بين كل أنواع البدع لما يترتب على ذلك من مفاسد دعوية وحركية .
أربأ بك أيها القارئ أن تظن من كلامي أن الرعيل الأول لم يحترف الدعوة إلى الله تبارك وتعالى ، بل المقطوع به أنه ما من جيل بذل وضحى في سبيل دينه مثل جيل الصحابة والتابعين ، ولكنني ضربت المثال بحركات التنصير لأمرين :
الأول : أن جهودهم تتزامن مع بدء إرهاصات الصحوة الإسلامية في أواخر القرن الثامن عشر حيث ظهرت الحركات الإصلاحية العملاقة مثل حركة محمد بن عبد الوهاب السلفية في جزيرة العرب ، والحركة الإصلاحية العلمية في الشام والهند واليمن ومصر .
الثاني : أن في ذلك تحفيزا لغيرة المؤمنين على دينهم .
اللغة التايلندية من اللغات الآسيوية الحية المتفرعة عن السنسكريتية ( الهندية القديمة ) وهي لغة صعبة جدا ، ويتحدث بها قرابة ستون مليون شخص أو يزيد ، وهي ليست لغة عالمية ، كما أن حروفها تبلغ أربعة وأربعين حرفا ، وتعتمد على حركات المدود ولهجات الحـروف . والمتعجب منه : كيف أنه استطاع أولئك المنصرون تعلم هذه اللغة الصعبة ودعوة الناس بها ، وفي المقابل كان هناك بعض الدعاة العرب الذين احتاجوا لأكثر من عشر سنين ليتعلموا هذه اللغة ويدعوا الناس بها .
وأكثر من حفل بهذا العلم ( علم الآداب ) هم الحنابلة ، فلقد كان علماؤهم أكثر الناس تصنيفا في هذا العلم ، ويمكنك مطالعة جهدهم في هذا الصدد كتاب ( المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل ) لعبد القادر بدران ، ونذكر من كتب الحنابلة في علم الآداب : كتاب الآداب الشرعية لابن مفلح وغذاء اللباب في شرح منظومة الآداب للنابلسي .
راجع الطريقة الثلاثون لخدمة الدين ( المؤتمرات ) .
ولا نقصد جحود جهاد الطلب الذي أجمع عليه كل من صنف فقه الجهاد ، وهو أن يخرج إمام المسلمين كل زمان مقدر ليجاهد الكفار ويرفع راية الدين . ولكن قصدنا بكلامنا هذا إثبات أن الإسلام قد يكون مآله إلى قلوب العالمين في هذه الأيام – حيث المسلمون مستضعفون – بالدعوة والقدوة وإصلاح الخلل والمشكلات التي تورطت فيها البشرية عبر أحكام الشرع المطهر .
أي تبقى في مكة ، وكانت هذه الحادثة بعد فتح مكة ، ومرض سعد وخشي أن يبقى بمكة ويتخلف عن اللحاق برسول الله صلى الله عليه وسلم فبشره الرسول صلى الله عليه وسلم أن التخلف ليس بمقعد إياه عن العمل النافع المقارن للنية الصالحة فيحصل له السبق وإن لم يرجع إلى دار الهجرة مع النبي صلى الله عليه وسلم .
تهذيب مدارج السالكين : (1/515) فما بعده .
قال النووي في روضة الطالبين (11/94) : فرع : ما ذكرناه هو حكم الطلب بلا بذل ، فلو بذل مالا ، قال ابن القاص وآخرون : إنه حرام وقضاؤه مردود ، والصحيح تفصيل ذكره الروياني : وهو أنه إن تعين عليه القضاء أو كان ممن يستحب له فله بذل المال ولكن الآخذ ظالم بالأخذ ، وهذا كما إذا تعذر الأمر بالمعروف إلا ببذل مال وإن لم يتعين ولم يكن مستحبا جاز له بذل المال ليتولى ، ويجوز له البذل بعد التولية لئلا يعزل ، والآخذ ظالم بالأخذ ، وأما بذل المال لعزل قاض فإن لم يكن بصفة القضاة ( أي لم يكن أهلا للقضاء ) فمستحب لما فيه من تخليص الناس منه ولكن أخذه حرام على الآخذ ، وإن كان بصفتهم ( أي أهلا للقضاء ) فحرام ، فإن فعل وعُزل الأول ووَلِيَ الباذل قال ابن القاص : توليته باطلة والمعزول على قضائه ، لأن العزل بالرشوة حرام ، وتولية المرشي ( كذا ) والراشي حرام وليكن هذا عند تمهد الأصول الشرعية ، فأما عند الضرورات وظهور الفتن فلا بد من تنفيذ العزل والتولية جميعا كتولية البغاة . أهـ
انظر فتح القدير للشوكاني (3/491) .
على وزن اسم الفاعل ،هو الأول في الخيل المتسابق .
هو التريث في الخطو ، والتمهل في المشي .
المسار ص 9 .
أن يجهر بالجرم .
علو الهمة للشيخ محمد إسماعيل ص 141 . وإنما أوردنا قول الإمام علي رضي الله عنه دون غيره لأن له شاهدا وثيق الصلة بما نحن فيه ، وهو قوله في الصنف الثالث : وهمج رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح ، لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجئوا إلى ركن وثيق . وفي كلماته تراه يصف واقع الأمة في كل زمان ومكان ، فالمسلمون لم يؤتوا إلى من الجهل والجهلاء ، تقوض ركن العلم فانهدم بنيان العدل حيث فقد من يحرسه ، وتوصيفه للفئة الثالثة بأنهم أتباع كل ناعق : طارت مثلا ، وهو وصف لا تخطئه عيناك في المجتمعات المتخلفة التي ليس لها العقل المكتسب الذي تميز به الظالم من العادل ، وقوله : يميلون مع كل ريح ، صفة لازمة لمن لا شخصية له ، وهيئة راسخة فيمن تقولب في تمثال غيره لأنه لا شيء أو أنه شيء ليس له كيان أو طعم أو لون أو رائحة شأن كثير من الموائع الهلامية ! وقوله : لم يستضيئوا بنور العلم ، قد يظهر أنه وصف مؤكد ، والحق أنه وصف كاشف ، والمقصود بيان حماقة الـراغبين عن العلـم ، وأنهم يعشون في ظلمة ويبصرون النور ولكنهم { ينهون عنه وينأون عنه وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون } . وقوله : ولم يلجئوا إلى ركن وثيق ، يشعر أن قليل العلم لا يكفي في العصمة من الضلالة والغواية ، وأن الاستزادة منه سبيل الجادين في النجاة والرغبة في الفوز .
يراجع في فضله وفضل طلبه وشرف العلم والعلماء وآداب طلب العلم : جامع بيان فضل العلم وأهله لابن عبد البر بتحقيق شيخنا أبي الأشبال الزهيري أو صحيح جامع بيان فضل العلم وأهله للمحق السالف ، وفضل العلم وآداب طلبه للشيخ الأديب المتفنن محمد رسلان ، ومن زبد ما صنف في هذا الصدد حلية طالب العلم للعلامة الشيخ بكر أبو زيد .
راجع في كتاب : علو الهمة للشيخ الرباني محمد إسماعيل حفظه الله علو همة السلف الصالح في طلب العلم ، وكذلك ما سطره يراع الداعية الأديب الرفيق سيد العفاني في كتابه : صلاح الأمة في علو الهمة ، فقد أدى بالعجب العجاب ، وأوصيك بكتاب : قيمة الزمن عند العلماء للشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله .
نحو المعالي ( سلسلة رسائل العين ) ص 82 .
راجع علو الهمة للشيخ محمد إسماعيل ( الباب الرابع : الفصل الأول : علو همة السلف في طلب العلم ) .
وموسوعية العالم أو الشيخ لا تشفع في تخريج طلبة العلم الأقوياء في مادتهم ، لأنه بتنقله وعدم مواظبته على علم واحد وعدم تدرجه في تلقين المادة سيجد أن الطلبة حصلوا علوما غير متناسقة وأفكارا غير مرتبة ، فتقل الاستفادة أو تنعدم . وما زال سلفنا وعلماؤنا – بَلْهَ مناج التعليم الحديث – تنصح بالتدرج والانتقاء ومراعاة المستويات في العملية التعليمية ، ولهم في ذلك عبارات شهيرة مثل قولهم : من ثبت نبت ، وما ورد عن بعضهم في تفسير قوله تعالى : { كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون } قال : يعلمون صغار العلم قبل كباره .
هو اسم القاموس المعروف في اللغة للإمام الفيروزبادي .
وفيهم ولأجلهم صنف الشيخ العلامة محمد إسماعيل كتابه : الإعلام بحرمة أهل العلم في الإسلام .
وفيهم ولأجلهم صنف الشيخ العلامة بكر أبو زيد كتابه : التعالم .
أما اشترطه البعض من ضرورة الرواية وعدم الاعتداد البتة بمن أخذ علمه من المطالعة فهذا في زمن الاختيار ، وزماننا يحتاج إلى فقه النوازل الذي يعتبر الضرورة ويلحظ المصلحة بالأخذ ما يحصلها أو يتممها ، ويراقب المفسدة بالأخذ بما يدرؤها أو يقللها . ويمكن لمن عدم الشيوخ بمرة أن يستعيض بأشرطة أهل العلم في شرح الكتب ليحصل الدربة على كيفية مطالعة الكتب وفهم عبارات المصنفين القدماء . وله أصل عند المحدثين وهو الرواية بالوجادة ، قال السيوطي في التدريب ( 2/60 فما بعده ) : القسم الثامن الوجادة ، وهي مصدر لوجد مولد غير مسموع من العرب ، وهي أن يقف على أحاديث بخط راويها لا يرويها الواجد فله أن يقول وجدت أو قرأت بخط فلان أو في كتابه بخطه حدثنا فلان ويسوق الإسناد والمتن ، أو قرأت بخط فلان عن فلان ، هذا الذي استمر عليه العمل قديما وحديثا ، وهو من باب المنقطع وفيه شوب اتصال ، وجازف بعضهم فأطلق فيها حدثنا وأخبرنا ، وأنكر عليه ، وإذا وجد حديثا في تأليف شخص ، قال : ذكر فلان ، أو قال فلان : أخبرنا فلان ، وهذا منقطع لا شوب فيه ، وهذا كله إذا وثق بأنه خطه أو كتابه ، وإلا فليقل : بلغني عن فلان أو وجدت عنه ونحوه ، أو قرأت في كتاب أخبرني فلان أنه بخط فلان ، أو ظننت أنه خط فلان ، أو ذكر كاتبه أنه فلان أو تصنيف فلان ، أو قيل بخط أو تصنيف فلان ، وإذا نقل من تصنيف فلا يقل قال فلان إلا إذ وثق بصحة النسخة بمقابلته أو ثقة لها ( أي : أو بمقابلة ثقة لها ) ، فإن لم يوجد هذا ولا نحوه فليقل بلغني عن فلان أو وجدت في نسخة من كتابه ونحوه ، وتسامح أكثر الناس في هذه الأعصار بالجزم في ذلك من غير تحر ، والصواب ما ذكرناه ، فإن كان المطالع متقنا لا يخفى عليه غالبا الساقط أو المغير رجونا الجزم له ، وإلى هذا استروح كثير من المصنفين في نقلهم ، أما العمل بالوجادة فنقل عن معظم المحدثين المالكين وغيرهم أنه لا يجوز ، وعن الشافعي ونظار أصحابه جوازه ، وقطع بعض المحققين الشافعيين بوجوب العمل بها عند حصول الثقة ، وهذا هو الصحيح الذي لا يتجه هذه الأزمان غيره .أهـ
وأسأل الله عز وجل أن ييسر لي تجميع وترتيب المادة العلمية لهذا المنهج والبحث ، حيث نأت الديار عن أصول هذا البحث ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
إن طرافة هذا الأمر تذكرنا بموجة المدارس النموذجية التي كانت تتسمى بها المدارس في البلاد العربية ، ولم تكن في الواقـــع إلا مدارس أفضل من غيرها ، أما كونها نموذجية بمعنى رقي مستواها وارتفاع قدرها فهذا ما لم يكن له ضابط ولا رابط في تاريخنـــا الحـديث .
وقد أنعم الله على الصحوة المباركة في هذا الزمان برجال ما فتئوا يعيدون أمجاد السلف ويحيون بين الناس سيرتهم فكانوا مشاعل هدى لكل البشر ، وعم بهم الخير والنفع ، أمثال الشيخ الإمام القدوة الوالد العلامة الشيخ أسامة عبد العظيم والشيخ الإمام المتفنن القدوة العلم : محمد بن إسماعيل ، شيخ الثغر السكندري ، والشيخ المحدث العلامة أبي أسحق الحويني الأثري وأسد المنابر الخطيب المصقع الشيخ الهمام محمد حسان والشيخ القدوة المربي الوالد الشيخ محمد حسين يعقوب والشيخ المتفنن الفقيه الحاذق محمد عبد المقصود والشيخ المحدث العلامة مصطفى العدوي والخطيب الجلد الهصور الشيخ فوزي السعيد والداعية المحدث الشيخ أسامة القوصي وبقية السلف وقدوة الأنام وحسنة الأيام الشيخ الرباني أبي ذر القلموني والقدوة المربي المجاهد الداعية المتفنن الشيخ ياسر برهامي والشيخ الداعية العلم : سعيد عبد العظيم ، والداعية المناضل الشيخ عمر عبد الكافي ، والشيخ المجاهد العلامة الصابر سلمان بن فهد العودة والشيخ المتفنن الداعية المجاهد سفر الحوالي وغيرهم ممن كانت لهم بصمة واضحة على صرخ الصحوة الشامخ ، وممن وقفوا وقفة صامدة في أوجه الطغاة يبلغون الحق ويربون الخلق ويصبرون على لأْوَاءِ الطريق ، فك الله أَسْر الجميع من قبضة الطغاة الظالمين .
التواضع والخمول لابن أبي الدنيا ص 27 .
أي يشير بأصبعه يدعو بها .
سير أعلام النبلاء ، ترجمة محمد بن واسع رحمه الله .
رواه هناد بن السري في كتاب الزهد (1/283) .
ننصح بكتاب النصيحة في الأذكار والأدعية الصحيحة للشيخ محمد إسماعيل حفظه الله .
كتاب النبوءة والسياسة ( الإنجيليون العسكريون في الطريق إلى الحرب النووية ) تأليف : غريس هالسل . ترجمة : محمد السماك . ص 68 .
هذا الكلام نخص به من يجادلون في أن الرسول صلى الله عليه وسلم أقام دعائم الدولة الإسلامية والحكم الشرعي ، ويريدون أن يثبتوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم في حقيقة الأمر لم يكن إلا رسولا كما قال هو عن نفسه ، ولا شك أن هذه مغالطة منشؤها الخطأ في فهم مقصود الرسول صلى الله عليه وسلم ، وعدم الاستدلال بالنصوص الأخرى القاطعة في هذا الصدد .
ومنه قوله تعالى : ( وأن احكم بينهم بما أنزل الله ) وقوله : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك في ما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ) . وقد أجمع العلماء على أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بين الناس بالشرع المطهر ، وحكم بينهم بمقتضى نصوص الوحي التي نزلت إليه ، وأن ذلك لم يقتصر على شئون العبادة ، بل تجاوز إلى كل شئون الحياة كالسياسة والاقتصاد والأحوال الشخصية وأحكام السلم والحرب .
تفسير القرطبي (12/73) . والمقصود أن الناس لا يجب عليهم أن يأمروا السلطان والعلماء لأنهم مأمورون بأصل الشرع ، بل هو مستحب ، وقد يتجه القول بالوجوب في حال جهل السلاطين والحكام وغفلة العلماء وخوفهم ، فالتذكير أمر عام ينفع الله به كل المؤمنين كما قال تعالى : { وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين } .
تأمل ما يلي : - ثروة الرجل 100 مليار دولار ( أي مائة ألف مليون دولار ) .
- له مؤسسة خيرية مستقلة عن شركاته التجارية تعمل في المجالات الخيرية .
- أنه يعتزم ولم يتبرع بعد .
- أن وازع التبرع التأثر بمرضى الملاريا والإيدز ( نفس عواطف المنصرين ) .
- أن مؤسسته تحتل الترتيب الخامس عالميا في حجم الاستثمارات .
- أنه سيعلن عن مشروعات مالية تجعل مؤسسته في المرتبة الأولى .
- أن مؤسسته تبرعت ( في إحدى تبرعاتها ) بـ18 مليون دولار لجامعة كيمبردج البريطانية . ( فكيف بالتبرعات الأخرى ؟!!) .
وفي النفس حاجات وفيك فطانة سكوتي كلام عندها وخطاب
إن المؤسسات الخيرية الغربية ( ومما يصنف معها : المؤسسات التنصيرية ) لا تنتظر مجيء الإحسان إليها ، بل تبادر بالاتصال بكل من تعلم مقدرته على الإنفاق والبذل حتى لو كان عدوا لها ، ولدى تلك المؤسسات أجهزة استشارية في كيفية تحصيل التبرعات ، ومن وسائلها إعداد بيان بالمشروعات المراد تنفيذها والمبالغ المطلوبة لتنفيذ المشروعات ، وليس بخاف أن كثيرا من تلك المؤسسات تتلقى تبرعات من كثير من المسلمين الجاهلين بمصارف تلك المؤسسات .
قال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/324) : رواه البزار وفيه صادق بن عمار ، قال البخاري : لا يتابع على حديثه وبقيه رجاله رجال الصحيح . أهـ وقد صححه الشيخ الألباني في الصحيحة رقم 1664 . والمعونة القوت .
المسار لمحمد أحمد الراشد ص 137 .
من الشائع في ألسنة العامة : الرجوع إلى الحق فضيلة ، وقد سرى معنى هذا المثل في قلوب الناس حتى غدا عقيدة اجتماعية ، وأصبح الرجوع إلى الحق عند الناس متروك لاختيارهم ومروءتهم ، بينما الشرع يقرر أن الإعراض عن الحق اتباع للهوى ، واتباع الهوى يضل عن سبيل الله ، قال تبارك وتعالى : { يا داود إنا جعلناك خليفة فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله } .
إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يجاهد إلا حينما أذن له الله تبارك وتعالى ، وكانت مراحل تقنين الجهاد توحي بأن المسلمين لم يكلفوا بمرحلة إلا بعد أن استوفوا إمكانياتها ، فكانت مرحلة الدفع أولى المراحل ، كما قال تعالى : { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير . الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله } ، وكان هذا في بداية العهد المدني ، كما نلاحظ أن الجهاد لم يفرض في مكة قط لانعدام القدرة ، بل أمروا بكف الأذى والصبر ، كما قال عز وجل : { ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية } ، ثم فرض بعد ذلك جهاد الطلب لما استحكم الإعداد وتهيأت العدة ، قال تعالى : { واقتلوا المشركين حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم } . ولا ينبغي أن نمتري أن القدرة شرط ظاهر وواضح في كل تكاليف الشرع عامة ، وفي التكاليف الشاقة التي تتطلب إعدادا وعدة من باب أولى . والقدرة تتفاوت بين المكلفين ، ولها – أي القدرة – أثر في تحديد مراحل الجهاد ومستوياته ، وأوضح دليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم بعد صلح الحديبية : ( الآن نغزوهم ولا يغزونا ) . ولنختم بكلام شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا الصدد ، حيث قال رحمه الله في الصارم المسلول (2/413) : فكان ذلك عاقبة الصبر والتقوى الَّذين أمر الله بهما في أول الأمر ، وكان إذ ذاك لا يؤخذ من أحد من اليهود الذين بالمدينة ولا غيرهم جزية ، وصارت تلك الآيات في حق كل مؤمن مستضعف لا يمكنه نصر الله ورسوله بيده ولا بلسانه ، فينتصر بما يقدر عليه من القلب ونحوه ، وصارت آية الصغار على المعاهدين في حق كل مؤمن قوي يقدر على نصر الله ورسوله بيده أو لسانه ، وبهذه الآية ونحوها كان المسلمون يعملون في آخر عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى عهده خلفائه الراشدين ، وكذلك هو إلى قيام الساعة ، لا تزال طائفة من هذه الأمة قائمين على الحق ينصرون الله ورسوله النصر التام ، فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف أو في وقت هو فيه مستضعف فليعمل بآية الصبر والصفح عمن يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين وبآية قتال الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون .أهـ
وما جاء في صحيح مسلم بعد روايته للحديث عن ابن سهم قال عبد الله بن المبارك فنرى أن ذلك كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . فهذه عبارة قلقة مجملة تحتمل أكثر من معنى ، فقد يكون المراد أن وجوب أحد الأمرين كان على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأن من جاء بعده يجب عليه الغزو بالفعل و لا يجزئه حديث النفس . أو يكون المعنى أن عدم الغزو وإرادته من علامات النفاق على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ، أما بعد ذلك فليس نفاقا بل معصية أو كبيرة ، إذ الفرار من الزحف كبيرة كما ورد في الأحاديث . أو يكون المراد أن وجوب أحد الأمرين كان واجبا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط ، أما بعد عهده فليس بواجب ، وهذا الأخير إن صح فيحمل على جهاد الطلب الذي هو فرض كفاية ، وهو الذي يقوم به المسلمون حال التمكين والقوة ، أما جهاد الدفع فهو فرض عين ، لا يسقط إلا بالعجز المتحقق لا بالعجز المظنون المتوهم ، والجهاد بكل أنواعه بالقلب واللسان واليد والمال – من نوع جهاد الدفع الذي هو فرض عين لا يحل لمسلم أن يتخلف عنه . والله الموفق .
ونوصي بكتاب : الجهاد للدكتور وكتاب تحصيل الزاد في الجهاد للشيخ سعيد عبد العظيم .
أنصح بكتاب السياسة الشرعية لشيخ الإسلام ابن تيمية ، والأحكام السلطانية لأبي يعلى في بيان أحكام المحتسب والقاضي ، والطرق الحكمية لابن القيم ، ومن المعاصرين رسالة مختصرة نافعة باسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للشيخ ياسر برهامي .
على رأسهم الشيخ يوسف البدري والمستشار محمد صميدة الذي قام برفع الدعوى ضد كثير من تلك المنكرات في المحاكم .
وقد يتطلب الأمر تغليظا في الكلام وخشونة في اللفظ ، وعند ترتب المصلحة على ذلك فلا مانع من القيام به .
في بعض الأحايين يوجد بعض السائقين الذين لا خلاق لهم في دين الله تبارك وتعالى ، وقد يوقف السيارة ويقول : ليس عندي استعداد لإغلاق هذه الأغنية ، ابحث لك عن سيارة أخرى ، وقد يتطاول البعض ويستخدم البذئ من الألفاظ ، ومثل هؤلاء لا طائل من الإنكار عليهم ، فهؤلاء لن ترهبهم إلا دِرَّةُ عمر وعصاه ، ولكن ينبغي أن يبذل له النصح ثم يترك له السيارة بالمنكر الذي فيها ولسان حاله يقول : ( معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون ) .
روى البخاري عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم – ومعاذ رديفه على الرحل – قال : ( يا معاذ ابن جبل ) قال : لبيك يا رسول الله وسعديك . قال : ( يا معاذ ) قال : لبيك يا رسول الله وسعديك ( ثلاثا ) . قال : ( ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صدقا من قلبه إلا حرمه الله على النار ) قال يا رسول الله أفلا أخبر به الناس فيستبشروا ؟ قال : ( إذا يتكلوا ) . وأخبر بها معاذ عند موته تأثما .
قال الحافظ ابن حجر في الفتح ( 1/272) : وممن كره التحديث ببعض دون بعض : أحمد في الأحاديث التي ظاهرها الخروج على السلطان ، ومالك في أحاديث الصفات ، وأبو يوسف في الغرائب .. وعن الحسن أنه أنكر على أنس تحديث الحجاج بقصة العرنيين لأنه اتخذها وسيلة إلى ما كان يعتمده من المبالغة في سفك الدماء بتأويله الواهي .أهـ
أعني بها ادعاء اليقين بنصر الله ، واستعراض مظاهر التوكل على الله بالعزوف عن الأسباب .
الدليل البصير بالدروب الآمنة ليسلكها والخطرة ليتجنبها .
قد بدأت بعض المحاولات الجيدة التي أصبح لها وجود حقيقي بعد أن كانت حلما من أحلام الكرى ، حيث تأسست قناة تليفزيونية تتبنى عرض البرامج الدينية النافعة غير المخلة ، واسمها قناة ( اقرأ ) بيد أن هذه القناة – فيما لاحظت من إعلانات برامجها – أن لديها فصاما في الجانب التأصيلي الفقهي ، حيث تستجيز القناة عرض المسلسلات - التي تسمى بالدينية - والتي يقوم بأداء الأدوار فيها ممثلون معروفون بدورهم الداعر في إفساد المجتمع من خلال أفلام ومسلسلات أخرى .
ولا يجوز أن تنساق المشاعر الإسلامية الصادقة وراء الوسائل المبررة بالغايات ، وإلا أصبحت الجهود كأنها خبط عشواء أو خطو عمياء ، كما أن بعض تلك المسلسلات – التي تسمى دينية – تحوي تشويها متعمدا للتاريخ الإسلامي ، وترسم صورة كاذبة عن حياة السلف الصالح رضوان الله عليهم ، مما يعني مزيدا من الانحراف الفكري بل مزيدا من المسخ والتدمير لعقلية المسلم والمسلمات المستقرة في وجدانه وضميره .
وقد تمكنت بعض الشركات من إنتاج أفلام كرتون هادفة مثل : محمد الفاتح وقصة أصحاب الأخدود ، خالية من أية مخالفات شرعية : مثل العنصر النسائي أو الموسيقى ، بالإضافة إلى رصانة الحوار وجمال العرض وقوة التأثير .
جاء في كتاب ( تسريع القراءة ) لمؤلفه لوري روزاكس ما يلي : الطبعة الواحدة من صحيفة نيويورك تايمز تحتوي على معلومات تفوق ما تعلمه شخص في القرن السادس عشر طوال حياته ويصدر خمسون ألف كتاب في الولايات المتحدة سنويا . وتصدر حاليا عشرة آلاف مجلة في الولايات المتحدة وتصدر سبعة آلاف دراسة علمية يوميا في أنحاء العالم .
لا يحتاج إلى بيان أننا لا ننكر مبدأ التكسب من التأليف والنشر ، ولكننا نحارب من يتكسب بدون مقابل ، أو يربح بالغش والخداع والتغرير واستغلال سذاجة الناس ، ومصيبة الكتاب في هذا الزمان أن ابتلي بمجتمع لا يحترمه ، فالقراء قليلون ، والقليل منهم من يتذوق ما يقرؤه ، وأقل القليل من يعمل بما قرأه وعلمه ، فأضحى الكتاب غريبا لا يجد من يدافع عنه وينافح عن قضاياه .
واتحاد الناشرين والكتاب والأدباء .. وهلم جرا صارت لا تغني فتيلا ولا تنفع قطميرا ، إذ لم يعد هَمُّهم إلا الدفاع عن الملحدين والشيوعيين والعلمانيين ومؤلفي الروايات الماجنة والأشعار المنحلة والقصائد المختلة ، ومع أن الكتاب الإسلامي أثبت تفوقه وصدارته بالنسبة لعدد القراء والكمية المطبوعة ( كما تثبت إحصائيات معارض الكتب في الدول الإسلامية قاطبة ) فهو لا يجد من يدافع عن حقوقه ضد المغتالين والخائنين .
المسار ص 374 فما بعدها .
فد منعتها الحكومات بالفعل ، فكأن الأستاذ حفظه الله كان ينظر إلى الغيب من ستر خفي ، ولكن الفرصة ما زالت سانحة لتكوين شركات إعلامية بترخيص حكومي معتمد ، وقد انتشرت بفضل الله مثل هذه الشركات ذات التوجه الإسلامي ، وتعمل بجد على نشر الشريط الإسلامي ، وتساهم بدور فعال في نشر الثقافة الإسلامية وإعلاء مفردات الخطاب الدعوي للصحوة الإسلامية ، ولكنها تحتاج – ولا ريب – إلى التنسيق فيما بينها وإلى تبني استراتيجية موحدة بدلا من التنافس التجاري المقيت الذي سيؤدي والعياذ بالله إلى ما لا تحمد عقباه .
ولا يفهم من قولنا : المسائل المصيرية : في المجال السياسي والاجتماعي كقضية القدس وتطبيق الشرع ومحاربة إدمان المخدرات ونحو ذلك فحسب ، بل المراد المسائل التي تعد من مهمات الدين إجمالا ، كالصلاة والحجاب ونحو ذلك ، ونشر كتيب عن وجوب اللحية مثلا لن يكون زخما ثقافيا كاذبا إذا اعتبرناه إحياء لسنة مهجورة ، ودعوة إلى المفاصلة الأخلاقية والاجتماعية للمشركين .
ننصح بكتاب ( العرب وعصر المعلومات ) إصدار سلسلة عالم المعرفة ، وزارة الثقافة بدولة الكويت .
يرى الكثير من الدعاة أن توحد الجماعات الإسلامية في هذا الوقت العصيب الذي تمر به الأمة الإسلامية يواجه صعوبات جمة ، كما أن تربص أعداء الدين بتيارات الصحوة المختلفة أكسبها وجلا من محاولة إعلان التوحد لئلا يؤدي إلى حملة استئصالية لكل تيارات الصحوة . ولا شك أن هذه النظرة تحوى بعض الوجاهة ، ولكننا لا ينبغي أن نرضى بهذه الحال ، وأن يكون عملنا منصبا في تهيئة الجو المناسب لإحداث هذه الوحدة ، لا أن نرضى بهذا الوهن والهوان ، ثم نمضي في طريق تأصيل الخلاف والتهاجر ، فهذا والله مما لا يرضي الله تبارك وتعالى ، ونحن نبرأ إلى الله تبارك وتعالى من خلاف مبني على الهوى ، ونبرأ إلى الله من كل من يحاول الوقيعة بين المسلمين ، ويعمل على تأجيج نار الفرقة بينهم ، وهؤلاء لعمر الله أضر على الأمة من أعدائها الحقيقيين ، فإلى الله المشتكى ، وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
فكل إناء بما ينضح ، والفرد في المجتمع ما هو إلا كيس يتلقى ما يلقى فيه ، فهو إن مر بتلك السلسلة التي ذكرناها فلم يجد من يدعوه أو تخاذل الدعاة عن دعوته فسيجد من يملأ كيسه بقضايا أخرى ، ولربما كانت تلك القضايا تصب في العداء للدين ، ويكون الخسران المبين عاقبة الذي قصروا في إيصال الحق إلى الخلق لظنهم أن كلمتهم لا تفيد ، والواقع أن الكلمة الواحدة لا تفيد ، ولكن كلمة منك وأخرى من غيرك ستجعل للمدعو رصيدا ينهض بإيمانه ويدفع بيقينه ليسامت العليين ، وما أدراك ما عليون .
في أواخر القرن السابع عشر تقريبا دفع أحد رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية بمحام يسمى هيوستن إلى مقاطعة من المقاطعات المجاورة للولايات المتحدة ، وقال له : إن أمريكا تحتاج إلى تلك المقاطعة ، وليس عندي من مال ولا عتاد ما أمدك به لتأتي إلي بهذه المقاطعة ، فجمع هيوستن ثيابه وذهب إلى تلك المقاطعة واستأجر مكتبا للمحاماة ، وفي بضع السنين عبر محاوراته ومقالاته في الصحف ومداولاته مع الوجهاء أقنع شعب تلك المقاطعة أن يطالب الانضمام إلى الولايات المتحدة ، وقد حدث المتوقع وتم الاستفتاء ، وضمت تلك الولاية التي سموها بولاية هيوستن امتنانا لجهود ذلك المحامي الذي لم يطلق رصاصة واحدة في سبيل ضم مقاطعة تعادل مساحتها مساحة نصف مساحة فلسطين تقريبا ، فهل من مدكر ؟!! ( الخبر مذكور في صناعة الحياة للراشد فليراجع ) .
قال صلى الله عليه وسلم : ( أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء ولو كان محقا ) وحمله العلماء على الجدال غير المثمر ، أو الجدال مع من حصل اليقين بعدم استجابته وعناده ، جمعا بين هذا الحديث وبين قوله تعالى : { قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين } المفيد لجواز الجدال .
فقد كتب الله النصر لمن خلا من ذلك كله ، قال تعالى : { تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين } .
اقرأ كتاب الدعوة المؤثرة للأستاذ جمال ماضي ، وفقه الدعوة الفردية للدكتور علي عبد الحليم محمود .
إن بعض الدعاة للأسف الشديد يتعامل مع الشباب بسذاجة شديدة ، ويظن أنه بنصيحة عابرة يمكنه أن ينجب لنا صلاح الدين الأيوبي ، والواقع الأليم يشهد بأن مشكلات الشباب صارت من التعقيد بمكان بحيث لا تحتمل الدور الدعوي الهزيل الذي كنا نقوم به أيام كانت الفتن تمشي الهوينى ، بل يحتاج الأمر إلى معاجلة خاطفة ومعالجة راقية تتناسب طردا مع حجم الفتن التي يتعرض لها الشباب ، وقد أسر إلي الكثير من الشباب بأنهم كانوا على شفير جرف هار ، وكانوا يحتاجون إلى يد قوية وعزم أكيد يجتث لوثة الفجور من قلوبهم ولكنهم وجدوا برودة من بعض الدعاة في فهم حجم مشكلاتهم ، بل برودة في علاجها ، إلى القدر الذي حملهم على تفضيل المضي في الفجور عن أن يخوض تجربة نسك غير واضحة المعالم .
نعم .. إنه واقع أليم يجب أن نعترف به قبل أن نبدأ العلاج ، وإلا فلا علاج ، إننا على وشك الدخول في قول الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول ، وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون } ، إن لم نكن دخلنا بالفعل .
ودعوة الشباب لا بد لها من التصور الواضح الذي ذكرناه ، يجب أن يحدد المربي المراحل التربوية التي سيقوم بها مع الشاب ، ويحدد كل مرحلة متطلباتها ويتوقع مشكلاتها ، ولا يظل أسير ردود الأفعال والظروف ، ثم إن ذلك المربي يطور نفسه ويبحث كل يوم عن أفضل السبل للرقي بمستوى من يربيه ويعنى بشأنه .
ومن صفات المربي الصادق أن يعتقد أبوته لكل من يربيه ، فيسبغ عليهم من الشفقة والحرص مثل ما يسبغ على نسله بل أكثر ، وليس بمرب من يرى أبناءه صرعى الفتن والشهوات وهو عن ذلك عَمٍ وغافل .
إن المربي الصادق من يأرق في الليل من حال من أسرته فتنة ، ويضنيه رهق إيماني ألم ببعض من يربيه ، وتَهْمِي عبراته إذا رأى شبيبة الإسلام يتخنثون وعن نهج محمد صلى الله عليه وسلم يتنكبون .
تكاد تتفق كلمة دعاة العصر في القطر المصري على تثمين الدور التربوي الرائد الذي يقوم به الشيخ محمد حسين يعقوب – حفظه الله – وقد كتب الله له من القبول لدى قلوب الشباب ما نسأل الله أن يجعل شهادة صدق في الدنيا قبل الآخرة ، والله لا يضيع أجر المحسنين .
وأضرب مثلا بكتاب الشيخ محمد حسين يعقوب : ( كيف أتوب ؟!! ) وكتاب ( إلى الهدى ائتنا ) له أيضا ، وكتاب : ( أريد أن أتوب ولكن ! ) للشيخ المنجد ، وكتاب : ( علو الهمة ) للشيخ محمد إسماعيل .
ولا شك أن هناك كثير من الكتب التي عنيت بالجانب التربوي للشباب ، ولكنها تفتقد لسمات ضرورية حتى تؤتي أكلها ويبدوا صلاحها ، أهما : الاختصار وعدم التطويل ، والتركيز والوضوح في طرح المشكلات ، والصراحة وعدم المواربة في علاجها ، والشباب لا يعجبهم اللف والدوران – كما يقال – فحري أن نخاطبهم بما يعرفون ويعقلون ويفكرون .
من أوسع وأدق ما صنف في مشكلة انتكاس الملتزمين كتاب سماحة الوالد الشيخ محمد حسين يعقوب : إلى الهدى ائتنا ، وفيه أتى كثير من أسباب الانتكاس في عصرنا وعالجها علاجا شرعيا محكما فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيرا .
وفي كتاب : عودة الحجاب للشيخ محمد إسماعيل نماذج فذة من نساء السلف ممن ضربن المثل في البطولة والريادة ، حري بنساء هذا الزمان أن يقتدين بهن .
نذكر من هؤلاء الدكتور عبد الكريم زيدان حفظه الله الذي ألف الموسوعة الفقهية للأسرة المسلمة ، والتي حاز لأجلها جائزة الملك فيصل رحمه الله ، وكذلك الشيخ المحدث مصطفى العدوي الذي ألف موسوعة أحكام المرأة ، وتضمنت أحكام النكاح والطلاق والزينة والحجاب وغير ذلك مما ينبئ عن تضلع الشيخ حفظه الله من أحكام الشريعة .
قد أفتى بعض أهل العلم لامرأة زوجها تارك للصلاة أنه لا يجوز أن تمتنع عن إعطاء زوجها حق الفراش لأنه تارك للصلاة ، وذلك أن تارك الصلاة فاسق – عند ذلك المفتي – والصحيح أن المرأة يجوز لها أن تعزر زوجها وتمنعه بعض الحقوق إذا امتنع عن أداء حقوقها فحقوق الله تبارك وتعالى أولى حينئذ ، وكيف تكون عقوبة تارك الصلاة – حدا أو ردة – هي القتل ثم لا يجوز للمرأة أن تعاقب زوجها بهجر الفراش ، والأصل الذي نتمسك به قوله تعالى : { واهجروهن في المضاجع ..} مع أنه تعالى قد قال : { ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف ، وللرجال عليهن درجة } . فلهن مثل ما للرجال من حقوق ، ومنها حق الهجران في المضاجع ، واستثني الضرب لمنافاته حق الزوج من التعظيم والاحترام والذي ثبت بأدلة متضافرة مخصصة لعموم قوله تعالى : { ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف } ، والمعروف عدم استساغة ضرب المرأة للرجل .
تم اكتشاف شبكة دولية مقرها في بلجيكا والولايات المتحدة تقوم بترويج دعارة القصر من الأطفال ، وقد اكتشفت هذه الشبكة في بلجيكا إثر بحث الشرطة عن أطفال تم اختطافهم ، وتبين فيما بعد أن قيادات عليا في الشرطة البلجيكية كانت ضالعة في هذه الشبكة ، مما فضح المدنية الغربية أمام كل العالم . ففي الوقت التي خرجت الأصوات المطالبة بحقوق الإنسان والطفل من هناك إذا بهذه الدول أول من تقدم الدليل على كفرها بما تدعو إليه .
ومن أنكى مظاهر الانحلال الذي جرف براءة الأطفال والفتيان انتشار الشذوذ الجنسي بينهم على وجه لا يجرمه القانون ولا يعارضه ، بل يعتبره حقا قانونيا يُجَرَّمُ من يعترض عليه أو يحاربه .
وفي أوائل خمسينات هذا القرن الميلادي أقر مجلس العموم البريطاني قانونا يسمح بالشذوذ الجنسي لمن هم فوق العشرين ، وكان ذلك إثر انتشار موجة الشذوذ بعد الحرب العالمية الأولى ، وقامت المظاهرات في السبعينيات تنادي بخفض السن المسموح له ممارسة الشذوذ دون تجريم إلى ثمانية عشرة سنة ، فاستجاب القانون لنداء الغريزة ، وفي أواخر التسعينات خرج الفتيان بل الأطفال ينادون بالسماح لمن هم في السادسة عشرة بهذا الفجور والعهر . فأي مدنية تلك التي يراد للمسلمين أن يسيروا في ركابها ويخطوا خطوها ؟
لقد صار من أدلة التحضر والرقي وملاحقة التطور – عند أولئك الذيول – أن يطعم الواحد منهم في محلات ماجدونالدز أو محلات البيتزا بأنواعها أو كنتاكي ودونت ، وسامحني أيها القارئ أن أدرجت هذه الأسماء أمام عينيك ، ولكنني تعمدت ذلك لأقرر أن وجود هذه المحلات في بلاد المسلمين مظهر من مظاهر الاستعمار ، بل قل من مظاهر الهزيمة النفسية في قلوب المسلمين .
إن بعض الآباء والأمهات يستحقون أن نشبههم بالذئاب التي ترعى الغنم ، فمجتمعاتنا لم تعد تعر للمثل والقيم احتراما ، فلا بأس أن يشجع الأب ابنته على هواية السباحة ، ويتباهى أمام الناس بأن ابنته بطلة سباحة ، وآخر إذا سمع أن ابنه شرب الدخان أو زنا أو شرب الخمر قال : ( طيش شباب وبكره يعقل ) ، وأم تذهب إلى الموجهة الاجتماعية في المدرسة وتكيل لها من اللوم والتقريع ما تكيل لأن تلك الموجهة تجرأت وأخطرت الأم أن ابنتها تقابل شابا غريبا خارج المدرسة وأنها تكلمه على الدوام دون حياء ، والأعجب أن الأم عللت تصرف ابنتها بأن هذا ضروري حتى تخوض البنت تجربتها في الحياة !
إنها أمثلة حقيقة وحية وليست من دراما التلفاز والسينما ، وهي تلقي ضوءا ساطعا على نماذج الآباء والأمهات المضيعين لذرياتهم .
قال الله تعالى : { وأما السائل فلا تنهر } ، وقال تعالى : { وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا } ، وقال تعالى : { وقولوا للناس حسنا } .
معلوم لدى كثير من الدعاة أن هيئات التنصير تدرب دعاتها على استعمال أساليب الرفق مع الخلق ، والصبر عليهم ، وعدم اليأس منهم ، ومعلوم أن مهنة التمريض نشأت كعلم مستقل في الكنائس الأوربية أوائل القرن الثامن عشر الميلادي حيث كانت الراهبات يقمن بتمريض جرحى الحروب ، ثم تأصلت هذه المهنة في هيئات التنصير واستخدموا في مستشفياتهم التي أسسوها في أصقاع العالم .
نسبة إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين .
السمود هو اللهو أو سماع الغناء ، قال تعالى : { أفمن هذا الحديث تعجبون . وتضحكون ولا تبكون . وأنتم سامدون . فاسجدوا لله واعبدوا } .
قال صلى الله عليه وسلم : ( الأرواح جنود مجندة ، ما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف ) ، وقال صلى الله عليه وسلم : ( المؤمن يألف ويؤلف ، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف ) .
المسار ص11 .
لفظ البخاري بإسناده عن عاصم بن سليمان الأحول قال : قلت لأنس بن مالك – رضي الله عنه – أَبَلَغَك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا حلف في الإسلام ) ؟ فقال : قد حالف النبي صلى الله عليه وسلم بين قريش والأنصار في داري .
انظر الفتح (4/553) فما بعده .
(4/302) .
بشرطين : (1) أن تكون الأسماء لا تحتوي على مخالفة شرعية .
(2) أن ينعقد ولاء المنضوين تحت هذه الأسماء على اسم الإسلام لا اسم الجماعة ، وأن تسمية الجماعة لأجل مصالح نظامية تصب في مصلحة العمل الجماعي ، أو للتميز عن أهل البدع والضلالات أو نح ذلك من المقاصد الشرعية المعتبرة .
ومن قصد بالتسمي مفاصلة أو أهل السنة وبث العبية الجاهلية فقد أجرم وأتى بالمنهي . أما إذا قصد تحصيل مصالح شرعية كالتعريف بوظيفة الجماعة أو تمييز العمل الدعوي حتى لا يحصل الاختلاف ( كما هو معلوم عند المبصرين بالواقع ) فهذا لا شيء فيه ، فإذا وقع التعصب على الاسم من بعض الأفراد كان ذنبه على نفسه ولا تزر وازرة وزر أخرى .
والأدلة على مشروعية التسمي بأسماء مختلفة للجماعات المتعددة في ساحة الدعوة كثيرة من الكتاب والسنة والإجماع :
أما الكتاب فقوله تعالى : { لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهـم } ووجه الدلالة أن الله عز وجل سمى طوائف المسلمين بأسماء مختلفة مع اشتراكهم في اسم الإسلام ( هو سماكم المسلمين من قبل ..) وهكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ( وهو دليل السنة ) فكان يعقد في حروبه للمهاجرين لواء وللأنصار لواء ، ولبعض القبائل ألوية خاصة بهم كما حدث في فتح مكة مثلا . وإذا ثبت جواز ذلك مع وجود الإمام الأعظم فأولى أن يثبت مع عدم وجوده ، ولا يقال إن وجوده عاصم من الاختلاف لأننا نزعم أن التسمي بهذه الأسماء إنما هو لمنع الاختلاف ، وفرض المسألة أنه قصد بالتسمية تحقيق مصلحة شرعية ، وإلا فإن الخلاف يحدث مع التعدد وبدونه .
وأما الإجماع فاتفاق الأمة قاطبة بدون نكير على مر القرون على جواز التلقب بالألقاب المذهبية كفلان الحنبلي وفلان الشافعي وفلان الظاهري ، ولا ريب أن هذه الأسماء إنما هي عناوين لمناهج استنباط انتشرت في الأمة وحصل بينها اختلاف في فهم النصوص الشرعية وطرائق الاستدلال ومع ذلك لم يتناكروا هذه التسمية لأن المقصود بها التمييز العلمي والتخصصي وليس الاختلاف والعصبية .
وما زال أهل السنة يتسمون بأسماء مختلفة على مر القرون ليتميزوا عن غيرهم . فطورا سموا أنفسهم بأهل السنة ، وطورا بالجماعة ، وطورا بكليهما ( أهل السنة والجماعة ) وطورا بأهل الحديث وطورا تسموا بالحنابلة في مقابلة الأشعرية وطورا بالسلفيين .
ونعود لنؤكد أن كل المحاذير المذمومة نتبرأ منها ولا نقرها ونقول فيها ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تعصب المهاجرون لبعضهم والأنصار لبعضهم : ( دعوها فإنها منتنة ) .
ولعلك تتساءل أيها القارئ : لماذا لم نذكر الأدلة المفيدة لمشروعية العمل الجماعي ؟ والجواب أن الأدلة الآمرة بالاجتماع أصبحت في حق الدعاة وفي حق كل عامل وباذل لدين الله من قبيل المعلوم من الدين بالضرورة ، بل لا أغلو إذا قلت إنها من بدهيات العقول وأوليات الذهن التي لا تحتاج إلى تنظير واستدلال ، وقد كتبت في ذلك فصلا طويل الذيل ، رأيت ألا أملأ صفحات الكتاب منه لأنني كتبته لنوعيات معينة من الدعاة ، أما إذا أردت الاطلاع على أدلة مشروعية العمل الجماعي بخير عرض فأحيلك على كتابين الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق في مشروعية العمل الجماعي ففيهما الغنية إن شاء الله ، وله كتاب ثالث تناول قصية حياة شيخ الإسلام ابن تيمية وبرهن فيه على أن شيخ الإسلام لم يكن مجرد داعية أو عالم يدرس العلوم الشرعية ويفتي الناس ، بل كان رجل دولة ، يخاطب الملوك والسلاطين ويستنفر القادة لمحاربة الأعداد ، ويراسل ملوك دول النصارى والتتر ويرسم الخطوط ويناصح الساسة في شئون الدولة وشئون المسلمين ، بل كان يعارض بعض سياسات الدولة ويجاهر بذلك ، بل كان في بعض الأحيان يقيم الحدود الشرعية بإذن ضمني من سلطان الدولة . وللشيخ المصري في معالم الانطلاقة الكبرى كلام متين في توصيف واقع بعض الدول التي تعاني واقعا إسلاميا عسيرا ينبغي لكل الدعاة أن يقرءوه .
لقد صارت هذه حقيقة لا تخطئها عين ، فالمجامع اللغوية أول ما تأسست كانت مغرمة بتعيين المستشرقين أعضاء دائمين في مجالسهـا ، وكان طلبة الأزهر ودار العلوم في هيام بأساتذة الاستشراق الذين يدرسون علوم اللغة والدين بين أروقة جامعة القاهرة والأزهر أمثال ماسينيون وأضرابه .
وكاد المسلمون يتيهون فرحا عندما أعلن ولي عهد بريطانيا – المشهور بفضائحه وفضائح أسرته – أن الإسلام دين متسامح وأنه كان ذا دور مهم في بناء الحضارة الغربية .
بل إن الدوائر السياسية والمراقبين يقيّمون باهتمام إعلان رئيس أمريكا التفريق بين الإرهاب وبين الإسلام الصحيح القائم على التسامح والاعتدال . حتى وصلنا إلى الحال التي فيها يصاغ لنا الدين كيف نفهمه ونتمسك به ، فهاهو مؤتمر يعقد في مصر لمناقشة شئون الأقليات المسلمة في دول الغرب ، فإذا بالمجتمعين ( وكان منهم من غير المسلمين ) يشيدون بالأقليات المسلمة التي استطاعت أن تتكيف مع المجتمعات الغربية محتفظة بإسلامها في إطار قوانين تلك الدول . تأمل .
وإن تعجب فاعجب من ملك ينتمي للإسلام وينحدر من النسل المحمدي الشريف ينصح الطالبة المغربية التي تمسكت بحجابها عند دخول المدرسة في فرنسا ألا تتمسك بهذا الحجاب الذي ليس ضروريا في الإسلام وأن تحترم قوانين الدولة التي تتواجد فيها .
مدينتان في إيران مشهورتان بوجود المراجع الشيعية العظمى على مستوى العالم . ويسبقها في المكانة مدينة النجف لولا أنها تحت سيطرة العراقيين ذوي الأغلبية السنية ، بيد أن مدينة النجف ما زالت محط أنظار كل الشيعة في العالم لوجود ضريح علي بن أبي طالب المكذوب فيها .
تراجع قضية الشورى وإشكالاتها السياسية في كتاب السياسة الشرعية للشيخ عبد الرحمن عبد الخالق .
تنظيم الاجتماعات يخضع لمعيارين مهمين :
الأول : المعيار الموضوعي ، ويشمل :
(1) المقصود من الاجتماع أو المؤتمر ( أهداف المؤتمر ) .
(2) الموضوعات التي ستطرح فيه ( جدول الأعمال ) .
(3) كيفية تناول هذه الموضوعات ( عرض أبحاث ، مناقشات ، تصويت لقرار ) .
(4) التزام أعضاء المؤتمر بأهداف وجدول أعمال المؤتمر .=
(5) وجود آلية لتنفيذ إرادات المؤتمر وتوصياته .
الثاني : المعيار الشكلي ، ولا يقل أهمية عن المعيار الأول ، بل قد يكون الاهتمام به سببا في نجاح المؤتمر ، ويشمل :
(1) وجود فريق إداري لتنظيم المؤتمر يتناسب مع حجمه ، أو وجود الشخصية الإدارية التي تستطيع إدارة الاجتماع بحنكة وجدارة .
(2) معرفة أعضاء المؤتمر والالتزام بالعدد والشخصيات المتفق عليها .
(3) الالتزام بالمواعيد المتعلقة بالمؤتمر بصرامة .
(4) تحديد مدة انعقاد المؤتمر والوقت المسموح به للأعضاء ومدة المناقشات ، مع التوصية بالالتزام بهذه المواعيد بصرامة شديدة .
(5) مراعاة الجوانب الفنية للمؤتمر عند وجود الإمكانيات المتاحة وعلى حسب حجم المؤتمر أو الاجتماع مثل أجهزة الصوت ووجود بعض المشروبات ونحو ذلك .
وفقا لمنهج الشورى الإسلامية فإن الجهة الموكول إليها تداول السياسات العامة للدولة بما فيها تعيين الخليفة وعزله : هي أهل الحل والعقـد ، وهم أصحاب النفوذ العلمي والاقتصادي والعسكري من ذوي الرأي والخبرة ، وهؤلاء كانوا يوجدون في القديم وفق قوانين اجتماعية تلقائية ترقيهم بين ذويهم حتى يكونوا أصحاب الكلمة بين الناس ، وكان للمسلمين الأوائل نظام انتخابي يقوم على أساس اجتماع أصحاب النفوذ من العلماء والاقتصاديين والعسكريين وزعماء العشائر والقبائل من ذوي الرأي والخبرة ، فكان هؤلاء يشكلون مجلس الحل والعقد الذي يوازي البرلمان في الديمقراطيات الغربية ، وكان أهل الحل والعقد يأخذون بمشورة أفراد عشائرهم وقبائلهم عن طريق العرفاء ( جمع عريف بوزن عظيم ) وهو القائم بأمر طائفة من الناس .
ففي صحيح البخاري عن عروة بن الزبير أن مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة أخبراه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين أذن لهم المسلمون في عتق سبي هوازن ، فقال : ( إني لا أدري من أذن فيكم ممن لم يأذن ، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم ) فرجع الناس ، فكلمهم عرفاؤهم ، فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه أن الناس قد طيبوا وأذنوا .
وقد ظن بعض شراح الحديث أن العرفاء هم من يعينهم الإمام لمشاركته في رعاية شئون الناس ، وهذا ليس بسديد ، فلم يعهد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد عين العرفاء والأمراء على القبائل ولا الخلفاء من بعده حتى عندما اعتمد عمر بن الخطاب طريقة الديوان في تسجيل أسماء المواطنين . وهاهو رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر الأنصار قائلا : ( قوموا إلى سيدكم ) يعني سعد بن معاذ ، وإنما تسود سعد بين الأنصار بوجاهته ورأيه وكثرة أتباعه .
والصحيح أن زعماء القبائل كان يتم انتخابهم بطريقة ذاتية في القبيلة نفسها ولم يكن الحكام يتدخلون في ذلك .
وإنما ذكرنا ما سبق لأمرين :
الأول : لبيان أن العرب كان لديها نظام سياسي في إدارة شئون الدولة ، وكان متطورا بالدرجة الفائقة مقارنة بغيرهم من الأمم في تلك العصور .
الثاني : لقد جاء الإسلام وزاد النظام السياسي تطورا ، وأرسى مبادئ عامة وأصول قطعية لسياسة الشرعية ، وسكت عن كثير من التفاصيل ، فصارت محل اجتهاد العلماء . فما اعتمده المسلمون من كيفيات في الانتخاب أو إدارة شئون الدولة فيجب أولا : أن يخضع لتلك المبادئ العامة والأصول القطعية ، وثانيا ألا يتعارض مع المصالح الشرعية العامة للأمة .
ومما سبق نعلم أن الشورى كانت تتصاعد من الأفراد العاديين في الأمة عن طريق عرفائهم وزعمائهم ثم يتداول هؤلاء الزعماء والعرفاء الذين يشكلون ( أهل الحل والعقد ) أمور الدولة آخذين في الاعتبار آراء عشائرهم وقبائلهم وذويهم .
وهذا النظام على بساطته من أكثر النظم الإدارية تطورا في العصر الحديث ، حيث يتولد القرار من القاعدة إلى القمة ، وهو عين ما يسمونه المشاركة في اتخاذ القرار . ولكن الشورى الإسلامية تجعل لها إطارا يمنع سيطرة العبية الجاهلية ( وهو ما يسمى في العصر الحديث بالشللية ) أو تغليب المصالح الشخصية لفئات معينة ( سيطرة اللوبي ) أو تدخل العناصر غير المؤهلة لتداول مصالح الأمة العامة مثل السفهاء والفساق أو مقدوحي العدالة على وجه العموم .
إن الشورى لا ينبغي أن تكون وسيلة لتصفية الحسابات أو احتلال المواقع أو تعرية المواقف ، بل المقصود منها الوصول إلى أفضل السبل لخدمة الدين . فليس يعيب أي داعية أن يظهر عوار رأيه أو خطأ فكرته فهو مأجور ولا ريب على اجتهاده ، ولكن الخطأ في أن يتمادى المخطئ في خطئه أو الناقد في تربصه كأنه سبع وقع على فريسة ليجهز عليها .
وهناك مسئولية مشتركة على المخطئ في الرأي والناقد للآخرين ، ألا وهي تقديم البديل ، وهذا هو المقصود بقولنا : أن يكون عمليا ، أي مفيدا في نقده وليس هداميا ( ينقد للنقد ) ، فالمخلص ينقد برفق وينصح بخفاء ويقوم ويرشد ويتمنى أن لو كان الصواب في صف غيره ، وأن لو نسب الخير كله للناس ولم يرجع منه بشيء .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاتة
Powered by vBulletin® Version 4.2.0 Copyright © 2024 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved, TranZ by Almuhajir