ابوالسعودمحمود
2010-10-12, 08:49 AM
زينب ورحومة ونجلاء الإمام
وشبهات الارتداد عن الإسلام!
د. إبراهيم عوض
(http://awad.phpnet.us/)
هذه ثلاث حكايات عن ثلاثة أشخاص مصريين مسلمين ارتدوا عن دين التوحيدإلى النصرانية دين التثليث والتجسيد، والحكايتان الأخيرتان هما حكايتان حديثتان جدا، والرجل والمرأة اللذان تتعلقان بهما لا يزالان مرتدين، أما الحكاية الثالثة فقد عادت صاحبتها إلى دين الحق مرة أخرى وتابت وأبدت ندمها وقصت أمرها بكثير من التفصيل ملقية بذلك ضوءا قويا على بعض خبايا عملية التنصير. ومعروف أنها حكاية قديمة بعض الشىء، إذ وقعت أحداثها منذ عدة سنوات.
وأدخل للتو فى الموضوع وأتناول أول ما أتناول موضوع نجلاء الإمام، التى لها قصة مع الآية الخامسة من سورة "التوبة". فما حكاية هذه الآية؟ وما صلتها بتلك المرأة؟ تعالوا لنرى معا. تقول الآية المذكورة: "فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ"، وهى الآية التى شاهدتُ، فى مقطع على المشباك مأخوذ من لقاء بإحدى القنوات التلفازية، نجلاء الإمام المتنصرة فى الآونة الأخيرة ترفعها فى وجه الدكتور سالم عبد الجليل وكيل وزارة الاوقاف لشؤون الدعوة، تتحداه بها على اعتبار أن فيها ما يخجل الإسلام والمسلمين. فتحداها الشيخ الكريم أن تقرأ الآية قراءة صحيحة من المصحف الذى كان تحمله فى يدها وكانت تلوّح به فى وجهه على سبيل التحدى. وقد أراد الشيخ الجليل، من خلال هذا التحدى المضادّ، أن يقول لها إنك لست صاحبة هذه الشبهة، فأنت لا تفهمين القرآن ولا تقرئينه، ولا تعرفين كيف تنطقين الآية مجرد نطق دون أن تخطئى فيها أخطاء لا تليق.
وهنا وجدتُ نجلاء الإمام ترتبك ولا تجيب على تحدى الشيخ إلا بالامتناع عن قراءة الآية بعدما كانت تمسك بالمصحف وتلوح به فى وجه فضيلته ووجوه المشاهدين متحدية كالنمرة الشرسة. والعجيب أن اللقطة التى يبثها الموقع النصرانى مدعيا أنها دليل على أن علماء المسلمين يهربون من المواجهة بعدما انتشر التنوير وأصبح المسلم والمسلمة يستطيعان معرفة الحقيقة التى كانت مغيبة عنهما قبل ذلك قرونا، فلم يعودا ينصاعان لكلام المشايخ وصارا قادريْن على الحكم الصحيح على النصرانية والإسلام وتفضيل الأخيرة بطبيعة الحال، هذه اللقطة ترينا على العكس من ذلك أن نجلاء الإمام هى التى نكصت وتقهقرت. ورغم أن اللقطة القصيرة التى بثها الموقع المذكور لم تقل لنا ماذا كانت نجلاء تريد قوله للشيخ الكريم فإن من السهل تماما معرفة هذا الذى كانت تريد قوله طبقا لما لقنوها إياه قبل حضورها إلى الأستوديو.
تريد نجلاء الإمام أن تقول إن الإسلام يقتل مخالفيه من الباب للطاق، إلا إذ دخلوا فيه واعتنقوه خلافا لما تقتنع به ضمائرهم. ألا يقول القرآن: "فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد"، اللهم إلا "إن تابوا وأقاموا الصلاة وآتَوُا الزكاة". وهل هناك دليل أسطع من هذا وأشد برهانا على صحة ما قالوه لها من أن دين محمد إنما يعتمد فى انتشاره على السيف؟ وهى، لو أنها كانت تفهم ونظرت إلى الآية التى عقب ذلك مباشرة، لما قالت ما قالت. لكنه عمى القلب والترديد الببغائى لما يلقى إليها فتقوله كما حفّظوها إياه دون تبصر أو فهم. ونص الآية التالية هو: "وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6)". وواضح أن كل ما يريده الإسلام ممن يرفضونه هو أن يسمعوا دعوته، ثم فليرتكنوا بعد هذا إلى ضمائرهم. ذلك أنهم هم الذين سوف يحاسَبون على أعمالهم لا نحن، وليس لنا من ثم أى حق فى اقتحام ضمائرهم عليهم ولا إكراههم على ما لا يريدون اعتناقه حتى لو كانوا يؤمنون بصدق الإسلام فيما بينهم وبين أنفسهم ككثير ممن يؤمنون بأنه هو الدين الحق، إلا أن الخوف أو الطمع أو العناد أو العصبية تمنعهم من إعلان ما يؤمنون به. والآية صريحة الدلالة على أن من واجب المسلم إجارة المشرك عندما يأتى إليه ويستجير به، وأنه لا يجوز له اهتبال الفرصة والضغط عليه بأى وجه بغية اعتناقه للإسلام، بل عليه أن يتركه لما يريد، مع حراسته فى طريق العودة إلى بلده أو على الأقل: إلى المكان الذى يأمن على نفسه فيه. فهل يُعْقَل أن دينا يطلب من أتباعه هذا يمكن أن يفكر مجرد تفكير فى قتل مخالفيه لا لشىء إلا ليكرههم على اعتناقه؟ إذن فماذا نصنع مع الآية التى شهرتها نجلاء الإمام فى وجه الشيخ ووجوه المشاهدين؟
يستلزم الأمر أن نقرأ صدر سورة "التوبة" كله كى تتضح الصورة فى شموليتها وتُفْهَم حق فهمها، وبخاصة إذا ألممنا بالظروف التى نزل فيها ذلك النص، الذى يقول: "بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلا وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16)".
ومن هذه الآيات يتبين لنا أن الإعلان الموجود فى النص خاص بالمشركين الذين كانت بينهم وبين المسلمين عهود، وليس عاما لكل المشركين. ولهذا دلالته. فلو كان الأمر مبدأ إسلاميا فى قتل المخالفين ما لم يُسْلِموا لما خصص القرآن الكلام للمشركين الذين كانت بينهم وبين المسلمين معاهدات. ورغم هذا أيضا فلم يسارع الإسلام إلى الأمر بقتل أولئك المشركين، بل أعطاهم مهلة أربعة أشهر يستطيعون التحرك فيها بكل حرية قبل أن يؤاخَذوا. ولو كان الأمر أمر مبدإ بإكراه غير المؤمنين بمحمد على الدخول فى دينه أو يُقْتَلوا لما كان هناك معنى لإعطائهم تلك المهلة، إذ ما دام واجبا عليهم، شاؤُوا أم أَبَوْا، أن يعتنقوا الإسلام فخير البر عاجله. وليست هناك أى ضرورة، بل ليس هناك أى معنى، لإمهالهم هذه الشهور الأربعة. أليس كذلك؟
ثم إن الآية السابقة على الآية الخامسة تقول: "إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)". أى أن الإسلام لا يسوى بين المشركين جميعا عاطلا مع باطل، بل يقول إن من كانت بينهم وبين المسلمين عهود فوَفَّوْا بها ولم ينقضوها فلا بد من إتمام عهودهم إلى نهاية مدتها. ومعنى هذا بكل وضوح أن المشركين الأولين الذين حكم القرآن بقتلهم هم طائفة أخرى لم تحترم العهود بل نقضتها وخاست فيها. والوقع أن تلك الطائفة من المشركين قد فجرت فى سلوكها تجاه المسلمين فكانوا يقتلون كل من ساقته الأقدار إلى قبضة أيديهم دون أن يَرْعَوْا فيهم إِلاًّ ولا ذمة، كما كانوا يمدون أيديهم بالتعاون إلى من ليس بينهم وبين المسلمين عهود فيعينونهم عليهم ويحاربونهم معهم غادرين على هذا النحو الخسيس بالاتفاقيات التى كانت بينهم وبين الرسول وأصحابه. فهل كان على المسلمين أن يسكتوا على هذا الغدر وتلك الخيانة؟ لقد كان الإسلام أنبل من كل ما يتوقعه الإنسان، إذ رغم كل هذه الاستفزازات التى كان يرتكبها أولئك المجرمون فإنه لم يسارع بالمناداة بمعاملتهم نفس المعاملة التى يعاملون بها المسلمين، بل أعطاهم فترة إمهال: أربعة شهور كاملة. فأى نبل هذا؟ لكن على من تتلو مزاميرك يا داود؟ إنك لتتلوها على قوم أغبياء ذوى قلوبٍ عمياءَ وضمائرَ غُلْفٍ.
ولقد تكرر هذا التوضيح أكثر من مرة فى تلك الآيات: "كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7)"، "كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلا وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8)"، "لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10)"، "وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)"، "أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13)". فماذا يريد الإنسان أكثر من هذا؟ أَلاَ إن هذا لكرمٌ بالغٌ لا نظير له فى أى مكان فى العالم؟ ومع هذا كله لم يحدث أن قتل المسلمون أحدا من المشركين الذين نزلت الآية فى حقهم. بل إنه فى فتح مكة بعد ذلك بقليل عفا الرسول عن مشركيها الذين طالموا أذاقوه الأذى وأنزلوا بالمسلمين العذاب وأخرجوهم من ديارهم وأموالهم.
يقول سيد قطب رحمه الله تعقيبا على تلك الآيات: "كان قد تبين من الواقع العملي مرحلةً بعد مرحلة، وتجربةً بعد تجربة، أنه لا يمكن التعايش بين منهجين للحياة بينهما هذا الاختلاف الجذري العميق، البعيد المدى، الشامل لكل جزئية من جزئيات الاعتقاد والتصور، والخلق والسلوك، والتنظيم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والإنساني، وهو الاختلاف الذي لا بد أن ينشأ من اختلاف الاعتقاد والتصور: منهجين للحياة أحدهما يقوم على عبودية العباد لله وحده بلا شريك، والآخر يقوم على عبودية البشر للبشر، وللآلهة المدَّعاة، وللأرباب المتفرقة. ثم يقع بينهما التصادم في كل خطوة من خطوات الحياة لأن كل خطوة من خطوات الحياة في أحد المنهجين لا بد أن تكون مختلفة مع الأخرى ومتصادمة معها تماما في مثل هذين المنهجين، وفي مثل هذين النظامين. إنها لم تكن فلتة عارضة أن تقف قريش تلك الوقفة العنيدة لدعوة أنْ "لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله" في مكة ولا أن تحاربها هذه الحرب الجائرة في المدينة.
ولم تكن فلتة عارضة أن يقف اليهود في المدينة كذلك لهذه الحركة وأن يجمعهم مع المشركين معسكر واحد، وهم من أهل الكتاب، وأن يؤلب اليهودُ وتؤلب قريشٌ قبائلَ العرب في الجزيرة في غزوة الأحزاب لاستئصال شأفة ذلك الخطر الذي يتهدد الجميع بمجرد قيام الدولة في المدينة على أساس هذه العقيدة، وإقامة نظامها وفق ذلك المنهج الرباني المتفرد! وكذلك سنعلم بعد قليل أنها لم تكن فلتة عابرة أن يقف النصارى، وهم من أهل الكتاب كذلك، لهذه الدعوة ولهذه الحركة، سواء في اليمن أم في الشام أم فيما وراء اليمن ووراء الشام إلى آخر الزمان! إنها طبائع الأشياء. إنها أولا طبيعة المنهج الإسلامي التي يعرفها جيدا ويستشعرها بالفطرة أصحاب المناهج الأخرى! طبيعة الإصرار على إقامة مملكة الله في الأرض، وإخراج الناس كافة من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، وتحطيم الحواجز المادية التي تحول بين "الناس كافة" وبين حرية الاختيار الحقيقية. ثم إنها ثانيا طبيعة التعارض بين منهجين للحياة لا التقاء بينهما في كبيرة ولا صغيرة، وحرص أصحاب المناهج الأرضية على سحق المنهج الرباني الذي يتهدد وجودهم ومناهجهم وأوضاعهم قبل أن يسحقهم! فهي حتمية لا اختيار فيها في الحقيقة لهؤلاء ولا هؤلاء!
وكانت هذه الحتمية تفعل فعلها على مدى الزمن وعلى مدى التجارب، وتتجلى في صور شتى تؤكد وتعمق ضرورة الخطوة النهائية الأخيرة التي أعلنت في هذه السورة. ولم تكن الأسباب القريبة المباشرة التي تذكرها بعض الروايات إلا حلقات في سلسلة طويلة ممتدة على مدى السيرة النبوية الشريفة، وعلى مدى الحركة الإسلامية منذ أيامها الأولى. وبهذه السعة في النظرة إلى الجذور الأصيلة للموقف وإلى تحركاته المستمرة يمكن فهم هذه الخطوة الأخيرة. وذلك مع عدم إغفال الأسباب القريبة المباشرة، لأنها بدورها لا تعدو أن تكون حلقات في تلك السلسلة الطويلة... وذكر الإمام الطبري بعد استعراضه الأقوال في تفسير مطلع السورة: وأَوْلَى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: لأجل الذي جعله الله لأهل العهد من المشركين وأذن لهم بالسياحة فيه بقوله: "فسيحوا في الأرض أربعة أشهر" إنما هو لأهل العهد الذين ظاهروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقضوا عهدهم قبل انقضاء مدته. فأما الذين لم ينقضوا عهدهم ولم يظاهروا عليه فإن الله جل ثناؤه أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بإتمام العهد بينه وبينهم إلى مدته بقوله: "إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم، إن الله يحب المتقين"...".
وفى "تفسير المنار" نقرأ للشيخ رشيد رضا غفر الله له: "من المشهور القطعي الذي لا خلاف فيه أن الله تعالى بعث محمدا رسوله وخاتم النبيين بالإسلام الذي أكمل به الدين، وجعل آيته الكبرى هذا القرآن المعجز للبشر من وجوه كثيرة ذكرنا كلياتها في تفسير (2: 3 ص190 ص228 ج 1)، وأقام بناء الدعوة إليه على أساس البراهين العقلية والعلمية المقنعة والملزمة، ومنع الإكراه فيه والحمل عليه بالقوة، كما بيناه في تفسير (2: 256 ص26 ص40 ج 3)، فقاومه المشركون، وفتنوا المؤمنين بالتعذيب والاضطهاد لصدهم عنه، وصدوه (ص) عن تبليغه للناس بالقوة. ولم يكن أحد ممن اتبعه يأمن على نفسه من القتل أو التعذيب إلا بتأمين حليف أو قريب. فهاجر من هاجر منهم المرة بعد المرة، ثم اشتد إيذاؤهم للرسول (ص) حتى ائتمروا بحبسه الدائم أو نفيه أو قتله علنا في دار الندوة، ورجحوا في آخر الأمر قتله، فأمره الله تعالى بالهجرة كما تقدم في تفسير (الأنفال/ 30): "وإذ يمكر بك الذين كفروا" (ص650 ج 9). فهاجر (ص)، وصار يتبعه مَنْ قَدَرَ على الهجرة من أصحابه إلى حيث وجدوا من مهاجَرهم بالمدينة المنورة أنصارا لله ولرسوله يحبون من هاجر إليهم، ويؤثرونهم على أنفسهم.
وكانت الحال بينهم وبين مشركي مكة وغيرهم من العرب حال حرب بالطبع ومقتضى العرف العام في ذلك العصر. وعاهد (ص) أهل الكتاب من يهود المدينة وما حولها على السلم والتعاون، فخانوا وغدروا ونقضوا عهودهم له بما كانوا يوالون المشركين ويظاهرونهم كلما حاربوه كما تقدم بيان ذلك كله في تفسير سورة "الأنفال" من هذا الجزء (ص1547 1556). وقد عاهد (ص) المشركين في الحديبية على السلم والأمان عشر سنين بشروطٍ تساهَل معهم فيها منتهى التساهل، عن قوة وعزة، لا عن ضعف وذلة، ولكن حبا بالسلم ونشر دينه بالإقناع والحجة. ودخلت خُزَاعة في عهده (ص)، كما دخلت بنو بكر في عهد قريش،. ثم عدا هؤلاء على أولئك، وأعانتهم قريش بالسلاح فنقضوا عهدهم. فكان ذلك سبب عودة الحرب العامة معهم وفتحه (ص) لمكة، الذي خضد شوكة الشرك وأذل أهله. ولكنهم ما زالوا يحاربونه حيث قدروا، وثبت بالتجربة لهم في حالَيْ قوتهم وضعفهم أنهم لا عهود لهم، ولا يؤمَن نقضهم وانتقاضهم، وكما يأتي قريبا في قوله تعالى من هذه السورة/ 7: "كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله" إلى قوله في آخر آية 12: "فقاتلوا أئمة الكفر، إنهم لا أَيْمان لهم لعلهم ينتهون". أي لا عهود لهم يَرْعَوْنها ويَفُون بها. والمراد أنه لا يمكن أن يعيش المسلمون معهم بحكم المعاهدات المرعية، فيأمن كل منهم شر الآخر وعدوانه مع بقائهم على شركهم الذي ليس له شرع يُدَان به، فيجب الوفاء بالعهد بإيجابه. كيف وقد سبقهم إلى الغدر ونقض الميثاق من كانوا أجدر بالوفاء وهم أهل الكتاب؟. هذا هو الأصل الشرعي الذي بُنِيَ عليه ما جاءت به هذه السورة من نبذ عهودهم المطلقة، وإتمام مدة عهدهم المؤقتة لمن استقام عليها. وأما حكمة ذلك فهي محو بقية الشرك من جزيرة العرب بالقوة، وجعلها خالصة للمسلمين، مع مراعاة الأصول السابقة في قوله تعالى (البقرة/ 190): "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم" وقوله (الأنفال/ 61): "وإن جنحوا للسلم فاجنح لها" بقدر الإمكان، وإن قال الجمهور بنسخ هذه الآية بآية السيف من هذه السورة ونبذ عهود الشرك ".
ويرى الأستاذ محمد عِزّة دَرْوَزَة صاحب "التفسير الحديث" أن السبب فى نزول هذه الآيات هو نقض بعض المشركين لعهودهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الذين لم ينقضوا عهودهم، سواء كانت مؤقتة أو مؤبدة، فقد جاءت السورة بالمحافظة عليها، وأنه حتى إذا انقضت عهودهم فإنه يجوز أن تعقد معهم معاهدات جديدة، وأن هذه الآيات هي الأصل الذي يقيد عموم الآيات الأخيرة في هذه السورة. وفي ذلك يقول في شرح قوله تعالى: "إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين* فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد، فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم, إن الله غفور رحيم": "وفي الآيتين وما قبلهما صور من السيرة النبوية في أواخر العهد المدني حيث ينطوي فيهما أنه كان بين المسلمين والمشركين عهود سلم بعد الفتح المكي ربما كانت ممتدة إلى ما قبله، وأن من المشركين من ظلوا أوفياء لعهودهم، ومنهم من نقض أو ظهرت منه علائم النقض والغدر. ولقد نبهنا قَبْلُ على أن أهل التأويل والمفسرين يسمون الآية الثانية من الآيتين اللتين نحن في صددهما: آية السيف، ويعتبرونها ناسخة لكل آية فيها أمر بالتسامح والتساهل مع المشركين وإمهالهم والإغضاء والصفح والإعراض عنهم، وتوجب قتالهم إطلاقا. وبعضهم يستثني المعاهدين منهم إلى مدتهم، وبعضهم لا يستثنيهم ولا يجوّز قبول غير الإسلام منهم بعد نزولها. ونبهنا على ما في ذلك من غلو ومناقضة للتقريرات القرآنية المتضمنة لأحكامٍ مُحْكَمَةٍ بعدم قتال غير الأعداء وترك المسالمين والموادّين وبِرّهم والإقساط إليهم. ولقد كرر المفسرون أقوالهم ورواياتهم عن قدماء أهل التأويل في مناسبة هذه الآية، فروى ابن كثير عن ابن عباس أن الآية أمرت النبي صلى الله عليه وسلم بأن يضع السيف في من عاهدهم حتى يدخلوا في الإسلام، وأن ينقض ما كان سمى لهم من عهد وميثاق...
والآية، كما هو واضح من فحواها وسياقها، هي في صدد قتال المشركين المعاهدين الناقضين لعهدهم وَحَسْب بحيث يسوغ القول إن اعتبارها "آية سيف" وجعلها شاملة لكل مشرك إطلاقا تحميل لها بما لا يتحمله هذا السياق والفحوى، وكذلك الأمر في اعتبارها ناسخة للتقريرات المنطوية في آيات عديدة والتي عليها طابع المبدأ المحكم العام، مثل عدم الإكراه في الدين والدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن والحث على البر والإقساط لمن لا يقاتل المسلمين ولا يخرجونهم من ديارهم على ما نبهنا عليه في مناسبات عديدة سابقة. ويأتي بعد قليل آية فيها أمر صريح للمسلمين بالاستقامة على عهدهم مع المشركين الذين عاهدوهم عند المسجد الحرام ما استقاموا لهم، وفي هذه الآية دليل قوي على وجاهة ما نقرره إن شاء الله".
وبالمناسبة فليست آيات سورة"التوبة" هى وحدها التى تناولت موضوع التفرقة بين مشركين يَفُون بما بينهم وبين المسلمين من معاهدات واتفاقيات وبين مشركين آخرين لا يُؤْمَن جانبهم لجريان الغدر والخيانة فى عروقهم ودمائهم. قال تعالى فى سورة "النساء": "فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا (89) إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (90) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولائِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91)". لقد ميزت الآيات بشكل لا يحتمل تأويلاً ولا لَبْسًا بين من يلتزم بشروط العهد الذى بينه وبين المسلمين وبين من يشغب على العهود ويرفع السلاح على المسلمين خيانةً وغدرًا يريد قتلهم والقضاء عليهم وعلى دينهم دون أن يكون قد فَرَط منهم أى شىء يمكن التعلل به فى تبرير هذه الخيانة وذلك الغدر.
ومعروف أن القرآن يقرر على نحو قاطع أنه لا إكراه فى الدين، وأنه من شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر، وينهى المسلمين عن قتال من لم يَعْتَدِ عليهم أو يقاتلهم، ويأمرهم أن يجنحوا للسلام متى ما جنح عدوهم له، وينفى أن يكون لهم أى سبيل على المشركين الذين لا يمدون إليهم أيديهم بالأذى. بل إنه ليبارك معاملتهم لمن لا يؤذيهم أو يقاتلهم معاملة بر وإقساط: "لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" (البقرة/ 256)، "وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ" (الكهف/ 29)، "وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ" (البقرة/ 190)، "فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ" (البقرة/ 194)، "فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً" (النساء/ 90)، "وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ" (الأنفال/ 61- 62)، "عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ* لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ* إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ" (الممتحنة/ 7- 9).
لكن الأوغاد يسيئون الأدبَ مع سيدنا رسول الله، إذ يتهمونه بالقتل وسفك الدماء والمجىء بدين يقوم على إكراه الناس على اعتناقه برهبة السيف وتهديم بيوت عبادتهم، وفى نفس الوقت نراهم يزعمون أن دين النصرانية يقوم على المحبة والسلام! وأَوَّلَ كلِّ شىء لا بد أن نلفت الأبصار إلى أن المسيح عليه السلام لم يكن، حين ترك الدنيا، قد مضى عليه فى النبوة أكثر من ثلاث سنوات ليس إلا، ومن ثم لا يمكن التحجج بأنه لم يشرع لأتباعه قتال من يعتدون عليهم. كما أنه لم يكن يعيش فى دولة مستقلة، فضلا عن أن يكون هو الحاكم فيها مثلما هو الحال مع الرسول محمد عليه السلام. وإذن فقياس الوضعين أحدهما على الآخر خطأ أبلق وأبله معا. وهذا لو أن السيد المسيح، حسبما تحكى قصةَ حياته الأناجيلُ التى بين أيدينا، كان فعلا وديعا متسامحا دائما مثلما يحب النصارى أن يعتقدوا ويعتقد الآخرون معهم. فما أكثر الشتائم واللعنات التى كان يرمى بها فى وجوه اليهود بل فى وجوه تلاميذه أيضا، من مثل قوله لأحد اليهود: "يا مُرَائى" (متى/ 7/ 5)، وقوله لتلاميذه ينصحهم ألا يهتموا بمن لا يستطيعون فهم دعوته مشبها إياهم بالخنازير الغبية، وكأن دين الله يصح إغلاقه فى وجه أحد: "لا تعطوا القدس للكلاب، ولا تلقوا جواهركم قدام الخنازير لئلا تدوسها بأرجلها وترجع فتمزّقكم" (متى/ 7/ 6)، وقوله لبعض الفَرّيسيّين: "يا أولاد الأفاعى" (متى/ 12/ 3)، وقوله لأهل كورزين وصيدا: "الويل لك يا كورزين! الويل لك يا بيت صيدا!" (متى/ 11/ 21، ولوقا/ 10/ 13)، وقوله لمن طلبوا منه آية: "الجيل الشرّير الفاسق يطلب آية" (متى/ 12/ 38، و16/ 4)، وقوله عن غير الإسرائيليين ممن يريدون أن يستمعوا لدعوته ليهتدوا بها إنهم كلاب لا تستحق الشفقة: "ليس حسنا أن يؤخَذ خبز البنين ويُلْقَى للكلاب" (متى/ 15/ 26)، وقوله لبطرس أقرب تلاميذه إليه: "اذهب خلفى يا شيطان" (متى/ 16/ 23، ومرقس/ 8/ 33)، وقوله لحوارييه يشتمهم ويبكتهم ويتهمهم بالغفلة والغباء: "أحتى الآن لا تفهمون ولا تعقلون؟ أَوَحَتَّى الآن قلوبكم عمياء؟* لكم أعين، أفلا تبصرون؟ ولكم آذان، أفلا تسمعون ولا تذكرون؟" (مرقس/ 8/ 17)، وقوله لبعض الفَرِّيسِيّين سابًّا مهددًا: "أيها الجهال... ويل لكم أيها الفريسيون" ( لوقا/ 11 / 39 – 50)، وقوله عن فَرِّيسِىّ آخر: "هذا الثعلب" (لوقا/ 13/ 32). ولا ينبغى فى هذا السياق أن نهمل ما صنعه مع الباعة فى الهيكل حين قلب لهم موائدهم وكراسيّهم وسبّهم وساقهم أمامه حتى أخرجهم من المعبد (مرقس/ 12/ 15 – 17)، وكذلك قوله لحوارييه: "أتظنون أنى جئت لأُلْقِى على الأرض َسلاما؟ لم آت لألقى سلاما لكنْ سيفا* أتيتُ لأفرِّق الإنسان عن أبيه، والابنة عن أمها، والكَنَّة عن حماتها" ( متى/ 10/ 34 – 35)، وقوله أيضا فى نفس المعنى: "إنى جئت لألقى على الأرض نارا، وما أريد إلا اضطرامها" (لوقا/ 12/ 44).
من هذا يتبين أن الصورة الوديعة تمام الوداعة التى يرسمها النصارى للسيد المسيح ليست حقيقية، بل هى من مبالغاتهم التى اشتهروا بها. ولست أقول هذا حَطًّا من شأنه عليه السلام، فهو نبىٌّ كريم لا يكمل إيماننا نحن المسلمين إلا به، لكنى أريد أن أقول إن الطبيعة الإنسانية لا يمكن أن تتحمل السماحة والصبر إلى أبد الآبدين، ولا بد أن تأتى على أحلم الحلماء أوقات يضيق منه الصدر ويثور على المجرمين. كل ذلك رغم أن المسيح عليه السلام لم ينفق فى الدعوة ومخالطة الناس فى ميدانها إلا سنواتٍ ثلاثًا لا غير. بل إن النصارى، فى السِّيَر التى ألفوها عنه وأطلقوا عليها: "أناجيل"، قد نسبوا إليه بعض التصرفات التى أقلّ ما توصف به أنها تصرفات جافية تفتقر إلى اللياقة تجاه أمه عليها السلام: من ذلك أنه، بينما كان يعظ فى أحد البيوت ذات يوم، أُخْبِر أن أمه وإخوته بالخارج يريدون أن يَرَوْه ولا يستطيعون أن يصلوا إليه من الزحام، فما كان منه إلا أن أجابهم قائلا فى استنكار ونفور: "إن أمى وإخوتى هم الذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها" (لوقا/ 8 / 19 – 20 )، وحين دعت لـه امرأة بأنْ "طُوبَى للبطن الذى حملك، وللثديين اللذين رضعتَهما" ردَّ فى جفاء: "بل طوبى لمن يسمع كلمة الله ويعمل بها" (لوقا/ 11/ 27– 28). وليس لهذا من معنى، فضلا عن الخشونة التى لا يصح سلوكها تجاه من حَمَلتْنا وربَّتْنا، إلا أنها لم تكن هى ولا إخوته ممن يسمعون كلمة الله ويعملون بها!
وفى مناسبة أخرى كان هو وأمه فى عرس فى قانا الجليل، وفرغت الخمر فنبهته إلى ذلك، فأجابها فى غلظة: "ما لى ولك يا امرأة؟" (يوحنا/ 2/ 1- 3). لكأن مؤلفى الأناجيل قد تعمدوا أن يشوهوا سيرته وصورته! لكننا بطبيعة الحال لا نصدّق بشىء من ذلك، فقرآننا يؤكد أنه عليه السلام كان بَرًّا بوالدته غاية البِرّ (مريم/ 32). على أن المسألة لا تنتهى هنا وحسب، بل إنهم ليصورونه، عقب مقتل النبى يحيى قريبه اللصيق، كما لو كان بلا قلب أو مشاعر، إذ نراه بعد علمه بمقتل هذا النبى الكريم تلك القِتْلة المأساوية المعروفة يأخذ أتباعه ويمضى بهم خارج المدينة ليمارسوا حياتهم ويأكلوا كما كانوا يفعلون من قبل، وكأن شيئا لم يقع (متى/ 14/ 12 وما بعدها، ومرقس/ 6/ 28 وما بعدها)، وهو ما يدل على تحجر الإحساس، أستغفر الله! كذلك كان سائرا ذات مرة فى الطريق فجاع، ورأى شجرة تين هناك، فدنا إليها لعله يجد فيها تينا يأكله، فلما لم يجد فيها ثمرا دعا عليها ألا تثمر إلى الأبد فلا يأكل أحد منها شيئا، فيبست التينة لوقتها، وكان هذا فى رأيه برهانا على قوة الإيمان (متى/ 21 / 19 وما بعدها، ومرقس/ 11/ 12 وما بعدها). وإن الإنسان ليتساءل: كيف يمكن أن يُعَدّ هذا برهانا على قوة الإيمان؟ وما ذنب التينة يا ترى؟ وما الفائدة التى تعود على الناس أو الحياة من اليبوسة التى أصابتها؟ ألم يكن هناك برهان آخر أكثر نفعًا ومعقوليةً يمكن أن يقوم به السيد المسيح الذى يضرب النصارى به الأمثال فى الحِلْم والوداعة؟ ثم إن هذا التصرف من السيد المسيح يناقض ما أراده من المثل الذى ضربه فى موقف آخر عن التينة ، وخلاصته أن رجلا كانت لـه شجرة تين مغروسة فى كَرْمِهِ ظلت لا تثمر ثلاث سنين، فطلب من الكَرّام أن يقلعها ليستفيد من مساحة الأرض التى تشغلها، لكن الكرّام استسمحه أن يتركها هذه السنة أيضا على أن يقطعها العام القادم إذا لم تثمر، فأجابه صاحب الأرض إلى طِلْبته (لوقا/ 13/ 6– 9). ومغزى المثل أن الله يعطى الفرصة للعاصين مرة واثنتين وثلاثا قبل أن يأخذهم بذنوبهم. فلماذا لم يطبق المسيح عليه السلام هذا المبدأ مع التينة، التى ليس لها مع ذلك عقل الإنسان ولا إرادته؟ خلاصة القول إننا لو قارنّاه برسولنا الكريم، عليه وعلى ابن مريم السلام، لوجدنا أن النبى محمدا كان أحلم وأطول بالا وأوسع صدرا، وظل هكذا، لا ثلاث سنوات فقط مثله، بل ثلاثة وعشرين عاما!
أما فى حالة الرسول محمد بعد الهجرة إلى المدينة فقد كانت هناك دولة سرعان ما وجدت نفسها منغمسةً فى حروب مع هذا ومع ذاك، شأنها فى ذلك شأن ما يحدث للدول فى كل مكان وزمان ما دمنا نعيش فى دنيا البشر لا فى دنيا الملائكة. أما حكاية "من لطمك على خدك الأيمن فحَوِّل له الآخر" فهذا كلام غير قابل للتطبيق، ولا يترتب عليه إلا خراب المجتمعات والدول، وفوز الذئاب والكلاب من البشر بكل شىء، وذهاب الناس الطيبين فى ستين داهية غير مأسوف عليهم من أحد! ثم أين هذا الصنف من الناس الذى تضربه على خده الأيمن فيدير لك الأيسر لتَحِنّ عليه بما لذّ وطاب من الصفع والإهانة؟ أَرُونِى واحدا يفعل ذلك! بل إن المسيح نفسه لم يفعل هذا! حتى الصَّلْب، الذى يزعمون أنه عليه السلام إنما أُرْسِل إلى الأرض ليتحمله فداءً للبشر الخُطَاة، ظل يسوّف فيه ويحاول تجنبه ما أمكن، وعندما وقع أخيرا فى أيدى الجنود وأخذوا يعتدون عليه بالشتم والضرب كان يعترض على ما يوجهونه إليه من أذى. بل إنه، وهو فوق الصليب، أخذ يجأر إلى ربه كى يزيح عنه تلك الكأس المرة. وهذا كله قد سجَّله مؤلفو الأناجيل أنفسهم!
ثم تعالَوْا بنا إلى واقع الحياة، فماذا نجد؟ لننظرْ إلى الحروب التى خاضها النصارى وتلك التى خاضها المسلمون ونقارن بينهما. وأول ما يلفت النظر بطبيعة الحال أن النصارى قد خاضوا الحروب وقاتلوا وقَتَلوا ولم يديروا خدهم لا اليمين ولا الشمال لأحد، اللهم إلا كِبْرًا وبَطَرًا وتجبُّرا. ومع هذا فإنهم ما زالوا سادرين فى سخفهم وسماجتهم ومحاضرتهم لنا عن التسامح والمسكنة والتواضع وإدارة خدك الأيسر لمن يصفعك على أخيه الأيمن وترك إزارك له أيضا إذا أخذ منك رداءك. لقد أبادوا أمما من على وجه الأرض فلم تبق لها من باقية: حدث هذا فى أمريكا على يد الأوربيين الذين هاجروا إليها فى مطالع العصور الحديثة وظلوا يشنون الغارات على الهنود الحمر أصحاب البلاد وينشرون بينهم الأوبئة التى لم يكن لهم بها عهد حتى أفنَوْهم عن بَكْرَة أبيهم تقريبا، وذلك بمباركة القساوسة الناطقين باسم المسيح وحاملى رسالة التواضع والمحبة والتسامح وإدارة الخد الأيسر، والتنازل عن الرداء والإزار معا وسير صاحبهما عاريًا حافيًا كما ولدته أمه! وحدث هذا أيضا فى أستراليا نحو ذلك الوقت! ولقد ناب المسلمين والعرب من هذه المحبة جانب، إذ بعد أن انتصر فرديناند وإيزابلا على بنى الأحمر فى شبه جزيرة أيبريا وأصبحت الأندلس نصرانية، رأينا هذين الملكين ينقلبان على المسلمين الذين بَقُوا فى بلادهم لم يغادروها مع من غادرها، فيغدران بهم ويُثْخِنان فيهم تقتيلا وتنصيرا، ضاربَيْنِ عُرْضَ الجدار بالمعاهدات التى تكفل للمسلمين الأمان والحرية الدينية والاحتفاظ بممتلكاتهم لا تُمَسّ، حتى لم يعد هناك بعد فترة وجيزة فى تلك البلاد مخلوق يوحّد الله. والبركة فى محاكم التفتيش التى أقامها خلفاء السيد المسيح ناشرو دعوة التسامح والتواضع والمحبة على الورق وفى عالم الدعاية الكاذبة الفاجرة لا غير، أما فى دنيا الواقع فإنها لا تسمن ولا تغنى من جوع أو قتل أو حرق أو سلخ أو تكسير للعظام أو سَمْل للعيون أو تغريق فى البحر أو مصادرة للأملاك أو... أو... أو...! فانظر إلى ما فعله المسلمون حين فتحوا تلك البلاد تدرك الفرق بين النفاق النصرانى المتشدق زورا وبهتانا بالمبادئ الخلقية الورقية التى لم تعرف السبيل يوما إلى التطبيق على الأرض، وبين المثالية الإسلامية الواقعية التى لا تعرف هذه الشقشقات اللفظية، لكنها لا تنزل أبدا إلى هذا الدرْك الأسفل من القسوة والتوحش مهما خالفت عن أمر دينها ولم تلتزم به كما يحدث فى دنيا البشر أحيانا! إن المسلمين متَّهَمون دائما بأنهم نشروا دينهم بالسيف، مع أنه لم يثبت قط أنهم أكرهوا شعبا على ترك دينه كما فعل النصارى فى كثير من الدول التى احتلوها مما ذكرنا منه أمثلة ثلاثة ليس إلا.
وأَدَعُ هنا الحديث لرجل غربى هو الصحفى فنسينزو أوليفيتى، الذى لم تَرُقْ له مفتريات الزعيم الأنجليكانى باتريك سُوكْدِيو ضد الإسلام فى مقال له بصحيفة "السِّبِكْتِيتَرْ" البريطانية فى 30 يوليه 2005م، فكتب يرد عليه فى مقال عنوانه: "القول بأن الإسلام المعتدل خرافة هو الخرافة" ننقل منه الفقرات التالية: "فى مقال نُشِر مؤخرًا فى مجلة "السِّبِكْتِيتَرْ" البريطانية يهاجم الزعيم الأنجليكانى باتريك سوكْدِيو المسلمين ودينهم هجوما عنيفا. ترى هل يَثْبُت ما كتبه المؤلف فى ذلك المقال على محك التمحيص؟ الواقع أن مقالة باتريك سوكديو: "خرافة الإسلام المعتدل" فى "السبكتيتر" اللندنية بتاريخ 30 يونيه 2005م تعكس اتجاها خطيرا فى الحرب على الإرهاب، إذ تحت ستار الرغبة فى تعريف الغربيين بالإسلام نجده ينشر نفس التضليل الذى تقوم عليه الكتابات العدائية لذلك الدين على مدار أكثر من ألف عام، وهذا من شأنه أن يكون أداة مباشرة فى يد أسامة بن لادن وأبو مصعب الزرقاوى وغيرهما، لأنه يشجع فكرة "صراع الحضارات" التى يرغبون فى دوامها على نحوٍ جِدِّ مَقِيت. وإنه لمن المهم جدا أن نعرف الإسلام على نحو أفضل مما نعرفه الآن وأن نكافح وباء التطرف بكل ما فى أيدينا من إمكانات. بيد أن سوكْدِيو وأمثاله يفسدون القضية بطريقتهم التى يَسْعَوْن من ورائها إلى خدمة أغراضهم هم، وذلك من خلال تحويل الحرب على الإرهاب إلى إشعال حرب دينية على الإسلام ذاته.
ويتضح انحياز سوكْدِيو منذ البداية، فهو يزعم أن الإرهابيين يمثلون الإسلام حقا، إذ يقول: "ينبغى علينا أن نصدقهم إذا قالوا إنهم يفعلون ذلك باسم الإسلام. أليس من الغطرسة الشديدة والتنكر التام لليبرالية أن ننكر عليهم الحق فى تعريف أنفسهم بأنفسهم؟". أما فى باقى المقالة فهو يبذل جهدا مكثفا لإنكار حق التعريف الذاتى على سائر المسلمين الآخرين الذين يقولون إنهم يرفضون التفاسير المتطرفة للإسلام. والحقيقة أن 5% فحسب من المسلمين هم الذين يمكن تصنيفهم على أنهم أصوليون، وأن 1., . % فقط من هؤلاء الخمسة فى المائة يُبْدُون قدرا من الميل نحو ممارسة الإرهاب أو "العنف الدينى". إنها إذن "قمة التنكر للّيبرالية" أن نعرّف نحو المليار وثلث المليار من المسلمين بأنهم إرهابيون رغم أنهم لا صلة بينهم وبين "العنف الدينى" بأى حال، لمجرد أخطاء يرتكبها هامش ضئيل لا يزيد عن 005,. %. وعلى أكثر تقدير فإن واحدا فقط من كل 200000 مسلم يمكن اتهامه بالإرهاب. أى أن كل ما هنالك من إرهابيين فى العالم لا يزيدون عن 65 ألفا ليس إلا، وهو تقريبا نفس عدد القتلة الطُّلَقاء فى الولايات المتحدة وحدها، فضلا عن أكثر من 200 ألف قاتل أمريكى فى العام الواحد فى أمة تعدادها لا يتجاوز 300 مليون نسمة.
ويدعى سوكْدِيو أن على المسلمين "الالتزام بالصدق والإقرار بالعنف الذى يصبغ تاريخهم". ومع ذلك فحين نأخذ فى الاعتبار أن معظم الكتب التى تتحدث عن اعتداءات المسلمين قد كُتِبت بأقلامٍ مسلمةٍ كان من الصعب القول بأن المسلمين بوجه عام قد اختاروا تجاهل الفظائع التى ارتكبوها فى الماضى. وبطبيعة الحال هناك مسلمون ينكرون بعضا من ذلك الماضى، بالضبط مثلما أن هناك بريطانيين لا يزالون ينكرون فظائع الحقبة الاستعمارية، ومثلما أن هناك أمريكيين ينكرون المجازر التى اجترحوها فى حق سكان أمريكا الأصليين، ومثلما أن هناك ألمانًا ينكرون المحرقة التى قضت على ستة ملايين يهودى. إلا أن الحقيقة المرة مع ذلك كله تقول إن الحضارة النصرانية قد ارتكبت من الفظائع ما يزيد كثيرا جدا على ما ارتكبته الحضارة الإسلامية، حتى لو وضعنا فى الحسبان التعداد الأكبر الذى بلغه أصحابها والعمر الأطول الذى استغرقه تاريخها.
الحق أنه لا وجود فى أى مرحلة من مراحل التاريخ الإسلامى لمثل ذلك المبدإ الذى كان ينادى به القديس أوغسطين، وهو : "عليكم أن تنصِّروهم قَسْرًا وإكراهًا". بل إن القرآن ليقول العكس من ذلك تماما كما فى الآية السادسة والخمسين بعد المائتين من سورة "البقرة"، ونصها: "لا إكراه فى الدين". لقد أدت فكرة أوغسطين المرعبة التى توجب إكراه الجميع على "التطابق" مع "العقيدة النصرانية الصحيحة" إلى قرون من سفك الدماء الذى ليس له فى تاريخ البشرية نظير. أجل، لقد عانى النصارى أثناء سلطان الحضارة النصرانية أكثر مما عانَوْا تحت سلطان الرومان قبل مجىء النصرانية أو أى سلطان آخر طوال التاريخ. لقد تجرع الملايين غصص التعذيب وذُبِحوا ذبحا باسم النصرانية أثناء البدع الآريوسية والدوناتية والألبيجينية، ودعنا من محاكم التفتيش المختلفة أو الحروب الصليبية التى كانت الجيوش الأوربية تقول فيها وهى تجزر رقاب المسلمين والنصارى معا: "اقتلوهم عن بَكْرة أبيهم، ولسوف يميز الله من يخصّونه ممن لا يخصّونه". وغَنِىٌّ عن القول أن هذه الاعتداءات التى قام بها النصارى، بل كل الاعتداءات النصرانية على مدار التاريخ، لا صلة بينها على الإطلاق وبين السيد المسيح أو حتى بينها وبين الأناجيل كما نعرفها. أجل لا يوجد مسلم واحد يمكن أن يؤاخذ السيد المسيح (الكلمة التى صارت جسدا بالنسبة للنصارى والمسلمين جميعا)، فكيف إذن تواتى سوكْدِيو نفسُه على محاسبة القرآن (كلمة الله التى صارت كتابا بالنسبة للمسلمين) على الاعتداءات الإسلامية (التى تقلّ كثيرا جدا عن نظيرتها النصرانية)؟
والواقع أن ذلك العنف الأعمى الذى لا يعرف التمييز لا يقتصر البتة على "عصور الظلام" فى أوربا أو على فترة واحدة من التاريخ النصرانى دون سواها، فحركات الإصلاح الدينى والحركات المضادة لها قد دفعت كلتاهما بالمجازر التى ارتكبها النصارى بعضهم فى حق بعضهم إلى آمادٍ قياسيةٍ غير مسبوقة، إذ تمت إبادة ثلثى النصارى فى أوربا خلال تلك الفترة. ثم لا ينبغى أن ننسى الحروب النابليونية من 1792 إلى 1815م، ولا تجارة الرقيق الأفريقى التى حصدت أرواح عشرة ملايين إنسان، أو الغزو الاستعمارى المتلاحق، فضلا عن الحروب والبرامج والثورات والإبادات الأخرى. إن أعداد السكان الأصليين الذين أبيدوا فى شمال أمريكا ووسطها وجنوبها لترتفع إلى رقم العشرين مليونا فى خلال ثلاثة أجيال لا غير.
وبالإضافة إلى ألوان التخريب والعنف الأوربى فى الماضى، أخذت الحضارة الغربية الحروب مرة أخرى إلى مسافاتٍ لم تعرفها البشرية من قبل حتى إن أحد الإحصاءات المتحفظة ليصل بعدد المقتولين قتلا وحشيا فى القرن العشرين إلى أكثر من مائتين وخمسين مليونا يتحمل المسلمون منها وِزْر أقل من عشرة ملايين ليس إلا، على حين يُسْأَل النصارى أو المنتمون إلى النصرانية عن مائتى مليون من ذلك العدد. و يعود معظم أعداد هؤلاء القتلى إلى الحرب العالمية الأولى (20 مليونا، 90 % منها على الأقل تمت على أيدى "نصارى") والحرب العالمية الثانية (90 مليونا، 50 % منها على الأقل تمت على أيدى "نصارى"، أما الباقى فقد وقع أغلبه فى الشرق الأقصى). وبالتأمل فى ذلك التاريخ المرعب يجب علينا نحن الأوربيين جميعا أن نعى تماما الحقيقة الساطعة التى تؤكد أن الحضارة الإسلامية أقل بما لا يقاس من ناحية القسوة والوحشية من الحضارة النصرانية. ترى هل كانت المحرقة التى راح ضحيتها 6 ملايين يهودى من صنع حضارة المسلمين؟
وفى القرن العشرين وحده نجد أن الغربيين والنصارى قد ارتكبوا من جرائم القتل أضعاف ما وقع من الدول الإسلامية عشرين مرة على أقل تقدير. ولقد تسببنا نحن الغربيين فى هذا القرن الذى لم يشهد التاريخ مثله دموية فى إيقاع الإصابات بين المدنيين بما لا يقاس به ما صنعه المسلمون على مدار تاريخهم جميعا: انظر إلى إزهاق أرواح 900000 رواندى عامى 1992م و1995م فى بلدٍ أكثر من 90% من سكانه نصارى، أو انظر إلى إبادة أكثر من 300000 مسلم، وكذلك الاغتصاب المنظم لأكثر من 100000 امرأة مسلمة فى البوسنة، على يد نصارى الصرب. فهذه الحقائق البشعة تقول بلغة الأرقام والإحصاءات التى لا تعرف الكذب إن الحضارة النصرانية هى أشد حضارات التاريخ عنفا ودموية، وإنها مسؤولة عن إزهاق مئات الملايين من الأرواح.
لقد كان إنتاج الأسلحة النووية واستعمالها كفيلا فى حد ذاته بأن يجعل الغرب يتوارى خجلا أمام باقى شعوب العالم: فأمريكا هى التى صنعت الأسلحة النووية، وأمريكا هى الدولة الوحيدة التى استخدمت الأسلحة النووية، والدول الغربية هى التى تسعى إلى الحفاظ على احتكار الأسلحة النووية. وعلى هذا الأساس فليس لنا الحق بتاتا فى الاعتراض على حيازة الدول الأخرى لهذه الأسلحة إلا إذا أثبتنا أننا متجهون إلى التخلص منها تماما.
ولا بد من القول بأن الإسلام، رغم اشتماله على مفهوم الحرب المشروعة دفاعا عن النفس (كما هو الحال فى النصرانية، وكذلك البوذية)، لا مكان فى ثقافته (أو فى أية ثقافة أخرى من الثقافات الموجودة الآن) لإمكانية تحويل العنف إلى مثلٍ أعلى أو جعله وثنا معبودا كما فعلت الثقافة الغربية. إن الغربيين ينظرون إلى أنفسهم على أنهم ناس مسالمون، بيد أن الرقة والسموّ اللذين يطبعان الأناجيل بطابعهما، وكذلك الطبيعة المحبة للسلام التى تتسم بها الديموقراطية، ليس لها فى الحقيقة أى انعكاس فى الثقافة الغربية الشعبية إلا على سبيل الندرة. بل على العكس نرى الاتجاه التام لتلك الثقافة، متمثلا فى أفلام هوليوود وبرامج التلفاز الغربية وألعاب الفيديو والموسيقى الشعبية والمسابقات الرياضية، ينحو منحى تمجيد العنف وتزيينه. ومن ثم فإن المعدلات النسبية لجرائم القتل (وبخاصة القتل العشوائى والقتل المسلسل) فى العالم الغربى (وبالذات فى الولايات المتحدة الأمريكية، بل حتى فى أوربا كلها بصفة عامة) أعلى من مثيلاتها فى العالم الإسلامى فى البلاد التى لا يوجد فيها حروب طائفية، وذلك على الرغم من أن الغرب يتمتع بثروة أضخم كثيرا. ترى هل قرعت سمعَ سوكْدِيو يومًا الكلماتُ التالية من إنجيل متى؟:
"7 1 لاَ تَدِينُوا لِكَيْ لاَ تُدَانُوا،2لأَنَّكُمْ بِالدَّيْنُونَةِ الَّتِي بِهَا تَدِينُونَ تُدَانُونَ، وَبِالْكَيْلِ الَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ. 3وَلِمَاذَا تَنْظُرُ الْقَذَى الَّذِي فِي عَيْنِ أَخِيكَ، وَأَمَّا الْخَشَبَةُ الَّتِي فِي عَيْنِكَ فَلاَ تَفْطَنُ لَهَا؟ 4أَمْ كَيْفَ تَقُولُ لأَخِيكَ: دَعْنِي أُخْرِجِ الْقَذَى مِنْ عَيْنِكَ، وَهَا الْخَشَبَةُ فِي عَيْنِكَ؟ 5يَا مُرَائِي، أَخْرِجْ أَوَّلاً الْخَشَبَةَ مِنْ عَيْنِكَ، وَحِينَئِذٍ تُبْصِرُ جَيِّداً أَنْ تُخْرِجَ الْقَذَى مِنْ عَيْنِ أَخِيكَ!".
ومثل معظم الكتابات الجدلية المعادية للإسلام يشكل باقى مقالة سوكْدِيو خليطا من الحقائق والأوهام. فعلى سبيل المثال يزعم سوكْدِيو أن كثيرا من الآيات القرآنية التى تدعو إلى السلم قد نسختها الآيات التى نزلت بعدها. صحيح أن كثيرا من علماء المسلمين يقولون إن الآيات اللاحقة تنسخ الآيات السابقة، غير أن نطاق النسخ يختلف من عالِمٍ إلى آخَرَ اختلافا بعيدا: فبعض العلماء يرى أن الآيات المنسوخة لا تتجاوز خمس آيات، على حين يرى علماء آخرون أن عدد المنسوخ يتجاوز 150 آية. وعلى ذلك فزَعْم سوكْدِيو بأنه "متى وُجِد تعارض فى الآيات القرآنية كان اللاحق منها ناسخا للسابق" هو تبسيطٌ مُخِلّ. ذلك أن الادعاء بتأخر الآيات الداعية إلى السلم جميعها عن الآيات المحبّذة للحرب وانتساخها بها هو، بكل بساطةٍ، ادعاء زائف. فمثلا هناك آيات نزلت فى العامين الأخيرين من حياة محمد (عليه السلام) تنهى المسلمين عن الانتقام ممن أخرجوهم من بيوتهم: "وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ" (المائدة/ 2)، "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى" (المائدة/ 8).
ومن الصعوبة بمكان أن يتخيل الواحد منا رسالة أقوى من هذه الرسالة فى الدعوة إلى العدل والعفو والتصالح. وفضلا عن ذلك فكثير من علماء المسلمين يستشهدون بالآيات المبكرة التى تحض على السلام فى دعوتهم للشباب المسلم إلى نبذ تطرف المتطرفين، فهل يُؤْثِر سوكْدِيو أن يُصِيخ الشباب المسلم السمعَ لأولئك الذين يفسرون له تلك الآيات على أنها قد تم نسخها كما يقول؟
ومن اللافت للنظر أن سوكْدِيو، شأنه شأن من يفسرون القرآن من المتطرفين، يسىء الاستشهاد بالآيات القرآنية باقتطاعها عن سياقها الذى وردت فيه، قائلا إن الآيتين التاسعة والخمسين والستين من سورة "الأنفال" تحضان على الإرهاب، رغم أن الآية الأخيرة لا تدعو فى واقع الأمر إلى شىء من هذا، بل تشكل مع الآية التى تعقبها كلا واحدا، ونصها: "وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا". وبالمناسبة فهذه الآية هى أيضا من الآيات المتأخرة فى النزول. وفى هذا السياق نجد الآية الستين تأمر المسلمين بألا يقفوا موقفا سلبيا تجاه تهديدات عدوهم، ثم تأتى الآية الحادية والستون لرسم حدود هذا الأمر فى الواقع العملى. وعلى هذا فليس فى الآية على الإطلاق أية دعوة إلى الإرهاب. ولربما لو كان سوكْدِيو يلمّ بالعربية إلمامًا جيدًا لكان فهمه للقرآن أفضل، لكنه يفتقر إلى مثل هذا الإلمام المطلوب، وهو ما يجعل من الصعب علينا الاقتناع بما يقوله عن الإسلام وتعاليمه مهما يكن المنصب الذى يشغله أو اللقب الذى يتحلى به.
ويمضى سوكْدِيو قائلا إن الإنسان يمكنه الاختيار بين الآيات التى تحبّذ العنف وتلك التى تدعو إلى السلام. وهذا صحيح، إلا أنه سيكون فى هذه الحالة متسرعا تسرعا شديدا فى القول بأن القرآن يرحب بالعنف أكثر مما يرحب العهد القديم (كما هو الحال مثلا فى سفر "اللاويين" أو سفر "يوشع"). فإذا قلنا إن القرآن يحبذ العنف، فما القول إذن فى نصوص العهد القديم التى تأمر أمرا صريحا بالقتل وإبادة البشر؟ ففى الفقرة رقم 17 من الأصحاح الحادى والثلاثين من سفر "العدد" يقول موسى بشأن الأسرى المديانيين الذين قتل بنو إسرائيل أقاربهم: "فَالآنَ اقْتُلُوا كُلَّ ذَكَرٍ مِنَ الأَطْفَالِ. وَكُلَّ امْرَأَةٍ عَرَفَتْ رَجُلاً بِمُضَاجَعَةِ ذَكَرٍ اقْتُلُوهَا". كما أن الفقرات 1- 9 من الأصحاح الخامس عشر من سفر صموئيل الأول تحكى لنا قصة النبى صموئيل حين أمر الملكَ شاول بمحو العمالقة من الوجود على النحو التالى: "3فَالآنَ اذْهَبْ وَاضْرِبْ عَمَالِيقَ، وَحَرِّمُوا كُلَّ مَا لَهُ وَلاَ تَعْفُ عَنْهُمْ بَلِ اقْتُلْ رَجُلاً وَامْرَأَةً، طِفْلاً وَرَضِيعًا، بَقَرًا وَغَنَمًا، جَمَلاً وَحِمَارًا". أما النبى محمد فقد نهى أتباعه عن مثل هذا التطرف قائلا كما جاء فى تفسير ابن كثير للآيات 190- 193 من سورة "البقرة: " اغزوا فى سبيل الله. قاتلوا من كفر بالله. اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا الوليد ولا أصحاب الصوامع"، ومثله ما ورد فى "المغازى" للواقدى (3/ 117- 118): "اغزوا ولا تغدروا، ولا تقتلوا وليدا ولا امرأة، ولا تمنَّوْا لقاء العدو".
أما الزعم بأن الحرب التى حضت عليها بعض آيات القرآن تسوّغ الأعمال الحربية العدوانية فهو دليل على الجهل بأن المفسرين التقليديين قد ضيّقوا نطاق تلك الآيات. فمثلا هناك الآية الرابعة من سورة "التوبة" التى أسىء تفسيرها فى عصرنا، ونصها: "فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ". فمن ناحيةٍ نرى المتطرفين يستغلون هذه الآية فى إراقة الدماء البريئة، ومن الناحية الأخرى فإن أعداء الإسلام يستغلونها فى الزعم بأن القرآن إنما هو كتاب عدوانى يحض على شن الحرب دون توقف. لكنْ بالاستناد إلى الروايات التقليدية فإن هذه الآية لا يمكن اتخاذها صَكًّا على بياضٍ لقتال غير المسلمين، إذ لا تَصْدُق فى الواقع إلا على أولئك المشركين الذين ناهضوا المسلمين الأوائل وهددوا وجودهم ذاته تهديدا. وكما قال أحد كبار الفقهاء، وهو أبو بكر بن العربى (من أهل القرنين الحادى عشر والثانى عشر)، فـ"قَوْله تَعَالَى: "فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ" عَامٌّ فِي كُلِّ مُشْرِكٍ، لَكِنَّ السُّنَّةَ خَصَّتْ مِنْهُ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ قَبْلَ هَذَا مِنْ امْرَأَةٍ وَصَبِيٍّ وَرَاهِبٍ وَحُشْوَةٍ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَبَقِيَ تَحْتَ اللَّفْظِ مَنْ كَانَ مُحَارِبًا أَوْ مُسْتَعِدًّا لِلْحِرَابَةِ وَالإِذَايَةِ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالآيَةِ: اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يُحَارِبُونَكُمْ".
ويمكن المضىّ فى الاستشهاد بهذه التفسيرات إلى ما لا نهاية. ومنها يتبين بكل وضوح أن تسوية سوكْدِيو بين "المسلمين المتشددين" و"علماء المسلمين القدامى" الذين يقولون إن الإسلام هو دين السيف" ليست متهافتةً فقط بل تشويهًا مطلقًا للحقائق. وعلى هذا فإما أن سوكْدِيو غير مؤهل لتحليل التراث الإسلامى والمقارنة بينه وبين الانحرافات الحديثة، وإما أنه يحرّف على نحوٍ متعمدٍ تعاليم الإسلام، وهو فى الحالتين يبرهن على أنه غير جدير بالثقة بتةً". هذا، ويجد القارئ الأصل الإنجليزى لذلك المقال كاملا مع ترجمتى له إلى العربية فى كتابى: "مختارات استشراقية إنجليزية عن الإسلام" (ط. المنار للطباعة والنشر/ القاهرة/ 1430هـ- 2009م/ 233- 269).
كذلك لا يكفّ النصارى أبدا عن الكلام فى الجزية وقسوة الجزية حتى ليخيَّل لمن لا يعرف الأمر أن المسلمين كانوا يصادرون أموال الأمم التى يفتحون بلادها مصادرة، مع أن المبلغ الخاص بالجزية لم يكن يزيد على بضعة دنانير فى العام عن الشخص الواحد، فضلا عن أنه لم تكن هناك جزية على الأطفال والنساء والشيوخ والرهبان. وفى المقابل كان غير المسلمين يُعْفَوْن من دفع الزكاة على عكس المسلم، كما كانوا يُعْفَوْن من الاشتراك فى الحرب. وبهذا يكون المسلمون قد سبقوا كالعادة، ودون شقشقة لفظية أيضا، إلى مبدإ الإعفاء من الحرب على أساس مما نسميه الآن: "تحرُّج الضمير"، إذ لمّا كان أهل البلاد المفتوحة غير مسلمين كانت الحرب تمثّل لهم عبئًا نفسيًّا وأخلاقيا أراد الإسلام أن يزيحه عن كاهلهم بطريقة واقعية سمحة. وفضلا عن هذا فإن المسلمين، فى الحالات التى لم يستطيعوا فيها أن يحموا أهل الذمة، كانوا يردون إليهم ما أخذوه منهم من جزية، إذ كانوا ينظرون إليها على أنها ضريبة يدفعها أهل الذمة لقاء قيامهم بالدفاع عنهم.
ومع ذلك كله يُبْدِئون ويُعِيدون فى مسألة الحروب الإسلامية مدَّعين بالباطل أن المسلمين كانوا يقتلون أهل البلاد التى يفتحونها إلا إذا دفعوا الجزية. والملاحظ أنهم يخلطون عن عمد بين القتال والقتل، فالآية التى وردت فيها لفظة "الجزية" تقول: "قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآَخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)" (لاحظ: "قاتلوا" لا "اقتلوا". والفرق واضح لا يحتاج إلى تدخل من جانبى). وقد نزلت فى حق الروم، الذين كانوا يتربصون بدولة الإسلام ويتآمرون عليها ويهددونها بجيوشهم الجرارة. لقد قتل الروم مثلا الرسل والدعاة المسلمين الذين أرسلهم النبي صلي الله عليه وسلم إليهم، وكانوا يُعِدّون العدة لمهاجمة الدولة الإسلامية في عقر دارها، فكان لابد من قتالهم هم ومن يعضدهم من قبائل العرب النصارى المتحالفين معهم. ومعنى الآية أنه ينبغى على المسلمين أن يهبوا لمقاتلة الروم، الذين شرعوا فى ذلك الحين يتجهزون لاجتياح الدولة الإسلامية الوليدة متصورين أنها لقمة سائغة سهلة الهضم لن تأخذ فى أيديهم وقتا، فكان لا بد من قطع هذه اليد النجسة، وإلا ضاع كل شىء. كما كان لا بد أيضا من أخذ الجزية منهم عن يدٍ وهم صاغرون جزاءً وفاقا على بغيهم واستهانتهم بالمسلمين وتخطيطهم لاكتساح دولتهم دون أن يَفْرُط منهم فى حقهم أى ذنب!
وعلى أية حال فإن النصارى مأمورون بحكم دينهم أن يدفعوا "الجزية" (هكذا بالنص) لأية حكومة يعيشون فى ظلها وأن يعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله، حسبما قال لهم المسيح حرفيا (متى/ 22/ 17– 21، و12/ 24– 25، ومرقس/ 12/ 14– 17). كما أن بولس، الذى يخالف فى غير قليل من أحكامه ما قاله نبيُّه، قد كرر هنا نفس ما قاله السيد المسيح فأمرهم بالخضوع لأية حكومة تبسط سلطانها عليهم وألا يحاولوا إثارة الفتن، لأن تسلط هذه الحكومات عليهم إنما هو بقَدَر من الله كما قال لهم، ومن ثم لا ينبغى التمرد على سلطانها، بل عليهم دفع الجزية والجبايات دون أى تذمر: "لِتَخْضَعْ كلُّ نفس للسلاطين العالية، فإنه لا سلطان إلا من الله، والسلاطين الكائنة إنما رتَّبها الله* فمن يقاوم السلطان فإنما يعاند ترتيب الله، والمعاندون يجلبون دينونة على أنفسهم* لأن خوف الرؤساء ليس على العمل الصالح بل على الشرير. أفتبتغى ألا تخاف من السلطان؟ افعل الخير فتكون لديه ممدوحا* لأنه خادمُ الله لك للخير. فأما إن فعلتَ الشر فَخَفْ فإنه لم يتقلد السيف عبثا لأنه خادمُ الله المنتقمُ الذى يُنْفِذ الغضب على من يفعل الشر* فلذلك يلزمكم الخضوع لـه لا من أجل الغضب فقط بل من أجل الضمير أيضا* فإنكم لأجل هذا تُوفُون الجزية أيضا، إذ هم خُدّام الله المواظبون على ذلك بعينه* أدُّوا لكلٍّ حقه: الجزية لمن يريد الجزية، والجباية لمن يريد الجباية، والمهابة لمن لـه المهابة، والكرامة لمن لـه الكرامة" (رسالة القديس بولس إلى أهل رومية/ 13/ 1– 7). وهذا الكلام خاص بخضوع النصارى للحكومات الوثنية، فما بالنا بالحكومات المسلمة المؤمنة الموحِّدة التى لم يسمع أحد أنها فعلت بالنصارى ولا واحدا على الألف مما كانت تلك الحكومات تفعله بهم؟
ولنعد الآن إلى ما كنا بصدده من قسوة النصارى فى معاملتها للأمم الأخرى التى تسلطت عيها. وهنا يثور السؤال التالى: ترى لماذا كان تعامل النصارى بهذه القسوة مع غيرهم رغم الكلام المعسول عن المحبة والتسامح وما إلى ذلك؟ والجواب أوَّلا هو أن هذا الكلام المعسول إنما يخص العلاقات الفردية لا الدولية، فالنصرانية لم يكن لها أية سلطة على عهد السيد المسيح، الذى رأيناه هو وحوارييه، على العكس من ذلك، يحاكَمون على يد أعدائهم وبمقتضى قوانين هؤلاء الأعداء. وحتى على المستوى الفردى قد وجدنا أن مثل هذه المبادئ لا تؤكِّل عيشا. وإلى جانب هذا فالنصرانية ديانة لا تقوم على العقل، بل تطلب من الشخص أن يؤمن دون مناقشة أو تفكير، وعلى ذلك فإنها فى الواقع تفتقر إلى هذا التسامح الذى تدّعيه. ومعروف أنه كلما بالغ الشخص فى الحديث عن مزاياه وأزعج الآخرين بها بداعٍ وبدون داعٍ كان ذلك دليلا على كذبه. ومن ثَمَّ فإنها حين وجدت نفسها ذات سيادة ودولة ورأت أنها لا تملك أية تشريعات تتعلق بالحكم والعلاقات الدولية انكفأت إلى العهد العتيق من الكتاب المقدس تستلهمه المشورة فلم تجد إلا الحروب والتشريعات اليهودية التى تتسم بالقسوة الوحشية المفرطة فى معاملة الأعداء فى الحرب وبعد الحرب على السواء دون التقيد بأية التزامات أخلاقية أو إنسانية.
ولسوف أقتصر هنا على نص واحد من النصوص التى وردت فى العهد العتيق خاصة بالحرب. جاء فى سفر "تثنية الاشتراع": "وإذا تقدَّمْتَ إلى مدينة لتقاتلها فادْعُها أولا إلى السلم* فإذا أجابتك إلى السلم وفتحت لك فجميع الشعب الذين فيها يكونون لك تحت الجزية ويتعبدون لك* وإن لم تسالمك بل حاربتك فحاصَرْتَها* وأسلمها الرب إلهك إلى يدك فاضرب كل ذَكَرٍ بحدّ السيف* وأما النساء والأطفال وذوات الأربع وجميع ما فى المدينة من غنيمة فاغتنمها لنفسك، وكُلْ غنيمةَ أعدائك التى أعطاكها الرب إلهك* هكذا تصنع بجميع المدن البعيدة منك جدا التى ليست من مدن أولئك الأمم هنا* وأما مدن أولئك الأمم التى يعطيها لك الرب إلهك ميراثًا فلا تستَبْقِ منها نسمة* بل أَبْسِلْهم إبسالا..." (20/ 10– 17). هذا مثال من التشريعات التى وجدها النصارى تحت أيديهم فطبقوها بمنتهى الدقة والإخلاص متى واتتهم الظروف كما حدث فى أمريكا وأستراليا مثلا، وكما حدث فى الأندلس عندما سقطت فى أيديهم فنكَّلوا بالمسلمين تنكيلا رهيبا، وكما حدث كذلك فى فلسطين، التى امتلخوها من العرب والمسلمين وأعطَوْها لليهود. وكدَيْدَنِهم عملوا على أن يصبغوا هذه الجريمة بصبغة إنسانية فزعموا أنهم إنما يريدون أن يعوّضوا اليهودَ عما ذاقوه من ويلات. على يد من؟ على يد النصارى أنفسهم، وليس على أيدى العرب والفلسطينيين! لكن متى كان الإجرام والتوحش يبالى بمنطق أو عدل أو أخلاق؟ أما الحرب فى الإسلام فلا تُشَنّ إلا للدفاع عن النفس كما هو معلوم. أما عند هزيمة العدو فإننا نأسره ولا نقتله، ثم بعد انتهاء الأعمال القتالية فإما أطلقنا سراح الأسرى دون مقابل، وإما أخذنا منهم الفدية لقاء تركهم يعودون لذويهم. أما المحو والاستئصال الذى يأمر رب اليهود شعبه به فلا مجال لـه فى الإسلام! وفى النهاية أرجو أن يكون القارئ قد تنبه لحكاية "الجزية" فى النصوص السابقة المأخوذة من الكتاب المقدس بعهديه العتيق والجديد جميعا!
وهم أيضا يُزْرون على تعدد الزوجات! ألا يعرفون أن إبراهيم وموسى وسليمان وداود وغيرهم من أنبياء العهد القديم كانوا من أهل التعديد، بل كان فى حريم بعضهم عشرات النساء؟ ألا يعون أنهم بهذا يلوّثون عيسى نفسه، الذى ينتمى إلى داود وسليمان، وكانا من أهل التعديد كما ذكرنا؟ لقد كان جواز تعدد الزوجات هو تشريع الأنبياء، لكن مؤلف إنجيل متى عزا لعيسى كلاما فهم منه القوم أنه يحرم التعدد، مع أن الكلام لم يكن فى التعدد قط، بل فى الطلاق! يقول متى (19/ 3– 12): "ودنا إليه الفَرِّيسِيُّون ليجربوه قائلين: هل يحلّ للإنسان أن يطلِّق زوجته لأجل كل عِلَّة؟* فأجابهم قائلا: أما قرأتم أن الذى خلق الإنسان فى البدء ذكرًا وأنثى خلقهم وقال:* لذلك يترك الرجل أباه وأمه ويلزم امرأته فيصيران كلاهما جسدا واحدا؟* فليسا هما اثنين بعد، ولكنهما جسدٌ واحد. وما جمعه الله فلا يفرّقه إنسان* فقالوا له: فلماذا أوصى موسى أن تُعْطَى كتابَ طلاق وتُخَلَّى؟* فقال لهم: إن موسى لأجل قساوة قلوبكم أذِن لكم أن تطلّقوا نساءكم، ولم يكن من البدء هكذا* وأنا أقول لكم: من طلَّق امرأته إلا لعلة زنى وأخذ أخرى فقد زنى* فقال له تلاميذه: إن كان هكذا حال الرجل مع امرأته فأجدرُ لـه ألا يتزوج* فقال لهم: ما كل أحد يحتمل هذا الكلام إلا الذين وُهِب لهم* لأن من الخصيان من وُلِدوا كذلك من بطون أمهاتهم، ومنهم من خصاهم الناس، ومنهم من خَصَوْا أنفسهم من أجل ملكوت السماوات. فمن استطاع أن يحتمل فلْيحتمل".
هذا هو نص الكلام الذى ذكروا أن عيسى عليه السلام قد قاله فى تعدد الزوجات وفهموا منه أنه يحرّم هذا النظام الذى أقره الأنبياء جميعا. ومن الواضح أن عيسى عليه السلام (إن كان هو فعلا قائل هذا النص) لم يتطرق لموضوع التعدد من قريب أو بعيد، إذ كان الكلام كله عن الطلاق. وإذا كان قد عرَّج على سبيل الاستطراد إلى موضوع الإضراب عن الزواج، فهذا أيضا لا علاقة لـه بالتعدد من قريب أو بعيد. أما قوله: "ذكرًا وأنثى خلقهم" فلا أدرى كيف يمكن أن يؤدى إلى إلغاء التعديد، إلا إذا كان الله سبحانه وتعالى قد خلق لكل رجلٍ زوجةً باسمه لا يتزوجها إلا هو، ولا تموت قبله أو يموت هو قبلها، وإلا إذا كان عدد الرجال فى كل المجتمعات مساويا تماما لعدد النساء فى كل العصور، وهذا عكس المشاهد للأسف فى هذه الدنيا الغريبة التى يريد بعض المتهوسين أن يصبّوها فى قوالب من حديد كما كان يفعل أهل الصين مع أقدام بناتهم الصغيرات قديما حتى لا تكبر بل تظل دقيقةً مُسَمْسَمَة، إذ إن النسبة المئوية لعدد من فى سن الزواج فى المجتمعات كلها تميل دائما لصالح المرأة كما تقول الإحصاءات السكانية. ولا ننس بالذات الحروب، التى يروح فيها من أرواح الرجال أكثر مما يذهب من أرواح النساء.
ثم جاء بولس، الذى قلب كيان النصرانية رأسًا على عقب، فقال فى رسالته الأولى إلى أهل كورِنْتُس (7/ 1– 2): "أما من جهة ما كتبتم به إلىَّ فحسَنٌ للرجل ألا يَمَسّ امرأة* ولكن لسبب الزنى فلتكن لكل واحدٍ امرأته، وليكن لكل واحدةٍ رجلها "، وإن فُهِمَ من حديثٍ آخَرَ لـه أن هذا الحظر إنما هو خاصّ بالشمامسة (تيموتاوس/ 1/ 12). وهذا كلام يدل أقوى دلالة على أن هذا الرجل لم يكن يتمتع بأى فهم للطبيعة البشرية: فالإنسان لا يتزوج فقط من أجل ألا يقع فى الزنى، بل لأن الحياة لا يمكن أن تستمر إلا عن طريق لقاء الذكر والأنثى، كما أن الحب وممارسة الجنس يشكلان متعةً من أحلى متع الحياة الإنسانية وأعمقها، متعةً ينبغى على المؤمن أن يشكر المولى عليها لا أن ينظر إليها على أنها بلوى أقصى ما يمكنه تجاهها هو الصبر عليها فى مضض وتأفف. ولو أن نصائح بولس قد أُخِذ بها لكان فيها نهاية الحياة! إن هذه النصائح المتطرفة إنما تنبع فى الحقيقة من النظرة الدونيّة التى تنظر بها النصرانية إلى المرأة والجسد الإنسانى، وهذه النظرة قد ورثتها الكنيسة من العهد العتيق وما يقوله عن قصة الخلق وخروج آدم من الجنة بسبب إغراء حواء لـه بعصيان النهى الإلهى عن الأكل من الشجرة واستحقاق المرأة من ثَمّ ابتلاء الله لها بعبء الحمل والولادة وإيقاع العداوة بينها وبين الرجل (تكوين/ 3/ 6– 24)، وهو ما يختلف فيه الإسلام عن النصرانية اختلافًا جِذْرِيًّا، إذ عندنا أن الذنب الذى أخرج أبوينا من الجنة هو ذنبهما جميعا لا ذنب حواء فقط، كما أن العلاقة بين الرجل والمرأة هى علاقة السكن والمودة والرحمة كما يقول القرآن المجيد (الروم/ 21) لا علاقة العداوة والبغضاء.
ولقد كانت النتيجة، وهنا وجه المفارقة، هو هذا السعار الجنسى الذى اشتهرت به أمم الغرب بعد أن لم تعد تطيق قيود النصرانية التى تعمل على وَأْد التطلعات والغرائز البشرية. ذلك أن غرائز البشر وتطلعاتهم لا يمكن تجاهلها، فضلا عن قهرها أو إلغائها كما يحاول الأغبياء. لكن من الممكن، ومن المطلوب أيضا، ترويضها والسمو بها إلى أقصى قدر ممكن، وهذا ما يفعله الإسلام. ولقد كان رجال الدين النصارى على رأس المنفلتين من هذه القيود الخانقة، وفضائحهم معروفة للقاصى والدانى فى كل العصور. وهذا أحد الأسباب التى جعلت الأوربيين يكرهونهم ويرَوْن فيهم مثالا للنفاق البغيض! وما فضائح باباوات روما فى العصور الوسطى واصطحاب بعضهم لعشيقاتهم معهم فى جولاتهم فى أرجاء أوربا لمباركة جموع المؤمنين، ولا الصلات الجنسية الحرام التى كانت بين بعض آخر منهم وبين أخواتهم بمجهولةٍ لمن عنده أدنى فكرة عن أحوال رجال الدين هناك قبل عصر النهضة الذى تخلص فيه الأوربيون من قيود النصرانية المُعْنِتَة.
وحتى فى موضوع الطلاق لا يعدو الكلام أن يكون عبارات شاعرية ساذجة لا دلالة لها على شىء فى الواقع والحقيقة، إذ ما معنى أن ما جمعه الله لا يفرّقه إنسان؟ إن الزواج إنما هو اختيار إنسانى قام أيضا بتوثيقه كائن إنسانى، فشأنه إذن كشأن أى شىء آخر من شؤون الحياة. فلماذا أُفْرِد وحده بهذا الوضع دون سائر الأمور الإنسانية؟ أما إن قيل إن الله هو فى الحقيقة خالق كل شىء، فإن الرد هو أنه لا مُشَاحّة فى هذا، لكننا ضد إفراد الزواج بذلك الحكم، ونرى أن هذا الوضع ينطبق أيضا على عملية الطلاق، مَثَله مثَل أى شىء آخر. ثم ما الحكمة فى أن يُعْنِت الله سبحانه وتعالى عبادَه فلا يرضى أن يرحمهم من قيود الزواج إذا ثبت أنه لا أمل فى أن يجلب لطرفيه السعادة؟ إن كثيرا من البلاد النصرانية قد انتهت إلى أنْ تضرب بهذه الأحكام عُرْض الحائط، إذ وجدت أنها لا تؤدى إلا إلى التعاسة والشقاء. وفى بعض البلاد يُقْدِم الزوج أو الزوجة فى حالات كثيرة إلى ترك النصرانية جملةً والدخول فى الإسلام، الذى يجدانه أوفق للطبيعة الإنسانية. فإلى متى هذا الخنوع لبعض الألفاظ الشاعرية التى قد تدغدغ العواطف فى مجال التفاخر الكاذب بمثالية أخلاق دينٍ ما، لكنها لا تجلب للمتمسكين بها إلا العَنَت والإحباط؟
إن كثيرا من الأزواج فى المجتمعات النصرانية هم فى الواقع مطلَّقون، لكنْ طلاقًا غير رسمى، وهم يسمونه: "انفصالا". وفى هذه الأثناء التى قد تطول سنين، كثيرا ما يصعب على الزوج والزوجة، تحت ضغط الغرائز، أن يمتنعا عن ممارسة الجنس فى الحرام، فلماذا كل هذا الإعنات؟ وحَتَّامَ يستمر هذا العناد والنفاق؟ إن الطلاق شديد البغض إلى الله كما قال صادقا سيدنا رسول الله، لكن الظروف قد تضطر الواحد منا إلى فعل ما هو بغيض تجنبا لما هو أفدح وأنكى. ومن هنا كان الطلاق عندنا حلالا رغم كونه بغيضا، أى أن المسلم لا يُقْدِم عليه إلا إذا سُدَّت فى وجهه جميع السبل الأخرى حسبما يعرف كل من له أدنى إلمام بالشريعة الإسلامية.
* * *
والآن إلى محمد رحومة، عميد كلية الدراسات العربية بالمنيا سابقا، أو "البلبوص رقم 2" على ما سوف يتضح للقارئ بعد قليل. وبالمناسبة فقد قرأت تعليقا بتاريخ 26/ 8/ 2009م على مقال محمود سلطان: "مصطفى الفقي والضمير الوطني!" بجريدة "المصريون" الضوئية بعنوان "الدكتور محمد رحومة لم يكن أستاذا ولم يكن عميدا" يؤكد أن رحومة لم يكن عميدا بل لم يكن أستاذا أصلا، بل أستاذا مساعدا ليس إلا، ولم يتول من المناصب الإدارية فى كلية الدراسات العربية بجامعة المنيا إلا الوكالة فحسب. كتب هذا أحد أساتذة الكلية نفسها، وهو د. محمود مسعود، الذى أرفق بتعليقه رقم هاتفه المحمول. وهذا نص التعليق: "الإخوة الأعزاء في جريدة" المصريين"، الدكتور محمد رحومة لم يكن أستاذا ولم يكن عميدا لدار العلوم الحالية (الدراسات العربية سابقا). إنما كان أستاذا مساعدا للنقد الأدبي وقائما بأعمال وكيل تلك الكلية مدة قصيرة، ورئيس مركز سوزان مبارك للفنون والآداب بجامعة المنيا. أخوكم د.محمود مسعود عضو هيئة التدريس بقسم الفلسفة الإسلامية بكلية دار العلوم- جامعة المنيا. تلفون 0112533587".
وقد تصادف أن قرأتُ صبيحة اليوم (الأحد 23/ 8/ 2009م) بصحيفة "الرؤية" بتاريخ السبت 25/ 10/ 2008م فى نسختها المشباكية تحقيقا لأحمد يوسف عن "الانتقام الألكترونى" جاء فيه قوله: "ويحلل الدكتور مصري حنورة، أستاذ ورئيس قسم علم النفس بجامعة الكويت سابقا، ظاهرة الانتقام عبر الشبكة قائلا: ما المانع من الانتقام الإلكتروني طالما أن مواقع الانترنت أصبحت غير خاضعة للسيطرة؟ هذا وباء وطاعون غير قابل للسيطرة عليه، وبدأ مع بث رسائل "القاعدة" للانتقام من العالم. ويضيف الدكتور حنورة أن الانتقام الإلكتروني أضحى في أشكال استفزازية تمس بالثوابت، موضحا ذلك بقوله: لابد من ذكر قصة شهيرة تواترت منذ أقل من شهر بقيام شخص يدعى محمد رحومة، وهو أستاذ سابق في الفقه الإسلامي بكلية الدراسات الإسلامية بالمنيا، ببث موقع إنترنت من أميركا يسب الإسلام والمسلمين ويتطاول على الرسول صلى الله عليه وسلم. وجاء هذا الموقف بعد اتهامه بالاختلاس وفصله من عمله، فتنصر وهاجر لأميركا وانتقم من طرده من كليته بمحاولة خدش دينه، ولكن زوجته (التى فسخ عقدها شرعا) ردت عليه عبر الإنترنت لتوضح للعالم طبائعه: اختلاس، سرقة، زنى". وهذا هو رابط التحقيق المذكور: (http://www.arrouiah.com/files/1224872140546814500.pdf)
أما مواقع الأقباط المهجريين فتتحدث عن زوجة أمريكية دخلت الإسلام عن طريق الخداع، ثم تبين لها أنه دين ضلال فارتدت هى وأولادها مع الزوج. إلا أن مقالا منشورا فى مجلة "أقلام الثقافية" الضوئية بتارخ 26/ 8/ 2009م يؤكد أن هذا كلام مُفَبْرَك، إذ نقرأ فيه تحت عنوان "وكسب النصارى مزورا مختلسا إلى دينهم" ما نَصُّه: "وتَكْذِب مواقع النصارى أيضا فيما يتعلق بزوجته، والتى كانت أصلا مسيحية أمريكية، بادعاء مفضوح بأنها عادت إلى دينها الأول، وهو الذى لم يحدث مطلقا".
ثم صادفتُ أيضا بعد ذلك بيوم تعليقا فى عدد السبت 22 أغسطس 2009م من جريدة "اليوم السابع" على مقال لجمال جرجس المزاحم عنوانه: "رحومة مؤسسها، ونجلاء الإمام رئيسة فرع مصر: "حرَّرَنى يسوع" أول مؤسسة تنصير "علنية" فى مصر"، وهو التعليق رقم 18، وكاتبه "واحد من الناس"، ونصه: "الأخ محمد رحومة ده كان مدرس لغة عربية، وكان بني ادم متسلق وبيلعب على كل الاجنحة. الباشا عمل دراسات عليا وبعدين راح اشتغل في كلية الدراسات العربية في جامعة المنيا، وتقريبا وصل لمنصب وكيل الكلية لأنهم عددهم قليل. الأخ رحومة مسك مركز سوزان مبارك للفنون والآداب، وبعدين قام بتبديد ميزانية المركز، وبعدين اتهم بالاختلاس. اتعملت له قضية كبيرة وهرب على أمريكا قبل ما ياخد حكم". كذلك نبّأنى أحد الأساتذة الجامعيين الكبار المتخصصين فى ميدان الأدب والنقد أنه سمع برحومة قبل إعلانه التنصر، وباستيلائه على مبلغ كبير من المال وهروبه إلى أمريكا. ولم يكن صديقى، حسبما أخبرنى، يتصور وقتها أن اللص سوف يعالج مسألة الاختلاس بالارتداد عن الإسلام.
وقد استمعت، بعد هذا بعدة ساعات فى أحد المواقع القبطية المهجرية، إلى تسجيل صوتى (لا صورة فيه) لمحمد رحومة أو لمن يُفْتَرَض أنه محمد رحومة (ذلك أنه لا توجد صورة كما قلت)، وكان يتكلم بالعامية، وكان الصوت متلجلجا عاليا شديد الانفعال. ولفت نظرى تأكيده أنه ليس له فضل فى التنصر، فهو لم يختر المسيح بإرادته، بل المسيح هو الذى اختاره. ثم تحدث عن رؤيا سمع فيها صوتا قويا يدعوه إلى القيام والتبشير، وما أكثر الرُّؤَى فى حياته وفى حياة أمثاله من المرتدين عن الإسلام! ومعنى هذا أنه لم يستخدم عقله فى التحول من دين التوحيد إلى دين التثليث، وهذا أمر طبيعى جدا، إذ الإيمان عند النصارى لا صلة بينه وبين العقل. وقد نقلت كلامه هو، ولم آت بشىء من عندى. كما تكلم عن المرشدين الروحيين له فى دينه الجديد، وكأنه رجل عامى يحتاج إلى من يوجهه ويرشده، وليس أستاذا جامعيا. بل لقد ذكر فى هذا السياق أحدَ الفراشين فى الكنيسة بجلباب وشبشب بوصفه واحدا من أولئك المرشدين الروحيين الذين استفاد منهم، مما يدل على مدى التدهور النفسى والفكرى والعقيدى الذى تدهوره الرجل. وفى هذا السياق أعلن مدحه وتمجيده للمجرم زكريا بطرس قائلا إن الله قد أرسله لِدَكّ معاقل الكفر والطغيان. كذلك يقر بأنه، فى حياته الإسلامية، لم يكن متدينا فى يوم من الأيام، بالإضافة إلى ارتكابه الزنا الذى يستظرف كأى حشاش مسطول فيقول إنه كان يتبع فيه قوله تعالى: "وما ملكت أيمانكم"، فى الوقت الذى يزعم أنه كان كثير الصلاة وقراءة القرآن أيضا! وقد تطرق إلى واقعةٍ اتُّهِم فيها بالاعتداء على عِرْض فتاة منقبة، وهو ما يذكرنا بما قاله عنه الدكتور مصرى حنورة فى هذا الصدد.
ومما أقر به أيضا أنه كان يمنع الطالبات المنقبات من دخول الكلية خوفا أن تكون الواحدة منهن شابا إرهابيا يحمل متفجرات فى ثيابه كما يقول. ويقول عن السعوديين، الذين اشتغل فى بلادهم فترة، إن الغالبية العظمى منهم يكرهون أنفسهم كراهية بشعة، وإنهم شر ناس على وجه الأرض، داعيا لهم أن يهديهم الله إلى النصرانية. بل نسب إلى أحد الأمراء أو الشيوخ السعوديين قوله له على سبيل الإنكار والاستنكار إن ماء زمزم هو ماء مجارٍ، فكيف يغتسل به أو يشربه؟ وهو فى ذلك كذاب أشر، إذ إن هذا الكلام لا يمكن أن يقوله إنسان، فضلا عن أين يكون هذا الإنسان سعوديا يعرف أن ماء زمزم هو ماء طاهر نظيف لطيف المذاق لا علاقة له بماء المجارى بتاتا، ذلك الماء الذى يشرب منه عقل رحومة وأشباهه المعاتيه ممن يتخذون من فراشى الكنائس مرشدين روحيين لهم، فضلا عن أن يكون هذا القائل أميرا أو شيخا سعوديا. فرحومة يكذب هنا كذبا رخيصا. والعجيب أنه، فى مقالاته النقدية التى تعرض فيها لكتابات السعوديين حين كان معارا إلى السعودية، كان يقول عن هؤلاء الناس غير ذلك.
ومن ضلاله وعمى قلبه وضميره أنه يتخذ جانب الأمريكان ضد المسلمين. كيف لا، والكذاب القرارىّ يقول إنه قد رآهم وسمعهم، وهو فى أمريكا، يدعون عقب تفجير البرجين فى الحادى والعشرين من سبتمبر 2001م لأسامة بن لادن، وقد ملأ قلوبهم شعور المحبة للرجل الذى هدم برجيهم وقتل منهم عدة آلاف (يا سلام على هذه الحنية الأمريكية الملائكية التى لم يذكرها أحد قط سوى هذا الكذاب المنافق)، فى الوقت الذى كان المسلمون يدعون على الأمريكان أن يشتت الله شملهم وييتم أطفالهم؟ وهذا الكلام لا يصدر إلا عن شيطان لئيم. ترى هل عرف ذلك الخبيث على سبيل اليقين أن ابن لادن أو أى مسلم آخر هو الذى دمر البرجين؟ إن هناك لغطا كثيرا وكثيفا حتى بين الأمريكان أنفسهم يقول إن بوش وعصابته هم الذين تَوَلَّوْا كِبْر هذه المؤامرة حتى يتخذوها ذريعة للهجوم الشامل على العالم الإسلامى. ثم فلنفترض أن المسلمين هم الذين فعلوها، فماذا تكون تلك الفعلة إزاء الجرائم الوحشية المتلتلة التى اجترحها وما زال يجترحها الأمريكان فى حق العرب والمسلمين؟
نعم ماذا تكون لقاء اغتصاب فلسطين وإعطائها لليهود أيها الوغد؟ نعم ماذا تكون فى مقابل مئات الآلاف الذين قتلهم الأمريكان بالنووى وبالحصار والتجويع فى العراق، فضلا عن تدميرهم لذلك البلد وإعادته مئات السنين إلى الوراء؟ نعم ماذا تكون تلك الفعلة بالنسبة إلى الاستنزاف الاقتصادى الذى تقوم به أمريكا لبلاد العروبة والإسلام؟ نعم ماذا تكون تلك الفعلة مقارنة بانحياز أمريكا ضد مصالح الشعوب العربية والإسلامية، ووقوفها إلى جانب حكامها الجهلة المتخلفين الساديين الفاشلين الذين لا يعرفون سوى لغة السرقة والسجن والقتل والتنكيل بها؟ أوتدرى أيها القارئ لم تفعل أمريكا ذلك؟ إنها تفعله تمهيدا للمجىء الثانى للمسيح واستعجالا له. أى أن المسيح، الذين يصدعون لنا أدمغتنا بأنه هو ودينه رمز السلام والمحبة لا يمكن أن يهل على العالم من جديد إلا إذا دمَّروا المسلمون تدميرا لا يُبْقِى منهم دَيَّارًا. لعنة الله عليكَ وعلى أمريكا فى يوم واحد أيها الخنزير!
لكننى أعود وأقول إن شعوبنا تستحق ذلك وأكثر. ذلك أنها شعوب بليدة عاجزة ذليلة تستعذب ضرب الحذاء على وجهها وتستزيده، ولا تفكر ولو مرة واحدة فى الثورة لكرامتها وحقوقها، على حين لا يتردد أى فرد فيها أن يقتل أخاه المواطن من أجل رغيف عيش بشلن حقير مثله. إنها أمة تافهة سخيفة لم تر الدنيا لها، فى هذا الطور الحالى من أطوار تاريخها، مثيلا فى ذلتها ورضاها بالهوان وتراميها على حذاء مهينيها ومعذبيها فى الداخل والخارج تلعقه وتتبرك به. صحيح أن حكامها بوجه عام هم أغبى وأضل وأفشل حكام على وجه البسيطة، لكنها هى أيضا أغبى وأضل وأفشل وأذل شعوب على وجه البسيطة. وكما تكونوا يُوَلَّ عليكم، ولا عزاء للخانعين الجبناء! وما محمد رحومة ونجلاء الإمام وأشباههما إلا البثور التى تظهر على جسدها العليل. ولو كانت أمة قويّة عفيّة ما كان لهذه البثور القبيحة النتنة أن تظهر على جسدها!
وهنا ينبغى أن نشير إلى ما قاله هذا البلبوص الحقير فى حق الطلاب الذين كان يتعامل معهم يوم كان عميدا أو وكيلا للدراسات العربية فى المنيا، إذ ذكر أنه بوغت بأخلاقهم البشعة رغم أنه كان يعاملهم بوصفه أبا روحيا لهم، فقد وجدهم سيئى الأخلاق والتصرفات إلى حد شنيع، وهو ما أصابه بالصدمة وجعله ينفر من الإسلام والمسلمين. والحق أن هذا كلامُ أفاقٍ خسيسٍ، إذ يريد الوغد أن يُفْهِمنا أنه كان يعيش قبل ذلك فى قمقمٍ عيشة الملائكة الأطهار، فهو رجل لا يقارف الرذيلة ولا يعرف شيئا عن طبائع الناس من حوله، وهو الزناوى الخلبوص حسب اعترافه هو، والجاهز لأداء ما يريده المسؤولون منه مهما تكن قذارة ما يُرَاد ودَنَسُه، وإلا فلم اختاروه دون سائر الأساتيذ فى كليته ليكون عميدا أو وكيلا، ثم اختير مرة أخرى ليكون مشرفا على مركز سوزان مبارك رغم أنه كان من أصغر الأساتذة سنا حسبما قال هو نفسه، إن لم يكن أصغرهم بإطلاق؟ ثم هل يجوز أن نصدق كلام ذلك الزانى النصاب سارق مئات الآلاف من الجنيهات؟ وعلى أية حال ما دخل ذلك بنفوره من الإسلام؟ إن الإسلام ليَدِينُ المنتسبين إليه قبل غيره. وإننى لأكرر دائما أنه لو بُعِث النبى محمد صلى الله عليه وسلم فى أمة المسلمين الآن فلن يسلم من أذى الكثيرين منهم، إذ سوف يجد أشياء كثيرة تسير على عكس ما كان يقول، وعبثا سوف يحاول ردهم إلى السبيل المستقيمة. ذلك أن صلابة أمخاخهم وسخافة عقولهم وحبهم لما مردوا عليه من هوان وذل وقلة أدب وكراهيتهم للعمل والإتقان والإبداع والنظافة والجمال والاستقلال بالرأى سوف تدفعهم إلى مخالفته والسخرية منه، فإن لم يَرْعَوِ فربما تتحرج الأمور ويتآمرون عليه تآمرا من العيار الثقيل. ولسوف تدخل القوى الكبرى على الخط وتعمل بمعاونة الحكام المحليين على وضع العراقيل فى طريقه صلى الله عليه وسلم، بل على ما هو أفظع من ذلك.
ولو كان بلبوصنا رقم 2 يتمتع بشىء من العقل لعرف أن تخلف الشعوب العربية والإسلامية، بما فيها الشعب المصرى، إنما سببه إهمالهم لمبادئ دينهم رغم تمسكهم بالشكليات وغرامهم بها غراما قاتلا مما لا ينفع شَرْوَى نَقِيرٍ فى مضمار الحضارة والتقدم ما داموا قد تركوا العلم والعمل والإتقان وأَضْحَوْا نافدى الصبر لا طاقة لهم على أى عمل كريم يحتاج إلى تعب وطول نفس، وانحطت أذواقهم فلا يضيقون بقبح أو تشويه، ولعرف كذلك أن ما يشاهده فى أمريكا، التى كثرت أسفاره إليها منذ وقت بعيد، من نظافة ونظام وجمال وإقبال على العمل والإبداع واقتحام لمصاعب الحياة وطموحٍ إلى المعالى والسيادة وشَرَهٍ إلى شهوات الدنيا: الطيب منها والخبيث على السواء، إنما يرجع إلى ترك الأمريكان النصرانية ومبادئها، تلك المبادئ التى توجب على من يتبعها أن يزهد فى الدنيا والمال والنساء والطعام والشراب والسيادة، وأن ينزوى بعيدا عن تيارات الحياة. ذلك أن مملكة المسيح، الذى يقول البلبوص رقم 2 إنه يؤمن به ربًّا، ليست من هذا العالم، وأن الغَنِىّ لا يمكنه، طبقا لما فى الأناجيل، أن يدخل ملكوت السماوات إلا إن استطاع الجمل أن يمر من سَمّ الخِيَاط، أى من ثَقْب الإبرة، وهذا هو المستحيل بعينه، وأنه أحرى بالشخص أن يفقأ عينيه بدلا من أن ينظر إلى امرأة... إلى آخر ما نعرف جميعا عن النصرانية.
والطريف أن كل ما يباهينا به البلبوص رقم 2 مما يراه فى أمريكا موجود فى ديننا: فالنظافة عندنا من الإيمان، وإماطة الأذى عن الطريق صدقة، والله جميل يحب الجمال، والساعى على رزقه أفضل ألف مرة ممن يظل يعبد الله طول اليوم منتظرا أن يقوم بحاجته غيره، والإيمان دون عمل لا يصح ولا يُقْبَل، وإن الله يحب إذاعمل أحدنا عملا أن يتقنه، والله فى عون العبد ما كان العبد فى عون أخيه، ولا يجوز إكراه المرأة، ثيبا كانت أو بكرا، على الاقتران بمن لا تحب تحت أى ظرف من الظروف، وطلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة من المهد إلى اللحد، وفضل العالم على العابد كفضل البدر على سائر الكواكب، ولا يمكن أن يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون، وإنما أهلك الأمم من قبلنا أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد... إلى آخره إن كان لذلك من آخر.
وإنى لأتحداه هو أوغيره أن يأتى من الأناجيل بأى شىء يشبه هذه الدرر الحضارية النفيسة. فالحق أنه ليس فى الأناجيل إلا موعظة الجبل التى تنادى أنْ أحبوا اعداءكم، باركوا لاعنيكم، إذا ضربك أحد على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر، مما لا يطبقه ولا يمكن أن يطبقه أى نصرانى أو غير نصرانى لتعارضه التام مع الطبيعة البشرية ومقتضيات الحضارة. أما النظافة والعمل مثلا فالأناجيل تصور السيد المسيح عليه السلام كارها لهما لا يطيقهما. لقد رأى عليه السلام اليهود يهتمون بغسل أيديهم قبل الطعام فعاب عليهم ذلك وعده نفاقا. كما أنه طلب من حوارييه أن يتركوا عملهم ويتبعوه حيث يمضى. أما من أين يأكلون فالحقول مفتوحة لهم يغيرون عليها متى جاعوا كالجراد المجتاح، أو ينتظرون أكلة فى هذا البيت أو ذاك. وهذا ما تقوله الأناجيل لا أنا. أما العلم فانْسَ هذا الموضوع واطرحه من ذهنك تَفُزْ وتَسْلَمْ. وبالنسبة إلى موضوع الأمراض والعلاج والتداوى فكل ما قدمه المسيح هو أنه ساعد بعض المرضى على الشفاء. ونحن لا ننكر أن هذه معجزة، لكن السؤال من الناحية الحضارية لا الاعتقادية هو: ولكن ماذا بعد مغادرة عيسى عليه السلام للدنيا؟ من سيشفى المرضى يا ترى؟ وهذا لو كان عيسى، أثناء وجوده على الأرض، يشفى كل الناس من كل الأمراض، وهو ما لم يحدث. أما النبى الأعظم فقد وضع القاعدة الذهبية، وهى أن لكل داء دواء، وحث الناس أن يبحثوا عن العلاج ويتحرَّوُا الدواء اللازم للتعافى من المرض. وهذا هو دور المصلح الذى يستمر مفعول توجيهه العلمى والأخلاقى والحضارى إلى أبد الآبدين.
ومعلوم أن النصارى فى أوربا لم يعرفوا التحضر إلا يوم تركوا النصرانية (المحرفة طبعا) وثاروا عليها وعلى كُبُولها التى كانت تقيدهم وتتعس حياتهم أيام كانوا أقذارا جهالا كسالى مرضى تعشش فى رؤوسهم الخرافات، وتمتلئ بيوتهم وشوراعهم بالقاذورات، ولا يستحمون إلا من العام للعام إن استحموا، ويئنون تحت وطأة رجال الكنيسة والملوك على السواء ولا يَرَوْن فى الآفاق بريق أمل. ولهذا حين ثار الفرنسيون مثلا على هذه الأوضاع الكريهة المستبشعة كان شعارهم: اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس! ولولا احتكاك النصارى بالمسلمين فلربما كانوا لا يزالون فى غطيطهم الثقيل، ذلك الاحتكاك الذى أطلعهم على لون من الحياة يختلف تماما عما كانوا يعيشونه من حياة آسنة منتنة. إلا أن المشكلة هى فى أن المسلمين كانوا فى ذلك الوقت قد بدأوا ينحدرون على السفح مبتعدين عن قمة الإسلام الشماء وظلوا فى انحدارهم مستمرين حتى وصلوا إلى ما هم فيه الآن، على حين تقدمت أوربا وظلت تتقدم، ونحن محلك سر.
أما بلبوصنا رقم 2 فقد ضرب الجهلُ والنفاقُ على عقله فهو يردد كلام المتخلفين ثم يظن أنه يحسن صنعا! والداهية الكبرى أن أستاذ جامعيا ينخبل فى عقله فيترك الوحدانية ويذهب إلى الاعتقاد، صدقا كان هذا الاعتقاد كما يزعم، أو كذبا ونفاقا فى الحقيقة، بأن الله قد ترك ألوهيته ونزل ليموت على الصليب وعرَّض نفسه للمهانة والشتائم والضرب على يد الأوباش من مخلوقاته، لا لشىء إلا ليسامح هؤلاء الأوباشَ أنفسهم على ما اجترحته أيديهم! خيبة الله عليك أيها البلبوص!
وهو يكرر ما قاله سيد القمنى (البلبوص رقم 1) فى تهديداته للمسؤولين فى مصر، قائلا إنه إذا تعرض له أحد فلسوف يصنع مثل القمنى، أى سيخلع هو أيضا "بلبوصا" (بنص الكلمة التى استخدمها بلبوصنا الجديد). ومما قاله أيضا أن السيدة حرم الرئيس هى التى عينته مديرا لمركز سوزان مبارك للفنون والآداب بجامعة المنيا لكى يحاربَ الإرهاب ويُرَقِّىَ الشباب بتعليمهم الفنون. وهو يتهور هنا داعيا لها بكل وقاحة وغباء أن يهديها الله إلى النصرانية، قائلا إنها "ست عظيمة"، وخسارة أن تبقى على ما هى عليه. وهذا كلام يتسم بالغشم وعدم التبصر، وبخاصة إذا سمعناه يقول إنه قد تولى عمادة (أم وكالة؟) كلية الدراسات العربية بالمنيا فى سن صغيرة نسبيا، وهو ما يعنى أن هناك من كان يدفعه إلى مناصب الصدارة والتأثير، إذ المعروف أن المناصب الجامعية لا تذهب إلى من يشغلونها بالانتخاب ولا اعتمادا على رضا الأساتيذ، بل على الاختيار من فوق! فكيف اختير مثله لمثل ذلك المنصب؟ كذلك يتحدث عن الله قائلا إنه كان يسأله دائما عن السر وراء أسفاره المتعددة والمتباعدة بحثا عن الهداية: ما الحكاية بالضبط؟ هل تضحك علىّ يا رب؟ ألم تقل لى: تعال إلى أمريكا، وأنا أهديك؟ فهأنذا قد أتيت إلى أمريكا، فلماذا لم تهدنى؟ وبدلا من ذلك تأخذنى هنا وهناك ثم لا أجد فى النهاية شيئا؟ (ألم تجد إلا أمريكا تبحث عن الهداية فيها يا كذاب، يا مفترى؟). ثم يصف البكاش صوتا لقسيس مصرى سمعه على الهاتف فى أمريكا، التى سافر إليها بحثا عن المسيح هناك (يا كبدى عليك!)، بأنه قد شعر أن هذا الصوت ليس صوت قسيس، بل هو صوت الله نفسه بحنانه واهتمامه به! وهنا آمن بالمسيح، الذى قُتِل من أجله وأصابه رشاش دمه كما يقول، وأخذه فى حضنه وجرى كثيرا حتى وصل إلى البيت ونام معه بعدما تغطى بالملاءة رغم حرارة الجو آنذاك، وإن فاته أن يقول لنا ماذا كان يصنع تحت الملاءة. كما يؤكد أنه سوف يأتى اليوم الذى يقوم فيه هو ونجلاء الإمام، مَثَله الأعلى، بتعميد المصريين فى نهر النيل ذاته. إن شاء الله سوف يعمّدهم بماء المجارى! وللعجب العاجب نرى هذا الذى يعلن فى كل مكان أنه يخطط لتنصير الملايين من المصريين يتباكى فى هذا الشريط تباكِىَ الثعالب قائلا إنه لا يريد من الآخرين شيئا سوى أن يتركوه يعيش مع الدين الذى أحب واختار، فهو لا يريد تنصير أحد. وهذا دليل على كذبه وخداعه ونفاقه وعلى أن دموعه التى يذرفها إنما هى دموع التماسيح. الحق أن من يستمع إلى الرجل فى هذا التسجيل ويرى توتر صوته وتشوش فكره واضطراب كلامه وشدة انفعاله وحَزْقه العنيف وإعلانه المستمر دون أدنى داع، ككل من على رأسه بطحة، أنه لم يذهب إلى أمريكا من أجل الدولارات، يتبين له على الفور أنه ليس فى حالة فكرية أو نفسية سليمة!
وبعد، فقد كنت قد انتهيت من هذا المقال تماما يوم الاثنين 24 أغسطس 2009م، ومع هذا كنت أحس أننى سوف أقع على أشياء أعضد بها ما جاء فيه عن هذا الوغد. ولذلك لم أبادر إلى نشره، بل أخذت أسأل هنا وهناك عن شىء جديد عنه، لكن دون أن أقع على ما يشفى فضولى العلمى... إلى أن اتصل بى الآن (الساعة الواحدة صباح الأربعاء 26 أغسطس) أحد الأصدقاء لافتا نظرى إلى ما نشرته جريدة "المصريون" الضوئية فى صدر عددها لذلك اليوم عن البلبوص رقم2. فإلى القارئ ما نشرته تلك الصحيفة عن بلبوصنا الجديد: "كشفت مصادر لصيقة بأسرة المتنصر محمد رحومة العميد السابق لكلية الدراسات العربية – جامعة المنيا أبعادا خطيرة عن عملية تحوله من الإسلام إلى المسيحية في الولايات المتحدة الأمريكية فرارا من حكم قضائي أدانه بالسرقة والاختلاس والتزوير من جامعة المنيا. وكان رحومة، الذي يحيط نفسه بهالة مزعومة عن صلته بدوائر رسمية عليا نافذة، وصلته بحرم رئيس الجمهورية حيث كان يشغل منصب المدير السابق لمركز سوزان مبارك للفنون والآداب بجامعة المنيا، حيث استغل تلك الهالة في ممارسة عمليات فساد واسعة كان أهمها ما يتعلق بالحفل الذي نظمه في جامعة المنيا لصالح ضحايا الأورام، حيث شارك فيه العديد من الفنانين المعروفين بشكل تطوعي إسهاما منهم في دعم المشروع الخيري، خاصة وأنه كان ينتسب إلى رعاية ودعم السيدة سوزان مبارك، غير أن رحومة قام بتزوير إيصالات وشيكات تفيد أنه دفع لهؤلاء الفنانين حقوقا عن مشاركتهم في الحفل الخيري وصلت إلى مئات الآلاف من الجنيهات قام باختلاسها وتحويلها إلى حساباته البنكية. وكاد الأمر يمر لولا أن شخصية بالجامعة على صلة بأحد الفنانين المشاركين اطلع على إيصال من هذه الإيصالات فعاتب الفنان على ذلك بوصف العمل تطوعيا ولا يليق أن يتقاضى عليه مثل هذا الأجر الباهظ، فنفى الفنان المشار إليه صحة الإيصال وتقدم بشكوى إلى إدارة الجامعة يتهم فيه منظم الحفل بالتزوير. فقامت الجامعة بفتح تحقيق في الموضوع انتهى إلى إحالة الملف كله إلى النيابة العامة التي أثبتت تحقيقاتها عملية تزوير واسعة في واقعة حفل ضحايا الأورام واستيلاء محمد رحومة على مئات الآلاف من الجنيهات، فحولت النيابة ملف القضية إلى محكمة الجنايات.
في هذه الأثناء، وقبل النطق بالحكم في القضية، عندما استشعر رحومة أن وثائق الإدانة دامغة وأن مصيره السجن المؤكد، طلب من الجامعة تصريحا بالسفر إلى ألمانيا بدعوى المشاركة في مؤتمر علمي، ومن هناك تواصل مع منظمات حقوقية أمريكية زعم لها أنه مضطهد دينيا لأنه تحول من الإسلام إلى المسيحية وأنه يبحث عن اللجوء إلى الولايات المتحدة الأمريكية لحمايته من الاضطهاد الديني، وهو ما تم بالفعل حيث سافر إلى هناك وحصل على الجنسية الأمريكية بدعم من منظمات تنصيرية نافذة ورعاية من بعض قيادات أقباط المهجر بعد أن أعلن هناك تنصره، ثم حاول استقدام أسرته من مصر فرفضت زوجته وابنته بعد أن علموا بإعلانه التحول عن الإسلام، بينما سافر ابنه الصغير الطالب بالثانوية العامة وقتها إلى هناك حيث قام بتنصيره وألحقه بعد ذلك بالجيش الأمريكي كجندي عامل. الجدير بالذكر أن محكمة جنايات المنيا قضت في واقعة التزوير والاختلاس بالسجن الغيابي على محمد رحومة عشرين عاما عن مجموع القضايا التي قدمته النيابة بها إلى المحكمة".
لكن موقع "الأقباط الأحرار" نشر فى ذات الليلة هذا البيان: "سخر الدكتور محمد رحومة من الخبر الذى نشرته جريدة "المصريون" الإلكترونية التى إشتهرت بفبركة العديد من الأخبار التى تخص الكنيسة والأقباط، وكان آخرها الخبر الذى نشرته على صفحتها الأولى اليوم تلصق تهما بالدكتور محمد رحومة. وفى إتصال هاتفى مع الأقباط الأحرار نفى الدكتور رحومة ما نشرته هذه الجريدة وأعلن تحديه لأن يكون هناك قضية لما أسمته الصحيفة بحفل معهد الأورام بمحافظة المنيا. وأضاف بأن ما ورد به ليس الا أكاذيب. وقد أدلى لنا ببيان يقول فيه: "هذا الخبر ليس إلا فبركة، والدليل أنى عدت الى مصر يوم 16 أكتوبر عام 2001 ومكثت بها فترة قصيرة ثم سافرت مرة أخرى الى خارج مصر حين تعذر إظهار إيمانى المسيحى وحرص الأصدقاء المسيحيين علىَّ فخرجت رسميا للمشاركة فى مؤتمر عن مقارنة الأديان فى واشنطن فى 15 نوفمبر عام 2001 ودفعت الجامعة حينها تكاليف السفر والإقامة، وكل ذلك بالوثائق تحت يدى. أما عن الخبر فهو ليس إلا فبركات إشترك فيها المتأسلمون مع أمن الدولة مع أسرتى التى تنكرت لى بعد تحولى للمسيحية".
ومع هذا فلا بد أن ننبه إلى أن تلك التهمة مصلتة على رقبة البلبوص رقم 2 منذ وقت طويل كما رأينا من كلام د. مصرى حنورة فى صحيفة "الرؤية" قبل أن يعلن رحومة ارتداده عن الإسلام، وجاء ذكر التهمة عَرَضًا وعلى نحو خاطف! كما أن موقع "نادى مستشارى هيئة قضايا الدولة: kdaiaeldwlaclub" قد نشر الخبر الذى نشرته "المصريون"، ووقع عليه المستشار عمرو الملاح بقوله: "مشكور، ويُنْقَل إلى قسم الحوادث" (يقصد قسم الحوادث بالموقع). وهذا هو الرابط: http://kdaiaeldwlaclub.com/ip/index.php?showtopic=10778&hl=رحومة.
وقبل أن نغادر ملف البلبوص الجديد لا بد من الإشارة إلى التظاهرة التى استقبل بها الأقباط المهجريون الخونة رئيس البلاد أمام البيت الأبيض يطلبون الحرية لنصارى مصر، وكأن أحدا يستطيع أن يدوس لهم على طرف مهما تجبروا وقذفوا رجال الشرطة بالطوب وجرّحوهم وأهانوا كبار الضباط وهتفوا فى الكاتدرائية لشارون أن يأتى ويحتل مصر وينقذهم، ومهما وضع الرهبان أيديهم عنوة وتجبرا واغتصابا على ما يشاؤون من أراضى الدولة واستعملوا الاسلحة النارية كأفراد العصابات وقتلوا المسلمين لهذا الغرض بدم بارد، وكأنهم لا يسيطرون على الجانب الأكبر من اقتصاديات "المحروسة" الموكوسة المنكوسة رغم أنهم لا يمثلون إلا ستة فى المائة من إجمالى السكان على أكبر تقدير، وكأن أحدا فى الدولة مهما كان مركزه ستطيع أن يقترب من كنائسهم أو يفكر فى دخولها، فضلا عن إغلاقها لأى سبب، فى حين تُغْلَق المساجد بأمر الحكومة المسلمة السنية بمجرد الانتهاء من صلاة الفرض، وكأن فى السجون عشرات الآلاف منهم كالمسلمين المتدينين لا يسأل عنهم ولا فيهم أحد، أو كأن للمسلمين مثلهم بابا أو حتى ماما ينظر إلى الحكومة نظرة نارية تيبّس مفاصلها وتخرس لسانها وتُشِلّ يدها فلا تستطيع حَرَاكًا ولا تَرْجِع قَوْلاً ولا تقدر أن ترفع عينيها من الأرض.
لقد ظهر قرب نهاية الشريط الذى سجل تلك التظاهرة وبثته بعض المواضع القبطية المهجرية ظهورا متفقا عليه مسبقا، إذ كان يتحدث وقتها فى المحمول، وكان صوته من الوضوح للمصور البعيد عنه والذى ركز مصوِّرته عليه خلال تلك المكالمة الطويلة (التى يفترض أنها مكالمة خاصة) بحيث سمعناه وكأنه واقف بجوارنا، وليس من تلك المسافة البعيدة التى تفصله عن المصور. ولو كان المنظر عفويا، وكان هناك شخص على الطرف الآخر فعلا، لسمعنا أيضا من يهاتفه، إذ المعروف أن أجهزة المحمول شديدة الحساسية بحيث يسمع جارُ المتحدث (كما فى حالتنا هذه) الشخص الذى معه على الطرف الآخر. لكنْ من الواضح أن من رتبوا له هذا المنظر، أو قل: هذه المنظرة، قد قصدوا أن يُسْمِعونا ما سيقوله هذا البلبوص الجديد، الذى كان حريصا أشد الحرص على أن يؤكد أنه يحترم رئيس الجمهورية ويحب بلده (بلده التى سرقها وهرب بالفلوس التى اختلسها من عَرَق أبنائها المساكين الجبناء الأذلاء الخانعين الذين يستحقون كل ما يجرى وسيجرى عليهم، والقادم مذهل أكثر!) وأنه لا علاقة له بموضوع التظاهرة، إذ إن له شأنا وغرضا مختلفا، ألا وهو المطالبة بالحرية للمتنصرين والشيعة والبهائيين. وقد كرر هذا المعنى مرات وبصوت واضح ومسموع جدا بما يدل على أنهم ركّبوا فى عروة قميصة لاقط صوت لهذا الغرض. وصلت الرسالة أيها البلبوص بِشَرْطَة! لكنك برغم ذلك ممثل فاشل!
* * *
وأخيرا نصل إلى حالة زينب، وهى مختلفة عن الحالتين السابقتين لأن صاحبتها، بعد أن ارتدت عن الإسلام، وكان ذلك منذ عدة أعوام، عادت مرة أخرى إلى رحابه الطاهرة كما هو معروف. إلا أن فى قصتها عِبَرًا كثيرة، وأهمها أن المسلمين، بما فيهم طلاب الجامعة، لا يقرأون ولا يبالون بتغذية عقولهم الثخينة، ولا يهتمون من الدنيا إلا بالطعام والشراب والتناسل، شأنهم فى ذلك شأن العجماوات، اللهم إلا القليلين الذين لا يقاس عليهم ولا ترتقى بهم أمة لقلة عددهم وضعف تأثيرهم على سائر شعوبهم، أولئك الذين يسهل التأثير عليهم من قِبَل المبشرين المتخلفين مثلهم بخرافاتهم البلهاء التى لا تقنع قطة، لكنها تقنع الجهال الذين تخلصوا من أمخاخهم ووضعوا مكانها فردة حذاء قديم. ولنقرأ هذه الفقرات التى ليس لى من فضل فيها سوى أننى وجدتها فى أحد المواقع المشباكية فنقلتها لكم وأنا فى منتهى القرف. وهى بعنوان "بعد رحلة تنصير دامت أكثر من 188 يوما زينب تعود للإسلام من جديد": "أول فصول الحكاية بدأ في 13 ديسمبر 2004 عندما نشر الزميل مصطفي بكري تفاصيل مثيرة حملت عنوان "وقائع تنصير فتاة مسلم"، وروي قصة زينب الطالبة بالفرقة الثالثة بكلية الآداب جامعة حلوان والتي فوجئت أسرتها بخطابها بعد أن تركت المنزل لتخبرهم بأنها تنصرت ولن تعود، كان في الفصل الثاني من الحكاية استغاثات الأب لكي تعود ابنته التي تأكد أنها وقعت فريسة لحملات التنصير التي يقوم بها القمص زكريا بطرس بين الشباب المسلم عبر الانترنت. ثم نشرنا الخطاب الذي اعتقد الأب أن ابنته أرسلته من خارج مصر وأنها قد سافرت بالفعل. لم ييأس الأب، وكان لديه شعور قوي أن ابنته ستعود. وبعد مرور عدة أشهر وتحديدا في الثامن من مايو الماضي فوجئنا باتصال هاتفي بالجريدة من شخص رفض الافصاح عن هويته يخبرنا بأن زينب قد عادت لأسرتها وأنه ينتظر أن تنشر الجريدة حقيقة غيابها وأين كانت!
الغريب أن هذا الشخص اتصل في نفس الوقت والساعة التي عادت فيها زينب لأسرتها، وهذا ما عرفناه عندما اتصلنا بالأب لنتأكد من الخبر، وتعجب، فقد كان علي وشك الاتصال بنا لإخبارنا بعودتها بكامل إرادتها، مؤكدا أن ابنته عادت مشوشة وغير مستقرة، وفي رأسها العديد من الأسئلة التي تبحث عن إجابات لها، كما نبحث نحن عن إجابات لأسئلة كثيرة حول غياب زينب وكيف تم تنصيرها، وتفاصيل الفترة التي غابت فيها، وكيف عادت، ولماذا. أشار الأب إلى أنه لن يضغط عليها للإجابة عن هذه الأسئلة إلا بعد أن تستقر حالتها وتجد إجابات عن تساؤلاتها الحائرة حتي تستطيع أن تقول الحقيقة كاملة. احترمنا رغبته وسألناه عن تفاصيل اللقاء الأول وكيف استقبل ابنته بعد هذه الفترة، فقال: إنها عادت فلم تجد أحدا في المنزل وانتظرت عند أحد الجيران. وعندما اتصلوا به لإخباره بعودتها لم يصدق وأسرع إلي الجار لتقع عيناه مرة أخري علي ابنته، وقد اختلطت بداخله العديد من المشاعر المتناقضة، فزينب هي أقرب أبنائه إليه، ولكن ما حدث أقوي من احتمال أي أب. ولكن بمجرد أن وقعت عيناه عليها وجدها ترتجف خوفا ورعبا من رد فعله وتتشبث بيد والدتها التي وصلت قبله، ففتح ذراعيه لها لترتمي في حضنه وتبكي بشدة.
تابعنا أخبار زينب يوميا عن طريق الأب خلال تلك الفترة. عرفنا تفاصيل الجلسات التي التقت فيها زينب مع مجموعة من الشباب المتخصصين في الرد علي الافتراءات التي يحاول البعض إلصاقها بالدين الإسلامي لتشويش الشباب عبر الانترنت، والذين جندوا أنفسهم للرد علي كل الأسئلة التي طرحتها زينب. وعرفنا كذلك الكثير من المعلومات عن فترة غيابها، ولكننا لم نبادر بالنشر منتظرين أن تستقر حالتها وتجد كل الإجابات عن تساؤلاتها... حتي اتصل بنا والدها صباح الخميس قبل الماضي الموافق 6 يونية ليخبرنا أن زينب قد نطقت بالشهادة بمحض إرادتها، وقامت بأداء صلاة الفجر وأنها ترغب في الكشف عن تفاصيل غيابها. وقد حدد لنا موعدا للقائها والحوار معها. وقبل أن يحل هذا الموعد فوجئنا وفوجئت زينب ووالدها بموضوع منشور علي أحد مواقع الإنترنت يشير إلي أن زينب قد عادت من أجل تنصير أسرتها، ويحوي معلومات خاطئة ومشوهة عنها، فبادرت زينب بسرعة بزيارة الجريدة لتعلن أنها تريد أن يعرف الناس الحقيقة الكاملة على صفحات "الأسبوع" وعلى لسانها لتكشف العديد من الحقائق حول الأسباب التي أدت إلي اختفائها، وتفاصيل ما يجري في جامعة حلوان من عمليات تنصير منظمة ومكثفة، ودور زكريا بطرس وأعوانه بالخارج وبعض القساوسة في مصر في اللعب بعقول الشباب والفتيات بما يهدد باشعال نيران الفتنة في أي لحظة. وتفاصيل أخري كشفت عنها زينب في حوارها لـ"الأسبوع".
تركنا زينب تتحدث، وقد كانت أكثر منا حرصا علي تسجيل كل كلمة تقولها. بدت واثقة من نفسها ومن كل كلمة تنطق بها. أكدت أنها تريد أن تنقل تجربتها لكل من يضعون أقدامهم علي بداية الطريق الذي مشت فيه، وكل من يمرون بنفس الضغوط والظروف التي مرت بها. بدأت حديثها قائلة: كنت أعيش حياة عادية داخل أسرة ملتزمة دينيا، أمارس بعض الأنشطة في المساجد من حولي حيث كنت أقوم بتحفيظ القرآن للأطفال وشرح بعض الدروس لأخواتي المسلمات. وكنت وقتها أعتمد على شريحة معينة وعدد محدود من المشايخ وأئمة المساجد من حولي في استقاء المعلومات الدينية وتوصيلها للأخوات. كانت تقف أمامي بعض الأسئلة التي لا أجد لها إجابات عندي، وكنت وقتها قد تعرفت علي اثنتين من زميلاتي بجامعة حلوان وهما ريهام وهبة. وعرفت فيما بعد أنهما متنصرتان.
وعندما كنت أتحدث معهما عن الأسئلة التي كانت تقف أمامي بدأتا تطرحان المزيد من الأسئلة التي تزيد من حيرتي وش####. وكانت معظمها عن أمور غيبية وحول شخص الرسول الكريم والسنن النبوية. لجأت من جديد إلى أئمة المساجد فلم أجد لديهم إجابات مقنعة، بل ومنهم من نهرني واتهمني بالشرك والكفر، وأنه لا يصح أن اسأل مثل هذه الأسئلة. ازدادت علامات الاستفهام في رأسي. في الوقت نفسه عرفتني ريهام وهبة علي 3 شباب و4 فتيات في الجامعة عرفت أيضا فيما بعد أنهم متنصرون. حكوا لي عن مواقف مشابهة وطرحوا عليّ المزيد من الأسئلة التي طلبوا مني أن أسأل المشايخ عن إجابات لها.
سألناها: هل حاولت أن تطرحي هذه الأسئلة علي أحد من العلماء المتخصصين؟ أشارت إلي أنها اكتفت بالعدد المحدود الذي تعرفه من المشايخ وأئمة المساجد. واسترسلت قائلة: كنت في ذلك الوقت أقوم بزيارات لصديقتي هبة في منزلها، وفي إحدي المرات فوجئت بوجود أحد القساوسة وعرفت بعد ذلك أن أسرتها بأكملها قد تنصرت. بادرت هبة وأخبرت القس عني وعن حيرتي والأسئلة الكثيرة بداخلي. تحدث معي هذا القس، وهو راع لإحدي الكنائس القبطية عن الدين المسيحي وأعطاني مجموعة من الكتب. كنت أستمع إليه في البداية لأجادله وأناقشه لأثبت أنني الأقوي في الحجة. وبعد أن كنت قد انقطعت عن المساجد والمشايخ الذين عرفتهم عدت لأسألهم من جديد عما يقوله هذا القس، فنصحني أحدهم بالابتعاد عن الحديث في هذه الأمور والجدال حول الدين اتقاء لما يمكن أن يحدث من فتنة طائفية قائلا: "لكم دينكم ولي ديني". ولكنني وقتها لم أكن علي استعداد لقبول هذه النصيحة، واعتبرت أن هذا يعد انسحابا وتساءلت: لماذا يدعو هذا القس لدينه بكل هذه الجرأة دون أن يخشى شيئا؟ ولماذا نكتفي نحن المسلمين بالانسحاب من النقاش حول الاديان؟ وتعلق زينب قائلة: اعتبرتُ بفهمي المحدود والعاجز وقتها أن هذا الاختلاف يمثل ضعفا في العقيدة، وخاصة أن أحد هؤلاء المشايخ كان قد رفض مقابلتي بعد طرح هذه الأسئلة عليه قائلا: إن فكري شاذ، وإنه لن يضيع وقته معي. وفي الوقت نفسه كنت أجد هذا القس وقد فرَّغ نفسه تماما لمقابلتي، وأصبح يزور منزل هبة مرات عديدة تصل إلي أربع مرات في الأسبوع لمقابلتي ونصحي باعتناق المسيحية. وكنت وقتها قد عرفت أن زملائي التسعة قد تنصروا.
تستكمل زينب حديثها قائلة: وقتها ازداد الصراع بداخلي وساورني شك في وجود الله. تغيرت ملامحها وهي تتذكر هذه الفترة، وأضافت: كان خطئي أنني تكتمت الأمر عن أسرتي ولم ألجأ إلي أهل العلم والدين، وبعدها توقفت تماما عن الاستماع للمشايخ أو مقابلة هذا القس. وفي ذلك الوقت كان عدد من أصدقائي المتنصرين قد سافروا للخارج فاتصلت بي صديقتي ريهام تليفونيا من كندا لتحدثني عن حياتها الجديدة بعد أن سافرت وكيف أنها تعمل وتقوم بالتدريس في الجامعة كما أنها تلقي بعض الدروس علي أحد مواقع الشات علي الانترنت. وطلبت مني أن أدخل علي هذا الموقع للاتصال بها والتحدث معها.
وتضيف زينب: وقتها لم أكن أعرف استخدام برنامج "البال توك" جيدا، فطلبت من أحد أصدقائي أن يعلمني استخدامه. وبالفعل دخلت على "Room" بعنوان "إن كان الله معنا فمن علينا"، وأخري بعنوان "هل كان محمد أشرف الخلق؟". وهي غرف تنصيرية، وفيها يأتون بأحاديث وروايات عن الرسول الكريم لم أكن أسمع عنها من قبل ويأتون بتفسيرات وشروح محرفة لها. كان تركيزي واهتمامي هو أن أتاكد من وجود هذه الأحاديث أم لا، وعندما أتأكد من ذلك لا أبحث عن التفسيرات الحقيقية لها، وأكتفي بسماع التفسيرات التي يطرحونها على هذه المواقع فقط.
وتكمل زينب حديثها لتقول: 'دخلت علي برنامج باسم "Boosy 1882: بوسي 1982"، وجاء الدور عليَّ في الحديث فوجدت نفسي أقول: إنني أحب الله وأشتاق إليه، ولكنني لا أعرف أين هو وأين أجده وأين الحقيقة. وهنا يهتز جسد زينب وصوتها وهي تتذكر هذه اللحظات وتلك الكلمات لتقول: كنت بالفعل أعبر عما بداخلي من حيرة ورغبة في الوصول للحقيقة، فبكيت أثناء حديثي. ووقتها حدثتني الفتاة المسئولة عن الغرفة لتقول لي إن اسمها فرحة، وتخبرني بأنها تشعر بما أشعر به الآن، وأنها كانت مسلمة ولكنها تنصرت حينما عرفت أن الرب يقول: ائتوا إليَّ أيها المتعبون وأنا أريحكم.
وتكمل زينب حديثها لتقول: أخذت فرحة تتودد إليَّ في الحديث وتحدثني عن شعورها بالارتياح وتستخدم عبارات مثل "يسوع يحبك"، "لا تقلقي فيسوع يناديك". وهنا وجدت نفسي أرد عليها بقوة قائلة: ليس معني حديثي معك وبكائي أنني قد أصبحت مسيحية. فردت فرحة بكل ثقة ورقة ونعومة: أنا أريد فقط أن أكون صديقتك ونتحدث معا: وإما أن أقنعك بالحقيقة أو تقنعيني فيكون لك الأجر والثواب. توقفت زينب قليلا ثم عادت تقول والحسرة تملأ صوتها: للأسف وقتها رأيت كلامها منطقيا، وفي الوقت نفسه كنت أنا في منتهي السلبية لم أتحرك أو أحاول البحث عن إجابات لأسئلتي وحيرتي بطريقة صحيحة، وتركت نفسي أتلقي كل ما يريدون أن يبثوه في نفسي من شكوك. وللأسف أيضا أنني لم أكن متمكنة في البحث علي برنامج البال توك الذي عرفت فيما بعد أن هناك العديد من الغرف الإسلامية التي تردّ علي كل الافتراءات والادعاءات وتظهر ضعف من رأيتهم أقوياء في لحظة ضعفي، فلم أكن استطيع التعامل سوي مع هذه الغرف التنصيرية التي عرفتها.
وعن علاقتها بناهد متولي قالت زينب إنها كانت تتصل بها وتتحدث معها عن المسيحية وتشجعها علي اعتناق المسيحية واستمرت فترة حتى كان آخر اتصال سمعتْ خلاله صوت إذاعة القرآن الكريم فعنّفتها ولم تتصل من يومها. وتكمل زينب تفاصيل المؤامرة: فوجئت بعد هذا الاتصال بسيل من الاتصالات الدولية عبر الانترنت من أمريكا وغيرها من الدول من أشخاص لا أعرفهم يشجعونني علي الدخول في المسيحية بادعاء أنهم كانوا مسلمين وتنصروا بعد أن وصلوا للحقيقة. وبدأت ريهام في الاتصال بي علي النت. ووقتها أيضا عرفوني علي زعيمهم القمص زكريا بطرس، الذي يقيم في أمريكا وبدأ يتحدث معي باستمرار. كان عنده من الاستعداد والوقت ما يجعله يتصل بي في أي وقت ولفترات طويلة. وكنت أدخل علي النت باسم منى. وجدت منه اهتماما غير عادي وأخذ يزودني بشحنات مكثفة من الكراهية للإسلام والمسلمين، مدعيا أنه يأتي بهذه المعلومات من كتب السنة والقرآن، وأنه لا يستطيع أن يتحداه أو يقف أمامه أي شيخ من مشايخ المسلمين. وأصابني الضعف بعد كل هذا الحصار الفكري الذي استسلمت له فقررت أن أعتنق المسيحية وغيرت اسمي إلى "mona loves yasso3: منى تحب المسيح".
وتكمل وقد تغيرت ملامح وجهها لتقول: في هذا الوقت كنت قد تعرفت عن طريق النت علي فتاة أصبحت من الصديقات المقربات لي وأطلقت علي نفسها اسم "بنت السامرية"، وعرفت أنها طالبة بجامعة حلوان أيضا. وكانت تتصل بي علي تليفون المنزل والمحمول ولكني لم أتقابل معها. وكانت دائما تتحدث معي عن كيفية اعتناقها للمسيحية وأنها تركت بيت أسرتها وأنها بذلك تستطيع أن تتعايش أكثر مع المسيح. وأخذت تقنعني بضرورة تركي للمنزل حتي أحتفظ بالمسيح ولا أفقده وأستطيع أن استكمل الطقوس المسيحية وأزور الكنائس كما أريد.
وتستطرد لتقول: مؤخرا عرفت أن هذه الفتاة هي أسماء، التي نشرتم قصتها والتي أخبرت والدتها بعد أن تركت المنزل أنها تنصرت وتقوم بتنصير الفتيات المسلمات. كانت تشجعني وتعدني بأنها ستوفر لي المكان الذي أعيش فيه، وكان تعلقي بأسرتي ووالدي يمنعني من اتخاذ هذه الخطوة، ولكن استمرار حديثي معها وما دبرته مع باقي المجموعة من الإلحاح عليَّ لدفعي لترك المنزل حتي أنهم كانوا يستشهدون بآيات من الانجيل لتشجيعي علي هذه الخطوة مثل "من أحب أبا أو أما أكثر مني فلا يستحقني".
واتخذت القرار في نوفمبر 2004، ودون أن أخبر أحدا بهذه الخطوة قبل أن أقوم بها. وبمجرد خروجي اتصلتُ ببنت السامرية لأخبرها أنني تركت المنزل وأريد أن أعيش معها فقالت لي إن ظروفها لا تسمح في الوقت الحالي باستضافتي. فاتصلت بأحد خدام الكنيسة الذي كنت قد تعرفت عليه أيضا من خلال النت، فاستأجر لي شقة بحلوان لأعيش بها بمفردي لفترة حيث إنني خرجت وبحوزتي مبلغ كبير من المال. اتصلت بمعارفي من القساوسة الذين كنت قد تعرفت عليهم وتلقيت منهم الاهتمام والرعاية المادية والمعنوية، وتبادلت معهم الزيارات هم وأسرهم في منازلهم وفي الكنائس. وتعرفت من خلالهم علي عدد من الفتيات المتنصرات. ونصحني أحد الآباء الكهنة أنا ومجموعة من هؤلاء الفتيات، وعددهن أربع، باستئجار شقة كبيرة نعيش فيها سويا. وكنت أقمت فترة عند أحد القساوسة. وبالفعل استأجرنا شقة في المقطم. وكان هؤلاء القساوسة وزوجاتهم يزوروننا باستمرار للحديث في الدين والصلاة.
سألنا زينب عن فكرة السفر للخارج، وهل شجعها أحد عليها؟فأكدت أن الفكرة كانت مرفوضة بالنسبة لها علي الرغم من أن كثيرا من أصدقائنا الذين سافروا أكدوا لها أن الحياة في مصر غير آمنة وأن حياتهم بالخارج أفضل. وتقول: كنت أرى أن السفر هروب، وأنني تركت المنزل لأبحث عن الله. وإن كانت هناك بعض الصعاب فلابد أن أتحملها.
فسألناها عن الخطاب الذي وصل لوالدها بخط يدها من الخارج،
فأجابت أنها كانت تريد أن تتصل بأسرتها بأي شكل لتطمئنهم عليها. ولكن لصعوبة ذلك ولخوفها من أن يكتشف والدها مكانها قررت أن ترسل الخطاب إلي إحدى صديقاتها في فرنسا داخل مظروفين لتقوم هذه الصديقة بإرسال الخطاب من الخارج لوالدها.
وتكمل زينب: كنت عن طريق البال توك قد تعرفت علي سيدة مسيحية اسمها شيرين وقابلتها أكثر من مرة هي وزوجها. وكانت هي حلقة الوصل بيني وبين زكريا بطرس والمجموعة بالخارج حيث لم يكن بإمكاني الاتصال بهم فلم يكن لدي كمبيوتر أو موبايل. وقد أعطتني شيرين أسماء بعض الآباء الكهنة الذين سيقدمون لي المساعدة، وبعدها انشغلت عني. وكانت جريدة "الأسبوع"وقتها قد نشرت موضوعا عني فامتنعتُ عن الاتصال بأحد منهم حتي لا ينكشف أمري. وفي يوم شم النسيم ذهبت مع صديقاتي إلي أديرة وادي النطرون، وهناك قمت بدق الصليب في دير مارجرجس الخطاطبة.
أما عن التعميد فتقول زينب: نصحني أحد المعاونين لزكريا بطرس بالتوجه إلي أحد القساوسة من آباء الكنيسة الإنجيلية والذي قام بتعميد عدد من الفتيات المتنصرات من صديقاتي وغيرهن، وله نشاط واضح في التنصير. وهو قمص بكنيسة مشهورة بوسط القاهرة واسمه (م.ع). ولكن ولأنني ذهبت إليه وطلبت مقابلته بمفردي رفض مقابلتي لشكه في أنني مدسوسة عليه من الأمن. وبعدها عرفتني زميلاتي بأحد القساوسة المشهورين بالكنيسة الأرثوذكسية (الكاتدرائية)، وهو القمص (م.ي). وقد قام بتعميد عدد منهن، وهو الذي أطلق عليَّ اسم كريستينا وأخذ يعطيني الدروس والكتب. وكان علي وشك تعميدي، وأعطاني موعدا لذلك، ولكن في ذلك الوقت تم القبض علي أحد أصدقائي المتنصرين وزوجته فتراجعت تماما عن مقابلته.
وعندما سألنا زينب عن إحساسها بأسرتها خلال تلك الفترة تنهدت وامتلأت عيناها بالدموع وقالت: كان يملؤني الحنين والشوق لأبي وأمي وإخوتي، وفكرت في الرجوع أكثر من مرة، ولكن حديث صديقاتي حول حد الردة وأن أهلي سوف يقتلونني إذا ما عدت إليهم كان يمنعني.
ظل هذا الصراع بداخلي حتي توفي العم ميخائيل، وهو رجل مسن قعيد كنت قد تعرفت عليه في الكنيسة وارتبطت به بشدة، فشعرت بهزة نفسية جعلتني أفكر في مصيره بعد الموت وهل سنتقابل معا في الآخرة؟ وأين؟ وإذا مت أنا أيضا هل أكون قد متُّ علي الحق أم أنني ضللت الطريق؟ ومن ناحية أخري ذكرني بأسرتي. ماذا لو توفي والدي لا قدر الله، وأنا بعيدة عنه وهو غير راض عني؟ وماذا لو حدث مكروه لأحد أفراد أسرتي؟ وماذا لو لقيت حتفي دون أن يروني أو يعرفوا مصيري؟ كل هذه التساؤلات أخذت تتصارع داخلي. بدأت أفكر: هل سرت في الطريق الصحيح؟ وأخذت هذه الأسئلة تلح عليَّ حتي قررت أن أعود لأسرتي وتوقعت أن أجد ردود فعل عنيفة تجاهي، بل وتوقعت أن يقتلني والدي وأن يكون يوم عودتي هو آخر يوم في عمري. ولكن ظل لديَّ الأمل في أن تتاح لي الفرصة وأن يسعني صدر أبي وأهلي.
وتكمل قائلة: لم أخبر أحدا ممن حولي باعتزامي العودة. جمعت أشيائي في الثامن من مايو الماضي. توجهت إلي منزل أسرتي وأنا أكاد أسمع دقات قلبي تعلو وتعلو خوفا واشتياقا. ذهبت لمنزلي فلم أجد أحدا، وانتظرت عند أحد جيراننا الذين أرتبط بهم ارتباطا قويا. انتظرت حتى اتصل جارنا بوالدي ليخبره بعودتي. مرت علي هذه اللحظات كالجبال، وعندما وقعت عيناي على أبي ارتعد جسدي كله. وهنا توقفت زينب وارتعشت الكلمات علي لسانها وانهمرت دموعها وقالت: فوجئت بأبي يفتح ذراعيه لي ويتجه نحوي، فانطلقت إليه احتضنه بشده وأبكي. كانت لحظة حاسمة في حياتي أعطتني القوة والثقة والشجاعة وشعرت أنني استرد جزءا من نفسي التي افتقدتها.
وبصوت يحمل الكثير من الخشوع والإحساس بالندم تكمل: تنامى بداخلي إحساس بأن الله الغفور الرحيم لا يريد لي أن أهلك أو أضيع بفعل هؤلاء الأشرار الذين يتلاعبون بالكلمات. وجدت كل أفراد أسرتي يتعاملون معي بحب واشتياق. اتسع لي صدر والدي عندما أخبرته بأنني تائهة ومشوشة، ولديَّ الكثير من الأسئلة التي تملأ رأسي. لم يضغط عليَّ والدي لمعرفة أي تفاصيل. وخلال هذه الفترة سخَّر لي الله مجموعة من الشباب المسلم علي دراية كبيرة بالدين وبالمداخل التي يتلاعب بها هؤلاء الشياطين، وعرفت أن هذه المجموعة تخصصت في الرد علي الافتراءات التي ينسبها زكريا بطرس وأمثاله للإسلام وللرسول من خلال عدد من الغرف الإسلامية علي البال توك والتي لم يكن لديَّ علم بوجودها في البداية، وتخيلت أن أسئلتي ليس لها إجابات. تعجبتُ، فقد كانت سنهم قريبة من سني: أكبرهم لا يكبرني سوي بسبع سنوات. جلسوا معي كثيرا وأجابوا علي العديد من الأسئلة التي دارت في ذهني حتى قبل أن أطرحها.
وتتوقف زينب لتقول: وقوف هؤلاء الشباب بجانبي خلال هذه الفترة ذكرني بقول رسولنا الكريم: "مثل المسلمين في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكي منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى". وقد كنت جزءا من هذا الجسد فجند لي الله هؤلاء الشباب دون أن أكون قد عرفتهم من قبل ودون أن يكون بيننا أية مصالح سوي الحب والأخوة في الله.
وتضيف: وقوفهم معي جعلني أشعر وأرى كيف أن المجتمع الإسلامي مجتمع جميل يعلمنا قيما جميلة إذا احتفظنا بها وطبقناها. وقد وفر لي هؤلاء الشباب الكثير من الكتب عن الإسلام والمسيحية كي يكون لي مطلق الاختيار. رأيت صورة لم أكن قد رأيتها قبل أن أسير في الطريق الذي مشيت فيه. فاجأتني شجاعتهم وحماسهم وجرأتهم لمناظرة زكريا بطرس أمامي لإثبات مدي ضعفه وخداعه. وكنت قد اتصلت به فور عودتي لإخباره بأنني قد عدت، فلم يرد بأي تعليق. بعدها اتصلت به مرة أخرى لأعرض عليه أن أحد أقاربي يريد أن يناظره أمامي. وبالفعل تحدد يوم المناظرة علي البال توك وكنت قد عرفت أنه كثيرا ما كان يتهرب من هذه المناظرات، وهذا ما حدث فعلا خلال هذه المناظرة.
وتصف زكريا بطرس لتقول: حاول الاختفاء مثل الحرباء التي تتلون لتختفي عن الأنظار. لقد كنت أعتبره الأب الروحي لي، وقد كنت أفهم نبرة صوته، فهرب من مناقشة العديد من النقاط التي استغل ضعفي فيها ليثبت قوة حجته. اختلفت لهجته تماما، وأصابه الارتباك والعصبية وامتنع عن الرد. صرخت فيه قائلة: إنك قد خذلتني، وعليك أن ترد. فأين حججك الآن؟ وتقول زينب إنها عادت تسأل هؤلاء الشباب: لماذا لا يقومون وباستمرار بدخول هذه الغرف للرد علي زكريا؟ فقالوا: هذه نسميها: "غرف المراحيض" لأنها تهدف فقط إلى سب الإسلام والرسول وغرس الكراهية ويمتنع عن دخولها حتى أغلبية المسيحيين.
بعدها فضلت أن أخلو بنفسي حتى أبحث بداخلي عن زينب وأجلس لمحاسبتها. شعرت بالخجل من نفسي أمام الله، فبأي ثمن بخس فرطت في ديني ودنياي؟ شعرت أنني لم أفهم ديني الفهم الصحيح وأنني اخترت الطريق السهل وتركت نفسي لمن يتلاعب بي بلا إرادة.
وبعد هذه الأيام الثلاثة قررت أن أنفض الغبار الذي علق بقلبي وأن أكون زينب المسلمة إسلاما صحيحا. كنت أرتعد عندما أتذكر قول الله تعالى: "إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" (النساء/ 116)، ولكني في نفس الوقت كنت أتذكر آية رائعة تفتح الباب أمامي، وهي قوله تعالي: "قل يا عبادي الذين أسرفوا علي أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله" (الزمر/ 53) وآيات أخري من القرآن تقول: "يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تُقَاته ولا تموتُنَّ إلا وأنتم مسلمون" (آل عمران/ 102). وتسيل الدموع من عيني زينب لتقول: وجدت قلبي يركض ركضا ويدفعني دفعا أن أصلي وأسجد لله رب العالمين الواحد الأحد وأبكي بكل خلايا جسدي وكياني لعله يغفر لي. وتستطرد قائلة : ولكنني مع ذلك أشعر أنني عدت أقوي بكثير مما كنت عليه من قبل، وأنني قد خرجت من هذه التجربة المريرة بفوائد كثيرة أهمها أنني لا بد وأن أرد الدَّيْن وأن أمد يدي لمن يسيرون في بداية الطريق الذي مشيت فيه".
وشبهات الارتداد عن الإسلام!
د. إبراهيم عوض
(http://awad.phpnet.us/)
هذه ثلاث حكايات عن ثلاثة أشخاص مصريين مسلمين ارتدوا عن دين التوحيدإلى النصرانية دين التثليث والتجسيد، والحكايتان الأخيرتان هما حكايتان حديثتان جدا، والرجل والمرأة اللذان تتعلقان بهما لا يزالان مرتدين، أما الحكاية الثالثة فقد عادت صاحبتها إلى دين الحق مرة أخرى وتابت وأبدت ندمها وقصت أمرها بكثير من التفصيل ملقية بذلك ضوءا قويا على بعض خبايا عملية التنصير. ومعروف أنها حكاية قديمة بعض الشىء، إذ وقعت أحداثها منذ عدة سنوات.
وأدخل للتو فى الموضوع وأتناول أول ما أتناول موضوع نجلاء الإمام، التى لها قصة مع الآية الخامسة من سورة "التوبة". فما حكاية هذه الآية؟ وما صلتها بتلك المرأة؟ تعالوا لنرى معا. تقول الآية المذكورة: "فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ"، وهى الآية التى شاهدتُ، فى مقطع على المشباك مأخوذ من لقاء بإحدى القنوات التلفازية، نجلاء الإمام المتنصرة فى الآونة الأخيرة ترفعها فى وجه الدكتور سالم عبد الجليل وكيل وزارة الاوقاف لشؤون الدعوة، تتحداه بها على اعتبار أن فيها ما يخجل الإسلام والمسلمين. فتحداها الشيخ الكريم أن تقرأ الآية قراءة صحيحة من المصحف الذى كان تحمله فى يدها وكانت تلوّح به فى وجهه على سبيل التحدى. وقد أراد الشيخ الجليل، من خلال هذا التحدى المضادّ، أن يقول لها إنك لست صاحبة هذه الشبهة، فأنت لا تفهمين القرآن ولا تقرئينه، ولا تعرفين كيف تنطقين الآية مجرد نطق دون أن تخطئى فيها أخطاء لا تليق.
وهنا وجدتُ نجلاء الإمام ترتبك ولا تجيب على تحدى الشيخ إلا بالامتناع عن قراءة الآية بعدما كانت تمسك بالمصحف وتلوح به فى وجه فضيلته ووجوه المشاهدين متحدية كالنمرة الشرسة. والعجيب أن اللقطة التى يبثها الموقع النصرانى مدعيا أنها دليل على أن علماء المسلمين يهربون من المواجهة بعدما انتشر التنوير وأصبح المسلم والمسلمة يستطيعان معرفة الحقيقة التى كانت مغيبة عنهما قبل ذلك قرونا، فلم يعودا ينصاعان لكلام المشايخ وصارا قادريْن على الحكم الصحيح على النصرانية والإسلام وتفضيل الأخيرة بطبيعة الحال، هذه اللقطة ترينا على العكس من ذلك أن نجلاء الإمام هى التى نكصت وتقهقرت. ورغم أن اللقطة القصيرة التى بثها الموقع المذكور لم تقل لنا ماذا كانت نجلاء تريد قوله للشيخ الكريم فإن من السهل تماما معرفة هذا الذى كانت تريد قوله طبقا لما لقنوها إياه قبل حضورها إلى الأستوديو.
تريد نجلاء الإمام أن تقول إن الإسلام يقتل مخالفيه من الباب للطاق، إلا إذ دخلوا فيه واعتنقوه خلافا لما تقتنع به ضمائرهم. ألا يقول القرآن: "فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد"، اللهم إلا "إن تابوا وأقاموا الصلاة وآتَوُا الزكاة". وهل هناك دليل أسطع من هذا وأشد برهانا على صحة ما قالوه لها من أن دين محمد إنما يعتمد فى انتشاره على السيف؟ وهى، لو أنها كانت تفهم ونظرت إلى الآية التى عقب ذلك مباشرة، لما قالت ما قالت. لكنه عمى القلب والترديد الببغائى لما يلقى إليها فتقوله كما حفّظوها إياه دون تبصر أو فهم. ونص الآية التالية هو: "وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6)". وواضح أن كل ما يريده الإسلام ممن يرفضونه هو أن يسمعوا دعوته، ثم فليرتكنوا بعد هذا إلى ضمائرهم. ذلك أنهم هم الذين سوف يحاسَبون على أعمالهم لا نحن، وليس لنا من ثم أى حق فى اقتحام ضمائرهم عليهم ولا إكراههم على ما لا يريدون اعتناقه حتى لو كانوا يؤمنون بصدق الإسلام فيما بينهم وبين أنفسهم ككثير ممن يؤمنون بأنه هو الدين الحق، إلا أن الخوف أو الطمع أو العناد أو العصبية تمنعهم من إعلان ما يؤمنون به. والآية صريحة الدلالة على أن من واجب المسلم إجارة المشرك عندما يأتى إليه ويستجير به، وأنه لا يجوز له اهتبال الفرصة والضغط عليه بأى وجه بغية اعتناقه للإسلام، بل عليه أن يتركه لما يريد، مع حراسته فى طريق العودة إلى بلده أو على الأقل: إلى المكان الذى يأمن على نفسه فيه. فهل يُعْقَل أن دينا يطلب من أتباعه هذا يمكن أن يفكر مجرد تفكير فى قتل مخالفيه لا لشىء إلا ليكرههم على اعتناقه؟ إذن فماذا نصنع مع الآية التى شهرتها نجلاء الإمام فى وجه الشيخ ووجوه المشاهدين؟
يستلزم الأمر أن نقرأ صدر سورة "التوبة" كله كى تتضح الصورة فى شموليتها وتُفْهَم حق فهمها، وبخاصة إذا ألممنا بالظروف التى نزل فيها ذلك النص، الذى يقول: "بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلا وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16)".
ومن هذه الآيات يتبين لنا أن الإعلان الموجود فى النص خاص بالمشركين الذين كانت بينهم وبين المسلمين عهود، وليس عاما لكل المشركين. ولهذا دلالته. فلو كان الأمر مبدأ إسلاميا فى قتل المخالفين ما لم يُسْلِموا لما خصص القرآن الكلام للمشركين الذين كانت بينهم وبين المسلمين معاهدات. ورغم هذا أيضا فلم يسارع الإسلام إلى الأمر بقتل أولئك المشركين، بل أعطاهم مهلة أربعة أشهر يستطيعون التحرك فيها بكل حرية قبل أن يؤاخَذوا. ولو كان الأمر أمر مبدإ بإكراه غير المؤمنين بمحمد على الدخول فى دينه أو يُقْتَلوا لما كان هناك معنى لإعطائهم تلك المهلة، إذ ما دام واجبا عليهم، شاؤُوا أم أَبَوْا، أن يعتنقوا الإسلام فخير البر عاجله. وليست هناك أى ضرورة، بل ليس هناك أى معنى، لإمهالهم هذه الشهور الأربعة. أليس كذلك؟
ثم إن الآية السابقة على الآية الخامسة تقول: "إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)". أى أن الإسلام لا يسوى بين المشركين جميعا عاطلا مع باطل، بل يقول إن من كانت بينهم وبين المسلمين عهود فوَفَّوْا بها ولم ينقضوها فلا بد من إتمام عهودهم إلى نهاية مدتها. ومعنى هذا بكل وضوح أن المشركين الأولين الذين حكم القرآن بقتلهم هم طائفة أخرى لم تحترم العهود بل نقضتها وخاست فيها. والوقع أن تلك الطائفة من المشركين قد فجرت فى سلوكها تجاه المسلمين فكانوا يقتلون كل من ساقته الأقدار إلى قبضة أيديهم دون أن يَرْعَوْا فيهم إِلاًّ ولا ذمة، كما كانوا يمدون أيديهم بالتعاون إلى من ليس بينهم وبين المسلمين عهود فيعينونهم عليهم ويحاربونهم معهم غادرين على هذا النحو الخسيس بالاتفاقيات التى كانت بينهم وبين الرسول وأصحابه. فهل كان على المسلمين أن يسكتوا على هذا الغدر وتلك الخيانة؟ لقد كان الإسلام أنبل من كل ما يتوقعه الإنسان، إذ رغم كل هذه الاستفزازات التى كان يرتكبها أولئك المجرمون فإنه لم يسارع بالمناداة بمعاملتهم نفس المعاملة التى يعاملون بها المسلمين، بل أعطاهم فترة إمهال: أربعة شهور كاملة. فأى نبل هذا؟ لكن على من تتلو مزاميرك يا داود؟ إنك لتتلوها على قوم أغبياء ذوى قلوبٍ عمياءَ وضمائرَ غُلْفٍ.
ولقد تكرر هذا التوضيح أكثر من مرة فى تلك الآيات: "كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7)"، "كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلا وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8)"، "لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10)"، "وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)"، "أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13)". فماذا يريد الإنسان أكثر من هذا؟ أَلاَ إن هذا لكرمٌ بالغٌ لا نظير له فى أى مكان فى العالم؟ ومع هذا كله لم يحدث أن قتل المسلمون أحدا من المشركين الذين نزلت الآية فى حقهم. بل إنه فى فتح مكة بعد ذلك بقليل عفا الرسول عن مشركيها الذين طالموا أذاقوه الأذى وأنزلوا بالمسلمين العذاب وأخرجوهم من ديارهم وأموالهم.
يقول سيد قطب رحمه الله تعقيبا على تلك الآيات: "كان قد تبين من الواقع العملي مرحلةً بعد مرحلة، وتجربةً بعد تجربة، أنه لا يمكن التعايش بين منهجين للحياة بينهما هذا الاختلاف الجذري العميق، البعيد المدى، الشامل لكل جزئية من جزئيات الاعتقاد والتصور، والخلق والسلوك، والتنظيم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والإنساني، وهو الاختلاف الذي لا بد أن ينشأ من اختلاف الاعتقاد والتصور: منهجين للحياة أحدهما يقوم على عبودية العباد لله وحده بلا شريك، والآخر يقوم على عبودية البشر للبشر، وللآلهة المدَّعاة، وللأرباب المتفرقة. ثم يقع بينهما التصادم في كل خطوة من خطوات الحياة لأن كل خطوة من خطوات الحياة في أحد المنهجين لا بد أن تكون مختلفة مع الأخرى ومتصادمة معها تماما في مثل هذين المنهجين، وفي مثل هذين النظامين. إنها لم تكن فلتة عارضة أن تقف قريش تلك الوقفة العنيدة لدعوة أنْ "لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله" في مكة ولا أن تحاربها هذه الحرب الجائرة في المدينة.
ولم تكن فلتة عارضة أن يقف اليهود في المدينة كذلك لهذه الحركة وأن يجمعهم مع المشركين معسكر واحد، وهم من أهل الكتاب، وأن يؤلب اليهودُ وتؤلب قريشٌ قبائلَ العرب في الجزيرة في غزوة الأحزاب لاستئصال شأفة ذلك الخطر الذي يتهدد الجميع بمجرد قيام الدولة في المدينة على أساس هذه العقيدة، وإقامة نظامها وفق ذلك المنهج الرباني المتفرد! وكذلك سنعلم بعد قليل أنها لم تكن فلتة عابرة أن يقف النصارى، وهم من أهل الكتاب كذلك، لهذه الدعوة ولهذه الحركة، سواء في اليمن أم في الشام أم فيما وراء اليمن ووراء الشام إلى آخر الزمان! إنها طبائع الأشياء. إنها أولا طبيعة المنهج الإسلامي التي يعرفها جيدا ويستشعرها بالفطرة أصحاب المناهج الأخرى! طبيعة الإصرار على إقامة مملكة الله في الأرض، وإخراج الناس كافة من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، وتحطيم الحواجز المادية التي تحول بين "الناس كافة" وبين حرية الاختيار الحقيقية. ثم إنها ثانيا طبيعة التعارض بين منهجين للحياة لا التقاء بينهما في كبيرة ولا صغيرة، وحرص أصحاب المناهج الأرضية على سحق المنهج الرباني الذي يتهدد وجودهم ومناهجهم وأوضاعهم قبل أن يسحقهم! فهي حتمية لا اختيار فيها في الحقيقة لهؤلاء ولا هؤلاء!
وكانت هذه الحتمية تفعل فعلها على مدى الزمن وعلى مدى التجارب، وتتجلى في صور شتى تؤكد وتعمق ضرورة الخطوة النهائية الأخيرة التي أعلنت في هذه السورة. ولم تكن الأسباب القريبة المباشرة التي تذكرها بعض الروايات إلا حلقات في سلسلة طويلة ممتدة على مدى السيرة النبوية الشريفة، وعلى مدى الحركة الإسلامية منذ أيامها الأولى. وبهذه السعة في النظرة إلى الجذور الأصيلة للموقف وإلى تحركاته المستمرة يمكن فهم هذه الخطوة الأخيرة. وذلك مع عدم إغفال الأسباب القريبة المباشرة، لأنها بدورها لا تعدو أن تكون حلقات في تلك السلسلة الطويلة... وذكر الإمام الطبري بعد استعراضه الأقوال في تفسير مطلع السورة: وأَوْلَى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: لأجل الذي جعله الله لأهل العهد من المشركين وأذن لهم بالسياحة فيه بقوله: "فسيحوا في الأرض أربعة أشهر" إنما هو لأهل العهد الذين ظاهروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقضوا عهدهم قبل انقضاء مدته. فأما الذين لم ينقضوا عهدهم ولم يظاهروا عليه فإن الله جل ثناؤه أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بإتمام العهد بينه وبينهم إلى مدته بقوله: "إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم، إن الله يحب المتقين"...".
وفى "تفسير المنار" نقرأ للشيخ رشيد رضا غفر الله له: "من المشهور القطعي الذي لا خلاف فيه أن الله تعالى بعث محمدا رسوله وخاتم النبيين بالإسلام الذي أكمل به الدين، وجعل آيته الكبرى هذا القرآن المعجز للبشر من وجوه كثيرة ذكرنا كلياتها في تفسير (2: 3 ص190 ص228 ج 1)، وأقام بناء الدعوة إليه على أساس البراهين العقلية والعلمية المقنعة والملزمة، ومنع الإكراه فيه والحمل عليه بالقوة، كما بيناه في تفسير (2: 256 ص26 ص40 ج 3)، فقاومه المشركون، وفتنوا المؤمنين بالتعذيب والاضطهاد لصدهم عنه، وصدوه (ص) عن تبليغه للناس بالقوة. ولم يكن أحد ممن اتبعه يأمن على نفسه من القتل أو التعذيب إلا بتأمين حليف أو قريب. فهاجر من هاجر منهم المرة بعد المرة، ثم اشتد إيذاؤهم للرسول (ص) حتى ائتمروا بحبسه الدائم أو نفيه أو قتله علنا في دار الندوة، ورجحوا في آخر الأمر قتله، فأمره الله تعالى بالهجرة كما تقدم في تفسير (الأنفال/ 30): "وإذ يمكر بك الذين كفروا" (ص650 ج 9). فهاجر (ص)، وصار يتبعه مَنْ قَدَرَ على الهجرة من أصحابه إلى حيث وجدوا من مهاجَرهم بالمدينة المنورة أنصارا لله ولرسوله يحبون من هاجر إليهم، ويؤثرونهم على أنفسهم.
وكانت الحال بينهم وبين مشركي مكة وغيرهم من العرب حال حرب بالطبع ومقتضى العرف العام في ذلك العصر. وعاهد (ص) أهل الكتاب من يهود المدينة وما حولها على السلم والتعاون، فخانوا وغدروا ونقضوا عهودهم له بما كانوا يوالون المشركين ويظاهرونهم كلما حاربوه كما تقدم بيان ذلك كله في تفسير سورة "الأنفال" من هذا الجزء (ص1547 1556). وقد عاهد (ص) المشركين في الحديبية على السلم والأمان عشر سنين بشروطٍ تساهَل معهم فيها منتهى التساهل، عن قوة وعزة، لا عن ضعف وذلة، ولكن حبا بالسلم ونشر دينه بالإقناع والحجة. ودخلت خُزَاعة في عهده (ص)، كما دخلت بنو بكر في عهد قريش،. ثم عدا هؤلاء على أولئك، وأعانتهم قريش بالسلاح فنقضوا عهدهم. فكان ذلك سبب عودة الحرب العامة معهم وفتحه (ص) لمكة، الذي خضد شوكة الشرك وأذل أهله. ولكنهم ما زالوا يحاربونه حيث قدروا، وثبت بالتجربة لهم في حالَيْ قوتهم وضعفهم أنهم لا عهود لهم، ولا يؤمَن نقضهم وانتقاضهم، وكما يأتي قريبا في قوله تعالى من هذه السورة/ 7: "كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله" إلى قوله في آخر آية 12: "فقاتلوا أئمة الكفر، إنهم لا أَيْمان لهم لعلهم ينتهون". أي لا عهود لهم يَرْعَوْنها ويَفُون بها. والمراد أنه لا يمكن أن يعيش المسلمون معهم بحكم المعاهدات المرعية، فيأمن كل منهم شر الآخر وعدوانه مع بقائهم على شركهم الذي ليس له شرع يُدَان به، فيجب الوفاء بالعهد بإيجابه. كيف وقد سبقهم إلى الغدر ونقض الميثاق من كانوا أجدر بالوفاء وهم أهل الكتاب؟. هذا هو الأصل الشرعي الذي بُنِيَ عليه ما جاءت به هذه السورة من نبذ عهودهم المطلقة، وإتمام مدة عهدهم المؤقتة لمن استقام عليها. وأما حكمة ذلك فهي محو بقية الشرك من جزيرة العرب بالقوة، وجعلها خالصة للمسلمين، مع مراعاة الأصول السابقة في قوله تعالى (البقرة/ 190): "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم" وقوله (الأنفال/ 61): "وإن جنحوا للسلم فاجنح لها" بقدر الإمكان، وإن قال الجمهور بنسخ هذه الآية بآية السيف من هذه السورة ونبذ عهود الشرك ".
ويرى الأستاذ محمد عِزّة دَرْوَزَة صاحب "التفسير الحديث" أن السبب فى نزول هذه الآيات هو نقض بعض المشركين لعهودهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الذين لم ينقضوا عهودهم، سواء كانت مؤقتة أو مؤبدة، فقد جاءت السورة بالمحافظة عليها، وأنه حتى إذا انقضت عهودهم فإنه يجوز أن تعقد معهم معاهدات جديدة، وأن هذه الآيات هي الأصل الذي يقيد عموم الآيات الأخيرة في هذه السورة. وفي ذلك يقول في شرح قوله تعالى: "إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين* فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد، فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم, إن الله غفور رحيم": "وفي الآيتين وما قبلهما صور من السيرة النبوية في أواخر العهد المدني حيث ينطوي فيهما أنه كان بين المسلمين والمشركين عهود سلم بعد الفتح المكي ربما كانت ممتدة إلى ما قبله، وأن من المشركين من ظلوا أوفياء لعهودهم، ومنهم من نقض أو ظهرت منه علائم النقض والغدر. ولقد نبهنا قَبْلُ على أن أهل التأويل والمفسرين يسمون الآية الثانية من الآيتين اللتين نحن في صددهما: آية السيف، ويعتبرونها ناسخة لكل آية فيها أمر بالتسامح والتساهل مع المشركين وإمهالهم والإغضاء والصفح والإعراض عنهم، وتوجب قتالهم إطلاقا. وبعضهم يستثني المعاهدين منهم إلى مدتهم، وبعضهم لا يستثنيهم ولا يجوّز قبول غير الإسلام منهم بعد نزولها. ونبهنا على ما في ذلك من غلو ومناقضة للتقريرات القرآنية المتضمنة لأحكامٍ مُحْكَمَةٍ بعدم قتال غير الأعداء وترك المسالمين والموادّين وبِرّهم والإقساط إليهم. ولقد كرر المفسرون أقوالهم ورواياتهم عن قدماء أهل التأويل في مناسبة هذه الآية، فروى ابن كثير عن ابن عباس أن الآية أمرت النبي صلى الله عليه وسلم بأن يضع السيف في من عاهدهم حتى يدخلوا في الإسلام، وأن ينقض ما كان سمى لهم من عهد وميثاق...
والآية، كما هو واضح من فحواها وسياقها، هي في صدد قتال المشركين المعاهدين الناقضين لعهدهم وَحَسْب بحيث يسوغ القول إن اعتبارها "آية سيف" وجعلها شاملة لكل مشرك إطلاقا تحميل لها بما لا يتحمله هذا السياق والفحوى، وكذلك الأمر في اعتبارها ناسخة للتقريرات المنطوية في آيات عديدة والتي عليها طابع المبدأ المحكم العام، مثل عدم الإكراه في الدين والدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن والحث على البر والإقساط لمن لا يقاتل المسلمين ولا يخرجونهم من ديارهم على ما نبهنا عليه في مناسبات عديدة سابقة. ويأتي بعد قليل آية فيها أمر صريح للمسلمين بالاستقامة على عهدهم مع المشركين الذين عاهدوهم عند المسجد الحرام ما استقاموا لهم، وفي هذه الآية دليل قوي على وجاهة ما نقرره إن شاء الله".
وبالمناسبة فليست آيات سورة"التوبة" هى وحدها التى تناولت موضوع التفرقة بين مشركين يَفُون بما بينهم وبين المسلمين من معاهدات واتفاقيات وبين مشركين آخرين لا يُؤْمَن جانبهم لجريان الغدر والخيانة فى عروقهم ودمائهم. قال تعالى فى سورة "النساء": "فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا (89) إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (90) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولائِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91)". لقد ميزت الآيات بشكل لا يحتمل تأويلاً ولا لَبْسًا بين من يلتزم بشروط العهد الذى بينه وبين المسلمين وبين من يشغب على العهود ويرفع السلاح على المسلمين خيانةً وغدرًا يريد قتلهم والقضاء عليهم وعلى دينهم دون أن يكون قد فَرَط منهم أى شىء يمكن التعلل به فى تبرير هذه الخيانة وذلك الغدر.
ومعروف أن القرآن يقرر على نحو قاطع أنه لا إكراه فى الدين، وأنه من شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر، وينهى المسلمين عن قتال من لم يَعْتَدِ عليهم أو يقاتلهم، ويأمرهم أن يجنحوا للسلام متى ما جنح عدوهم له، وينفى أن يكون لهم أى سبيل على المشركين الذين لا يمدون إليهم أيديهم بالأذى. بل إنه ليبارك معاملتهم لمن لا يؤذيهم أو يقاتلهم معاملة بر وإقساط: "لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" (البقرة/ 256)، "وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ" (الكهف/ 29)، "وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ" (البقرة/ 190)، "فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ" (البقرة/ 194)، "فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً" (النساء/ 90)، "وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ" (الأنفال/ 61- 62)، "عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ* لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ* إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ" (الممتحنة/ 7- 9).
لكن الأوغاد يسيئون الأدبَ مع سيدنا رسول الله، إذ يتهمونه بالقتل وسفك الدماء والمجىء بدين يقوم على إكراه الناس على اعتناقه برهبة السيف وتهديم بيوت عبادتهم، وفى نفس الوقت نراهم يزعمون أن دين النصرانية يقوم على المحبة والسلام! وأَوَّلَ كلِّ شىء لا بد أن نلفت الأبصار إلى أن المسيح عليه السلام لم يكن، حين ترك الدنيا، قد مضى عليه فى النبوة أكثر من ثلاث سنوات ليس إلا، ومن ثم لا يمكن التحجج بأنه لم يشرع لأتباعه قتال من يعتدون عليهم. كما أنه لم يكن يعيش فى دولة مستقلة، فضلا عن أن يكون هو الحاكم فيها مثلما هو الحال مع الرسول محمد عليه السلام. وإذن فقياس الوضعين أحدهما على الآخر خطأ أبلق وأبله معا. وهذا لو أن السيد المسيح، حسبما تحكى قصةَ حياته الأناجيلُ التى بين أيدينا، كان فعلا وديعا متسامحا دائما مثلما يحب النصارى أن يعتقدوا ويعتقد الآخرون معهم. فما أكثر الشتائم واللعنات التى كان يرمى بها فى وجوه اليهود بل فى وجوه تلاميذه أيضا، من مثل قوله لأحد اليهود: "يا مُرَائى" (متى/ 7/ 5)، وقوله لتلاميذه ينصحهم ألا يهتموا بمن لا يستطيعون فهم دعوته مشبها إياهم بالخنازير الغبية، وكأن دين الله يصح إغلاقه فى وجه أحد: "لا تعطوا القدس للكلاب، ولا تلقوا جواهركم قدام الخنازير لئلا تدوسها بأرجلها وترجع فتمزّقكم" (متى/ 7/ 6)، وقوله لبعض الفَرّيسيّين: "يا أولاد الأفاعى" (متى/ 12/ 3)، وقوله لأهل كورزين وصيدا: "الويل لك يا كورزين! الويل لك يا بيت صيدا!" (متى/ 11/ 21، ولوقا/ 10/ 13)، وقوله لمن طلبوا منه آية: "الجيل الشرّير الفاسق يطلب آية" (متى/ 12/ 38، و16/ 4)، وقوله عن غير الإسرائيليين ممن يريدون أن يستمعوا لدعوته ليهتدوا بها إنهم كلاب لا تستحق الشفقة: "ليس حسنا أن يؤخَذ خبز البنين ويُلْقَى للكلاب" (متى/ 15/ 26)، وقوله لبطرس أقرب تلاميذه إليه: "اذهب خلفى يا شيطان" (متى/ 16/ 23، ومرقس/ 8/ 33)، وقوله لحوارييه يشتمهم ويبكتهم ويتهمهم بالغفلة والغباء: "أحتى الآن لا تفهمون ولا تعقلون؟ أَوَحَتَّى الآن قلوبكم عمياء؟* لكم أعين، أفلا تبصرون؟ ولكم آذان، أفلا تسمعون ولا تذكرون؟" (مرقس/ 8/ 17)، وقوله لبعض الفَرِّيسِيّين سابًّا مهددًا: "أيها الجهال... ويل لكم أيها الفريسيون" ( لوقا/ 11 / 39 – 50)، وقوله عن فَرِّيسِىّ آخر: "هذا الثعلب" (لوقا/ 13/ 32). ولا ينبغى فى هذا السياق أن نهمل ما صنعه مع الباعة فى الهيكل حين قلب لهم موائدهم وكراسيّهم وسبّهم وساقهم أمامه حتى أخرجهم من المعبد (مرقس/ 12/ 15 – 17)، وكذلك قوله لحوارييه: "أتظنون أنى جئت لأُلْقِى على الأرض َسلاما؟ لم آت لألقى سلاما لكنْ سيفا* أتيتُ لأفرِّق الإنسان عن أبيه، والابنة عن أمها، والكَنَّة عن حماتها" ( متى/ 10/ 34 – 35)، وقوله أيضا فى نفس المعنى: "إنى جئت لألقى على الأرض نارا، وما أريد إلا اضطرامها" (لوقا/ 12/ 44).
من هذا يتبين أن الصورة الوديعة تمام الوداعة التى يرسمها النصارى للسيد المسيح ليست حقيقية، بل هى من مبالغاتهم التى اشتهروا بها. ولست أقول هذا حَطًّا من شأنه عليه السلام، فهو نبىٌّ كريم لا يكمل إيماننا نحن المسلمين إلا به، لكنى أريد أن أقول إن الطبيعة الإنسانية لا يمكن أن تتحمل السماحة والصبر إلى أبد الآبدين، ولا بد أن تأتى على أحلم الحلماء أوقات يضيق منه الصدر ويثور على المجرمين. كل ذلك رغم أن المسيح عليه السلام لم ينفق فى الدعوة ومخالطة الناس فى ميدانها إلا سنواتٍ ثلاثًا لا غير. بل إن النصارى، فى السِّيَر التى ألفوها عنه وأطلقوا عليها: "أناجيل"، قد نسبوا إليه بعض التصرفات التى أقلّ ما توصف به أنها تصرفات جافية تفتقر إلى اللياقة تجاه أمه عليها السلام: من ذلك أنه، بينما كان يعظ فى أحد البيوت ذات يوم، أُخْبِر أن أمه وإخوته بالخارج يريدون أن يَرَوْه ولا يستطيعون أن يصلوا إليه من الزحام، فما كان منه إلا أن أجابهم قائلا فى استنكار ونفور: "إن أمى وإخوتى هم الذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها" (لوقا/ 8 / 19 – 20 )، وحين دعت لـه امرأة بأنْ "طُوبَى للبطن الذى حملك، وللثديين اللذين رضعتَهما" ردَّ فى جفاء: "بل طوبى لمن يسمع كلمة الله ويعمل بها" (لوقا/ 11/ 27– 28). وليس لهذا من معنى، فضلا عن الخشونة التى لا يصح سلوكها تجاه من حَمَلتْنا وربَّتْنا، إلا أنها لم تكن هى ولا إخوته ممن يسمعون كلمة الله ويعملون بها!
وفى مناسبة أخرى كان هو وأمه فى عرس فى قانا الجليل، وفرغت الخمر فنبهته إلى ذلك، فأجابها فى غلظة: "ما لى ولك يا امرأة؟" (يوحنا/ 2/ 1- 3). لكأن مؤلفى الأناجيل قد تعمدوا أن يشوهوا سيرته وصورته! لكننا بطبيعة الحال لا نصدّق بشىء من ذلك، فقرآننا يؤكد أنه عليه السلام كان بَرًّا بوالدته غاية البِرّ (مريم/ 32). على أن المسألة لا تنتهى هنا وحسب، بل إنهم ليصورونه، عقب مقتل النبى يحيى قريبه اللصيق، كما لو كان بلا قلب أو مشاعر، إذ نراه بعد علمه بمقتل هذا النبى الكريم تلك القِتْلة المأساوية المعروفة يأخذ أتباعه ويمضى بهم خارج المدينة ليمارسوا حياتهم ويأكلوا كما كانوا يفعلون من قبل، وكأن شيئا لم يقع (متى/ 14/ 12 وما بعدها، ومرقس/ 6/ 28 وما بعدها)، وهو ما يدل على تحجر الإحساس، أستغفر الله! كذلك كان سائرا ذات مرة فى الطريق فجاع، ورأى شجرة تين هناك، فدنا إليها لعله يجد فيها تينا يأكله، فلما لم يجد فيها ثمرا دعا عليها ألا تثمر إلى الأبد فلا يأكل أحد منها شيئا، فيبست التينة لوقتها، وكان هذا فى رأيه برهانا على قوة الإيمان (متى/ 21 / 19 وما بعدها، ومرقس/ 11/ 12 وما بعدها). وإن الإنسان ليتساءل: كيف يمكن أن يُعَدّ هذا برهانا على قوة الإيمان؟ وما ذنب التينة يا ترى؟ وما الفائدة التى تعود على الناس أو الحياة من اليبوسة التى أصابتها؟ ألم يكن هناك برهان آخر أكثر نفعًا ومعقوليةً يمكن أن يقوم به السيد المسيح الذى يضرب النصارى به الأمثال فى الحِلْم والوداعة؟ ثم إن هذا التصرف من السيد المسيح يناقض ما أراده من المثل الذى ضربه فى موقف آخر عن التينة ، وخلاصته أن رجلا كانت لـه شجرة تين مغروسة فى كَرْمِهِ ظلت لا تثمر ثلاث سنين، فطلب من الكَرّام أن يقلعها ليستفيد من مساحة الأرض التى تشغلها، لكن الكرّام استسمحه أن يتركها هذه السنة أيضا على أن يقطعها العام القادم إذا لم تثمر، فأجابه صاحب الأرض إلى طِلْبته (لوقا/ 13/ 6– 9). ومغزى المثل أن الله يعطى الفرصة للعاصين مرة واثنتين وثلاثا قبل أن يأخذهم بذنوبهم. فلماذا لم يطبق المسيح عليه السلام هذا المبدأ مع التينة، التى ليس لها مع ذلك عقل الإنسان ولا إرادته؟ خلاصة القول إننا لو قارنّاه برسولنا الكريم، عليه وعلى ابن مريم السلام، لوجدنا أن النبى محمدا كان أحلم وأطول بالا وأوسع صدرا، وظل هكذا، لا ثلاث سنوات فقط مثله، بل ثلاثة وعشرين عاما!
أما فى حالة الرسول محمد بعد الهجرة إلى المدينة فقد كانت هناك دولة سرعان ما وجدت نفسها منغمسةً فى حروب مع هذا ومع ذاك، شأنها فى ذلك شأن ما يحدث للدول فى كل مكان وزمان ما دمنا نعيش فى دنيا البشر لا فى دنيا الملائكة. أما حكاية "من لطمك على خدك الأيمن فحَوِّل له الآخر" فهذا كلام غير قابل للتطبيق، ولا يترتب عليه إلا خراب المجتمعات والدول، وفوز الذئاب والكلاب من البشر بكل شىء، وذهاب الناس الطيبين فى ستين داهية غير مأسوف عليهم من أحد! ثم أين هذا الصنف من الناس الذى تضربه على خده الأيمن فيدير لك الأيسر لتَحِنّ عليه بما لذّ وطاب من الصفع والإهانة؟ أَرُونِى واحدا يفعل ذلك! بل إن المسيح نفسه لم يفعل هذا! حتى الصَّلْب، الذى يزعمون أنه عليه السلام إنما أُرْسِل إلى الأرض ليتحمله فداءً للبشر الخُطَاة، ظل يسوّف فيه ويحاول تجنبه ما أمكن، وعندما وقع أخيرا فى أيدى الجنود وأخذوا يعتدون عليه بالشتم والضرب كان يعترض على ما يوجهونه إليه من أذى. بل إنه، وهو فوق الصليب، أخذ يجأر إلى ربه كى يزيح عنه تلك الكأس المرة. وهذا كله قد سجَّله مؤلفو الأناجيل أنفسهم!
ثم تعالَوْا بنا إلى واقع الحياة، فماذا نجد؟ لننظرْ إلى الحروب التى خاضها النصارى وتلك التى خاضها المسلمون ونقارن بينهما. وأول ما يلفت النظر بطبيعة الحال أن النصارى قد خاضوا الحروب وقاتلوا وقَتَلوا ولم يديروا خدهم لا اليمين ولا الشمال لأحد، اللهم إلا كِبْرًا وبَطَرًا وتجبُّرا. ومع هذا فإنهم ما زالوا سادرين فى سخفهم وسماجتهم ومحاضرتهم لنا عن التسامح والمسكنة والتواضع وإدارة خدك الأيسر لمن يصفعك على أخيه الأيمن وترك إزارك له أيضا إذا أخذ منك رداءك. لقد أبادوا أمما من على وجه الأرض فلم تبق لها من باقية: حدث هذا فى أمريكا على يد الأوربيين الذين هاجروا إليها فى مطالع العصور الحديثة وظلوا يشنون الغارات على الهنود الحمر أصحاب البلاد وينشرون بينهم الأوبئة التى لم يكن لهم بها عهد حتى أفنَوْهم عن بَكْرَة أبيهم تقريبا، وذلك بمباركة القساوسة الناطقين باسم المسيح وحاملى رسالة التواضع والمحبة والتسامح وإدارة الخد الأيسر، والتنازل عن الرداء والإزار معا وسير صاحبهما عاريًا حافيًا كما ولدته أمه! وحدث هذا أيضا فى أستراليا نحو ذلك الوقت! ولقد ناب المسلمين والعرب من هذه المحبة جانب، إذ بعد أن انتصر فرديناند وإيزابلا على بنى الأحمر فى شبه جزيرة أيبريا وأصبحت الأندلس نصرانية، رأينا هذين الملكين ينقلبان على المسلمين الذين بَقُوا فى بلادهم لم يغادروها مع من غادرها، فيغدران بهم ويُثْخِنان فيهم تقتيلا وتنصيرا، ضاربَيْنِ عُرْضَ الجدار بالمعاهدات التى تكفل للمسلمين الأمان والحرية الدينية والاحتفاظ بممتلكاتهم لا تُمَسّ، حتى لم يعد هناك بعد فترة وجيزة فى تلك البلاد مخلوق يوحّد الله. والبركة فى محاكم التفتيش التى أقامها خلفاء السيد المسيح ناشرو دعوة التسامح والتواضع والمحبة على الورق وفى عالم الدعاية الكاذبة الفاجرة لا غير، أما فى دنيا الواقع فإنها لا تسمن ولا تغنى من جوع أو قتل أو حرق أو سلخ أو تكسير للعظام أو سَمْل للعيون أو تغريق فى البحر أو مصادرة للأملاك أو... أو... أو...! فانظر إلى ما فعله المسلمون حين فتحوا تلك البلاد تدرك الفرق بين النفاق النصرانى المتشدق زورا وبهتانا بالمبادئ الخلقية الورقية التى لم تعرف السبيل يوما إلى التطبيق على الأرض، وبين المثالية الإسلامية الواقعية التى لا تعرف هذه الشقشقات اللفظية، لكنها لا تنزل أبدا إلى هذا الدرْك الأسفل من القسوة والتوحش مهما خالفت عن أمر دينها ولم تلتزم به كما يحدث فى دنيا البشر أحيانا! إن المسلمين متَّهَمون دائما بأنهم نشروا دينهم بالسيف، مع أنه لم يثبت قط أنهم أكرهوا شعبا على ترك دينه كما فعل النصارى فى كثير من الدول التى احتلوها مما ذكرنا منه أمثلة ثلاثة ليس إلا.
وأَدَعُ هنا الحديث لرجل غربى هو الصحفى فنسينزو أوليفيتى، الذى لم تَرُقْ له مفتريات الزعيم الأنجليكانى باتريك سُوكْدِيو ضد الإسلام فى مقال له بصحيفة "السِّبِكْتِيتَرْ" البريطانية فى 30 يوليه 2005م، فكتب يرد عليه فى مقال عنوانه: "القول بأن الإسلام المعتدل خرافة هو الخرافة" ننقل منه الفقرات التالية: "فى مقال نُشِر مؤخرًا فى مجلة "السِّبِكْتِيتَرْ" البريطانية يهاجم الزعيم الأنجليكانى باتريك سوكْدِيو المسلمين ودينهم هجوما عنيفا. ترى هل يَثْبُت ما كتبه المؤلف فى ذلك المقال على محك التمحيص؟ الواقع أن مقالة باتريك سوكديو: "خرافة الإسلام المعتدل" فى "السبكتيتر" اللندنية بتاريخ 30 يونيه 2005م تعكس اتجاها خطيرا فى الحرب على الإرهاب، إذ تحت ستار الرغبة فى تعريف الغربيين بالإسلام نجده ينشر نفس التضليل الذى تقوم عليه الكتابات العدائية لذلك الدين على مدار أكثر من ألف عام، وهذا من شأنه أن يكون أداة مباشرة فى يد أسامة بن لادن وأبو مصعب الزرقاوى وغيرهما، لأنه يشجع فكرة "صراع الحضارات" التى يرغبون فى دوامها على نحوٍ جِدِّ مَقِيت. وإنه لمن المهم جدا أن نعرف الإسلام على نحو أفضل مما نعرفه الآن وأن نكافح وباء التطرف بكل ما فى أيدينا من إمكانات. بيد أن سوكْدِيو وأمثاله يفسدون القضية بطريقتهم التى يَسْعَوْن من ورائها إلى خدمة أغراضهم هم، وذلك من خلال تحويل الحرب على الإرهاب إلى إشعال حرب دينية على الإسلام ذاته.
ويتضح انحياز سوكْدِيو منذ البداية، فهو يزعم أن الإرهابيين يمثلون الإسلام حقا، إذ يقول: "ينبغى علينا أن نصدقهم إذا قالوا إنهم يفعلون ذلك باسم الإسلام. أليس من الغطرسة الشديدة والتنكر التام لليبرالية أن ننكر عليهم الحق فى تعريف أنفسهم بأنفسهم؟". أما فى باقى المقالة فهو يبذل جهدا مكثفا لإنكار حق التعريف الذاتى على سائر المسلمين الآخرين الذين يقولون إنهم يرفضون التفاسير المتطرفة للإسلام. والحقيقة أن 5% فحسب من المسلمين هم الذين يمكن تصنيفهم على أنهم أصوليون، وأن 1., . % فقط من هؤلاء الخمسة فى المائة يُبْدُون قدرا من الميل نحو ممارسة الإرهاب أو "العنف الدينى". إنها إذن "قمة التنكر للّيبرالية" أن نعرّف نحو المليار وثلث المليار من المسلمين بأنهم إرهابيون رغم أنهم لا صلة بينهم وبين "العنف الدينى" بأى حال، لمجرد أخطاء يرتكبها هامش ضئيل لا يزيد عن 005,. %. وعلى أكثر تقدير فإن واحدا فقط من كل 200000 مسلم يمكن اتهامه بالإرهاب. أى أن كل ما هنالك من إرهابيين فى العالم لا يزيدون عن 65 ألفا ليس إلا، وهو تقريبا نفس عدد القتلة الطُّلَقاء فى الولايات المتحدة وحدها، فضلا عن أكثر من 200 ألف قاتل أمريكى فى العام الواحد فى أمة تعدادها لا يتجاوز 300 مليون نسمة.
ويدعى سوكْدِيو أن على المسلمين "الالتزام بالصدق والإقرار بالعنف الذى يصبغ تاريخهم". ومع ذلك فحين نأخذ فى الاعتبار أن معظم الكتب التى تتحدث عن اعتداءات المسلمين قد كُتِبت بأقلامٍ مسلمةٍ كان من الصعب القول بأن المسلمين بوجه عام قد اختاروا تجاهل الفظائع التى ارتكبوها فى الماضى. وبطبيعة الحال هناك مسلمون ينكرون بعضا من ذلك الماضى، بالضبط مثلما أن هناك بريطانيين لا يزالون ينكرون فظائع الحقبة الاستعمارية، ومثلما أن هناك أمريكيين ينكرون المجازر التى اجترحوها فى حق سكان أمريكا الأصليين، ومثلما أن هناك ألمانًا ينكرون المحرقة التى قضت على ستة ملايين يهودى. إلا أن الحقيقة المرة مع ذلك كله تقول إن الحضارة النصرانية قد ارتكبت من الفظائع ما يزيد كثيرا جدا على ما ارتكبته الحضارة الإسلامية، حتى لو وضعنا فى الحسبان التعداد الأكبر الذى بلغه أصحابها والعمر الأطول الذى استغرقه تاريخها.
الحق أنه لا وجود فى أى مرحلة من مراحل التاريخ الإسلامى لمثل ذلك المبدإ الذى كان ينادى به القديس أوغسطين، وهو : "عليكم أن تنصِّروهم قَسْرًا وإكراهًا". بل إن القرآن ليقول العكس من ذلك تماما كما فى الآية السادسة والخمسين بعد المائتين من سورة "البقرة"، ونصها: "لا إكراه فى الدين". لقد أدت فكرة أوغسطين المرعبة التى توجب إكراه الجميع على "التطابق" مع "العقيدة النصرانية الصحيحة" إلى قرون من سفك الدماء الذى ليس له فى تاريخ البشرية نظير. أجل، لقد عانى النصارى أثناء سلطان الحضارة النصرانية أكثر مما عانَوْا تحت سلطان الرومان قبل مجىء النصرانية أو أى سلطان آخر طوال التاريخ. لقد تجرع الملايين غصص التعذيب وذُبِحوا ذبحا باسم النصرانية أثناء البدع الآريوسية والدوناتية والألبيجينية، ودعنا من محاكم التفتيش المختلفة أو الحروب الصليبية التى كانت الجيوش الأوربية تقول فيها وهى تجزر رقاب المسلمين والنصارى معا: "اقتلوهم عن بَكْرة أبيهم، ولسوف يميز الله من يخصّونه ممن لا يخصّونه". وغَنِىٌّ عن القول أن هذه الاعتداءات التى قام بها النصارى، بل كل الاعتداءات النصرانية على مدار التاريخ، لا صلة بينها على الإطلاق وبين السيد المسيح أو حتى بينها وبين الأناجيل كما نعرفها. أجل لا يوجد مسلم واحد يمكن أن يؤاخذ السيد المسيح (الكلمة التى صارت جسدا بالنسبة للنصارى والمسلمين جميعا)، فكيف إذن تواتى سوكْدِيو نفسُه على محاسبة القرآن (كلمة الله التى صارت كتابا بالنسبة للمسلمين) على الاعتداءات الإسلامية (التى تقلّ كثيرا جدا عن نظيرتها النصرانية)؟
والواقع أن ذلك العنف الأعمى الذى لا يعرف التمييز لا يقتصر البتة على "عصور الظلام" فى أوربا أو على فترة واحدة من التاريخ النصرانى دون سواها، فحركات الإصلاح الدينى والحركات المضادة لها قد دفعت كلتاهما بالمجازر التى ارتكبها النصارى بعضهم فى حق بعضهم إلى آمادٍ قياسيةٍ غير مسبوقة، إذ تمت إبادة ثلثى النصارى فى أوربا خلال تلك الفترة. ثم لا ينبغى أن ننسى الحروب النابليونية من 1792 إلى 1815م، ولا تجارة الرقيق الأفريقى التى حصدت أرواح عشرة ملايين إنسان، أو الغزو الاستعمارى المتلاحق، فضلا عن الحروب والبرامج والثورات والإبادات الأخرى. إن أعداد السكان الأصليين الذين أبيدوا فى شمال أمريكا ووسطها وجنوبها لترتفع إلى رقم العشرين مليونا فى خلال ثلاثة أجيال لا غير.
وبالإضافة إلى ألوان التخريب والعنف الأوربى فى الماضى، أخذت الحضارة الغربية الحروب مرة أخرى إلى مسافاتٍ لم تعرفها البشرية من قبل حتى إن أحد الإحصاءات المتحفظة ليصل بعدد المقتولين قتلا وحشيا فى القرن العشرين إلى أكثر من مائتين وخمسين مليونا يتحمل المسلمون منها وِزْر أقل من عشرة ملايين ليس إلا، على حين يُسْأَل النصارى أو المنتمون إلى النصرانية عن مائتى مليون من ذلك العدد. و يعود معظم أعداد هؤلاء القتلى إلى الحرب العالمية الأولى (20 مليونا، 90 % منها على الأقل تمت على أيدى "نصارى") والحرب العالمية الثانية (90 مليونا، 50 % منها على الأقل تمت على أيدى "نصارى"، أما الباقى فقد وقع أغلبه فى الشرق الأقصى). وبالتأمل فى ذلك التاريخ المرعب يجب علينا نحن الأوربيين جميعا أن نعى تماما الحقيقة الساطعة التى تؤكد أن الحضارة الإسلامية أقل بما لا يقاس من ناحية القسوة والوحشية من الحضارة النصرانية. ترى هل كانت المحرقة التى راح ضحيتها 6 ملايين يهودى من صنع حضارة المسلمين؟
وفى القرن العشرين وحده نجد أن الغربيين والنصارى قد ارتكبوا من جرائم القتل أضعاف ما وقع من الدول الإسلامية عشرين مرة على أقل تقدير. ولقد تسببنا نحن الغربيين فى هذا القرن الذى لم يشهد التاريخ مثله دموية فى إيقاع الإصابات بين المدنيين بما لا يقاس به ما صنعه المسلمون على مدار تاريخهم جميعا: انظر إلى إزهاق أرواح 900000 رواندى عامى 1992م و1995م فى بلدٍ أكثر من 90% من سكانه نصارى، أو انظر إلى إبادة أكثر من 300000 مسلم، وكذلك الاغتصاب المنظم لأكثر من 100000 امرأة مسلمة فى البوسنة، على يد نصارى الصرب. فهذه الحقائق البشعة تقول بلغة الأرقام والإحصاءات التى لا تعرف الكذب إن الحضارة النصرانية هى أشد حضارات التاريخ عنفا ودموية، وإنها مسؤولة عن إزهاق مئات الملايين من الأرواح.
لقد كان إنتاج الأسلحة النووية واستعمالها كفيلا فى حد ذاته بأن يجعل الغرب يتوارى خجلا أمام باقى شعوب العالم: فأمريكا هى التى صنعت الأسلحة النووية، وأمريكا هى الدولة الوحيدة التى استخدمت الأسلحة النووية، والدول الغربية هى التى تسعى إلى الحفاظ على احتكار الأسلحة النووية. وعلى هذا الأساس فليس لنا الحق بتاتا فى الاعتراض على حيازة الدول الأخرى لهذه الأسلحة إلا إذا أثبتنا أننا متجهون إلى التخلص منها تماما.
ولا بد من القول بأن الإسلام، رغم اشتماله على مفهوم الحرب المشروعة دفاعا عن النفس (كما هو الحال فى النصرانية، وكذلك البوذية)، لا مكان فى ثقافته (أو فى أية ثقافة أخرى من الثقافات الموجودة الآن) لإمكانية تحويل العنف إلى مثلٍ أعلى أو جعله وثنا معبودا كما فعلت الثقافة الغربية. إن الغربيين ينظرون إلى أنفسهم على أنهم ناس مسالمون، بيد أن الرقة والسموّ اللذين يطبعان الأناجيل بطابعهما، وكذلك الطبيعة المحبة للسلام التى تتسم بها الديموقراطية، ليس لها فى الحقيقة أى انعكاس فى الثقافة الغربية الشعبية إلا على سبيل الندرة. بل على العكس نرى الاتجاه التام لتلك الثقافة، متمثلا فى أفلام هوليوود وبرامج التلفاز الغربية وألعاب الفيديو والموسيقى الشعبية والمسابقات الرياضية، ينحو منحى تمجيد العنف وتزيينه. ومن ثم فإن المعدلات النسبية لجرائم القتل (وبخاصة القتل العشوائى والقتل المسلسل) فى العالم الغربى (وبالذات فى الولايات المتحدة الأمريكية، بل حتى فى أوربا كلها بصفة عامة) أعلى من مثيلاتها فى العالم الإسلامى فى البلاد التى لا يوجد فيها حروب طائفية، وذلك على الرغم من أن الغرب يتمتع بثروة أضخم كثيرا. ترى هل قرعت سمعَ سوكْدِيو يومًا الكلماتُ التالية من إنجيل متى؟:
"7 1 لاَ تَدِينُوا لِكَيْ لاَ تُدَانُوا،2لأَنَّكُمْ بِالدَّيْنُونَةِ الَّتِي بِهَا تَدِينُونَ تُدَانُونَ، وَبِالْكَيْلِ الَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ. 3وَلِمَاذَا تَنْظُرُ الْقَذَى الَّذِي فِي عَيْنِ أَخِيكَ، وَأَمَّا الْخَشَبَةُ الَّتِي فِي عَيْنِكَ فَلاَ تَفْطَنُ لَهَا؟ 4أَمْ كَيْفَ تَقُولُ لأَخِيكَ: دَعْنِي أُخْرِجِ الْقَذَى مِنْ عَيْنِكَ، وَهَا الْخَشَبَةُ فِي عَيْنِكَ؟ 5يَا مُرَائِي، أَخْرِجْ أَوَّلاً الْخَشَبَةَ مِنْ عَيْنِكَ، وَحِينَئِذٍ تُبْصِرُ جَيِّداً أَنْ تُخْرِجَ الْقَذَى مِنْ عَيْنِ أَخِيكَ!".
ومثل معظم الكتابات الجدلية المعادية للإسلام يشكل باقى مقالة سوكْدِيو خليطا من الحقائق والأوهام. فعلى سبيل المثال يزعم سوكْدِيو أن كثيرا من الآيات القرآنية التى تدعو إلى السلم قد نسختها الآيات التى نزلت بعدها. صحيح أن كثيرا من علماء المسلمين يقولون إن الآيات اللاحقة تنسخ الآيات السابقة، غير أن نطاق النسخ يختلف من عالِمٍ إلى آخَرَ اختلافا بعيدا: فبعض العلماء يرى أن الآيات المنسوخة لا تتجاوز خمس آيات، على حين يرى علماء آخرون أن عدد المنسوخ يتجاوز 150 آية. وعلى ذلك فزَعْم سوكْدِيو بأنه "متى وُجِد تعارض فى الآيات القرآنية كان اللاحق منها ناسخا للسابق" هو تبسيطٌ مُخِلّ. ذلك أن الادعاء بتأخر الآيات الداعية إلى السلم جميعها عن الآيات المحبّذة للحرب وانتساخها بها هو، بكل بساطةٍ، ادعاء زائف. فمثلا هناك آيات نزلت فى العامين الأخيرين من حياة محمد (عليه السلام) تنهى المسلمين عن الانتقام ممن أخرجوهم من بيوتهم: "وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ" (المائدة/ 2)، "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى" (المائدة/ 8).
ومن الصعوبة بمكان أن يتخيل الواحد منا رسالة أقوى من هذه الرسالة فى الدعوة إلى العدل والعفو والتصالح. وفضلا عن ذلك فكثير من علماء المسلمين يستشهدون بالآيات المبكرة التى تحض على السلام فى دعوتهم للشباب المسلم إلى نبذ تطرف المتطرفين، فهل يُؤْثِر سوكْدِيو أن يُصِيخ الشباب المسلم السمعَ لأولئك الذين يفسرون له تلك الآيات على أنها قد تم نسخها كما يقول؟
ومن اللافت للنظر أن سوكْدِيو، شأنه شأن من يفسرون القرآن من المتطرفين، يسىء الاستشهاد بالآيات القرآنية باقتطاعها عن سياقها الذى وردت فيه، قائلا إن الآيتين التاسعة والخمسين والستين من سورة "الأنفال" تحضان على الإرهاب، رغم أن الآية الأخيرة لا تدعو فى واقع الأمر إلى شىء من هذا، بل تشكل مع الآية التى تعقبها كلا واحدا، ونصها: "وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا". وبالمناسبة فهذه الآية هى أيضا من الآيات المتأخرة فى النزول. وفى هذا السياق نجد الآية الستين تأمر المسلمين بألا يقفوا موقفا سلبيا تجاه تهديدات عدوهم، ثم تأتى الآية الحادية والستون لرسم حدود هذا الأمر فى الواقع العملى. وعلى هذا فليس فى الآية على الإطلاق أية دعوة إلى الإرهاب. ولربما لو كان سوكْدِيو يلمّ بالعربية إلمامًا جيدًا لكان فهمه للقرآن أفضل، لكنه يفتقر إلى مثل هذا الإلمام المطلوب، وهو ما يجعل من الصعب علينا الاقتناع بما يقوله عن الإسلام وتعاليمه مهما يكن المنصب الذى يشغله أو اللقب الذى يتحلى به.
ويمضى سوكْدِيو قائلا إن الإنسان يمكنه الاختيار بين الآيات التى تحبّذ العنف وتلك التى تدعو إلى السلام. وهذا صحيح، إلا أنه سيكون فى هذه الحالة متسرعا تسرعا شديدا فى القول بأن القرآن يرحب بالعنف أكثر مما يرحب العهد القديم (كما هو الحال مثلا فى سفر "اللاويين" أو سفر "يوشع"). فإذا قلنا إن القرآن يحبذ العنف، فما القول إذن فى نصوص العهد القديم التى تأمر أمرا صريحا بالقتل وإبادة البشر؟ ففى الفقرة رقم 17 من الأصحاح الحادى والثلاثين من سفر "العدد" يقول موسى بشأن الأسرى المديانيين الذين قتل بنو إسرائيل أقاربهم: "فَالآنَ اقْتُلُوا كُلَّ ذَكَرٍ مِنَ الأَطْفَالِ. وَكُلَّ امْرَأَةٍ عَرَفَتْ رَجُلاً بِمُضَاجَعَةِ ذَكَرٍ اقْتُلُوهَا". كما أن الفقرات 1- 9 من الأصحاح الخامس عشر من سفر صموئيل الأول تحكى لنا قصة النبى صموئيل حين أمر الملكَ شاول بمحو العمالقة من الوجود على النحو التالى: "3فَالآنَ اذْهَبْ وَاضْرِبْ عَمَالِيقَ، وَحَرِّمُوا كُلَّ مَا لَهُ وَلاَ تَعْفُ عَنْهُمْ بَلِ اقْتُلْ رَجُلاً وَامْرَأَةً، طِفْلاً وَرَضِيعًا، بَقَرًا وَغَنَمًا، جَمَلاً وَحِمَارًا". أما النبى محمد فقد نهى أتباعه عن مثل هذا التطرف قائلا كما جاء فى تفسير ابن كثير للآيات 190- 193 من سورة "البقرة: " اغزوا فى سبيل الله. قاتلوا من كفر بالله. اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا الوليد ولا أصحاب الصوامع"، ومثله ما ورد فى "المغازى" للواقدى (3/ 117- 118): "اغزوا ولا تغدروا، ولا تقتلوا وليدا ولا امرأة، ولا تمنَّوْا لقاء العدو".
أما الزعم بأن الحرب التى حضت عليها بعض آيات القرآن تسوّغ الأعمال الحربية العدوانية فهو دليل على الجهل بأن المفسرين التقليديين قد ضيّقوا نطاق تلك الآيات. فمثلا هناك الآية الرابعة من سورة "التوبة" التى أسىء تفسيرها فى عصرنا، ونصها: "فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ". فمن ناحيةٍ نرى المتطرفين يستغلون هذه الآية فى إراقة الدماء البريئة، ومن الناحية الأخرى فإن أعداء الإسلام يستغلونها فى الزعم بأن القرآن إنما هو كتاب عدوانى يحض على شن الحرب دون توقف. لكنْ بالاستناد إلى الروايات التقليدية فإن هذه الآية لا يمكن اتخاذها صَكًّا على بياضٍ لقتال غير المسلمين، إذ لا تَصْدُق فى الواقع إلا على أولئك المشركين الذين ناهضوا المسلمين الأوائل وهددوا وجودهم ذاته تهديدا. وكما قال أحد كبار الفقهاء، وهو أبو بكر بن العربى (من أهل القرنين الحادى عشر والثانى عشر)، فـ"قَوْله تَعَالَى: "فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ" عَامٌّ فِي كُلِّ مُشْرِكٍ، لَكِنَّ السُّنَّةَ خَصَّتْ مِنْهُ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ قَبْلَ هَذَا مِنْ امْرَأَةٍ وَصَبِيٍّ وَرَاهِبٍ وَحُشْوَةٍ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَبَقِيَ تَحْتَ اللَّفْظِ مَنْ كَانَ مُحَارِبًا أَوْ مُسْتَعِدًّا لِلْحِرَابَةِ وَالإِذَايَةِ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالآيَةِ: اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يُحَارِبُونَكُمْ".
ويمكن المضىّ فى الاستشهاد بهذه التفسيرات إلى ما لا نهاية. ومنها يتبين بكل وضوح أن تسوية سوكْدِيو بين "المسلمين المتشددين" و"علماء المسلمين القدامى" الذين يقولون إن الإسلام هو دين السيف" ليست متهافتةً فقط بل تشويهًا مطلقًا للحقائق. وعلى هذا فإما أن سوكْدِيو غير مؤهل لتحليل التراث الإسلامى والمقارنة بينه وبين الانحرافات الحديثة، وإما أنه يحرّف على نحوٍ متعمدٍ تعاليم الإسلام، وهو فى الحالتين يبرهن على أنه غير جدير بالثقة بتةً". هذا، ويجد القارئ الأصل الإنجليزى لذلك المقال كاملا مع ترجمتى له إلى العربية فى كتابى: "مختارات استشراقية إنجليزية عن الإسلام" (ط. المنار للطباعة والنشر/ القاهرة/ 1430هـ- 2009م/ 233- 269).
كذلك لا يكفّ النصارى أبدا عن الكلام فى الجزية وقسوة الجزية حتى ليخيَّل لمن لا يعرف الأمر أن المسلمين كانوا يصادرون أموال الأمم التى يفتحون بلادها مصادرة، مع أن المبلغ الخاص بالجزية لم يكن يزيد على بضعة دنانير فى العام عن الشخص الواحد، فضلا عن أنه لم تكن هناك جزية على الأطفال والنساء والشيوخ والرهبان. وفى المقابل كان غير المسلمين يُعْفَوْن من دفع الزكاة على عكس المسلم، كما كانوا يُعْفَوْن من الاشتراك فى الحرب. وبهذا يكون المسلمون قد سبقوا كالعادة، ودون شقشقة لفظية أيضا، إلى مبدإ الإعفاء من الحرب على أساس مما نسميه الآن: "تحرُّج الضمير"، إذ لمّا كان أهل البلاد المفتوحة غير مسلمين كانت الحرب تمثّل لهم عبئًا نفسيًّا وأخلاقيا أراد الإسلام أن يزيحه عن كاهلهم بطريقة واقعية سمحة. وفضلا عن هذا فإن المسلمين، فى الحالات التى لم يستطيعوا فيها أن يحموا أهل الذمة، كانوا يردون إليهم ما أخذوه منهم من جزية، إذ كانوا ينظرون إليها على أنها ضريبة يدفعها أهل الذمة لقاء قيامهم بالدفاع عنهم.
ومع ذلك كله يُبْدِئون ويُعِيدون فى مسألة الحروب الإسلامية مدَّعين بالباطل أن المسلمين كانوا يقتلون أهل البلاد التى يفتحونها إلا إذا دفعوا الجزية. والملاحظ أنهم يخلطون عن عمد بين القتال والقتل، فالآية التى وردت فيها لفظة "الجزية" تقول: "قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآَخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)" (لاحظ: "قاتلوا" لا "اقتلوا". والفرق واضح لا يحتاج إلى تدخل من جانبى). وقد نزلت فى حق الروم، الذين كانوا يتربصون بدولة الإسلام ويتآمرون عليها ويهددونها بجيوشهم الجرارة. لقد قتل الروم مثلا الرسل والدعاة المسلمين الذين أرسلهم النبي صلي الله عليه وسلم إليهم، وكانوا يُعِدّون العدة لمهاجمة الدولة الإسلامية في عقر دارها، فكان لابد من قتالهم هم ومن يعضدهم من قبائل العرب النصارى المتحالفين معهم. ومعنى الآية أنه ينبغى على المسلمين أن يهبوا لمقاتلة الروم، الذين شرعوا فى ذلك الحين يتجهزون لاجتياح الدولة الإسلامية الوليدة متصورين أنها لقمة سائغة سهلة الهضم لن تأخذ فى أيديهم وقتا، فكان لا بد من قطع هذه اليد النجسة، وإلا ضاع كل شىء. كما كان لا بد أيضا من أخذ الجزية منهم عن يدٍ وهم صاغرون جزاءً وفاقا على بغيهم واستهانتهم بالمسلمين وتخطيطهم لاكتساح دولتهم دون أن يَفْرُط منهم فى حقهم أى ذنب!
وعلى أية حال فإن النصارى مأمورون بحكم دينهم أن يدفعوا "الجزية" (هكذا بالنص) لأية حكومة يعيشون فى ظلها وأن يعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله، حسبما قال لهم المسيح حرفيا (متى/ 22/ 17– 21، و12/ 24– 25، ومرقس/ 12/ 14– 17). كما أن بولس، الذى يخالف فى غير قليل من أحكامه ما قاله نبيُّه، قد كرر هنا نفس ما قاله السيد المسيح فأمرهم بالخضوع لأية حكومة تبسط سلطانها عليهم وألا يحاولوا إثارة الفتن، لأن تسلط هذه الحكومات عليهم إنما هو بقَدَر من الله كما قال لهم، ومن ثم لا ينبغى التمرد على سلطانها، بل عليهم دفع الجزية والجبايات دون أى تذمر: "لِتَخْضَعْ كلُّ نفس للسلاطين العالية، فإنه لا سلطان إلا من الله، والسلاطين الكائنة إنما رتَّبها الله* فمن يقاوم السلطان فإنما يعاند ترتيب الله، والمعاندون يجلبون دينونة على أنفسهم* لأن خوف الرؤساء ليس على العمل الصالح بل على الشرير. أفتبتغى ألا تخاف من السلطان؟ افعل الخير فتكون لديه ممدوحا* لأنه خادمُ الله لك للخير. فأما إن فعلتَ الشر فَخَفْ فإنه لم يتقلد السيف عبثا لأنه خادمُ الله المنتقمُ الذى يُنْفِذ الغضب على من يفعل الشر* فلذلك يلزمكم الخضوع لـه لا من أجل الغضب فقط بل من أجل الضمير أيضا* فإنكم لأجل هذا تُوفُون الجزية أيضا، إذ هم خُدّام الله المواظبون على ذلك بعينه* أدُّوا لكلٍّ حقه: الجزية لمن يريد الجزية، والجباية لمن يريد الجباية، والمهابة لمن لـه المهابة، والكرامة لمن لـه الكرامة" (رسالة القديس بولس إلى أهل رومية/ 13/ 1– 7). وهذا الكلام خاص بخضوع النصارى للحكومات الوثنية، فما بالنا بالحكومات المسلمة المؤمنة الموحِّدة التى لم يسمع أحد أنها فعلت بالنصارى ولا واحدا على الألف مما كانت تلك الحكومات تفعله بهم؟
ولنعد الآن إلى ما كنا بصدده من قسوة النصارى فى معاملتها للأمم الأخرى التى تسلطت عيها. وهنا يثور السؤال التالى: ترى لماذا كان تعامل النصارى بهذه القسوة مع غيرهم رغم الكلام المعسول عن المحبة والتسامح وما إلى ذلك؟ والجواب أوَّلا هو أن هذا الكلام المعسول إنما يخص العلاقات الفردية لا الدولية، فالنصرانية لم يكن لها أية سلطة على عهد السيد المسيح، الذى رأيناه هو وحوارييه، على العكس من ذلك، يحاكَمون على يد أعدائهم وبمقتضى قوانين هؤلاء الأعداء. وحتى على المستوى الفردى قد وجدنا أن مثل هذه المبادئ لا تؤكِّل عيشا. وإلى جانب هذا فالنصرانية ديانة لا تقوم على العقل، بل تطلب من الشخص أن يؤمن دون مناقشة أو تفكير، وعلى ذلك فإنها فى الواقع تفتقر إلى هذا التسامح الذى تدّعيه. ومعروف أنه كلما بالغ الشخص فى الحديث عن مزاياه وأزعج الآخرين بها بداعٍ وبدون داعٍ كان ذلك دليلا على كذبه. ومن ثَمَّ فإنها حين وجدت نفسها ذات سيادة ودولة ورأت أنها لا تملك أية تشريعات تتعلق بالحكم والعلاقات الدولية انكفأت إلى العهد العتيق من الكتاب المقدس تستلهمه المشورة فلم تجد إلا الحروب والتشريعات اليهودية التى تتسم بالقسوة الوحشية المفرطة فى معاملة الأعداء فى الحرب وبعد الحرب على السواء دون التقيد بأية التزامات أخلاقية أو إنسانية.
ولسوف أقتصر هنا على نص واحد من النصوص التى وردت فى العهد العتيق خاصة بالحرب. جاء فى سفر "تثنية الاشتراع": "وإذا تقدَّمْتَ إلى مدينة لتقاتلها فادْعُها أولا إلى السلم* فإذا أجابتك إلى السلم وفتحت لك فجميع الشعب الذين فيها يكونون لك تحت الجزية ويتعبدون لك* وإن لم تسالمك بل حاربتك فحاصَرْتَها* وأسلمها الرب إلهك إلى يدك فاضرب كل ذَكَرٍ بحدّ السيف* وأما النساء والأطفال وذوات الأربع وجميع ما فى المدينة من غنيمة فاغتنمها لنفسك، وكُلْ غنيمةَ أعدائك التى أعطاكها الرب إلهك* هكذا تصنع بجميع المدن البعيدة منك جدا التى ليست من مدن أولئك الأمم هنا* وأما مدن أولئك الأمم التى يعطيها لك الرب إلهك ميراثًا فلا تستَبْقِ منها نسمة* بل أَبْسِلْهم إبسالا..." (20/ 10– 17). هذا مثال من التشريعات التى وجدها النصارى تحت أيديهم فطبقوها بمنتهى الدقة والإخلاص متى واتتهم الظروف كما حدث فى أمريكا وأستراليا مثلا، وكما حدث فى الأندلس عندما سقطت فى أيديهم فنكَّلوا بالمسلمين تنكيلا رهيبا، وكما حدث كذلك فى فلسطين، التى امتلخوها من العرب والمسلمين وأعطَوْها لليهود. وكدَيْدَنِهم عملوا على أن يصبغوا هذه الجريمة بصبغة إنسانية فزعموا أنهم إنما يريدون أن يعوّضوا اليهودَ عما ذاقوه من ويلات. على يد من؟ على يد النصارى أنفسهم، وليس على أيدى العرب والفلسطينيين! لكن متى كان الإجرام والتوحش يبالى بمنطق أو عدل أو أخلاق؟ أما الحرب فى الإسلام فلا تُشَنّ إلا للدفاع عن النفس كما هو معلوم. أما عند هزيمة العدو فإننا نأسره ولا نقتله، ثم بعد انتهاء الأعمال القتالية فإما أطلقنا سراح الأسرى دون مقابل، وإما أخذنا منهم الفدية لقاء تركهم يعودون لذويهم. أما المحو والاستئصال الذى يأمر رب اليهود شعبه به فلا مجال لـه فى الإسلام! وفى النهاية أرجو أن يكون القارئ قد تنبه لحكاية "الجزية" فى النصوص السابقة المأخوذة من الكتاب المقدس بعهديه العتيق والجديد جميعا!
وهم أيضا يُزْرون على تعدد الزوجات! ألا يعرفون أن إبراهيم وموسى وسليمان وداود وغيرهم من أنبياء العهد القديم كانوا من أهل التعديد، بل كان فى حريم بعضهم عشرات النساء؟ ألا يعون أنهم بهذا يلوّثون عيسى نفسه، الذى ينتمى إلى داود وسليمان، وكانا من أهل التعديد كما ذكرنا؟ لقد كان جواز تعدد الزوجات هو تشريع الأنبياء، لكن مؤلف إنجيل متى عزا لعيسى كلاما فهم منه القوم أنه يحرم التعدد، مع أن الكلام لم يكن فى التعدد قط، بل فى الطلاق! يقول متى (19/ 3– 12): "ودنا إليه الفَرِّيسِيُّون ليجربوه قائلين: هل يحلّ للإنسان أن يطلِّق زوجته لأجل كل عِلَّة؟* فأجابهم قائلا: أما قرأتم أن الذى خلق الإنسان فى البدء ذكرًا وأنثى خلقهم وقال:* لذلك يترك الرجل أباه وأمه ويلزم امرأته فيصيران كلاهما جسدا واحدا؟* فليسا هما اثنين بعد، ولكنهما جسدٌ واحد. وما جمعه الله فلا يفرّقه إنسان* فقالوا له: فلماذا أوصى موسى أن تُعْطَى كتابَ طلاق وتُخَلَّى؟* فقال لهم: إن موسى لأجل قساوة قلوبكم أذِن لكم أن تطلّقوا نساءكم، ولم يكن من البدء هكذا* وأنا أقول لكم: من طلَّق امرأته إلا لعلة زنى وأخذ أخرى فقد زنى* فقال له تلاميذه: إن كان هكذا حال الرجل مع امرأته فأجدرُ لـه ألا يتزوج* فقال لهم: ما كل أحد يحتمل هذا الكلام إلا الذين وُهِب لهم* لأن من الخصيان من وُلِدوا كذلك من بطون أمهاتهم، ومنهم من خصاهم الناس، ومنهم من خَصَوْا أنفسهم من أجل ملكوت السماوات. فمن استطاع أن يحتمل فلْيحتمل".
هذا هو نص الكلام الذى ذكروا أن عيسى عليه السلام قد قاله فى تعدد الزوجات وفهموا منه أنه يحرّم هذا النظام الذى أقره الأنبياء جميعا. ومن الواضح أن عيسى عليه السلام (إن كان هو فعلا قائل هذا النص) لم يتطرق لموضوع التعدد من قريب أو بعيد، إذ كان الكلام كله عن الطلاق. وإذا كان قد عرَّج على سبيل الاستطراد إلى موضوع الإضراب عن الزواج، فهذا أيضا لا علاقة لـه بالتعدد من قريب أو بعيد. أما قوله: "ذكرًا وأنثى خلقهم" فلا أدرى كيف يمكن أن يؤدى إلى إلغاء التعديد، إلا إذا كان الله سبحانه وتعالى قد خلق لكل رجلٍ زوجةً باسمه لا يتزوجها إلا هو، ولا تموت قبله أو يموت هو قبلها، وإلا إذا كان عدد الرجال فى كل المجتمعات مساويا تماما لعدد النساء فى كل العصور، وهذا عكس المشاهد للأسف فى هذه الدنيا الغريبة التى يريد بعض المتهوسين أن يصبّوها فى قوالب من حديد كما كان يفعل أهل الصين مع أقدام بناتهم الصغيرات قديما حتى لا تكبر بل تظل دقيقةً مُسَمْسَمَة، إذ إن النسبة المئوية لعدد من فى سن الزواج فى المجتمعات كلها تميل دائما لصالح المرأة كما تقول الإحصاءات السكانية. ولا ننس بالذات الحروب، التى يروح فيها من أرواح الرجال أكثر مما يذهب من أرواح النساء.
ثم جاء بولس، الذى قلب كيان النصرانية رأسًا على عقب، فقال فى رسالته الأولى إلى أهل كورِنْتُس (7/ 1– 2): "أما من جهة ما كتبتم به إلىَّ فحسَنٌ للرجل ألا يَمَسّ امرأة* ولكن لسبب الزنى فلتكن لكل واحدٍ امرأته، وليكن لكل واحدةٍ رجلها "، وإن فُهِمَ من حديثٍ آخَرَ لـه أن هذا الحظر إنما هو خاصّ بالشمامسة (تيموتاوس/ 1/ 12). وهذا كلام يدل أقوى دلالة على أن هذا الرجل لم يكن يتمتع بأى فهم للطبيعة البشرية: فالإنسان لا يتزوج فقط من أجل ألا يقع فى الزنى، بل لأن الحياة لا يمكن أن تستمر إلا عن طريق لقاء الذكر والأنثى، كما أن الحب وممارسة الجنس يشكلان متعةً من أحلى متع الحياة الإنسانية وأعمقها، متعةً ينبغى على المؤمن أن يشكر المولى عليها لا أن ينظر إليها على أنها بلوى أقصى ما يمكنه تجاهها هو الصبر عليها فى مضض وتأفف. ولو أن نصائح بولس قد أُخِذ بها لكان فيها نهاية الحياة! إن هذه النصائح المتطرفة إنما تنبع فى الحقيقة من النظرة الدونيّة التى تنظر بها النصرانية إلى المرأة والجسد الإنسانى، وهذه النظرة قد ورثتها الكنيسة من العهد العتيق وما يقوله عن قصة الخلق وخروج آدم من الجنة بسبب إغراء حواء لـه بعصيان النهى الإلهى عن الأكل من الشجرة واستحقاق المرأة من ثَمّ ابتلاء الله لها بعبء الحمل والولادة وإيقاع العداوة بينها وبين الرجل (تكوين/ 3/ 6– 24)، وهو ما يختلف فيه الإسلام عن النصرانية اختلافًا جِذْرِيًّا، إذ عندنا أن الذنب الذى أخرج أبوينا من الجنة هو ذنبهما جميعا لا ذنب حواء فقط، كما أن العلاقة بين الرجل والمرأة هى علاقة السكن والمودة والرحمة كما يقول القرآن المجيد (الروم/ 21) لا علاقة العداوة والبغضاء.
ولقد كانت النتيجة، وهنا وجه المفارقة، هو هذا السعار الجنسى الذى اشتهرت به أمم الغرب بعد أن لم تعد تطيق قيود النصرانية التى تعمل على وَأْد التطلعات والغرائز البشرية. ذلك أن غرائز البشر وتطلعاتهم لا يمكن تجاهلها، فضلا عن قهرها أو إلغائها كما يحاول الأغبياء. لكن من الممكن، ومن المطلوب أيضا، ترويضها والسمو بها إلى أقصى قدر ممكن، وهذا ما يفعله الإسلام. ولقد كان رجال الدين النصارى على رأس المنفلتين من هذه القيود الخانقة، وفضائحهم معروفة للقاصى والدانى فى كل العصور. وهذا أحد الأسباب التى جعلت الأوربيين يكرهونهم ويرَوْن فيهم مثالا للنفاق البغيض! وما فضائح باباوات روما فى العصور الوسطى واصطحاب بعضهم لعشيقاتهم معهم فى جولاتهم فى أرجاء أوربا لمباركة جموع المؤمنين، ولا الصلات الجنسية الحرام التى كانت بين بعض آخر منهم وبين أخواتهم بمجهولةٍ لمن عنده أدنى فكرة عن أحوال رجال الدين هناك قبل عصر النهضة الذى تخلص فيه الأوربيون من قيود النصرانية المُعْنِتَة.
وحتى فى موضوع الطلاق لا يعدو الكلام أن يكون عبارات شاعرية ساذجة لا دلالة لها على شىء فى الواقع والحقيقة، إذ ما معنى أن ما جمعه الله لا يفرّقه إنسان؟ إن الزواج إنما هو اختيار إنسانى قام أيضا بتوثيقه كائن إنسانى، فشأنه إذن كشأن أى شىء آخر من شؤون الحياة. فلماذا أُفْرِد وحده بهذا الوضع دون سائر الأمور الإنسانية؟ أما إن قيل إن الله هو فى الحقيقة خالق كل شىء، فإن الرد هو أنه لا مُشَاحّة فى هذا، لكننا ضد إفراد الزواج بذلك الحكم، ونرى أن هذا الوضع ينطبق أيضا على عملية الطلاق، مَثَله مثَل أى شىء آخر. ثم ما الحكمة فى أن يُعْنِت الله سبحانه وتعالى عبادَه فلا يرضى أن يرحمهم من قيود الزواج إذا ثبت أنه لا أمل فى أن يجلب لطرفيه السعادة؟ إن كثيرا من البلاد النصرانية قد انتهت إلى أنْ تضرب بهذه الأحكام عُرْض الحائط، إذ وجدت أنها لا تؤدى إلا إلى التعاسة والشقاء. وفى بعض البلاد يُقْدِم الزوج أو الزوجة فى حالات كثيرة إلى ترك النصرانية جملةً والدخول فى الإسلام، الذى يجدانه أوفق للطبيعة الإنسانية. فإلى متى هذا الخنوع لبعض الألفاظ الشاعرية التى قد تدغدغ العواطف فى مجال التفاخر الكاذب بمثالية أخلاق دينٍ ما، لكنها لا تجلب للمتمسكين بها إلا العَنَت والإحباط؟
إن كثيرا من الأزواج فى المجتمعات النصرانية هم فى الواقع مطلَّقون، لكنْ طلاقًا غير رسمى، وهم يسمونه: "انفصالا". وفى هذه الأثناء التى قد تطول سنين، كثيرا ما يصعب على الزوج والزوجة، تحت ضغط الغرائز، أن يمتنعا عن ممارسة الجنس فى الحرام، فلماذا كل هذا الإعنات؟ وحَتَّامَ يستمر هذا العناد والنفاق؟ إن الطلاق شديد البغض إلى الله كما قال صادقا سيدنا رسول الله، لكن الظروف قد تضطر الواحد منا إلى فعل ما هو بغيض تجنبا لما هو أفدح وأنكى. ومن هنا كان الطلاق عندنا حلالا رغم كونه بغيضا، أى أن المسلم لا يُقْدِم عليه إلا إذا سُدَّت فى وجهه جميع السبل الأخرى حسبما يعرف كل من له أدنى إلمام بالشريعة الإسلامية.
* * *
والآن إلى محمد رحومة، عميد كلية الدراسات العربية بالمنيا سابقا، أو "البلبوص رقم 2" على ما سوف يتضح للقارئ بعد قليل. وبالمناسبة فقد قرأت تعليقا بتاريخ 26/ 8/ 2009م على مقال محمود سلطان: "مصطفى الفقي والضمير الوطني!" بجريدة "المصريون" الضوئية بعنوان "الدكتور محمد رحومة لم يكن أستاذا ولم يكن عميدا" يؤكد أن رحومة لم يكن عميدا بل لم يكن أستاذا أصلا، بل أستاذا مساعدا ليس إلا، ولم يتول من المناصب الإدارية فى كلية الدراسات العربية بجامعة المنيا إلا الوكالة فحسب. كتب هذا أحد أساتذة الكلية نفسها، وهو د. محمود مسعود، الذى أرفق بتعليقه رقم هاتفه المحمول. وهذا نص التعليق: "الإخوة الأعزاء في جريدة" المصريين"، الدكتور محمد رحومة لم يكن أستاذا ولم يكن عميدا لدار العلوم الحالية (الدراسات العربية سابقا). إنما كان أستاذا مساعدا للنقد الأدبي وقائما بأعمال وكيل تلك الكلية مدة قصيرة، ورئيس مركز سوزان مبارك للفنون والآداب بجامعة المنيا. أخوكم د.محمود مسعود عضو هيئة التدريس بقسم الفلسفة الإسلامية بكلية دار العلوم- جامعة المنيا. تلفون 0112533587".
وقد تصادف أن قرأتُ صبيحة اليوم (الأحد 23/ 8/ 2009م) بصحيفة "الرؤية" بتاريخ السبت 25/ 10/ 2008م فى نسختها المشباكية تحقيقا لأحمد يوسف عن "الانتقام الألكترونى" جاء فيه قوله: "ويحلل الدكتور مصري حنورة، أستاذ ورئيس قسم علم النفس بجامعة الكويت سابقا، ظاهرة الانتقام عبر الشبكة قائلا: ما المانع من الانتقام الإلكتروني طالما أن مواقع الانترنت أصبحت غير خاضعة للسيطرة؟ هذا وباء وطاعون غير قابل للسيطرة عليه، وبدأ مع بث رسائل "القاعدة" للانتقام من العالم. ويضيف الدكتور حنورة أن الانتقام الإلكتروني أضحى في أشكال استفزازية تمس بالثوابت، موضحا ذلك بقوله: لابد من ذكر قصة شهيرة تواترت منذ أقل من شهر بقيام شخص يدعى محمد رحومة، وهو أستاذ سابق في الفقه الإسلامي بكلية الدراسات الإسلامية بالمنيا، ببث موقع إنترنت من أميركا يسب الإسلام والمسلمين ويتطاول على الرسول صلى الله عليه وسلم. وجاء هذا الموقف بعد اتهامه بالاختلاس وفصله من عمله، فتنصر وهاجر لأميركا وانتقم من طرده من كليته بمحاولة خدش دينه، ولكن زوجته (التى فسخ عقدها شرعا) ردت عليه عبر الإنترنت لتوضح للعالم طبائعه: اختلاس، سرقة، زنى". وهذا هو رابط التحقيق المذكور: (http://www.arrouiah.com/files/1224872140546814500.pdf)
أما مواقع الأقباط المهجريين فتتحدث عن زوجة أمريكية دخلت الإسلام عن طريق الخداع، ثم تبين لها أنه دين ضلال فارتدت هى وأولادها مع الزوج. إلا أن مقالا منشورا فى مجلة "أقلام الثقافية" الضوئية بتارخ 26/ 8/ 2009م يؤكد أن هذا كلام مُفَبْرَك، إذ نقرأ فيه تحت عنوان "وكسب النصارى مزورا مختلسا إلى دينهم" ما نَصُّه: "وتَكْذِب مواقع النصارى أيضا فيما يتعلق بزوجته، والتى كانت أصلا مسيحية أمريكية، بادعاء مفضوح بأنها عادت إلى دينها الأول، وهو الذى لم يحدث مطلقا".
ثم صادفتُ أيضا بعد ذلك بيوم تعليقا فى عدد السبت 22 أغسطس 2009م من جريدة "اليوم السابع" على مقال لجمال جرجس المزاحم عنوانه: "رحومة مؤسسها، ونجلاء الإمام رئيسة فرع مصر: "حرَّرَنى يسوع" أول مؤسسة تنصير "علنية" فى مصر"، وهو التعليق رقم 18، وكاتبه "واحد من الناس"، ونصه: "الأخ محمد رحومة ده كان مدرس لغة عربية، وكان بني ادم متسلق وبيلعب على كل الاجنحة. الباشا عمل دراسات عليا وبعدين راح اشتغل في كلية الدراسات العربية في جامعة المنيا، وتقريبا وصل لمنصب وكيل الكلية لأنهم عددهم قليل. الأخ رحومة مسك مركز سوزان مبارك للفنون والآداب، وبعدين قام بتبديد ميزانية المركز، وبعدين اتهم بالاختلاس. اتعملت له قضية كبيرة وهرب على أمريكا قبل ما ياخد حكم". كذلك نبّأنى أحد الأساتذة الجامعيين الكبار المتخصصين فى ميدان الأدب والنقد أنه سمع برحومة قبل إعلانه التنصر، وباستيلائه على مبلغ كبير من المال وهروبه إلى أمريكا. ولم يكن صديقى، حسبما أخبرنى، يتصور وقتها أن اللص سوف يعالج مسألة الاختلاس بالارتداد عن الإسلام.
وقد استمعت، بعد هذا بعدة ساعات فى أحد المواقع القبطية المهجرية، إلى تسجيل صوتى (لا صورة فيه) لمحمد رحومة أو لمن يُفْتَرَض أنه محمد رحومة (ذلك أنه لا توجد صورة كما قلت)، وكان يتكلم بالعامية، وكان الصوت متلجلجا عاليا شديد الانفعال. ولفت نظرى تأكيده أنه ليس له فضل فى التنصر، فهو لم يختر المسيح بإرادته، بل المسيح هو الذى اختاره. ثم تحدث عن رؤيا سمع فيها صوتا قويا يدعوه إلى القيام والتبشير، وما أكثر الرُّؤَى فى حياته وفى حياة أمثاله من المرتدين عن الإسلام! ومعنى هذا أنه لم يستخدم عقله فى التحول من دين التوحيد إلى دين التثليث، وهذا أمر طبيعى جدا، إذ الإيمان عند النصارى لا صلة بينه وبين العقل. وقد نقلت كلامه هو، ولم آت بشىء من عندى. كما تكلم عن المرشدين الروحيين له فى دينه الجديد، وكأنه رجل عامى يحتاج إلى من يوجهه ويرشده، وليس أستاذا جامعيا. بل لقد ذكر فى هذا السياق أحدَ الفراشين فى الكنيسة بجلباب وشبشب بوصفه واحدا من أولئك المرشدين الروحيين الذين استفاد منهم، مما يدل على مدى التدهور النفسى والفكرى والعقيدى الذى تدهوره الرجل. وفى هذا السياق أعلن مدحه وتمجيده للمجرم زكريا بطرس قائلا إن الله قد أرسله لِدَكّ معاقل الكفر والطغيان. كذلك يقر بأنه، فى حياته الإسلامية، لم يكن متدينا فى يوم من الأيام، بالإضافة إلى ارتكابه الزنا الذى يستظرف كأى حشاش مسطول فيقول إنه كان يتبع فيه قوله تعالى: "وما ملكت أيمانكم"، فى الوقت الذى يزعم أنه كان كثير الصلاة وقراءة القرآن أيضا! وقد تطرق إلى واقعةٍ اتُّهِم فيها بالاعتداء على عِرْض فتاة منقبة، وهو ما يذكرنا بما قاله عنه الدكتور مصرى حنورة فى هذا الصدد.
ومما أقر به أيضا أنه كان يمنع الطالبات المنقبات من دخول الكلية خوفا أن تكون الواحدة منهن شابا إرهابيا يحمل متفجرات فى ثيابه كما يقول. ويقول عن السعوديين، الذين اشتغل فى بلادهم فترة، إن الغالبية العظمى منهم يكرهون أنفسهم كراهية بشعة، وإنهم شر ناس على وجه الأرض، داعيا لهم أن يهديهم الله إلى النصرانية. بل نسب إلى أحد الأمراء أو الشيوخ السعوديين قوله له على سبيل الإنكار والاستنكار إن ماء زمزم هو ماء مجارٍ، فكيف يغتسل به أو يشربه؟ وهو فى ذلك كذاب أشر، إذ إن هذا الكلام لا يمكن أن يقوله إنسان، فضلا عن أين يكون هذا الإنسان سعوديا يعرف أن ماء زمزم هو ماء طاهر نظيف لطيف المذاق لا علاقة له بماء المجارى بتاتا، ذلك الماء الذى يشرب منه عقل رحومة وأشباهه المعاتيه ممن يتخذون من فراشى الكنائس مرشدين روحيين لهم، فضلا عن أن يكون هذا القائل أميرا أو شيخا سعوديا. فرحومة يكذب هنا كذبا رخيصا. والعجيب أنه، فى مقالاته النقدية التى تعرض فيها لكتابات السعوديين حين كان معارا إلى السعودية، كان يقول عن هؤلاء الناس غير ذلك.
ومن ضلاله وعمى قلبه وضميره أنه يتخذ جانب الأمريكان ضد المسلمين. كيف لا، والكذاب القرارىّ يقول إنه قد رآهم وسمعهم، وهو فى أمريكا، يدعون عقب تفجير البرجين فى الحادى والعشرين من سبتمبر 2001م لأسامة بن لادن، وقد ملأ قلوبهم شعور المحبة للرجل الذى هدم برجيهم وقتل منهم عدة آلاف (يا سلام على هذه الحنية الأمريكية الملائكية التى لم يذكرها أحد قط سوى هذا الكذاب المنافق)، فى الوقت الذى كان المسلمون يدعون على الأمريكان أن يشتت الله شملهم وييتم أطفالهم؟ وهذا الكلام لا يصدر إلا عن شيطان لئيم. ترى هل عرف ذلك الخبيث على سبيل اليقين أن ابن لادن أو أى مسلم آخر هو الذى دمر البرجين؟ إن هناك لغطا كثيرا وكثيفا حتى بين الأمريكان أنفسهم يقول إن بوش وعصابته هم الذين تَوَلَّوْا كِبْر هذه المؤامرة حتى يتخذوها ذريعة للهجوم الشامل على العالم الإسلامى. ثم فلنفترض أن المسلمين هم الذين فعلوها، فماذا تكون تلك الفعلة إزاء الجرائم الوحشية المتلتلة التى اجترحها وما زال يجترحها الأمريكان فى حق العرب والمسلمين؟
نعم ماذا تكون لقاء اغتصاب فلسطين وإعطائها لليهود أيها الوغد؟ نعم ماذا تكون فى مقابل مئات الآلاف الذين قتلهم الأمريكان بالنووى وبالحصار والتجويع فى العراق، فضلا عن تدميرهم لذلك البلد وإعادته مئات السنين إلى الوراء؟ نعم ماذا تكون تلك الفعلة بالنسبة إلى الاستنزاف الاقتصادى الذى تقوم به أمريكا لبلاد العروبة والإسلام؟ نعم ماذا تكون تلك الفعلة مقارنة بانحياز أمريكا ضد مصالح الشعوب العربية والإسلامية، ووقوفها إلى جانب حكامها الجهلة المتخلفين الساديين الفاشلين الذين لا يعرفون سوى لغة السرقة والسجن والقتل والتنكيل بها؟ أوتدرى أيها القارئ لم تفعل أمريكا ذلك؟ إنها تفعله تمهيدا للمجىء الثانى للمسيح واستعجالا له. أى أن المسيح، الذين يصدعون لنا أدمغتنا بأنه هو ودينه رمز السلام والمحبة لا يمكن أن يهل على العالم من جديد إلا إذا دمَّروا المسلمون تدميرا لا يُبْقِى منهم دَيَّارًا. لعنة الله عليكَ وعلى أمريكا فى يوم واحد أيها الخنزير!
لكننى أعود وأقول إن شعوبنا تستحق ذلك وأكثر. ذلك أنها شعوب بليدة عاجزة ذليلة تستعذب ضرب الحذاء على وجهها وتستزيده، ولا تفكر ولو مرة واحدة فى الثورة لكرامتها وحقوقها، على حين لا يتردد أى فرد فيها أن يقتل أخاه المواطن من أجل رغيف عيش بشلن حقير مثله. إنها أمة تافهة سخيفة لم تر الدنيا لها، فى هذا الطور الحالى من أطوار تاريخها، مثيلا فى ذلتها ورضاها بالهوان وتراميها على حذاء مهينيها ومعذبيها فى الداخل والخارج تلعقه وتتبرك به. صحيح أن حكامها بوجه عام هم أغبى وأضل وأفشل حكام على وجه البسيطة، لكنها هى أيضا أغبى وأضل وأفشل وأذل شعوب على وجه البسيطة. وكما تكونوا يُوَلَّ عليكم، ولا عزاء للخانعين الجبناء! وما محمد رحومة ونجلاء الإمام وأشباههما إلا البثور التى تظهر على جسدها العليل. ولو كانت أمة قويّة عفيّة ما كان لهذه البثور القبيحة النتنة أن تظهر على جسدها!
وهنا ينبغى أن نشير إلى ما قاله هذا البلبوص الحقير فى حق الطلاب الذين كان يتعامل معهم يوم كان عميدا أو وكيلا للدراسات العربية فى المنيا، إذ ذكر أنه بوغت بأخلاقهم البشعة رغم أنه كان يعاملهم بوصفه أبا روحيا لهم، فقد وجدهم سيئى الأخلاق والتصرفات إلى حد شنيع، وهو ما أصابه بالصدمة وجعله ينفر من الإسلام والمسلمين. والحق أن هذا كلامُ أفاقٍ خسيسٍ، إذ يريد الوغد أن يُفْهِمنا أنه كان يعيش قبل ذلك فى قمقمٍ عيشة الملائكة الأطهار، فهو رجل لا يقارف الرذيلة ولا يعرف شيئا عن طبائع الناس من حوله، وهو الزناوى الخلبوص حسب اعترافه هو، والجاهز لأداء ما يريده المسؤولون منه مهما تكن قذارة ما يُرَاد ودَنَسُه، وإلا فلم اختاروه دون سائر الأساتيذ فى كليته ليكون عميدا أو وكيلا، ثم اختير مرة أخرى ليكون مشرفا على مركز سوزان مبارك رغم أنه كان من أصغر الأساتذة سنا حسبما قال هو نفسه، إن لم يكن أصغرهم بإطلاق؟ ثم هل يجوز أن نصدق كلام ذلك الزانى النصاب سارق مئات الآلاف من الجنيهات؟ وعلى أية حال ما دخل ذلك بنفوره من الإسلام؟ إن الإسلام ليَدِينُ المنتسبين إليه قبل غيره. وإننى لأكرر دائما أنه لو بُعِث النبى محمد صلى الله عليه وسلم فى أمة المسلمين الآن فلن يسلم من أذى الكثيرين منهم، إذ سوف يجد أشياء كثيرة تسير على عكس ما كان يقول، وعبثا سوف يحاول ردهم إلى السبيل المستقيمة. ذلك أن صلابة أمخاخهم وسخافة عقولهم وحبهم لما مردوا عليه من هوان وذل وقلة أدب وكراهيتهم للعمل والإتقان والإبداع والنظافة والجمال والاستقلال بالرأى سوف تدفعهم إلى مخالفته والسخرية منه، فإن لم يَرْعَوِ فربما تتحرج الأمور ويتآمرون عليه تآمرا من العيار الثقيل. ولسوف تدخل القوى الكبرى على الخط وتعمل بمعاونة الحكام المحليين على وضع العراقيل فى طريقه صلى الله عليه وسلم، بل على ما هو أفظع من ذلك.
ولو كان بلبوصنا رقم 2 يتمتع بشىء من العقل لعرف أن تخلف الشعوب العربية والإسلامية، بما فيها الشعب المصرى، إنما سببه إهمالهم لمبادئ دينهم رغم تمسكهم بالشكليات وغرامهم بها غراما قاتلا مما لا ينفع شَرْوَى نَقِيرٍ فى مضمار الحضارة والتقدم ما داموا قد تركوا العلم والعمل والإتقان وأَضْحَوْا نافدى الصبر لا طاقة لهم على أى عمل كريم يحتاج إلى تعب وطول نفس، وانحطت أذواقهم فلا يضيقون بقبح أو تشويه، ولعرف كذلك أن ما يشاهده فى أمريكا، التى كثرت أسفاره إليها منذ وقت بعيد، من نظافة ونظام وجمال وإقبال على العمل والإبداع واقتحام لمصاعب الحياة وطموحٍ إلى المعالى والسيادة وشَرَهٍ إلى شهوات الدنيا: الطيب منها والخبيث على السواء، إنما يرجع إلى ترك الأمريكان النصرانية ومبادئها، تلك المبادئ التى توجب على من يتبعها أن يزهد فى الدنيا والمال والنساء والطعام والشراب والسيادة، وأن ينزوى بعيدا عن تيارات الحياة. ذلك أن مملكة المسيح، الذى يقول البلبوص رقم 2 إنه يؤمن به ربًّا، ليست من هذا العالم، وأن الغَنِىّ لا يمكنه، طبقا لما فى الأناجيل، أن يدخل ملكوت السماوات إلا إن استطاع الجمل أن يمر من سَمّ الخِيَاط، أى من ثَقْب الإبرة، وهذا هو المستحيل بعينه، وأنه أحرى بالشخص أن يفقأ عينيه بدلا من أن ينظر إلى امرأة... إلى آخر ما نعرف جميعا عن النصرانية.
والطريف أن كل ما يباهينا به البلبوص رقم 2 مما يراه فى أمريكا موجود فى ديننا: فالنظافة عندنا من الإيمان، وإماطة الأذى عن الطريق صدقة، والله جميل يحب الجمال، والساعى على رزقه أفضل ألف مرة ممن يظل يعبد الله طول اليوم منتظرا أن يقوم بحاجته غيره، والإيمان دون عمل لا يصح ولا يُقْبَل، وإن الله يحب إذاعمل أحدنا عملا أن يتقنه، والله فى عون العبد ما كان العبد فى عون أخيه، ولا يجوز إكراه المرأة، ثيبا كانت أو بكرا، على الاقتران بمن لا تحب تحت أى ظرف من الظروف، وطلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة من المهد إلى اللحد، وفضل العالم على العابد كفضل البدر على سائر الكواكب، ولا يمكن أن يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون، وإنما أهلك الأمم من قبلنا أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد... إلى آخره إن كان لذلك من آخر.
وإنى لأتحداه هو أوغيره أن يأتى من الأناجيل بأى شىء يشبه هذه الدرر الحضارية النفيسة. فالحق أنه ليس فى الأناجيل إلا موعظة الجبل التى تنادى أنْ أحبوا اعداءكم، باركوا لاعنيكم، إذا ضربك أحد على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر، مما لا يطبقه ولا يمكن أن يطبقه أى نصرانى أو غير نصرانى لتعارضه التام مع الطبيعة البشرية ومقتضيات الحضارة. أما النظافة والعمل مثلا فالأناجيل تصور السيد المسيح عليه السلام كارها لهما لا يطيقهما. لقد رأى عليه السلام اليهود يهتمون بغسل أيديهم قبل الطعام فعاب عليهم ذلك وعده نفاقا. كما أنه طلب من حوارييه أن يتركوا عملهم ويتبعوه حيث يمضى. أما من أين يأكلون فالحقول مفتوحة لهم يغيرون عليها متى جاعوا كالجراد المجتاح، أو ينتظرون أكلة فى هذا البيت أو ذاك. وهذا ما تقوله الأناجيل لا أنا. أما العلم فانْسَ هذا الموضوع واطرحه من ذهنك تَفُزْ وتَسْلَمْ. وبالنسبة إلى موضوع الأمراض والعلاج والتداوى فكل ما قدمه المسيح هو أنه ساعد بعض المرضى على الشفاء. ونحن لا ننكر أن هذه معجزة، لكن السؤال من الناحية الحضارية لا الاعتقادية هو: ولكن ماذا بعد مغادرة عيسى عليه السلام للدنيا؟ من سيشفى المرضى يا ترى؟ وهذا لو كان عيسى، أثناء وجوده على الأرض، يشفى كل الناس من كل الأمراض، وهو ما لم يحدث. أما النبى الأعظم فقد وضع القاعدة الذهبية، وهى أن لكل داء دواء، وحث الناس أن يبحثوا عن العلاج ويتحرَّوُا الدواء اللازم للتعافى من المرض. وهذا هو دور المصلح الذى يستمر مفعول توجيهه العلمى والأخلاقى والحضارى إلى أبد الآبدين.
ومعلوم أن النصارى فى أوربا لم يعرفوا التحضر إلا يوم تركوا النصرانية (المحرفة طبعا) وثاروا عليها وعلى كُبُولها التى كانت تقيدهم وتتعس حياتهم أيام كانوا أقذارا جهالا كسالى مرضى تعشش فى رؤوسهم الخرافات، وتمتلئ بيوتهم وشوراعهم بالقاذورات، ولا يستحمون إلا من العام للعام إن استحموا، ويئنون تحت وطأة رجال الكنيسة والملوك على السواء ولا يَرَوْن فى الآفاق بريق أمل. ولهذا حين ثار الفرنسيون مثلا على هذه الأوضاع الكريهة المستبشعة كان شعارهم: اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس! ولولا احتكاك النصارى بالمسلمين فلربما كانوا لا يزالون فى غطيطهم الثقيل، ذلك الاحتكاك الذى أطلعهم على لون من الحياة يختلف تماما عما كانوا يعيشونه من حياة آسنة منتنة. إلا أن المشكلة هى فى أن المسلمين كانوا فى ذلك الوقت قد بدأوا ينحدرون على السفح مبتعدين عن قمة الإسلام الشماء وظلوا فى انحدارهم مستمرين حتى وصلوا إلى ما هم فيه الآن، على حين تقدمت أوربا وظلت تتقدم، ونحن محلك سر.
أما بلبوصنا رقم 2 فقد ضرب الجهلُ والنفاقُ على عقله فهو يردد كلام المتخلفين ثم يظن أنه يحسن صنعا! والداهية الكبرى أن أستاذ جامعيا ينخبل فى عقله فيترك الوحدانية ويذهب إلى الاعتقاد، صدقا كان هذا الاعتقاد كما يزعم، أو كذبا ونفاقا فى الحقيقة، بأن الله قد ترك ألوهيته ونزل ليموت على الصليب وعرَّض نفسه للمهانة والشتائم والضرب على يد الأوباش من مخلوقاته، لا لشىء إلا ليسامح هؤلاء الأوباشَ أنفسهم على ما اجترحته أيديهم! خيبة الله عليك أيها البلبوص!
وهو يكرر ما قاله سيد القمنى (البلبوص رقم 1) فى تهديداته للمسؤولين فى مصر، قائلا إنه إذا تعرض له أحد فلسوف يصنع مثل القمنى، أى سيخلع هو أيضا "بلبوصا" (بنص الكلمة التى استخدمها بلبوصنا الجديد). ومما قاله أيضا أن السيدة حرم الرئيس هى التى عينته مديرا لمركز سوزان مبارك للفنون والآداب بجامعة المنيا لكى يحاربَ الإرهاب ويُرَقِّىَ الشباب بتعليمهم الفنون. وهو يتهور هنا داعيا لها بكل وقاحة وغباء أن يهديها الله إلى النصرانية، قائلا إنها "ست عظيمة"، وخسارة أن تبقى على ما هى عليه. وهذا كلام يتسم بالغشم وعدم التبصر، وبخاصة إذا سمعناه يقول إنه قد تولى عمادة (أم وكالة؟) كلية الدراسات العربية بالمنيا فى سن صغيرة نسبيا، وهو ما يعنى أن هناك من كان يدفعه إلى مناصب الصدارة والتأثير، إذ المعروف أن المناصب الجامعية لا تذهب إلى من يشغلونها بالانتخاب ولا اعتمادا على رضا الأساتيذ، بل على الاختيار من فوق! فكيف اختير مثله لمثل ذلك المنصب؟ كذلك يتحدث عن الله قائلا إنه كان يسأله دائما عن السر وراء أسفاره المتعددة والمتباعدة بحثا عن الهداية: ما الحكاية بالضبط؟ هل تضحك علىّ يا رب؟ ألم تقل لى: تعال إلى أمريكا، وأنا أهديك؟ فهأنذا قد أتيت إلى أمريكا، فلماذا لم تهدنى؟ وبدلا من ذلك تأخذنى هنا وهناك ثم لا أجد فى النهاية شيئا؟ (ألم تجد إلا أمريكا تبحث عن الهداية فيها يا كذاب، يا مفترى؟). ثم يصف البكاش صوتا لقسيس مصرى سمعه على الهاتف فى أمريكا، التى سافر إليها بحثا عن المسيح هناك (يا كبدى عليك!)، بأنه قد شعر أن هذا الصوت ليس صوت قسيس، بل هو صوت الله نفسه بحنانه واهتمامه به! وهنا آمن بالمسيح، الذى قُتِل من أجله وأصابه رشاش دمه كما يقول، وأخذه فى حضنه وجرى كثيرا حتى وصل إلى البيت ونام معه بعدما تغطى بالملاءة رغم حرارة الجو آنذاك، وإن فاته أن يقول لنا ماذا كان يصنع تحت الملاءة. كما يؤكد أنه سوف يأتى اليوم الذى يقوم فيه هو ونجلاء الإمام، مَثَله الأعلى، بتعميد المصريين فى نهر النيل ذاته. إن شاء الله سوف يعمّدهم بماء المجارى! وللعجب العاجب نرى هذا الذى يعلن فى كل مكان أنه يخطط لتنصير الملايين من المصريين يتباكى فى هذا الشريط تباكِىَ الثعالب قائلا إنه لا يريد من الآخرين شيئا سوى أن يتركوه يعيش مع الدين الذى أحب واختار، فهو لا يريد تنصير أحد. وهذا دليل على كذبه وخداعه ونفاقه وعلى أن دموعه التى يذرفها إنما هى دموع التماسيح. الحق أن من يستمع إلى الرجل فى هذا التسجيل ويرى توتر صوته وتشوش فكره واضطراب كلامه وشدة انفعاله وحَزْقه العنيف وإعلانه المستمر دون أدنى داع، ككل من على رأسه بطحة، أنه لم يذهب إلى أمريكا من أجل الدولارات، يتبين له على الفور أنه ليس فى حالة فكرية أو نفسية سليمة!
وبعد، فقد كنت قد انتهيت من هذا المقال تماما يوم الاثنين 24 أغسطس 2009م، ومع هذا كنت أحس أننى سوف أقع على أشياء أعضد بها ما جاء فيه عن هذا الوغد. ولذلك لم أبادر إلى نشره، بل أخذت أسأل هنا وهناك عن شىء جديد عنه، لكن دون أن أقع على ما يشفى فضولى العلمى... إلى أن اتصل بى الآن (الساعة الواحدة صباح الأربعاء 26 أغسطس) أحد الأصدقاء لافتا نظرى إلى ما نشرته جريدة "المصريون" الضوئية فى صدر عددها لذلك اليوم عن البلبوص رقم2. فإلى القارئ ما نشرته تلك الصحيفة عن بلبوصنا الجديد: "كشفت مصادر لصيقة بأسرة المتنصر محمد رحومة العميد السابق لكلية الدراسات العربية – جامعة المنيا أبعادا خطيرة عن عملية تحوله من الإسلام إلى المسيحية في الولايات المتحدة الأمريكية فرارا من حكم قضائي أدانه بالسرقة والاختلاس والتزوير من جامعة المنيا. وكان رحومة، الذي يحيط نفسه بهالة مزعومة عن صلته بدوائر رسمية عليا نافذة، وصلته بحرم رئيس الجمهورية حيث كان يشغل منصب المدير السابق لمركز سوزان مبارك للفنون والآداب بجامعة المنيا، حيث استغل تلك الهالة في ممارسة عمليات فساد واسعة كان أهمها ما يتعلق بالحفل الذي نظمه في جامعة المنيا لصالح ضحايا الأورام، حيث شارك فيه العديد من الفنانين المعروفين بشكل تطوعي إسهاما منهم في دعم المشروع الخيري، خاصة وأنه كان ينتسب إلى رعاية ودعم السيدة سوزان مبارك، غير أن رحومة قام بتزوير إيصالات وشيكات تفيد أنه دفع لهؤلاء الفنانين حقوقا عن مشاركتهم في الحفل الخيري وصلت إلى مئات الآلاف من الجنيهات قام باختلاسها وتحويلها إلى حساباته البنكية. وكاد الأمر يمر لولا أن شخصية بالجامعة على صلة بأحد الفنانين المشاركين اطلع على إيصال من هذه الإيصالات فعاتب الفنان على ذلك بوصف العمل تطوعيا ولا يليق أن يتقاضى عليه مثل هذا الأجر الباهظ، فنفى الفنان المشار إليه صحة الإيصال وتقدم بشكوى إلى إدارة الجامعة يتهم فيه منظم الحفل بالتزوير. فقامت الجامعة بفتح تحقيق في الموضوع انتهى إلى إحالة الملف كله إلى النيابة العامة التي أثبتت تحقيقاتها عملية تزوير واسعة في واقعة حفل ضحايا الأورام واستيلاء محمد رحومة على مئات الآلاف من الجنيهات، فحولت النيابة ملف القضية إلى محكمة الجنايات.
في هذه الأثناء، وقبل النطق بالحكم في القضية، عندما استشعر رحومة أن وثائق الإدانة دامغة وأن مصيره السجن المؤكد، طلب من الجامعة تصريحا بالسفر إلى ألمانيا بدعوى المشاركة في مؤتمر علمي، ومن هناك تواصل مع منظمات حقوقية أمريكية زعم لها أنه مضطهد دينيا لأنه تحول من الإسلام إلى المسيحية وأنه يبحث عن اللجوء إلى الولايات المتحدة الأمريكية لحمايته من الاضطهاد الديني، وهو ما تم بالفعل حيث سافر إلى هناك وحصل على الجنسية الأمريكية بدعم من منظمات تنصيرية نافذة ورعاية من بعض قيادات أقباط المهجر بعد أن أعلن هناك تنصره، ثم حاول استقدام أسرته من مصر فرفضت زوجته وابنته بعد أن علموا بإعلانه التحول عن الإسلام، بينما سافر ابنه الصغير الطالب بالثانوية العامة وقتها إلى هناك حيث قام بتنصيره وألحقه بعد ذلك بالجيش الأمريكي كجندي عامل. الجدير بالذكر أن محكمة جنايات المنيا قضت في واقعة التزوير والاختلاس بالسجن الغيابي على محمد رحومة عشرين عاما عن مجموع القضايا التي قدمته النيابة بها إلى المحكمة".
لكن موقع "الأقباط الأحرار" نشر فى ذات الليلة هذا البيان: "سخر الدكتور محمد رحومة من الخبر الذى نشرته جريدة "المصريون" الإلكترونية التى إشتهرت بفبركة العديد من الأخبار التى تخص الكنيسة والأقباط، وكان آخرها الخبر الذى نشرته على صفحتها الأولى اليوم تلصق تهما بالدكتور محمد رحومة. وفى إتصال هاتفى مع الأقباط الأحرار نفى الدكتور رحومة ما نشرته هذه الجريدة وأعلن تحديه لأن يكون هناك قضية لما أسمته الصحيفة بحفل معهد الأورام بمحافظة المنيا. وأضاف بأن ما ورد به ليس الا أكاذيب. وقد أدلى لنا ببيان يقول فيه: "هذا الخبر ليس إلا فبركة، والدليل أنى عدت الى مصر يوم 16 أكتوبر عام 2001 ومكثت بها فترة قصيرة ثم سافرت مرة أخرى الى خارج مصر حين تعذر إظهار إيمانى المسيحى وحرص الأصدقاء المسيحيين علىَّ فخرجت رسميا للمشاركة فى مؤتمر عن مقارنة الأديان فى واشنطن فى 15 نوفمبر عام 2001 ودفعت الجامعة حينها تكاليف السفر والإقامة، وكل ذلك بالوثائق تحت يدى. أما عن الخبر فهو ليس إلا فبركات إشترك فيها المتأسلمون مع أمن الدولة مع أسرتى التى تنكرت لى بعد تحولى للمسيحية".
ومع هذا فلا بد أن ننبه إلى أن تلك التهمة مصلتة على رقبة البلبوص رقم 2 منذ وقت طويل كما رأينا من كلام د. مصرى حنورة فى صحيفة "الرؤية" قبل أن يعلن رحومة ارتداده عن الإسلام، وجاء ذكر التهمة عَرَضًا وعلى نحو خاطف! كما أن موقع "نادى مستشارى هيئة قضايا الدولة: kdaiaeldwlaclub" قد نشر الخبر الذى نشرته "المصريون"، ووقع عليه المستشار عمرو الملاح بقوله: "مشكور، ويُنْقَل إلى قسم الحوادث" (يقصد قسم الحوادث بالموقع). وهذا هو الرابط: http://kdaiaeldwlaclub.com/ip/index.php?showtopic=10778&hl=رحومة.
وقبل أن نغادر ملف البلبوص الجديد لا بد من الإشارة إلى التظاهرة التى استقبل بها الأقباط المهجريون الخونة رئيس البلاد أمام البيت الأبيض يطلبون الحرية لنصارى مصر، وكأن أحدا يستطيع أن يدوس لهم على طرف مهما تجبروا وقذفوا رجال الشرطة بالطوب وجرّحوهم وأهانوا كبار الضباط وهتفوا فى الكاتدرائية لشارون أن يأتى ويحتل مصر وينقذهم، ومهما وضع الرهبان أيديهم عنوة وتجبرا واغتصابا على ما يشاؤون من أراضى الدولة واستعملوا الاسلحة النارية كأفراد العصابات وقتلوا المسلمين لهذا الغرض بدم بارد، وكأنهم لا يسيطرون على الجانب الأكبر من اقتصاديات "المحروسة" الموكوسة المنكوسة رغم أنهم لا يمثلون إلا ستة فى المائة من إجمالى السكان على أكبر تقدير، وكأن أحدا فى الدولة مهما كان مركزه ستطيع أن يقترب من كنائسهم أو يفكر فى دخولها، فضلا عن إغلاقها لأى سبب، فى حين تُغْلَق المساجد بأمر الحكومة المسلمة السنية بمجرد الانتهاء من صلاة الفرض، وكأن فى السجون عشرات الآلاف منهم كالمسلمين المتدينين لا يسأل عنهم ولا فيهم أحد، أو كأن للمسلمين مثلهم بابا أو حتى ماما ينظر إلى الحكومة نظرة نارية تيبّس مفاصلها وتخرس لسانها وتُشِلّ يدها فلا تستطيع حَرَاكًا ولا تَرْجِع قَوْلاً ولا تقدر أن ترفع عينيها من الأرض.
لقد ظهر قرب نهاية الشريط الذى سجل تلك التظاهرة وبثته بعض المواضع القبطية المهجرية ظهورا متفقا عليه مسبقا، إذ كان يتحدث وقتها فى المحمول، وكان صوته من الوضوح للمصور البعيد عنه والذى ركز مصوِّرته عليه خلال تلك المكالمة الطويلة (التى يفترض أنها مكالمة خاصة) بحيث سمعناه وكأنه واقف بجوارنا، وليس من تلك المسافة البعيدة التى تفصله عن المصور. ولو كان المنظر عفويا، وكان هناك شخص على الطرف الآخر فعلا، لسمعنا أيضا من يهاتفه، إذ المعروف أن أجهزة المحمول شديدة الحساسية بحيث يسمع جارُ المتحدث (كما فى حالتنا هذه) الشخص الذى معه على الطرف الآخر. لكنْ من الواضح أن من رتبوا له هذا المنظر، أو قل: هذه المنظرة، قد قصدوا أن يُسْمِعونا ما سيقوله هذا البلبوص الجديد، الذى كان حريصا أشد الحرص على أن يؤكد أنه يحترم رئيس الجمهورية ويحب بلده (بلده التى سرقها وهرب بالفلوس التى اختلسها من عَرَق أبنائها المساكين الجبناء الأذلاء الخانعين الذين يستحقون كل ما يجرى وسيجرى عليهم، والقادم مذهل أكثر!) وأنه لا علاقة له بموضوع التظاهرة، إذ إن له شأنا وغرضا مختلفا، ألا وهو المطالبة بالحرية للمتنصرين والشيعة والبهائيين. وقد كرر هذا المعنى مرات وبصوت واضح ومسموع جدا بما يدل على أنهم ركّبوا فى عروة قميصة لاقط صوت لهذا الغرض. وصلت الرسالة أيها البلبوص بِشَرْطَة! لكنك برغم ذلك ممثل فاشل!
* * *
وأخيرا نصل إلى حالة زينب، وهى مختلفة عن الحالتين السابقتين لأن صاحبتها، بعد أن ارتدت عن الإسلام، وكان ذلك منذ عدة أعوام، عادت مرة أخرى إلى رحابه الطاهرة كما هو معروف. إلا أن فى قصتها عِبَرًا كثيرة، وأهمها أن المسلمين، بما فيهم طلاب الجامعة، لا يقرأون ولا يبالون بتغذية عقولهم الثخينة، ولا يهتمون من الدنيا إلا بالطعام والشراب والتناسل، شأنهم فى ذلك شأن العجماوات، اللهم إلا القليلين الذين لا يقاس عليهم ولا ترتقى بهم أمة لقلة عددهم وضعف تأثيرهم على سائر شعوبهم، أولئك الذين يسهل التأثير عليهم من قِبَل المبشرين المتخلفين مثلهم بخرافاتهم البلهاء التى لا تقنع قطة، لكنها تقنع الجهال الذين تخلصوا من أمخاخهم ووضعوا مكانها فردة حذاء قديم. ولنقرأ هذه الفقرات التى ليس لى من فضل فيها سوى أننى وجدتها فى أحد المواقع المشباكية فنقلتها لكم وأنا فى منتهى القرف. وهى بعنوان "بعد رحلة تنصير دامت أكثر من 188 يوما زينب تعود للإسلام من جديد": "أول فصول الحكاية بدأ في 13 ديسمبر 2004 عندما نشر الزميل مصطفي بكري تفاصيل مثيرة حملت عنوان "وقائع تنصير فتاة مسلم"، وروي قصة زينب الطالبة بالفرقة الثالثة بكلية الآداب جامعة حلوان والتي فوجئت أسرتها بخطابها بعد أن تركت المنزل لتخبرهم بأنها تنصرت ولن تعود، كان في الفصل الثاني من الحكاية استغاثات الأب لكي تعود ابنته التي تأكد أنها وقعت فريسة لحملات التنصير التي يقوم بها القمص زكريا بطرس بين الشباب المسلم عبر الانترنت. ثم نشرنا الخطاب الذي اعتقد الأب أن ابنته أرسلته من خارج مصر وأنها قد سافرت بالفعل. لم ييأس الأب، وكان لديه شعور قوي أن ابنته ستعود. وبعد مرور عدة أشهر وتحديدا في الثامن من مايو الماضي فوجئنا باتصال هاتفي بالجريدة من شخص رفض الافصاح عن هويته يخبرنا بأن زينب قد عادت لأسرتها وأنه ينتظر أن تنشر الجريدة حقيقة غيابها وأين كانت!
الغريب أن هذا الشخص اتصل في نفس الوقت والساعة التي عادت فيها زينب لأسرتها، وهذا ما عرفناه عندما اتصلنا بالأب لنتأكد من الخبر، وتعجب، فقد كان علي وشك الاتصال بنا لإخبارنا بعودتها بكامل إرادتها، مؤكدا أن ابنته عادت مشوشة وغير مستقرة، وفي رأسها العديد من الأسئلة التي تبحث عن إجابات لها، كما نبحث نحن عن إجابات لأسئلة كثيرة حول غياب زينب وكيف تم تنصيرها، وتفاصيل الفترة التي غابت فيها، وكيف عادت، ولماذا. أشار الأب إلى أنه لن يضغط عليها للإجابة عن هذه الأسئلة إلا بعد أن تستقر حالتها وتجد إجابات عن تساؤلاتها الحائرة حتي تستطيع أن تقول الحقيقة كاملة. احترمنا رغبته وسألناه عن تفاصيل اللقاء الأول وكيف استقبل ابنته بعد هذه الفترة، فقال: إنها عادت فلم تجد أحدا في المنزل وانتظرت عند أحد الجيران. وعندما اتصلوا به لإخباره بعودتها لم يصدق وأسرع إلي الجار لتقع عيناه مرة أخري علي ابنته، وقد اختلطت بداخله العديد من المشاعر المتناقضة، فزينب هي أقرب أبنائه إليه، ولكن ما حدث أقوي من احتمال أي أب. ولكن بمجرد أن وقعت عيناه عليها وجدها ترتجف خوفا ورعبا من رد فعله وتتشبث بيد والدتها التي وصلت قبله، ففتح ذراعيه لها لترتمي في حضنه وتبكي بشدة.
تابعنا أخبار زينب يوميا عن طريق الأب خلال تلك الفترة. عرفنا تفاصيل الجلسات التي التقت فيها زينب مع مجموعة من الشباب المتخصصين في الرد علي الافتراءات التي يحاول البعض إلصاقها بالدين الإسلامي لتشويش الشباب عبر الانترنت، والذين جندوا أنفسهم للرد علي كل الأسئلة التي طرحتها زينب. وعرفنا كذلك الكثير من المعلومات عن فترة غيابها، ولكننا لم نبادر بالنشر منتظرين أن تستقر حالتها وتجد كل الإجابات عن تساؤلاتها... حتي اتصل بنا والدها صباح الخميس قبل الماضي الموافق 6 يونية ليخبرنا أن زينب قد نطقت بالشهادة بمحض إرادتها، وقامت بأداء صلاة الفجر وأنها ترغب في الكشف عن تفاصيل غيابها. وقد حدد لنا موعدا للقائها والحوار معها. وقبل أن يحل هذا الموعد فوجئنا وفوجئت زينب ووالدها بموضوع منشور علي أحد مواقع الإنترنت يشير إلي أن زينب قد عادت من أجل تنصير أسرتها، ويحوي معلومات خاطئة ومشوهة عنها، فبادرت زينب بسرعة بزيارة الجريدة لتعلن أنها تريد أن يعرف الناس الحقيقة الكاملة على صفحات "الأسبوع" وعلى لسانها لتكشف العديد من الحقائق حول الأسباب التي أدت إلي اختفائها، وتفاصيل ما يجري في جامعة حلوان من عمليات تنصير منظمة ومكثفة، ودور زكريا بطرس وأعوانه بالخارج وبعض القساوسة في مصر في اللعب بعقول الشباب والفتيات بما يهدد باشعال نيران الفتنة في أي لحظة. وتفاصيل أخري كشفت عنها زينب في حوارها لـ"الأسبوع".
تركنا زينب تتحدث، وقد كانت أكثر منا حرصا علي تسجيل كل كلمة تقولها. بدت واثقة من نفسها ومن كل كلمة تنطق بها. أكدت أنها تريد أن تنقل تجربتها لكل من يضعون أقدامهم علي بداية الطريق الذي مشت فيه، وكل من يمرون بنفس الضغوط والظروف التي مرت بها. بدأت حديثها قائلة: كنت أعيش حياة عادية داخل أسرة ملتزمة دينيا، أمارس بعض الأنشطة في المساجد من حولي حيث كنت أقوم بتحفيظ القرآن للأطفال وشرح بعض الدروس لأخواتي المسلمات. وكنت وقتها أعتمد على شريحة معينة وعدد محدود من المشايخ وأئمة المساجد من حولي في استقاء المعلومات الدينية وتوصيلها للأخوات. كانت تقف أمامي بعض الأسئلة التي لا أجد لها إجابات عندي، وكنت وقتها قد تعرفت علي اثنتين من زميلاتي بجامعة حلوان وهما ريهام وهبة. وعرفت فيما بعد أنهما متنصرتان.
وعندما كنت أتحدث معهما عن الأسئلة التي كانت تقف أمامي بدأتا تطرحان المزيد من الأسئلة التي تزيد من حيرتي وش####. وكانت معظمها عن أمور غيبية وحول شخص الرسول الكريم والسنن النبوية. لجأت من جديد إلى أئمة المساجد فلم أجد لديهم إجابات مقنعة، بل ومنهم من نهرني واتهمني بالشرك والكفر، وأنه لا يصح أن اسأل مثل هذه الأسئلة. ازدادت علامات الاستفهام في رأسي. في الوقت نفسه عرفتني ريهام وهبة علي 3 شباب و4 فتيات في الجامعة عرفت أيضا فيما بعد أنهم متنصرون. حكوا لي عن مواقف مشابهة وطرحوا عليّ المزيد من الأسئلة التي طلبوا مني أن أسأل المشايخ عن إجابات لها.
سألناها: هل حاولت أن تطرحي هذه الأسئلة علي أحد من العلماء المتخصصين؟ أشارت إلي أنها اكتفت بالعدد المحدود الذي تعرفه من المشايخ وأئمة المساجد. واسترسلت قائلة: كنت في ذلك الوقت أقوم بزيارات لصديقتي هبة في منزلها، وفي إحدي المرات فوجئت بوجود أحد القساوسة وعرفت بعد ذلك أن أسرتها بأكملها قد تنصرت. بادرت هبة وأخبرت القس عني وعن حيرتي والأسئلة الكثيرة بداخلي. تحدث معي هذا القس، وهو راع لإحدي الكنائس القبطية عن الدين المسيحي وأعطاني مجموعة من الكتب. كنت أستمع إليه في البداية لأجادله وأناقشه لأثبت أنني الأقوي في الحجة. وبعد أن كنت قد انقطعت عن المساجد والمشايخ الذين عرفتهم عدت لأسألهم من جديد عما يقوله هذا القس، فنصحني أحدهم بالابتعاد عن الحديث في هذه الأمور والجدال حول الدين اتقاء لما يمكن أن يحدث من فتنة طائفية قائلا: "لكم دينكم ولي ديني". ولكنني وقتها لم أكن علي استعداد لقبول هذه النصيحة، واعتبرت أن هذا يعد انسحابا وتساءلت: لماذا يدعو هذا القس لدينه بكل هذه الجرأة دون أن يخشى شيئا؟ ولماذا نكتفي نحن المسلمين بالانسحاب من النقاش حول الاديان؟ وتعلق زينب قائلة: اعتبرتُ بفهمي المحدود والعاجز وقتها أن هذا الاختلاف يمثل ضعفا في العقيدة، وخاصة أن أحد هؤلاء المشايخ كان قد رفض مقابلتي بعد طرح هذه الأسئلة عليه قائلا: إن فكري شاذ، وإنه لن يضيع وقته معي. وفي الوقت نفسه كنت أجد هذا القس وقد فرَّغ نفسه تماما لمقابلتي، وأصبح يزور منزل هبة مرات عديدة تصل إلي أربع مرات في الأسبوع لمقابلتي ونصحي باعتناق المسيحية. وكنت وقتها قد عرفت أن زملائي التسعة قد تنصروا.
تستكمل زينب حديثها قائلة: وقتها ازداد الصراع بداخلي وساورني شك في وجود الله. تغيرت ملامحها وهي تتذكر هذه الفترة، وأضافت: كان خطئي أنني تكتمت الأمر عن أسرتي ولم ألجأ إلي أهل العلم والدين، وبعدها توقفت تماما عن الاستماع للمشايخ أو مقابلة هذا القس. وفي ذلك الوقت كان عدد من أصدقائي المتنصرين قد سافروا للخارج فاتصلت بي صديقتي ريهام تليفونيا من كندا لتحدثني عن حياتها الجديدة بعد أن سافرت وكيف أنها تعمل وتقوم بالتدريس في الجامعة كما أنها تلقي بعض الدروس علي أحد مواقع الشات علي الانترنت. وطلبت مني أن أدخل علي هذا الموقع للاتصال بها والتحدث معها.
وتضيف زينب: وقتها لم أكن أعرف استخدام برنامج "البال توك" جيدا، فطلبت من أحد أصدقائي أن يعلمني استخدامه. وبالفعل دخلت على "Room" بعنوان "إن كان الله معنا فمن علينا"، وأخري بعنوان "هل كان محمد أشرف الخلق؟". وهي غرف تنصيرية، وفيها يأتون بأحاديث وروايات عن الرسول الكريم لم أكن أسمع عنها من قبل ويأتون بتفسيرات وشروح محرفة لها. كان تركيزي واهتمامي هو أن أتاكد من وجود هذه الأحاديث أم لا، وعندما أتأكد من ذلك لا أبحث عن التفسيرات الحقيقية لها، وأكتفي بسماع التفسيرات التي يطرحونها على هذه المواقع فقط.
وتكمل زينب حديثها لتقول: 'دخلت علي برنامج باسم "Boosy 1882: بوسي 1982"، وجاء الدور عليَّ في الحديث فوجدت نفسي أقول: إنني أحب الله وأشتاق إليه، ولكنني لا أعرف أين هو وأين أجده وأين الحقيقة. وهنا يهتز جسد زينب وصوتها وهي تتذكر هذه اللحظات وتلك الكلمات لتقول: كنت بالفعل أعبر عما بداخلي من حيرة ورغبة في الوصول للحقيقة، فبكيت أثناء حديثي. ووقتها حدثتني الفتاة المسئولة عن الغرفة لتقول لي إن اسمها فرحة، وتخبرني بأنها تشعر بما أشعر به الآن، وأنها كانت مسلمة ولكنها تنصرت حينما عرفت أن الرب يقول: ائتوا إليَّ أيها المتعبون وأنا أريحكم.
وتكمل زينب حديثها لتقول: أخذت فرحة تتودد إليَّ في الحديث وتحدثني عن شعورها بالارتياح وتستخدم عبارات مثل "يسوع يحبك"، "لا تقلقي فيسوع يناديك". وهنا وجدت نفسي أرد عليها بقوة قائلة: ليس معني حديثي معك وبكائي أنني قد أصبحت مسيحية. فردت فرحة بكل ثقة ورقة ونعومة: أنا أريد فقط أن أكون صديقتك ونتحدث معا: وإما أن أقنعك بالحقيقة أو تقنعيني فيكون لك الأجر والثواب. توقفت زينب قليلا ثم عادت تقول والحسرة تملأ صوتها: للأسف وقتها رأيت كلامها منطقيا، وفي الوقت نفسه كنت أنا في منتهي السلبية لم أتحرك أو أحاول البحث عن إجابات لأسئلتي وحيرتي بطريقة صحيحة، وتركت نفسي أتلقي كل ما يريدون أن يبثوه في نفسي من شكوك. وللأسف أيضا أنني لم أكن متمكنة في البحث علي برنامج البال توك الذي عرفت فيما بعد أن هناك العديد من الغرف الإسلامية التي تردّ علي كل الافتراءات والادعاءات وتظهر ضعف من رأيتهم أقوياء في لحظة ضعفي، فلم أكن استطيع التعامل سوي مع هذه الغرف التنصيرية التي عرفتها.
وعن علاقتها بناهد متولي قالت زينب إنها كانت تتصل بها وتتحدث معها عن المسيحية وتشجعها علي اعتناق المسيحية واستمرت فترة حتى كان آخر اتصال سمعتْ خلاله صوت إذاعة القرآن الكريم فعنّفتها ولم تتصل من يومها. وتكمل زينب تفاصيل المؤامرة: فوجئت بعد هذا الاتصال بسيل من الاتصالات الدولية عبر الانترنت من أمريكا وغيرها من الدول من أشخاص لا أعرفهم يشجعونني علي الدخول في المسيحية بادعاء أنهم كانوا مسلمين وتنصروا بعد أن وصلوا للحقيقة. وبدأت ريهام في الاتصال بي علي النت. ووقتها أيضا عرفوني علي زعيمهم القمص زكريا بطرس، الذي يقيم في أمريكا وبدأ يتحدث معي باستمرار. كان عنده من الاستعداد والوقت ما يجعله يتصل بي في أي وقت ولفترات طويلة. وكنت أدخل علي النت باسم منى. وجدت منه اهتماما غير عادي وأخذ يزودني بشحنات مكثفة من الكراهية للإسلام والمسلمين، مدعيا أنه يأتي بهذه المعلومات من كتب السنة والقرآن، وأنه لا يستطيع أن يتحداه أو يقف أمامه أي شيخ من مشايخ المسلمين. وأصابني الضعف بعد كل هذا الحصار الفكري الذي استسلمت له فقررت أن أعتنق المسيحية وغيرت اسمي إلى "mona loves yasso3: منى تحب المسيح".
وتكمل وقد تغيرت ملامح وجهها لتقول: في هذا الوقت كنت قد تعرفت عن طريق النت علي فتاة أصبحت من الصديقات المقربات لي وأطلقت علي نفسها اسم "بنت السامرية"، وعرفت أنها طالبة بجامعة حلوان أيضا. وكانت تتصل بي علي تليفون المنزل والمحمول ولكني لم أتقابل معها. وكانت دائما تتحدث معي عن كيفية اعتناقها للمسيحية وأنها تركت بيت أسرتها وأنها بذلك تستطيع أن تتعايش أكثر مع المسيح. وأخذت تقنعني بضرورة تركي للمنزل حتي أحتفظ بالمسيح ولا أفقده وأستطيع أن استكمل الطقوس المسيحية وأزور الكنائس كما أريد.
وتستطرد لتقول: مؤخرا عرفت أن هذه الفتاة هي أسماء، التي نشرتم قصتها والتي أخبرت والدتها بعد أن تركت المنزل أنها تنصرت وتقوم بتنصير الفتيات المسلمات. كانت تشجعني وتعدني بأنها ستوفر لي المكان الذي أعيش فيه، وكان تعلقي بأسرتي ووالدي يمنعني من اتخاذ هذه الخطوة، ولكن استمرار حديثي معها وما دبرته مع باقي المجموعة من الإلحاح عليَّ لدفعي لترك المنزل حتي أنهم كانوا يستشهدون بآيات من الانجيل لتشجيعي علي هذه الخطوة مثل "من أحب أبا أو أما أكثر مني فلا يستحقني".
واتخذت القرار في نوفمبر 2004، ودون أن أخبر أحدا بهذه الخطوة قبل أن أقوم بها. وبمجرد خروجي اتصلتُ ببنت السامرية لأخبرها أنني تركت المنزل وأريد أن أعيش معها فقالت لي إن ظروفها لا تسمح في الوقت الحالي باستضافتي. فاتصلت بأحد خدام الكنيسة الذي كنت قد تعرفت عليه أيضا من خلال النت، فاستأجر لي شقة بحلوان لأعيش بها بمفردي لفترة حيث إنني خرجت وبحوزتي مبلغ كبير من المال. اتصلت بمعارفي من القساوسة الذين كنت قد تعرفت عليهم وتلقيت منهم الاهتمام والرعاية المادية والمعنوية، وتبادلت معهم الزيارات هم وأسرهم في منازلهم وفي الكنائس. وتعرفت من خلالهم علي عدد من الفتيات المتنصرات. ونصحني أحد الآباء الكهنة أنا ومجموعة من هؤلاء الفتيات، وعددهن أربع، باستئجار شقة كبيرة نعيش فيها سويا. وكنت أقمت فترة عند أحد القساوسة. وبالفعل استأجرنا شقة في المقطم. وكان هؤلاء القساوسة وزوجاتهم يزوروننا باستمرار للحديث في الدين والصلاة.
سألنا زينب عن فكرة السفر للخارج، وهل شجعها أحد عليها؟فأكدت أن الفكرة كانت مرفوضة بالنسبة لها علي الرغم من أن كثيرا من أصدقائنا الذين سافروا أكدوا لها أن الحياة في مصر غير آمنة وأن حياتهم بالخارج أفضل. وتقول: كنت أرى أن السفر هروب، وأنني تركت المنزل لأبحث عن الله. وإن كانت هناك بعض الصعاب فلابد أن أتحملها.
فسألناها عن الخطاب الذي وصل لوالدها بخط يدها من الخارج،
فأجابت أنها كانت تريد أن تتصل بأسرتها بأي شكل لتطمئنهم عليها. ولكن لصعوبة ذلك ولخوفها من أن يكتشف والدها مكانها قررت أن ترسل الخطاب إلي إحدى صديقاتها في فرنسا داخل مظروفين لتقوم هذه الصديقة بإرسال الخطاب من الخارج لوالدها.
وتكمل زينب: كنت عن طريق البال توك قد تعرفت علي سيدة مسيحية اسمها شيرين وقابلتها أكثر من مرة هي وزوجها. وكانت هي حلقة الوصل بيني وبين زكريا بطرس والمجموعة بالخارج حيث لم يكن بإمكاني الاتصال بهم فلم يكن لدي كمبيوتر أو موبايل. وقد أعطتني شيرين أسماء بعض الآباء الكهنة الذين سيقدمون لي المساعدة، وبعدها انشغلت عني. وكانت جريدة "الأسبوع"وقتها قد نشرت موضوعا عني فامتنعتُ عن الاتصال بأحد منهم حتي لا ينكشف أمري. وفي يوم شم النسيم ذهبت مع صديقاتي إلي أديرة وادي النطرون، وهناك قمت بدق الصليب في دير مارجرجس الخطاطبة.
أما عن التعميد فتقول زينب: نصحني أحد المعاونين لزكريا بطرس بالتوجه إلي أحد القساوسة من آباء الكنيسة الإنجيلية والذي قام بتعميد عدد من الفتيات المتنصرات من صديقاتي وغيرهن، وله نشاط واضح في التنصير. وهو قمص بكنيسة مشهورة بوسط القاهرة واسمه (م.ع). ولكن ولأنني ذهبت إليه وطلبت مقابلته بمفردي رفض مقابلتي لشكه في أنني مدسوسة عليه من الأمن. وبعدها عرفتني زميلاتي بأحد القساوسة المشهورين بالكنيسة الأرثوذكسية (الكاتدرائية)، وهو القمص (م.ي). وقد قام بتعميد عدد منهن، وهو الذي أطلق عليَّ اسم كريستينا وأخذ يعطيني الدروس والكتب. وكان علي وشك تعميدي، وأعطاني موعدا لذلك، ولكن في ذلك الوقت تم القبض علي أحد أصدقائي المتنصرين وزوجته فتراجعت تماما عن مقابلته.
وعندما سألنا زينب عن إحساسها بأسرتها خلال تلك الفترة تنهدت وامتلأت عيناها بالدموع وقالت: كان يملؤني الحنين والشوق لأبي وأمي وإخوتي، وفكرت في الرجوع أكثر من مرة، ولكن حديث صديقاتي حول حد الردة وأن أهلي سوف يقتلونني إذا ما عدت إليهم كان يمنعني.
ظل هذا الصراع بداخلي حتي توفي العم ميخائيل، وهو رجل مسن قعيد كنت قد تعرفت عليه في الكنيسة وارتبطت به بشدة، فشعرت بهزة نفسية جعلتني أفكر في مصيره بعد الموت وهل سنتقابل معا في الآخرة؟ وأين؟ وإذا مت أنا أيضا هل أكون قد متُّ علي الحق أم أنني ضللت الطريق؟ ومن ناحية أخري ذكرني بأسرتي. ماذا لو توفي والدي لا قدر الله، وأنا بعيدة عنه وهو غير راض عني؟ وماذا لو حدث مكروه لأحد أفراد أسرتي؟ وماذا لو لقيت حتفي دون أن يروني أو يعرفوا مصيري؟ كل هذه التساؤلات أخذت تتصارع داخلي. بدأت أفكر: هل سرت في الطريق الصحيح؟ وأخذت هذه الأسئلة تلح عليَّ حتي قررت أن أعود لأسرتي وتوقعت أن أجد ردود فعل عنيفة تجاهي، بل وتوقعت أن يقتلني والدي وأن يكون يوم عودتي هو آخر يوم في عمري. ولكن ظل لديَّ الأمل في أن تتاح لي الفرصة وأن يسعني صدر أبي وأهلي.
وتكمل قائلة: لم أخبر أحدا ممن حولي باعتزامي العودة. جمعت أشيائي في الثامن من مايو الماضي. توجهت إلي منزل أسرتي وأنا أكاد أسمع دقات قلبي تعلو وتعلو خوفا واشتياقا. ذهبت لمنزلي فلم أجد أحدا، وانتظرت عند أحد جيراننا الذين أرتبط بهم ارتباطا قويا. انتظرت حتى اتصل جارنا بوالدي ليخبره بعودتي. مرت علي هذه اللحظات كالجبال، وعندما وقعت عيناي على أبي ارتعد جسدي كله. وهنا توقفت زينب وارتعشت الكلمات علي لسانها وانهمرت دموعها وقالت: فوجئت بأبي يفتح ذراعيه لي ويتجه نحوي، فانطلقت إليه احتضنه بشده وأبكي. كانت لحظة حاسمة في حياتي أعطتني القوة والثقة والشجاعة وشعرت أنني استرد جزءا من نفسي التي افتقدتها.
وبصوت يحمل الكثير من الخشوع والإحساس بالندم تكمل: تنامى بداخلي إحساس بأن الله الغفور الرحيم لا يريد لي أن أهلك أو أضيع بفعل هؤلاء الأشرار الذين يتلاعبون بالكلمات. وجدت كل أفراد أسرتي يتعاملون معي بحب واشتياق. اتسع لي صدر والدي عندما أخبرته بأنني تائهة ومشوشة، ولديَّ الكثير من الأسئلة التي تملأ رأسي. لم يضغط عليَّ والدي لمعرفة أي تفاصيل. وخلال هذه الفترة سخَّر لي الله مجموعة من الشباب المسلم علي دراية كبيرة بالدين وبالمداخل التي يتلاعب بها هؤلاء الشياطين، وعرفت أن هذه المجموعة تخصصت في الرد علي الافتراءات التي ينسبها زكريا بطرس وأمثاله للإسلام وللرسول من خلال عدد من الغرف الإسلامية علي البال توك والتي لم يكن لديَّ علم بوجودها في البداية، وتخيلت أن أسئلتي ليس لها إجابات. تعجبتُ، فقد كانت سنهم قريبة من سني: أكبرهم لا يكبرني سوي بسبع سنوات. جلسوا معي كثيرا وأجابوا علي العديد من الأسئلة التي دارت في ذهني حتى قبل أن أطرحها.
وتتوقف زينب لتقول: وقوف هؤلاء الشباب بجانبي خلال هذه الفترة ذكرني بقول رسولنا الكريم: "مثل المسلمين في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكي منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى". وقد كنت جزءا من هذا الجسد فجند لي الله هؤلاء الشباب دون أن أكون قد عرفتهم من قبل ودون أن يكون بيننا أية مصالح سوي الحب والأخوة في الله.
وتضيف: وقوفهم معي جعلني أشعر وأرى كيف أن المجتمع الإسلامي مجتمع جميل يعلمنا قيما جميلة إذا احتفظنا بها وطبقناها. وقد وفر لي هؤلاء الشباب الكثير من الكتب عن الإسلام والمسيحية كي يكون لي مطلق الاختيار. رأيت صورة لم أكن قد رأيتها قبل أن أسير في الطريق الذي مشيت فيه. فاجأتني شجاعتهم وحماسهم وجرأتهم لمناظرة زكريا بطرس أمامي لإثبات مدي ضعفه وخداعه. وكنت قد اتصلت به فور عودتي لإخباره بأنني قد عدت، فلم يرد بأي تعليق. بعدها اتصلت به مرة أخرى لأعرض عليه أن أحد أقاربي يريد أن يناظره أمامي. وبالفعل تحدد يوم المناظرة علي البال توك وكنت قد عرفت أنه كثيرا ما كان يتهرب من هذه المناظرات، وهذا ما حدث فعلا خلال هذه المناظرة.
وتصف زكريا بطرس لتقول: حاول الاختفاء مثل الحرباء التي تتلون لتختفي عن الأنظار. لقد كنت أعتبره الأب الروحي لي، وقد كنت أفهم نبرة صوته، فهرب من مناقشة العديد من النقاط التي استغل ضعفي فيها ليثبت قوة حجته. اختلفت لهجته تماما، وأصابه الارتباك والعصبية وامتنع عن الرد. صرخت فيه قائلة: إنك قد خذلتني، وعليك أن ترد. فأين حججك الآن؟ وتقول زينب إنها عادت تسأل هؤلاء الشباب: لماذا لا يقومون وباستمرار بدخول هذه الغرف للرد علي زكريا؟ فقالوا: هذه نسميها: "غرف المراحيض" لأنها تهدف فقط إلى سب الإسلام والرسول وغرس الكراهية ويمتنع عن دخولها حتى أغلبية المسيحيين.
بعدها فضلت أن أخلو بنفسي حتى أبحث بداخلي عن زينب وأجلس لمحاسبتها. شعرت بالخجل من نفسي أمام الله، فبأي ثمن بخس فرطت في ديني ودنياي؟ شعرت أنني لم أفهم ديني الفهم الصحيح وأنني اخترت الطريق السهل وتركت نفسي لمن يتلاعب بي بلا إرادة.
وبعد هذه الأيام الثلاثة قررت أن أنفض الغبار الذي علق بقلبي وأن أكون زينب المسلمة إسلاما صحيحا. كنت أرتعد عندما أتذكر قول الله تعالى: "إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" (النساء/ 116)، ولكني في نفس الوقت كنت أتذكر آية رائعة تفتح الباب أمامي، وهي قوله تعالي: "قل يا عبادي الذين أسرفوا علي أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله" (الزمر/ 53) وآيات أخري من القرآن تقول: "يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تُقَاته ولا تموتُنَّ إلا وأنتم مسلمون" (آل عمران/ 102). وتسيل الدموع من عيني زينب لتقول: وجدت قلبي يركض ركضا ويدفعني دفعا أن أصلي وأسجد لله رب العالمين الواحد الأحد وأبكي بكل خلايا جسدي وكياني لعله يغفر لي. وتستطرد قائلة : ولكنني مع ذلك أشعر أنني عدت أقوي بكثير مما كنت عليه من قبل، وأنني قد خرجت من هذه التجربة المريرة بفوائد كثيرة أهمها أنني لا بد وأن أرد الدَّيْن وأن أمد يدي لمن يسيرون في بداية الطريق الذي مشيت فيه".