المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : اليهود واليهودية والصهاينة والصهيونية الجزء الثالث



الصفحات : 1 2 3 4 [5] 6 7

ساجدة لله
2010-10-25, 05:21 AM
1 ـ التناقض بين الدينيين واللادينيين:

التعريف الديني الأرثوذكسي لليهودي أمر معروف أقرته الشريعة اليهودية الحاخامية. أما التعريف القومي (غير الديني)، فهو مسألة غامضة للغاية، إذ أن من الصعب تعريف هذه الخاصية القومية الفريدة التي تُميِّز هذا الحشد الهائل من الجماعات اليهودية التي تتمتع بهويات متعددة. ومن الصعب كذلك، بل وربما من المستحيل، تعريف اليهودي الملحد أو اليهودي الإثني، أو اليهودي غير اليهودي. وفي نهاية الأمر، تصبح المسألة مسألة إحساس داخلي غامض يمارسه اليهودي بوجود هذه الخاصية اليهودية داخله. ولذلك، يشير بعض المعلقين إلى التعريف الديني بأنه تعريف موضوعي، أي يستند إلى مقاييس خارجة عن الذات ويمكن الاحتكام إليها. أما التعريف العلماني، فهو تعريف ذاتي يستند إلى حالة شعورية تتفاوت في حدتها وعمقها من شخص إلى آخر. وبالفعل، تُعرِّف الأوساط العلمانية اليهودي بأنه من يشعر في قرارة نفسه بأنه يهودي ويعلن ذلك بإخلاص دون الحاجة إلى قرائن خارجية، وهو تعريف يخلق من المشاكل أكثر مما يحلّ.

ولإيضاح هذه النقطة، يمكن أن نشير إلى العاهرات وتجار الرقيق الأبيض والقوادين من أعضاء الجماعة اليهودية ممن تركزوا في الأرجنتين، وكونوا قطاعاً اقتصادياً كبيراً وجماعة ضغط، وأصبحت لهم مؤسساتهم الخاصة من نواد ومسارح ونظام رفاه اجتماعي. وهذه مسألة مفهومة تماماً في إطار علماني مادي حيث يقوم من لهم مصالح مشتركة بتنظيم أنفسهم. ولكن المشكلة ظهرت حينما أصر هؤلاء المشتغلون بهذه المهنة الشائنة على انتمائهم أو هويتهم اليهودية، ومن ثم كانت لهم معابدهم الخاصة وحاخاماتهم الذين يفون باحتياجاتهم الروحية، بل وكانوا يخرجون في استعراضات أو مواكب في الأعياد الدينية اليهودية! وغني عن القول أن هذا كان يسبب حرجاً شديداً لأعضاء الجماعة اليهودية، فظلوا يحاربون هذا الجيب الذي يُصرُّ على يهوديته حتى نجحوا في القضاء عليه تماماً. وكل ما تَبقَّى من هذا الجيب هو ملجأ للبغايا اليهوديات العجائز في بيونس أيرس.

2 ـ التناقض بين السفارد والإشكناز:

يمكن القول بأن الصهيونية، على مستوى الممارسة منذ أول أيامها وحتى عام 1948، قد عرَّفت اليهودي بأنه اليهودي الأبيض (الإشكنازي). وكانت، في هذا، متسقة تماماً مع نفسها، فقد كانت تُقدِّم نفسها باعتبار أنها تجربة تتم داخل إطار التشكيل الاستعماري الاستيطاني الغربي، ولذا كان على الصهاينة إثبات بياض بشرة اليهودي حتى يتسنى للمستوطنين أن يشاركوا في حَمْل عبء الرجل الأبيض، ويستفيدوا في الوقت نفسه من الأمن العسكري والدعم الاقتصادي الذي يوفره القائمون على المشروع الاستعماري، ويحلوا محل أحد شعوب آسيا وأفريقيا. وقد بذل آرثر روبين، أحد أهم علماء الاجتماع الصهاينة والمسئول عن الاستيطان في فلسطين لفترة طويلة قبل إنشاء الدولة، جهداً «علمياً»فائقاً لإثبات أن اليهودي هو الإشكنازي وحده وأن الشرقيين ليسوا يهوداً. وهناك العديد من البيانات والتصريحات تُعبِّر عن هذا الموقف. لكن هذا الموقف يتناقض تماماً مع موقف الصهيونية الأصلي، فالصهيونية تكتسب شرعيتها من زعمها بأنها حركة الشعب اليهودي بأسره.

3 ـ التناقض بين التعاريف الدينية المختلفة:

لا تنحصر المسألة في التناقض بين الدينيين والعلمانيين وحسب، أو بين الإشكناز والسفارد فقط، وإنما تمتد لتشمل مجال الدينيين ذاته. فالأرثوذكس لا يعترفون بالحاخامات الإصلاحيين ولا بالحاخامات المحافظين كيهود. ولذا، فهم لا يعترفون بالمتهوّدين على أيدي مثل هؤلاء الحاخامات. وفي معرض دفاعهم عن وجهة نظرهم، يذكر الأرثوذكس أن الشريعة، بحسب اليهودية الحاخامية، حدَّدت الخطوات اللازمة للتهوّد بشكلٍّ واضح تماماً كما حدَّدت من هو اليهودي. فلكي يَتهوَّد إنسان ما، يجب أن يتم ختانه إن كان ذكراً، أما الأنثى فعليها أن تأخذ حماماً طقوسياً وهي عارية أمام ثلاثة حاخامات (وهو الأمر الذي يسبب الحرج للإناث المتهوّدات). وعلى المتهوّد أن يَتقبَّل نير المتسفوت (الفرائض أو الأوامر والنواهي)، أي أن يعيش حسب قانون التوراة. أما الحاخامات الإصلاحيون، فلا يلتزمون بهذه الخطوات، إذ يكفي عندهم أن يحضر راغب التهود محاضرة عن التاريخ اليهودي، أو يقرأ مقطوعة من العهد القديم. ويقر الحاخامات الإصلاحيون بأن مراسم التهويد التي يقومون بها لا تتَّبع الشريعة، ولكنهم يصرون في الوقت نفسه على أن هذا لا يمنع كونها مقدَّسة. أما المحافظون، فيرون أنهم يتبعون الشريعة، لكن الأرثوذكس لا يوافقونهم على ذلك.

ومن المشاكل الأخرى التي ظهرت داخل المعسكر الديني مشكلة قيام اليهودية الإصلاحية بإعادة تعريف اليهودي بحيث أصبح من يُولَد لأب يهودي أو أم يهودية، وهو ما لا توافق عليه اليهودية الأرثوذكسية واليهودية المحافظة.

4 ـ تناقضات أخرى:

هناك تناقضات يصعب تصنيفها لأنها ذات طابع ديني إثني، وقد نشأت هذه التناقضات أساساً بين المؤسسة الدينية وبعض الجماعات اليهودية الصغيرة بشأن انتمائهم الديني والإثني وما إذا كان هذا الانتماء خالصاً أم أنه هجين.

وكانت أولى المشاكل التي واجهها الصهاينة التناقض بين السفارد والإشكناز، وهو انقسام سبق إعلان الدولة. وقد لجأت السلطات البريطانية لطـرق عملية غـير عقائدية لحلـه، إذ سـمحت بوجود حاخاميتين: واحدة سفاردية، والأخرى إشكنازية، بكل ما ينطوي عليه ذلك من انقسام أساسي وجذري. والانقسام بين الإشكناز والسفارد انقسام عميق ذو طابع ديني، ولكنه ذو أبعاد طبقية وإثنية. وهو من العمق بحيث يتبدَّى من خلال تَنوُّع الأحزاب الإسرائيلية وبنيتها وأنماط التصويت في الانتخابات التي تجري في المُستوطَن الصهيوني. ومع هجرة اليهود الشرقيين من العالم العربي والعالم الإسلامي وبلاد الشرق الأخرى، مثل الهند، زاد العنصر الشرقي على حساب العنصر الغربي، وأصبح الشرقيون أغلبية في المجتمع، الأمر الذي اضطر المؤسسة الحاكمة إلى إخفاء تعريف الهوية الذي يعادل بين الإشكنازي واليهودي، وكفت المؤسسة عن إطلاق التصريحات العنصرية ضد اليهود السفارد ويهود البلاد الإسلامية. لكن الرؤية الكامنة التي تُوجِّه الدولة الصهيونية لا تزال، أولاً وأخيراً إشكنازية، وهي تحاول القضاء على الأشكال الحضارية الشرقية التي أحضرها اليهود الشرقيون معهم، ولا تزال النخبة الحاكمة في إسرائيل غربية بوجه عام وإشكنازية بالدرجة الأولى.

ومن الأمثلة الأخرى التي انفجرت فيها قضية الهوية من منظور ديني، قضية يهود الهند المعروفون باسم بني إسرائيل. فالحاخاميتان، السفاردية والإشكنازية، لم تعترفا بهم كيهود، لأنهم يمارسون الزواج المُختلَط ولا يعرفون التلمود. وقد استمرت مشكلتهم قائمة إلى أن اضطرت المؤسسة الدينية إلى الرضوخ لضغط المؤسسة السياسية. ولم تعترف الحاخاميتان أيضاً بيهود الفلاشاه، ولم تشجع هجرتهم طيلة الأعوام الثلاثين الماضية لعدة أسباب، من بينها أنهم هم أيضاً لا يعرفون التلمود، ولكن حينما طُلب إليهم التهود، رفضت أعداد كبيرة منهم ذلك. فاقترحت الحاخاميتان صيغة مخففة للتهويد تتضمن عملية تختين رمزية (حين قبل بعضهم ذلك سارع ممثل الحاخامية السفاردية بتختينهم قبل أن يقوم ممثل الحاخامية الإشكنازية بهذه العملية. ولكن حينما حضر الأخير قام هو الآخر بالعملية نفسها، أي أنهم تم تهويدهم وتختينهم مرتين خلال عدة أيام). وتثار قضية اليهود القرّائين واليهود السامريين من آونة إلى أخرى، خصوصاً حينما يتم زواج مُختلَط بين أحد أعضاء إحدى هاتين الجماعتين وفرد ينتمي إلى اليهودية الحاخامية. ولم تضطر الدولة الصهيونية ولا المؤسسة الدينية إلى الدخول في صراع عميق مع أيٍّ من هذه الجماعات بسـبب صـغر أحجامها وقلة نفوذها داخل وخـارج إسرائيل. ولم تأخذ المؤسسة السياسية موقفاً حاسماً في هذه القضية، بل تركت الأمر للمؤسسة الدينية تصرفه بطريقتها.

ومع منتصف الخمسينيات، ظهرت التناقضات بين الدينيين واللادينيين، وكذلك بين الأرثوذكس من ناحية وبقية الفرق الدينية من ناحية أخرى، وذلك حينما بدأت المؤسسة الأرثوذكسية في الخارج تضغط على المؤسسة الدينية في إسرائيل حتى تتبنى موقفاً أكثر تشدداً من مسألة تعريف اليهودي. وقد تزامن ذلك مع موجة من الهجرة من شـرق أوربا ضمت عـدداً كبيراً من الزيجات المُختلَطة. وفي عام 1957، قرر رئيس قسم تسجيل الهوية في وزارة الداخلية (وهو عضو في الحزب الديني القومي) ألا يقبل وصف المهاجر لنفسه بأنه يهودي باعتباره المقياس الوحيد معتبراً أنه معيار علماني ذاتي، وأصدر أمراً إدارياً للموظفين في إدارته بذلك. ورداً على ذلك، أصدر وزير الداخلية (وكان علمانياً من حزب اتحاد العمال «أحدوت هاعفود») قراراً في مارس 1958 يؤكد فيه التوجيهات القديمة التي تقبل المعيار الذاتي. فانسحب الحزب الديني القومي من الائتلاف الحاكم احتجاجاً. فقام بن جوريون بالكتابة إلى خمسين شخصية يهودية (دينية وفكرية) في أنحاء العالم يطلب إليهم الفتوى في هذا الأمر (وكان يشار إليهم بعد ذلك بوصفهم «حكماء إسرائيل»!). وجاءت الإجابات مشتملة على سائر التناقضات المتوقعة والتي لم يحسمها الفكر الصهيوني قبل قيام الدولة. فقد عرَّف القسم الأكبر منهم (37) الهوية اليهودية على أساس الشريعة، ولكن نفراً منهم تَبنَّى معيـار الاختيار الشـخصي (اليهودي هو من يعتبر نفسـه كذلك)، وتَبنَّى نفر آخر معيار القسر الخارجي، أي أن اليهودي هو من يعتبره الأغيار كذلك. ومع هذا، صدر عام 1959 توجيه إداري ينص على تعريف اليهودي بأنه الشخص الذي وُلد لأم يهودية، وذلك لاسترضاء الحزب الديني القومي حتى يعود إلى التحالف.

وقد ضـمت الوزارة التاليـة وزيـراً للداخلية من الحـزب الديني القومي، فأصدر توجيهات إدارية عام 1960 يُعرِّف فيها اليهودي بأنه من يثبت أن أمه يهودية أو أنه تَهوَّد حسب الشريعة وعلى يد حاخام أرثوذكسي. وقد وعد الحزب الديني بأن التعديل ستتم الموافقة عليه، ولكن الرأي العام الإسرائيلي أفشل هذه المحاولة.

ثم تفجرت القضية مرة أخرى بهجرة الأخ دانيال (أوزوالد روفايزين) الذي وُلد لأبوين يهوديين في بولندا، وانضم إلى المقاومة ضد النازية وأنقذ كثيراً من اليهود. وبعد أن قُبض عليه فرَّ إلى دير راهبات وعاش فيه متخفياً في زي راهبة حتى انتهت الحرب، فاعتنق المسيحية ودخل سلك الرهبنة، وهاجر إلى إسرائيل بموافقة الفاتيكان، وطلب اعتباره يهودياً بمقتضى قانون العودة. وقد عُرضت عليه الجنسية الإسرائيلية على أساس التجنس، ولكنه رفض وأصر على أن يحصل على الجنسية بموجب قانون العودة، أي باعتباره يهودياً. وقد ذكر في طلبه أن الشريعة اليهودية تقرر أن اليهودي لا ينسلخ بتاتاً عن دينه اليهودي مهما بلغت ذنوبه وذلك بحسب ما جاء في كتاب السنهدرين في التلمود. وقد ذكر الأخ دانيال أنه إذا كان بوسع الملحد أن يظل يهودي القومية، فمن باب أولى أن يُعتبَر هو (المسيحي) يهودياً!! وقد رفضت المحكمة العليا طلبه عام 1966، وقالت في حكمها إنه وفقاً للعرف المعمول به فإن كل من يغير دينه بدين آخر يُعَدُّ غير يهودي لأنه اختار أن ينفصل عن مصير الشعب اليهودي وتاريخه (ويُلاحَظ أن فكرة المصير هذه ستصبح بالتدريج ركيزة التعريف اللاديني الأساسية). وقد بيَّنت المحكمة أن حكمها هذا مناف للشريعة اليهودية وأكثر تشدداً منها، وأن الأخ دانيــال قد يكون يهودياً بحسب الشريعة،ولكن لا يمكن اعتباره يهودياً من منظور قانون العودة،أي أن المحكمة أخذت بتعريف لا ديني لليهودي،وجعلت أساس اليهودية الانتماء القومي.

ومن المفارقات، أن المؤسسة الدينية الأرثوذكسية كانت تقف ضد طلب الأخ دانيال، أي أنها أخذت موقفاً أكثر تشدداً من الشريعة ذاتها بل ومنافياً لها. وقد قيل في معرض نقد هذا الحكم إنه يتعلق بتعريف من هو غير اليهودي ولكنه لا يعرِّف اليهودي من قريب أو بعيد. ولم تترك القضية أثراً عميقاً في الدولة الصهيونية لأنها لم تؤثر على علاقتها بيهود العالم. بل وشعر كثير من الإسرائيليين بأنها لا تخصهم.

وأثيرت القضية مرة أخرى وبحدة عام 1968 حينما طلب الضابط بنيامين شاليط (المتزوج من إنجليزية غير يهودية رفضت التهود بسبب لا أدريتها) تسجيل أولاده باعتبارهم إسرائيليي الجنسية يهوديي القومية، على أن يُكتَب في بند الدين عبارة «لا يوجد»، أي أنه طلب الأخذ بالتعريف الإثني دون الديني. وحينما رُفض طلبه، رفع قضية في المحكمة العليا التي حكمت لصالحه عام 1970، وذكرت المحكمة في حكمها أن مصطلح «قومية» خاضع للتفسير العلماني، فأولاد شاليط ارتبطوا بمصير الشعب اليهودي وتاريخه. ومع هذا، أكدت المحكمة أن حكمها ينصب على الوضع المدني، أي على قانون العودة وقانون المواطنة والإجراءات الخاصة بالتسجيل، ولا ينصرف إلى الأحوال الشخصية (مثل الزواج والطلاق) التي تختص بها المحاكم الحاخامية. وقد رفض اليهود الأرثوذكس الأخذ بهذا الحكم، لأنه في تَصوُّرهم سيُقسِّم اليهود إلى قسمين: يهود مؤمنين ويهود غير مؤمنين. ولذا، صدر عام 1970 تعديل لقانون العودة، وعُرِّف اليهودي بأنه من وُلد لأم يهودية بشرط ألا يكون على دين آخر. ونص أيضاً على أن اليهودي هو المتهوِّد، وهو تعريف يعتمد الجانبين الإثني والديني، ولا يزال هذا التعريف هو المعتمد.

ومع هذا، أثار التعريف غضب الدينيين واللادينيين. كما أن جورج طامارين، المحاضر في جامعة تل أبيب، أثار جانباً آخر غير مُتوقَّع للقضية. فقد رأى أن التعريف الأخير تعريف ثيوقراطي، أي يستند إلى أساس ديني. ولذا، طالب بأن يُسجَّل في بند القومية لفظ «إسرائيلي» بدلاً من «يهودي». وقد رُفض طلبه بطبيعة الحال، لأن ذلك يعني رفض الصهيونية من أساسها.

أما الأرثوذكس، فلم يعجبهم التعريف الجديد إذ أنه يعترف ضمناً باليهود المتهوِّدين على يد حاخامات إصلاحيين ومحافظين، وهم في نظر الأرثوذكس ليسوا يهوداً، أو على الأقل مشكوك في يهوديتهم، ولذلك فهم يطالبون بإضافة عبارة «تهود حسب الشريعة» (بالعبرية: كاهالاخاه) أي على يد حاخام أرثوذكسي. وتحوَّلت القضية، من ثم، إلى من هو الحاخام؟ وقد قُدِّم إلى الكنيست مشروع قرار بهذا المعنى، رُفض في 16 يناير 1985، وتَسبَّب المعراخ أساساً في إسقاطه. والملاحَظ أن هذا التعديل الأخير المُقترَح سيثير من المشاكل أكثر مما يحلّ، فهو على سبيل المثال سيهز أحد الأسس التي يستند إليها التجمع الصهيوني، وهي فكرة «الوضع الراهن». والعبارة تشير إلى الوضع السائد في فلسطين إبان حكم الانتداب.وقد تَوصَّل الصهاينة الدينيون والصهاينة اللادينيون، عشية إنشاء الدولة، إلى اتفاق على أن الدولة الصهيونية ستلتزم بالشعائر والأعراف السائدة في ذلك الوقت في المجال الديني.ولا يزال الاتفاق يحكم مدى التزام الدولة بتنفيذ الشعائر الدينية.

وقد أثيرت عام 1987 قضية شوشانا ميلر المواطنة الأمريكية التي اعتنقت اليهودية على يد حاخام إصلاحي ثم هاجرت عام 1985 إلى إسرائيل، حيث رفضت وزارة الداخلية الإسرائيلية منحها الجنسية بمقتضى قانون العودة. وطلب إليها وزيرالداخلية أن تتهوَّد مرة أخرى على يد حاخام أرثوذكسي، فرفضت طلبه وتقدمت بشكوى إلى القضاء. ولحسم المسألة، اقترح الوزير أن يُكتَب على بطاقة تحقيق الشخصية الخاصة بالمتهوِّدين لفظة «متهوِّد» بدلاً من «يهودي»، سواء أكان التهود قد تم على يـد حاخام إصـلاحي أم على يـد حاخـام محافظ أم أرثوذكسي، فرفضت المواطنة ذلك أيضاً باعتبار أن هذا سيحولها إلى يهودية من الدرجة الثانية. وقد حكمت المحكمة لصالح الشاكية، فاستقال وزير الداخلية واتهم اليهود الإصلاحيين بأنهم « يقودون أمة إسرائيل إلى التهلكة ». ولكن الوزارة اضطرت في نهاية الأمر إلى تسجيل بعض مَنْ تهوَّدوا على يد حاخامات غير أرثوذكس باعتبار أنهم يهود.

وهناك حالات قامت فيها المحاكم الحاخامية بالتشكيك في يهودية بعض ضحايا الإبادة النازية الذين استقروا في إسرائيل، بل وهناك حالة قامت فيها السلطات الدينية بالرجوع إلى الأرشيف النازي للتأكد من هوية أحد اليهود.

وكأن مشاكل الهوية لا تنتهي، فقد طُرحت القضية من جديد وبحدة بالغة في فبراير 1988، حين حضر يهوديان اسمهما جيري وشيرلي بيرسفورد، ينتميان إلى جماعة دينية مسيحية تبشيرية اسمها رامات هاشارون، ويشبه وضعهما وضع الأخ دانيال من بعض الوجوه، ويختلفان عنه من البعض الآخر. فهما يهوديان بالمعنى الإثني وهما يؤمنان بالمسيح، تماماً مثل الأخ دانيال، ولكنهما يختلفان عنه في أنهما لم يتنصرا، أي لم يعتنقا الديانة المسيحية. ولا يبيِّن المصدر ما معنى هذه العبارة، وإن كان من الواضح أنها تعني أنهما آمنا بأن عيسى هو المسيح أو الماشيَّح المُنتظَر دون الإيمان ببنوته للرب.

وقد طُرح حل صهيوني للمشكلة باعتبار أن قانون العودة قانون سياسي صهيوني لمن يشاء، وقانون ديني لمن يشاء، ويمكن لكل فريق أن يفسره بالطريقة التي يراها، على أن تحتفظ السلطة الأرثوذكسية بسلطتها كاملة في أمور الأحوال الشخصية وفي عمليات التهويد التي تتم داخل إسرائيل. وتحاول بعض الأحزاب الدينية تَبنِّي موقف مماثل، لكنهم بدلاً من المطالبة بتغيير قانون العودة يطالبون بتغيير قانون المحاكم الحاخامية بحيث يصبح من صلاحياتها أن تقرر من هو اليهودي ومن هو غير اليهودي، بدلاً من وزارة الداخلية. وفي هذه الحالة، سيمكنها أن تسقط صفة اليهودية عن الحاخامات الإصلاحيين والمحافظين. ولكن جماعة حبد الأرثوذكسية ترفض مثل هذا الحل.

وفي تَصوُّرنا أن أزمة الهوية اليهودية ستتعمق ولن تُحسَم في المستقبل القريب لأسباب عديدة تتصل بالتطورات داخل المُستوطَن الصهيوني وخارجه. أما داخل المُستوطَن الصهيوني، فقد لوحظ، على عكس ما تَوقَّع المفكرون الصهاينة، أن التطورات والآليات الاجتماعية لم تؤد إلى صهر العناصر اليهودية الدينية واللادينية والإشكنازية والسفاردية وغيرها، وإنما ازدادت الصورة استقطاباً وتطرفاً. وإذا ما ركزنا على الجانب الديني مقابل العلماني، نُلاحظ ظهور هوية يهودية جديدة بالإضافة إلى عدم التجانس، وهي هوية الصابرا من الإشكناز التي يتسم أصحابها بسمات خاصة، كمعاداة العقل والفكر وحب العنف والتحلل من القيم الأخلاقية، بل إنهم يكنون احتقاراً عميقاً ليهود المنفى، أي يهود العالم كله (وقد كان المؤمَّل في الصابرا أن يكونوا الترجمة العملية لليهودي الخالص). وإلى جانب ذلك، يُلاحَظ تَزايُد معدلات العلمنة في التجمع الصهيوني (الذي وصفه أمنون روبنشتاين بأنه من أكثر المجتمعات إباحية على وجه الأرض). وبحسب بعض الإحصاءات، يبلغ عدد المواطنين الذين لا يؤمنون بالخالق 80% من كل الإسرائيليين. وهؤلاء ينظرون إلى الشعائر الدينية باعتبارها فلكلوراً قومياً. وتُعدُّ الأعياد الدينية بالنسبة إليهم أعياداً قومية، والعبرية ليست لغة الصلاة (اللسان المقدَّس) وإنما هي لغة البيع والشراء والجماع. وقد أصبح يوم السبت، وهو يوم راحة وتَعبُّد من الناحية الدينية، يوم صخب ولهو في الدولة التي يُقال لها «يهودية». ولا يراعي كثير من الإسرائيليين قوانين الطعام الشرعي، ويُقال إن نصف اللحم المستهلك في إسرائيل من لحم الخنزير.

لكل هذا، حينما عُرضت قضية جيري وشيرلي بيرسفورد على الرأي العام الإسرائيلي، قال 78% منهم إنه يجب منحهما الجنسية الإسرائيلية إن كانا صهاينة، وعلى استعداد لأن يرتبطا بالمصير اليهودي. ومعنى هذا أن الإسرائيليين استخدموا معياراً قومياً لا دينياً صرفاً، ولو تم الأخذ به سيظهر نوع جديد من اليهود الذين يؤمنون بالمسيح عيسى بن مريم، ولأصبح الأخ دانيال يهودياً برغم حكم المحكمة العليا.

مقابل هذا التعاظم في معدلات العلمنة، هناك تعاظم أيضاً في النزعة الدينية يتضح في هجوم المؤسسة الدينية على الصور والمظاهر الإباحية في إسرائيل، وإصرارها على إقامة شعائر السبت، وفي إصرارها على تعديل قانون العودة. وينعكس هذا الاستقطاب القومي في واقعة حرق اللادينيين معبداً يهودياً احتجاجاً على نشاط المتدينين. ويتضح الاستقطاب أيضاً في ظهور عاصمتين للتجمع الصهيوني؛ إحداهما علمانية تماماً في تل أبيب، والأخرى في القدس يتزايد فيها نفوذ الأرثوذكس. وفي مثل هذا الإطار، يصبح الإجماع القومي، أو حتى الهدنة الاجتماعية القومية بشأن تعريف الهوية اليهودية، أمراً مستبعداً. ومما يعمق المشكلة أن ثمة استقطاباً مماثلاً يحدث بين يهود العالم الذين تزداد بينهم معدلات العلمنة والزواج المُختلَط.

ويُلاحَظ أن مشكلة السفارد قد ازدادت تفاقماًً، خصوصاً مع ازدياد عددهم وازدياد ثقتهم بأنفسهم. فالتجمع الصهيوني يعتبرهم يهوداً وحسب ماداموا في بلادهم، وهذا جزء من حملته الإعلامية، ولكنهم يصبحون يهوداً شرقيين فور وصولهم إلى إسرائيل، إذ أن التجمع الصهيوني يحتاج إليهم باعتبار أنهم مادة بشرية قادرة على حل أزمة المصادر البشرية التي يعاني منها، وعلى العمل في قاعدة الهرم الاقتصادي الإنتاجية. لكن إصرار السفارد على الحراك الاجتماعي، باعتبارهم يهوداً بشكل عام، سيجعلهم يشغلون الدرجات العليا من الهرم، ويتركون قاعدته خالية يشغلها العرب. وبهذا تشتبك مشكلة الهوية مع واحدة من أعمق مشكلات التجمع الصهيوني،وهي مشكلة الإنتاجية،خصوصاً أن الصهاينة يدَّعون أن اليهودي الجديد شخصية منتجة على خلاف يهود المنفى الهامشيين المرابين.

وقضية الهوية اليهودية قضية محورية. فالدولة الصهيونية تكتسب شرعيتها، أمام نفسها وأمام الكثيرين، من ادعائها أنها دولة يهودية، لكن استمرار تَفجُّر هذ القضية يقوض دعائم هذه الشرعية. كما أن تعديل قانون العودة سيؤدي إلى استبعاد ما يقرب من 80% من يهود العالم (وربما أكثر) ممن يُعرِّفون اليهودي على أسس دينية ذاتية أو على أسس إصلاحية ومحافظة ولا يقبلون اليهودية الأرثوذكسية.

ومن القضايا الأخرى المرتبطة بقضية «من هو اليهودي؟» قضية «من هو الصهيوني؟»، وهل هو اليهودي الذي يهاجر إلى إسرائيل، أي من يمارس الصهيونية الاستيطانية أم اليهودي الذي يدعم المستوطن الصهيوني دون أن يهاجر ويكتفي بالصهيونية التوطينية؟ وهي قضية تمس الهوية ولكنها لا تصل في عمقها إلى قضية «من هو اليهودي؟».

وكل هذه العناصر والتوترات والتناقضات تجعل من العسير على اليهود أنفسهم تصديق مقولة الشعب اليهودي الذي يتجاوز الأزمنة والأمكنة والذي يحمل داخله جوهراً يهودياً. فقد أثبت الواقع العملي أنه لا يوجد جوهر واحد، بل هي سمات عديدة متنوعة بتنوع التشكيلات الحضارية والتاريخية التي يتواجد فيها اليهود. وقد أثُيرت القضية مرة أخرى مع وصول المهاجرين اليهود السوفييت. وكما بيَّنت المؤسسة الدينية، فإن معظمهم ليسوا يهوداً، فهم إما من أصل مسيحي تزوجوا من يهود أو هم من مدعي اليهودية. بل واتضح أن اليهودية بالنسبة لليهودي منهم لا تمثل سوى أصداء خافتة للغاية. ومع هذا، رحبت المؤسـسة الصهيونية بوصـولهم، فهي في حاجة ماسـة للمادة الاستيطانية. والحاجة نفسها هي التي تُفسِّر الترحيب بالفلاشاه موراه (وهم أشباه يهود تَنصَّروا بكامل إرادتهم منذ قرنين من الزمن). وكل هذه المؤشرات تدل على أن المؤسسة الصهيونية، نظراً لحاجتها للمادة البشرية الاستيطانية، قد تجعل من اليهودية قشرة رقيقة للغاية (مثل الانتماء المسيحي في جنوب أفريقيا) إذ أن المطلوب هو مادة استيطانية غير عربية يضمن الكيان الصهيوني لنفسه الاستمرار من خلالها.

ساجدة لله
2010-10-25, 05:22 AM
الأخ دانيـــــال (1922 ( –
Brother Daniel
راهب كاثوليكي وُلد لأبوين يهوديين، وكان يُدعَى عند مولده أوزوالد روفايزين. لجأ إلى دير كاثوليكي أثناء الاجتياح النازي لبولندا، ثم اعتنق المسيحية وعُمِّد وأصبح راهباً من الطائفة الكرملية. وفي عام 1958، أُرسل إلى دير جبل الكرمل في حيفا. وعند وصوله إلى إسرائيل، طلب منحه الجنسية الإسرائيلية بمقتضى قانون العودة الذي يُعرِّف اليهودي بأنه من وُلد لأم يهودية (دون إشارة إلى العقيدة). وقد بيَّن الأخ دانيال أنه إذا كان الشرع اليهودي يعترف بالملحد يهودياً، فمن باب أولى أن يعترف بالكاثوليكي يهودياً! وعندما رفضت وزارة الداخلية طلبه، رفع قضية في المحكمة العليا التي أيَّدت قرار وزارة الداخلية (خمسة أصوات ضد أربعة). وفي حكمها، اعترفت المحكمة بأن الشريعة اليهودية تُعرِّف اليهودي بأنه من وُلد لأم يهودية وأن المرتد عن اليهودية يظل يهودياً، ولكنها بينت أن قانون العودة قانون علماني، ومن ثم يجب تفسيره بما يتفق مع الفهم العام للكلمة، ولذا فالكلمة لابد أن تُفهَم بالطريقة التي يفهمها بها المواطن العادي، الذي يرى أن كون الإنسان يهودياً يتعارض مع الإيمان بعقيدة أخرى. ويستند هذا المعنى العادي اليومي، في تَصوُّر المحكمة، إلى التاريخ اليهودي والأهداف الصهيونية والرغبة الجماعية في الإبقاء على الصلة بين إسرائيل ويهود العالم (الدياسبورا). وقد عُدِّل قانون العودة بعد ذلك ليصبح تعريف اليهودي «من وُلد لأم يهودية ولم يَتبنَّ عقيدة أخرى». وقد حصل الأخ دانيال على الجنسية بمقتضى قانون التجنيس، وهي عملية لا تستند إلى قانون العودة.

وقد أدَّت حادثة الأخ دانيال إلى طرح قضية «من هو اليهودي؟» وهي قضية لم تجد حلاًّ حتى الوقت الحالي. ولعل الذين أثاروا قضية الأخ دانيال لم يدركوا أن الفيلسوف « اليهودي » ليف شستوف والمفكرة الدينية « اليهودية » إتي هلسوم والروائي «اليهودي» بوريس باسترناك كلهم كانوا يؤمنون بالمسيحية أو كانوا يؤثرونها كنسق ديني على اليهودية، ومع هذا تظهر أسماؤهم في الموسوعات اليهودية باعتبارهم يهوداً.


إديث شتاين (1891-1942(
Edith Stein
مساعدة الفيلسوف الألماني هُسرل. وُلدت لأم يهودية أرثوذكسية لم توفر تعليماً دينياً لأولادها، ولذا ألحدت إديث وهي في سن صغيرة. ثم قرأت السيرة الذاتية لحياة سانت تيريزا، وتأثرت بها تأثراً عميقاً، فتكثلكت وغيرت اسمها إلى تيريزيا بنديكتا. ويبدو أنها كانت تشير إلى نفسها على أنها يهودية (بمعنى أن اليهودي هو من وُلد لأم يهودية). وقد قبض عليها الجستابو عام 1942 وماتت في أوشفتس بعد ثمانية أيام من القبض عليها.

وقد أعلنت الكنيسـة الكاثوليكية عـام 1990 أن إديث شـتاين قديسة، فثارت ثائرة المؤسسة اليهودية لأن هذا ـ من وجهة نظرهم ـ يُعَدُّ محاولة للاستيلاء على أوشفتس باعتبارها رمزاً يهودياً (يحتكره اليهود وحدهم). كما أن المؤسسة اليهودية أشارت إلى أن إديث شتاين تم القبض علىها لأنها يهودية. والطريف في الموضوع أن الأخ دانيال، وهو يهودي تكثلك (تماماً مثل إديث شتاين)، وذهب إلى إسرائيل باعتباره يهودياً وطالب بالحصول على الجنسية الإسرائيلية حسب قانون العودة ورُفض طلبه. فكأن المؤسسة اليهودية في العالم الغربي هي التي تقرر من هو اليهودي، دون الالتزام بأية معايير إلا مصالحها وأهوائها.


استجابة أعضاء الجماعات اليهودية للتعاريف الصهيونيـة للهويات اليهودية
Response of the Members of the Jewish Communities to the Zionist Definitions of Jewish Identities
طرحت الصهيونية (في صيغتها اللادينية) نفسها كحركة لتطبيع اليهود، وطرحت مفهوم «اليهودي الخالص» صاحب الهوية اليهودية الحقيقية ليحل محل «يهودي المنفى» الذي يخفي هويته ويتقمَّص هوية الآخرين. والدولة الصهيونية التي يُقال لها «يهودية» ستكون هي المسرح الذي تتحقق عليه هذه الهوية. وقد قبل بعض الصهاينة الدينيين المشروع الصهيوني وتحالفوا مع اللادينيين على أمل أن تُتاح لهم الفرصـة بعـد ذلك أن يفرضوا رؤيتهم الدينية بحيث يصـبح «اليهودي الحقيقي » هو اليهودي حسب التعريف الأرثوذكسي. وقد أدَّى هذا إلى توترات عميقة بين الدولة الصهيونية من جهة والجماعات اليهودية في العالم، بكل ما تتسم به من تنوُّع وعدم تجانس، من جهة أخرى.

والصهيونية، كما بيَّنا، ترى أن الهوية اليهودية خارج المُستوطَن الصهيوني هوية ناقصة مريضة يجب إلغاؤها، وهذا ما يُسمَّى «نفي الدياسبورا» في المصطلح الصهيوني (أي تصفية الجماعات اليهودية أو استغلالها). وقد نجم عن ذلك صراع حاد بين أعضاء الجماعات اليهودية والمُستوطَن الصهيوني، إذ أن أعضاء الجماعات يرون أن هويتهم، أو هوياتهم اليهودية، ليست مريضة وإنما هي جديرة بالحفاظ عليها وتنميتها، في حين تحاول المؤسسة الصهيونية أن تقلل من شأنها وأن تجعل منها وقوداً يغذي الدولة الصهيونية. ولذا، فهي تجعل من الهجرة إلى فلسطين المحتلة والاستيطان فيها، المعيار الوحيد لتقييم مدى صهيونية اليهودي ومدى يهوديته. وهذه المشكلة تنفجر دائماً داخل المؤتمرات الصهيونية وخارجها.

1 ـ وانطلاقاً من المفهوم الصهيوني للهوية اليهودية الحقيقية، تتصرف الدولة الصهيونية أحياناً بطريقة لا تخدم صالح أعضاء الجماعات اليهودية وإنما تخدم مصالحها هي على حسابهم. وربما تكون حادثة بولارد نقطة مهمة في هذا الصراع، فهي تمثل تصادماً بين رؤيتين للهويـة: واحدة صهيونية والأخرى أمريكية يهودية. فتذهب الرؤية الصهيونية إلى أن الأمريكي اليهودي يهودي أولاً وأخيراً، ولذا لابد أن يخدم الدولة الصهيونية، في حين تذهب الرؤية الأمريكية اليهودية إلى أن الأمريكي اليهودي هو أمريكي في المقام الأول وله مصالح تختلف عن مصالح الدولة الصهيونية.

2 ـ عندما ينظر يهود العالم، خصوصاً المتدينين منهم، إلى الدولة التي يُقال لها «يهودية»، يكتشفون أن هويتها وهوية سكانها ليست يهودية على الإطلاق. فمعدلات العلمنة عالية للغاية بين الإسرائيليين، وهو الأمر الذي يصدم الزوار اليهود للدولة الصهيونية الذين يهربون من مجتمعاتهم الاستهلاكية ويحضرون إلى إسرائيل فيفاجأون بمجتمع إباحي مفتوح أكثر علمانية من المجتمعات غير اليهودية التي تركوها وراءهم. والواقع أن المجتمع الإسرائيلي بدأ، منذ السبعينيات، يتوجه توجهاً استهلاكياً حاداً لا يضبطه أي ضابط أخلاقي أو حضاري أو عقائدي. وهذه التساؤلات ليست مقصورة على المتدينين، فاليهود اللادينيون، أو المندمجون الذين لا يقيمون شعائر دينهم، يحاولون التمتع بشيء من الهوية والتجربة الدينية عن طريق إسرائيل. فبرغم أنهم يتمتعون تماماً بالاستهلاك والحضارة العلمانية في بلادهم، فإنهم يذهبون إلى إسرائيل ويدفعون لها الإعانات ليعيشوا تجربة دينية قومية (ولو بشكل مؤقت، وكأن إسرائيل ديزني لاند يهودية، على حد قول أحد الحاخامات). ولكن العلمانية الصريحة للدولة اليهودية تحرمهم من هذه المتعة وتلك الإثارة.

3 ـ كما يسأل اليهود المتدينون: بأي معنى يمكن إطلاق تسمية الدولة الصهيونية على الدولة اليهودية وهي تُسوِّي كل خلافاتها مع الآخرين عن طريق العنف العسكري ولا يمكن محاكمتها بمعايير أخلاقية يهودية؟ كما أن الطريقة التي يتم بها قمع الانتفاضة يصعب تسميتها «يهودية» مهما تحلى الإنسان بالكرم والخيال.

4 ـ يشكو اليهود المتدينون من أن التعريف الصهيوني للهوية اليهودية قد صادر الرموز والمصطلحات الدينية، بحيث يتصور كثير من اليهود الآن أن اليهودية والصهيونية أمران مترادفان، وأن المرء يمكنه أن يحقق هويته اليهودية عن طريق التبرع للدولة الصهيونية وعن طريق شراء سندات إسرائيل. وكما قال الحاخام ألكسندر شندلر: «يتصور بعض اليهود الآن أن إسرائيل هي معبدهم اليهودي وأن رئيس وزرائها هو حاخامهم الأكبر».
ولكن نقطة الاشتباك الكبرى بين أعضاء الجماعات والدولة الصهيونية هي في مجال تعريف هوية اليهودي والمعيار المُستخدَم في هذا التعريف، إذ تُصرُّ المؤسسة الدينية، مُمثَّلة في أحزابها الدينية، على تَبنِّي تعريف أرثوذكسي. وقد حدثت مواجهة سريعة بين يهود العالم والمؤسسة الدينية في حالة يهود الهند (بني إسرائيل) في الخمسينيات، وفي حالة يهود الفلاشاه في الثمانينيات، ومع القرّائين والسامريين عبر كل هذه السنوات. وكان جوهر المواجهة دائماً هو إصرار المؤسسة الدينية على التمسك بتعريفها لليهودي، والذي يستبعد أعضاء هذه الجماعات. وقد حُسمت هذه المواجهات إما بتهود أعضاء هذه الجماعات مرة أخرى حسب الشريعة، وإما بتراجعهم وقبولهم مرتبة ثانوية في الهرم الديني اليهودي. كما أن المؤسسة أبدت من جانبها شيئاً من المرونة تجاههم. ولكن كل هذه المواجهات كانت مع جماعات صغيرة لا نفوذ لها انفصلت منذ قرون طويلة عن اليهودية الحاخامية، ولذا لم تتسبب المواجهة في تفجير أزمة عامة ذات أثر عميق. أما المواجهة مع يهود الولايات المتحدة وروسيا وأوكرانيا وغيرهم من الجماعات اليهودية بشأن الموضوع نفسه، فهي مواجهة مهمة وعميقة لها أعمق الأثر في كل من الدولة الصهيونية وأعضاء الجماعات.

ولنفهم مدى عمق هذه المواجهة، لابد أن نتناول وضع الجماعات اليهودية في العالم. فلو نظرنا إلى الهويات اليهودية في أنحاء العالم الغربي خصوصاً في الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي حيث يتركز معظم يهود العالم لوجدنا أن ثمة هويات متعددة غير متجانسة مندمجة في مجتمعاتها تتفاعل معها بحيث أصبح الإطار المرجعي لهويتهم وأساسها هو تجربتهم التاريخية في أوطانهم وليس التعريف الصهيوني أو اليهودي وإن كان ثمة عنصر مشترك بينها فهو المرجعية العلمانية النهائية التي أدَّت إلى ظهور «الهوية اليهودية الجديدة» فهوية يهود أمريكا على سبيل المثال هوية أمريكية ذات أبعاد إثنية دينية يهودية هامشية والحديث الصارخ عن بعث الإثنية في الولايات المتحدة والتمسك بها إنما هو من قبيل الادعاءات اللفظية المريحة للغاية. فمفهوم الهوية في الإطار الأمريكي لا يختلف أبداً عن مفهوم الدين، وكل من الدين والهوية شيئان يمكن تَقبُّلهما شريطة أن يتم تهميشهما حتى لا يتعارضا مع أداء اليهودي في رقعة الحياة العامة ولا يهددا الانتماء إلى المجتمع الأمريكي. ولكن إذا استبعدنا الهوية والدين من الحياة العامة ومن الإحساس بالانتماء، فلا يبقى شيء سوى زخارف أو تسلية تُمارس في أوقات الفراغ من آونة لأخرى، ولا تشكل بعدًا حقيقيا في بناء شخصية المرء ولا في رؤيته للكون.
كما أن أوضاع أعضاء الجماعات في إنجلترا وفرنسا وجنوب أفريقيا لا تختلف في أساسياتها عن الصورة العامة السائدة بين أعضاء الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة. بل إن وضع يهود روسيا وأوكرانيا ينطبق عليه أيضاً مصطلح «يهود ما بعد الانعتاق» أو «الهوية اليهودية الجديدة»، فقد حصلوا على حقوقهم السياسية والمدنية، وتوجد أطر ومنابر يمكنهم من خلالهـا التعبير عما تبقَّى من هويتهم الشـرق أوربية. كما ينتشر بينهم الزواج المُختلَط (وهو من أهم معايير الاندماج) بدرجة تفوق أحياناً درجته في الولايات المتحدة. وقد صرح شارنسكي، بطل الصهاينة في الاتحاد السوفيتي، حينما أُفرج عنه واستقر في إسرائيل، بأن درجة اندماج اليهود في المجتمع السوفيتي « درجة مَرضية »، والمقصود أنها «عالية». ورغم أنه يستخدم معياراً صهيونياً للهوية، إلا أنه يعترف ضمنياً بحقيقة ارتفاع معدلات الاندماج. وإذا كانت بين يهود الاتحاد السـوفيتي (سـابقاً) أعداد كبيرة ترغب في الهجرة، فإن هذا يعود إلى بعض المشكلات الخاصة بالمجتمع الاشتراكي وبمجتمعات كومنولث الدول المستقلة. وعلى أية حال، فإن أغلبية من تتاح له فرصة مغادرة روسيا وأوكرانيا، يهاجر إلى الولايات المتحدة، ولا تهاجر سوى أعداد صغيرة إلى إسرائيل. وحتى هؤلاء الذين يصلون إلى هناك يكتشفون أن هويتهم وطموحاتهم تختلف عن الهوية اليهودية كما عَرَّفها الصهاينة. بل إن يهود روسيا وأوكرانيا الذين يصلون إلى الولايات المتحدة يكتشفون أنهم روس، ومن ثم لا يختلطون باليهود في الولايات المتحدة ولا يندمجون فيهم وإنما يندمجون في المجتمع الأمريكي. بل ويُقال إن الإسرائيليين المهاجرين إلى الولايات المتحدة يظلـون أيضـاً بمعزل عن يهود الولايات المتحدة ولا يتزاوجون معهـم، إذ يكتشفون أنهم إسرائيليون وليسوا مجرد يهود.

ساجدة لله
2010-10-25, 05:22 AM
وبشكلٍّ عام، يمكن القول بأن القيم العلمانية تنتشر في الوقت الراهن بين أغلبية يهود العالم، فهم إما منصرفون عن الدين تماماً وإما يتبنون الصيغ المخففة منه والمتمثلة في اليهودية الإصلاحية والمحافظة، ولم يَعُد بينهم سوى أقلية أرثوذكسية. ففي الولايات المتحدة، يبلغ عدد اليهود الإصلاحيين والمحافظين مليونين ولا يوجد سوى 400 ألف أرثوذكسي. أما بقية اليهود، فهم إما لاأدريون أو غير مكترثين باليهودية، ولكنهم يلجأون إلى حاخامات إصلاحيين أو محافظين في أمور الزواج وغيره. وربما تكون درجة علمنة يهود روسيا وأوكرانيا أعلى من ذلك بكثير. ومع هذا، وبرغم علمنة هؤلاء اليهود، وبرغم ابتعاد المتدينين منهم عن الأرثوذكسية، فإنهم يتمسكون ببقايا هويتهم الإثنية، ربما بتأثير الصهيونية. ولذا، فهم يصرّون على تسمية أنفسهم «يهود» برغم انصرافهم عن العقيدة، ثم يطالبون بتبني تعريف تعددي لليهودية، أي بأي تعريف يروق لهم بحيث يتم قبول أي يهودي يرى أنه يهودي. وهم ينظرون إلى الدولة الصهيونية باعتبارها دولة تعددية يهودية، بالمعنى الإثني، يمكنهم تحقيق هويتهم من خلالها. وفي هذا الإطار، ليس من المستغرب أن يؤدي التعديل المقترح لقانون العودة (بحيث يعرَّف اليهودي بأنه «المتهوِّد بحسب الشريعة» أي على يد حاخام أرثوذكسي) إلى تفجير التناقضات الكامنة إذ أنه، في واقع الأمر، يستبعد أغلبية المتهوِّدين وعائلاتهم في الولايات المتحدة. ومن المعروف أن عشرة آلاف أمريكي يتهوَّدون سنوياً نظراً لزواجهم من أقران يهود، ولا يتهود سوى ألف منهم أمام محاكم أرثوذكسية، أما الباقون فيتهوَّدون على يد حاخامات إصلاحيين ومحافظين، ولا تعترف الحاخامية في إسرائيل بهم كيهود.

وهناك مشكلة أخرى أُثيرت عدة مرات ولن يحسمها التعريف الجديد حتى لو تم تبنيه. فالحاخامات الأرثوذكس يطلبون ما يُسمَّى «جيط» من كل يهودية مُطلَّقة، أي شهادة طلاق من محكمة شرعية يهودية ليصبح الطلاق شرعياً، وهو تقليد أبطله الحاخامات الإصلاحيون. ولذا، فإن أية يهودية مُطلَّقة تتزوج دون أن تحصل على شهادة طلاق شرعي، يُعتبَر أطفالها (بحسب التصور الأرثوذكسي) غير شرعيين، حتى لو كانت هي يهودية معترفاً بيهوديتها من المؤسسة الأرثوذكسية. ولهذا، فمن المتوقع أن تتفاقم المشكلة بسبب ازدياد معدلات الطلاق غير الشرعي بين اليهود في الخارج، سواء في الولايات المتحدة أو في كومنولث الدول المستقلة (الاتحاد السوفيتي سابقاً)، وبسبب جهل كثير منهم بقضية الجيط هذه!

ويدرك أعضاء الجماعات اليهودية، خصوصاً في الولايات المتحدة، المضمون الخفي الكامن وراء تعديل قانون العودة تماماً، والمحاولة الرامية إلى ذلك. ومن هنا كانت حدة استجابتهم لهذه المحاولة إلى درجة أدهشت القيادات في اجتماع لمجلس الفيدراليات الأمريكية الذي خُصِّص لمناقشة هذه القضية (1988)، ومجلس الفيدراليات هو التنظيم الذي يضم سائر التنظيمات اليهودية الأمريكية. فعندما حاولت القيادة التقليل من أهمية التعديل المقترح والتهوين من شأنه، ثارت القاعدة وأعلنت سخطها وأعلنت كذلك عن نيتها أن تترجم هذا السخط إلى فعل ضد إسرائيل. بل إن بعضهم اشتكى إلى نوابهم في الكونجرس الأمريكي من التعديل المزمع، وقام هؤلاء النواب، وبعضهم من غير اليهود، بنقل شكوى ناخبيهم من اليهود إلى حكومة الدولة اليهودية. وتتحدث الصحف الإسرائيلية عن احتمال أن تُناقَش المسألة في الكونجرس الأمريكي عند مناقشة المعونة الأمريكية لإسرائيل. وهكذا، فبدلاً من أن تستخدم الدولة الصهيونية الدياسبورا أداة للضغط على الولايات المتحدة لتحقيق مصالحها، يقوم أعضاء الجماعة الأمريكية اليهودية بالضغط على الدولة الصهيونية من خلال الولايات المتحدة للحفاظ على مصالحهم. ويُقال إن استجابة يهود الولايات المتحدة لتعديل قانون العودة يشبه في حدته استجابتهم لحرب 1967، حين أحسوا بالفخر الشديد لانتصار القوات الإسرائيلية، أي حين تضخمت هويتهم اليهودية المزعومة بسبب انتصار جيوش الدولة اليهودية. وقانون العودة يمس هذه الهوية، ذلك أن تعديله ينزع عنهم هويتهم هذه ويجعل منهم مجرد يهود إصلاحيين أو محافظين، أي يهود من الدرجة الثانية. ويجب ملاحظة أنه بينما أصبحت اليهودية، بالنسبة إلى معظم سكان المُستوطَن الصهيوني مسألة قومية وليست دينية محضة (ولهذا فهم لا يكترثون بموقف المؤسسة الأرثوذكسية)، فإن الأمر جد مختلف بالنسبة إلى يهود العالم، فيهوديتهم برغم علمانيتهم الواضحة لا يمكن أن تُعرَّف تعريفاً قومياً وحسب، حيث يتنافى هذا مع انتمائهم القومي. ولذلك، يظل البُعد الديني، برغم شكليته وضموره، أكثر أهمية بالنسبة إليهم من أهميته بالنسبة إلى الإسرائيليين.

ومن إنجازات الانتفاضة أنها، بوصولها إلى الإعلام الخارجي، قد حوَّلت النضال الفلسطيني من قضية سياسية أو أخلاقية إلى قضية إعلامية تمس صورة اليهودي وبالتالي هويته ورؤيته لها. ولعل الأفلام اليومية على شاشة التليفزيون الأمريكي قد ساعدت على تهيئة الجو لثورة الأمريكيين اليهود، وغيرهم من أعضاء الجماعات، على القيادات الصهيونية ورفضهم تعديل قانون العودة.

وثمة تَطوُّر ثالث شديد الأهمية يتمثل في البقعة التي يلتقي فيها يهود العالم بالمُستوطَن الصهيوني: أي المنظمة الصهيونية العالمية. فقد شهد العقدان السابقان صهينة قطاعات كبيرة من يهود الولايات المتحدة كانت ترفض الصهيونية من قبل. فاليهودية الإصلاحية التي تشجع الاندماج، كانت ترفض الصهيونية بشكل عقائدي عند نشأتها، كما كان بعض مفكري اليهودية المحافظة يرفضونها. ولكنهم، بمرور الزمن، تناسوا هذه الاعتراضات وانتهى بهم الأمر إلى الانضمام إلى المنظمة الصهيونية العالمية. هذا، بينما يُلاحَظ أن الجماعات اليهودية الدينية، وضمن ذلك بعض الأحزاب الدينية في إسرائيل، إما معادية للصهوينة وإما غير صهيونية وغير مُمثَّلة في المنظمة الصهيونية.

وقد انعكس هذا الوضع على انتخابات المؤتمر الصهيوني الحادي والثلاثين (1987) التي أسفرت عن فوز أغلبية من حزب العمال الإسرائيلي وممثلي اليهود الإصلاحيين والمحافظين والعلمانيين. وهذه هي المرة الأولى التي لا يعكس فيها تكوين المنظمة الصهيونية موازين القوى داخل الدولة الصهيونية. وقد قضى المؤتمر (291 صوتاً ضد 271 صوتاً) بضرورة المساواة الكاملة بين جميع اتجاهات اليهودية، الأمر الذي أدَّى بحركة المزراحي (الصهيونية الدينية) إلى التهديد بإعادة النظر في وضعها داخل الحركة الصهيونية. والواقع أن هذا الوضع يناقض الوضع داخل الدولة الصهيونية حيث يتنامى نفوذ الأحزاب الدينية.

وقد أثار وصول المهاجرين السوفييت مشكلة الهوية مرة أخرى. فعدد اليهود السوفييت حسب آخر إحصاء هو 1.500.000 وحسب، فمن أين أتت الأعداد الضخمة، خصوصاً ونحن نعرف أن اليهود السوفييت حققوا معدلات عالية من الاندماج وأنهم جماعة مسنة؟ ولتفسير هذا نذهب إلى أن اليهود الذين يهاجرون إلى إسرائيل يضمون في صفوفهم عدداً كبيراً من اليهود المتخفين الذين كانوا قد فقدوا علاقتهم باليهودية تماماً ولم يسجلوا أنفسهم كيهود، ولكنهم اكتشفوا مؤخراً أن مسألة الانتماء اليهودي مسألة مربحة وأنها ستضمن لهم تأشيرة خروج من الدولة السوفيتية وتأشيرة دخول إلى الدولة الصهيونية. ولعل هذه هي المرة الأولى في التاريخ التي يظهر فيها مثل هذا الموقف: أن يكون في صالح المرء أن يكتشف جذوره اليهودية ويعلنها ويوظفها. وأشباه اليهود هؤلاء غير مختنين وغير متزوجين من يهوديات وأولادهم غير يهود ولا يربطهم باليهودية سوى أن لهم جداً مدفوناً في موسكو (على حد قول أحد الحاخامات الإسرائيليين). كما أن هناك فريقاً آخر ممن نسميهم مدَّعي اليهودية، وهؤلاء ليسوا يهوداً ويشترون شهادة ميلاد تثبت أنهم يهود. وهذه الآلاف تصل إلى إسرائيل وتطالب بالجنسية حسب قانون العودة. ويُقال إن نسبتهم بين المهاجرين يمكن أن تصل إلى 30% وقد بدأت المؤسسة الحاخامية تحذر من أن إسرائيل قد تصبح دولة غير يهودية. ولكن المؤسسة الإشكنازية الحاكمة (اللادينية) لا تجد أية غضاضة في استقبال هؤلاء المهاجرين ماداموا سيحلون المشكلة السكانية لإسرائيل، ولا تمانع في تَقبُّل التعريف العلماني الذي وضعه شارانسكي لليهودي باعتباره من يشعر أنه يهودي مُضطهَد. وهو تعريف لا تأخذ به، بطبيعة الحال، المؤسسة الحاخاميــة. ولهـذا أُسِّــست محكمــة شرعــية في موسكــو للتحقــق من الهـوية اليهــودية للمهاجرين، الأمر الذي يثير حفيظتهم ويؤدي إلى احتجاج العناصر اللادينية في إسرائيل.

وتُعتبَر الأزمة التي تعتمل داخل الدولة الصهيونية، وفي صفوف الجماعات اليهودية في العالم، نتيجةً لمحاولة تَبنِّي التعريف الديني أو التعـريف اللاديني الصـهيوني للهـوية، أمراً طـبيعياً ومتوقعاً. فهذا التعريف لا يأخذ في الاعتبار تموجات التاريخ وتعرجاته ولا ينبع منها، ويتجاهل التركيب الجيولوجي للعقائد والجماعات اليهودية، كما أنه مجرد تعريف عقائدي يفرض نفسه فرضاً على واقع متنوع. فهو يفترض وجود هوية يهودية واحدة رغم وجود هويات يهودية عديدة متنوعة أهمها «الهوية اليهودية الجديدة» التي تُهمِّش العنصر اليهودي. والتعريف الصهيوني يرى أن اليهود شعب واحد له تاريخ واحد، وهم في واقع الأمر جماعات منتشرة لها تجارب تاريخية متنوعة ذات انتماءات قومية وإثنية وطبقية ودينية متعددة. كما أن أعضاء هذه الجماعات، حين يستوطنون فلسطين المحتلة، يحملون معهم انتماءاتهم وتجاربهم التاريخية، شاءوا أم أبوا. وحينما يتبنون تعريفاً صهيونياً لهويتهم، تنفجر الأزمة إذ تكتشف أغلبيتهم العظمى أنهم ليسوا يهوداً أو أن يهوديتهم مشكوك فيها بل ومرفوضة،كما حدث ليهود بني إسرائيل والفلاشاه، وكما سيحدث ليهود الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي لو تم تعديل قانون العودة.

ساجدة لله
2010-10-25, 05:22 AM
الباب الرابع: اليهود والجـماعات اليهودية


اليهـود : مشكلـة التعريــف
The Jews: The Problem of Definition
كلمة «يهودي» هي من أكثر الدوال إشكالية رغم بساطتها، فكلمة «يهودي» يمكن أن تُستخدَم للإشارة إلى العبرانيين القدامى باعتبارهم جماعة عرْقية أو إثنية (قوم) أو باعتبارهم جماعة دينية (شعب مختار). ثم تُستخدَم الكلمة للإشارة إلى اليهود الحاخاميين والقرّائين والسامريين ويهود الصين وإثيوبيا.

ويُشار إلى اليهود باعتبارهم شعباً مقدَّساً في التراثين الدينيين المسيحي واليهودي. وبعد ظهور العلمانية، أصبحوا شعباً عضوياً يُشار إليهم بوصفهم «الشعب اليهودي» أو بالمعنى اللاديني مجرد «اليهود» (بالإنجليزية: جوري Jewry ). ويُشار إلى السفارد والإشكناز والصابرا ويهود الولايات المتحدة على أنهم «يهود». وتزداد الأمور اختلاطاً حينما يُستخدَم الدال «يهودي» للإشارة إلى يهود العالم وإلى صهاينة العالم والمستوطنين الصهاينة في إسرائيل. ولعل المصدر الأساسي لهذا الخلط هو التراث الإنجيلي الذي يتحدث دائماً عن اليهود ككل باعتبارهم «الشعب»، وهي طريقة للرؤية ورثها العالم الغربي ككل.ولذا، نجد أن المحايدين العلميين والمعادين لليهود والصهاينة المتحيزين كلهم يتحدثون عن اليهود ككل.

وغني عن القول إن استخدام الدال «يهودي» بهذه الطريقة يجعله عديم الفائدة، إذ يشير إلى حقل دلالي متضارب ومدلولات مختلفة. وسنحاول في مداخل هذا المجلد أن نحدد الحقل الدلالي لبعض المصطلحات السائدة وأن نقترح مصطلحات جديدة لتحل محل مصطلح «يهودي».

اليهود بوصفهم كُلاًّ متماسكاً
Jewry
«اليهود بوصفهم كُلاًّ متماسكاً» هي ترجمتنا للكلمة الإنجليزية «جوري »Jewry»، والتي كانت تُستخدَم أصلاً للإشارة إلى الجيتو أو الشارع أو الحي الذي يسكنه اليهود. وهي تشير إلى اليهود من حيث هم كُلٌّ متماسك لا من حيث هم جماعات شتى لكل منها انتماؤها العرْقي أو الإثني أو الحضاري وتضم في صفوفها أعضاءً يهوداً لكلٍّ طموحاته وتصوراته الخاصة به. والكلمة تفترض أن هناك علاقة عضوية بين أعضاء الجماعات اليهودية في العالم، وأنهم يخضعون للحركيات نفسها التاريخية التي تَجبُّ الانتماءات المختلفة والتناقضات الكامنة والظاهرة. وتُوجَد كلمات مماثلة في اللغات الأوربية الأخرى، مثل جويفيري Juiverie الفرنسية، وجويديتشا Guidecca الإيطالية.
ويحبذ الصهاينة استخدام هذا المصطلح لأنه يُعبِّر عن رؤيتهم ونموذجهم التفسيري. وهذا المصطلح لا يختلف كثيراً في تضميناته عن مصطلحات مثل «الشعب اليهودي» أو «الشعب العضوي»، فهي جميعاً تشير إلى كلٍّ عضوي متماسك.

الشــعب اليهـودي
The Jewish People
«الشعب اليهودي» عبارة تفترض أن اليهود شعب بالمعنى القومي أو العرْقي للكلمة، كما تفترض أن لديهم قوميتهم اليهودية المستقلة. ويستطيع القارئ أن يعود إلى مدخل «القومية اليهودية» و«الجماعات اليهودية».

الشـــــعب
The People
«الشعب» كلمة تتواتر في الأدبيات الدينية اليهودية والمسيحية وفي الدراسات الدنيوية أيضاً. ويختلف معنى الكلمة في السياق الديني عنه في السياق الدنيوي والتاريخي. فهي في السياق الديني تعني «جماعة دينية» ترتبط بميثاق بينها وبين الإله وتنتفي عنها صفة الشعب بعدم تنفيذها العهد. وهذا الشعب قد يرى نفسه شعباً مختاراً أو شعباً مقدَّساً أو أمة الروح أو الأمة المقدَّسة أو الشعب الأزلي أو المفضل على العالمين، ومن أسمائه «بنو يسرائيل» و«شعب يسرائيل». وترى الكنيسة المسيحية أن المسيحيين هم الشعب الحقيقي وأن اليهود قد تحولوا إلى مجرد «شعب شاهد».

أما في السياق الدنيوي، فالأمر أكثر تركيباً، حيث يعني «الشعب» مجموعة القبائل العبرانية التي تسللت إلى كنعان ثم اتحدت في المملكة العبرانية المتحدة ثم انفكت إلى مملكتين: المملكة الشمالية والمملكة الجنوبية. وقد اعتبره اليونانيون والرومان «إثنوس» أي قوماً يترأسهم رئيس القوم (إثنآرخ)، ثم تحولوا إلى جماعات يهودية مختلفة منتشرة. وفي العصر الحديث، عاد الحديث بين الصهاينة عن «الشعب اليهودي» أو «الشعب العضوي (فولك)». وقد قمنا بوضع مصطلح «الشعب العضوي المنبوذ» لوصف رؤية العالم الغربي للجماعات اليهودية.
الجماعــات اليهوديــة
Jewish Communities
«الجماعات اليهودية» مصطلح نستخدمه في هذه الموسوعة بدلاً من مصطلح «اليهود». ونحن نذهب إلى أن العبرانيين (والعبرانيين اليهود)، أي اليهود القدامى، كانوا يشكلون وحدة ثقافية وإثنية تتسم بقدر من التماسك والتجانس والوحدة. ولكن، مع انتشار اليهود في أرجاء العالم في مجتمعات مختلفة، لكلٍّ تقاليدها الحضارية والدينية، وتواريخها، تَفاعَل اليهود مع هذه التقاليد والتواريخ وخضعوا لمؤثراتها، شأنهم شـأن كل الأقليات والبشـر. وقد بدأت عملية الانتشـار مع التهجير البابلي، ولكن وتيرتها تصاعدت مع ظهور الحضارة الهيلينية والرومانية. وقد اكتملت عملية الانتشار والتَفرُّق مع هدم الهيكل في عام 70م على يد تيتوس، وكذلك سقوط العبادة القربانية المركزية وأية سلطة دينية مركزية يهودية. وقد تَحوَّل اليهود نتيجة هذه العملية إلى جماعات مختلفة متفرقة غير متجانسة. ونحن نفضل استخدام مصطلح «جماعات يهودية» على مصطلح «يهود» لأن المصطلح الأخير يؤكد التَماسُك والتَجانُس والوحدة حيث لا تَماسُك ولا تَجانُس ولا وحدة.

وإذا حاول الدارس أن يدرس أعضاء الجماعات اليهودية في القرنين العاشر والحادي عشر الميلاديين كيهود وحسب فإنه سيحاول دون شك أن يرصد عناصر الوحدة بين هؤلاء اليهود. ومع أن هناك عناصر مشتركة قد تجمع بين هذه الجماعات، إلا أنها ليست في أهمية العناصر غير المشتركة من الناحية التفسيرية والتصنيفية. ولعل الاستعراض التاريخي الجغرافي للجماعات اليهودية يوضح هذه النقطة، فقد كانت الجماعات اليهودية في كل أنحاء العالم، في القرنين العاشر والحادي عشر، تُوجَد داخل عدة تشكيلات حضارية سياسية مستقلة وسمت كل جماعة بميسمها. وقد أصبح أعضاء الجماعات اليهودية في أوربا أقنان بلاط وتجاراً ومرابين داخل النظام الإقطاعي، بل وبدأوا يواجهون مشكلة ظهور طبقات تجارية ومالية محلية. أما يهود العالم الإسلامي فلم يتسموا بتَميُّز وظيفي حاد بل وشاركوا في الثورة التجارية التي ظهرت آنذاك، وكانوا من الناحية الثقافية جزءاً لا يتجزأ من محيطهم الحضاري كما هو واضح في العصر الذهبي في الأندلس. وقد كانت أعداد من يهود فارس (وربما الهند) قد بدأت تستقر في الصين لأسباب تتصل بالحضارة الصينية (وهو تَزايُد الحاجة إلى المنسوجات الحريرية). وكان يهود الخزر قد تبعثرت دولتهم بسبب صعود القوة السلافية الروسية وتَنصُّرها، ولكنهم كانوا يشاركون في تأسيس المجر. وكان يهود الفلاشاه قد أصبحوا جزءاً من التشكيل الحضاري الأفريقي في إثيوبيا، وكونوا قبيلتهم بل ومملكتهم وانخرطوا في الحروب القَبَلية المختلفة. ولا يمكن لإطار واحد أن يشمل كل هذه الظواهر. ولفهم سلوك هذه الجماعات وحركتها ومصيرها، لابد من العودة إلى التشكيلات الحضارية التاريخية التي كانوا يُوجَدون فيها، لا إلى جوهر يهودي يتجاوز الزمان والمكان ويشكل وحدتها الجوهرية أو إلى تاريخ يهودي يتطور حسب قوانينه الداخلية ويتطور اليهود في إطاره منعزلين عن تواريخ الجماعات التي يعيشون بين ظهرانيها.

وقد ازداد عدم التجانس بين الجماعات اليهودية بعد القرن الحادي عشر على المستويين الديني والاجتماعي، حيث تَعمَّق التوحيد في النسق الديني اليهودي في العالم الإسلامي، بينما تَعمَّق العنصر الحلولي الكموني في اليهودية الغربية وظهرت عناصر الثنوية والشرك مع هيمنة التراث القبَّالي. بينما كان يهود العالم الإسلامي يزدادون اندماجاً وتَحضُّراً، كان يهود العالم الغربي يزدادون انعزالاً وتَخلُّفاً. ولكن، مع الصعود الاقتصادي للعالم الغربي بعد الثورة التجارية والصناعية والرأسمالية، نجد أن يهود الغرب مارسوا تحولاً عميقاً ولعبوا دوراً في هذه العملية التي لم تترك أي أثر في يهود الدولة العثمانية أو يهود كوشين في الهند على سبيل المثال.

وفي العصر الحديث، نجد أن اليهود الأرثوذكس يُكفِّرون الإصلاحيين والمحافظين والتجديديين. ويوجد الآن فريق من اليهود المسيحيين الذين يؤمنون بالمسيح باعتباره الماشيَّح دون الاعتراف بألوهيته. كما أن غالبية يهود العالم إما ملحدون أو لاأدريون أو غير مكترثين بالدين. ويهود الفلاشاه لا يعرفون التلمود ويتعبدون بالجعزية، مع أن التلمود يُشكل العمود الفقري لليهودية الحاخامية (أي اليهودية الأرثوذكسية(.

وكل جماعة يهودية لها مشاكلها الخاصة النابعة من وجودها داخل بناء تاريخي مستقل، فيهود الفلاشاه يواجهون مشكلة المجاعات التي تجتاح أفريقيا في الآونة الأخيرة كما بدأوا يواجهون مشكلة التحديث في إسرائيل. أما يهود اليمن، فهم يواجهون مشكلة عدم توافر المعلمين الدينيين والكتب الدينية بسبب انقطاع صلتهم بمراكز الدراسات الحاخامية في الغرب، كما يواجهون مشكلة أن اليمن بلد عربي في حالة صراع سياسي حاد مع دولة تُسمِّي نفسها «الدولة اليهودية». وهم يعانون أيضاً من التَدخُّل الدائم من المنظمة الصهيونية التي تحاول إنقاذهم شاءوا أم أبوا. واليهود القرّاءون في إسرائيل يواجهون مشكلة وجودهم في مجتمع تسيطر عليه المؤسسة الحاخامية التي لا يعترفون بها، وكذلك مشكلة تَزايُد معدلات العلمنة. أما القرّاءون في الاتحاد السوفيتي، فيواجهون مشاكل مختلفة. ومشاكل كلا الفريقين تختلف عن تلك التي يواجهها اليهود القرّاءون في مصر أو في الولايات المتحدة. واليهود السامريون في نابلس يواجهون مشاكل فريدة باعتبارهم أصغر أقلية دينية في العالم لا تزال محتفظة بعبادتها القربانية المرتبطة بجبل جريزيم. ومشاكل يهود جورجيا تختلف عن مشاكل يهود الكرمشاكي أو يهود أوكرانيا أو يهود بيروبيجان. ويواجه يهود الولايات المتحدة مشاكل من بينها الخوف من الاندماج (الهولوكوست الصامت) نتيجة تقبل المجتمع لهم ونجاحهم فيه. وهذا التقبل والنجاح يسبب لهم مشاكل مع السود، فالسود متركزون في المدن نفسها التي يوجد فيها اليهود وعادةً ما يشغلون «الجيتو» الذي كان يشغله المهاجرون اليهود قبل أن يحققوا الحراك الاجتماعي وينتقلوا إما إلى جيرة أفضل أو إلى الضواحي. فحي هارلم الشهير كان حياً يهودياً يجعل من « المالك اليهودي » ممثلاً للرأسمالية الأمريكية المستغلة أمام الأمريكيين السود، الأمر الذي يسبب كثيراً من المشاكل للجماعة اليهودية ككل. كما أن تَزايُد وعي السـود بأنفسـهم، وبقوتهم ورغبتهم في المشـاركة في السلطة، يجعل احتكاكهم باليهود أكثر حدة بسبب تَركُّز الجماعتين في الأماكن نفسها. ويواجه يهود هولندا مشكلة عدم الامتزاج بين الإشكناز والسفارد حتى أن كل طائفة لها مدارسها. وكلا الفريقين يواجه مشاكل ناجمة عن تَصاعُد معدلات العلمنة في هولندا. ويجابه أعضاء الجماعة اليهودية في فرنسا مشاكل الانقسام، فالمهاجرون اليهود من البـلاد العربية لا يتزوجون في كثير من الأحوال من يهود فرنسا الأصليين، وإن كانت هذه الظاهرة قد بدأت تقل.

كما نجد أن الجماعات اليهودية لا تعترف أحياناً الواحدة بالأخرى. وتتضح هذه الظاهرة بحدة في أمريكا اللاتينية حيث حافظت كل جماعة يهودية على هويتها وبالتالي كان الصدام حاداً بين الجماعات، خصوصاً بين السفارد والإشكناز. وفي سويسرا، يجابه اليهود مشكلة أن الذبح الشرعي محظور منذ أمد طويل مع أن سويسرا هي مقر كثير من المنظمات اليهودية. وفي إنجلترا، يجابه الجيل اليهودي القديم مشكلة انصراف اليهود عن التعليم اليهودي والتقاليد اليهودية، فخمسة في المائة فقط من الأطفال اليهود يدخلون مدارس يهودية و75% يدرسون موضوعات اليهودية في مدارس الأحد و20% لا يتلقون أية ثقافة يهودية على الإطلاق. والواقع أن مشكلة التعليم و «الانتماء اليهودي» على وجه التحديد هي مشكلة تواجهها جميع الجماعات اليهودية في الغرب، وسببها ازدياد علمانية هذه المجتمعات وانتشار العقلية الاستهلاكية التي لا تهتم كثيراً بالتاريخ أو التراث أو الهوية. ومما يزيد المشكلة حدة أن الجيل الجديد يدخل طرفاً في زيجات مُختلَطة، الأمر الذي لابد أن يؤدي إلى تَناقُص عدد أعضاء الجماعة. كما أن أعضاء الأجيال الجديدة يحجمـون عن الزواج بشـكل عام، وإن تزوجـوا فهـم يُحجمون عن الإنجاب. ومن الملاحَظ أن متوسط أعمار اليهود في كثير من بلدان الغرب أعلى من متوسط العمر في هذه البلدان بسبب اختفاء العناصر الشابة. وكل هذا يهدد بموت الشعب اليهودي وهي مشكلة لا يعاني منها اليهود الشرقيون بعد.

إن مشاكل الجماعات اليهودية متنوعة ونابعة من وجودها في مجتمعات مختلفة ذات مستويات مختلفة من التقدم والتخلف. ولكن استخدام اصطلاح «يهود» على إطلاقه لن يساعد كثيراً على التحليل والتفسير. ومن هنا، فإننا نرى أن كلاًّ من العقيدة اليهودية والهوية اليهودية هما، في واقع الأمر، عقائد وهويات تأخذ شكل تركيب تراكمي جيولوجي يحوي داخله طبقات غير متجانسة تعيش بعضها فوق بعض. (وإذا ما أطلقنا على هذا اسم «يهود» و«يهودية» لكان في الأمر تعسف وليٌّ لعنق الواقع لا يساعدان كثيراً على فهم الظاهرة). ولذا، فنحن نشير إلى العقائد وإلى الجماعات اليهودية، بحيث تؤكد كلمة «جماعات» على استقلال كل جماعة وعلى خضوعها لحركيات تاريخية وحضارية مختلفة.
كما أن لفظ «جماعة» أفضل من لفظ «طائفة» أو «أقلية». فلفظ «طائفة» يشير عادةً إلى طائفة دينية، بينما يؤكد لفظ «أقلية» الجانب الكمي للظاهرة. أما كلمة «جماعة»، فهي وإن كانت لا تؤكد الجانب الكمي (أي عدد اليهود كأقلية)، إلا أنها لا تستبعده تماماً. كما تتضمن فكرة أنها جزء من كل أكبر، كما أن كلمة «جماعة»، وهذا هو الأهم، تؤكد أن ثمة عناصر تُميِّز هذه المجموعة البشرية وأن هذه العناصر ليست دينية وحسب، فقد تكون حضارية أو ثقافية أو وظيفية. ونحن حين نستخدم اصطلاح «جماعة وظيفية»، فإننا نربط على مستوى المصطلح بين «الجماعـة اليهوديـة» و«الجماعـة الوظيفيـة». ومما يجدر ذكره أن العرب، في شبه جزيرة أيبريا، استخدموا لفظ «الجماعة» للإشارة إلى اليهود، وقد استبقاه المسيحيون من بعدهم. والمقدرة التفسيرية لمصطلح «الجماعة اليهودية» أعلى بكثير من مصطلح «اليهود» الذي يجعل الباحث يواجه اليهود ككتلة متماسكة لها قوانينها الخاصة المقصورة عليها ولها منطقها الداخلي. أما مصطلح «أعضاء الجماعات اليهودية»، فيؤكد عدم التجانس وعلى استقلال كل جماعة عن الأخرى، ويؤكد أن هذه الجماعات قد تكون خاضعة لقوانينها الخاصة ومنطقها الداخلي (من حيث هي يهودية) ولكنها مع ذلك خاضعة أيضاً لقانون أكبر ومنطق أشمل من حيث هي «جماعات» تشكل جزءاً من كل، فهو إذن مصطلح يعيِّن الظاهرة باعتبارها ظاهرة يهودية ولكنه لا يجعل هذا الأمر النقطة المرجعية الأساسية بل مجرد نقطة فرعية، إذ تظل الحقيقة الأساسية المرجعية أنها جماعة بشرية في مجتمع الأغلبية، وأنها جزء من كل تاريخي حضاري أكبر تستمد منه هويتها وتَرقَى حركيتها برقيه وتنحدر وتهوى بانحداره وسقوطه، شأنها في هذا شأن الجماعات المماثلة.

ومن المفيد أن نؤكد أن مصطلحاً مثل «الجماعات اليهودية في مصر» قد يكون مضللاً رغم أنه يشير إلى يهود مصر، فلابد من تأكيد البُعد الزمني إلى جانب البُعد الجغرافي. والواقع أن يهود مصر، على سبيل المثال، يبدأ تاريخهم منذ أن كانوا في مصر عبيداً عبرانيين يتحدثون لغة المصريين القدماء أو ربما لغة أخرى لا نعرف ما هي (ثم حينما تسللوا إلى كنعان اكتسبوا لسان كنعان). وكانت حامية إلفنتاين العبرانية، في عهد الأسرة 26، تتحدث العبرية والآرامية، وتتعبد حسب صيغة وثنية يهودية إذ كانوا يعبدون يهوه وآلهة أخرى. ثم نجد أن يهود مصر راحوا يتأغرقون بعد ذلك ويتخذون من اليونانية لغةً لهم، كما اكتسبت عبادتهم بُعداً هيلينياً. وأخيراً، بعد الفتح الإسلامي، استعرب يهود مصر وأصبحت يهوديتهم أكثر توحيدية. وفي العصر الحديث، تم علمنتهم وتغريبهم. إن هذه الجماعات المختلفة إثنياً ودينياً يُطلَق عليها جميعاً «يهود مصر» كما لو كانت كُلاًّ واحداً مستمراً بلا انقطاع، مع أن من الواضح أن ثمة انقطاعات عديدة.

ومن أكثر الأمثلة دراميةً وطرافة يهود القرم ويهود شبه جزيرة تامان المجاورة لها. ويعود تاريخ استقرار اليهود في هذا المكان إلى القرن الثاني قبل الميلاد، حينما استجلب مثراديتيس الأكبر مستوطنين يهوداً من آسيا الصغرى ووطنهم ذلك الجزء من مملكته (حول مضيق البوسفور). ومن المؤكد أنه، في القرن الأول الميلادي، كانت توجد مستوطنات من اليهود المتأغرقين في المملكة البوسفورية. ولذا، كانت شواهد قبورهم تُكتَب بكل من اليونانية والعبرية، كما كان الحال في مصر بعد تأغرقهم. وهناك وثائق تدل على وجود جماعة استيطانية قتالية من عَبَدة الإله الأعظم. وقد حطمت قبائل الهن هذه المملكة في عام 370 مما ساهم في نَزْع الصبغة الإغريقية عن الجماعة اليهودية. ثم غزت الإمبراطورية البيزنطية هذه المنطقة في القرن السادس، ولابد أن هوية اليهود في هذه المنطقة قد تَغيَّرت بتَغيُّر التشكيل الحضاري الذي ساد فيها. وفيما بعد، غزت قبائل الخَزَر شبه جزيرة القرم في منتصف القرن السابع، وهو ما أدَّى إلى دخولها في فلك إمبراطورية الخَزَر فتترَّك اليهود فيها وتهوَّدت النخبة الحاكمة. وبعد سقوط دولة الخَزَر، التي اختفى آخر أثر لها في القرم في القرن الحادي عشر، اكتسح التتار شبه الجزيرة عام 1227. وقد اندمج اليهود في التتار أيضاً وتَبنَّوا لغتهم وأزياءهم. وهؤلاء هم أسلاف يهود الكرمشاكي الذين انتقلت بقاياهم مؤخراً من الاتحاد السوفيتي إلى الولايات المتحدة. وتحت حكم التتار، بدأ القرّاءون يدخلون القرم. وقد قامت مدينة جنوة بتأسيس بعض مستعمرات تجارية على الساحل الجنوبي لشبه الجزيرة في منتصف القرن الرابع عشر. ويبدو أن بعض أعضاء الجماعة اليهودية اكتسبوا الثقافة الإيطالية أو انضم إليهم يهود من إيطاليا. ونحن نعرف أن الجماعة اليهودية في تامان كان يرأسها (عام 1419) يهودي إيطالي يُدعَى سيمون دي جوبزولفي.

ومع سقوط القسطنطينية عام 1543، أصبحت القرم تابعة للدولة العثمانية. ولابد أن هذا ترك أيضاً أثره الثقافي في اليهود. ثم ضمت روسيا القرم في عام 1783، وبدأت هجرة العناصر الإشكنازية، كما بدأ تحديث يهود القرم.
ورغم كل هذه التحولات اللغوية والحضارية، يُشار لهم باسم «يهود القرم» بكل ما ينطوي عليه المصطلح من استمرار وتَجانُس وعدم انقطاع حيث لا استمرار ولا تَجانُس، وإن وُجدت عناصر استمرار فإنها لا تكون في أهمية عناصر الانقطاع وعدم الاستمرار. ولذا، نقترح أن نقول «يهود القرم في العصر الخزري» و«يهود مصر في العصر البطلمي» وهكذا.
وأخيراً، يجب ملاحظة أن إحدى الدول قد تضم جماعة يهودية واحدة متجانسة حضارياً و تضم دولة أخرى عدة جماعات. فالجماعة اليهودية في إنجلترا، مثلاً، جماعة واحدة يتصف معظم أعضائها ببعض السمات الأساسية، وغالبيتهم الساحقة يتحدثون الإنجليزية. والأمر نفسه ينطبق على يهود الولايات المتحدة، حيث تُوجَد جماعة يهودية رئيسة يتحدث أعضاؤها الإنجليزية وجماعات أخرى صغيرة للغاية مهملة إحصائياً، خصوصاً أن أعضاءها في طريقهم إلى الاندماج والاختفاء. هذا على عكس يهود الاتحاد السوفيتي (سابقاً)، فقد كانت أغلبيتهم الساحقة من يهود اليديشية الإشكناز الذين اصطبغوا بالصبغة الروسية، ولكن كانت هناك جماعات أخرى (تُشكل حوالي 15%) لها هويات أخرى. والشيء نفسه ينطبق على أمريكا اللاتينية، فما نقوله عن الجماعة اليهودية في إنجلترا والولايات المتحدة، وكذلك ما يُقال عن الجماعات اليهودية في الاتحاد السوفيتي (سابقاً)، يَصدُق على الجماعات اليهودية في أمريكا اللاتينية.

ساجدة لله
2010-10-25, 05:22 AM
طائفــــــــــــــة
Community; Taifa
كان يُشار لكل جماعة يهودية بأنها «طائفة»، فكان يُشار إلى «طائفة اليهود» وإلى «الطائفتين» (القرّائين والحاخاميين) وإلى «رئيس الطائفة اليهودية». ويقوم بعض الدارسين العرب في الوقت الحاضر باستخدام هذا المصطلح. وقد آثرنا استخدام «جماعة» لأنه أكثر عمومية من طائفة، فكلمة «طائفة» مرتبطة بالتشكيل الحضاري والسياسي الإسلامي وكان المطلوب هو التوصل إلى مصطلح أكثر عمومية ليضم كلاًّ من طوائف اليهود في العالم الإسلامي والجماعات اليهودية في بقية العالم ومن هنا استقر اختيارنا على هذا المصطلح. هذا وقد استُخدم لفظ «الجماعة» للإشارة إلى الجماعة اليهودية في كلٍّ من إسبانيا الإسلامية وإسبانيا المسيحية.

عـــبري
Hebrew
«عبري» هي أقدم التسميات التي تُطلَق على أعضاء الجماعات اليهودية، ويُقال أيضاً «عبراني»، وجمعها «عبرانيون». وهناك تسمية أخرى هي «بنو يسرائيل» أو «جماعة يسرائيل» أو «يسرائيلي»، ثم يأتي بعد ذلك لفظ «يهودي» للتعبير عن المسمى نفسه.

والكلمة ذات معان ومدلولات عديدة، فيرى بعض الكُتَّاب أن الكلمة ترادف كلمة «عبيرو» التي ترد في المدونات المصرية، و«خابيرو» التي ترد في المدونات الأكادية. ولكن البعض الآخر يُشكك في هذا الاشتقاق باعتبار أن كلمة «عبري» صفة تدل على النسب أو الانتماء لوجود ياء النسب في آخرها، في حين أن كلمة «خابيرو» أو «حبيرو» لا تعني غير المُزامَلة والمرافقة .

ومن الآراء المطروحة أيضاً أن كلمة «عبري» مشتقة من «العبور» من عبارة «عبر النهر»: « فهرب هو وكل ما كان له وقام وعبر النهر وجعل وجهه نحو جبل جلعاد » (تكوين 31/21). ويرى البعض أنه حين يقول الساميون « عــبر النهر » دون ذكر اسم هذا النهر فإنهم يعنون نهر الفرات، والإشارة هنا إلى عبور يعقوب الفرات هارباً من أصهاره. ويرى بعض الباحثين أن عبور يعقوب النهر هو أساس اسم العبرانيين، حيث ينتسبون إلى من قام بهذا العبور، أي يعقوب الذي سُمي «يسرائيل».

وربما كان الاسم إشارة إلى جماعة قَبَلية إثنية كبيرة. ويظهر هذا الاستعمال في العلاقة بين المصطلح «عبري» واسم «عابر» حفيد سام (تكوين 10/24 ـ 25، 11/15 ـ 16) الذي تنتسب إليه مجموعة كبيرة من الأنساب. ولكن أول شخص يُشار إليه بأنه عبري هو إبراهيم (تكوين 14، 13) في سياق لا يدل على أن الإشارة إشارة إثنية، وإنما إشارة تدل على الوضع الاجتمـاعي باعتبـاره غريبـاً أو أجنبياً ليست له أية حقـوق. وتشير كلمة «عبري» في التوراة إلى العبرانيين أيضاً باعتبارهم غرباء. والعبري «غريب في منزلة الخادم» ويدل هذا على أن كلمة «عبري» هنا تشير إلى غير اليهودي في حكم التوراة، ويظهر هذا في الأحكام الخاصة بشراء عبد عبري (خروج 21/2(.

وثمة رأي يذهب إلى أن العبرانيين كانوا غرباء في مصر مدة طويلة، وبالتالي ارتبط الاسم بهم، وتَحوَّل من صفة لوضع اجتماعي إلى وصف لجماعة إثنية. ولذا، فإن ثمة إشارات إلى يوسف على أنه غلام عبراني (تكوين 41/12)، أو رجل عبراني (تكوين 39/14). كما أن ثمة إشارة أيضاً إلى النساء العبرانيات (خروج 1/19). ورغم أن الإشارة ذات طابع إثني واضح، فإنها لم تفقد بعدها الاجتماعي تماماً. وفي سفر التكوين نجد إشارة إلى يوسف كعبد عبراني (39/18) وهي إشارة ذات دلالة تخلط العنصرين الإثني والطبقي.

وترد كلمة «عبري» أحياناً مرادفة لكلمة «يهودي» على نحو ما جاء في سفر إرميا (34/9): « أن يُطلَق كل واحد عبده وكل واحد أَمته، العبراني والعبرانية، حُريَّن حتى لا يستعبدهما، أي أخويه اليهوديين، أحـد ». كما كانت الكلمة مـرادفة لكلمة «يسـرائيلي» (خـروج 9/1 ـ 4): « هكذا يقول الرب إله العبرانيين... ويميِّز الرب بين مواشي يسرائيل ومواشي المصريين ». وفي صمويل الأول (4/9)، يقول أحد الفلستيين: « تشددوا... وكونوا رجالاً لئلا تُستعبَدوا للعبرانيين » وهو يتحدث عن جماعة يسرائيل.

ويُفضل بعض الصهاينة العلمانيين أن يستخدموا كلمة «عبري» أو «عبراني» على استخدام كلمة «يسرائيلي» أو «يهودي» باعتبار أن الكلمة تشير إلى العبرانيين قبل اعتناقهم اليهودية، أي أن مصطلح «عبري» يؤكد الجانب العرْقي على حساب الجانب الديني فيما يُسمَّى «القومية اليهودية». بل إن بعض أصحاب الاتجاهات الإصلاحية والاندماجية، في مرحلة من المراحل، كانوا يفضلون كلمة «عبري» على كلمة «يهودي» بسبب الإيحاءات القدحية للكلمة الأخيرة. وقد ظهرت في هذه الآونة كلية الاتحاد العبري Hebrew Union Collegeوجماعة هياس (وهي اختصار Hebrew Immigration Aid Society، أي الجمعية العبرية لمساعدة المهاجرين). كما أنهم في إسرائيل، يشيرون عادةً إلى اللغة العبرية والأدب العبري والصحافة العبرية، ولكننا نفضل استخدام «عبراني» للإشارة إلى اليهود القدامى من حيث هم تَجمُّع بشري حضاري ذو خصائص متميِّزة. أما لفظ «عبري»، فنقصر استخدامه على الناحية اللغوية والأدبية، كما نستخدم كلمة «جماعة يسرائيل» (أو «يسرائيلي») للإشارة إلى العبرانيين القدامى من حيث هم تَجمُّع ديني، تمييزاً لهم عن الصهاينة المستوطنين في فلسطين، وعن أبنائهم الذين يمكن أن نطلق عليهم مصطلح «إسرائيليين»، على أن تظل كلمة «يهودي» مصطلحاً يشير إلى المؤمنين باليهودية، بغض النظر عن انتمائهم العرْقي أو الإثني أو الحضاري، ويشير إلى كل من يطلق على نفسه هذه الصفة.

ونحن في هذا لا نختلف كثيراً عن الاستعمال الشائع للكلمة. ويقول الدكتور ظاظا: « بعد العودة من بابل في القرن الخامس قبل الميلاد، اقتصر استخدام مصطلح «عبرانيين» على الإشارة إلى الرعيل الأول من اليهود حتى عصر التهجير البابلي، واستُخدمت كلمة «يهود» أو «يسرائيلي» للإشارة إلى الأجيال التي أتت بعد ذلك، والتي لم تَعُد تستخدم اللغة العبرية وإنما تتحدث الآرامية وتكتب بها ».

ولعل الدقة الكاملة كانت تتطلب أن نستخدم اصطلاح «عبراني يهودي» للإشارة للعبرانيين في الفترة ما بعد العودة إلى بابل (538 ق.م) حتى سقوط الهيكل (70م)، فإبان هذه الفترة بدأت ملامح النسق الديني اليهودي كما نعرفه في التحدد مع بداية الفترة واكتملت مع نهايتها. ومع هذا، كانت العبادة القربانية المركزية لا تزال الإطار الديني المرجعي الأساسي للعبرانيين اليهود. ولكننا، مع هذا، نستخدم كلمة «يهودي» وحدها للإشارة إلى العبرانيين اليهود من قبيل التبسيط، وحتى لا يصبح هيكل المصطلحات مركباً لدرجة يصعب معها استخدامه. ويستطيع القارئ أن يعود إلى مدخل «الهويات اليهودية (تاريخ)».

يســـــــرائيــل
Israel; Yisrael
«يسرائيل» كلمة عبرية قديمة غامضة المعنى، يمكن تقسيمها إلى «يسرا»، أي الذي يحترب أو يصارع، و« إيل» وهو الأصل السامي لكلمة «إلـه». والكلمة تعني حرفياً «الذي يصارع الإلـه» أو «جندي الإلـه إيل»، وفي كل التفسيرات معنيان أساسيان هما معنى الصراع والحرب ومعنى القداسة.
ومما يجدر ذكره أن كلمة «يسرائيل» وردت في الكتابات المصرية في عهد مرنبتاح في عام 1230 ق.م بوصفها اسماً لإحدى المدن، أو ربما لبطن من بطون القبائل في جنوبي كنعان. ولعل هذا يدل على أن الكلمة كنعانية الأصل، وأنها كانت ذات ارتباطات مقدَّسة بين سكان المنطقة آنئذ. وهناك نظرية تذهب إلى أنها كانت اسم بطن من بطون القبائل العبرانية.

وقد اكتسب يعقوب هذا الاسم بعد أن صارع الإله في حادثة غامضة لا يُفهَم مكنونها أو دلالتها « فبقي يعقوب وحده وصارعه إنسان حتى طلوع الفجر. ولما رأى أنه لا يقدر عليه ضرب حق فخذه فانخلع حق فخذ يعقوب في مصارعته معه. وقال أطلقني لأنه قد طلع الفجر. فقال لا أطلقك إن لم تباركني. فقال ما اسمك، فقال يعقوب. فقال لا يُدعَى اسمك فيما بعد يعقوب بل يسرائيل، لأنك جاهدت مع الإله والناس وقدرت. وسأل يعقوب وقال أخبرني باسمك. فقال لماذا تسأل عن اسمي، وباركه هناك » (تكوين 32/25 ـ 29). والقصة متأثرة بعناصر الملحمة الأكادية، حيث يكتسب البطل بصراعه المادي مع الإله صفات تجعله فوق البشر أو نصف إله، وتكسبه بانتصاره على الإله حق نصرة الإله له دائماً في علاقاته مع الآخرين. وهذا الصراع مع الإله يشبه وقائع مماثلة في الأساطير اليونانية.
وكلمة «يسرائيل» تشير أيضاً إلى نسل يعقوب، ثم أصبحت تشير إلى المملكة الشمالية «يسرائيل» قبل التهجير الآشوري. ثم استُخدمت الكلمة للإشارة إلى سكان المملكة الجنوبية «يهودا» بعد سقوط مملكة يسرائيل إلى أن حلت كلمة «يهودي» محلها.

وللكلمة في دلالتها الاصطلاحية معنيان أساسيان: فهي تعني اليهود بوصفهم شعباً مقدَّساً، وتعني فلسطين بوصفها أرضاً مقدَّسة. وهي ترد مضافة إلى كلمات أخرى، مثل: «عام يسرائيل» أي «شعب إسرائيل» و«بنو يسرائيل» أي «بنو إسرائيل»، و«بيت يسرائيل» أي «بيت إسرائيل». و«كنيست يسرائيل» أي «مجمع إسرائيل» أو «جماعة يسرائيل». وقد بُعثت كلمة «يسرائيلي» مرة أخرى، في عصر الانعتاق، في القرن التاسع عشر الميلادي، كما بعثت أيضاً كلمة «عبراني» لأن كلمة «يهودي» كانت تحمل إيحاءات سلبية.

وفي العصر الحديث، تُستخدَم عبارة «مدينة إسرائيل» العبرية للإشارة إلى الدولة الصهيونية وكلمة «إسرائيليين» للإشارة إلى أعضاء التجمـع الاســتيطاني الصهيوني في فلسـطين. ولكننـا، إذا أردنا التفرقة، فمن المستحسن أن نطلق كلمة «إسرائيليين» على سكان التجمع الاسـتيطاني الصهيوني في فلسـطين وحدهم، وأن نسـمِّي اليهود القدامى، من حيث هم تَجمُّع بشري له خصائص إثنية مُتميِّزة، «عبرانيين» (ومفردها عبراني) وأن نسميهم «جماعة يسرائيل» (وأحياناً «اليسرائيليين») لنصفهم من حيث هم جماعة دينية، على أن تظل كلمة «يهودي» مصطلحاً يشير إلى كل من يعتنق اليهودية وهي العقيدة التي اكتسبت ملامحها الرئيسية في القرن الأول قبل الميلاد. مصطلح «عبري» فيَصلُح في الناحيتين اللغوية والأدبية وحسب.

ساجدة لله
2010-10-25, 05:23 AM
بنـو إسرائيل
Banu Israel
«بنو إسرائيل» عبارة ترد في القرآن الكريم (وفي كثير من الكتب الفقهية الإسلامية) للإشارة إلى اليهود. كما تُوجَد كلمات أخرى، مثل: «أهل الكتاب» و«الكتابيون» و«أهل الذمة» و«الذميون» لتشير إلى كل من اليهود والمسيحيين. وقد عُرِّف النطاق الدلالي لكلمة «بني إسرائيل» إسلامياً بشكل واضح ومحدد، فهي تشير إلى جماعة محددة الأوصاف يؤمن أصحابها بالإله والتوراة. ومن ثم، فإن هذا المصطلح لا ينطبق على غالبية يهود العالم في الوقت الحالي. لكن هؤلاء هم موضع الدراسة في هذه الموسوعة، ومن ثم فإننا لا نستخدم هذه العبارة. وترد عبارة «بني إسرائيل» للإشارة إلى الجماعة اليهودية التي تُوجَد في الهند وتحمل هذا الاسم.

شــــعب يســــرائيل
The People of Yisrael
«شعب يسرائيل» هو أحد الأسماء التي تُطلَق على العبرانيين من حيث هم جماعة دينية قديمة تسبق تَبلوُّر اليهودية، وهو مرادف للكلمات «بني يسرائيل» و«اليسرائيليين»، وكذلك «كنيست يسرائيل» أي «جماعة يسرائيل».

جماعة يسرائيل
Israel; Yisrael
»جماعة يسرائيل« مصطلح قمنا باشتقاقه من كلمة «يسرائيل»، وهي كلمة من المعجم الديني اليهودي وتعني »الذي يصارع الإله». ونحن نستخدم الكلمة لنشير إلى العبرانيين القدامى من حيث هم جماعة دينية مقابل العبرانيين القدامى كجماعة عرْقية أو إثنية. ومن ثم نشير إلى عقيدتهم باعتبارها «عبادة يسرائيل القربانية المركزية» لتمييزها عن اليهودية التي هي ثمرة تطورات مختلفة دخلت على هذه العبادة في بابل وبعد العودة منها وخلَّصتها من جوانبها الوثنية. كما نستخدم كلمة «يسرائيل» للإشارة إلى مملكة يسرائيل الشمالية العبرانية (مقابل مملكة يهودا الجنوبية) لتمييزها عن دولة إسرائيل الحديثة. أما المستوطنون اليهود من مواطني الدولة الصهيونية، فنحن نشير إليهم على أنهم إسرائيليون.
ونحن نفعل ذلك حتى لا نخلط بين النسق الديني اليهودي والواقع الاستيطاني في فلسطين المحتلة، ولا نخلط بين العبرانيين القدامى والمستوطنين الصهاينة، وهو خلط تحرص كلٌّ من الإمبريالية الغربية والمؤسسة الصهيونية عليه باستخدام دال واحد يشير إلى مدلولين مختلفين للإيهام بوجود استمرار وتَرادُف بين النسق الديني والواقع الاستيطاني، وبالتالي إكساب عملية الاغتصاب الصهيوني لفلسطين شرعية بل وقداسة، وكذلك تصوير الهجوم على المستوطنين الصهاينة على أنه معاداة لليهود ونوع من التعصب الديني!

ونستخدم كلمة «يهودي» للإشارة إلى أعضاء الجماعات اليهودية بعد صدور مرسوم قورش بعودة المهجَّرين إلى بابل. أما كلمة«صهيوني» فهي تشير إلى كل من يؤمن بالعقيدة الصهيونية بغض النظر عن انتمائه الديني.
عـَم هآرتـس
Am Haaretz
«عَم هآرتس» عبارة عبرية تعني حرفياً «شعب الأرض»، أي «أبناء الأرض». وقد وردت هذه العبارة في العهد القديم بمعنيين، الأول للإشارة إلى سكان فلسطين الأصليين مثل الحيثيين الذين اشترى منهم إبراهيم مغارة مكفيلة (تكوين 23) مقابل العبرانيين. أما المعنى الثاني، فيشير إلى السامريين والأقوام الأخرى التي كانت تسكن فلسطين وعارضت استيطان العبرانيين العائدين من بابل (عزرا 4).

وكانت العبارة تُستخدَم كذلك للإشارة إلى عامة العبرانيين مقابل الأسرة المالكة والنبلاء والطبقة العسكرية والكهنة والأنبياء، وذلك قبل التهجير البابلي. ولكن بعد العودة من بابل، حيث صارت النخبة الحاكمة هي الكهنة أساساً، أصبحت العبارة تشير إلى الشعب مقابل الكهنة الأثرياء. وقد أخذت الحواجز بين الفريقين في التحدّد والتبلوّر، فكانت طبقة الكهنة تقيم جميع شعائر الطهارة الخاصة بالعبادة القربانية، كما كانت تتلقى العشور من المصلين ولا تأكل طعاماً إلا إذا دُفعت ضريبة العشـور عـنه. وقد قـام الفريسـيون والفرق اليهودية الأخرى، مثل الأسينيين، بإقامة شعائر الطهارة رغم أنهم لم يكونوا من طبقة الكهنة، وكانوا أيضاً لا يأكلون من محاصيل لم تُدفَع عنها العشور. وحتى يضمنوا أن يظلوا ضمن النخبة الحاكمة الطاهرة، كانوا حريصين على الإبقاء على الحواجز الفاصلة بينهم وبين العامة.

ولكن رغم توسـيع نطاق النخبة ليضم الفريسيين وغيرهم، ظلت أعداد كبيرة من اليهود غير قادرة على إقامة شعائر الطهارة بسبب تزمتها وصرامتها، خصوصاً في المناطق التي ضمها الحشمونيون وهوَّدوا أهلها عنوة (الإيطوريون والأدوميون الذين أصبحوا يهوداً ولكنهم باتوا ينوءون تحت نير هذه الشعائر). وقد توجهت المسيحية إلى هؤلاء فانضموا إلى صفوفها، إذ أن الدين الجديد لم يثقل المؤمن بقيود شعائر الطهارة والعبادة القربانية.

ومع هدم الهيكل، فقدت العبارة معناها القديم حيث اختفت قوانين الطهارة والعبادة القربانية مع اختفاء الهيكل. ومع ظهور المعبد كمركز للعبادة اليهودية، أصبحت العبارة تفيد معنى قدحياً وتشير إلى اليهودي الذي لا يرتدي تمائم الصلاة (تيفلين)، ولا الشال (طاليت)، ولا يضع تمائم الباب (مزوزاه) على منزله، ولا يعلِّم أولاده التوراة. بل وتشير العبارة إلى العامة الذين لا يتفرغون لدراسة التوراة مقابل النخبة الحاخامية التي تفرغت لها. ويبدو أن الهوة قد اتسعت بين الفريقين حتى أن الحاخام عقيبا، الذي بدأ دراسته في سن متأخرة، قال إنه حين كان ضمن عم هآرتس (أي العامة) كان من الممكن أن ينهش لحم أي حاخام يقابله في طريقه. وقد جاء في التلمود أن العالم يجب ألا يتزوج من ابنة أحد من العم هآرتس فهم كريهون وزوجاتهم مثل الديدان وينطبق على بناتهم ما جاء في التوراة " ملعون من يضطجع مع بهيمة " (تثنية 27/21). فعبارة عم هآرتس تعني ببساطة «الإنسان الجاهل» ولو أنها، عند الحسيديين، كانت تعني «الساذج وطيب القلب».

وقد استمر التمييز الحاد بين النخبة والعامة من يهود اليديشية، فهم يميِّزون بين «شيد يدين»، وهي عبارة يديشية تعني «الرجال الذين يتحلون بالجمال»، وبين «بروست يدين»، أي الرجال العاديون، وهي تكاد تكون مرادفاً يديشياً لعبارة «عم هآرتس». وفي العصر الحديث، تُطلَق كلمة «عم هآرتس» أحياناً على اليهود السـفارد والشرقيين والفلاشاه.

اليشوف
Yishuv
«يشوف» كلمة عبرية تعني «التَوطُّن» أو «السَكَن»، وهي تشير إلى الجماعات اليهودية التي تستوطن فلسطين لأغراض دينية. ويُستخدَم اصطلاح «اليشوف القديم» للإشارة إلى الجماعات اليهودية التي كانت تعيش على الصدقات التي ترسلها لهم الجماعات اليهودية فيما يُعرَف باسم «حالوقة». وكان اليشوف القديم يتكون من جماعتين منفصلتين تمام الانفصال: الأولى إشكنازية والأخرى سفاردية، وكانت كل جماعة تنقسم بدورها إلى أقسام فرعية مختلفة حسب مصدر الصدقة التي تأتي لها (وهذا يذكرنا بعض الشيء بالنظام الحزبي في إسرائيل ونظام تمويله عن طريق مساعدات يهود الدياسبورا، فحزب حيروت مثلاً يحصل على أكبر قسط من المعونة من اليهود اليمينيين وبالذات في جنوب أفريقيا، أما حزب الماباي فيموله اليهود الليبراليون في الغرب).

ولم يكن عند أعضاء اليشوف القديم أية مطامع سياسية لأن الغرض من وجودهم كان دينياً محضاً، ولذلك كانت علاقاتهم بالعرب طبيعية وطيبة للغاية. وعلى العكس من هذا كان أعضاء اليشوف الجديد (وهو الاصطلاح الذي يطلقه الصهاينة على التجمع الاستيطاني الصهيوني ابتداءً من عام 1882)، إذ كانوا ينظرون إلى أنفسهم على أنهم جماعة «قومية» ذات برنامج سياسي محدَّد يتلخص في إنشاء الوطن اليهودي. ولذلك، ركزوا جهدهم في تأسيس أبنية اقتصادية سياسية حضارية منعزلة تمام الانعزال عن العرب (بل وعن أعضاء اليشوف القديم)، كما كانوا يدورون في إطار مفاهيم انعزالية مثل اقتحام الأرض والعمل والحراسة والإنتاج. وقد تَسبَّب هذا في حدوث توتر ثم صراع حاد أدَّى إلى نشوب القتال بينهم وبين العرب، وهذا الصراع هو الذي يُعرَف الآن باسم الصراع العربي الإسرائيلي.

والملاحَظ أن الكتابات الصهيونية تستخدم كلمة «يشوف» لتوحي بأن ثمة استمراراً يهودياً عبر التاريخ، وأن الوجود اليهودي في فلسطين كان مستمراً ومتصلاً، وفي الوقت نفسه مستقلاً ومنفصلاً عن تاريخ المنطقة العربية.

ساجدة لله
2010-10-25, 05:23 AM
يهـودي Jew
كلمة «يهودي» كانت تشير إلى الشخص الذي يعتنق اليهودية، وقد ظهرت بعد الكلمتين الأخريين «عبراني» و«يسرائيلي» أو عضو «جماعة يسرائيل». و«يهودي» كلمة عبرية مشتقة من «يهودا» وهو اسم أحد أبناء يعقوب والذي سُمِّيت به إحدى قبائل العبرانيين الاثنتي عشرة.

والاسم مُشتَق من الأصل السامي القديم «ودي» التي تفيد الاعتراف والإقرار والجزاء مثل كلمة «دية» عند العرب. وقد اكتسبت هذه المادة معنى الإقرار والاعتراف بالجميل. وقد استوحت ليئة زوجة يعقوب اسم ابنها الرابع من هذا المعنى: " هذه المرة أحمد الرب لذلك دعت اسمه يهودا " (تكوين 29/35). فكلمة «يهوه» تعني الرب و«دي» تعني الشكر ومنهما «يهودي».

وكانت الكلمة ذات دلالة جغرافية تاريخية في بادئ الأمر، إذ كانت تشير إلى سكان المملكة الجنوبية (يهودا) وحسب، ولكن دلالتها اتسعت لتشمل اليهود كافة، خصوصاً بعد انصهار سكان المملكة الشمالية (يسرائيل) بعد التهجير الآشوري، واختفائهم من مسرح التاريخ، واستمرار مملكة يهودا قرنين من الزمان.
وهكذا أصبحت كلمة «يهودي» عَلَماً على كل من يعتنق اليهودية في أي زمان ومكـان بغـض النـظر عن انتمائه العرْقي أو الجغـرافي. ومن هنا، فإن فيلون السكندري يهودي، وموسى بن ميمون العربي يهودي. ولكن المسألة ليست بهذه البساطة، فكلمة «يهودي» متسعة الدلالة تختلف دلالتها باختلاف الزمان والمكان.

ومع أن الشرع اليهودي قد عَرَّف اليهودي بأنه من وُلد لأم يهودية أو تَهوَّد، فإن الشرع الإسلامي لم يقبل، في جميع مراحله التاريخية، بهذا التعريف العرْقي، فكان يُعرِّف اليهودي تعريفاً دينياً وحسب، أي أنه عرَّفه بأنه من يعتنق اليهودية سواء كان من الحاخاميين أو القرّائين أو السامريين. وثمة اختلاف جوهري بين التعريفين، فأحدهما عقائدي محض والآخر ديني عرْقي، وبالتالي تنشأ مشكلة من هو اليهودي، وهل اليهودي هو الذي يعتقد أنه كذلك من منظور يهودي أم أنه اليهودي الذي نسميه نحن كذلك انطلاقاً من عقيدتنا؟

أما في العالم الغربي، فقد مرت الكلمة بعدة تطورات دلالية. ففي العالم الهيليني والدولة الرومانية، كانت كلمة «يهودي» تشير إلى الفرد في الإثنوس أي القوم اليهودي، وكانت مسألة العقيدة ثانوية. وفي العصور الوسطى الكارولينجية في الغرب، حتى القرن الحادي عشر الميلادي، أصبحت كلمة «يهودي» تعني الانتماء إلى الجماعة اليهودية، كما كانت مرادفة لكلمة «تاجر». وبعد القرن الحادي عشر الميلادي، أصبحت كلمة «يهودي» مرادفة لكلمة «مرابي». ولم تتخلص اللغات الأوربية تماماً من تلك التضمينات التي كانت تُحمِّل كلمة «يهودي» معنى قدحياً، مثل «بخيل» أو «غير شريف» أو «عبد للمال» وغير ذلك من المعاني التي ارتبطت بأعضاء الجماعات اليهودية، نظراً لاضطلاعهم بدور الجماعة الوظيفية الوسيطة التي هي محط كراهية أعضاء المجتمع المضيف. وهذا ما كان يعنيه ماركس حينما تَحدَّث عن انتشار العلاقات الإنتاجية الرأسمالية في المجتمع بوصفه « تهويد المجتمع ». ويساوي الفكر الاشتراكي الغربي، خصوصاً كتابات فورييه، بين اليهودي والمرابي. وفي اللغة الإنجليزية، ارتبطت الكلمة باسم يهوذا Judas الإسقريوطي الذي باع المسيح بحفنة قطع من الفضة.

ولذا، أسقط بعض اليهود، في القرن التاسع عشر الميلادي، مصطلح «يهودي» واستخدموا مصطلحات مثل «عبراني» و«إسرائيلي» و«موسوي» حتى أصبحت كلها مترادفة. ولكن حدث تَراجُع عن ذلك بعد الحرب العالمية الثانية وأصبح مصطلح «يهودي» أكثر شيوعاً. وكثير من المعاجم الأوربية لا تورد الآن المعاني القدحية لكلمة «يهودي» بل وتوصي بعدم استخدامها. ويُلاحَظ أن كلمة «يهودي» بدأت، منذ القرن التاسع عشر الميلادي، تحمل إيحاءات بالقداسة مع بَعْث أسطورة اليهودي التائه وإعطائها مضموناً إيجابياً.
ومع ظهور حركة التنوير وضعف اليهودية الحاخامية، ترك كثير من اليهود عقيدتهم الدينية واستمروا في تسمية أنفسهم «يهوداً»، وهذا ما يُطلَق عليه «اليهودي غير اليهودي». وبين هؤلاء نجد «اليهودي الملحد» و«اليهودي العلماني» و«اليهودي الإثني» ممن نطلق عليهم نحن «اليهود الجدد». وغني عن القول أنه حينما كان مصطلح «يهودي» يُستخدَم للإشارة إلى هؤلاء، فإن محيطه الدلالي كان يختلف تماماً عن محيطه الدلالي حتى أوائل القرن التاسع عشر الميلادي، حيث كان الانتماء اليهودي يعني الإيمان بالعقيدة اليهودية. أما هؤلاء، فإنهم لا يتبعون تعاليم دينهم بل ويرفضها بعضهم تماماً ويُسمي نفسه يهودياً استناداً إلى ما يتصور أنه موروثه الثقافي.ويوجد الآن تعريفان لليهودي: أحدهما ديني يعتمد الشريعة ويأخذ به نحو 18% من يهود العالم، والآخر علماني ويأخذ به نحو 61%. والباقون مترددون متضاربون في الرأي. فإن شـعر أحدهم في قرارة نفسـه بأنه يهـودي، فإنه يمكن اعتباره يهـودياً.

وقد حاول جان بول سارتر تعريف «اليهودي» فأخذ بهذا التعريف الذاتي، وقال إن اليهودي يكون يهودياً أصيلاً حينما يصبح واعياً بحالته كيهودي ويشعر بالتضامن مع سائر اليهود. ولكن سارتر نفسه كان قد عرَّف اليهودي من قبل بأنه من يراه الأغيار كذلك. وفي كلتا الحالتين، لا يُوجَد معيار موضوعي للتعريف. وقد انتهى الأمر به إلى القول بأن اليهودي هو رجل يبحث عن هويته. وهذا ليس بتعريف أيضاً، وإنما إشارة إلى حالة عقلية. وقد علق أحد المثقفين الفرنسيين على الوضع قائلاً: « إنني مثل جميع اليهود الفرنسيين، فأنا يهودي من الناحية الخيالية ولكني فرنسي من الناحية الفعلية ».

ويمكن القول بأن كلمة «يهودي» في الوقت الحالي لها معنيان:

1 ـ يهودي بالمعني الديني الإثني.
2 ـ يهودي بالمعنى الإثني المحض.

فهي تشير إذن إلى الكتل اليهودية الثلاث الأساسية، وهي الإشكناز والسفارد ويهود العالم الإسلامي، وإلى الجماعات اليهودية الأخرى التي انفصلت عن الكـتل الثـلاث الكبرى مثل الفلاشـاه ويهود الهند. وهي تشير أيضاً إلى اليهود من شتى الفرق التي نشأت في العالم الغربي: الإصلاحيين والمحافظين والأرثوذكسيين والتجديديين حتى ولو كفَّر أعضاء هذه الفرق بعضهم بعضاً. ويُستخدَم المصطلح للإشارة إلى المستوطنين الصهاينة مع أن مسألة من هو اليهودي لا تزال دون إجابة داخل الدولة الصهيونية، أي أنها كلمة ذات مجال دلالي مُختلَط وغير محدَّد.

ونحن نستخدم كلمة «عبراني» للإشارة إلى اليهود القدامى كتَجمُّع إثني ذي خصائص متميِّزة. وكلمة «جماعة يسرائيل» تشير إلى المجموعة البشرية نفسها كتَجمُّع ديني. وتُستخدَم كلمة «إسرائيل» للإشارة إلى المُستوطَن الصهيوني أما السكان، فهم «إسرائيليون». كما أننا نستخدم عبارة «أعضاء الجماعات اليهودية» للإشارة إلى يهود العالم بعد المرحلة البابلية، ولا نستخدم كلمة «يهود» أو «يهودي» إلا إذا تَطلَّب السياق ذلك، كأن ننقل وجهة نظر أحد الباحثين أو إن كان الحديث عن اليهود كجماعة دينية. وبسبب اختلاط المجال الدلالي للكلمة، فإننا نضطر إلى استخدام كلمة «يهود» للإشارة إلى اليهود ممن لا يؤمنون بالتوراة أو الإله والذين يصنفون أنفسهم يهوداً.
وغني عن البيان أن مصطلح «صهيوني» لا علاقة له بمصطلح «يهودي»، فليس كل اليهود صهاينة وليس كل الصهاينة يهوداً، وهناك صهاينة مسلمون وصهاينة مسيحيون وصهاينة بوذيون وصهاينة لا دين لهم ولا ملة.


صهيوني Zionist
«الصهيوني» هو من يؤمن بالعقيدة الصهيونية (إما في شكلها الاستيطاني أو في صورتها التوطينية). ولذا، فإن هناك اختلافاً عميقاً بين الصهيوني واليهودي، وبينهما من جهة وبين الإسرائيلي من جهة أخرى. ويستطيع القارئ أن يعود للمجلد السادس من هذه الموسوعة والذي يتناول موضوع الصهيونية.


إسرائيلي Israeli
«الإسرائيلي» هو مواطن الدولة الصهيونية. وهو يختلف عن «اليسرائيلي» أو عضو «جماعة يسرائيل» وهم العبرانيون كجماعة دينية. وليس كل الإسرائيليين صهاينة، تماماً كما أن كل الصهاينة ليسوا بالضرورة إسرائيليين. ولا يوجد أي تَرادُف بين «إسرائيلي» و« يهودي»، بل إن هناك إسرائيليين كثيرين يرفضون العقيدة اليهودية. ويستطيع القارئ أن يعود إلى المداخل المختلفة عن إسرائيل.

ساجدة لله
2010-10-25, 05:24 AM
الباب الخامس: إشكالية التعداد



أعداد الجماعات اليهودية وتوزُّعها في العالم حتى الوقت الحاضر
Worldwide Number and Distribution of the Jewish Communities to the Present
بلغ تعداد العبرانيين في عام 1000 ق.م، حسب بعض التقديرات التخمينية، نحو 1.800.000 نسمة، منهم 450 ألفاً في المملكة الجنوبية ومليون وثلاثمائة وخمسون ألفاً في المملكة الشمالية. ولكن ثمة رأياً يذهب إلى أن هذا العدد مُبالَغ فيه، حيث أن الإمكانات الطبيعية لفلسطين واقتصادها ما كان يمكن لهما في تلك المرحلة بمستوى التطور التكنولوجي السائد آنذاك أن يُمدا مثل هذا العدد الضخم بأسباب الحياة، مع ملاحظة أن عدد سكان مصر كان نحو ستة ملايين بكل إمكاناتها ومعدل نموها.

وعلى أية حال، فقد تناقص التعداد بسبب تدهور الأحوال السياسية والاقتصادية في المملكتين، حتى بلغ خلال الفترة بين عامي 733 و701 ق.م نحو مليون ومائة ألف نسمة، منهم 300 ألف في المملكة الجنوبية و800 ألف في المملكة الشمالية. أما في عام 568 ق.م، بعد التهجير البابلي، فقد بلغ عدد اليهود 150 ألفاً يعيشون جميعاً في المملكة الجنوبية، ولم يبق أحد في المملكة الشمالية إذ أن اليهود الذين هُجِّروا إلى آشور انصهروا وذابوا في سكانها، أما من تَبقَّوا فقد انصهروا في السكان المحليين أو فقدوا هويتهم العبرانية من خلال آليات مختلفة، بعضها معلوم لدينا، وبعضها لا يزال مجهولاً. ويبدو أن عدد سكان مقاطعة يهودا لم يتجاوز فيما بعد مرسوم قورش ما بين 60 و70 ألفاً.

وتختلف الصورة السكانية لليهود مع نهاية القرن الأول قبل الميلاد. وقد وصل بعض الدارسين إلى أن عدد يهود العالم في تلك الفترة كان 8.000.000، عاش منهم ما بين 2.350.000 و2.500.000 فقط في فلسطين، وذلك قبل هدم الهيكل على يد تيتوس عام 70 ميلادية، 3.200.000 في سوريا وآسيا الصغرى وبابل (أكثر من 1.000.000 في كل منها)، وتوزع الباقون في أماكن أخرى مختلفة. ويُقال إن الإسـكندرية وحـدها كانت تضـم ما يتراوح بين نصف مليون ومليون يهودي، أي نحو 40% من كل سكانها وأكثر من سكان القدس من اليهود. ويبدو أن هذه الأعداد مُبالَغ فيها، إذ أن ثمة تقديراً تخمينياً آخر يرى أن عدد اليهود لم يزد على خمسة ملايين: ثلاثة ملايين في سوريا وفلسطين ومصر وآسيا الصغرى، ومليون في أماكن أخرى متفرقة من الإمبراطورية الرومانية، ومليون في بابل التي كانت تابعة للفرس ثم للفرثيين ومن بعدهم الساسانيين.

ويبدو أن ازدياد العدد يرجع إلى عدة أسباب من بينها قيام الدولة الحشمونية بتهويد بعض السكان غير اليهود داخل حدودها، مثل الإيطوريين وبعض الشعوب المجاورة مثل الأدوميين الذين حكمت أرضهم. وقد قام الفريسيون بحركة تبشير ضخمة لاقت نجاحاً غير عادي بسبب أن الوثنية الرومانية بدأت تدخل مرحلة الأزمة التي أدَّت في نهاية الأمر إلى سقوطها وإلى تَبنِّي الرومان للمسيحية ديناً رسمياً. و قد انتشرت اليهودية بين أعداد كبيرة من الرومان، من بينهم بعض أعضاء النخبة الحاكمة، في الفجوة الزمنية التي تفصل بين بداية الضعف والاضمحلال وبين السقوط النهائي وتَبنِّي المسيحية من حيث هي دين وعقيدة تفسر الكون لأتباعها وتمنحهم الإجابات للأسئلة الكونية الكبرى التي تجابههم.

ويبدو أن ما يُسمَّى «السلام الروماني» (باللاتينية: باكس رومانا pax (romana، الذي ساد المناطق التي كان يعيش فيها أعضاء الجماعة اليهودية، قد وفر من الأمن والطمأنينة ما شجع اليهود على التزايد. وربما كانت بداية اشتغال اليهود بالأعمال التجارية تعني ارتفاع مستوى المعيشة والابتعاد عن المهام القتالية، وهو ما كان يعني تناقص نسبة الوفيات.

وأخيراً، يُقال إنه بعد سقوط قرطاجة، انضمت الدياسبورا الفينيقية والقرطاجية إلى أعضاء الجماعات العبرانية اليهودية باعتبارهم جميعاً ساميين ينتمون إلى التشكيل الحضاري نفسه وباعتبار أنهم يضطلعون بالوظيفة نفسها.
وقد بدأت الصورة تأخذ شكلاً مغايراً مع بدايات العصور الوسطى في الغرب والعصر الإسلامي في الشرق، حيث اختفت أعداد كبيرة من اليهود من خلال عمليات الاندماج والانصهار. فمع ظهور المسيحية، تَنصَّرت أعداد ضخمة من اليهود، كما حدث في الإسكندرية على سبيل المثال. ومع انتشار الإسلام، تبنت أعداد كبيرة منهم الدين الجديد، وتحولت الجماعات اليهودية إلى جماعات صغيرة متناثرة. وكان من الصعب تخمين عدد اليهود في العالم آنذاك إذ أن الإحصاءات كانت متناقضة للغاية، فـفي العالم الإسـلامي كانت الإحصـاءات غير موثوق بها، وفي أوربا لم تكن هناك سجلات إحصائية. ومع هذا، ترى معظم المراجع أن عدد اليهود في العالم كان يتراوح بين ملـيون وملـيونين، وأن أغـلبهم (85 ـ 90%) قد تركز في العـالم الإسـلامي مع نهاية القرن الثاني عشر. ولكننا نفضل الأخذ بالرقم مليون، خصوصاً في ضوء الأعداد اللاحقة، حيث أن عدد يهود أوربا لم يكن يزيد على نحو 100 - 350 ألفاً (من مجموع سكان أوربا البالغ 53 مليوناً) في حين وصل العدد إلى 450 ألفاً في عام 1300 (300 ألف فقط عند روبين) من مجموع 53 مليوناً كان معظمهم مُركَّزاً في إسبانيا. وقد بلغ تعداد يهود العالم في القرن الخامس عشر حسب أحد التخمينات الإحصائية نحو مليون وخمسمائة ألف.

وحتى ذلك التاريخ، كانت أغلبية يهود العالم من السفارد المستقرين في حوض البحر الأبيض المتوسط: روما ـ الإسكندرية ـ إسبانيا ـ المغرب (التابعة للدولة العثمانية) ـ سالونيكا ـ إيطاليا ـ فرنسا، ومن يهود العالم الإسلامي، ولم يكن الإشكناز من يهود أوربا سوى أقلية صغيرة. ثم تغيَّرت الصورة بالتدريج ابتداءً من تلك الفترة حتى أصبح الإشكناز هم الأغلبية العظمى.

ولتفسير ذلك الوضع، يجب الوقوف عند ظاهرة تزايد عدد أعضاء الجمـاعة اليهودية في بولنـدا وتَحوُّلها إلى أكبر الجيوب اليهودية في العالم. وتقول الإحصاءات إن عدد يهود بولندا (في عام 1500) كان يبلغ نحو 10 - 15 ألفاً، ولكنه زاد فجأة إلى 150 ألفاً بين عامي 1500 و1648. وتقول الموسوعة اليهودية إنهم أصبحوا بذلك أكبر تَجمُّع يهودي في العالم إذ كان قد تم طرد يهود إسبانيا.

واستمرت الزيادة حتى بلغ عدد اليهود في العالم في أواخر القرن السابع عشر نحو مليونين، حسب رأي آرثر روبين، نصفهم سفارد ويهود من العالم الإسلامي والنصف الآخر إشكناز (في أوربا) إذ أن عدد يهود أوربا كان أساساً في بولندا وبلغ 500 ألف حسب هذه التقديرات. ولكن، مع العقود الأخيرة من القرن الثامن عشر (عام 1770)، بلغ عدد يهود العالم مليونين و250 ألفاً، غالبيتهم العظمى (1.75 مليون) في أوربا، منهم 1.2 مليون في بولندا وحدها، أي أن يهود أوربا أصبحوا يهود بولندا. وفي عام 1800، بلغ عدد يهـود العالم وفقاً لتقديرات روبين، مليونين ونصف المليون، منهم مليون وخمسمائة ألف في أوربا ومليون في الشرق.

وقد بيَّن آرثر كوستلر في كتابه عن يهود الخَزَر أنه لا يمكن تفسير هذا الانقلاب السكاني إلا بما يسميه «الشتات الخَزَري»، أي انتقال يهـود الخَزَر، بعد سـقوط مملكـتهم، إلى شرق أوربا وخصوصاً بولندا. ولا يختلف المؤرخون الآن في أن أعداداً من يهود الخَزَر استقرت في بولندا، ولكنهم يختلفون حول حجم هذا العدد. ونحن، على أية حال، نميل إلى الأخذ برأي كوستلر لأنه، على الأقل، يفسر ظاهرة محيِّرة لا يمكن تفسيرها من خلال أية فرضية أخرى.

وقد صاحب زيادة يهود أوربا انخفاض تعداد يهود العالم الإسلامي الذين بلغ عددهم 600 ألف في عام 1800. ويذهب روبين إلى أن عددهم لم ينخفض وإنما ظل على ما كان عليه. ولذا، فهو يرى أن عددهم ظل يدور حول المليون.

وقد ظهرت في تلك المرحلة (القرن الثامن عشر) نواة الجماعة اليهودية في العالم الجديد، وتراوح عدد أعضائها بين عشرة آلاف وخمسة عشر ألفاً.

ولكن، بعد انعقاد مؤتمر فيينا في عام 1815، بدأت مرحلة جديدة تماماً إذ حدث انفجار سكاني بين اليهود. فإذا كان عدد اليهود في عام 1800 هو مليونان وخمسمائة ألف، فقد بلغ هذا العدد عشية الحرب العالمية الثانية نحو 16.724.000. ومعنى ذلك أنهم زادوا ستة أضعاف في أقل من 150 عاماً. وفي الفترة من عام 1820 إلى عام 1825، كان عدد اليهود 3.280.000، وزاد إلى 10.602.500 مع عام 1900. وبهذا، فقد زادوا ثلاثة أضعاف خلال 75 عاماً. ويُلاحَظ أن الزيادة كانت بين يهود العالم الغربي فقط، ذلك أن تعداد يهود الشرق لم يزد بل انكمش إلى 900 ألف عام 1840، وإلى 800 ألف عام 1860، ثم زاد إلى 950 ألفاً بسبب هجرة بعض يهود اليديشية من الغرب عام 1900. ولكن هذا النمو لم يكن مقصوراً على أعضاء الجماعات اليهودية، ففي الفترة نفسها تقريباً (من عام 1815 إلى عام 1914) زاد سكان أوربا من 190 مليوناً إلى 400 مليون. وزاد سكان الولايات المتحدة من 7.240.000 عام 1810 إلى 91.972.000 عام 1910، وإن كانت الزيادة في الولايات المتحدة يمكن تفسيرها على أساس الهجرة، فهـذا هـو عصر الهجرة الأوربيـة الكبرى (اليهودية وغير اليهودية). وقد استوعبت الولايات المتحدة نحو 85% من المهاجرين، لكن الزيادة في أوربا لا يمكن تفسيرها إلا على أساس زيادة نسبة المواليد وقلة نسبة الوفيات. ومع هذا، يُلاحَظ أن نسبة زيادة أعضاء الجماعات اليهودية كانت أعلى من النسبة العامة في أوربا، ولعل هذا يعود إلى أن أعضاء هذه الجماعات كانوا يعيشون تحت الظروف نفسها التي أدَّت إلى زيادة سكان أوربا، وتحت ظروف أخرى خاصة بهم ساهمت في رفع النسـبة عن النسبة العامة في أوربا. فيُلاحَظ أن تَحسُّن الأحوال الصحية، نتيجة الثورة الصناعية في أوربا، قد ترك أثره الإيجابي في أعضاء الجماعات اليهودية، ولكن يبدو أن المستوى الصحي داخل الأحياء اليهودية كان أعلى من المستوى الصحي العام بسبب الرقابة على اللحوم والأطعمة نظراً لتطبيق قوانين الطعام.

وفي شرق أوربا، حيث تَركَّز معظم اليهود، كان دخل أعضاء الجماعة اليهودية أكثر ارتفاعاً وكان أسلوب حياتهم أكثر راحة ووفرة من دخل وأسلوب حياة معظم الجماهير الفلاحية، كما كان أعضاء الجماعة يتمتعون بمستوى ثقافي أعلى. وقد انعكس هذا، بطبيعة الحال، على نوعية الطعام الذي يستهلكونه وأدَّى إلى اختفاء أو تناقص الأمراض المرتبطة بالفقر وسوء التغذية. وكانت الأسرة اليهودية تتمتع بدرجة عالية للغاية من التماسك، الناجم عن التمسك بالقيم الدينية والتقليدية، بقدر يفوق كثيراً تَماسُك الأسر غير اليهودية. ويظهر هذا في إحصاءات الأطفال غير الشرعيين، حيث كانت نسبتهم بين اليهود في كثير من الأحيان أقل بدرجة ملحوظة من نسبتهم بين غير اليهود. والعنصران السابقان يسهمان معاً في خفض نسبة الوفيات بين الأطفال كما يشجعان على الإنجاب.

ومن أهم العناصر الأخرى التي ساعدت على هذا الانفجار زواج اليهود في سن مبكرة للغاية. فقد كان من الشائع أن يتزوج الشبان من سن 15 إلى 18 بفتيات من سن 14إلى 16. وكانت الحكومات المركزية القومية المطلقة في روسيا والنمسا تلجأ أحياناً إلى تحديد سن الزواج وعدد المسموح لهم بالزواج (نتيجة شيوع آراء مالتوس ولغير ذلك من الأسباب). وحينما كانت الشائعات تنطلق حول أحد القوانين وشيكة الصدور، كان اليهود يسرعون بتزويج كل صغار السن قبل صدوره. وفي إحدى الإحصاءات البولندية (في القرن الثامن عشر)، ورد ذكر لزوجة عمرها ثماني سنوات. وفي عام 1712، منعت السلطات في أمستردام زواج طفلين يهوديين تحت سن الثانية عشرة. ومن العناصر الأساسية التي ساهمت في تزايد عدد اليهود أن الفترة من عام 1800 إلى عام 1914 لم تشهد الأماكن التي يوجد فيها أغلبية يهود العالم أية حروب، بل إن معارك نابليون وقعت بعيداً عن مراكز التجمع اليهودي. وعلاوة على كل هذا، لم تكن هناك دول كثيرة تقوم بتجنيد اليهود، ففي روسيا القيصرية، لم يبدأ تجنيدهم إلا عام 1827، ولم يُجنَّدوا في بولندا حتى عام 1845، ولا في الدولة العثمانية حتى عام 108. وفيما يتصل بالمذابح التي تطنطن بها المراجع الصهيونية، فلم يقع ضحيتها سوى بضع مئات طيلة هذه الفترة.

لكل هذه الأسباب، حدثت الطفرة السكانية التي أشرنا إليها في الفترة من عام 1820 إلى عام 1825 حيث بلغ عدد يهود العالم 3.281.000 نسمة، منهم 2.730.000 في أوربا (1.600.000 في روسيا ومعها بولندا ـ 80 ألفاً في رومانيا ـ 568 ألفاً في الإمبراطورية النمساوية/المجرية - 223 ألفاً في ألمانيا ـ 50 ألفاً في فرنسا ـ 45 ألفاً في هولندا). وكانت البقية موزعة على أنحاء العالم، فلم يكن يوجد سوى عشرة آلاف في الأمريكتين منهم ثمانية آلاف في الولايات المتحدة.

وفي عام 1850، بلغ عدد يهود العالم 4.750.000، منه 72% في شرق أوربا (2.350.000 في روسيا وبولندا) و14.5% في غرب أوربا، و1.5% في الولايات المتحدة، و12% فقط في الشرق الأوسط. وقد قفز هذا العدد قفزة كبيرة عام 1880 (تاريخ ظهور الصهيونية بين اليهود) إلى 7.500.000 موزعاً على النحو التالي: أربعة ملايين في روسيا وبولندا (56.2%)، ومليون وخمسمائة ألف في الإمبراطورية النمساوية (20%)، وفي دول أوربا الأخرى مليون (13.3%)، ومائتان وخمسون ألفاً في الولايات المتحدة (3.3%)، والبقية في آسيا وأفريقيا وغيرها من المناطق. ومما لا شك فيه أن زيادة حجم الكتلة البشرية اليهودية في العالم الغربي، في روسيا وبولندا على وجه التحديد، قد ساهم في تَفاقُم الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية لأعضاء الجماعات اليهودية، وهو ما يُطلَق عليه «المسألة اليهودية». وإذا لاحظنا تناقص يهود العالم الإسلامي والسفارد، قياساً إلى تعداد اليهود في العالم، إلى أقل من 8%، يصبح من الدقة العلمية ألا نتحدث عن المسألة اليهودية بشكل مطلق وإنما عن المسـألة اليهودية الأشـكنازية في روسيا وشرق أوربا.

وقد قفز عدد اليهود إلى 10.602.000 عام 1900، ثم بلغ عشية الحرب العالمية الأولى 13 مليوناً. وهذا يمثل، مرة أخرى، قفزة كبيرة. وكان هؤلاء موزعين على النحو التالي: 5.500.000 في روسيا (من نحو 127 مليون روسي) ويمثلون 42.3% من يهود العالم. وقد قفزت الولايات المتحدة إلى المرتبة الثانية نتيجة الهجرة اليهودية الضخمة إذ بلغ عدد اليهود فيها 2.500.000، أي 19.2.% من يهود العالم. ويُلاحَظ أن هذه الهجرة لم تسهم كثيراً في تخفيف حدة التوتر بالنسبة إلى يهود روسيا وبولندا، نظراً لأن أعدادهم كانت تتزايد بسرعة تفوق أعداد المهاجرين. أما بقية الجماعات اليهودية في العالم، فقد كان عدد أعضائها على النحو التالي:

الإمبراطورية النمساوية: 2.500.000، أي 19.2% من يهود العالم. دول أوربا الأخرى: 1.700.000، أي 13.1%، موزعين على النحو التالي:

300.000رومانيا ـ وزاد العدد إلى 850 ألفاً بعد أن ضمت رومانيا بعض المناطق التي تضم جماعات يهودية.

600.000 ألمانيـا.

250.000 إنجلترا.

100.000 هولنـدا.

100.000 فرنسـا.

47.000 إيطاليـا.

750.000 في الشرق أي 5.8 %.

85.000 في فلسطين أي 0.1 %.

وتذكر الموسوعة اليهودية (جوديكا) أن تعداد يهود العالم عام 1939 بلغ 16.724.000، منهم .9.480.000 في أوربا (من مجموع تعداد السكان البالغ 512.849.000)، و2.825.000 في الاتحاد السوفيتي (من مجموع تعداد السكان البالغ 132.519.000)، وفي بولندا 3.250.000 (من مجموع السكان البالغ 32.183.000). ويُلاحَظ أن بولندا استقلت عن روسيا، وبالتالي أصبح اليهود يشكلون نسبة 10.1% من السكان، وهي أعلى النسب التي وصل إليها تعداد اليهود في أي بلد في التاريخ الإنساني.

وبلغ عدد اليهود 850 ألفاً في رومانيا (من مجموع عدد السكان البالغ 18.053.000) و254.560 في الجمهوريات البلطيقية: ليتوانيا ولاتفيا وإستونيا (من مجموع عدد السكان البالغ 5.106.000). كما كان يوجد 357 ألف يهودي في تشيكوسلوفاكيا عام 1930، و445 ألف يهودي في المجر عام 1930، و504 آلاف يهودي في ألمانيا مـن مجموع عدد السكان البالغ عددهم 65.988.000. وكانت الولايات المتحدة تضم 4.975.000 يهودي، وبذلك أصبحت الولايات المتحدة مركزاً لأكبر جماعة يهودية في العالم، إذ أن يهود اليديشية في شرق أوربا كانوا مقسَّمين بين عدة دول من أهمها روسيا السوفيتية وبولندا ورومانيا. وكان يوجد 155.700 في كندا، و275 ألفاً في الأرجنتين. وكانت الأمريكتان تضمان 5.537.000. أما آسيا، فكانت تضم 1.047.000 بسبب تَزايُد حجم الجيب الاستيطاني الصهيوني الذي كان يضم 475.000. أما الباقون، فكانوا موزعين على النحو التالي: 90 ألفاً في العراق و26 ألفاً في سوريا ولبنان و50 ألفاً في اليمن والجزيرة العربية و50 ألفاً في إيران و24 ألفاً في الهند و10 آلاف في الصين وألفان في اليابان وكان اليهود الموجودون في بلاد مثل الصين من يهود اليديشية في الغالب. وقد بلغ عدد اليهود في أفريقيا 627.500حيث كانت أكبر جماعة منهم في المغرب إذ بلغت 162 ألفاً، تليها الجزائر التي كان بها 110 آلاف، وجنوب أفريقيا حيث كان بها 90 ألفاً، فمصر 70 ألفاً، ثم تونس وضمت 59 ألفاً، وأخيراً إثيوبيا التي ضمت 51 ألفاً. وبلغت الجماعة اليهودية في أستراليا 23.600. ويُلاحَظ أن حوالي 5.537.000 يهودي، أي نحو ثلث يهود العالم، يوجدون في دول استيطانية، هي: الولايات المتحدة، وكندا، وجنوب أفريقيا، وفلسطين، وأستراليا، ونيوزيلندا، وأمريكا اللاتينية. ويمكن أن نضيف إليهم كذلك المستوطنين اليهود في الجزائر، لأن اليهود الأصليين كانوا أقلية. ومن ثم يمكننا القول بأن الجماعات اليهودية في العالم أصبحت جزءاً من التجربة الاستيطانية الغربية (والأنجلو ساكسونية على وجه التحديد). وقد أورد آرثر روبين الجدول السابق عن الأماكن التي استوطن فيها أعضاء الجماعات اليهودية وأعدادهم.

ومن الجدول السابق، يُلاحَظ أن الولايات المتحدة أصبحت تضم أكبر تَجمُّع يهودي في العالم. كما يُلاحَظ أنه برغم استمرار الأعداد في التزايد إلى ما بعد الحرب العالمية الأولى، فإن العوامل التي أدَّت إلى هذا التزايد قد اختفت تماماً، كما ظهرت عناصر لم يكن من شأنها تشجيع اليهود على الإنجاب، بل وأدَّت إلى تناقص أعدادهم، ومن أهم هذه الأسباب تَصاعُد معدلات العلمنة بين أعضاء الجماعات اليهودية. ففي بداية القرن التاسع عشر، كانت هذه الجماعات من أقل الجماعات علمنة، ولكن معدلات العلمنة تزايدت بالتدريج من خلال محاولات الحكومات الأوربية المختلفة دمـجهم وإصـلاحهم وتشــجيعهم على الاندماج، بحيث كانت معدلات العلمنة بينهم مع نهاية القرن من أعلى المعدلات على الإطلاق. وقد كان 03% من السجناء السياسيين من اليهود، كما ازدادت نسبة الأطفال غير الشرعيين وأصبحت نسبة العاهرات اليهوديات والقوادين اليهود من أعلى النسب.

ويُلاحَظ أن هذه الفترة هي فترة الهجرة اليهودية الكبرى التي شملت 50% من يهود شرق أوربا، ومن المعروف أن الجماعات المهاجرة تحجم عادةًً عن الإنجاب بسبب تقلقل وضعها. والعناصر المهاجرة هي عادةً العناصر الشابة، بل ويُقال إن الهجرة اليهودية قضت تقريباً على اليهود في المرحلة العمرية 20 - 40 سنة وهي مرحلة الخصوبة التي تجعل أية جماعة قادرة على أن تُعيد إنتاج نفسها. ويُلاحَظ كذلك أنه بعـد اندماج اليهود في مجتمعاتهم، بدأت قطاعات منهم تحقق حراكاً اجتماعياً وتَحسُّناً في مستوى المعيشة، ومن المعروف أن تَحسُّن مســتوى المعيشة يؤدي إلى تَبنِّي سلوك حذر تجاه الإنجاب.

وإلى جانب ذلك، فإن أغلبية يهود العالم بدأت تستقر في المدن الكبرى والعواصم. فقبل الحرب العالمية الثانية، كان ما يزيد على نصف يهود العالم، أي نحو 52% منهم، يعيشون في 42 مدينة في كل منها 50 ألف يهودي أو أكثر، وكان ما بين 35% و40% يتركزون في عشرين مدينة في كل منها ما يزيد على 100 ألف يهودي. وهذا يدل على أن معدل التركز في المدن كان آخذاً في التزايد، حيث كانت النسبة في بداية القرن 18% في المجموعة الأولى و13% في المجموعة الثانية. وفي عام 1933، كان يعيش مليون يهودي روسي، أي ثلث يهود روسيا، في مدن سوفيتية لا تضم سوى 5% من أعضاء الأغلبية، ويعيش بقية اليهود في مدن صغيرة. أما في الولايات المتحدة (عام 1927)، فقد كان 84% من اليهود يعيشون في 18 مدينة كبيرة (وكانت نيويورك تضم نصف الجماعة اليهودية). وفي الثلاثينيات، كان يعيش في كوبنهاجن نحـو 93% من يهـود الدنمارك، وكان نحـو 92% من يهود النمسـا في فيينا، ونحو 70% من يهود فرنسا في باريس، ونحو 65% من يهود إنجلترا في لندن، وهكذا. ومن المعروف أن التركز في المدن لا يشجع على الإنجاب، وأن المدن لم يمكنها في الماضي (في روما واليونان القديمة) أن تحافظ على العدد المناسب من السكان من خلال التزايد الطبيعي.

وقد أسلفنا أن المنطقة التي تَركَّز فيها اليهود، إبَّان القرن التاسع عشر، كانت منطقة لم تَدُر فيها أية معارك كبرى أو حروب حتى الحرب العالمية الأولى. ولكن، مع الحرب العالمية الأولى، تغيَّر الموقف تماماً حينما تحوَّلت بولندا وجاليشيا وليتوانيا ورومانيا وسالونيكا إلى مسرح للعمليات العسكرية. ولم يتوقف الأمر مع نهاية الحرب، إذ أصبحت أوكرانيا مسرحاً لعمليات عسكرية عديدة التحمت فيها القوات البلشفية مع قوات الروس البيض (حيث انضم الأوكرانيون إلى الفريق المعادي للثورة)، وتم الهجوم على أعضاء الجماعة اليهودية الذين كان يُنظَر إليهم باعتبارهـم عمـلاء للبلاشـفة، إذ أن هؤلاء كانوا قد وضعوهم تحت حمايتهم، كما كان ميراث يهود الأرندا جزءاً من تجربة الأوكرانيين التاريخية. وكان تجنيد اليهود في القوات المسلحة يتم بصورة كاملة، بعدما أصبح عتق اليهود حقيقة مستقرة، فبلغ مجموع عدد المحاربين اليهود في الجيش الروسي والنمساوي والألماني وفي قوات الحلفاء نحو نصف مليون يهودي، وهو عدد ضخم في واقع الأمر. وقد سقط من اليهود العديد من الضحايا، فقُتل نحو 12 ألف جندي ألماني يهودي. ولنا أن نتخيل نسبة القتلى بين المقاتلين اليهود في كل الأطراف، ولكن يجب أن نشير إلى أن هذا العنصر لا ينقص من عدد اليهود بصورة مباشرة فقط، أي من خلال الوفاة، فذلك يتم بصورة غير مباشرة أيضاً من خلال العزوف عن الإنجاب. ففي مناطق وفترات الحروب والثورات، بكل ما تسببه من حركة وعدم طمأنينة، يجد البشر أن من السخف بمكان إنجاب طفل ليعيش في هذه الدنيا.

ومن الظواهر الأخرى التي أدَّت إلى تَناقُص أعداد اليهود الزيجات المُختلَطة. فبعد الحرب العالمية الأولى، كان نحو 50% من الزيجات اليهودية في ألمانيا (عام 1915) زيجات مُختلَطة زادت إلى 60% في عام 1932. وفي كوبنهاجن، وصلت نسبة الزيجات المُختلَطة إلى نحو 86% في الفترة بين عامي 1880 و1905. وفي أمستردام، وصلت النسبة إلى نحو 70% (1930). ومن المعروف أن معدلات الاندماج المرتفعة تؤدي إلى تَزايُد الزواج المُختلَط. وفي نهاية القرن التاسع عشر، كانت عملية الاندماج في أوربا تأخذ شكل التنصُّر. وكانت نسبة التنصُّر تتفاوت من بلد إلى آخر، ووصلت إلى حدِّها الأقصى في ألمانيا حيث حقق اليهود أعلى معدلات الاندماج، وهو ما أدَّى إلى انصهارهم. ولكن الانصهار يأخذ شكلاً مغايراً تماماً في العصر الحديث، ففي الماضي كان على اليهودي الذي يود الهرب من هويته أن يعتنق المسيحية، أما في المجتمعات العلمانية فيستطيع اليهودي أن ينكر هويته اليهودية ويتخلى عنها دون أن يضـطر إلى تَبنِّي هوية دينية أخرى. وربما حدث شيء من هذا القبيل بين أعـداد المهاجرين الروس إلى الولايات المتـحدة وغيرها من البلاد. ونحن نعرف أن كثيراً من اليهود الذين هاجروا إلى أمريكا اللاتينية بشهادات تعميد مزيفة أصدرها الفاتيكان لتسهيل عملية هربهم من الإرهاب النازي، قد آثروا الإبقاء على هويتهم المسيحية ولم يعيدوا تأكيد انتمائهم اليهودي حتى بعد زوال الخطر.

لكل هذه الأسباب، تَناقص تعداد اليهود وتناقص معدل الإنجاب بينهم. وقد بدأ هذا الاتجاه في منتصف القرن التاسع عشر بين يهود غرب أوربا الذين كانوا يشكلون أقلية، ثم انتقل إلى وسطها وشرقها مع نهاية القرن، وتَزايُد معدل التناقص واستمر حتى الوقت الحالي حيث وصل إلى معدلات عالية للغاية. أما في الجيب البولندي، حيث المناطق التي تَركَّز فيها معظم يهود العالم وحكمت روسيا معظمها وحكمت النمسا جزءاً آخر منها وحكمت ألمانيا الجزء الثالث، وهو الجيب الذي كان مركزاً ليهود اليديشية وكان يسميه هتلر «البنية التحتية البيولوجية للشعب اليهودي»، فقد تناقصت نسبة المواليد بشكل مذهل. ففي منتصف القرن التاسع عشر، كان أعضاء الجماعة في روسيا القيصرية يتمتعون بواحدة من أعلى نسب الخصوبة والتكاثر بين شعوب الإمبراطورية، ولكن مع عام 1926 انخفضت النسبة إلى أقل النسب على الإطلاق إذ بلغت 24.8 في الألف بعد أن كانت 35.9. وقد ظلت نسبة التكاثر عالية بين الروس إذ وصلت 43.65 في الألف بفارق قدره 19.575 في الألف بين شعوب الدولة السوفيتية وأعضاء الجماعة. ويُلاحَظ أنه رغم وجود جماعات يهودية أخرى في الاتحاد السوفيتي، من بينها اليهود الجورجيون ويهود القوقاز وغيرهم ممن لم يمروا بالظروف نفسها التي مرَّ بها يهود اليديشـية، فإن هـذه الجماعـات كانت صغيرة وربما لا تتجاوز 5%، ومن ثم فإنها لم تؤثر بتاتاً في الصورة العامة. وفي بولندا، نجد الاتجاه نفسه. فقد انخفضت نسبة المواليد في وارسو من 28.6 في الألف عام 1900 إلى 12.3 في الألف عام 1925. وفي لودز، انخفضت نسبة المواليد بين اليهود خلال سبعة أعوام إلى 11.6 في الألف. وفي جاليشيا، كانت الإحصاءات مثيرة، فبعد أن كانت نسبة المواليد بينهم من أعلى النسب في أوربا مع بداية القرن الحالي إذ وصلت إلى 38.16 في الألف (ولذا كان يهود النمسا يسمونها «فاجينا جودايوروم» أي «فَرْج اليهود»)، انخفضت النسبة فيها إلى 19.3 في الألف عام 1934، أي إلى نحو 50%. وكانت نسبة المواليد بين يهود المجر 19.33 في الألف في بداية القرن الحالي وانخفضت إلى 5.10 فقط، أي أنها انخفضت بنسبة 23.4، أي بنحو 66%. وكانت معدلات العلمنة بين يهود المجر من أعلى النسب في أوربا كلها، كما كانت نسبة عدد الأطفال غير الشرعيين في بودابست وكذلك نسبة الانتحار بين أعضاء الجماعة من أعلى النسب بين أعضاء الجماعات. وفي رومانيا، كانت نسبة المواليد بين اليهود عام 1900 نحو 32.6 في الألف، ولكنهـا انخفضـت مـع عام 1934 إلى 14.8في الألف. وبلغت نسبة المواليد 2 في الألف في لندن مع عام 1932.

وفيما يلي جدول بتغيُّر نسبة المواليد بين يهود بروسيا، نقلاً عن آرثر روبين، كمثل على تَناقُص نسبة اليهود.

السنة / النسبة في الالف

1832 / 35.5

1841 - 1866 / 34.7

1878 - 1882 / 30.7

1888- 1892 / 23.7

1898 - 1912 / 19.7

1913 / 15.0

1924 / 14.6

1926 / 12.0

1928 / 10.5

1929 / 9.1

ومعنى ذلك أن نسبة المواليد عام 1929 كانت أقل من ثلث نسبتهم منذ خمسين عاماً.

ويُلاحظ آرثر روبين أنه خلال خمسة وعشرين عاماً (بين عامي 1905 و1930) هبطت نسبة الزيادة من 18 إلى 8 في الألف، كما

ساجدة لله
2010-10-25, 05:24 AM
يُلاحظ أن التقدم الذي أحرزه اليهود خلال 150عاماً (من عام 1750 إلى عام 1905) فُقد خلال 25 عاماً!

وقد لاحظ يوريا إنجلمان في كتابه ظهور اليهود في العالم الغربي (1944) أن نسبة المواليد لا تُعوِّض نسبة الوفيات، وأن معدلات المواليد بين اليهود في شرق أوربا وجنوب شرق أوربا (دول البلقان وربما النمسا) وصلت إلى نقطة الخطر (قبيل العدوان النازي). وقد حذر ثايلهابر في دراسته اختفاء اليهود الألمان (1908) مما سماه «الضعف السكاني» حيث بيَّن أنه، إذا لم يُوقَف هذا الاتجاه، فسيختفي يهود ألمانيا تماماً.

وبالفعل، نجد أن الوفيات بين يهود بودابست عام 1931، حيث كان يعيش نصف يهود المجر، قد زادت عن المواليد بنحو 1507 ثم هبطت إلى 1469 عام 1932، واستمر هذا النمط حتى الحرب العالمية الثانية. وقد حدث الشيء نفسه في بروسيا حيث فاق عدد الوفيات عدد المواليد بمقدار 29.2 عام 1931، ثم زاد إلى 2399 عام 1932 وإلى 3480 عام 1935. وفي عام 1916، سجلت الجماعة اليهودية في برلين 494 مولوداً مقابل2483 حالة وفاة، أي أن الوفيات كانت خمسة أضعاف المواليد. وفي عام 1939، كانت المسألة مخيفة، فمن مجموع سكان برلين البالغ عددهم 90 ألفاً سُجل ستة مواليد فقط طيلة العام في مقابل 1944 حالة وفاة، أي مولود واحد مقابل كل 324 حالة وفاة. ولم يكن الأمر مختلفاً في فيينا حيث كان يعيش 92.9% من يهود النمسا، فقد ظل معدل المواليد في انخفاض مستمر لمدة عشرة أعوام. وفي عام 1936، سُجِّل في فيينا 673 مولوداً يهودياً مقابل 2061 حالة وفاة. ويقول يوريا إنجلمان تعليقاً على الإحصاءات السابقة: إذا لم توقَف العملية ذات الأبعاد الثلاثة [تناقص المواليد وتزايد الوفيات وتزايد معدلات الاندماج] فسوف يؤدي ذلك في النهاية إلى تَفسُّخ السكان اليهود الكامل، وأكبر دليل على أن هذا ليس مجرد افتراض وإنما هو تجربة السكان اليهود في فيينا وبودابست وبرلين وهامبورج وباريس ولندن وبادوا وتريسته ومدن أخرى.

وأثناء فترة الحرب العالمية الثانية، وصلت هذه الاتجاهات إلى ذروتها، إذ زادت حركة أعضاء الجماعات اليهودي واضطُر كثير منهم إلى إخفاء انتمائه اليهودي، كما أن ظروف الحرب لم تشجع كثيراً على القيام بالأفعال الإنسانية العادية مثل الزواج والإنجاب. بالإضافة إلى أن عدداً كبيراً من اليهود لقوا حتفهم بسبب الجوع والمرض. ففي عام 1941، تُوفي نحو 10% من يهود وارسو بسبب الجوع والمرض، ثم زادت النسبة إلى 15 %. وقد تَفشَّت بعض الأوبئة بعد عام 1942 حسب تقرير البوند، وتُوفي الكثيرون بسبب عمليات الحرب. ويُقدَّر عدد الذين لقوا مصرعهم حتى عام 1941 بنحو 250 ألفاً. وهرب الألوف إلى الاتحاد السوفيتي وهلك بعضهم أثناء هروبهم. وكما جاء في الموسوعة اليهودية العالمية، فإن كثيرين ممن وصلوا لم يكترثوا كثيراً بإعلان هويتهم اليهودية.

والبيانات السابقة تجعلنا نعيد النظر في قضية الستة ملايين يهودي (ضحايا الإبادة النازية) إذ من الممكن أن تكون هناك نسبة كبيرة من أعضاء الجماعات اليهودية قد اختفت لا من خلال الإبادة وإنما من خلال التناقص الطبيعي. ونحن نذكر هذا لا من قبيل التقليل من حجم الجريمة النازية الأوربية ضد يهود أوربا وغيرهم من الجماعات الإثنية والدينية، وإنما من قبيل تقديم صورة دقيقة لأعداد اليهود في العالم، وحتى لا يحتكر أحد لنفسه لقب «الضحية الوحيدة» ثم يؤسس على هذا نظرية في الحقوق اليهودية المطلقة في بقعة من الشرق. فالجريمة النازية ضد الجماعات اليهودية والسلاف والغجر وغيرهم تُعَدُّ من أبشع الجرائم التي ارتكبتها الحضارة الغربية الحـديثة ضد بعـض الأقـليات والجماعات البشرية التي تعيش في كنفها. وقد ارتكبت هذه الحضارة الكثير من البشاعات ضد الشعوب الأفريقية والآسيوية، ولكن الفضيحة اتضحت هذه المرة لأن ضحايا الجريمة كانوا من الجنس الأبيض.

أما بعد الحرب العالمية الثانية، فقد ظهرت الصورة السكانية التي لا تزال سائدة حتى الآن، حيث أصبحت الولايات المتحدة هي وطن اليهود بلا منازع، إذ بلغ عددهم 5000.000 عام 1948، و5.870.000 عام 1967 من مجموع يهود العالم البالغ عددهم 11.373.000 عام 1948، و13.837.500 عام 1967، أي أن نصف يهود العالم تقريباً موجود في الولايات المتحدة. ولكن عدد اليهود في البلاد الاستيطانية هو 9.583.000، فيوجد 6.925.000 في الأمريكتين و2.436.000 في إسرائيل و115 ألفاً في جنوب أفريقيا و5.500 في روديسيا و75 ألفاً في أستراليا ونيوزيلندا. ومعنى هذا أن أعضاء الجماعات اليهودية انتقلوا من أوربا، حيث كانوا متركزين حتى أواخر القرن التاسع عشر، إلى الدول الاستيطانية، خصوصاً الولايات المتحدة وإسرائيل، مع التسليم بأن الولايات المتحدة تحتل مركز الصدارة. وقد انكمش يهود اليديشية، الذين كانوا قد فَقَدوا شخصيتهم اليديشية (وأُطلق عليهم بسبب ذلك مصطلح «يهود الاتحاد السوفيتي»)، فلم يبق منهم في الاتحاد السوفيتي سوى مليونين في عام 1948، لكن عددهم زاد إلى 2.650.000 عام 1959. وهم، بذلك، يُكوِّنون أكثر من نصف يهود أوربا في ذلك الوقت. ولا توجد جماعات يهودية كبيرة في إنجلترا أو فرنسا. وقد أورد الكتاب السنوي الأمريكي اليهودي (1983) الإحصائية التالية لأكبر الجماعات اليهودية في العالم (لعام 1930) وبجوارها الإحصاءات الخاصة لعام 1983 وقد عدلناها حسب إحصاء 1989 .

الســــنة / 1930 / 1989

المجموع العالمي / 15مليون / 12210700

الولايات المتحدة / 4228000 / 5515000

الاتحاد السوفيتي (سابقاً) / 2927000 / 1370000

بولندا / 2845000 / 4100

رومانيا / 900000 / 19000

ألمانيا / 564000 / 35000

المجر / 477000 / 58000

تشيكوسلوفاكيا / 354000 / 7900
بريطانيا / 300000 / 320000

النمسا / 250000 / 6300

فرنسا / 220000 / 530000

الأرجنتين / 200000 / 218000

فلسطين / إسرائيل / 161000/ 3717000

كندا / 126000 / 310000

جنوب أفريقيا / 72000/ 114000

البرازيل / 30000 / 100000

أستراليا / 22000 / 85000

ويُلاحَظ أن الكتلة البشرية اليديشية في كلٍّ من الاتحاد السوفيتي وبولندا ورومانيا والنمسا والمجر قد صفِّيت تقريباً ولم يبق في عام 1983 سوى 1.630.000 في الاتحاد السوفيتي، ولكنهم على أية حال لم يعودوا يتحدثون اليديشية. وقد انخفض هذا العدد إلى1.370.000 في عام 1989، وازداد انخفاضاً بعد هجرة اليهود السوفييت الأخيرة وبعد تفكك الاتحاد السوفيتي. ولأول مرة في التاريخ الحديث، أصبح عدد أعضاء الجماعات اليهودية في غرب أوربا يفوق عددهم في شرقها. ولا تزال الولايات المتحدة تتصدر القائمة منذ عام 1930 وإن كانت أهميتها ازدادت بشكل حاد بسبب تناقص أعداد الجماعات اليهودية في بقية أنحاء العالم. وشهدت هذه الفترة ظهور التجمع الصهيوني في فلسطين كنواة كبيرة بلغت نحو 750 ألفاً، أي 8% تقريباً من يهود العالم. وقد أخذت هذه الخلية في التضخم فأصبحت تضم 2.436.000 عام 1967 في حين كان الجسد الأكبر آخذاً في الانكماش.

أعـداد الجماعات اليهودية في العالم: بعض الإشكاليات
(Worldwide Number of the Jewish Communities (Some Problematics
ثمة مشاكل عديدة تحيط بمحاولة تناول موضوع تعداد الجماعات اليهودية عبر التاريخ.

1 ـ يُلاحَظ أن معظم الأرقام المُستخدَمة (حتى عام 1800) تخمينية إلى حدٍّ كبير، وتقريبية حتى عام 1900 (وهذه مشكلة عامة بالنسبة لأي تعداد).

2 ـ ثمة تحيزات عقائدية عميقة تجعل كثيراً من الدارسين يفرضون عليها دلالات لا تحتملها. ومن أكبر الأمثلة على التحيز المذهبي في المراجـع الصهيونية عـدم تَعرُّضها لقضية يهود الخَزَر وهجرتهم إلى بولندا، إذ تدل بعض الدراسات على أن التفسير الوحيد المقبول للتزايد الفجائي لتعداد يهود بولندا ابتداءً من القرن الرابع عشر (حتى أصبحوا أكبر جماعة يهودية في العالم) هو هجرة بقايا يهود الخَزَر إلى شرق أوربا. فمناقشة مثل هذه القضية، أو حتى مجرد ذكرها، يفتح الباب على مصراعيه لقضية أكثر أهمية وهي مدى انتماء يهود أوربا للعرْق السامي وللحضارة السامية وحقيقة هويتهم العرْقية أو الإثنية وحقوقهم الأزلية المفترضة.

3 ـ من الأمثلة المهمة الأخرى، مسألة «الستة ملايين» يهودي الذين يُفترض أن النازيين قاموا بإبادتهم، إذ يتحول هذا الرقم إلى رقم سحري، وإلى أيقونة عقائدية ترمز إلى الشعب الشاهد الذي أصبح الشعب الشهيد. وإذا ناقش أحد مصداقية هذا الرقم، فإنه يُتهم فوراً بانتهاك الحرمات وإنكار الهولوكوست! ورغم أن رقم «الستة ملايين» حالة متطرفة من التحيز، إلا أنها الاستثناء الذي يثبت القاعدة.

4 ـ لعل من أهم المشاكل التي تقابل دارس تعداد أعضاء الجماعات اليهودية في العالم مفهوم «اليهودي»: هل اليهودي من يتبع تعاليم دينه أم أنه من يرى نفسه يهودياً أم هو من يراه الآخرون كذلك؟ وفي هذا العالم الذي تزايدت فيه معدلات العلمنة، يسود التعريف العلماني للهوية اليهودية (اليهودي هو من يرى نفسه كذلك). ولا توجد مؤسسة دينية مركزية تقوم بعملية التعريف والفرز، فتتداخل الحدود ويصعب تحديد من هو اليهودي. ولذا، نجد أن بعضاً من غير اليهود قد يغيِّرون قناعاتهم فجأة ويقررون أنهم يهود، والعكس أيضاً ممكن (انظر: «ادعاء اليهودية»).

ولإيضاح المشكلة التي يجابهها دارسو تعداد الجماعات اليهودية، يمكن أن نشير إلى بعض الأمثلة:

ساجدة لله
2010-10-25, 05:25 AM
1 ـ الولايات المتحدة الأمريكية:

أ) يضم الكتاب السنوي الأمريكي اليهودي (1991) دراسة عن تعداد يهود العالم. وقد رأى كاتب المقال أن يتناول موضوعه من خلال ثلاثة تعريفات أو مستويات:

ü القطاع الأساسي من السكان اليهود (بالإنجليزية: كور جويش بوبيوليشـن core Jewish population) ويضم كل يهودي يعلن أنه يهودي، بغض النظر عن كون مضمون يهوديته حقيقياً أو وهمياً، دينياً أو إثنياً، قوياً أو ضعيفاً. وعادةً ما توضع هذه المجموعة مقابل القطاع الهامشي من السكان اليهود (بالإنجليزية: بريفيرال جويش بوبيوليشان (peripheral Jewish population، وهي تضم القطاعين التاليين:

ü القطاع الموسع من السكان اليهود (بالإنجليزية: إكستندد جويش بوبيوليشن extended Jewish population) ويضم القطاع الأساسي إلى جانب اليهود الذين تخلوا عن دينهم (وتبنوا أو لم يتبنوا ديناً آخر) ولكنهم من أصل يهودي.

üü القطاع الممتد من السكان اليهود (بالإنجليزية: إنلارجد جويش بوبيوليشن enlarged Jewish population) وتضم إلى جانب القطاعين السابقين كل من يعيش في بيت يهودي (سواء أكان يهودياً أم غير يهودي).
وبطبيعة الحـال، تتزايد الأعداد وتتناقص حسـب المعيـار المُستخدَم. وفي عصر وصلت فيه نسبة الزواج المُختلَط إلى ما يزيد على 50%، فإن القطاع الثالث يضم عدداً كبيراً للغاية، مع أن تَضخُّم هذا القطاع هو في واقع الأمر دليل على تزايد اندماج اليهود واختفائهم. وقد بلغت الحيرة بأحد المراجع حداً جعله يستخدم اصطلاح «يهودي بشكل أو آخر» «يهودي بشكل ما» (بالإنجليزية: جويش إن سم ويي Jewish in some way) لحل مشكلة التعريف.

ب) نُشرت مؤخراً دراسة ذكرت أن عدد يهود الولايات المتحدة هو 6.8 مليون. ثم أضافت الدراسة أن 1.2 مليون منهم يهود لا يؤمنون باليهودية ويندمجون في مجتمعهم بسرعة (ومن المؤكد أن أعداداً كبيرة منهم ينضمون للعبادات الجديدة مثل البهائية وهاري كريشنا). ومنهم 2.3مليون يمارسون عقيدة أخرى هي المسيحية، أي أنه بين 6.8 مليون يهودي يوجد 2.5 مليون يمارسون عبادات أخرى. وورد في دراسة ثانية أن عدد يهود الولايات المتحدة 8.400.000 وهو رقم أعلى بكثير من الرقم السابق. ولكن الدراسة تضيف أن من بينهم 2.70.000 من "أصول يهودية" ولا يعتبرون أنفسهم يهوداً (أي أن العدد هو 5.700.000). والسؤال الذي يطرح نفسه هو: إن كان هؤلاء ليسوا يهودا من منظور الشريعة اليهودية، ولا من منظور الإثنية اليهودية، ولا من منظور أنفسهم أو جيرانهم، فلماذا تضمنهم التعداد أساساً؟ وهل الهدف هو خلق إشكاليات حيث لا إشكاليات؟

جـ) من المشاكل الكبرى التي تواجه دارسي تعداد اليهود في العالم، بخاصة في الولايات المتحدة، أعضاء الزيجات المُختلَطة وأبناؤهم. فأحياناً، يدخل يهودي في علاقة زوجية مع طرف غير يهودي، ثم يتهود الطرف الآخر بشكل صوري، ويعتبر نفسه يهودياً إرضاءً للطرف اليهودي أو لعائلته. ثم قد يُصر الطرف اليهودي على أن يكون الأطفال يهوداً، فيوافق الطرف غير اليهودي. ولكن ما يحدث في معظم الأحيان أن الأطفال ينشأون يهوداً اسماً دون أن يكونوا يهوداً فعلاً. ولأن اليهودية الأرثوذكسية لا تعترف بأبناء الزيجات المُختلَطة، أو بالمتهوِّدين على يد حاخام إصلاحي أو محافظ، أو بمن وُلد لأب يهودي، فإن هناك عدداً كبيراً من اليهود في الولايات المتحدة يهود اسماً وحسب، أو يهود من وجهة نظر إصلاحية أو محافظة أو إثنية، ولكنهم غير يهود من وجهة نظر أرثوذكسية.

2 ـ الاتحاد السوفيتي:

ثمة مشاكل عديدة تواجه محاولة إحصاء تعداد يهود الاتحاد السوفيتي (سابقاً):

أ) كان القانون السوفيتي يعطي أعضاء الجماعات اليهودية الحق في أن يصنفوا أنفسهم كما يشاءون، فكان بوسع اليهودي من أوكرانيا أن يُصنِّف نفسه «يهودياً» أو «أوكرانياً»، وهذا يعني أن هناك عدداً كبيراً من المواطنين السوفييت كانوا من أصل يهودي ولكنهم لم يُصنَّفوا يهوداً. وقد أدى هذا إلى ظهور ما يُسمَّى «اليهود المتخفين»، وهم المواطنون السوفييت من أصل يهودي الذين يخفون أصولهم اليهودية.

ب ) حينما فُتحت أبواب الهجرة إلى إسرائيل بما كانت تتيحه من فرص للحراك الاجتماعي والطبقي ومكافأة مادية مباشرة، ومع تَزايُد تفكك النظام السوفيتي، أظهر كثير من هؤلاء اليهود المتخفين أصولهم اليهودية. كما أن أعداداً كبيرة من غير اليهود ممن لهم أصول يهودية قديمة للغاية (جدُّ مدفون في موسكو، على حد قول أحد الحاخامات)، أو حتى ممن ليست لهم أصول يهودية على الإطلاق، ادعوا أنهم «يهود» حتى يستفيدوا من الفرص الاقتصادية المتاحة


3 ـ ألمانيا:

أ) بلغ عدد يهود ألمانيا 28.202 حسب تعداد عام 1983.

ب) بدأت بعد ذلك التاريخ حركة هجرة من الاتحاد السوفيتي، ولم تتمكن المصادر اليهودية من الحصول على أرقام محدَّدة، ولذا تم اللجوء للتخمين. وقُدِّر عدد المهاجرين في هذه الفترة، أو مقدار الزيادة على وجه العموم، بحوالي 11 ألفاً وهذا يعني أن عدد اليهود بلغ حوالي 04 ألف يهودي.

جـ) كان يوجد 500 يهودي مسجلون في ألمانيا الشرقية.
د) ولكن كان يوجد 3500 شخص يأخذون تعويضات باعتبارهم ضحايا للاضطهاد النازي دون أن يعلنوا عن انتمائهم الديني والإثني، ولكن من المرجح أنهم من اليهود. هذا يعني في واقع الأمر أن هناك 4000 يهودي.

هـ) يضيف بعض الإحصائيين القطاع الهامشي من السكان اليهود، ويبلغ عددهم 55 ألفاً، وبذا يكون مجموع أعضاء الجماعة اليهودية في واقع الأمر 100 ألف يهودي، أي أربعة أضعاف عدد اليهود في عام 1983.

4 ـ كندا:

بلغ عدد اليهود في كندا عام 1981 حوالي 296.445. ولكن إحصاء عام 1986 لم يُدخل في الاعتبار إلا الانتماء الإثني، مهملاً الانتماء الديني. وبلغ عدد الذين صرحوا بأن أصلهم الإثني يهودي نحو 245.855، بينما ذكر 97.655 أن أحد أصولهم الإثنية يهودية، فكأن هناك 343.510 من «اليهود بشكل أو آخر». وقد عبَّر كاتب الدراسة عن شعوره بأن الرقم الذي تَوصَّل إليه والذي يضم اليهود من فئة «يهود بشكل أو آخر» غير مقنع.

5 ـ جنوب أفريقيا:

كان عدد يهود جنوب أفريقيا عام 1990 هو 114 ألفاً، ولكن الإحصاء الذي أُجري بعد ذلك جعل تحديد الديانة مسألة اختيارية. ولأن خُمس السكان البيض لم يحددوا انتماءهم الديني، فقد انخفض تعداد اليهود إلى 59 ألفاً. وحسب التقديرات الإحصائية، فإن العدد الحقيقي يتراوح بين 104.500 و 107 آلاف.

أعداد الجماعات اليهودية وتوزعها فـي العالم، وبعض معالمها السكانية في الوقت الحاضر (1992)
Recent (1992) Worldwide Number and Distribution of the Jewish Communities and Some of Their Demographic Features
يُقدَّر عدد سكان العالم من اليهود طبقاً لإحصاءات عام 1987 بنحو 13 مليوناً (12.934.600) وصل إلى 12.936.300 عام 1992 (حسبما ورد في الكتاب السنوي الأمريكي اليهودي لعام 1994). وهو يقل قليلاً عن عددهم عام 1982 والبالغ 12.988.600 أو عددهم عام 1984 وهو 12.936.300(وهو ما يدل على أن يهود العالم قد وصلوا إلى نقطة الصفر في النمو). وقد تناقص هذا العدد عن عددهم في عام 1967 حيث كان 13.837.500، أي أن عدد اليهود نقص بنحو المليون في الفترة من عام 1967 حتى عام 182 دون إبادة ومن خلال تناقص طبيعي. والجماعات اليهودية موزعة في الوقت الحاضر من الناحية الجغرافية في كل أرجاء العالم على النحو التالي:

أوربا (بما في ذلك روسيا الأسيوية والبلقان وتركيا) : 1.924.200
آسيا (فلسطين المحتلة أساساً) : 4.378.600
أفريقيا (جنوب أفريقيا أساساً) : 106.700
أمريكا الشمالية والوسطى والجنوبية (الولايات المتحدة أساساً) : 6.409.700
أستراليا ونيوزيلندا : 94.600
المجمـــــــــــــوع : 12.913.800

وأكبر تسع جماعات يهودية هي:
الدولة / عدد أعضاء الجماعة اليهودية/ نسبتهم إلى يهود العالم

الولايات المتحدة / 5.620.000 / 43.5%
إسرائيل / 4.242.500 / 32.8%
فرنسا / 530.000 / 4.1%
روسيا / 415.500 / 3.2%
كندا / 356.000 / 2.8%
بريطانيا العظمى / 298.000 / 2.3%
أوكرانيا / 276.000 / 2.1%
الأرجنتين / 211.000 / 1.6%
جنوب أفريقيا / 100.000 / 0.8%
وإذا نظرنا إلى توزُّع أعضاء الجماعات اليهودية من منظور التشكيلات الحضارية والسياسية، فإن الصورة سوف تختلف تماماً. فلو استبعدنا سكان المُستوطَن الصهيوني، فإن أعضاء الجماعات اليهودية يتركزون أساساً في أمريكا الشمالية حيث توجد أغلبيتهم الساحقة التي تبلغ 46.24%، وفي أوربا الغربية حيث تبلغ 14.9%، وروسيا وأوكرانيا حيث نسبتهم 5.3%، أي أن 69.8% من يهود العالم يوجدون في أمريكا الشمالية وأوربا، ويعيش معظمهم في الوقت الحالي في البلدان الناطقة بالإنجليزية (الولايات المتحدة وكندا وإنجلترا وأستراليا ونيوزيلندا وجنوب أفريقيا). ولذا، فيمكننا أن نقول إن اللغة التي يتحدث بها أعضاء الجماعات اليهودية هي الإنجليزية وليست العبرية أو اليديشية. ومن الملاحَظ أن الجماعات اليهودية في أوربا الشرقية والاتحاد السوفيتي وأوربا آخذة في الذوبان، وأن عددهم في أمريكا اللاتينية آخذ في التناقص السريع. ولذا يمكننا التنبؤ بأن يهود العالم أو ما يُقال له «الشعب اليهودي» سيصبح جزءاً لا يتجزأ من الشعب الأمريكي بعد أن كان جزءاً لا يتجزأ من التشكيل الاستيطاني الغربي ومن شعوب شرق أوربا. ونلاحظ في الجدول السابق، الذي يبين أكبر تسع جماعات يهودية في العالم، أن 93.2% من يهود العالم يعيشون في تسعة مراكز رئيسية ومنها الدولة الصهيونية، وأن 76.3% يعيشون في دولتين اثنتين (الولايات المتحدة وإسرائيل). ونلاحظ أن البلاد التي يُوجَد فيها أعضاء الجماعات اليهودية تتمتع بمستوى معيشي مرتفع ودخول مرتفعة، كما أنها تنتمي إلى ما يمكن تسميته بالتشكيل العرْقي الأبيض، ففي الأرجنتين، حيث تُوجَد أعلى نسبة من البيض في أمريكا اللاتينية، توجد أيضاً أعلى نسبة من اليهود.

وهناك عنصر آخر يرتبط بالعنصر السابق وهو أن نسبة 15% من يهود العالم توجد في أوربا. وتوجد الأغلبية العظمى في دول استيطانية: الولايات المتحدة وكندا اللتين تضمان 5.976.000 (46.27% من يهود العالم). وإسرائيل التي تضم 4.242.500(32.85% من يهود العالم). وجنوب أفريقيا التي تضم 100.000 (0.8%)والبرازيل والأرجنتين وبقية دول أمريكا اللاتينية 382.000 (2.9%). ويمكن أن نضيف كذلك أستراليا ونيوزيلندا التي تضم 94.600(0.7%). أي أن الجماعات اليهودية مرتبطة بأوربا وبتجربتها الاستيطانية جغرافياً وتاريخياً. إذ يُوجَد في هذه البلاد 91% من يهود العالم. وكذلك فإن الدياسبورا اليهودية، أي انتشار أعضاء الجماعات في أنحاء العالم، ليست انتشاراً عشوائياً وإنما هو انتشار يصاحب انتشار التشكيل الاستعماري الغربي، خصوصاً في جانبه الاستيطاني. وبالتالي، فإن إسـرائيل لا تشـكل اسـتثناءً من القاعـدة بل هي جزء من نمط غربي عالمي. وارتفاع الدخول ليس منفصلاً تماماً عن العنصر الاستيطاني إذ أن التجربة الغربية الاستيطانية كانت تهدف أساساً إلى حل المشاكل الاقتصادية للمجتمعات الغازية وكانت إحدى أهم المشاكل هي الفائض البشري. وقد كان المجتمع الغربي ينظر إلى اليهود باعتبارهم مادة بشرية استيطانية نافعة فتحركوا أو تم تحريكهم داخل هذا الإطار.

وفيما يلي تَوزُّع أعضاء الجماعات اليهودية في العالم في الوقت الحاضر حسب إحصاءات 1992:

الأمريكتان:

- الشمالية :
الدولة / عدد السكان / عدد اليهود / نسبة اليهود إلى نسبة السكان في الألف

كندا / 27.755.000 / 356.000 / 12.8
الولايات المتحدة/ 257.740.000 / 5.620.000 / 21.8
المجموع / 285.595.000 / 5.976.000 / 20.9

ـ الوسطى:

الأنتليز الهولندية / 175000 400 / 2.3
بنما / 2563000 / 5000 / 2.0
بورتوريكو / 3626000 / 1500 / 0.4
جامايكا / 2495000 / 300 / 0.1
جزر البهاما / 268000 / 300 / 1.1
جواتيمالا / 100298000 / 800 / 0.1
الدومينكان / 7621000 / 100 / --
فيرجن أيلاند / 107000 / 300 / 2.8
كوبـــا / 10907000 / 700 / 0.1
كوستاريكا / 3270000 / 2000 / 0.6
المكسيك / 89998000 / 40000 / 0.4
بلاد أخرى / 25330000 / 300 / --
المجموع / 156.389.000 / 51.700 / 0.3

- الجنوبية:

الأرجنتين / 33487000 / 211000 / 6.3
إكوادور / 11310000 / 900 / 0.1
أوروجواي / 3149000 23800 / 7.6
باراجواي / 4643000 / 900 / 0.2
البرازيل / 156578000 / 100000 / 0.6
بوليفيا / 7705000 / 700 / 0.1
بيرو / 22913000 / 3000 / 0.1
سورينام / 446000 / 200 / 0.4
شيلي / 13813000 / 15000 / 1.1
فنزويلا / 20618000 / 20000 / 1.0
كولومبيا / 33985000 / 6500 / 0.2
المجموع /308674000 / 382000 / 1.2

مجموع الامريكتين /750631 / 6409700 / 8.53

أستراليا ونيوزيلاندا:

أستراليا / 17843000/ 90000 / 5.0
نيوزيلندا / 3487000 / 4500 / 1.3
بلاد أخرى / 6617000 / 100 / --
المجموع /27947000 / 94600/ 3.4

آسيــا:

اسرائيل / 5195900 / 4242500 / 816.5

الدول الآسيوية في الاتحاد السوفيتي (سابقاً):

أذربيجان / 7200000 / 21000 / 2.9
أرمينيا / 3500000 / 300 / 0.1
أوزبكستان / 21600000 / 45200 / 2.1
تركمانيا / 4000000 / 1900 / 0.5
جورجيا / 5500000 / 18000 / 3.3
طاجكستان 5700000 / 5000 / 0.9
كازاخستان / 17200000 / 14500 / 0.8
قرغيزيا / 4600000 / 3700 / 0.8
المجموع / 69300000 / 109600 / 1.6

بلاد آسيوية أخرى:

إيران / 63180000 / 16000 / 0.3
تايلاند / 56868000 / 200 / --
سنغافورة / 2798000 / 300 / 0.1
سوريا / 13762000 / 1200 / 0.1
العراق / 19918000 / 200 / --
الفلبين / 66543000 / 100 / --
كوريا الجنوبية / 44508000 / 100 / --
الهند / 896567000 / 4500 / --
هونج كونج / 5845000 / 1000 / 0.2
اليابان / 124959000 / 1000 / --
اليمن // 12977000 / 1600 / 0.1
بلاد أخرى / 1918506100 / 300 / --
المجموع / 3226431100 / 26500 / --

المجموع للبلاد الاسيوية /3300927000 / 4378600 / 1.3

أفريقيـــا:

إثيوبيا / 54628000 / 1500 / --
تونس / 8579000 / 2000 / 0.2
الجزائر / 19590000 / 300 / --
جنوب أفريقيا / 40774000 / 100000 / 2.5
زائير / 41166000 / 400 / --
زامبيا / 8885000 / 300 / --
زمبابوي / 10898000 / 1000 / 0.1
كينيا / 26090000 / 400 / --
مصر / 56060000 / 200 / --
بلاد أخرى / 427990000 / 1000 / --
المجموع / 66857000 / 106700 / 1.6

أوربا:

الجماعة الأوربية:
إسبانيا / 39153000 / 12000 / 0.3
ألمانيا / 80606000 / 50000 / 0.6
أيرلندا / 3481000 / 1800 / 0.5
إيطاليا / 57826000 / 31000 / 0.5
البرتغال / 9870000 / 300 / --
بلجيكا / 10010000 / 31800 / 3.2
الدنمارك / 5169000 / 6400 / 1.2
فرنسا / 57379000 / 530000 / 9.2
لكسمبورج / 380000 / 600 / 1.6
المملكة المتحدة /58039000 / 298000 / 5.1
هولندا / 15270000 / 25600 / 1.7
اليونان / 10208000 / 4800 / 0.5
المجموع / 347391000 / 992300 / 2.9

باقي دول أوربا الغربية:

جبل طارق / 31000 / 600 / 19.4
السويد / 8692000 / 15000 / 1.7
سويسرا / 6862000 / 19000 / 2.8
فنلندا / 5020000 / 1300 / 0.3
النرويج / 4310000 / 1000 / 0.2
النمسا / 7805000 / 7000 / 0.9
بلاد أخرى / 771000 / 100 / 0.1
المجموع 33491000 / 44000 / 1.3

الدول الأوربية في الاتحاد السوفيتي (سابقاً):

إستونيا / 1600000 / 3400 / 2.1
أوكرانيا / 51900000 / 276000 / 5.3
روسيا / 149000000 / 415000 / 2.8
روسيا البيضاء / 10300000 / 46000 / 4.5
لاتفيا / 2600000 / 13500 / 5.2
ليتوانيا / 3800000 / 65000 / 1.7
مولدافيا / 4400000 / 19400 / 4.4
المجموع / 223600000 / 779800 / 3.5

أوربا الشرقيــة:

بلغاريا / 8926000 / 1900 / 0.2
البوسنة والهرسك/ 4000000 / 300 / 0.1
بولندا / 38518000 / 3600 / 0.1
تركيا / 59577000 / 19500 / 0.3) بما فى ذلك المناطق الآسيوية(
تشيك / 10300000 / 3.800 / 0.4
رومانيا / 23377000 / 16000 / 0.7
سلوفاكيا / 5300000 / 3800 / 0.7
سلوفينيا / 2000000 / 100 / --
كرواتيا / 4400000 / 1400 / 0.3
المجر / 10493000 / 56000 / 5.3
يوغوسلافيا / 9800000 / 1700 / 0.2
المجموع / 176691000 / 108100 / 0.6

المجموع الكلي لاوربا /781173000 / 1924200 / 2.5

ويُلاحَظ أنه تُوجَد دولتان اثنتان (الولايات المتحدة وإسرائيل) تضمان الغالبية الساحقة من يهود العالم (75%). ولا يزيد عدد اليهود عن نصف مليون إلا في دولة واحدة (فرنسا). وينقص عن النصف مليون في دولة أخرى (روسيا)، وتوجد دولتان (جنوب أفريقيا والبرازيل) يزيد عدد اليهود في كلٍّ منهما على مائة ألف. وباستثناء المجر وفيها 56 ألفاً، والمكسيك ويوجد فيها 40 ألفاً، لا توجد دولة واحدة أخرى يزيد فيها عدد اليهود على 35 ألفاً. ففي بلجيكا يوجد 31.800، وفي إيطاليا 31.000، وفي أوروجواي 23.800، وفي رومانيا 16.000.

ويُلاحَظ أن جميع الدول السابقة تنتمي أيضاً إلى التشكيل العرْقي الأبيض أو التشكيل الاستيطاني ذي الجذور الغربية البيضاء. والواقع أن كل هذا يدعم رأينا الخاص بأن اليهود لا يوجدون في العالم بأسره وإنما ضمن تشكيل محدَّد، وأن وجودهم في بعض الدول أقرب إلى الغياب ولا يمكن أخذه في الاعتبار من الناحية الإحصائية، فلا يمكن أن نتحدث عن الوجود اليهودي في الهند حيث لا يوجد بها إلا نحو 4.500 يهودي، أو الوجود اليهودي في اليونان حيث يوجد 4.800 يهودي، أو بولندا وفيها 3.600 يهودي، أو النرويج التي يوجد فيها ألف يهودي، أو زائير التي يوجد فيها 400 يهودي، أو الفلبين وفيها 100 يهودي، أو بورما حيث يوجد عشرون يهودياً وحسب.

وتشكل الجماعات اليهودية قلة سكانية بالنسبة إلى سكان العالم، وهم كذلك أقلية صغيرة قياساً إلى حجم السكان في الدول التي يوجدون فيها. فأكبر تَجمُّع يهودي في العالم في الولايات المتحدة لا يُشكِّل سوى 2.18% من مجموع السكان البالغ عددهم 257.840.000 حسب إحصاءات عام 1992. وثاني تَجمُّع يهودي في العالم كان يتركز في الاتحاد السوفيتي (سابقاً)، وهو بدوره لا يُشكِّل سوى 1.07% من مجموع السكان البالغ عددهم 267.516.000. أما في كندا، فإن النسبة هي 1.28% من مجموع السكان البالغ عددهم 26.755.000. وتقل النسبة في البلاد الأوربية الأخرى، فهم في فرنسا مثلاً لا يُشكِّلون سوى 0.92 % من مجموع السكان البالغ عددهم 57.379. أما في إنجلترا فإنها 0.51% من مجموع السكان البالغ عددهم 58.039.000، وفي روسيا 0.28% من مجموع 149.000.000، وفي أوكرانيا 0.53% من مجموع 51.900.000.

ولا يُشكِّل اليهود أغلبية إلا في إسرائيل وحدها، ومع هذا فإنهم يحسون بإحساس الأقلية نظراً لوجودهم في صورة مجتمع استيطاني منعزل داخل الكثافة السكانية العربية، ولخوفهم الدائم من العرب الموجودون في فلسطين. وبعد ضم الضفة الغربية وقطاع غزة، وتكاثر العرب مقابل تَناقُص الهجرة، وتزايد النزوح بين المستوطنين، وعقم الأنثى اليهودية في إسرائيل، فإن العرب سيصبحون هم الأغلبية العددية لا النفسية وحسب، وهذا ما يُسمَّى «مشكلة إسرائيل السكانية».

ومن الظواهر التي تستحق الإشارة، تَركُّز اليهود في العواصم والمدن الكبرى. فالواقع أن حوالي نصف مجموع يهود أمريكا اللاتينية (200 ألف) يوجدون في بوينس أيريس، وأكثر من نصف يهود جنوب أفريقيا (63 ألفاً) يوجدون في جوهانسبرج، وأكثر من نصف يهود فرنسا (350 ألفاً) في باريس، وأكثر من نصف يهود إنجلترا (200 ألف) يوجدون في منطقة لندن الكبرى، وأكثر من نصف يهود هولندا (15 ألفاً) في أمستردام، وأكثر من نصف يهود كندا في مونتريال (100 ألف) وتورنتو (175 ألفاً)، وثلث يهود روسيا (200 ألف) يوجد في موسكو. أما في الولايات المتحدة، فهناك خمس مدن تضم أكثر من نصف يهود الولايات المتحدة إذ تضم نيويورك (الكبرى) 1.450.000 ولوس أنجلوس 490.000 وفيلادلفيا 254.000 وشيكاغو (الكبرى) 248.000 وبوسطن 208.000 وواشنطن (الكبرى) 165.000وميامي 199.000. والواقع أن تَوزُّعهم على كل هذه المدن، بدلاً من تَركُّزهم في العاصمة، هو انعكاس للتركيبة الفيدرالية للولايات المتحدة. وإذا كان نصف الجماعات اليهودية يتركز في كثير من البلاد في العاصمة، فإن النصف الثاني يوجد موزعاً على مدن كبرى أخرى، أي أن الأغلبية العظمى من الجماعات اليهودية تُوجَد في مراكز حضرية. وهذا أمر مُتوقَّع باعتبار أنهم عملوا كجماعة وظيفية وسيطة في الحضارة الغربية كما أنهم مهاجرون إلى البلاد التي يوجدون فيها. والمهاجرون يتَركَّزون عادةً في المدن حيث تُوجَد فرص أكبر للعمل، وحيث توجد مراكز التجارة والمال. ولم يكن الحال مختلفاً في العالم العربي، فقد تَركَّزت أغلبية يهود لبنان في بيروت كما تَركَّز يهود مصر في القاهرة بحي المعادي وحي الظاهر. وتتركز المعابد اليهودية بشكل ملحوظ في العواصم، فمثلاً يوجد في القاهرة والإسكندرية عدة معابد، ويقع أحد معابد القاهرة في شارع عدلي على مقربة من البنوك ومراكز التجارة. كما يوجد معبد يهودي في الإسكندرية في شارع النبي دانيال على مقربة أيضاً من بنوك الإسكندرية وعلى بعد خطوات من الغرفة التجارية. ومن المعروف أن 98% من العاملـين بالبورصـة في مصـر كانوا من أعضاء الجماعة اليهودية. وفي تصُّورنا أن هذا الوضع هو نتيجة الاستعمار الغربي والهجرة الإشكنازية إلى العالم العربي في أواخر القرن الماضي والتي وسمت معظم الجماعات اليهودية العربية في بلاد المتوسط (مصر والجزائر والمغرب ولبنان وسوريا) بميسمها بحيث تحوَّل أعضاء الجماعات إلى جماعات وسيطة للاستعمار الغربي. كما يُلاحَظ (مثلاً) أن يهود اليمن الذين ظلوا بمنأى عن الهجرة الإشكنازية، ظلوا محتفظين ببنائهم الطبقي القَبَلي وبوجودهم في الجبال. أما في العراق، فإن يهود كردستان الذين ظلوا بمنأى عن هذه التحولات، لم يستقروا في المدن على خلاف بقية أعضاء الجماعة الذين تحولوا إلى جماعة وظيفية وسيطة وتَركَّزوا في العاصمة وفي أعمال التجارة والمال بالذات.

ولم يشذ سكان التجمع الاستيطاني الصهيوني عن هذا الاتجاه. ففي إسرائيل، يتكدس 75% من المواطنين في المدن. ويُلاحَظ أن عدد أعضاء الجماعات اليهودية لا يزال آخذاً في التناقص، وهو ما يُطلَق عليه ظاهرة موت الشعب اليهودي.