المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : اليهود واليهودية والصهاينة والصهيونية الجزء الثالث



الصفحات : 1 2 3 4 5 6 [7]

ساجدة لله
2010-10-25, 05:29 AM
لم يتمتع العبرانيون باستقلال سياسي إلا لفترات قصيرة للغاية، ولذلك كان أعضاء الجماعات اليهودية يشكلون دائماً أقلية صغيرة داخل تشكيل إمبراطوري أو حضاري ضخم. وكانت الضرائب دائماً أكبر مصدر للريع بالنسبة للإمبراطوريات في العصور القديمة أو في العصور الوسطى في الغرب، أو في العصر الإسلامي الأول (الأموي والعباسي) أو في العصر الإسلامي الثاني (العثماني)، أي حتى الثورة الصناعية.

وكانت الضرائب تُفرَض في كثير من الأحيان على الجماعة اليهودية ككل، لا على أعضائها كل على حدة شأنها في هذا شأن معظم الأقليات والجماعات الأخرى. ويبدو أن إطار السلطة الذاتية للجماعات المحكومة كان أنجع الطرق لضمان تَدفُّق الريع الضرائبي، فكانت الجماعة اليهودية، وغيرها من الجماعات، تتمتع باستقلال ذاتي في الأمور الدينية والتربوية والقضائية. وكانت قيادتهـا تتمتع بسـلطات خاصة، فكانت، في كثير من الأحيان، هي التي تحدِّد الضرائب وتقوم بجمعها من أعضاء الجماعة، بل أصبحت هذه المهمة أهم وظائفها. ولذا، حاولت السلطة الحاكمة دائماً أن تُقوِّي قبضة القيادات اليهودية وتحقق لها مركزاً متميِّزاً داخل الجماعـة، لتضمن ولاءها لها ولتصـبح أداة طـيعـة في يـدها. ومن ثم، كانت قيادات الجماعة تُعفَى من الضرائب عادةً، وكان أمير اليهود (الناسى)، ورأس الجالوت (المَنْفَى)، وكثير من الحاخامات، يُعْفَون من الضرائب، بل وكان يُسمَح لهم بفرض ضريبة خاصة لتمويل منصبهم ذاته. وكثيراً ما كان الحاخامات يحصلون على معاشهم من خلال ضريبة خاصة تُفرَض لهذا الغرض. وكان الهدف من هذا هو تحويل هذه القيادات إلى أداة في يد السلطة الحاكمة وموظفين عندها بحيث يمكنها من خلالهم اعتصار الجماعة اليهودية.

وكانت الضرائب تُفرَض على الجماعة اليهودية أحياناً لا كوسيلة لاعتصار أعضائها وحسب وإنما لاعتصار الجماهير الشعبية، وبذلك لم يكن أعضاء الجماعة سوى الإسفنجة التي يتم امتصاص هذه الجماهير عن طريقها. فكان الحاكم على سبيل المثال يفرض ضريبة عالية على أعضاء الجماعة اليهودية، ويمنحهم نظير ذلك مزايا وحقوقاً خاصة تُيسِّر لهم عملية استغلال الجماهير، كأن يسمح لهم بتحصيل فائدة عالية على القروض أو يصرح لهم بحرية الحركة من مدينة لأخرى دون أن تتصدى لهم السلطات الإقطاعية المختلفة. وقد يسَّر هذا على كل من التاجر والمرابي اليهودي إدارة أعمالهما وجعلهما أكثر كفاءة من نظرائهما المسيحيين. وكلما تزايد السخط الشعبي، كان يتزايد اعتماد هؤلاء المرابين اليهود على السلطة الحاكمة التي كانت تزيد من اعتصارهم عن طريق فرض ضرائب جديدة عليهم أو تسلمهم للجماهير فتمتص السخط الشعبي وتصادر أموال اليهود وتطردهم، ثم تستدعيهم مرة أخرى لتبيع لهم من جديد المزايا والمواثيق والحماية، أي أن جَمْع الضرائب ودفعها ساهم في عملية حوسلة اليهود.

لكن العناصر السابقة لم تتحقق في كل زمان ومكان، فتعرُّجات التاريخ وتركيبيته تتحدى أي نسق منظم وأية سمات عامة، وهذا لا يقلل من دلالة وفاعلية النموذج التفسيري. وإذا انتقلنا الآن إلى العرض التاريخي، يمكننا القول بأن العبرانيين، حتى انتهاء عصر القضاة، لم يعرفوا نظاماً ضريبياً بسبب أسلوب حياتهم القَبَلي وبساطته. بل إن الدولة العبرانية المتحدة ذاتها، إبَّان حكم داود، كانت أقرب إلى اتحاد القبائل، ولذا لم تُفرَض أية ضرائب في عهده. ومع حكم سليمان، بدأت الدولة تصل إلى قدر من التركيب والمركزية، وظهرت طبقة حاكمة تضم داخلها قطاعات كهنوتية وأخرى عسكرية وثالثة إدارية، كما بدأت حركة تشييد مبان حكومية من أهمها بناء الهيكل. وقد تطلَّب كل ذلك تمويلاً وهو ما أدَّى إلى فرض الضرائب، ففُرضت ضريبة الشيقل حيث كان على كل عبراني بالغ أن يدفع للهيكل نصف شيقل (ويتناول التلمود في أحد كتبه الأحكام الخاصة بالشيقل). كما كانت تُقدَّم للهيكل هدايا وضرائب عينية. ومنذ هذه اللحظة التاريخية، بدأت الضرائب تلعب دوراً مهماً في حياة العبرانيين، ومن المعروف أن من أسباب انقسام الدولة العبرانية المتحدة شكوى قبائل الشمال من فداحة الضرائب التي فرضها سليمان. وبطبيعة الحال، استمرت المملكتان العبرانيتان، الشمالية والجنوبية، في تحصيل الضرائب. وثمة إشارة في العهد القديم إلى أن الملك العبراني كان يأخذ عُشر إنتاج الحقول، وكان من حقه أن يُجنِّد بعض الرجال والنساء ليعملوا خَدَماً له، حسب نظام السخرة السائد في الشرق الأدنى القديم والذى طبقه سليمان إبَّان حكمه. كما فرض ملوك المملكتين ضرائب خاصة أثناء الحروب وحينما تعيَّن عليهم دفع جزية للآشوريين أو البابليين.

واستمر هذا الوضع قائماً إلى أن اجتاح الأشوريون ثم البابليون المملكتين وهجَّروا بعض عناصرها إلى بلاد الرافدين. حيث شهدت هذه الفترة تحوُّلاً مهماً، تمثَّل في بداية تحوُّل العبرانيين إلى جماعة وظيفية. وقد ظهر بيت موراشو في بابل، فكانت شركتهم تقوم بجباية الضرائب عما تنتجه الأرض من محصولات زراعية، كما كانت تستوفي بنفسها الضرائب المفروضة على الطرق العامة وقنوات الري لقاء الإفادة منها.

وبعد صدور مرسوم قورش وعودة بعض اليهود، دخل أعضاء الجماعات النمط الأساسي الذي أشرنا إليه من قبل، وهو أنهم أصبحوا جماعة تُفرَض عليها ضرائب جماعية وتتمتع باستقلال ذاتي لتسهيل عملية جَمْع الضرائب، وقد ترأس هذه الجماعة الكهنة الذين أُعفوا من الضرائب. وقد أصبح الهيكل هو المركز الأساسي للجماعة (ولم تَعُد مؤسسة الملكية تزاحمه)، فكان يجمع ضريبة نصف الشيقل ويحصل على ضرائب عينية وهدايا من الجماهير. وفي مرحلة لاحقة، قبل سقوط الهيكل، كان يجمع ما يُسمَّى بالشيقل المقدَّس ويساوي ضعف الشيقل العادي وهو عبارة عن جزية سنوية يدفعها يهود فلسطين والعالم وتُنقَل إلى الهيكل (مركز العبادة القربانية). وكان الصدوقيون هم الذين يحصِّلون هذه الضرائب ويحصلون على هذه الهدايا وعلى جزء كبير من القرابين، وهو مـا حـوَّلهم إلى أرستقراطية كهنوتية ثريـة. ومنذ تلك اللحظة، أصبحت الضرائب مصدر الشقاق الأساسي بين الأرستقراطية اليهودية (المندمجة في الثقافة الإمبراطورية، فارسية كانت أم هيلينية) من جهة، والجماهير اليهودية المتشبعة بالثقافة المحلية (الآرامية)، ومنهم فقراء رجال الدين، من جهة أخرى.

وقد اهتم اليونانيون بالريع الضريبي، فكانوا يفرضون ضرائب متنوعة على اليهود وغيرهم، بل وضريبة على الزيجات أحياناً. كما أسسوا شبكة ضخمة منظمة لتحصيل الضرائب عمادها أعضاء الطبقات الثرية المحلية. وكان الملتزمون اليهود يحاولون قدر استطاعتهم، مثلما هو الحال دائماً مع البشر، أن يحصلوا ضرائب أكثر من المفروضة لأنهم كانوا يحصلون على الفرق بين ما ينبغي عليهم تسديده لخزانة الدولة وما يحصِّلونه بالفعل. وكانت هذه الجماعة الوظيفية المالية، التي ارتبطت مصالحها بمصالح الدولة الهيلينية (البطلمية أو السلوقية)، متأغرقة تماماً من الناحية الثقافية، الأمر الذي زاد الهوة بينها وبين الجماهير. وكان السبب الأساسي للتمردات اليهودية المتتالية هو الضرائب المتزايدة.

ويُلاحَظ أن اليهود في الدولة البطلمية عملوا كملتزمي ضرائب ليس إزاء أعضاء الجماعة اليهودية وحسب وإنما على مستوى المجتمع ككل، فقد قاموا بتحصيل المكوس الجمركية (وهي مهن مالية ولا شك، يرى البعض أنها كانت قتالية أيضاً، إذ كان المحصلون يُطلَق عليهم اسم «حراس النيل»). كما اشتركوا في تحصيل الضرائب على الأسماك والكروم والنخيل والمراعي بل وعلى صناعة الأحذية وهي نشاطات اقتصادية عامة. وكان كبير الموظفين (ألبارخ)، وهو منصب استمر حتى الدولة البيزنطية، هو المسئول عن جَمْع الجمارك على السفن. ويبدو أنه كان من أهم المناصب الإدارية المالية، وكان لمن يشغل هذا المنصب مكانة قيادية. ومع تَزايُد أزمة السلوقيين نتيجة حروبهم مع البطالمة، ونتيجة تَصاعُد الضغوط الرومانية، وبعد هزيمتهم على يد الرومان، كان عليهم دفع تعويض ضخم لهم، وهو ما اضطر الملوك السلوقيين إلى البحث عن مصادر جديدة للريع، فتعاونوا مع أثرياء المجتمع اليهودي، خصوصاً فئة ملتزمي الضرائب الذين تنافسوا على رفع الضرائب إرضاءً للسلطة السلوقية. ويبدو أن الضرائب تحت حكم الأسرتين اليهوديتين، الحشمونية التي تمتعت بشيء من الاستقلال، والهيرودية التي حكمت باسم روما، لم تكن أخف وطأة، كما هو واضح في التمردات التي حدثت بين جماهير الشعب.

وبعد أن ضُمت فلسطين للدولة الرومانية، عُيِّن لها حاكم روماني برتبة بريفكتوس، وكان يُشار له أيضاً باسم «بروكرياتور» والتي تعني حرفياً «الوكيل المالي» أو «محصل الضرائب»، وذلك باعتبار أن تحصيل الضـرائب هو النشـاط المالي الأكـبر لكل موظفي الإمبراطورية. وفي مصر، ألغى يوليوس قيصر نظام جمع الضرائب البطلمي، فانهار الوضع الاقتصادي لليهود، وخصوصاً أن اليهود أصبح عليهم (رغم عضويتهم في البوليتيوما) أن يدفعوا ضريبة رؤوس كاملة، الأمر الذي كان يعني مساواتهم النسبية بالمصريين وفقدان غالبيتهم لمكانتهم المتميِّزة، باستثناء كبار الأثرياء الذين أصبحوا مواطنين رومانيين. كما تزايدت الضرائب عليهم، الأمر الذي كان أحد أسباب التمرد اليهودي الأول الذي انتهى بتحطيم الهيكل. وبعد هذا التمرد، فرض الرومان أول ضريبة مقصورة على اليهود وهي الفيسكوس جواديكوس، أي الضريبة اليهودية، وهي عبارة عن الشيقل الذي كان يدفعه اليهود من قبل للهيكل، واستمرت الإمبراطورية الرومانية في تحصيله وإرساله لمعبد جوبيتر كابيتولينوس.

وبعد انتشار المسيحية والإسلام في الشرق الغربي، لم يتغيَّر وضع أعضاء الجماعات اليهودية كثيراً من منظور الضرائب، إذ أنهم كانوا يدفعون للمسلمين ما كان يدفعه أهل الذمة نظير الإعفاء من الخدمة العسكرية.

أما في العالم الغربي، فقد تغيرت أحوال أعضاء الجماعات اليهودية بالتدريج، ولم يَعُد الاختلاف بينهم وبين أعضاء المجتمع مجرد ضريبة أو ضريبتين يدفعونهما للنظام الحاكم، فمع تآكل البقية الباقية من القانون الروماني أصبح أعضاء الجماعة اليهودية حسب العرف الألماني «غرباء»، وهو ما كان يعني وضعهم تحت الحماية الملكية لأنهم أصبحوا ملْكية خاصة للملك أو الإمبراطور، أي أن أعضاء الجماعة أصبحوا أداة من أدوات الإنتاج ومصدراً من مصادر الريع. وقد كُرِّس هذا الوضع تماماً بعد حروب الفرنجة في نهاية القرن الحادي عشر (1096) وأصبح أعضاء الجماعة اليهودية إما فعلاً (أو اسماً وفعلاً) أقنان بلاط يشترون المواثيق والمزايا والحماية من الحاكم. وكانت الضرائب المفروضة عليهم تُعَدُّ مصدراً أساسياً مباشراً للريع الذي كان يُحصِّله الحاكم، أو وسيلة غير مباشرة لجمع الضرائب، وكان ذلك يتم من خلال الإقراض بالربا. فكان الحاكم يرفع الضريبة على اليهودي ويجعلها على سـبيل المثـال 11%، مقابل 10% للتاجر المسيحي، ثم يمنحه حقوقاً مقابل ذلك مثل حق رفع سعر الفائدة على الأموال. ولذا، نجد أن خُمْس دخل الإمبراطورية الرومانية المقدَّسة كان مصدره اليهود، رغم أن عددهم كان لا يزيد عن 1% من عدد السكان قبل القرن الرابع عشر. وفي القرن الثالث عشر، حصلت الحكومة الإنجليزية على 13% من دخلها من الضرائب التي فرضتها على اليهود رغم أن عددهم كان يتراوح بين 4 آلاف و15 ألفاً في كل إنجلترا. وقد أصبح حق فرض الضرائب على اليهود، باعتباره مصدراً من أهم مصادر الريع، محل صراع بين الإمبراطور والنبلاء.

وقد فُرضت على أعضاء الجماعات اليهودية مجموعة متنوعة من الضرائب من بينها ضريبة الرؤوس (وهي استمرار للفيسكوس جودايكوس) التي بُعثت في ألمانيا عام 1342 تحت اســـم «أُبفربفينج Opferpfennig» وتعني «ضريبة المليم» ثم أصبحت تُسمَّى «لايب تسول leibzoll»، أي «ضريبة الجسد»، و«يودين تسول Judenzoll»، أي «ضريبة اليهودي». وبعد أن حل الأمراء محل الحكم الإمبراطوري (القرن السادس عشر) في فَرْض الضرائب على اليهود، أصبحت الضريبة تُسمَّى «نقود حماية اليهود». وكان على اليهودي الذي ينتقل من بلد إلى آخر أن يدفع رسم المرور ورسماً للإقامة المؤقتة. ومن الضرائب الأخرى، ضريبة «يودين جلايت Judengeleit»، أي «المرور الآمن»، وهي ضريبـة كانت تُفرَض على اليهـود الذين يـودون الانتقـال من مكان إلى آخر، فكان يدفعها اليهود الأجانب العابرون، وكانت الضريبة تعطيهم الحق في التعاملات المالية. وكانت تُفرَض ضرائب على اللحم والذبح الشرعي وعلى شموع السبت، وفُرضت أحياناً ضريبة على الطعام كانت تُسمَّى «ضريبة السلة». وفُرضت ضريبة تُسمَّى «ضريبة الفم» كان الهدف منها استبعاد اليهود غير النافعين الذين يأكلون ولا ينتجون.

وفي العصر الحديث، ظلت الضرائب إشكالية أساسية في حيـاة الجـماعات اليهـودية. فاخـتفت الأشكال المختلفة للإدارة الذاتية، وتكفلت الدولة المركزية التي يتبعها جهاز إداري مركزي قوي بتقدير الضرائب وجمعها، وأُلغيت بالتدريج الضرائب المفروضة على أعضاء الجماعات اليهودية. وفي محاولة للحد من الانفجار السكاني، كانت تُفرَض أحياناً ضرائب على طعام اليهود الشرعـي وشـموع السـبت والزواج، وذلك لجــعل هذه الشعائر مُكلِّفة. وكان عدد كبير من اليهود يتهربون من الضرائب ويقومون بتهريب البضائع للتهرب من الجمارك. فوقفت الدول الحديثة ضد هذا الوضع وحاولت تصفيته. وكان من بين إجراءات المنع، عدم استخدام اليديشية في المعاملات التجارية، ومطالبة اليهود بإضافة اسم العائلة لأسمائهم إذ كان أعضاء الجماعة اليهودية يكتفون بتسمية الفرد باسمه واسم أبيه بدون اسم العائلة، الأمر الذي كان يعني وجود عدد كبير من الأشخاص باسم واحد، مما يُسهِّل عملية التهريب. وقد ارتبط النظام الضريبي بمدى نفع اليهود، فكانت العناصر النافعة من ذوي المهن التي تحددها الدولة تُعفَى من الضرائب بل وتمنح امتيازات ضريبية خاصة. أما العناصر غير النافعة، فكانت تُفرَض عليها ضرائب تهدف إلى تشجيعها على الخروج والهجرة. ولكن، مع تَصاعُد معدلات التحديث في الغرب وفي داخل الجماعات اليهودية، ألغـت الدولة الحـديثة بالتدريج الضرائب الخاصة، ومنها البدلية العسكرية، وتم توحيد النظام الضريبي.

وتقوم المنظمة الصهيونية العالمية والدولة الصهيونية بفرض ضرائب منظورة وغير منظورة على أعضاء الجماعات. فسندات إسرائيل والاشتراكات التي تُدفَع والتبرعات التي يتم جمعها من خلال حملات مسعورة جميعها نقود تُدفَع اسماً عن طيب خاطر ولكنها تُدفَع من الناحية الفعلية خوفاً من الفضيحة. ولذلك أشار آرثر هرتزبرج إلى اليهود المؤيدين لإسرائيل بوصفهم «يهود النفقة»، أي اليهود الذين يدفعون تبرعات تشبه النفقة التي يدفعها الزوج السابق لمطلقته لا حباً فيها وإنما خوفاً منها. كما أشار إلى ما سماه «يهودية دفتر الشيكات» وهي يهودية أولئك اليهود الذين ينصرفون عن ممارسة شعائر دينهم ويحاولون تخفيف الإحساس بالذنب عن طريق دفع التبرعات للدولة الصهيونية. وقد بدأت حركات السلام داخل إسرائيل تُكوِّن جماعات في الخارج مهمتها جمع التبرعات لها خارج نطاق النداء اليهودي الموحَّد والنداء الإسرائيلي الموحَّد، وهي مؤسسات جمع الضرائب/التبرعات للمؤسسة الصهيونية.

ويمكننا القول بأن علاقة الإمبريالية الغربية بالدولة الصهيونية علاقة شبيهة بعلاقات الأباطرة بأعضاء الجماعات الوظيفية اليهودية. فالإمبريالية الغربية تمنح العديد من التسهيلات والمزايا للدولة الصهيونية، مثل الدعم المالي والعسكري، والمعاهدات والمواثيق، نظير ضريبة يدفعها المستوطنون الصهاينة وهي القتال. والضريبة قد تكون دموية بعض الشيء، ولكن لها مردودها الريعي، وهو فرض السكون والسلام الغربي على المنطقة وضمان تَدفُّق الطاقـة الرخيصة ودوران الدول العـربية في فلك النظام الاقتصادي العـالمي!

ساجدة لله
2010-10-25, 05:29 AM
أعضـــاء الجماعــات اليهوديــة كمحصلــي ضرائــب
Members of Jewish Communities as Tax Collectors
عمل كثير من أعضاء الجماعات اليهودية محصلي ضرائب. ففي عهد شارلمان، عمل أعضاء الجماعة ملتزمي ضرائب، وأُعفوا من الضرائب والمكوس المفروضة على المسافرين. وقد اضطلعوا بالمهمة نفسها في إنجلترا وألمانيا. كما أشرف أعضاء الجماعة على جمع الضرائب في إسبانيا المسيحية، وحينما طُردوا منها واجه النظام الجديد مشكلة البحث عن ملتزمي ضرائب بدلاً منهم. وكان أعضاء الجماعة يضطلعون بكثير من الوظائف المرتبطة بالضرائب في الدولة العثمانية سواء، باعتبارهم محصلي أو مفتشي ضرائب أو موظفي جمارك أو ملتزمين. وكانت غالبية العاملين في الضرائب في الدولة العثمانية من اليهود، كما أن الإيصالات كانت تُكتَب أحياناً بحروف عبرية. ومن المعروف أنه عندما ذهب شبتاي تسفي إلى مصر، ساعده المموِّل روفائيل يوسف شلبي (من حلب) الذي كان من كبار ملتزمي الضرائب في مصر آنذاك.

ولكن بولندا تظل دائماً أهم المناطق بسبب حجم الجماعة اليهودية فيها وبسبب علاقة دورهم فيها بالتطورات اللاحقة في تواريخ الجماعة اليهودية في العصر الحديث. وكانت الضرائب في بولندا تُفرَض من قبل الحكومة على الجماعة اليهودية ككل. ولتحصيلها، كان القهال يقوم بفرض مجموعة من الضرائب على أعضاء الجماعة، فكانت هناك ضريبة ملْكية وضريبة رؤوس وضريبة القـهال لتمويل الجـهاز التنفيذي والإداري والتعليمي والقضائي للقهال. ومع تدهور وضع القهال، أصبحت هذه الضريبة تُفرَض على الطعام وأُطلق عليها ضرائب السلة. وكان يُباع امتياز تحصيلها في مزاد عام، وهو ما كان يعني تزايد الضرائب عاماً بعد عام. ولأن المهمة الأساسية للقهال هي جَمْع الضرائب، باعتباره مؤسسة الإدارة الذاتية، فقد أُلغي مجلس البلاد الأربعة في بادئ الأمر ثم كل مؤسسات القهال عندما بدأ الريع يتناقص.

وقد اضطلع أعضاء الجماعة اليهودية في بولندا بوظيفة جمع الضرائب من خلال نظام الأرندا، إذ كان اليهود يدفعون إيجار الضيعة للنبيل البولندي مقدماً ثم يقومون بتحصيل ريعها، وكانت الضرائب المختلفة تشكل جزءاً مهماً من هذا الريع. وكلما كان النبلاء البولنديون يزدادون حاجة إلى النقود، كان على اليهود أن يدفعوا إيجاراً أعلى ويحصلوا على المزيد من الضرائب من الفلاحين والأقنان. بل كان الملتزمون اليهود يحققون مزيداً من الأرباح ويرفعون الضرائب أحياناً دون علم النبيل الإقطاعي، كما كانوا يعاملون الفلاحين والأقنان بقسوة بالغة لتحصيل هذه الضرائب. ومن أهم هذه الضرائب ضريبة مفتاح الكنيسة، وكان على الفلاحين الأوكرانيين الأرثوذكس دفعها للمموِّل اليهودي ليدفعها للإقطاعي البولندي الكاثوليكي إن أرادوا أداء الصلاة. وكانت هناك ضريبة أخرى على الرداء الكهنوتي للقس كان عليه أن يدفعها إن أراد إقامة إحدى الشعائر.

وقد أدَّى اضطلاع أعضاء الجماعة بهذه المهمة إلى تَزايُد كراهية الجماهير لهم، فاضطروا إلى الإقامة في الشتتلات داخل الريف بعيداً عن المراكز التلمودية في المدن. وكانت هذه العناصر سبباً في اقتلاع أعضاء الجماعة اليهودية وتآكل اليهودية الحاخامية.

وفي وسط أوربا، كان يهود البلاط مصدر دخل كبير للأمراء الألمان والحكام (من حيث هم دافعو ضرائب). كما قاموا بتنظيم الإطار الإداري للنظـام الضـريبي في كـثير من الدول التي تواجدوا فيها، وعملوا كملتزمي ضرائب.

ومع ظهور الدولة الحديثة، قامت بجمع الضرائب وصدرت قوانين تمنع أعضاء الجماعات اليهودية من الاشتغال بالالتزام، باعتباره وظيفة طفيلية غير منتجة.

المتعهـــــــدون العســـــكريون
Army Contractors and Suppliers
»المتعهدون العسكريون» هم المموِّلون من أعضاء الجماعات الوظيفية المالية الذين كانوا يزودون الجيوش المتحاربة بالسلاح والعتاد العسكري الذي تحتاج إليه، وكذلك بالجراية اللازمة، وقد كانت وظيفة ذات أهمية حيوية لكثير من الدويلات التي لم تكن قد طورت بيروقراطيات متخصصة تتولى هذه المهمة ولم يكن عندها لا رأس المال ولا الاتصالات الدولية اللازمة لإنجاز هذه المهمة.

وقد اضطلع بعض أعضاء الجماعة اليهودية بهذه الوظيفة في إسبانيا المسيحية، ومن أهمهم يهودا ديلا كفالريا الذي زود ملك أراجـون بالسـلاح اللازم لحـروبه عام 1276 ضد المسـلمين في بالنسيا. وقام الأخوان رفايا بتمويل الملك بدرو الثالث ملك أراجون (1276 ـ 1285) في حروبه ضد نبلاء قشطالة. كما قام إسحق أبرابانيل بتزويد فرديناند وإيزابيلا بالسلاح في الفترة من عام 1489 إلى عام 1492، بينما قام أبراهام سنيور بتوفير السلاح اللازم للقوات الإسبانية التي قامت بتصفية الجيب الإسلامي الأخير في غرناطة. ويبدو أن أعضاء الجماعة اليهودية كانوا يعملون أيضاً في صناعة السلاح في هذه الفترة ذاتها. ولذا، فقد عارض بعض أعضاء المجلس الاستشاري لملك البرتغال قرار طردهم حتى لا تقع أسرار المهنة في يد العثمانيين إن استقر اليهود المطرودون في أملاك الدولة العثمانية، ويُقال إنهم ساهموا بالفعل في تطوير الأسلحة النارية فيها.

واشترك اليهود في تجارة السلاح في وسط أوربا في القرن السادس عشر، ففي ألمانيا سُمح لإسحق ماير بالاستقرار في هالبرشتات في عام 1537 ليُزوِّد أحد الأديرة بالأسلحة. وحصل يوسف جيرشون من الإمبراطور على ميثاق يقضي بحمايته، وحدَّد الميثاق نشاطاته في توريد السلاح. ومن المعروف أن يهود المارانو (البرتغاليون في أمستردام) اضطلعوا بالوظيفة نفسها، فزودوا جيوش هولندا وإنجلترا والمغرب بالسلاح. ويبدو أن المتعهدين العسكريين اليهود اغتنموا فرصة الحروب الأهلية في المغرب في القرن السابع عشر وزودوا كل الأطراف المتحاربة بالسلاح. وقام يهود البلاط المتعهدون بتزويد حكومات وسط أوربا بكل اللوازم العسكرية من الخيول والجراية والزي العسكري الرسمي والأسلحة. وقد يسرت هذه المهمة، ليهود البلاط ولكل الجماعات اليهودية، الشبكة العالمية الضخمة التي كانت تضم يهود الأرندا في شرق أوربا وصغار التجار المتجولين بل والمتسولين اليهود المنتشرين في كل أرجاء أوربا. كما كانت الشبكة تضم تجار الدولة العثمانية. وكان بوسع هذه الشبكة أن تزود أي جيش بكل ما يريده من جراية ومعادن نفيسة وأموال، ولذا ساد الاعتقاد آنذاك بأن كل المتعهدين العسكريين يهود وأن كل اليهود متعهدون عسكريون (وقد روج النازيون هذه المقولة فيما بعد في دعايتهم ضد اليهود باعتبارهم مستفيدين من مآسي الآخرين). ومن أهم عائلات يهود البلاط التي اضطلعت بهذه الوظيفة عائلات أوبنهايمر وجومبيريز وفيرتايمر ومايير وهيرشيل. ومما زاد من أهمية المتعهدين العسكريين اليهود ظهور الدولة المركزية المطلقة بحكامها المطلقين، والتي أسست جيوشاً مركزية لتوسيع نفوذها، ولفرض هيمنتها على مناطق جديدة، ولتشديد قبضتها على السوق المحلية.

وقد لعب المتعهدون اليهود دوراً مماثلاً في إنجلترا في القرن السابع عشر. فكان أهم المتعهدين العسكريين في عصر كرومويل هو أبراهام إسرائيل كارفاجال الذي اشترك مع خمسة تجار آخرين في تزويد الجيش البريطاني بالقمح عام 1649. وقد تَمكَّن وليام أوف أورانج من أن يبحر إلى إنجلترا عام 1688 بعد أن حصل على قرض بدون فوائد من أحد الممولين اليهود وهو فرانسيسكو لوبيزسوسو (من لاهاي). وقام فرانسيسكو دي كورفا وإسحق برييرا بتزويد الحملة بالعتاد العسكري. وكان وليـام دي مـدينا هو المتعهد العسـكري لدوق مارلبورو. أما في أيرلندا، فقد قامت شركة ماكادو وبرييرا بتزويد جيوش دوق شومبرج بالجراية والسلاح.

وقام المتعهدون العسكريون اليهود بالمهمة نفسها في فرنسا. فقد سُمح لعدد من الأسر اليهودية بالاستقرار في ميتز عام 1567 شريطة أن يتعهدوا بتزويد القوات الفرنسية بما تحتاج إليه. وكان لبعض الأسر اليهودية الفرنسية دور ملحوظ في المجال نفسه إبان الحكم المطلق لملك فرنسا لويس الرابع عشر. فكان يعقوب ويرمز هو المتعهد العسكري الأساسي في عصره، وهو دور اضطلع به هرز سرفبي في النصف الثاني من القرن الثامن عشر. وكان هذا المتعهد من الأهمية بمكان، حتى أنه استُثنى، حين تَقرَّر عام 1776 إنهاء نظام المتعهدين العسكريين، واستمر في ممارسة نشاطه في الألزاس واللورين. و في أواخر القرن الثامن عشر، اضطلع بهذه الوظيفة موسى بلين (في ميتز)، وموسى أليعازر لايفمان كالمر (في هانوفر). ومن أهم المتعهدين العسكريين أبراهام جراديس الذي زود الجيوش الفرنسية بما كانت في حاجة إليه من عتاد وجراية إبَّان حرب الأعوام السبعة (1756ـ 1763). كما اشترك معه كلٌّ من روفائيل منديس وبنيامين جراديس، وبعض مُلاَّك السفن اليهود، في تنظيم عملية إبحار السفن الفرنسية من أوربا إلى كندا. وقد أعطى فريدريك الأكبر إبان هذه الحرب عدداً من العقود للمتعهدين العسكريين من أعضاء الجماعة اليهودية، والذين أدوا عملهم بكفاءة عالية وحصلوا على كثير من المزايا وراكموا الثروات. وبدأ بعض أعضاء الأرستقراطية الألمانية في الاقتراض منهم وازداد الاختلاط بين الأرستقراطية وأثرياء اليهود، وكان هذا أحد الأسباب التي أدَّت إلى ما يُسمَّى »صالونات النساء اليهوديات.«

ولعب بعض أعضاء الجماعة اليهودية دوراً بارزاً في تزويد الجيوش الإنجليزية التي أُرسلت إلى المستعمرات بالسلاح والجراية. فزود ماتياس بوش قوات بنسلفانيا في المستعمرات الأمريكية بالسلاح في حربها ضد الفرنسيين. وقامت أسرة فرانكس، التي كان لها فروع في كل من لندن ونيويورك، بتزويد الجيش البريطاني في المستعمرات الأمريكية. وبعد الاستقلال، زودت أسرة شيفتول (من جورجيا) الجيش الأمريكي بالسلاح. واستمرت بعض الأسر اليهودية في القيام بهذا الدور إبَّان الحرب الأهلية، فزود المتعهدون اليهود الجيشين المتحاربين، الشمالي والجنوبي، بالجراية والأزياء العسكرية اللازمة. وقد اضطلع بعض المتعهدين اليهود بالدور نفسه في الدولة العثـمانية، ولذلك كانـت تربطـهم علاقة وثيقة بالإنكشارية. أما في روسيا (في القرن التاسع عشر)، فقد قام المتعهدون اليهود بتزويد الجيش بالجراية وبالمساهمة في بناء التحصينات العسكرية والطرق والسكك الحديدية.
وقد انتهى دور المتعهدين العسكريين اليهود تماماً مع ظهور الدولة القومية الحديثة التي كانت تتبعها بيروقراطيات متخصصة تقوم بتزويد الجيش بكل ما يلزم من جراية وعتاد. ونحن لا نعرف الدور الذي يلعبه أعضاء الجماعات اليهودية في تجارة السلاح في الوقت الحاضر،وإن كان من المعروف أن إسرائيل تلعب دوراً مهماً فيها، وبخاصة في مجال توريد السلاح للدول الفاشية والعنصرية التي تود الحكومات الغربية مساندتها ولكنها تخشى الرأي العام داخل بلادها وخارجها. ومن ثم تتولى إسرائيل هذه الوظيفة نيابة عنها، فكانت تقوم مثلاً بتزويد حكومة جنوب أفريقيا العنصرية بالأسلحة، بما في ذلك المواد والمعلومات اللازمة لإنتاج القنبلة الذرية، وبذا تعيد إسرائيل إنتاج أحد الأدوار الوظيفية لبعض الجماعات اليهودية في العالم الغربي.

ومما لا شك فيه أن اضطلاع بعض أعضاء الجماعات اليهودية بهذه الوظيفة دعم الصورة الإدراكية السلبية لليهود في ذهن الكثيرين. وكما أسلفنا، فقد استغل النازيون هذه الحقيقة التاريخية لتوثيق ادعاءاتهم. ولكن مما يجدر ذكره أن اليهود، مهما بلغت درجة تَورُّطهم في تجارة السلاح، لم يكونوا قط مسئولين عنها، فما حدث هو ظهور حاجة لدى بعض المجتمعات الغربية إلى السلاح والعتاد الحربي والجراية اللازمة لتجريد حملات عسكرية كبيرة ومتكررة نتيجة ظهور الدولة المركزية المطلقة. ولكن هذه المجتمعات لم تكن تملك الإمكانات المادية أو الإدارية للوفاء بهذه الحاجة، ومن ثم نشأت ثغرة كان لا يمكن أن يملأها سوى عنصر وظيفي واحد مثل اليهود الذين كانوا يضطلعون بدور الجماعة الوظيفية المالية. وهذا ما لم يذكره النازيون. والواقع أن رؤيتهم للأمور، تماماً مثل رؤية الصهـاينة وكل العنـصريين، تجتزئ من الواقـع عنـصراً ـ أو بعض العناصر ـ وتجعله النقطة المرجعية الوحيدة ثم تُوظِّفه في تبرير أي فعل تقوم به، مع إهمال كامل لكل عناصر الصورة التاريخية المركبة.

جـاك بافيـا (؟ -1687)
Jack Pavia
تاجر ماس يهودي من أصل ماراني (برتغالي)، وهو مؤسس الجماعة اليهودية في إقليم مدراس بالهند. وُلد لعائلة يهودية عاشت في هولندا، وهاجر إلى إنجلترا ليصبح من أوائل اليهود الذين استوطنوا بها بعد أن أُعيد فتح باب الاستيطان اليهودي في إنجلترا. اهتم بعملية استغلال مناجم الماس في جولكوندا فسافر إلى الهند وأسَّس تجارة له بها، واشتغل في تصدير الماس إلى إنجلترا واستيراد المرجان عن طريق أفراد أسرته في لندن. وفي عام 1683، نجح في الحصول على أذون من شركة الهند الشرقية تسمح باستيطان اليهود في مدراس وسافر إلى هناك عام 1684. وأثناء وجوده بها، نجح في إقناع حاكم الإقليم بتأسيس ميلشيا من الأوربيين. وقام بافيا بتمويل الخيل والسلاح على نفقته الخاصة كعضو في هذه الميليشيا التي ضمت أيضاً عدداً آخر من اليهود، وقد عُيِّن بافيا قبل عدة أيام من وفاته نائباً لملك بريطانيا في مدراس مدى الحياة.

وتعود أهمية بافيا إلى ما يلي:

1 ـ تُبيِّن سيرة حياته ذلك الدور الحيوي الذي لعبه يهود المارانو في التشكيل الاستعماري الاستيطاني للغرب.

2 ـ كما تُبيِّن سيرة حياته الدور الريادي الذي لعبه أعضاء الجماعات اليهودية في هذه العملية.

3 ـ تُعَدُّ حياة بافيا نموذجاً جيداً لكيفية تَحوُّل جماعة وظيفية وسيطة إلى جماعة عسكرية، أو لتداخل الدورين المالي والقتالي للجماعات الوظيفية. ومن ثم، فإن تَطوُّره الشخصي يشبه تَطوُّر الجماعات اليهودية في الغرب، تلك الجماعات التي كانت جماعات وظيفية مالية في أوربا ثم تحوَّلت إلى جماعة وظيفية في فلسطين.

الأرنـدا والإقطـاع الاســتيطاني
Arenda and Settler Feudalism
«أرندا» كلمة بولندية تعني حرفياً «أجرة» تُدفَع مقابل استئجار. وهي، كمصطلح، تُستخدَم للإشارة إلى استئجار ممتلكات ثابتة، مثل الأرض والطواحين والفنادق الصغيرة ومصانع الجعة ومعامل تقطير الكحـول، أو إلى امتيازات أو حقـوق خاصـة مثل تحصـيل الجمارك والضرائب. وقد تم تَبنِّي المصطلح بالمنطوق والمعنى المذكور في اليديشية والعبرية. وكان يُشار إلى المستأجر نفسه، خصوصاً الصغير، على أنه «أرندا»، كما كان يُقال له «الأرنداتور». وكان المصطلح ذائع الانتشار ويصف واحداً من أهم جوانب الاقتصاد البولندي الليتواني في أواخر العصور الوسطى. وقد ارتبط يهود بولندا بنظام الأرندا من بدايته. فهم، كجماعة وظيفية وسيطة عميلة، كانوا مهيأين للاضطلاع بهذا الدور، خصوصاً أن المؤسسة اليهودية الأرثوذكسية أحلت عمليات الإقراض بالربا بين اليهود من خلال التحلِّة، وهو ما سهَّل لأي يهودي أن يُموِّل يهودياً آخر ويقرضه بربا، الأمر الذي وفر الاعتمادات اللازمة للاستثمارات. وكان الارتباط بين أعضاء الجماعة اليهودية في بولندا وهذا النظام من العمق بحيث أن كلمة «أرنداتور» أصبحت مرادفة لكلمة «يهودي».

وكان يُشار إلى الأرندا، في بداية الأمر، بمصطلح «الأرندا الكبرى» أو «الأرندا الملَكَية» أو «الأرندا الحكومية». ويشير هذا المصطلح إلى استئجار الاحتكارات العامة والعوائد العامة. وكانت أول أرندا كبرى حصل عليها أعضاء الجماعة اليهودية هو حق تحصيل بعض العوائد الملكية، أو حق إدارة مؤسسات ملكية مثل دار صك النقود ومناجم الملح والجمارك أو جمع الضرائب. وقد انتشر المستأجرون اليهود من المشتغلين بالأرندا في المقاطعات الشرقية من بولندا في القرن الخامس عشر. أما في غرب بولندا، حيث كان يتوفر للنبلاء البولنديين (شلاختا) رأسمال كبير، فقد مُنع اليهود من استئجار حق تحصيل العوائد الملكية باعتبار أن هذه عملية مربحة. ومع ازدياد نفوذ النبلاء، اتخذ البرلمان البولندي (سييم) قراراً عام 1538 بمنع اليهود من استئجار العوائد والمؤسسات الملكية. وقد اتخذ مجلس البلاد الأربعة قراراً مماثلاً حتى يقلل من الاحتكاك بين اليهود والنبلاء. ولكن القرار لم ينجح في وقف نشاط الأرندا بين اليهود، فاستمر المموِّلون اليهود في استئجار كثير من المزايا الملكية مثل الجمارك والضرائب على الخدمات، خصوصاً مطاحن الدقيق وبحيرات الأسماك، وفي إنتاج وتسويق المشروبات الكحولية. كما كان بعض أعضاء الجماعة اليهودية يستأجرون ضياعاً بأكملها. بل ظلوا، حتى منتصف القرن السادس عشر، أهم مستأجري حق جمع الضرائب في المحطات المخصصة لذلك في ليتوانيا وروسيا البيضاء، كما كان هناك يهود أرندا في جاليشيا. وكان جامعو الضرائب (من اليهود وغير اليهود) يستخدمون أكثر الطرق قسوة للحصول على العائد، وكثيراً ما كانوا يُحصِّلون ضرائب أكثر من المقررة. وكان من حق جامع الضرائب أن يفتش العربات التي تمر من خلال البوابات وأن يُصادر العربات التي تحاول التهرب من استخدام الطريق العام. وقد حَدَث صراع بين النبلاء الليتوانيين واليهود، فأصدر البرلمان الليتواني (سييم) قراراً بقصر حق الأرندا على النبلاء. ولكن اليهود تحدوا هذا القرار،كما أصدر المجلس الليتواني (وهو يقابل مجلس البلاد الأربعة) قراراً يتحدى هذا القرار.وقد اشتغل عدد كبير منهم بالأرندا من الباطن،عن طريق كفيل مسيحي،حينما لم تكن تسنح لهم فرصة الاشتغال بها بشكل مباشر.

ولكن، حدثت عدة تطورات أدَّت إلى ظهور الأرندا الزراعية الإقطاعية الاستيطانية التي تختلف في كثير من الوجوه عن الأرندا الكبرى أو الحكومية أو الملكية. ولعل العنصر الأساسي والحاسم في ظهور الأرندا الزراعية هو إبرام اتحاد برست ليتوفسك (ويُسمَّى أيضاً اتحاد لوبلين) عام 1569 بين ليتوانيا وبولندا. وهو الاتفاق الذي حوَّل الوحدة الاسمية (وحدة الأسرتين المالكتين) بين البلدين إلى وحدة حقيقية. وقــامت بولنــدا بضــم أوكـرانيا نتيـجة هـذه الوحدة.

ونتيجة عملية الضم هذه، وقع تحت تصرف النبلاء البولنديين مساحات ضخمة من الأراضي كانت في حاجة إلى رأس مال ضخم لاستثماره لإدارتها ولمد الطرق اللازمة لذلك. وقد تزامن هذا مع تَزايُد الصادرات الزراعية لبولندا إلى غرب أوربا (بسبب الانفجار السكاني وحرب الثلاثين عاماً)، فأصبحت بولندا في الفترة 1577 ـ 1654 مصدراً أساسياً للقمح في أوربا. فكان يتم تصدير القمح البولندي إلى فرنسا وإنجلترا وإسبانيا وإيطاليا، وأحياناً إلى الشرق الأوسط من خلال أمستردام حيث كانت هناك أهم بورصة لبيع الحبوب.

كما أخذت بولندا تُصدِّر محصولات زراعية أخرى. وأصبحت جدانسك أهم مدينة تجارية في أوربا بعد أمستردام إذ كانت تُصدِّر مواداً عديدة مثل الحبوب والأخشاب والكتان والقنب والماشية. ومع تزايد الصادرات الزراعية، حَدَث تَطوُّر في الصناعات الغذائية، وهو ما أدَّى إلى صَبْغ الزراعة في بولندا بصبغة تجارية.

هذه هي الأرضية الاقتصادية المادية لظهور الأرندا الإقطاعية الاستيطانية. ولكن هذا وحده لا يكفي لتفسير ما حدث. فثمة عناصر خاصة بالتركيب الطبقي للشلاختا ورؤيتهم لأعضاء الجماعات اليهودية ووضع اليهود كجماعات وظيفية ساهمت (كلها مجتمعة أو بدرجات متفاوتة) في تشكيل هذه الظاهرة ودفعها من عالم الإمكانية إلى عالم الوجود المتحقق:

1 ـ أول هذه العناصر هو أن النبلاء البولنديين لم يكن لديهم الكفاءات أو رأس المال أو الرغبة في إدارة هذه الضياع البعيدة.

2 ـ كان النبلاء في بولندا، برغم سطوتهم وقوة نفوذهم، خاضعين لقوانين جامدة، فكانوا يتمتعون بمكانتهم والمزايا الطبقية ماداموا لا يعملون بالتجارة. وكان اشتغالهم بالتجارة يعني، في واقع الأمر، فقدانهم مكانتهم ووضعهم. ولذا، كان يُوجَد نبلاء فقراء (النبلاء الحفاة) معدمون يفضلون الجوع والفاقة على العمل بالتجارة.

3 ـ كان يتعيَّن على النبلاء أيضاً البقاء في وارسو بالقرب من مراكز السلطة حيث تتم عملية صنع القرار السياسي والعسكري بسبب طبيعة النظام السياسي البولندي كملكية جمهورية، وحفاظاً على المكانة السياسية والتمتع بمظاهر الأبهة الأرستقراطية.

4 ـ كانت حاجة النبلاء الإقطاعيين إلى المال تزداد يوماً بعد يوم، وبخاصة مع تزايد فقر بولندا، فكانوا يقترضون من المرابين اليهود مبالغ طائلة للوفاء باحتياجاتهم بضمان ضياعهم وغلتها وعوائدها وريعـها.

5 ـ تزامن كل هذا مع تزايد تضييق المدن الملكية الخناق على أعضاء الجماعات اليهودية وممارسة التمييز ضدهم.

6 ـ شهدت الفترة من 1539 - 1549 تَزايُد التقارب بين النبلاء وأعضاء الجماعات اليهودية الذين لم يعودوا تحت الحماية الملكية. فكان اليهود إذا طردتهم إحدى المدن الملكية انتقلوا منها إلى مدن النبلاء أو إلى الشتتلات داخل ضياع النيلاء.

7 ـ كان لدى اليهود كل ما يلزم عملية الاستثمار في ضياع النبلاء من الخبرة التجارية والإدارية ورأس المال. كما كانوا مادة بشرية حركية، ولم يكن لديهم أي مانع من الانتقال إلى أوكرانيا ليكونوا ممثلين للنبلاء البولنديين.

8 ـ ولم يكن أعضاء الجماعة اليهودية يشكلون أية خطورة على النبلاء لأنهم لم يكن بوسعهم، كعنصر غريب أجنبي، أن يطالبوا بنصيب في السلطة السياسية يتناسب مع وزنهم الاقتصادي، وذلك على عكس العناصر البورجوازية المحلية التي عادةً ما تطالب بمزيد من الحقوق كلما تزايدت قوتها الاقتصادية.

9 ـ كان النبلاء البولنديون ينظرون إلى أعضاء الجماعة اليهودية كعنصر ريادي استيطاني كفء ونافع يساهم في تعمير المناطق غير المأهولة بالسكان وكأداة تستخدم لتنشيط الاقتصاد الزراعي الخامل وإدخال بعض النشاطات التجارية فيه حتى يزيد من ريع الأراضي الزراعية.

لكل هذا، ظهرت الأرندا الزراعية الإقطاعية الاستيطانية وتشكلت علاقة تعاقدية نفعية بين الشلاختا من جهة واليهود كجماعة استيطانية من جهة أخرى.

ومع تَصاعُد نفوذ النبلاء وضعف نفوذ السلطة المركزية الملكية، تزايد اعتماد الجماعات اليهودية على النبلاء ابتداءً من القرن السابع عشر، وانتقل مركز الجاذبية بالنسبة إليهم من غرب ووسط بولندا إلى المناطق الشـرقية في أوكرانيا وغـيرها. ومن منتصف القرن السـابع عشر، أصبحوا الطبقة الثالثة أو الجماعة الوظيفية الوسيطة بين النبلاء والأقنان. وقد أصبح أعضاء الجماعة اليهودية أداة النبلاء في ممارسة سلطتهم.

ونحن نصف نظام الأرندا الزراعي (غير المَلَكي) بأنه «إقطاع استيطاني» لنميِّزه عن أشكال الإقطاع السائدة في أوربا آنذاك. فالنظام الإقطاعي يتسم ولا شك بالاستغلال الطبقي، شأنه في هذا شأن النظم الاقتصادية الدنيوية (فهذه هي إحدى سمات البشر). ولكن نظام الأرندا في أوكرانيا اكتسب أبعاداً استغلالية متطرفة تفوق كثيراً الإقطاع العادي. فالعلاقات السائدة في أوكرانيا كانت ولا شك علاقات إقطاعية بين النبلاء البولنديين (والليتوانيين) من جهة، والفلاحين والأقنان الأوكرانيين من جهة أخرى، وذلك فيما يختص بملكية الأراضي وتوزيع غلتها. ولكنه كان إقطاعاً اقتصادياً (مجرداً) بلا علاقات اجتماعية إقطاعية (متعيِّنة). فالإقطاع التقليدي (في أوربا وفي غيرها من البلاد) يفترض وجود ثقافة مشتركة بين النبيل والقن، كما يفترض أن النبيل عادةً ما يوجد في ضيعته يديرها بنفسه ويدخل في علاقة مباشرة مع فلاحيه. ولذا، لم تكن علاقة النبيل الإقطاعي بأرضه علاقة تجارية خارجية موضوعية برانية وحسب وإنما كانت ذات جانب جواني يأخذ شكل الالتزام بمسئولياته كنبيل إقطاعي بكل ما تقتضيه النبالة وتفترضه وتفرضه من أعباء.

وكانت هذه الروابط الإقطاعية المتعيِّنة تخفف إلى حدٍّ ما من حدة الاستغلال الاقتصادي. أما في حالة النبيل الإقطاعي البولندي، فهذه الشروط لم تكن متوفرة البتة، فهو كان دائماً غائباً عن ضيعته، ولم تكن له أية علاقة مباشرة معها أو مع فلاحيها، وكان يمثله عنصر بشري استيطاني غريب يمثل همزة الوصل بينه وبين فلاحيه. وكان اهتمامه بضيعته اهتماماً مالياً (تجارياً) ضيقاً، حيث كانت تمثل مصدراً للدخل وحسب (وليست مظهراً من مظاهر الأبهة الإقطاعية والمكانة الأرستقراطية والحسب والنسب) فهو لا يتحدث لغتهم الأوكرانية ولا ينتمي إلى كنيستهم الأرثوذكسية. وأدَّى هذا إلى تَزايُد استغلال النبلاء للفلاحين في أوكرانيا وفي خارجها، وإلى تَحوُّل نظام الأقنان إلى نظام عبودي إذ لم تكن تُوجَـد قـوة تقـف في وجه النبلاء وتضع حدوداً لاستغلالهم. وقد أصر النبلاء على حقهم المطلق في إقرار الحياة والموت بالنسبة إلى الأقنان.

وما بين النبلاء البولنديين الكاثوليك والأقنان الأوكرانيين الأرثوذكس كان يقف الملتزم (الأرنداتور) اليهودي، أداة الأول في سحق الثاني. وبذلك تشكلت واحدة من أهم الجماعات الوظيفية المالية الاستيطانية شبه القتالية. وكانت العلاقة بين النبيل ووكيله اليهودي عادةً ما تأخذ شكل قرض يحصل عليه النبيل من اليهودي للوفاء باحتياجاته بضمان ريع ضيعته (التي يديرها اليهودي) أو أي عوائد أخرى مثل عوائد قطع الأخشاب ونقل البضائع وغير ذلك من النشاطات الحرفية والتجارية.

وكان المموِّلون اليهود يستأجرون أحياناً مناطق ومدناً بأكملها ولعدة سنوات. ففي عام 1598، قام أحد أثرياء اليهود باستئجار جملة الأراضي التي يمتلكها مجموعة من النبلاء بلغت مساحتها مئات الأميال المربعة، وكان يدفع إيجاراً ضخماً لها. وكان كثير من يهود الأرندا يؤجرون الضياع من الباطن لصغار الممولين اليهود أو يرسلون في طلب أقارب لهم من بولندا ليقوموا بإدارة الضياع نيابة عنهم.

وكان الأرنداتور اليهودي يحصل على كل الامتيازات الممكنة مثل إدارة الحانات وطواحين الغلال ومعامل الألبان ومعامل التقطير وصناعة الكحول ومناجم الملح وقطع الأخشاب والفراء ودبغ الجلود والصباغة وصناعة الزجاج وصنع الصابون (وقد أصبح أعضاء الجماعات اليهودية العنصر الإثني السائد خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر في مثل هذه القطاعات الاقتصادية). كما كانوا يجمعون ضرائب المرور على الكباري والبوابات. بل لم يكن من الممكن إقامة الصلوات الأرثوذكسية إلا بعد العودة للوكيل اليهودي إذ لم يكن بمقدور القساوسة الحصول على مفتاح الكنيسة أو استعارة ردائهم الكهنوتي لإقامة شعائر الصلاة إلا بعد دفع ضريبة. وكان اليهود يشترون أيضاً المحصولات من الفلاحين. ولأنهم هم الذين كانوا يمتلكون وسائل النقل النهري، فكانوا هم أيضاً الذين يقومون بنقلها. كذلك كان أعضاء الجماعة اليهودية تجار القرية الذين يبيعون الفلاحين ما يريدونه من السلع الضرورية مثل الملح والسلع الترفية.

ونظراً لغياب النبيل الإقطاعي، أصبحت السلطة المباشرة شبه المطلقة في يد اليهودي الذي كان يدير الضيعة، تسانده في ذلك القوة العسكرية البولندية التي تضمن بقاءه واستمراره في عملية اعتصار الأقنان الأوكرانيين من كل ثمرات عملهم. وبعد الانتهاء من هذه العملية، كان الأرنداتور يُبقي حصته من الريع ويرسل الباقي إلى النبيل. ولكن كثيراً ما كان الوكيل اليهودي يقوم بتحصيل ضرائب من الأقنان والفلاحين بما يزيد على حقه. وقد كانت جماعة يهود الأرندا تتسم بكثير من الخيلاء والقسوة (كما تقول الموسوعة العالمية اليهودية). وكان يهود الأرندا لا يقومون بأية مهام قتالية بل كانوا جماعة وظيفية متحوسلة تقوم باستغلال الجماهير لحساب الحاكم (شأنهم شأن المماليك في المراحل الأولى من تاريخهم قبل تَحوُّلهم إلى نخبة حاكمة)؛ وكان رأس المال الربوي والخبرة الإدارية يحلان محل السيف كأداة للاستغلال.

ومع هذا، لم يكن البُعد العسكري مُفتقَداً تماماً. وقد ترجم الإقطاع الاستيطاني نفسه في ظاهرة الشتتل والمعبد/القلعة، فقد قام النبلاء بتشييد العديد من المدن الصغيرة كانت الواحدة منها تُسمَّى «شتتل» ويعيش فيها الملتزمون اليهود وأسرهم وأتباعهم في حماية القوة العسكرية البولندية، كما كان عليهم هم أنفسهم أن يتدربوا على حمل السلاح. ولذا، نص القانون على أنه: « يجب على كل رب عائلة يهودية أن يحتفظ ببنادق بعدد الذكور في بيته وبثلاث خرطوشات وثلاثة أرطال من البارود». كما كانت المعابد اليهودية تأخذ شكل قلاع تُوجَد في حوائطها كوات حتى يمكن أن تخرج منها فوهات البنادق والمدافع. ويتضح مدى تحوُّل اليهود إلى مادة استيطانية شبه قتالية في تحولهم هم أنفسهم إلى موضوع للصراع بين القوى الشعبية الفلاحية الأوكرانية المنتفضة من جهة والقوى الاستغلالية البولندية من جهة أخرى. فحينما حقق بوجدان شميلنكي (الزعيم الفلاحي الأوكراني) انتصاراً على البولنديين عام 1649، نصت المعاهدة المبرمة بين الطرفين على عدم السماح لليهود بالاستيطان في أوكرانيا إذ أن وجودهم فيها كان علامة على الهيمنة البولندية فهم أداته الطيعة. ولكن حينما ألحقت القوات البولندية الهزيمة بقوات شميلنكي عام 1651، اضطر إلى الاعتراف بحق اليهود في الاستيطان في ضياع الملك والشلاختا. ولذا، قد يكون من الأفضل أن نسمي يهود الأرندا «المماليك التجارية الاستيطانية شبه القتالية». وقد كانت هذه الشتتلات تضم المعبد/القلعة (وهو معبد يهودي كان مُصمَّماً بحيث يمكن استخدامه كحصن وقلعة عسكرية، كما كانت تُقام فيه أيضاً الصـلاة والدراسـة). وكانت حـوائط المعبد/القلعة سميكة للغـاية، كما أن المتاريس كانت مزودة بكوات لتخرج منها المدافع والبنادق.

وقد أصبح أعضاء الجماعة اليهودية، بعلاقتهم القوية مع النبلاء والقوى التجارية الدولية، محميين من تقلبات المجتمع الإقطاعي ومن غش وخداع البلديات والموظفين الملكيين، ووجدوا المناخ المستقر الذي يحتاج إليه النشـاط التجاري والمـالي دون ضغـوط وتهديد. وتَحسَّن وضعهم كثيراً. وقد أصبح بعض يهود بولندا وروسيا من كبار تجار الأخشاب والحبوب في أوربا.

وكان مسرح نظام الأرندا هو أوكرانيا التي أصبحت النقطة التي التقت فيها عناصر عديدة غير متجانسة أهمها النبلاء البولنديون الإقطاعيون الكاثوليك والفلاحون الأوكرانيــون الأرثوذكـس (الذين يتحدثون الأوكرانية) والتجار اليهود (الذين يتحدثون اليديشية) غير المنتمين لهذا أو ذاك والذين يشكلون الوسيط التجاري والإداري والمالي بين الطرفين (إلى جانب الغجر والتتار وبعض الأرمن).

ويُلاحَظ أن التقسيم الطبقي كان أيضاً تقسيماً عرْقياً وإثنياً ودينياً. ولم يكن نشاط الأرندا مقصوراً على أوكرانيا وبولندا بل أصبح جزءاً من شبكة تجارة دولية. فكان كبار النبلاء الإقطاعيين البولنديين يمتلكون الأرض في أوكرانيا ويؤجرونها، والألمان يديرون الموانئ على بحر البلطيق، والهولنديون يمتلكون السفن البحرية لنقل السلع. أما أعضاء الجماعة اليهودية، فقد قاموا ببقية العملية ومن بينها نقل المحاصيل بوسائل النقل النهري التي كانوا يمتلكونها. وقد نشأت علاقة قوية بين يهود البلاط في دول أوربا الوسطى، وبين يهود الأرندا إبان حرب الثـلاثين عامـاً، حيث كان يهود البلاط يسـتوردون الحبوب من بولندا. وكان يهود الأرندا يقومون بتدبير الغلال المطلوبة التي كانت تتزايد حاجة أوربا إليها (وهذا يبين كيف كانت العلاقات بين الجماعات اليهودية تُسهِّل اتصـالاتهم وتجعل منهم شبكة قوية ووحيدة للتجارة الدولية).

وقد ارتبط مصير أعضاء الجماعة اليهودية تماماً بمصير الأرندا (الزراعي الإقطاعي الاستيطاني البولندي) والقوة العسكرية البولندية التي كانت تسانده. وقد كان لنظام الأرندا الإقطاعي الاستيطاني أعمق الأثر في تَطوُّر تاريخ الجماعة اليهودية في بولندا، وهو ما أثر بدوره في تاريخ الجماعات اليهودية في غرب أوربا وأعطى المسألة اليهودية في شرق أوربا ملامحها الخاصة:

ساجدة لله
2010-10-25, 05:29 AM
1 ـ وجد اليهود أنفسهم بين مطرقة النبلاء وسندان الفلاحين. وقد كان اليهودي هو ممثل الإقطاع البولندي الشره وأداة الاستغلال المباشرة الواضحة، إذ تم حوسلته تماماً من قبل النبلاء. وكانت شراهة النبلاء الإقطاعيين تزداد سنة بعد سنة، فكانوا يزيدون من قيمة الإيجار، وكان على الوكيل اليهودي أن يزيد بدوره من الضرائب والإيجارات التي يحصلها من الفلاحين. ولكن يهود الأرندا كانوا يعيشون بين الفلاحين في أوكرانيا، بينما كان النبيل الإقطاعي يعيش في ضيعته أو قصره في بولندا.

2 ـ حدث ليهود بولندا، نتيجة نظام الأرندا، تطوران متناقضان:

أ) انعزل يهود الريف عن المراكز التلمودية في المدن الكبرى، واكتسبوا ثقافة الفلاحين السلافيين المتخلفة، وتشبعوا بالفلكلور الريفي بما في ذلك العقائد الشعبية المسيحية، الأمر الذي أضعف هويتهم اليهودية. وكانت هذه تربة خصبة لنشوء الحركات المشيحانية. ويُلاحَظ أن الحركتين الحسيدية والفرانكية نشأتا في منطقة بودوليا، وانتشرتا بين يهود أوكرانيا أسرع من انتشارها بين بقية يهود شرق أوربا.

ب) في الوقت نفسه، ونظراً لتزايد عددهم، كان اليهود يوجدون لا على هيئة أقلية صغيرة تعيش داخل الجيتو في إحدى المدن المسيحية وإنما على هيئة مدن صغيرة (شتتلات) تضم تجمعات بشرية يشكل اليهود فيها نسبة مئوية كبيرة بل الأغلبية العظمى أحياناً، ومن هنا تكلست هويتهم وانعزلت واحتفظ اليهود برطانتهم الألمانية (اليديشية). وقد ساهم الانفجار السكاني الذي حدث بينهم في تعميق هذا الاتجاه.

3 ـ زادت الأرندا من تَشوُّه البناء الطبقي ليهود بولندا بحيث تركزوا في تجارة الخمور التي أصبحت مشكلة أساسية في الريف البولندي (ثم الروسي بعد ذلك).

4 ـ وبعد تَشوُّه البناء الوظيفي والعزلة وتزايد الأعداد، ضُمَ هذا الجزء من بولندا إلى روسيا، فوجدت روسيا عندها هذه الكثافة البشرية التي تتحدث اليديشية وتؤمن بالحسيدية وتتاجر في الخمور، وهي كتلة كانت مكروهة من السكان المحليين. وكانت البيروقراطية الروسية جاهلة باليهود وبكيفية التعامل معهم، ذلك لأنه كان مُحرَّماً عليهم دخول الإمبراطورية حتى نهاية القرن الثامن عشر.

5 ـ كان الوضع الطبقي المميَّز لليهود داخل البناء الاستيطاني للإقطاع يعني أنهم ليسوا عنصراً من التشكيل الحضاري البولندي. ولذا، حينما نشأت حركات ثورية مثل انتفاضة شميلنكي في أوكرانيا ثم الحركة القومية في بولندا، كان اليهود يقفون خارجها امتداداً لوضعهم الطبقي الهامشي والطفيلي. فهم لم يكونوا مستغلين فقط، مثل النبيل الإقطاعي الفرنسي أو التاجر الإنجليزي، وإنما كانوا غرباء أيضاً فسقطوا مع سقوط نظام الإقطاع الاستيطاني البولندي.

وقد أضفت كل هذه العناصر على المسألة اليهودية في شرق أوربا ملامحها الخاصة.

6 ـ لم يكن هناك يهود يعيشون بشكل قانوني في إنجلترا أو فرنسا أو هولندا أو إسبانيا أو البرتغال أو الدول الإسكندنافية أو إمارة موسكوفي حتى عام 1550. وكان يهود أوربا كافة مُركَّزين أساساً في بولندا وبعض أجزاء من ألمانيا أو إيطاليا حتى أنه، في القرن السابع عشـر، كان هناك مركزان أساسيان في العالم لليهود: أحدهما في الإمبراطورية العثمانية وهو الذي استوعب العديد من اليهود الذين طُردوا من أوربا الغربية وشبه جزيرة أيبريا، وثانيهما في بولندا وليتوانيا. وقد أخذ غزو يهود بولندا في الزيادة ابتداءً من القرن السادس عشر حتى أن أغلبية يهود العالم كانت في بداية القرن العشرين من نسل يهود بولندا (بل يُقال إن كل يهود العالم الغربي من أصل بولندي باعتبار أن العناصر اليهودية المحلية تم صهرها تماماً في الأغلبية(.

7 ـ كل هذا يعني، في واقع الأمر، أن التجارة والاستيطان والقتال جزء أساسي من التجربة التاريخية للغالبية العظمى من الجماعات اليهودية في الغرب، وأنهم دخلوا العصر الحديث وعندهم قابلية (تبادل اختياري) للاشتراك في العمليات الاستيطانية القتالية. وفي هذه التربة الخصبة، ظهر جوزيف فرانك اليهودي البولندي المُتنصِّر الذي طالب بتسليح اليهود وتأسيس دولة مستقلة لهم. كما ظهر الحل الصهيوني للمسألة اليهودية المبني على تصديرها باعتبار أن اليهود عنصر استيطاني غريب (ومن المعروف أن معظم قيادات الصهيونية الاستيطانية من أصل بولندي روسي(.

ويمكن القول بأن الأرندا الإقطاعية الاستيطانية تُكمل الحلقة المفقودة بين تجربة يهود الغرب والتجربة الصهيونية. فالعلاقة الثلاثية (النبلاء البولنديون ـ الوسطاء اليهود المستوطنون ـ أقنان أوكرانيا) تشبه كثيراً العلاقة الثلاثية السائدة في الشرق الأوسط (الإمبريالية الأمريكية ـ الوسطاء الصهاينة المستوطنون - عرب فلسطين). والعنصر اليهودي في كلتا الحالتين عنصر استيطاني نافع يتم الحفاظ عليه بمقدار نفعه وليست له أهمية في حد ذاته.

وما حدث، بشيء من التبسيط، هو أن المماليك التجارية الاستيطانية شبه القتالية في أوكرانيا تحوَّلت إلى مماليك استيطانية قتالية شبه تجارية في فلسطين بعد تأسيس الدولة المملوكية الصهيونية، وهي دولة ذات قيمة إستراتيجية عسكرية بالنسبة للغرب (بالدرجة الأولى) وذات أهمية تجارية اقتصادية (بالدرجة الثانية).ومع ظهور النظام العالمي الجديد،قد تتراجع الوظيفة العسكرية القتالية لتشغل المرتبة الثانية بينما تشغل الوظيفة التجارية الاقتصادية الدرجة الأولى،ولذلك سيتطابق وضع الدولة الصهيونية مع يهود الأرندا إذ ستصبح دولة وظيفية تجارية شبه قتالية.ونحن،بهذا،نكون قد اكتشفنا استمرارية تاريخية ونمطاً متكرراً داخل التاريخ الغربي الحقيقي،وليس استمرارية ميتافيزيقية داخل التاريخ اليهودي الوهمي.

ساجدة لله
2010-10-25, 05:30 AM
الخمور (النبيذ والكحول) والاتجار فيها
Wine and Liquor Trade
«تجارة الخمور والنبيذ» هي تجارة عادةً ما تضطلع بها جماعة وظيفية، ربما لأن الخمر تُذهب الوعي وترتبط في كثير من العقائد بالمقدَّس والغيب، أي أن الخمر مرتبطة بمنطقة وجدانية تقع خارج نطاق المألوف والعادي والروتيني، ومن هنا تظهر ضرورة اللجوء إلى جماعة وظيفية محايدة، ليس في مقدورها أن تُوظِّف لحظة غياب الوعي هذه لصالحها (بسبب عجزها)، تماماً مثل الحلاق الذي تُسلِّم له رأسك ليقص الشعر، ويمكنه أن يقطع رأسك ويسلم من العقوبة إن كانت تسانده مجموعة من البشر لها سلطة. والشيء نفسه ينطبق على الماشطة التي تدخل البيوت وتعرف أخص خصائص النساء، وهو ما يجعلها مستودعاً لكثير من الأسرار التي يمكن أن تُستخدَم ضد من قالها. ولذا، فلابد لمن يقوم بمثل هذه الوظائف أن يكون محايّداً مجرَّداً من السلطة تحت رحمة المجتمع تماماً، حتى لا يسيطر عليه.

ويبدو أن التحريم التلمودي الخاص بتناول خمور الأغيار جعل أعضاء الجماعات اليهودية مضطرين إلى أن يكون لهم كرومهم ومصانع الخمور الخاصة بهم. ولكن، مع بداية القرن الخامس عشر الميلادي في الغرب، كانت كل مزارع الكروم المملوكة لليهود قد تمت تصفيتها مع انسحابهم التدريجي من مهنة الزراعة. ولكن اتجارهم في النبيذ والمشروبات الكحولية استمر حتى أصبحت هذه المهنة إحدى المهن أو الوظائف اليهودية الأساسية في شرق أوربا وألمانيا. ومع بداية القرن السادس عشر حتى القرن التاسع عشر الميلادي، كان إنتاج المشروبات الكحولية وبيعها في بولندا وليتوانيا عملاً أساسياً يمتهنه أعضاء الجماعات اليهودية ومصدراً من أهم مصادر الدخل بالنسبة لهم، كما أصبح هذا العمل مهنة أساسية في بوهيميا والمجر. وقد ازداد ارتباط أعضاء الجماعات اليهودية بتجارة الخمور نتيجة لنظام الأرندا. فرغم أن الخمور كانت تمثل الترف الأساسي في حياة الفلاحين، إلا أنهم كانوا ممنوعين من تقطيرها، إذ أن هذا الحق كان مقصوراً على النبلاء البولنديين، وكان تأجير هذا الحق مصدراً أساسياً للريع الذي يحصل عليه النبيل من مستأجر الامتياز (الأرنداتور). فكان اليهود يستأجرون معامل التخمير والتقطير والحانات، والتي كانت مرتبطة بنظام الأرندا في بولندا وأوكرانيا وروسيا البيضاء. وقد أصبح اليهودي (صاحب الحانة) شخصية أساسية في الريف الأوكراني وفي المدن الصغيرة. وكان اليهود يحتكرون ـ تقريباً ـ إنتاج وبيع المشروبات الكحولية. وكانت نسبة عالية منهم تعمل في هذه التجارة حتى بلغت، في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، 15% من مجموع يهود المدن و85% من يهود الريف.

وقد تسبَّب اشتغال اليهود بهذه التجارة في نشوء كثير من التوترات بينهم وبين بقية السكان. كما كان الفلاحون السلاف يفرطون في الشرب، وهو ما كان يزيد من أرباح اليهود، خصوصاً أن أعضاء الجماعة اليهودية كانوا لا يشربون بهذا الإفراط.

وكان أعداء اليهود بين طبقات المجتمع الأخرى يلقون اللوم على اليهود، مع أن الإفراط في الشرب كان ظاهرة اجتماعية صاحبت تَدنِّي الأوضاع الاقتصادية والثقافية في شرق أوربا والذي لم يكن اليهود مسئولين عنه بل ضحية له. وكانت الطبقات الحاكمة في شرق أوربا (روسيا وبولندا) ترى أن اليهودي هو سر بلاء الريف وبلاء سكانه، ولذا كانوا يرون أن إصلاح حال الفلاحين لن يتأتى إلا بطرد اليهود من صناعة الخمور. ومع تدهور الاقتصاد البولندي ابتداءً من القرن الثامن عشر الميلادي، بدأت العناصر التجارية المسيحية تتجه إلى الهيمنة على تجارة النبيذ والكحوليات المربحة بين السكان. وكلما ازداد إفقار المدن وإفقار سكانها، كانت المطالبة بتأميم تجارة الخمور تزداد ضراوة. وأصبح استبعاد اليهود من هذه التجارة مطلباً أساسياً تطرحه الطبقة الوسطى البولندية، ثم أصبح هذا جزءاً من سياسة كثير من الدول المطلقة المستنيرة.

وقد بدأت حركة استبعاد أعضاء الجماعات اليهودية من صناعة الخمور في بولندا وامتدت إلى روسيا واستمرت فيها. ونصت براءة التسامح التي أصدرها جوزيف الثاني على ضرورة طرد اليهود من صناعة الخمور خلال عامين. ومع تفاقم مشكلة سُكْر الفلاحين، ازدادت ضراوة التشريعات ضد اشتغال اليهود بتجارة الخمور. ولكن كل هذه التشريعات لم تفلح، إذ أن إدمان الفلاحين السلاف للخمر كان نتاج ظروف حضارية واجتماعية مُركَّبة لم يكن اليهود مسئولين عنها، وإن كانوا قد استفادوا منها. ولم تُحسَم المسألة نهائياً إلا مع ظهور نظم اشتراكية في روسـيا وبولندا أممَّت كل وسـائل الإنتاج، ومنها صناعة الخمـور، وأوجدت فرصاً بديلة لليهود.

ويبدو أن تقاليد الاشتغال بإنتاج النبيذ وتسويقه استمرت على يد المستوطنين الصهاينة في فلسطين، إذ زرعوا كثيراً من الكروم وقاموا بتقطير الخمور. وقد قامت مدرسة مكفيه إسرائيل الزراعية بزراعة أول أشجار كروم أوربية، وأسست أول قبو خمور على الطريقة الأوربية. وكان البارون إدموند دي روتشيلد مهتماً بزراعة الكروم في فلسطين مؤملاً أن تتحوَّل إلى أحد الأسس الاقتصادية للقرية اليهودية في فلسطين، وقد قام ببناء أقبية كبيرة للخمور. ولكن التجربة لم تنجح، مثلها مثل كثير من التجارب الاستيطانية الأخرى.

الإعـــــلان
Advertising
لعب أعضاء الجماعات اليهودية دوراً مهماً للغاية في صناعة الإعلان، وخصوصاً في الولايات المتحدة الأمريكية حيث ارتبطت هذه الصناعة بآليات المجتمعات الرأسمالية الحديثة. ويُعتبَر رجال صناعة الإعلان من اليهود من أهم العناصر المسئولة عن تَطوُّر مؤسسة الإعلان الحديثة وعن اتساع نشاطها وتَطوُّر أسلوب عملها.
والواقع أن التبادل التجاري في المجتمعات التقليدية لا يعرف ظاهرة الإعلان، إذ كان النشاط الاقتصادي محكوماً بمجموعة من القيم الدينية والأخلاقية التي لا تسمح بالتنافس الشديد ولا بمحاولة التأثير على الزبائن واصطيادهم. ومع هذا، كان كثير من التجار في كثير من بلدان العالم الغربي يجأرون بالشكوى من التجار اليهود بسبب ملاحقتهـم الزبائن أمـام المحـال التجـارية وفي الطرقات وحتى في منازلهم. ولعل هذا يعود إلى أن التاجر اليهودي لم يكن ملتزماً بالقيم المسيحية مثل الثمن العادل والمحبة. كما أن أعضاء المجتمع المضيف، في علاقتهم به كعضو في جماعة وظيفية، هم مجرد شيء يشكل مصدراً للربح.

وتزايدت أهمية الإعلانات في التجارة مع تزايد علمنة المجتمع وتزايد حدة المنافسة التجارية. لكن النقلة النوعية حدثت مع النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بعد أن حقَّقت الثورة الصناعية توسعاً في الإنتاج، وبعد نمو طبقة وسطى من المستهلكين شكلت السوق الأساسية للمنتجات والسلع الاستهلاكية المختلفة، حيث أصبحت الإعلانات جزءاً لا يتجزأ من آليات السوق. وقد كان أعضاء الجماعات اليهودية من العناصر الرائدة في قطاع الإعلان نتيجة ميراثهم التاريخي كجماعات وظيفية تمتلك خبرات تجارية ومالية مهمة أهلتهم لدخول مجالات كانت لا تزال تُعَدُّ جديدة وغير مألوفة وبالتالي تتميَّز بقدر كبير من المخاطرة. وبالإضافة إلى ذلك، يمكن فهم ارتباط أعضاء الجماعات اليهودية بصناعة الإعلان من خلال ارتباطهم بتجارة التجزئة والصحافة اللتين كانتا أيضاً من الأنشطة الجديدة التي صاحبت نمو المجتمعات الصناعية الرأسمالية، وهي أنشطة احتل فيها أيضاً أعضاء الجماعات اليهودية مكان الريادة. وبالتالي اكتسبت صناعة الإعلان أهمية كبيرة لتسويق منتجات مؤسسات التجزئة التجارية الجديدة، في حين شكلت الصحافة الأداة الرئيسية للإعلان عن هذه المنتجات.

ويُعتبَر الأمريكي اليهودي ألبرت لاسكر أباً لصناعة الإعلان الحديثة حيث عمل على تحويل مهمة وكالة الإعلان، من مجرد وسيط بين المؤسسات التجارية التي كانت تضع برنامج الإعلانات لمنتجاتها من ناحية والصحافة وأجهزة الإعلام من ناحية أخرى، لتصبح الجهة الرئيسة المسئولة عن رسم وتخطيط ونشر الإعلانات الخاصة بمنتجات هذه المؤسسات. وقد انضم لاسكر عام 1898 إلى وكالة إعلان لورد وتوماس في شيكاغو، وأصبح عام 1904 (وعمــره 24 سنة) شـريكاً بها، ثم أصـبح مالكـها الوحـيد عام 1912. وقد نجح لاسكر خلال ثلاثة عقود في تحويلها إلى واحـدة من أهم وكالات الإعلان في الولايات المتحـدة.

ويُعتبَر ميلتون بيو Biow المسئول عن تطوير وكالة الإعلان الحديثة لتلبية احتياجات عالم التجارة والأعمال الحديثة. كما أسس إحدى أهم كبريات وكالات الإعلان في الولايات المتحدة والعالم. ويُعَدُّ أول من استخدم الراديو والتليفزيون لتقديم الفقرات الإعلانية القصيرة.

وتُعتبَر وكالة جراي للإعلان، التي أسسها لورانس فالنستاين، من أهم مؤسسات الإعلان التي أوجدت فكرة خَلْق الطلب على السلعة قبل طرحها في الأسواق. كما ابتكرت وكالة إعلان أخرى هي وكالة دوتل داين وبرنبارخ التي تأسست في عام 1949 أسلوباً جديداً في الإعلان يعتمد على تَبنِّي نبرة هادئة تميل إلى التواضع في تقديم الإعلانات وهو أسلوب تبنته كثير من وكالات الإعلان الأخرى. وابتكرت وكالة أخرى، وهي وكالة نورمان كرايج وكومل، أسلوباً جديداً في الإعلان أطلقت عليه اسم «الإعلان العاطفي»، وهو أسلوب يهدف إلى خَلْق نوع من التماثل والاندماج العاطفي عند المتلقي تجاه السلعة موضوع الإعلان. وكل هذه أساليب تميل إلى اللعب على الجوانب النفسية والعاطفية والحسية لدى المستهلك باعتباره مجرد هدف يتم توظيفه. ومن الجدير بالذكر أن عالم النفس المعروف إرنست ديختر من أهم الشخصيات اليهودية الأمريكية التي كانت لها مساهمات مهمة في صناعة الإعلان والذي أسس معهد بحوث الدوافع.

وفي إنجلترا، لم يصل أعضاء الجماعة اليهودية إلى مواقع بارزة في صناعة الإعلان إلا بعد الحرب العالمية الثانية. ولم تَنمُ صناعة الإعلان في أوربا إلا بعد الحرب العالمية الأولى، بعد أن شهدت وسائل الاتصال نمواً وتوسعاً كبيرين، إلا أن مشاركة أعضاء الجماعات اليهودية فيها انتهت مع مجئ النازية واندلاع الحرب العالمية الثانية. أما بعد الحرب، فكان لاتساع وامتداد نشاط وكالات الإعلان الأمريكية والبريطانية إلى أوربا دور في أن يصبح لرجال الإعلان من اليهود شأن بارز في صناعة الإعلان الأوربية.

ويجب التنبه إلى أن اشتراك أعضاء الجماعات اليهودية بشـكل ملحـوظ في قطاع الإعلانات لا يجعل منه نشاطاً اقتصادياً يهودياً، فهو أولاً وأخيراً جزء لا يتجزأ من آليات السوق بكل وحشيته وعدم اكتراثه بالقيم الإنسانية والأخلاقية، ومحاولته توظيف الدوافع الإنسانية، خصوصاً الدافع الجنسي، في محاولة بيع السلع. وقد ظهر قطاع الإعلانات وتَطوَّر بظهور وتَطوُّر الاقتصاد الحديث، خصوصاً الرأسمالي. ويمكن القول بأن قطاع الإعلان كان سيظهر ويتطور سواء كان هناك يهود أم لا، تماماً كما ظهر وتَطوَّر في اليابان والهند وهي بلاد لا تُوجَد فيها أقليات يهودية تُذكر. ومع هذا، يمكن القول بأن وجود أعضاء الجماعة اليهودية داخل هذا القطاع بشكل ملحوظ لا يمكن تفسيره إلا على أساس انتمائهم إلى أقلية تشكل جماعة وظيفية، أي أن يهوديتهم تفسر تزايد عددهم داخل هذا القطاع الاقتصادي ولكنها لا تفسر وجود هذا القطاع وتطوره وآلياته. وهذا، على كلٍّ، هو النمط المهم في كثير من الظواهر في العالم الغربي ابتداءً من الرأسمالية والاستعمار وانتهاءً بالطلاق والإباحية والشذوذ الجنسي.

تجارة الرقيق
Slave Trade
«تجارة الرقيق» هي تجارة تقوم بها عادةً جماعة وظيفية مالية. وتُحرِّم اليهودية على اليهودي اسـتعباد اليهودي مدة تزيد على سـتة أعـوام، ولكنها لا تُحرِّم استعباد غير اليهود أو الاتجار فيهم. ويُقال إن العبرانيين القدامى كانوا عبيداً في مصر، وهو قول غير دقيق. فبرغم أن الاقتصـاد المصـري كان متقدماً، فإنه كان يعتمد أسـاساً على السخرة، مع عدم استبعاد أن تكون جماعة غريبة مثل العبرانيين قد تحوَّلت إلى عبيد وبخاصة بعد انحسار حكم الهكسوس: حُماتهم. ولم يكن العبرانيون، عند هجرتهم من مصر وتغلغلهم في كنعان وسكناهم فيها (في أواخر القرن الثالث عشر قبل الميلاد)، على مستوى اقتصادي وحضاري متقدم، ولذا لم تكن لديهم حاجة إلى العبيد. ومن هنا حديث العهد القديم الدائم عن إبادة سكان القرى والمدن التي كان يجتاحها العبرانيون. ولم تكن المملكة العبرانية المتحدة، هي الأخرى، في حاجة إلى العبيد بسبب بساطة اقتصادها، فقد سدت حاجتها من العبيد عن طريق استعباد العبرانيين الذين فشلوا في أداء ديونهم. ولم يختلف الوضع كثيراً في المملكة الشمالية أو المملكة الجنوبية. ولا يُعرف عن العبرانيين أنهم اشتغلوا بتجارة الرقيق أو أنهم كانوا يستعبدون أعضاءً من الشعوب المجاورة. كما أنهم لم يتحولوا إلى عبيد. ولكن هناك إشارة إلى أن بعض فراعنة مصر كانوا يتبادلون مع المملكتين العبرانيتين الأحصنة المصرية بالمقاتلين اليهود، وأن هؤلاء العبيد هم الذين تحوَّلوا إلى جماعة وظيفية قتالية في جزيرة إلفنتاين. وكان التهجير الآشوري والبابلي عملية نقل كتلة بشرية من مكان إلى آخر ولكنها لم تحوِّل المهجَّرين إلى عبيد، بل إن بعضهم أصبح من كبار المموِّلين. ولا تختلف الصورة في عصر الإمبراطوريات الفارسية واليونانية (السلوقية والبطلمية) ثم الرومانية.

لكن الصورة تختلف في العصور الوسطى في أوربا. فنظراً لفقر أوربا الشديد، كان الرقيق أحد السلع القليلة التي يمكنها توريدها إلى الإمبراطورية البيزنطية والعالم الإسلامي حتى يمكنها استيراد البضائع منهــا. أي أن توريد العبيد كان نوعاً من أنواع تصحيح ميزان المدفوعـات. ولذا، كانت تجارة الرقيق جزءاً أسـاسياً من التجـارة الدوليـة. ولكن المصدر الأساسي للعبيد كان هو بلاد السلاف الوثنية المشتق اسمها من كلمة «سكلافوس scelavus» من لاتينية العصور الوسطى أي عبد (ومن هنا اسمهم العربي «الصقالبة»)، إذ كانت الدول المسيحية تُحرِّم الاتجار في العبيد المسيحيين كما كانت الدولة الإسلامية تُحرِّم الاتجار في العبيد المسلمين. وكانت قوافل اليهود تنتقل لأخذ العبيد من السلاف لنقلهم وبيعهم. وكان أعضاء الجماعات اليهودية مهيئين أكثر من أي قطاع آخر في المجتمع للاضطلاع بهذه الوظيفة، فقد كانوا جماعة وظيفية وسيطة يمكنها أن تعيش بين الفراغات وأن تدير مثل هذه التجارة المشينة التي لا يمكن أن يقوم أعضاء المجتمع بإدارتها. كما أن كونهم يهوداً قد زودهم بالحماية في حركتهم الدائبة بين العالمين المسيحي والإسلامي وكان بوسعهم أن يبيعوا عبيداً مسـيحيين في العـالم الإسـلامي وعبيداً مسـلمين في العالم المسيحي. ويذكر ابن خرداذبة أن العبيد كانوا من أهم السلع التي يحملها التجار الراذانية.

وقد عملت أعداد كبيرة من التجار اليهود في تجارة الرقيق منذ العصـور الوسـطى حتى القرن الخامـس عشـر الميلادي، وهذا أمر طبيعي، فتجارة الرقيق كانت جزءاً من التجارة الدولية. وقد مُنح هؤلاء التجار المواثيق التي تحميهم وتحمي سلعهم. وكان من الممنوع تعميد العبد لأن هذا يعني فقدان التاجر اليهودي سلعته. وكان هذا مصدر احتكاك شديد بين التجار اليهود والكنيسة، بل بين هؤلاء التجار ومعظم طبقات العالم الغربي المسيحي في العصر الوسيط. وبعد الثورة التجارية، ظهرت تجارة الرقيق - المرتبطة بالنظام الاقتصادي التجاري الجديد - والتي تطلبت إمكانات مادية ضخمة من سفن إلى جنود وحاميات في المستعمرات تحتاج إليها عملية اصطياد العبيد من أفريقيا وتوريدهم إلى المستوطنات في العالم الجديد. وقد انضم بعض كبار المموِّلين اليهود إلى هذه التجارة ولعبوا دوراً نشطاً، فامتلك يهود المارانو (السفارد) العبيد، خصوصاً في مستعمرات الكاريبي، وقاموا بالاتجار فيهم. ومما يسر لهم عملهم هـذا، شـبكة الاتصالات اليهودية الضخمة في تلك الآونة، فقد كان للمارانو قواعد في البرتغال وفي المستعمرات البرتغالية في أفريقيا وفي العالم الجديد وفي هولندا ومستعمراتها، كما كانت لهم ركائز في الدولة العثمانية وغيرها من الدول.

وكان بعض أعضاء الجماعات اليهودية من كبار تجار العبيد في المستعمرات الهولندية في الأمريكتين، فكانوا يعملون بهذه المهنة في البرازيل الهولندية (1630 ـ 1654)، كما عمل بعضهم بها في القرن الثامن عشر الميلادي في العالم الجديد. فاشتركوا في التجارة المثلثة أي شحن البضائع الأوربية، مثل الأسلحة والبارود والمشروبات الروحية (الجن) والحلي الرخيصة، إلى الساحل الأفريقي، وتحميل هذه السفن بالعبيد الذين كانوا يباعون في المزارع الأمريكية وفي جزر الكاريبي، ثم تعبئة هذه السفن بالمنتجات الاستوائية كالسكر والنيلة والتبغ والقهوة وغيرها من السلع لنقلها إلى أوربا. وكان يوجد مثلث آخر يبدأ في نيو إنجلاند في الولايات المتحدة حيث تُحمَّل السفن بشراب الروم وتتجه إلى أفريقيا حيث يباع الروم وتُحمَّل بالعبيد وتتجه لجزر الكاريبي لتُحمَّل بعسل قصب السكر الأسود الذي يُصنَّع منه الروم. وتظهر أسماء تجار يهود بين تجار العبيد في كوراساو، فيرد اسم مانويل ألفاريس كوريا باعتباره تاجر عبيد نشيطاً اشتغل بهذه المهنة عدة سنوات وعمل وسيطاً عام 1699 بين شركة الهند الغربية الهولندية والشركة البرتغالية، وذلك لنقل العبيد من أفريقيا إلى المكسيك عبر كوراساو حيث كانت تتم مبادلة العبيد بالعسل الأسود الذي يُصدَّر إلى نيو إنجلند ليُستخرَج منه الروم لبيعه في أفريقيا. ومن أهم التجار في أمريكا الشمالية: ديفيد فرانكس وآرون لوبيز وجيكوب رودريجيز. وفي جامايكا، ترد أسماء ديفيد هنريك وهيمان ليفي وألكسندر ليندو الذين كانوا من كبار تجار العبيد هناك في نهاية القرن الثامن عشر الميلادي. وكان أعضاء أسرة جراديس اليهودية المقيمة في بوردو نشطاء في تجارة العبيد بالمستعمرات الفرنسية في العالم الجديد مثل سانتو دومينجو. وكان هناك بعض اليهود من أصحاب المزراع الكبيرة في جزر الهند، وبالتالي فقد كانوا يمتلكون العبيد الذين تعتمد الزراعة عليهم هناك. ومن أهم التجارب الاستيطانية اليهودية تجربة سورينام حيث أسس أعضاء الجماعة اليهودية في بريزدنتس أيلاند ما يشبه الدويلة المستقلة التي كانت تعتمد على العبيد المستَجْلَبين من أفريقيا في الزراعة.

ولم يكن موقف أعضاء الجماعة اليهودية في الجنوب الأمريكي (في الولايات المتحدة) يختلف عن موقف بقية الأمريكيين من مؤسسة الرقيق، فقد امتلك اليهود فيها العبيد. وبلغت نسبة أعضاء الجماعة اليهودية الذين كانوا يمتلكون العبيد 25%، وهي نسبة لا تختلف عن نسبة البيض حسب إحصاء 1860. وكان هناك بين مُلاَّك المزارع القليل من أعضاء الجماعة اليهودية.

أما معاملة يهود الجنوب الأمريكي للعبيد، فلم تختلف عن معاملة المسيحيين لهم. كما أن نسبة عدد العبيد، الذين كان يعتقهم أعضاء الجماعة اليهودية، لم تكن تختلف عن النسبة بين المسيحيين، غير أن أعضاء الجماعة اليهودية اشتغلوا بسائر الأعمال التنفيذية الخاصة بتيسير النظام العبودي. ويُلاحَظ أن العبيد والمُحرَّرين من العبيد السود كانوا يتعاملون بنسبة أعلى مع التجار اليهود، نظراً لأن هؤلاء كانوا يفتحون محالهم يوم الأحد، وهو اليوم الوحيد الذي كان بإمكانهم أن يتسوقوا فيه.

وفيما يتعلق بمؤسسات تجارة الرقيق، فقد اشترك فيها أعضاء الجماعة اليهودية، شأنهم شأن كل سكان الجنوب، فعملوا بالمزايدات وتقديم الائتمانات وإنجاز الأعمال التجارية في سوق الرقيق. ويبدو أن نسبة المشتغلين بتسيير تجارة الرقيق منهم كانت أعلى من نسبة المشتغلين بها بين المسيحيين، نظراً لتَركُّز اليهود في الأعمال التجارية والمالية. ولم يقتصر اشتراك أعضاء الجماعات اليهودية على المؤسسات الخاصـة بإدارة تجـارة الرقيق، بل تعاملوا في سـلعته البشــرية الأساسية، أي الرقيق. فكان لابد لمن يمتلك رقيقاً أن يتاجر فيه بيعاً وشراءً، لأن الرقيق كان سلعة ثمينة. ومع هذا، لم يكن يوجد يهودي واحد بين كبار التجار. والواقع أن رأس المال المُركَّز في أيدي ممولين يهود كان ضئيلاً بالنسبة إلى رأس مال العمالقة من المسيحيين البيض. ففي ريتشموند، كان هناك ثلاثة تجار يهود من بين سبعين تاجراً، وفي تشارلستون كان يوجد أربعة تجار يهود بين أربعة وأربعين، وفي ممفيس تاجر واحد بين اثنى عشر تاجراً. وبرغم الانخفاض المطلق في عددهم، فإن نسبة وجودهم في تجارة الرقيق كانت عالية للغاية، إذ كانوا يشكلون نحو 8% من التجار في المتوسط. وكانت نسبة اليهود إلى عدد السكان، في الجنوب وفي الولايات المتحدة، ضئيلة للغاية لأن عصر الهجرة اليهودية من شرق أوربا، الذي أتى بالكثافة السكانية، لم يكن قد بدأ بعد. وعلى أية حال، لم تتجاوز نسبة اليهود في الولايات المتحدة في ذلك الوقت نصفاً في المائة.

ولعل عدم وجود اليهود في هذا القطاع بنسبة كثيفة كان انعكاساً لوضـعهم داخـل الاقتصاد الأمريكي، فهـم دائماً على مقـربة من المستهلك، بعيدون عن الصناعة الثقيلة وعن المراحل الأولى من الإنتاج، وقد كان الرقيق جزءاً من المراحل الأولى للإنتاج الزراعي في الجنوب. ولم يكن هناك رفض يهودي لتجارة الرقيق، إذ كان جيكوب لفين رئيس الجماعة اليهودية في ساوث كارولينا وإسرائيل جونز رئيس الجماعة في موبيل (ألاباما) من تجار العبيد في عام 1850. وقد استمر التجار اليهود مشاركين في تجارة الرقيق حتى نهاية الحرب الأهلية الأمريكية.

وقد أبقى بعض اليهود البيض محظيات سوداوات وعاشروهن جنسياً، وهذا يعني وجود يهود سود. ولكن من الصعب تحديد عددهم، خصوصاً أن المؤسسات الدينية اليهودية كانت ترفض السماح للسود بالانتماء إليها. كما أن الأسـياد اليهود لم يلقنوا عبيدهـم الديانة اليهودية. ومع هذا، يدَّعي العبرانيون السود أنهم من نسل هؤلاء. وأثناء الحرب الأهلية في الولايات المتحدة، لم يكن لأعضاء الجماعة اليهودية موقف مستقل عن المناطق الجغرافية التي كانوا يعيشون فيها، فتَبنَّى يهود الشمال موقفاً رافضاً لتجارة الرقيق، وتَبنَّى يهود الجنوب موقفاً مؤيداً لها، بينما تَبنَّى كثير من يهود الولايات الوسط المجاورة للولايات الجنوبية موقفاً محايداً. ومع هذا، لم يلعب أعضاء الجماعة اليهودية بشكلٍّ عام دوراً ملحوظاً في حركة تحرير العبيد أو التحريض ضدها، أو في حركة تهريب العبيد من الجنوب إلى الشمال.

ساجدة لله
2010-10-25, 05:30 AM
الباب الثالث: أقنان ويهود البلاط


أقنــــــان البــــــــــــلاط
Servi Camerae Regis; Kammerknechtschaft; Serfs of the Royal Chamber «أقنان البلاط» أو «أقنان الخزانة الملكية» تعبير شاع في العصور الوسطى في الغرب، وهوترجمة العبارة اللاتينية «سرفي كاميراي ريجيس servi camerae regis» وتعني حرفياً «أقنان أو عبيد الغرفة أو الخزانة الملكية». وقد ورد هذا التعبير بأشكال مختلفة، في نحو: «سرفي كاميراي نوستراي سب إمبريالي بروتكتيوني servi camerae nostrae sub imperiale protectione» وتعني «أقنان بلاطنا الموضوعين تحت الحماية الإمبراطورية»، أو «سرفي كاميراي إمبراتوريس إسـبسياليس servi camerae imperatoris speciales» وتعـني «أقنــان البلاط الإمبراطوري الخاصون». وهي بالألمانية «كاميركنختشافت Kammerknechtschaft.» والعبارة تُستخدَم لوصف وضع اليهود داخل النظام الإقطاعي الغربي في العصور الوسطى كجماعة وظيفية وسيطة في الغرب، وبخاصة بعد حروب الفرنجة. وكان المصطلح يعني عدة أشياء قد تبدو متناقضة:

1 ـ أن اليهود عبيد الملك أو الإمبراطور أو النبلاء. وهو أمر اختلف باختلاف الفترة الزمنية أو الرقعة الجغرافية.

2 ـ أنهم ملكية خاصة للملك وحده.

3 ـ أنهم، لذلك، يتمتعون بحمايته.

4 ـ و يتمتعون بمزايا خاصة.

5 ـ وأن أية سلطة غير البلاط الملكي لا يمكنها أن تتعرض لهم.

وقد كان أعضاء الجماعات اليهودية في الغرب يُعَدُّون غرباء. وحسب القانون (العرف) الألماني، فإن الغريب يتبع الملك ويُوضَع تحت حمايته ويُصبح من أقنانه. ومن هنا، كان لابد أن يستند وجودهم إلى مواثيق خاصة تمنحهم حقوقاً ومزايا معيَّنة نظير اضطلاعهم بوظائف محدَّدة. ومن ناحية الأساس، كانت هذه الوظائف هي التجارة والربا وجمع الضرائب.

ويعود المفهوم (دون المصطلح) إلى أيام شارلمان ولويس التقيّ في القرن التاسع الميلادي حيث منحا اليهود المواثيق. ولكن المصطلح نفسه استُخدم لأول مرة في القرن الثاني عشر الميلادي في مرسوم الإمبراطور فريدريك الأول الصادر في عام 1157، والذي أكده في عام 1182. وقد صدر مرسوم ملكي فرنسي عام 1230 جاءت فيه إشارة لليهود باعتبارهم من الرقيق بحيث إذا هرب يهودي من مقاطعة أحد البارونات لمقاطعة أخرى فإن من حق البارون أن يسترده «كما لو كان أحد أرقائه» (باللاتينية: تانكوام بروبريوم سيرفيوم tanquam proprium servium.)وقد استخدم فريدريك الثاني المصطلح نفسه عام 1236 للإشارة إلى كل يهود ألمانيا. ويشير المؤرخون إلى أن أسطورة الشرعية (التي يستند إليها المفهوم) تذهب إلى أن الإمبراطورين الرومانيين فسبسيان وتيتوس قاما عند سقوط القدس باستعباد الشعب اليهودي بعد الهزيمة التي حاقت به عام 70 ميلادية. فأثناء حصار تيتوس للقدس، حسبما جاء في الأسطورة، كان المؤرخ يوسيفوس فلافيوس يقوم بإطعام اليهود على نفقته. وقد مات ثُلثُهم جوعاً، وقُتل الثُلث الآخر أثناء الحرب، أما الثُلث الباقي فقد باعهم فلافيوس «للملك» (أي الإمبراطور) تيتوس. وقد زعم أباطرة الإمبراطورية الرومانية المقدَّسة (وريثة الإمبراطورية الرومانية) أنهم ورثوا هذا الحق وأن ضريبة اليهود (فيسكوس جودايكوس) هي أيضاً علامة على هذه التبعية.

ويعني مفهوم أقنان البلاط أن أعضاء الجماعات اليهودية، من خلال تبعيتهم المباشرة للملك، يقعون خارج نطاق العلاقات الإقطاعية، وأنهـم بذلك أصـبحوا جزءاً من الطبقة الحاكمة أو على الأقل أداة في يدها. ولم يكن اليهود ملكية خاصة للملك أو لغيره بالمعنى المجازي، كما قد يتبادر للذهن لأول وهلة، فقد كانوا ملكية خاصة بالمعنى الحرفي كالعبيد أو المماليك. وتعني كلمة «سرفوس servus» اللاتينية «الخادم» أو «العبد» أو «القن». وقد عبَّر قانون إسبانيا الشمالية عن المفهوم حين نص على أن اليهود "عبيد الملك، وهم دائماً ملْك الخزينة الملكية". وفي قانون آخر، يُشار إلى اليهود بأنهم "رجال الملك، يرثهم من يرث العرش". ويستخدم ميثاق ثالث اصطلاحات مثل: «جودايوس هابيري judaeos habere» أي «حق امتلاك اليهود» أو «جودايوس تنيري judaeos tenere»أي «حق الاحتفاظ باليهود» بل وعبارة «جوديي نوستري judei nostri»أي «يهودُنا». وقد ورد نص، في أحد القوانين الصادرة في إنجلترا في القرن الثاني عشـر الميـلادي، يوضـح هذا المفهـوم تماماً، جاء فيه ما يلي: « كل اليهود حيثما كانوا في المملكة هم موالي الملك وتحت وصايته وحمايته، ولا يستطيع أيٍّ منهم أن يضع نفسه تحت حماية أي شخص قوي دون رخصة بذلك من الملك؛ لأن اليهود أنفسهم وكل منقولاتهم ملْك للملك («تشاتيل chattel.») ولذلك، إن قام أي فرد باحتجازهم أو احتجاز أموالهم فإن من حق الملك، متى شاء واستطاع، أن يطالب بهم باعتبارهم حقاً خالصاً له ».

وكان يتم شراء أعضاء الجماعات اليهودية وبيعهم ورهنهم وكأنهم أشياء ثمينة. وفي ألمانيا، أهدى أحد النبلاء عام 1300 لأسقف مدينة مينز كل يهود فرانكفورت. وأحياناً، كان يتم إهداء يهودي واحد إلى صديق معوز، على نحو ما حدث حينما قام إدمون برجندي عام 1197 بمنح يهودي مع أسرته إلى رجل يدعى فيجيير. وفي عام 1098، قدم الملك بدرو (ملك أراجون) نصف الضرائب التي جمعها يهود إحدى المدن التابعة له هديةً لإحدى الكنائس. وكان من الممكن أن يقوم مالك اليهود برهنهم، وقد منح هنري الثالث يهوداً لابنه إدوارد الذي قام برهن اليهود لدى أعدائهم المرابين الكوهارسيين. وحينما منح هنرى الثالث (عام 1256) القلعة وما حولها من أرض إلى جي دي روكفور، استثنى من ذلك غابة كنجزوود ويهود المدينة. أما ثيوبولد الشامباني، فقد استثنَى من منحة قدَّمها إلى إحدى المدن الأشياء التالية: الكنائس والفرسان والموالي واليهود.

ولأن أعضاء الجماعات اليهودية كانوا سلعة ثمينة، أمَر هنري الثالث ملك إنجلترا موظفي الحدود التابعين له بفتح الحدود أمام اليهود والترحيب بهم، ولكنه أمر في الوقت نفسه بحظر خروجهم منها. وفي عام 1254، قابله وفد من اليهود وطلبوا إليه السماح لهم بمغادرة البلد، ولكنه رفض طلبهم وهددهم بأن من يُضبَط وهو يغادر البلد سيُعاقَب أشد العقاب. كما منعت بلدان وسط أوربا اليهود من مغادرتها حينما سمع هؤلاء بالمعاملة الجيدة التي يلقاها يهود الدولة العثمانية وعقدوا العزم على الرحيل. وفي عام 1235، فرَّ يهودي من إنجلترا ومعه أسهمه التجارية، وحينما تم ضبطه قدمه هنري الثالث للمحاكمة بدعوى أنه « سرق ممتلكاتنا »، أي اليهودي نفسه والأسهم. وإذا قُتل يهودي أو أُلحق به الأذى لا تُدفَع ديته أو التعويض عنه لأهله وإنما كانت تُدفَع للملك (شارلمان، مثلاً) باعتباره مالك اليهود. وفي إسبانيا المسيحية، كان من حق المحاكم اليهودية أن تصدر حكمها بالإعدام على أي يهودي، وأن تقوم بتنفيذ الحكم عليه ولكن بعد أن تدفع ثمنه للملك. وإن ألحقت إحدى المدن الأذى باليهود، كان عليها دفع غرامة للإمبراطور. وكان الملك يتدخل بكل قوته لحماية اليهود، فحينما فرض الأسقف فيليب في كولونيا غرامة على اليهود (عام 1188)، عاقبه فريدريك الأول على فعلته هذه. كما تدخَّل فريدريك الأول بنفسه لحماية اليهود من الغضب الشعبي عليهم. وحينما جردت الحملة الثالثة من حروب الفرنجة، هدد فريدريك بقطع ذراع كل من يؤذي يهودياً وبإعدام كل من يقتل يهودياً لأنهم ملْكه الخاص.

وكان بوسع من ليس لديه يهود أن يقتنيهم وأن يحصل على المواثيق الإمبراطورية التي تخول له ذلك. ففي عام 1385، قامت مدن مقاطعة سوابيا بشراء اليهود المقيمين فيها من الإمبراطور حتى يتسنى للمدينة استغلالهم أو استثمارهم بنفسها.

وفي عام 1432، أعلن دوق ورتمبرج، كنوع من إغراء اليهود، أنه منحهم حقوقهم المدنية، ولكنه سحبها منهم بعد وصولهم. وكانت بعض المدن تشتري اليهود المقيمين فيها من الإمبراطور حتى يمكنها طردهم والتخلص من منافستهم. وكان من حق الملك أن يتصرف بشكل مطلق في أملاك اليهود، فكان أحياناً يهدى كل ممتلكاتهم إلى أحد أصدقائه دون أن يكلف نفسه عناء إخبارهم. وكان التصرف في ملكية اليهود الذين يموتون أو يُقتَلون أمراً سهلاً للغاية، ففي عام 1349 أهدى الإمبراطور تشارلز الخامس أسقف تريير كل بضائع يهود الألزاس واللورين « ممن قُتلوا وممن سيُقتَلون »، وقدَّم إلى آخر « أحسن ثلاثة بيوت يختارها عند وقوع المذبحة التالية ضد اليهود ».

وكانت حماية الإمبراطور لليهود تمتد لتشمل حرية الحركة وإعفاءهم من كل القيود التي كانت تعوق التنقل والتجارة، كما كانت تشمل مزايا ضخمة تضعهم في مرتبة أعلى من كل طبقات المجتمع المسيحي في العصور الوسطى ربما باستثناء النبلاء، وكانت هناك حالات يتساوى فيها اليهود مع كبار النبلاء.

وحتى لا يتوهم القارئ أن هذا وضع فريد أو شاذ ومقصور على اليهود، يجب أن نشير إلى أن هذه الظاهرة تتكرر في كثير من المجتمعات البشرية القديمة والحديثة. فالمماليك والخصيان كانوا ملكية خاصة إما للدولة أو للسلطان. وفي نظام الأقنان، كانت الأرض ومن عليها ملكية للإقطاعي وتؤول لورثته. بل إن ثمة وضعاً مماثلاً في الدولة الصهيونية، فالجندي الإسرائيلي الذي يحاول الانتحار ويفشل يُحاكم بتهمة إتلاف ممتلكات الدولة إذ أن الجندي يُعتبَر ملكية للدولة.

وقد أدَّت الحماية والمزايا إلى تحويل اليهود إلى جماعة وظيفية مالية نشطة تساعد في تحويل الثروة الطبيعية للدولة إلى نقود. كما أصبحوا وسيلة لزيادة دخل الأفراد وريع الدولة، فاليهود، بوصفهم أقنان بلاط، كانوا خاضعين تماماً للملك أو لمن يمتلكهم، إذ كان يفرض عليهم ما يشاء من ضرائب. وفي العادة، كانت تُفرَض عليهم ضرائب أعلى من تلك التي كانت تُفرَض على التجار المسيحيين. وكان شارلمان يأخذ عُشر أرباح التجار اليهود في حين أنه لم يكن يحصل إلا على جزء واحد من بين كل أحد عشر جزءاً من أرباح التجار المسيحيين. وكان اليهود يشـترون المواثيق والمزايا من الملك فتتحقق له الأربـاح بهذه الطريقة. كما أن رأس مالهم ذاته كان ملْكاً للملك، وهو الذي كان يحدد سعر فائدة القرض. وكان الملك يصرح لهم أحياناً بفائدة أعلى مما هو مصرح به للمرابي المسيحي، وذلك لأن ثروة اليهود كانت دائماً تصب، في نهاية الأمر، في الخزانة الملكية. وبعبارة أخرى، كان اليهود مجرد أداة في يد الحاكم يمكنه عن طريقها استغلال سائر طبقات المجتمع. فكان اليهودي يمتص الثروات والأموال من المجتمع، ثم يقوم الملك بعد ذلك باعتصاره عن طريق الضرائب الباهظة وبيع المواثيق والمزايا له. ومن هنا تشبيه أعضاء الجماعات اليهودية بـ «الإسفنجة» التي تمتص الماء ثم تفقده بالضغط عليها. واليهودي، بهذا المعنى، مملوك تستخدمه السلطة لقمع الجماهير. وأداة الاستغلال التي يستخدمها المملوك، كفرد في جماعة وظيفية قتالية، هي سيفه. أما أداة الاستغلال التي يستخدمها اليهودي، فهي رأس المال الربوي. وإذا كان المملوك المقاتل يُريق دم أعدائه بسيفه حتى تستمر السلطة في الاستيلاء على الثروات والأموال، فإن اليهودي يمتص المال والثروات مباشرةً من رأس المال، ومن هنا تأتي إشارتنا لليهود بمصطلح «المماليك التجارية».

وقد أدَّى وضع اليهود بوصفهم أقنان بلاط، أي أداة في يد الطبقة الحاكمة، إلى عزلتهم عن بقية طبقات المجتمع، إذ كانوا في حالة صراع مع قطاعات من طبقة النبلاء والبارونات بسبب علاقتهم الفريدة بالملك، وبسبب الفائدة التي تعود عليه منهم. وكان الحرَفيِّون أيضاً يناصبون اليهود العداء، إذ كانت لهم نقاباتهم الخاصة التي تقوم بتجنيد الأعضاء الجدد ونقل أسرار المهنة من جيل إلى جيل، وكان العنصر اليهودي يشكل تحدياً لهذا الاحتكار. كما كان الفلاحون وأعضاء الطبقات الأخرى يسقطون ضحية المرابي اليهودي الذي يبسط الملك حمايته عليه.

لكن سكان المدن كانوا أكثر الطبقات عداءً لليهود. فالمدن، نواة الاقتصاد والتجارة في المجتمعات الإقطاعية، كانت تحاول قدر طاقتها أن تنهض وتطور قوتها الذاتية عن طريق احتكار التجارة وتنظيمها من خلال البلدية. وكانت التجارة اليهودية التي لا تقع داخل شبكة نفوذها تتحدى هذا الحصار. كما أن هذه التجارة، باعتبارها خاضعة للملك وحده، كانت تهدد عملية التراكم الرأسمالي. وعلاوة على ذلك، كانت لليهـود اتصـالاتهم الدولية التي لم يكن للتجار المحليين مثلها في بداية الأمـر. وكما بيَّنا، خضع اليهود لنظام ضريبي مختلف، فكانوا في بعض الأحيان لا يدفعون ضرائب المرور التي شكلت عقبة أساسية أمام التجارة في العصور الوسطى الإقطاعية. بل كثيراً ما كان الملك يستخدم العناصر البورجوازية اليهودية المُستَجْلَبة من خارج المجتمع أو التي على علاقة خاصة لضرب العناصر البورجوازية المسيحية.

وتمكن رؤية ظاهرة معاداة اليهود في العصور الوسطى في إطار وضع اليهود كأقنان بلاط، وذلك باعتبارها ضرباً من ضروب الثورة الشعبية ضد الاستغلال. فالجماهير لم تكن تفهم آليات الاستغلال الاقتصادي وطابعها المركب ومستوياتها المباشرة وغير المباشرة، لأنها لم تكن تدرك سوى أداة الاستغلال الملموسة والموجودة أمامها، وكانت هذه الأداة هي اليهود: أقنان البلاط الذين يستخدمهم الملك ويقوم بحمايتهم. ولذلك، كانت الثورة ضد اليهود تندلع في حالة ضعف السلطة أو تَزايُد الاستغلال على معدله المحتمل أو عند غياب الملك في إحدى حملات الفرنجة.

وقد نجم عن وضع اليهود كأقنان بلاط ارتباطهم الشديد بالسلطة، وهو ارتباط استمر حتى يومنا هذا. وفي القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين، ظهرت جماعة وظيفية وسيطة أخرى هي يهود البلاط الذين قاموا بخدمة الملكيات المطلقة في وسط أوربا وشرقها في الأمور المالية والتجارية والدبلوماسية، كما قاموا بتوفير الاعتمادات اللازمة لتمويل الحروب التي لم تكن تنتهي بين الأمراء والملوك.

وفي بولندا، التي كانت تضم أكبر تَجمُّع يهودي، والتي جاءت منها الأغلبية الساحقة من يهود العالم، لعب اليهود شكلاً آخر من أشكال الوسـاطة من خـلال نظام الأرندا، فكانوا الوكـلاء الماليين للنبلاء البولنديين، حيث كان النبيل يقيم في وارسو ويرسل وكيله اليهودي مع القوات البولندية ليقوم باعتصار الفلاحين الأوكرانيين. وقد جاءت معظم القيادات الصهيونية البولندية من داخل هذا التشكيل الحضاري الذي يلعب فيه أعضاء الجماعة دور أداة الاستغلال المباشرة والمنبوذة التي تمثل الحاكم وتعتمد عليه.

ومن أهم الآثار الأخرى لوضع اليهود كأقنان بلاط أن اليهودي تمت حوسلته فتحوَّل إلى أداة ووسيلة وليس غاية. ومع ظهور الفلسفة النفعية في الغرب، تعمَّق هذا الاتجاه ونُوقشت مسألة إعتاق اليهود في إطار مدى نفعهم. ويبدو أن أهم آثار وضع اليهود كأقنان بلاط أنهم ظلوا خارج إطار التشكيلات السياسية البورجوازية القومية، فكانوا يُطرَدون حين تختفي الحاجة إليهم. وفي بولندا، لم يكن اليهود خارج التشكيل السياسي والاقتصادي وحسب وإنما كانوا خارج التشكيل الحضاري ذاته، وذلك لأنهم كانوا يتحدثون اليديشية، كما أن المسيحية الكاثوليكية هي أحد الأبعاد الأساسية للهوية البولندية مقابل الهوية الروسية الأرثوذكسية. ولذا، حينما ظهرت الحركة القومية البولندية، استُبعد اليهود منها، بالإضافة إلى أنهم ظلوا هم أنفسهم بمنأى عنها ينظرون إليها من الخارج، ولذلك لم يمكن دمجهم داخل هذا الإطار. بل إن العناصر البولندية لم تكن تثق كثيراً في العناصر اليهودية أثناء حركة المقاومة ضد النازي بسبب تراثها الطويل في الاقتراب من السلطة والقوى الحاكمة وبسبب عزلتها عن القوى الشعبية.

وإذا قبلنا مقولة أن اليهود، بوصفهم أقنان بلاط، كانوا يشكلون في واقع الأمر ما يشبه المماليك التجارية، لأمكننا فهم ثورة شميلنكي في أوكرانيا ضدهم، فقد كانت ثورة تجتث الجماعات اليهودية الواحدة تلو الأخرى (باعتبارها جماعات غريبة أو أدوات استغلال طفيلية دخيلة تماماً) كما اجتث محمد علي المماليك في مذبحة القلعة ليبدأ عملية التحديث.

ونحن نعقد هذه المقارنة بين شملينكي ومحمد علي من جهة، وبين اليهود والمماليك من جهة أخرى، لا لتسويغ عملية الذبح كوسيلة للتغيير ولكن لمحاولة فهم طبيعة وضع أعضاء الجماعات اليهودية داخل التشكيل الحضاري الغربي.

ولا نجد تفسيراً لظهور مفهوم أقنان البلاط في الحضارة الغربية إلا أن المجتمع الغربي الوسيط كان مجتمعاً عضوياً متماسكاً بمعنى الكلمة، على الرغم من لا مركزية الإقطاع الغربي، فضلاً عن تداخل السلطة الدنيوية والسلطة الدينية فيه على عكس ما يُقال، واستناد الشرعية إلى الدين المسيحي، ومن هنا كان قسم الولاء المسيحي أساساً للانتماء إلى النظام الإقطاعي سواء أكان الشخص نبيلاً محارباً أم حرَفيِّاً أو تاجراً أو فلاحاً. وكانت الجماعات القروية المنغلقة تدور حول طقوس الكنيسة ويرأسها النبيل والقس، وكلاهما ضمن الدائرة المسيحية.

لكل هذا، كان لابد من البحث لليهود عن مسوِّغ للوجود خارج هذا الإطار، وأن يكون المسوِّغ غير مسيحي، حيث كانت ملكية الملوك (ورثة الإمبراطورية الرومانية الوثنية) لهم تُبقي اليهود خارج الانتماء المسيحي.

ويبدو أن الحركة الصهيونية هي نتاج هذا التراث الغربي القديم، فالصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة ترى اليهود فائضاً بشرياً هامشياً في أوربا يمكن تحويله إلى عنصر نافع منتج وتوظيفه لصالحها خارج حدودها. كما أن تحويلهم إلى مستوطنين يقومون على خدمة الاستعمار والقتال دفاعاً عن مصالحه يُعتبَر جزءاً من هذا النفع. ولكن هذا الاستيطان لا يعني سوى تحول الجماعة الوظيفية المالية إلى جماعة وظيفية قتالية، أي أن أقنان البلاط الملكي الذين كانوا يضطلعون بوظيفة مالية قد تحوَّلوا إلى أقنان البلاط الإمبريالي الذين يضطلعون بوظيفة قتالية.

ساجدة لله
2010-10-25, 05:30 AM
يهـــــــود البــــلاط
Court Jews; Hofjuden
«يهود البلاط» هم وكلاء الحكام ومستشاروهم في الأمور التجارية والمالية في العالم الغربي،وهم من أهم الجماعات الوظيفية الوسيطة في عصر الملكيات المطلقة في أوربا،خصوصاً في وسطها في القرن السابع عشر.وقد ظهرت حاجة الأمراء الألمان إلى يهود البلاط لملء الفراغ الذي خلقه تَفتُّت الطبقة الوسطى الألمانية (التي كانت قد وصلت إلى قدر عال من القوة قبل ذلك،ولكنها تفتَّتت إلى بورجوازيات صغيرة تقطن في مدن صغيرة). وزادت العوائق الإقطاعية وتآكل جهاز الدولة الألمانية ذاته من هذه الحاجة.ومع قيام الإمارات الألمانية،حاول كل أمير على حدة أن يطور إمارته.ولكن الطبقات والنقابات الإقطاعية التقليدية كانت تقف حجر عثرة أمام سعي الأمير إلى فرض هيمنته وهيمنة الدولة على كل رعاياه وكل نواحي حياتهم (وهذا هو هدف الدولة القومية الحديثة).كما كان الأمير يحتاج إلى رأس مال لتنمية دولته أو إمارته وتنظيم إدارتها، أي أنه كان في حاجة إلى أدوات إنتاج وإدارة. وقد ظهر يهود البلاط ليملأوا هذه الفجوة وليصبحوا أداة إنتاج وأداة إدارة. وكان يهود البلاط مُرَشَّـحين لهذا، أكثر من أية مادة بشـرية أخرى، لعـدة أسـباب:

1 ـ كان يهود البلاط يمتلكون رأس المال اللازم لعملية التنمية، كما كانوا جزءاً من شبكة مالية ضخمة تُسهِّل لهم عملية اقتراض الأموال المطلوبة.

2 ـ كان لدى يهود البلاط الخبرة الإدارية اللازمة لإدارة الإمارات الجديدة.

3 ـ لم يكن يهود البلاط يتمتعون بأية حقوق، سواء حقوق مواطني المدينة أو حقـوق أعضـاء نقابات الحرَفييِّن أو الطبقـات والفئـات الإقطاعيـة.

4 ـ لم يكن هناك مؤسسة، مثل الكنيسة، تحميهم وتضعهم تحت رعايتها.

5 ـ كان يهودي البلاط يعيش في عالمين، هو في كليهما غريب، فهو يهودي في المجتمع المسيحي، ولكنه في الوقت نفسه غريب عن جماعته اليهودية إلى حدٍّ ما، فهو في غربة مزدوجة وليست له أية قاعدة جماهيرية أو أساس للقوة.

6 ـ لم يكن من الممكن أن يرث أبناء يهودي البلاط مكانته كما هو الحاـل مع الأرسـتقراطية، بل لم يكن بمقـدورهم أحـياناً أن يرثوا ثروته، إذ كان الأمير يقوم بمصادرتها. وهذا يعني أن يهودي البلاط لم يكن بمقدوره مراكمة القوة.

7 ـ كانت كل حقوق يهودي البلاط منحة من الأمير يخلعها عليه حين يشاء ويحجبها عنه حين يقرر ذلك.

لكل ما تقدَّم كان يهود البلاط رجالاً هامشيين لا حقوق لهم ولا أساس من القوة ولا أمل لهم في الحصول عليها. وهم في هذا يشبهون الخصيان، وكما وصفهم أحد الكُتَّاب فهم خصيان غير مخصيين. ومن ثم فهم لا يهدِّدون الأمير من ناحية، كما أنهم يشكلون أداته الإنتاجية والإدارية ذات الكفاءة المطلوبة من ناحية أخرى.

وقد كان أول ظهور ليهود البلاط في إسبانيا عام 1492. كما يمكن القول بأن بعض كبار التجار اليهود السفارد في هولندا، ممن كانوا يعملون وكلاء لبعض الدول ، هم أيضاً من يهود البلاط. وكذلك بعض كبار المموِّلين اليهود في بولندا من يهود الأرندا (مثل موسى ماركوفيتش الذي كانت له معاملات واسعة مع البلاط والوزراء والنبلاء في أوائل القرن السابع عشر ). ولكن المصطلح، بالمعنى الدقيق، يُستخدَم في التاريخ الاقتصادي لأوربا للإشارة إلى وكلاء الحاكم في عدد من إمارات وسط وشرق أوربا في الفترة من بداية القرن السابع عشر حتى بداية القرن التاسع عشر. وقد استفاد يهود البلاط أيما استفادة من حرب الثلاثين عاماً (1618 ـ 1648) وظل نفوذهم في التصاعد ووصل إلى قمته مع توقيع معاهدة أوترخت (1713)، وكان مركز نشاطهم ألمانيا والنمسا وهولندا، ولكنه امتد إلى إسبانيا والبرتغال والدنمارك وبولندا. وكان يهود البلاط يعيشون أحياناً خارج الدول التي يخدمونها، ويعمل الواحد منهم وكيلاً لعدة أمراء أو دويلات في آن واحد.

وقد ساعد يهود البلاط الملك أو الأمير الذي يقومون على خدمته في التخلص من قبضة الأمراء الحديدية وفي بسط نفوذه على أرجاء مملكته من خلال قوته الاقتصادية. وليس من قبيل الصدفة أن هذا النمط انتشر بعد عصر النهضة مباشرة، وهو العصر الذي بدأ فيه الانتقال (في أوربا) من النمط الإقطاعي في الإنتاج والإدارة وتنظيم المجتمع إلى النمط الرأسمالي الحديث. وقد كان يهود البلاط ينظِّمون الشئون المالية للملك ويشرفون على دار سك النقود، ويقومون بجمع الضرائب له، ويشرفون على الاستيراد والتصدير ويشيِّدون المصانع التي تحتاج الدولة إليها، ومن أهمها الصناعات الحربية مثل صناعة سبك المعادن والبارود. كما قاموا بإدخال منتجات زراعية وصناعية جديدة في البلاد التي كانوا يقومون على خدمتها بهدف زيادة موارد الدولة وتحويل ريعها الطبيعي إلى نقود. وعلاوة على ذلك، كان يهود البلاط يزودون الحاكم بالسلع التَرفيِّة التي يحتاج إليها فيشترونها له من أسواق فرنسا أو إيطاليا أو هولندا أو الدولة العثمانية. كما كانوا يسدون احتياجاته المالية عن طريق بنوك أوربا حتى يتمكن الأمير من الإنفاق بسخاء على مظاهر التَرف اللازمة للأبهة. وكان يهود البلاط يعقدون الصفقات التجارية نيابة عن الحاكم، ويتولون البعثات التجارية والدبلوماسية، ويعدون له الميزانية، ويمدون الجيوش المتحاربة بالمؤن التي كانوا يحصلون عليها من بولندا وبوهيميا ومورافيا وأوكرانيا، ويدبرون له السلاح والذخيرة التي يحتاج إليها. ومعنى ذلك أن يهودي البلاط كان يضطلع بوظائف وزراء الخارجية والمالية والحرب، وأحياناً رئيس المخابرات، في وقت لم يكن يعرف التقسيم الدقيق للعمل.

وقد لعب يهود البلاط دوراً مهماً للغاية في اقتصاديات الإمارات والدويلات التي كانوا يقومون على خدمتها، خصوصاً أثناء حرب الثلاثين عاماً (1618 ـ 1648). وذلك بسبب الشبكة التجارية اليهودية الممتدة في أرجاء العالم الغربي والعالم الإسلامي في ذلك الوقت. ففي القرن السابع عشر الميلادي، كان هناك نظام يهود الأرندا في بولندا، التي كانت تُعَدُّ أكبر مصدر للمنتجات الزراعية آنذاك وكان يهود الأرندا يقومون بتصديرها. كما ظهرت في الوقت نفسه الجماعة اليهودية السفاردية القوية في هولندا وغيرها من الدول الأوربية المهمة والتي كانت تربطها صلات قوية باليهود السفارد في الدولة العثمانية.ومما وسع من نطاق هذه الشبكة أنها ضمت العديد من يهود المارانو الذين كانوا يتحركون بسهولة باعتبارهم من المسيحيين،كما أن عدداً منهم كان مسيحياً فعلاً من أسر يهودية تربطهم صلة قربى وعمل بعائلاتهم اليهودية.وكانت هذه الشبكة السفاردية الإشكنازية متعددة الجنسيات عابرة القارات ظاهرة فريدة من نوعها داخل أوربا آنذاك،فكانت تمتد من شرقها إلى غربها ومن وسطها إلى سواحلها على الأطلسي والبحر الأبيض المتوسط.

وتشكل حرب الثلاثين عاماً نقطة مهمة وحاسمة في تطور الجماعات اليهودية في أوربا وازدهارها الاقتصادي، إذ أن كثيراً من يهود البلاط راكموا الثروات أثناء هذه الحرب التي عصفت بأوربا، فقد كانت الجيوش المتحاربة تحتاج إلى المؤن والمال في غضون فترة وجيزة، وذلك في عالم لم تكن فيه وسائل الاتصال على درجة كبيرة من الكفاءة والسرعة. ومن هنا لعبت الجماعات اليهودية دوراً حاسماً في خدمة كل الجيوش المتحاربة، وفي تزويدها بالقمح والماشية والأخشاب والعلف وغيرها من المؤن. وكان يهود الأرندا في بولندا يمدون يهود البلاط بالمنتجات الزراعية التي تحتاج إليها الجيوش المتحاربة، فيقوم يهود البلاط بتوزيعها وترتيب الاعتمادات المالية اللازمة من خلال أثرياء الجماعة اليهودية في هولندا وغيرها من الجماعات. وكان بمقدورهم الحصول على السلع التَرفيِّة من يهود الشام والدولة العثمانية. كما كان يهود البلاط على استعداد دائم لشراء غنائم الجنود ـ بغض النظر عن انتمائهم ـ بأسعار مخفضة. كما أن هناك صغار التجار اليهود الذين كانوا يسيرون خلف القوات المتحاربة للمتاجرة مع الجنود.

وكانت كل الجيوش المتحاربة تحتاج إلى خدمات أعضاء الجماعات اليهودية، ولذا لم يمسهم أي من الأطراف المتنازعة بأذى، بل كانت القوى المنتصرة تمنحهم منازل المهزومين أحياناً. ويقول المؤرخ البريطاني اليهودي إسرائيل ولفسون: « إنها حقيقة تاريخية أن يهود أوربا آنذاك استفادوا بالحرب من كل من الطرفين المتنازعين، فبينما كان يتم تمزيق ألمانيا وتدميرها كانوا هم يستفيدون ويراكمون الثروات ». ويُلاحَظ أن هذه الحقيقة صارت جزءاً من الدعاية النازية ضد اليهود، فهم أغنياء حرب ومستفيدون منها. لكن العنصرية النازية لا تكمن في تقرير الواقعة في حد ذاتها وإنما في نزعها من سياقها التاريخي، فقد استفاد أعضاء الجماعات اليهودية لا بسبب طبيعتهم الإنسانية الخاصة وإنما بسبب طبيعة وضعهم بوصفهم جماعة وظيفية وسيطة تلعب دوراً أساسياً ومطلوباً داخل المجتمع. وقد استفادت الجيوش المتحاربة من اليهود بأشكال أخرى، إذ كانت تحوِّل أعضاء الجماعة إلى جواسيس وتستفيد من الشبكة التجارية في توصيل المعلومات. كما كان بوسع شبكة يهود البلاط الممتدة عبر أوربا إلى الشام والتي تملك قاعدة من صغار المموِّلين وكبار وصغار التجار الذين تربطهم علاقة وثيقة بالآلاف من صغار الباعة الجائلين الموجودين في عشرات الجيتوات، أن تدبر أية كمية من المعادن النفيسة التي يحتاجها أحد الجيوش.

ولكن العلاقة بين يهود البلاط والأمراء كانت علاقة نفعية تماماً، فهم يستفيدون من علاقتهم بالحاكم ليحققوا الثروات ويحصلوا على المزايا. وهو بدوره يبقي عليهم بمقدار ما يستفيد من وجودهم باعتبارهم مصدراً لا ينضب للثروة، يعتصر كميات كبيرة من أموالهم عن طريق الضرائب التي يفرضها عليهم ومن خلال الهدايا التي كان يحصل عليها منهم في مناسبة تتويجه وفي غير ذلك من المناسبات. كما أنهم كانوا يشترون منه حقوقهم وامتيازاتهم نظير أموال طائلة. وإلى جانب هذا، كانوا يؤدون العديد من الخدمات للبلاط، أي أنهم كانوا أداة للتاج لا تربطهم به رابطة وثيقة تتجاوز المستوى الاقتصادي النفعي. وكان كل يهودي بلاط يملأ فجوة وظيفية محدَّدة، ويرتبط وجوده وكذلك مكانته بها، فإن انتفى وجود الفجوة انتفى وجوده. لكل هذا، كان الملك يتخلى عن يهود البلاط ويتخلص منهم عندما يشغل عنصر اقتصادي آخر وظيفتهم، كأن تنشأ طبقة بورجوازية محلية، أو يتسع نطاق رغباته بحيث لا يستطيع المموِّلون اليهود أن يفوا بحاجاته. وكان من السهل على الملوك التخلص من يهود البلاط، بل ومن كل الجماعات اليهودية، لأنهم لم يكونوا أصحاب رؤوس أموال ضخمة وإنما كانوا أساساً، وبالدرجة الأولى، عنصراً اقتصادياً إدارياً كفئاً تتبعهم شبكة اقتصادية ضخمة. ولذا، لم يكن أعضاء الجماعة يشكلون طبقة تستغل الآخرين لحسابها ذات نفوذ وكيان مستقلين وإنما كانوا أداة استغلال تابعة وعميلة ومرتبطة بإحدى الطبقات أو القطاعات الحاكمة. كما أنهم كانوا مكروهين من الجماهير باعتبارهم أداة الاستغلال المباشرة، ومن البورجوازية المحلية لأنهم يشكلون غريماً لها، ومن النبلاء وكثير من أعضاء النخبة الحاكمة لأنهم أداة في يد الملك يستخدمها لتدعيم نفوذه على حسابهم. ولم يكن لأعضاء الجماعات اليهودية أية علاقة حميمة بأيٍّ من فئات المجتمع. وكثيراً ما كانت أموال يهودي البلاط تُصادَر بعد موته، كما كان الأمير أو الملك يرفض دفع الديون التي عليه. أما الذي لم يفقد ثروته بهذه الطريقة، فقد أدَّت التحوُّلات الاقتصادية (مثل اتساع نطاق الرأسمالية الغربية أو تزايد ضخامة مشروعاتها أو ظهور بورجوازيات محلية قوية) إلى تهميشه أو إفلاسه، حيث لم يكن بمقدوره الصمود في حلبة المنافسة، وخصوصاً أن استثمارات يهود البلاط كانت دائماً مرتبطة بالدولة ولم تصبح قط مشروعاً خاصاً بمعنى الكلمة. لكل هذا، لم يلعب يهود البلاط أو أثرياء اليهود على وجه العموم دوراً حاسماً في نشوء الرأسمالية الغربية الرشيدة.

ومع هذا، لابد أن نقرر أن يهود البلاط بوصفهم جماعة وظيفية وسيطة كانوا أقل هامشية من أقنان البلاط والتجار والمرابين اليهود، إذ تحركوا نحو المركز قليلاً من الناحية الوظيفية والاقتصادية والحضارية. فكان يهود البلاط يندمجون حضارياً في المجتمع الذي يعيشون فيه فيرتدون رداءً أوربياً ويسلكون سلوكاً أوربياً ويعيشون خارج الجيتو ويتمتعون بحرية الحركة ولا يدفعون أية ضرائب، ويتمتعون بكثير من الحقوق المدنية التي لا يتمتع بها بقية أعضاء الجماعة اليهودية، مثل حق شراء الأرض الزراعية، أو حق ركوب عربات تجرها أربعة أو ستة أحصنة، وهو حق كان مقصوراً أيضاً على النبلاء. كما كانوا يُمنحون ألقاباً لا تُمنَح إلا للنبلاء. وكانت مصالحهم الاقتصادية مرتبطة تماماً بمصالح الملك أو الحاكم أو الدولة، وكثيراً ما كانت تتعارض مع مصالح الجماعات اليهودية الأخرى، بل كان بعضهم يقف ضد هجرة اليهود إلى بلادهم ويؤلبون الملك ضد المهاجرين الجدد. وقد كان يهود البلاط واعين تماماً بالتحولات الثقافية والمالية العميقة في المجتمع الأوربي، ولذا كانوا من أوائل العناصر التي رحبت بحركة التنوير اليهودية وشجعوا دعاتها. ويُلاحَظ أن كثيراً من أبناء يهود البلاط قد تَنصَّروا، ربما بسبب الجو الثقافي الاندماجي الذي نشأوا فيه.

ومع هذا، كان ليهود البلاط موقف القيادة والزعامة بين يهود البلد الذي يعيشون فيه، ولكنها كانت قيادة مفروضة من الخارج، من عالم الأغيار، وتستمد شرعيتها من نجاحها فيه، وكانت قيادتهم مطلقة حتى أن أحد يهود البلاط أصر على أن تكون كل المناصب القيادية في إحدى الجماعات اليهودية مقصورة على أفراد أسرته، وهو أمر لم يكن شاذاً في عصر الملكيات المطلقة. وقد وصـف أحـدهم روتشـيلد بأنه « ملك اليهود، ويهودي الملك » وهو وصف دقيق لوضع يهود البلاط وعلاقتهم بكلٍّ من النخبة الحاكمة غير اليهودية وأعضاء الجماعة اليهودية. وكان يهود البلاط يحتفظون ببعض العادات اليهودية، مثل اللحية، لأن وجودهم الاقتصادي كان يتوقف على شبكة الاتصالات اليهودية. وكانوا يحاولون أحياناً الحصول لليهود على حقوقهم ويشفعون لهم عند الحاكم كوسطاء (شتدلان). وكان أعضاء الجماعة اليهودية يتمتعون بقدر أكبر من الحماية والأمن من عامة الناس بسبب العلاقة المباشرة بين الحاكم ويهودي البلاط الذي يوفر لهم هذه الحماية.

وقد لعب يهود البلاط دور الوسيط (الفعلي والفكري) بين حضارة الأغيار واليهود، وبذلك مهدوا لظهور حركة التنوير بين اليهود. كما أنهم كانوا دليلاً حياً على أن في وسع اليهودي أن يحقق النجاح خارج الجيتو. وقد أصبحت وظيفة يهود البلاط وراثية وتحولوا إلى أسر مالية أرستقراطية تتصارع فيما بينها على النفوذ والسلطة وأصبحوا طائفة مغلقة يتزاوج أفرادها فيما بينهم ويستبعدون اليهود العاديين. ويمكن القول بأن صورة يهودي البلاط كعبقري ساحر، وكصاحب نفوذ يُقرض الملوك والأمراء، قد تجذرت في الوجدان اليهودي في الغرب.

وقد انتهى دور يهود البلاط بسبب تعاظم نفوذ الدولة المطلقة في أوربا وبسبب نجاحها التدريجي في تشديد قبضتها على مواطنيها من خلال مؤسسات رشيدة تضطلع بوظائف يهود البلاط. بالإضافة إلى ظهور بورجوازيات محلية قوية تمتلك من رؤوس الأموال والخبرات الإدارية ما يفوق مثيله لدى يهود البلاط. وأخيراً كان تقسيم بولندا ضربة للشبكة التجارية التي اعتمد عليها يهود البلاط. ثم جاءت الثورة الفرنسية بجيوشها وتقسيمها أوربا إلى معسكرين متنازعين بمثابة الضربة القاصمة.

ومن أشهر أسر يهود البلاط، أسرة ليفي وأوبنهايمر وجومبيريز، حيث حققوا ثروات كبيرة أثناء الحرب. ويُلاحَظ أنه مع نهاية القرن الثامن عشر بدأ كثير من أبناء هذه العائلات يتحولون من يهود بلاط إلى أعضاء في الرأسمالية الرشيدة ويتنصَّرون بأعداد كبيرة، أي يندمجون تماماً في الحضارة الغربية. ومن الأمور التي قد تكون ذات دلالة رمزية أن آخر يهود البلاط كان سولومون روتشيلد، من عائلة روتشيلد الشهيرة التي مولت النشاط الصهيوني في بدايته وتحالفت مع الإمبريالية لإنشاء الدولة الصهيونية. وسولومون هذا هو الذي ساعد ميترنيخ زعيم الرجعية الأوربية في القرن التاسع عشر على الاختفاء بعد سقوط النظم الرجعية تحت ضغط الحركات الشعبية والثورية. ونحن نرى أن الدولة الإمبريالية حينما تنشئ علاقة قوية يُقال لها إستراتيجية مع الدولة الصهيونية، فإنها في واقع الأمر علاقة نفعية تُوظِّف الدولة الراعية من خلالها العميل الصهيوني لصالحها، ولذا يمكننا أن نقول إنها تشبه في كثير من الوجوه علاقة الأمراء الألمان بيهود البلاط، وإن الدولة الصهيونية هي في واقع الأمر دولة وظيفية، دولة يهود البلاط الإمبريالي، إن جاز التعبير.

ساجدة لله
2010-10-25, 05:30 AM
حسـداي بن شفروط (915-1055)
Hisdai Ibn Shaprut
هو إسحق بن عزرا بن شفروط الذي اشتهر باسم «حسداي بن شفروط»، رئيس الجماعة اليهودية في قرطبة. جاءت أسرته من شرق الأندلس ثم استقرت في قرطبة. ودرس ابن شفروط الطب ثم دخل في خدمة الخليفة عبد الرحمن الثالث (912 - 961). ولـمّا كان الخلفاء الأمويون في الأندلس يعيِّنون أطباءهم في وظائف إدارية ومالية أخرى في أحيان كثيرة، فقد أوكل الخليفة إلى ابن شفروط مسئولية قسم المكوس الذي كان يُعَدُّ من الوظائف الإدارية العليا. كما عمل مستشاراً في الشئون الخارجية (الدبلوماسية)، وعمل مترجماً أيضاً. ويُلاحَظ أن كل هذه الوظائف تقريباً تتطلب التعامل مع غير المسلمين، وهي وظائف تركَّز فيها الذميون. وقد أُرسل في بعثات دبلوماسية إلى ليون عام 956 ونافار عام 958. ويمكن القول بأنه بالفعل كان في منزلة وزير الخارجية والتجارة. وقد جمع ثروة طائلة من وراء ذلك.

وكان حسداي بن شفروط يهودياً مُستعْرباً، مثل معظم أعضاء النخبة العربية اليهودية في زمانه، فكان يتحدث العربية ويسلك سلوك أثرياء المسـلمين. واتخذ شـعراء يهوداً ليمدحوه نظير إغداقه العطاء عليهـم.

وكان ابن شفروط، باعتباره ممثلاً للجماعة اليهودية الجديدة في الأندلس، وراء تأسيس الحلقة التلمودية في قرطبة، والتي عيَّن موسى بن حنوخ (العالم التلمودي الذي اشتراه من سوق العبيد) رئيساً لها حتى يحقق الاستقلال ليهود الأندلس. وقد نجح في مسعاه إذ فاقت حلقة قرطبة في شهرتها وأهميتها الحلقات التلمودية في العراق. وقد أُطلق على حسداي اسم «ريش كلاه»، بمعنى: رأس العرش، وهو لقب كان الغرض منه منافسة لقب «رأس المثبتا»، الذي كان يُطلَق على رئيس حلقة سورا.

ويُنسَب إلى ابن شفروط أنه كتب خطاباً إلى يوسف (ملك الخزر) يصف له فيه الأندلس ويطرح عليه بعض الأسئلة الخاصة بيهود الخزر، وقد رد الملك عليه. وقد سُـمِّيت هذه الخطابات بالمراسلات الخزرية، ولكن ثمة اختلافاً بين العلماء في مدى صدق هذه الواقعة.

يعـقوب بـن كلـس (930-991)
Yaqub Ibn Killis
من رجال المال والتجارة اليهود. خدم في بلاط عدد من حكام مصر. وُلد في بغداد، ويُقال إنه سليل عائلة السموأل اليهودية التي ينتمي إليها أحد شعراء العرب المشهورين في الجاهلية.

استقر ابن كلس مع والده في مدينة الرملة في فلسطين، واشتغل بالتجارة والأعمال المصرفية، وعمل هناك ممثلاً للتجار الأجانب (وهي وظيفة تشبه القنصل التجاري)، ولكنه أفلس برغم نجاح أعماله عدة سنوات. ثم ذهب إلى مصر حوالي عام 960، وبعد اتصاله بوالي مصر كافور نجح في الاشتغال في مجال الإمدادات الحكومية. وعندما نفذت خزانة الدولة، سمح له كافور بتحصيل أمواله من الضرائب المستحقة على المناطق الزراعية، وقد أتاح له ذلك التعرف على شئون الزراعة في مصر فأصبح المستشار الاقتصادي لكافور ثم مستشاره السياسي أيضاً. وبعد تعيينه رئيساً للإدارة المالية، اعتنق ابن كلس الإسلام وكاد أن يعيَّن وزيراً، ولكنه واجه معارضة الوزير جعفر بن الفرات. وبعد وفاة كافور عام 968، سُجن ابن كلس ولكنه نجح في الفرار وذهب إلى تونس حيث كان الفاطميون يستعدون للاستيلاء على مصر، وقام بتشجيع المعز في خططه لغزو مصر وقدَّم له كثيراً من المعلومات المهمة عن الأوضاع بها. وبعد سقوط مصر في يد الفاطميين، عاد ابن كلس إلى مصر وأوكلت إليه مهمة جمع الضرائب. وقد حقق ابن كلس مكانة مهمة في النظام المالي. وبعد تعيينه وزيراً عام 977 في عهد الخليفة العزيز (975 ـ 996)، أعاد تنظيم النظام الإداري، ولكنه أُقيل من هذا المنصب واعتُقل لمدة شهرين عام 983، ثم أُعيد إلى منصبه بعد ذلك وظل محتفظاً به حتى وفاته. وقد احتفظ ابن كلس بعلاقته بأعضاء الجماعات اليهودية حتى بعد إسلامه وكان بعض مثقفي الجماعة يحضرون الصالون الثقافي الذي كان يعقده في قصره.

سـليمان ابـن صـادوق ( ؟ -1273(
Solomon Ibn Zadok
يهودي بلاط خدم في بلاط الملك ألفونسو العاشر (الحكيم)، في قشطالة حيث أسند إليه ألفونسو القيام بعدد من المهام الدبلوماسية وبمهمة تحصيل عوائد المملكة.

وبعد وفاته، تولى ابنه إسحق بن صادوق (أو إبراهيم إسحق ـ تُوفي عام 1280) مهمة جباية ضرائب مملكة قشطالة خلال عهد ألفونسو العاشر،كما حصل عام 1276 على عدد من عقود الإمدادات الحكومية.وفي عام 1278،كلفه ألفونسو بإرسال إمدادات مالية لجيشه المعسكر بالقرب من إحدى المدن،ولكن هذه الإمدادات نُهبت وهي في طريقها ولم تصل إلى قوات ألفونسو التي كادت أن تَهلك الأمر الذي دفع ألفونسو للانتقام من محصلي الضرائب فألقى القبض على ثلاثة منهم وحكم على إسحق بالإعدام شنقاً.

والأسماء العربية التي يحملها ابن صادوق وابنه تدل على أنهما كانا يتنقلان بين إسبانيا المسيحية والإسلامية، قبل أن يتم طرد المسلمين منها. وقد قام يهود شبه جزيرة أيبريا بدور الجماعة الوظيفية الوسيطة بين المعسكرين المتصارعين.

تيكـا (النصف الأول من القرن الثالث عشر(
Teka
يهودي من أقنان البلاط من أصل خَزَري،كان يعمل مرابياً ووكيلاً مالياً،حيث التحق بالبلاط المجري في القرن الثالث عشر. وكان أبوه من كبار الملاك،إذ منحه ملك المجر مقاطعة ضخمة ورثها تيكا من بعده.وقد امتلك تيكا مقاطعات أخرى،ويُحتمل أن اسمه مأخوذ من اسم إحدى هذه المقاطعات.وقد عيَّنه الملك أندرو الثاني (1205 ـ 1245) مسئولاً عن عوائد البلاط الملكي، ولذا يُشار إلى تيكا في الوثائق اللاتينية المعاصرة بلقب «كوميس كاميراي comes camerae» ومعناها «وكيل مالي للملك» (حرفياً:تابع أو رقيق). ويبدو أن تيكا كان مسئولاً مالياً في غاية الأهمية،إذ يظهر توقيعه على عدة اتفاقيات ومعاهدات سلام واتفاقيات مالية بين ليوبولد الرابع (1194 ـ 1230) وأندرو الثاني (كان الضامن الوحيد لمبلغ كبير من المال اقترضه ليوبولد الرابع عام 1225 من أندرو الثاني). وفي عام 1222،صدر مرسوم مجري (بناءً على تعليمات من الفاتيكان) بمنع اليهود والإسماعيليين (أي المسلمين والعرب) من تَقلُّد أية مناصب مالية ومن صفة النبالة في المجر،وقد وقَّع الملك القانون كارهاً، ثم تحدَّاه بإبقاء تيكا.ولكن البابا جريجوري التاسع تدخَّل وأرغم الملك، وابنه بيلا الرابع (1245 ـ 1270) من بعده، على أن يقسم على احترام بنود الدستور الخاصة باليهود.فاضطر تيكا إلى ترك منصبه والسفر إلى النمسا حيث كان يتمتع بسمعة طيبة للغاية.وقام هناك بنشاط مالي مهم، فعقد قرضاً عام 1245 لمجموعة من كبار التجار في فيينا (التي كان يمتلك منزلاً فيها).وقد نجح بيلا الرابع في التحلل من قسمه الخاص باستبعاد اليهود من الوظائف المالية وذلك بسبب احتياج أوربا للاعتمادات المالية بعد هجمات التتار.فعاد تيكا إلى المجر وأعاد الملك له بعض المقاطعات التي كان قد صادرها.وبعد الغزو التتري،اختفى تيكا تماماً. وتذهب بعض النظريات إلى أنه انسحب مع التتر أبناء عمومته، فقد كان خَزَرياً، من أصل تركي مثلهم.

والواقع أن قصة حياة تيكا ذات دلالات كثيرة منها:

1 ـ هو نموذج جيد لأقنان البلاط الذين كانوا يتمتعون بنفوذ واسع نظراً لقربهم من مراكز القوة، ولكنه نفوذ لا جذور له، ولذا كان بإمكان السلطة الحاكمة إنهاؤه في أي وقت.

2 ـ يدل تيكا على أن يهود الخَزَر كانوا لا يزالون منتشرين في أوربا رغم القضاء على دولتهم، وأنهم لعبوا دوراً أساسياً في تأسيس المجر. ولعل شخصية تيكا تعطي بعض الأسانيد لنظرية كوستلر الخاصة بالشتات الخَزَري.

3 ـ تدل وقائع حياة تيكا على أن الوجدان الغربي المسيحي قد ربط بين اليهود والمسلمين (الشرقيين)، وهو ربط له أساس في الواقع، فمعظم يهود العالم كان متركزاً في العالم العربي الإسلامي، ومع بداية العصور الوسطى كان نصفهم في الغرب والنصف الثاني في الشرق، كما أن ثقافة أعضاء الجماعات اليهودية كانت متأثرة بالثقافة الإسلامية. كما أن كثيراً من أعضاء الجماعات اليهودية أبقوا على علاقاتهم الثقافية بالعالم الإسلامي، بل وأبقوا على علاقاتهم الفعلية. ونظراً لعدائهم للعالم المسيحي، فقد كانوا متهمين بالعمالة للعالم الإسلامي.

عائلـة ابـن شـوشــان (القرن الثاني عشر - القرن الرابع عشر)
Ibn Shoshan Family
عائلة يهودية من طليطلة في إسبانيا تمتعت بمكانة مرموقة في الفترة بين القرنين الثاني عشر والرابع عشر في إسبانيا وفي عدد من الدول التي هاجر إليها أفراد العائلة بعد طرد اليهود من إسبانيا، مثل: تركيا وتونس وفلسطين. وكان من بين أفرادها رجال المال والتجارة ويهود البلاط وعلماء الدين واللغة والشعراء والفلاسفة والأطباء ومن أهمهم:

أبو عمر يوسف (1135 ـ 1205) الذي اتخذ لقب «الناسي» أو الأمير، وكان صرافاً في بلاط الملك ألفونسو الثامن في قشطالة، وتمتع بنفوذ واسع في الشئون الداخلية والخارجية، ومُنح مقابل خدماته للدولة أملاكاً واسعة مع امتيازات الحصانة التي تسمح له بالحرية المطلقة في التصرف والحكم داخل حدود أملاكه.

أما مائير بن شوشان (القرن الثالث عشر)، فقد وُلد في طليطلة ثم أصبح صراف الملك ألفونسو العاشر (1252 ـ 1284). وبعد طرد المسلمين من عدد من مدن الأندلس، مُنح مائير أملاكاً بها عامي 1253 و1266. وفي عام 1276، أُرسل إلى المغرب في مهمة دبلوماسية ومما يُذكَر أن المراجع العربية تشير له باعتباره وزيراً.

وكان إبراهيم بن شوشان (زوج ابنة مائير) مسئولاً عن جباية الضرائب في طليطلة خلال أواخر القرن الثالث عشر وأوائل القرن الرابع عشر. وخلال عهد سانشو الرابع (1285 - 1295)، عمل مع مدير الشئون المالية للمملكة إبراهيم البارجيلوني، كما عمل صرافاً للمملكة. وبعد أن تقرَّر عام 1286 إعادة أملاك وامتيازات العرش التي فُقدت خلال الحرب الأهلية، أُسندت إلى إبراهيم مهمة الإشراف على هذه العملية وتنفيذها وإن تم استبداله بإبراهيم البارجيلوني عام 1287. وخلال عهد فرديناند الرابع (1295 ـ 1312)، مُنح إبراهيم حق جباية الضرائب في قشطالة.

أما يعقوب بن يوسف، فكان قاضياً شرعياً (ديان) في طليطلة خلال أوائل القرن الرابع عشر، وكان ممن وقَّعوا عام 1306 على قرار بحظر الدراسات العلمانية.

ومما يُذكَر أن عائلة ساسون التجارية المالية والتي ازدهرت خلال القرن التاسع عشر في الهند والصين والشرق الأقصى من نسل عائلة ابن شوشان، ولعل كلمة «ساسون» مشتقة من كلمة «شوشان».

عائلـة عطــار Attar Family (القرن السادس عشر - القرن الثامن عشر(
عائلة يهودية من أصول إسبانية هاجر كثير من أعضائها من إسبانيا خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر واستقروا بشكل خاص في المغرب، كما تواجدوا أيضاً في أمستردام وتركيا ثم هامبورج ولندن وكوراساو ـ وبخاصة منذ القرن السابع عشر ـ وكان أغلب حاملي اسم «ابيناتار Abenatar» أو «أبياتار Abiatar» في هذه الدول من أصل ماراني. ومن أبرز أعضاء هذه العائلة: إبراهيم (الأول) بن سولمون بن عطار (يُرجَّح أنه عاش في الفترة ما بين القرنين السابع عشر والثامن عشر)، وكان شاعراً وعالماً تلمودياً وقبَّالياً، وعاش في مدينة فاس بالمغرب. أما حاييم (الأول) بن عطار الذي عاش في الفترة نفسها، فكان من وجهاء الجماعة في المغرب، وقد أسَّس وترأس مدرسة تلمودية عليا (يشيفا(

وقد عُيِّن موسى بن عطار (تُوفي حوالي عام 1725 (سكرتيراً ومستشاراً لنائب الملك في جنوب المغرب ثم تولى منصب رئيس اليهود النجيد خلفاً لوالده كما قام بإدارة الأعمال التجارية الواسعة الخاصّة بالأسرة وعُيِّن خازناً للملك مولاي إسماعيل كما اختارته إنجلترا للتوسط بينها وبين المغرب في المفاوضات الرامية لإبرام معاهدة سلام بين البلدين والتي أُبرمت بالفعل عام 1721 وقد حرص موسى على أن تضم المعاهدة فقرة تنص على حق اليهود المغاربة الذين استقروا في أنحاء الإمبراطورية البريطانية في أن يُحاكَموا في محاكمهم اليهودية الخاصة وقد وُجهت إلى موسى فيما بعد اتهامات الاختلاس الأمر الذي اضطره إلى دفع غرامة باهظة للملك حتى ينقذ نفسه من الإعدام وقد خلفه شقيقه إبراهيم في منصب رئيس اليهود أما شقيقه الآخر يعقوب فقد عُيِّن حاكماً على ميناء تطوان وفي أوائل القرن التاسع عشر عُيِّن يوسف بن عطار قنصلاً للبرتغال والدنمارك في الرباط.
شيشـيت بنفنيســتي (1131-1209(
Sheshet Benveneste
ماليٌ طبيبٌ عالمُ تلمود دبلوماسيٌ وشاعر إسباني يهودي. دخل في شبابه في خدمة نبيل من برشلونة ثم خدم ملكي أراجون ألفونسو الثاني ثم بدرو الثاني (من عام 1196) كطبيب ومستشار سياسي ومبعوث دبلوماسي ومترجم للعربية. وكان علمه بالعربية من أهم أسباب مكانته الرفيعة. وقد لعب بنفنيستي دوراً مهماً أيضاً في الإدارة المالية للمملكة، كما خُصِّصت له بعض عوائد الدولة مقابل القروض التي كان يقدمها للخزينة الملكية. وتمتع بنفنيستي، مثل سائر النبلاء في المملكة، بالإعفاء من الضرائب وبالحصانة القانونية، كما تلقى منحة ملكية بالامتيازات أعطته سلطة تنظيم شئون المعبد اليهودي في برشلونة. وبالإضافة إلى ذلك، كان بنفنيستي يكتب الشعر بالعبرية، وكان على اتصال بالعلماء المسلمين واليهود في شبه جزيرة أيبريا وكان من أشد المدافعين عن أعمال موسى بن ميمون وعن آرائه الفلسفية، كما كانت له بعض الأعمال في الطب.

أبراهـــام بنفنيســتي (1406-1454)
Abraham Benveneste
من يهود البلاط في قشطالة بإسبانيا وكبير الحاخامات خلال عهد الملك جون الثاني (1406 ـ 1454). عيَّنته حكومة المملكة لإعادة تنظيم شئونها المالية وأُسندت إليه مسئولية تنظيم وجباية الضرائب والرسوم الجمركية. كما قام بإمداد الجيش بالمال والحبوب وتمتع بنفوذ واسع في شئون الدولة. وفي عام 1432، قام الملك بتعيين بنفنيستي كبيراً للقضاة ومراقب ضرائب للجماعة، فأصبح يتمتع بالسلطة العليا في المسائل الدينية والتشريعية للجماعة. وفي هذا العام نفسه، نظم بنفنيستي مؤتمراً لحاخامات الجماعة وممثليها انتهى بإصدار عدد من اللوائح والتنظيمات الجديدة والقواعد التكميلية (تاقانوت) بغرض تنظيم التعليم الديني ودعمه وتنظيم المحاكم اليهودية وتحقيق عدالة توزيع الضرائب وحماية الجماعة من الوشاية. كما أصدر عدداً من قوانين الترف للحد من الغلو والإفراط في الملبس والاحتفالات، ذلك الترف الذي كان من أسباب إثارة استياء السكان المسيحيين.

دونــا جراسـيا (منديســيا) (1510-1569(
Donna Gracia (Mendesia)
هي جراسيا ناسي منديز، سيدة يهودية ثرية من المارانو عُرفت بنشاطها من أجل يهود المارانو بعد طردهم من إسبانيا والبرتغال، وتُعتبَر في الأدبيات اليهودية وبين المؤرخين من اليهود من أبرز السيدات اليهوديات خلال الـ 2000 سنة الماضية. وقد وُلدت في الغالب في البرتغال لأسرة بنفنيستي (وهي أسرة من يهود المارانو ذات مكانة مرموقة)، وعُرفت باسمها المسيحي بياتريس دي لونا. وقد تزوجت جراسيا عام 1528 من فرانسيسكو منديز (ناسي) الذي كان ينتمي أيضاً لعائلة ثرية ومرموقة من المارانو. وكان قد أسس مع أخيه ديوجو منديز تجارة للأحجار الكريمة تطورت إلى مؤسسة مالية مهمة كان لها فرع في انتورب بهولندا. وبعد وفاة زوجها في سن مبكرة (عام 1535)، نجحت جراسيا في ترك البرتغال سراً ومعها ابنتها وأعضاء أسرتها وكامل ثروتها، وانتقلت إلى انتورب حيث انضمت إلى شقيق زوجها ديوجو الذي تزوَّج أختها. وقد تولت جراسيا إدارة مؤسسة منديز المالية بعد وفاة ديوجو، إلا أنها اضطرت إلى الفرار إلى البندقية مع ابنتها وابنة أختها بعد أن حاول الإمبراطور شارل الخامس الاستيلاء على ثروتها. ولكن تم إلقاء القبض عليها والاستيلاء على ممتلكاتها بعد أن قامـت أختها رينا، والتي يبـدو أنها كانت تعـاني من تَسـلُّط جراسيا عليها، بإدانتها لدى السلطات باعتبارها يهودية متخفية. إلا أن ابن أخيها يوسف ناسي الذي كان من رعايا الدولة العثمانية، نجح في الإفراج عنها بفضل علاقته الوثيقة بالسلطان العثماني وتم رد ممتلكاتها بعد ذلك بعامين. وقد استقرت جراسيا فيما بعد مع أسرتها في مدينة فرارا حيث استطاعت التخلي عن اسمها المسيحي وأصبحت تُعرف باسمها اليهودي جراسيا ناسي، وقد استمرت في بذل جهودها في فرارا من أجل اللاجئين من المارانو.

وفي عام 1553، انتقلت جراسيا إلى القسطنطينية حيث استقرت حتى آخر أيامها. وقد ارتبطت هناك بشكل وثيق مع ابن أخيها يوسف ناسـي الذي تزوَّج ابنتها وتشـابك نشـاطها التجاري والسـياسي مع نشاطه. وقد كان ليوسف ناسي مكانة ونفوذ مهمان لدى الباب العالي، وخصوصاً في مجال السياسة الخارجية، بفضل شبكته الواسعة من الوكلاء المنتشرين في العالم الغربي ودرايته ومعرفته الواسعة بالشئون الأوربية وبقادة أوربا. وقد أصبح قصر جراسيا على ضفاف البوسفور مركزاً للسياسة المتعلقة بالشرق الأوسط ومركزاً أيضاً للشئون اليهودية. وقد اهتمت جراسيا ببناء المؤسسات التعليمية والمعابد اليهودية في القسطنطينية وسالونيكا.

وفي الفترة من عام 1556 إلى عام 1557، حاولت جراسيا تنظيم مقاطعة يهودية لميناء أنكونا الإيطالي رداً على اعتقال عدد من يهود المارانو على يد البابا بولس الرابع تمهيداً لإحراقهم. وقد تم إخلاء سبيل الأتراك منهم ومن بينهم وكلاء جراسيا التجاريون بفضل تَدخُّل السلطان العثماني استجابةً لطلب جراسيا.

إلا أن أكثر مشاريعها شهرة كان استئجارها، بالتعاون من ابن أخيها، مدينة طبرية الفلسطينية من السلطان العثماني وذلك بهدف إقامة مستوطنة يهودية لتوطين اللاجئين من اليهود. ولكن من المؤكد أن جراسيا، ومعها يوسف ناسي، قد اهتما بتنمية المشروع تجارياً حيث أسسا مركزاً لإنتاج الحرير والصوف. وقد دعا يوسف ناسي اللاجئين اليهود في إيطاليا للاسـتيطان في طبرية لكن دعوته لم تلق اسـتجابة تُذكَر. إلا أن هذا المشروع لم يُستكمل نتيجة عدة أسباب، منها رفض سكان فلسطين من العرب له، ونشاط خصوم يوسف ناسي في القسطنطينية ضده، الأمر الذي دفعه إلى الابتعاد عن المشروع، وأخيراً وفاة جراسيا عام 1569. وفي الدولة الصهيونية، قررت مدينة طبرية الاحتفال بذكراها وإنشاء تمثال لها.

ساجدة لله
2010-10-25, 05:31 AM
ســليمان أبنايـــس (ابــن عايـــش) (1520-1603)
Solomon Abenaes (Aben-Ayesh)
رجل دولة من يهود المارانو. وُلد في البرتغال تحت اسم الفارو منديز، وحقق ثروة من خلال استغلال مناجم الماس في الهند، ثم عاد إلى أوربا حيث حصل على لقب فارس سانتياجو، وعاش متنقلاً بين مدريد وفلورنسا وباريس ولندن. وعندما استولت إسبانيا على البرتغال عام 1580، تَبنَّى أبنايس (أصلها بالعربية: ابن عايش) قضية دوم أنتونيو المطالب بعرش البرتغال، وكان من أشد وأنشط مناصريه. وفي عام 1585، استقر في تركيا وعاد ليُظهر يهوديته متخذاً اسم سليمان (أبنايس). وقد نجح في اكتساب مكانة مهمة في البلاط العثماني بفضل ثرائه وعلاقاته واتصالاته الواسعة، وخصوصاً شبكة المعلومات المتطورة والمحكمة التي كانت تتبعه في أوربا والتي استفادت منها الدولة العثمانية خير استفادة. وقد مُنح أبنايس حق جباية عائدات الجمارك، كما عُيِّن دوقاً لإحدى جزر بحر إيجة.

وقد كرس أبنايس مجهوداته لإقامة تَحالُف تركي بريطاني مضاد لإسبانيا تأييداً لمطالب دوم أنتونيو بعرش البرتغال. وساهم هذا التحالف بالفعل في وقف تَوسُّع القوة الإسبانية خلال أواخر القرن السادس عشر. وقد استعان أبنايس في ذلك بجماعة يهود المارانو في إنجلترا وعلى رأسهم هكتور نونييز وطبيب الملكة رودريجو لوبيز الذي كان أيضاً صهره. وقد وضع أبنايس خطة جريئة لاستيلاء دوم أنتونيو على عرش البرتغال مفادها أن يضع يده على مستعمرات البرتغال في الهند ثم يبحر على رأس قوات ضخمة للاستيلاء على البرتغال. لكن هذه الخطة لم تنجح واختلف أبنايس ودوم أنتونيو، فتخلى أبنايس عنه، واتهمه دوم أنتونيو بالخيانة. ودخل الاثنان في مواجهة تخللتها المكائد والمؤامرات لعب فيها بعض اليهود المنافسين لأبنايس في إستنبول دوراً كبيراً، كما أرسل أبنايس إلى ملكة إنجلترا ممثلين عنه لتوضيح موقفه. ولم يتأثر مركزه حتى بعد اتهام صهره رودريجو لوبيز بمحاولة دس السم للملكة إليزابيث.

وقد نجح أبنايس، عقب مجيئه إلى تركيا، في الحصول على ولاية طبرية التي كانت ممنوحة ليوسف ناسي من قبله والذي كان أيضاً مستشاراً يهودياً في البلاط العثماني.

صمــويل بالاشـي (؟ -1616(
Samuel Palache
دبلوماسي مغربي يهودي، وُلد لعائلة من اللاجئين اليهود الإسبان الذين استقروا في المغرب وحققوا مكانة مرموقة بها. كان صمويل وشقيقه يوسف من كبار المستشارين الماليين في المغرب، وقد اختارهما سلطان المغرب للقيام بمهمة التفاوض مع ملك إسبانيا. وفي إحدى زياراتهما لإسبانيا اتهمتهما محاكم التفتيش بتشجيع المارانو على الرحيل عن إسبانيا والعودة إلى اعتناق اليهودية، وهو ما اضطرهما إلى الاختباء في بيت السفير الفرنسي قبل أن ينجحا في الفرار من إسبانيا بعد ذلك بقليل. وفي عام 1608، قام سلطان المغرب بتعيين صمويل سفيراً للمغرب في أمستردام. وقد كان صمويل أول يهودي يستقر في هولندا بشكل علني وينجح في الحصول على إذن يسمح باستيطان اليهود بها. كما انعقد أول منيان (النصاب اللازم لإقامة الصلاة اليهودية) في أمستردام في بيته، ويُقال إنه ساهم أيضاً في بناء أول معبد يهودي في هولندا. وفي عام 1610، تولَّى صمويل إجراء المفاوضات التي انتهت بإبرام أول معاهدة تحالف بين دولة مسيحية (هولندا) ودولة إسلامية (المغرب). وفي عام 1614، قام صمويل بإذن من السلطان المغربي بقيادة أسطول مغربي صغير واستولى على عدد من السفن الإسبانية وأخذ حمولتها الثمينة حيث كانت إسبانيا والمغرب آنذاك في حالة حرب. وفي أعقاب ذلك، نجح السفير الإسباني لدى إنجلترا (أثناء وجود صمويل بها) في إقناع السلطات البريطانية بإلقاء القبض عليه بتهمة القرصنة وكذلك بتهمة الارتداد عن المسيحية والرجوع لاعتناق اليهودية، وطالب السفير الإسباني بتنفيذ عقوبة الإعدام فيه. وقد أثار ذلك احتجاج هولندا والمطالبة بالإفراج عنه. وفيما بعد قُدِّم صمويل للمحاكمة ولكنه بُرِّىء حيث استند دفاعه إلى أنه رعية مغربية في خدمة السلطان المغربي وفي حالة حرب مع إسبانيا. وقد عاد صمويل بعد ذلك إلى هولندا وقام بالهجوم على سفينة إسبانية في بحر المانش والاستيلاء على حمولتها انتقاماً من إسبانيا. وتُوفي صمويل في هولندا وأُقيمت له جنازة كبيرة.

والواقع أن ارتباط يهودي مثل بالاشي بالمغرب وبالتراث المغربي الإسلامي قد يبدو غريباً في العصر الحديث، ولكنه كان أمراً مألوفاً في الماضي، إذ كانت أوربا تنظر إلى اليهودي باعتباره عميلاً للمسلمين العرب. بل يُقال إن جذور معاداة اليهود (أو معاداة السامية) تعود إلى هذا التوحد بين اليهود والعرب المسلمين في الوجدان الغربي.

باســيفي التروينبرجـي (يعقـوب بــن صمـويل) (1570-1634)
Bassevi of Treuenberg (Jacob ben Samuel)
من يهود البلاط في براغ، وأول يهودي في أوربا خارج إيطاليا يُرفَع إلى طبقة النبلاء. كما كان من أبرز يهود البلاط العاملين في مجال سك العملات، وهو مجال زادت أهميته بشكل كبير في خلال فترة حرب الثلاثين عاماً (1618 ـ 1648). وتُعتبَر هذه الحرب بداية تَخصُّص المموِّلين والتجار اليهود في مجال تمويل الحروب وتموين الجيوش في أوربا، وهو ما ظل حكراً على بعض أعضاء الجماعة اليهودية لمدة قرن من الزمان، وذلك بفضل تراثهم التجاري وخبراتهم المالية وعلاقتهم الدولية المتشعبة التي أهلتهم لمثل هذا الدور.

وقد شكل باسيفي، بالتعاون مع أمير ليختنشتاين ووالنشتاين قائد الجيوش الإمبراطورية، اتحاداً مالياً لسك وإصدار العملات النقدية المغشوشة، إذ أن قيمتها الحقيقية أقل من القيمة المسكوكة عليها وذلك لسد احتياجات الإمبراطور لتمويل نفقات الحرب.

وقد قدَّم باسيفي خبراته المالية للاتحاد، وتولى شراء الفضة اللازمة من الخارج. ومقابل خدماته للاتحاد رُفع إلى طبقة النبلاء، وسُمح له بحرية الاتجار في جميع أنواع السلع، وبحرية الإقامة في أي مكـان، وهو ما كان محظــوراً على يهـود الإمبراطورية النمـساوية. إلا أن ما تَرتَّب عليه نشاط الاتحاد من خفض حاد لقيمة العملة وتزايد التضخم، أدَّى إلى تزايد سخط الجماهير والذي انصب بصفة خاصة على باسيفي. وبعد وفاة أمير ليختنشتاين، اتخذت السلطات إجراءات ضد أعضاء الاتحاد السابقين وتم القبض على باسيفي عام 1631 والاستيلاء على ممتلكاته. إلا أن مساعي والنشتاين نجحت في الإفراج عنه. وبعد وفاته بعامين، اعتُبرت جميع الامتيازات التي نالها في حياته باطلة.

صـمويــــل أوبنهايمــر (1635-1703(
Samuel Oppenheimer
من أشهر يهود البلاط. كان يعمل متعهد مؤن وجامعاً للضرائب في إحدى الإمارات الألمانية، ثم انتقل إلى فيينا حيث حصل على حق الإقامة الدائمة فيها وعلى امتيازات تجارية غير محدَّدة. ولذا، سُمح له هو وتابعوه بالبقاء فيها حينما طُرد يهود فيينا عام 1670.

عمـل أوبنهايمر مدة أربعة وعـشرين عامـاً بعد ذلك كيهودي بلاط، فقام بتزويد الجيوش النمساوية والألمانية بالمؤن. واستخدم شبكة الاتصالات التجارية اليهودية بكفاءة، وأثناء الحرب بين النمسا وفرنسا (1673 ـ 1679) عهد له الإمبراطور ليوبولد الأول بتزويد كل الجيش النمساوي على نهر الراين بما يحتاج إليه من مؤن. وحصل أوبنهايمر على العقد الوحيد لهذه المهمة، فأرسل وكلاءه عبر جنوب ألمانيا للحصول على القمح وعلف الماشية وملابس الجنود، وعلى أحصنة وبارود وذخيرة من التجار اليهود في فرانكفورت. كما اشترى سلعاً أخرى من هامبورج وأمستردام من وكيله موسى جومبيريز الذي كان من كبار المموِّلين السفارد. كما بنى كباري من الطوف (عوامات مطاطية) لنقل البنادق والأحصنة والجند.

وقد ارتبط نفوذ أوبنهايمر تماماً بحالة الحرب. ولذا، تناقص نفوذه مؤقتاً حينما وُقِّعت اتفاقية سلام بين النمسا وفرنسا عام 1679، فرفضت الخزانة النمساوية أن تدفع له ما عليها من ديون. فقدَّم التماساً إلى الإمبراطور ولكن لم يدفع له سوى جزء صغير من الديون، ثم اتُهم هو وحاشيته بالغش والسرقة. ولكنه اشترى براءته في نهاية الأمر، كما اسـترد نفـوذه مـرة أخرى مع انـدلاع الحرب بين النمسـا وتركيا عام 1682. وقد قام أوبنهايمر أثناء حصار الأتراك لفيينا بتنظيم خطوط الإمداد. وبعد رفع الحصار، عُهد إليه بتدبير المؤن لقوات النمسا المتقدمة إلى المجر. وقد وصل نفوذه إلى قمة ازدهاره إبَّان حرب التسعة أعوام (1689 ـ 1698) حيث تولى توريد مؤن الجيوش النمساوية التي كانت تحارب ضد الفرنسيين. ولم يقم أوبنهايمر بتوفير الضروريات وحسب، بل إنه زود الضباط بالخمور التي يحتاجون إليها، والجنود بالتبغ، كما زوَّد البلاط في فيينا بالنبيذ والتوابل والمجوهرات وأردية سائقي المراكب الملكية والخدم. وقد احتكر أوبنهايمر كل عقود تزويد الجيش بالمؤن والأسلحة والذخائر، وأصبح متعهد المؤن العسكرية الوحيد للنمسا، وكان جزء كبير من دخل الخزانة النمساوية يُدْفَع نظير خدماته.

ومرة أخرى، تناقص نفوذ أوبنهايمر في عام 1698، عند نهاية الحرب، ولم يعد الإمبراطور في حاجة إليه. فهاجمت الجماهير الساخطة قصره ودمرت أروقته عام 1700. وعند موته عام 1703، كانت الخزانة الملكية مدينة له بمبالغ كبيرة، فأعلنت الدولة أن الدين ملغي تماماً. ولكن يهود البلاط قاموا في عدة إمارات ألمانية بتحريض الأمراء للضغط على الإمبراطور لدفع الديون. وقامت هولندا بممارسة الضغط أيضاً حتى يرد الإمبراطور المبالغ التي اقترضها أوبنهايمر من أمستردام. وفي نهاية الأمر، سوِّيت الأمور وعُيِّن مكانه وريثه عمانوئيل أوبنهايمر، فقام بتزويد القوات النمساوية بالمؤن خلال حرب النزاع على العرش الإسباني وبعدها. ولكنه لم يصل إلى مكانة صموئيل قط.

ويُعزَى نجاح صموئيل أوبنهايمر إلى قدراته التنظيمية وشبكة الاتصالات التي أسسها، والتي كانت تضم مقاولين ومقاولين من الباطن وكان من بين هؤلاء يهود بلاط في إمارات مختلفة. وقد كان صموئيل متزوجاً من ابنة يهودي سفاردي من مانهايم، وتزوَّج ابنه من ابنة ليفمان بيريز شريكه الذي كان من كبار المموِّلين. وكانت تتبع أوبنهايمر حاشية من المساعدين والوكلاء الذين كانوا موجودين في كل المراكز المالية والتجارية في أوربا، وكان غريمه سامسون فرتايمر واحداً منهم في وقت من الأوقات.

ساجدة لله
2010-10-25, 05:31 AM
سـامســون فرتايمـــر (1658-1724(
Samson Wertheimer
يهودي بلاط، درس في المدرسة التلمودية العليا في فرانكفورت. تزوج من أرملة ناثان أوبنهايمر، وبالتالي تعرَّف على صموئيل أوبنهايمر الذي عيَّنه مديراً لأعماله في فيينا، وقدَّمه إلى ليوبولد الأول. ويُعدُّ فرتايمر أثرى يهودي في عصره. كما كان المدير المالي للأباطرة: ليو بولد الأول، جوزيف الأول، تشارلز الأول. ودبر فرتايمر كثيراً من الاعتمادات المطلوبة لحرب الوراثة الإسبانية والحرب ضد تركيا. وعمل وكيلاً مالياً للإمبراطور ولعدد من حكام المقاطعات الألمانية. وعند موت صموئيل أوبنهايمر عام 1703، عُيِّن فرتايمر يهودي بلاط بدلاً منه، وقد أدخل فرتايمر تحسينات على استخراج الملح كما وضع نظاماً لاحتكار تجارته في بولندا، والتي كان يحتكرها يهود الأرندا. ونظم فرتايمر عملية نقل الملح إلى المجر وسيليزيا إلى جانب عمليات التمويل اللازمة لاستخراجه ونقله.

وكان فرتايمر يقوم بدور الوسيط بين الجماعة اليهودية والنخبة الحاكمة، وعُيِّن حاخاماً أكبر ليهود المجر. وآلت ثروته إلى ابنه، ولكنه أفلس عام 1733 بعد أن رفضت بافاريا أن تدفع له ديونه، ولكنها بعد عشرين سنة من التقاضي اعترفت بالدين. ودُفع الدَين على أقساط لأبنائـه الذين تنصَّر معظمهم وصـاروا أعضاء في الأرستقراطية النمساوية.

برنـــارد ليمـــان (1661-1730(
Bernard Lehman
يهودي بلاط من ساكسونيا (ألمانيا). كان اسمه عند مولده إسخار برمان. جذب اهتمام أوجستوس الثاني (القوي) (1670ـ 1733) أمير ساكسونيا الذي كان يُخطط ليصبح ملكاً منتخباً لبولندا، فعُهد إليه بالجانب المالي لهذا المُخطَّط، فقام ليمان ببيع كثير من ممتلكات ساكسونيا للحصول على المبالغ المطلوبة لرشوة النواب البولنديين. وقد نجح أوجستوس في مساعيه واعتلى عرش بولندا (1697 ـ 1733). وقد أصبح ليمان ممثلاً دبلوماسياً لأوجستوس والمسئول عن جواهره وعن دار سك النقود بل المسئول عن عشيقاته. وكان يعمل كمتعهد عسكري، فكان يقوم بتزويد الجيش بالجراية والأسلحة. كما كان ليمان يقوم بإقراض حكام هانوفر وبرونزويك مبالغ ضخمة.

وقد زادت ثروة ليمان لدرجة أنه أصبح له بلاطه الخاص المكون من ثلاثين شخصاً من بينهم حاخام وذابح شرعي. وكان يتوسط لأعضاء الجماعات اليهودية للحصول على امتياز الاستيطان في المدن والمناطق المحظور عليهم الاستقرار فيها. وقد وقعت ضمن أملاكه بعض القرى والمدن البولندية التي حظي أعضاء الجماعة اليهودية فيها بامتيازات خاصة نتيجة ذلك. وقد تفتَّتت ثروته بعد موته.


أبراهـيم بــن وايــش (القرن السادس عشر - القرن السابع عشر)
Abraham Ben Waish
مالي يهودي مغربي اشتغل مصرفياً لدى سلطان المغرب أحمد المنصور في مراكش ثم مراقباً للمالية حتى عام 1627. وقد تمتع بنفوذ واسع، ويعود له الفضل في تعيين أعضاء عائلة بالاشى اليهودية سفراء للمغرب لدى هولندا. كما كان وراء إرسال أحد أقاربه إلى البندقية عام 1606 لشراء سلع ثمينة للحاكم. وقد عُيِّن رئيساً لليهود (نجيد) في مملكة مراكش.

وفي إطار عمله كمراقب للمالية، أثار بن وايش احتجاجات الحكومات الأوربية بسبب تحيزه لصالح يهود إنجلترا وهولندا على حساب مسيحيي هاتين الدولتين. وقد اتُهم بالاختلاس ولكنه نجح في تبرئة نفسه.

جوزيـف هـامبرو (1780-1848)
Joseph Hambro
تاجر ومالي يهودي دنماركي ومن يهود البلاط. وقد كان والده تاجر أقمشة وحرائر. وبدأ هامبرو حياته بائعاً متجولاً في شوارع كوبنهاجن، ثم تلقَّى تدريبه التجاري في مؤسسة تجارية في هامبورج وعاد إلى بلده ليحقق ثراءً كبيراً من خلال تجارة الجملة وتجارة جزر الهند الغربية. وقد كان هامبرو أول من أقام في الدنمارك طاحونة تعمل بالبخار. وقد عيِّن يهودي بلاط لملك الدنمارك وممثلاً للحكومة الدنماركية في المفاوضات المالية والاتفاقات التجارية مع بريطانيا والنرويج.

وقد كان هامبرو من اليهود المندمجين، فتزوج من امرأة غير يهودية، كما تنصَّر ابنه. وقد انتقل عام 1831 إلى لندن حيث أسس ابنه كارل (1808 ـ 1877) مؤسسة هامبروز المصرفية عام 1839 والتي شاركت في تدبير القروض الحكومية وفي تمويل السكك الحديدية الدنماركية.

عائلـــة بليــــخرودر
Bleichroeder Family
عائلة من رجال المال الألمان من بقايا يهود البلاط في عصر الرأسمالية الرشيدة. وقد أسس صمويل بليخرودر (1779 ـ 1855) مؤسسة بليخرودر المصرفية في برلين عام 1803، والتي كانت على علاقة وثيقة ببيت روتشيلد حيث عملت ####ل له في برلين، وهو ما ساعد على تزايد أهميتها في السوق المالي والمصرفي ابتداءً من عشرينيات القرن التاسع عشر. وقد تولى إدارة المؤسسة، بعد وفاة صمويل، ابنه جرسون فون بليخرودر (1822 ـ 1893) الذي وصلت مؤسسة بليخرودر في ظل إدارته إلى ذروة قوتها وتحوَّلت إلى أحد أبرز المؤسسات المالية في ألمانيا من خلال مساهمتها في تمويل الحروب وتمويل بناء السكك الحديدية. وقد كان جرسون بليخرودر يهودي بلاط فيلهلم الأول، وكانت تربطه علاقة وثيقة ببسمارك وأصبح مستشاره المالي والسياسي أيضاً. وقد ساهم في تمويل الحرب النمساوية ـ البروسية عام 1866، كما اشترك في تحديد حجم التعويضات التي كان على فرنسا دفعها في نهاية الحرب الفرنسية ـ البروسية (1870 ـ 1871) وساهم في تمويلها. ومع هذا فنحن نستخدم هنا مصطلح «يهود بلاط» على سبيل المجاز، إذ أن حجم نفوذ صمويل بليخرودر صغير بالقياس لحجم الرأسمالية الألمانية ومتطلبات الدولة الألمانية، ولذا قد يكون من الأدق إطلاق مصطلح «رأسمالي ألماني يهودي» عليه. وقد رُفع جرسون بليخرودر عام 1872، وبتوصية خاصة من بسمارك، إلى مرتبة النبلاء. وخلال مؤتمر برلين لعام 1878، استطاع من خلال علاقته ببسمارك انتزاع بعض المكاسب والحقوق ليهود دول البلقان.

وبعد وفاة جرسون بليخرودر، تولى أبناؤه الثلاثة، وقد تخلوا جميعاً عن الديانة اليهودية، إدارة مؤسسة بليخرودر. وقد كان لها نشاط مالي دولي واسع قبل اندلاع لحرب العالمية الأولى، كما شاركت في تمويل الصناعة الألمانية عقب الحرب. وقد فقدت الأسرة سيطرتها على المؤسسة في عام 1938 بعد استيلاء السلطات النازية عليها.

عائلــة ســبير
Speyer Family
عائلة يهودية ألمانية وأمريكية من رجال المال والبنوك، تعود جذورها إلى القرن السابع عشر في فرانكفورت بألمانيا.

وقد كان إسحق مايكل سبير (تُوفي عام 1807)، وهو من أحفاد مؤسِّس العائلة، من يهود البلاط الإمبراطوري. وقد حققت العائلة بنهاية القرن الثامن عشر ثروة طائلة من خلال نشاطها في مجالي تمويل الجيوش والمبادلات المالية. وقد ارتبطت عائلة سبير بعائلة إليسن اليهودية المالية حينمـا تزوج يوسـف لازاروس سـبير (1783 ـ 1846) منها. وتجسد هذا التحالف في مؤسسة سبير إليسن المصرفية في عام1818 والتي أصبحت عام 1838 مؤسسة لازارد سبير أليسن المصرفية بعد تولي ابنه لازاروس يوسف سبير (1810ـ 1876) إدارة أعمال الأسرة. وقد تأسس فرع لبنك سبير في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1837 بعد أن انتقل الأخوان فيليب سبير (1815ـ 1871) وجوستاف سبير (1825 ـ 1883) إليها. كما ساهم هذا الفرع في ربط ألمانيا بصفة خاصة وأوربا بصفة عامة بالسوق الأمريكي. وقد اشترك بالتعاون مع فرع فرانكفورت في تدبير القروض الأمريكية خلال الحرب الأهلية الأمريكية.

وقد وصلت أعمال العائلة إلى ذروتها في ظل إدارة ابني جوستاف: جيمس سبير (1861 ـ 1941) الذي أدار الفرع الأمريكي، وإدجار سبير (1862 -1932) الذي تولى إدارة الفرع الإنجليزي. وقد ساهم الفرع الأمريكي، في ظل إدارة جيمس، في تمويل بناء السكك الحديدية الأمريكية والعديد من المؤسسات الصناعية الأمريكية، إلى جانب تدبير القروض للحكومات الأجنبية، وخصوصاً في أمريكا الجنوبية. وكانت الولايات المتحدة تشهد، في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، توسعاً سريعاً في مؤسساتها الصناعية والتجارية ومؤسسات الخدمات العامة، الأمر الذي خلق طلباً شديداً على رأس المال. وقد استطاع بنك سبير وغيره من البنوك الأمريكية المملوكة للعائلات اليهودية ذات الأصول الأوربية من تدبير رأس المال اللازم بكميات كبيرة وبشكل سريع نسبياً بفضل علاقتهم المتشعبة في أوربا وعلاقتهم الوثيقة فيما بينهم سواء من خلال الأعمال أو الزواج.

أما بعد الحرب العالمية الأولى، فقد اشترك بنك سبير في تدبير القروض ورأس المال الأمريكي للاستثمار في أوربا، خصوصاً في الصناعة الألمانية. وقد تأثرت مؤسسة سبير بالأزمة المالية العالمية لعام 1929 والتي أوقفت تَدفُّق رأس المال بين أوربا والولايات المتحدة. وتمت تصفية فرع ألمانيا عام 1934، وفرع الولايات المتحدة عام 1939. أما فرع لندن، فقد صُفي خلال الحرب العالمية الأولى بعد أن اتُهم إدجار بالتعاطف مع ألمانيا.

ساجدة لله
2010-10-25, 05:31 AM
مماليــــك ماليـــــة
Financial Mamlukes
مصطلح «مماليك مالية» مصطلح قمنا بنحته ونستخدمه لوصف أوضاع أعضاء الجماعات اليهودية داخل الحضارة الغربية، وذلك انطلاقاً من مفهومنا التحليلي الخاص بالجماعات الوظيفية المالية. ونحن حين نصف أعضاء الجماعات اليهودية الوظيفية المالية في الحضارة الغربية بأنهم «مماليك مالية» فإننا نستخدم مفهوم الجماعات الوظيفية لنربط بين أقنان البلاط ويهود البلاط وغيرهم من أعضاء الجماعات اليهودية في الغـرب ممن اضطلعوا بوظـائف خـاصة من جهة، والمماليك من جهة أخرى، أي أننا ربطنا الواقعة أو الظاهرة (الخاصة) التي قد تبدو فريـدة داخـل المجتمـع الغربي بوقـائع وظواهر مماثلـة في مجتمعات أخرى، ومن ثم فهي تفقد كثيراً من تفردها وإطلاقها (وليس بالضرورة خصوصيتها)، ويظهر النمط المتكرر الكامن دون السقوط في القوانين العامة المجردة. هذه، إذن، محاولة للوصول إلى نمط لا يستند إلى وقائع التاريخ الغربي ولا ينطلق منها بالضرورة، وإنما يستند إلى وقائع التاريخ الإنساني العام بما في ذلك التاريخ الغربي بالطبع. كما أنها محاولة لتعميق فهم القارئ العربي للظاهرة اليهودية في الحضارة الغربية، فالمماليك واقع مألوف لديه، وعن طريق ربط المألوف بغير المألوف والمعلوم بالمجهول يمكن فهم المجهول وغير المألوف. كما أن لمصطلح «مماليك» مقدرة تفسيرية عالية، حين يُطبَّـق على الظاهرة اليهـودية ثم الصهـيونية وأخيراً على الدولة الصهيونية.

ولنبدأ بمحاولة حصر بعض سمات الجماعات الوظيفية التي يتسم بها كل من المماليك، باعتبارهم جماعة وظيفية قتالية، وأعضاء الجماعات الوظيفية اليهودية في الحضارة الغربية، فهذه السمات هي الأرضية المشتركة بين الفريقين. وسنلاحظ أن المماليك وأعضاء الجماعات الوظيفية اليهودية هم جماعات وظيفية عميلة تضطلع بوظيفة متميِّزة أو مشينة أو كريهة (القتال في حالة المماليك، والتجارة والربا وجمع الضرائب في حالة اليهود). كما كان يتم استجلاب كل من المماليك وأعضاء الجماعات اليهودية من خارج المجتمع، ليضطلعوا بوظيفة محدَّدة توكل إليهم، فهم غرباء نافعون يدخل معهم المجتمع في علاقة تعاقدية محددة. وكان يتم أيضاً عزل كل من المماليك وأعضاء الجماعة اليهودية عن بقية السكان، بل صارت العزلة الثقافية والإثنية أساس الانخراط في سلك هذه الجماعات. وهي عزلة تظهر في الأزياء التي كان يرتديها كلٌ من المماليك وأعضاء الجماعات اليهودية، وفي اللغة التي كانوا يتحدثون بها (اليديشية أو الشركسية أو غيرها من اللغات)، وفي طريقة قص الشعر أو تصفيفه. وكان يتم عزل أعضاء الجماعات اليهودية في الجيتو وعزل المماليك في الثكنات العسكرية. وكان العزل يتم أصلاً لأن الانتماء العاطفي والحضاري للمجتمع المضيف يجعل من الصعب على المحارب أن يقتل من يحب ويجعل من الصعب أيضاً على التاجر أو المرابي أن يسلب ثروات من تربطه بهم علاقة قرابة، فالاضطلاع بالمهمة القتالية أو المالية يتطلب الموضوعية والحياد اللذين يتسم بهما الغريب.

وكان أعضاء الجماعات اليهودية الوظيفية في الحضارة الغربية، والمماليك في المجتمعات العربية، يُعدّون ملكية خاصة للملك، وكلمة «مملوك» مشتقة من كلمة «ملْك» وتشير إلى العبد المملوكي وتعني «الخادم» أو «العبد». أما أعضاء الجماعات اليهودية في العصور الوسطى، فكان يُشار إليهم باسم «أقنان البلاط»، (باللاتينية: «سيرفي كاميراي ريجيس servi camerae regis») وكلمة «سيرفوس servus» اللاتينية تعني «خادم» أو «قن» أو «عبد». وقد كان كل من المماليك وأعضاء الجماعات اليهودية قريبين من النخبة الحاكمة، فهم أداتها في الاستغلال والقمع والغزو، ولذا تَركَّز الفريقان في المدن. ولنا أن نلاحظ أن كلاًّ من المماليك وأعضاء الجماعات الوظيفية اليهودية يؤمن بأنه شعب مختار أو نخبة مختارة، وكان الإحساس بالحرية والحتمية (أو عبث الوجود) أمراً مشتركاً بينهما. كما أن أعضاء الجماعتين كانوا يطبقون معيـارين أخلاقيـين مزدوجـين: واحد يُطبَّق على الجماعة الوظيفية المقدَّسة، والآخر على المجتمع المضيف المباح. وكان كل من المماليك وأعضاء الجماعات اليهودية الوظيفية يمتلك أداة يجيد استخدامها أكثر من أعضاء المجتمع المضيف: السيف في حالة المماليك، ورأس المال الربوي والخبرة التجارية والإدارية في حالة أعضاء الجماعات اليهودية. ويُلاحَظ أن المماليك وأعضاء الجماعات اليهودية كانوا محط خوف الجماهير وكراهيتها، وأنهم سقطوا صرعى عمليات التحديث وظهور الدولة القومية الحديثة.ولعلنا لو قارنا إبادة المماليك على يد محمد علي وإبادة يهود الغرب على يد هتلر لاتُهمنا بالمبالغة والشطط، ولكنهما مع هذا مبالغة وشطط ينيران جوانب من الواقع.

ومع أن أحداً من الدارسين لم يستخدم اصطلاح «مماليك» لوصف وضع اليهود في الحضارة الغربية، فإن المؤرخ الأمريكي اليهودي جيكوب أجوس اقترب كثيراً من المصطلح حين قال: « إن مكانة اليهود كغرباء كانت مهمة، إذ أن الطبقة الحاكمة كانت تستخدمهم كما كانت تستخدم المرتزقة تماماً، وكانت تفضلهم على الصيارفة المحليين للسبب نفسه الذي كانت من أجله تفضل المرتزقة على الفرق المحلية».

وعلى كل حال، يبدو أن فكرة «المماليك» كانت في ذهن المُشرِّع الغربي في العصور الوسطى مع أنه لم يستخدم المصطلح نفسه. فوضع اليهود كأقنان بلاط كان يستند إلى قصة أسطورية متداولة تهـدف إلى إضـفاء شـيء من الشـرعية علـى وضـع فريـد داخل المجتمع الإقطاعي الغربي. وتروي القصة أنه أثناء حصار القدس عام 60 ق.م، مات ثُلث اليهود من الجوع، وقُتل الثلث الثاني، أما الثُلث الأخير فقد قام المؤرخ اليهودي يوسيفوس فلافيوس بإطعامهم ثم بيعهم للملك (أي الإمبراطور) تيتوس بعد سقوط القدس.وقد سلمهم الأخير إلى بلاط ملوك الرومان كي يصبحوا خدماً (أقناناً) للإمبراطورية على أن يقوم الملوك الرومان بحمايتهم. وقد بُعثت في القرن الرابع عشر الجزية الرومانية القديمة تحت اسم «ضريبة المليم» (بالألمانية: أوفربفينج Oferpfennig») دلالة على أن أباطرة الإمبراطورية الرومانية المقدَّسة قد ورَّثوا فسبسيان وتيتوس الهيمنة الكاملة على الشعب الذي هُزم واستُعبد مئات السنين من قبل.

وإذا كانت أسطورة الشرعية هذه طريفة بقدر ما هي ساذجة، فهذا هو الحال مع معظم أساطير الشرعية. وما يهُمنا هو أنها تفترض وجود علاقة مالك ومملوك بين الحاكم وأعضاء الجماعات الوظيفية اليهودية في العصور الوسطى في الغرب. وبغض النظر عن سذاجة الأسطورة، فإن سلوك المجتمع الغربي في العصور الوسطى كان يفترض هذه العلاقة. ففي حالة قتل أحد اليهود، لم تكن الدّية تُدفَع لأسرة القتيل وإنما للإمبراطور أو الملك. كما كانت المواثيق تتحدث عن أعضاء الجماعات اليهودية باعتبارهم أشياء تخص الملك ومن ميراثه ومنقولاته.
وقد أشار أجوس إلى أهم تجارب اليهود (المملوكية) في أوكرانيا. ومن المعروف أن ملوك بولندا لم ينجحوا في تجنيد البورجوازية في عملية تقليم أظافر طبقة النبلاء وتأسيس ملكية مطلقة كما حدث في باقي بلدان أوربا. بل حدث العكس، إذ استخدم النبلاء أعضاء الجماعة اليهودية أداةً لضرب البورجوازية وإضعاف مؤسسة الملكيَّـة. وحينما ضمت بولندا أوكرانيا، اضطر النبلاء إلى إرسال أعضاء الجماعة اليهودية ليضطلعوا بدور الجماعة الوظيفية الاستيطانية المالية في إطار ما نسميه «الإقطاع الاستيطاني»، فكان أحد أثرياء اليهود يستأجر الضيعة بكل ما علىها ويدفع مبلغاً للنبيل الإقطاعي (البولندي الكاثوليكي) ثم يقوم هو بإدارتها وتحصيل عوائدها (الأرندا)، وعادةً ما كان يُحضر أعضاء أسرته وذوي قرابته ويعيشون في مدن صغيرة أسسها لهم النبيل الإقطاعي تُسمَّى «شتتل». وكان للوكيل اليهودي صلاحيات تقترب من صلاحيات النبيل الإقطاعي، كما كان يتدخل في كل النشاطات التجارية والحرفية وغيرها ليُوظفها لحسابه وليعتصر من دخل الفلاحين. فكان يفرض ضريبة على الملح وعلى المركبات وحتى على مفتاح الكنيسة، فإن أراد الفلاحون المسيحيون الأرثوذكس فتح الكنيسة كان علىهم دفع ضريبة للوكيل اليهودي .

وكان الموقف متفجراً تماماً، ولذا كانت تحمي الجماعة اليهودية الوظيفية الاستيطانية المالية جماعة أخرى وظيفية استيطانية قتالية هي الجيش البولندي، أي أننا هنا أمام مثل جيد لمماليك مالية لا ينقصها سوى السيف لتصبح مماليك قتالية. بل إن ملامح تحول الجماعة الاستيطانية المالية إلى جماعة استيطانية قتالية كان قد بدأ يتضح، ولذلك كانت المعابد تُبنَى كالحصون (ولهذا كان يُطلَق عليها «القلعة/المعبد» (بالإنجليزية: فورتريس سيناجوج fortress synagogue) وتُفتح في جدرانها كوات لإطلاق نيران المدافع وتُنصب فوقها البنادق. وقد نص القانون على أن كل رب عائلة من عائـلات يهود الأرنـدا يتعـيَّن عليه أن يحتفـظ ببنادق بعدد الذكور وثلاثة أرطال من خراطيش البارود. وقد حاربوا في نهاية الأمر إلى جوار القوات البولندية ضد شميلنكي والقوزاق. ومما يجدر ذكره أن يهود بولندا يشكلون غالبية يهود العالم، بل هناك نظرية تذهب إلى أن جميع يهود الغرب من نسل هؤلاء لا من نسل اليهود الأصليين في معظم بلاد الغرب الذين تم استيعابهم في مجتمعاتهم.