مشاهدة النسخة كاملة : اليهود واليهودية والصهاينة والصهيونية الجزء الثامن
ساجدة لله
2010-10-27, 05:43 AM
الباب الثالث عشر: علماء الاجتماع من أعضاء الجماعات اليهودية
علــم الاجتمــاع والجماعـــات اليهوديــة
Sociology and the Jewish Communities
من الصعب تعيين نقطة محدَّدة ظهر عندها الفكر الاجتماعي (السوسيولوجي)، ذلك أن أي مؤرخ أو فيلسوف يتعرض لموضوعه الأساسي، وهو حياة البشر في جماعات، يجد نفسه ـ شاء أم أبى ـ يتطرق إلى موضوعات أصبحت في صميم علم الاجتماع. وهذا القول ينطبق على هيرودوت والبيروني وأرسطو. ولكن التطرق لحياة الجماعات البشرية يختلف إلى حدٍّ ما عن المحاولة الواعية أو شبه الواعية لدراسة حركة المجتمعات وقوانين تطورها. ولعل من أول المفكرين الذين حاولوا ذلك المفكر العربي ابن خلدون. ثم تصاعدت وتيرة هذه المحاولة في عصر النهضة في الغرب في كتابات فيكو وتوماس هوبز ثم في كتابات الفلاسفة الأخلاقيين الإسكتلنديين (آدم فرجسون وديفيد هيوم وآدم سميث). ولكن كلمة «علم الاجتماع» (سوسيولوجي) ذاتها لم يتم نحتها إلا على يد أوجست كونت، ولم يظهر العلم إلا بعد الثورتين الفرنسية والصناعية ومع التحولات الطبقية التي خاضها المجتمع الغربي إبّان عمليات تحديثه وعلمنته والتي تصاعدت وتيرتها بشكل ملحوظ مع منتصف القرن التاسع عشر.
ويُلاحَظ أنه، حتى ذلك التاريخ، لم تكن هناك أية إسهامات تُذكَر لأي مفكرين يهود، وبعد ذلك يُلاحَظ تزايد مساهمة المفكرين من أعضاء الجماعات اليهودية في هذا الحقل. وفي محاولة تفسير هذا الوضع، يمكن أن نسوق الأسباب التالية:
1 ـ ينتمي أعضاء الجماعات اليهودية إلى جماعات وظيفية تنظر إلى المجتمع نظرة محايدة موضوعية.
2 ـ يميل أعضاء الجماعات اليهودية (بسبب وضعهم الوظيفي) إلى التفكير في الواقع من خلال جوهر ثابت (الذات الوظيفية المقدَّسة) ومن خلال علاقات دينامية،أي من خلال حركيتها ورؤيتها للآخر المباح.
3 ـ يميل أعضاء الجماعات الوظيفية والهامشية إلى النظر بطريقة نقدية إلى المجتمع.
4 ـ تم إعتاق اليهود في أوربا في منتصف القرن التاسع عشر وكان من مصلحتهم معرفة القوانين التي تحكم المجتمع حتى يمكنهم التكيف معه والاستفادة من هذه القوانين.
5 ـ يُقال إن النزعة المشيحانية عند اليهود لها أثر في إقبال بعض المفكرين اليهود على علم الاجتماع حتى يمكنهم اكتشاف نقائص المجتمع ومن ثم تثويره وتغييره.
6 ـ تصوَّر كثير من المفكرين من أعضاء الجماعات اليهودية أن علم الاجتماع سيساهم في عملية علمنة المجتمع عن طريق كشف قوانينه. ولكننا سنلاحظ أن هؤلاء المفكرين اليهود الذين أقبلوا على دراسة علم الاجتماع هم يهود غير يهود، أي يهود فقدوا الأواصر الدينية أو الإثنية التي تربطهم بالجماعة اليهودية، فهم غرباء بالمعنى الحرفي للكلمة لا ينتمون إلى عالم اليهود ولا إلى عالم الأغيار، وهم نموذج جيد لإنسان العصر الحديث اللا منتمي الذي سقط في العدمية ونُزعت عنه القداسة فلا يملك إلا أن ينزع القداسة عن كل شيء. ويمكن أن نذكر بعض الأسماء الأساسية حتى تتضح هذه الفكرة: كارل ماركس وإميل دوركهايم وجورج زيميل ولودفيج جومبلوفيتش وكارل مانهايم وجورج لوكاش وماكس هوركهايمر وتيودور أدورنو وهربرت ماركوز وريمون آرون وجورج فريدمان ودانيال بل.
ولا يمكن فهم هؤلاء إلا بوضعهم في سياقهم الحضاري والاجتماعي والفكري الغربي. ولا يمكن بأية حال أن نعيّن خاصية محددة مشتركة بينهم نسميها «خاصية يهودية» فمنهم اليميني ومنهم اليساري، ومنهم المتفائل ومنهم المتشائم (وإن كانت أغلبيتهم تميل إلى التشاؤم). ومع هذا، يمكن أن نلاحظ أنهم جميعاً غير مستقرين تماماً في أي تيار فكري ينتمون إليه. ولكن هذه هي سمة كل المفكرين العظماء، الذين لا يمكنهم الاستقرار الكامل في أي نسق فكري مهما بلغ من أصالة وتركيب ولا تتسم أنساقهم الفكرية بالتناسق الهندسي البسيط.
ويُلاحَظ كذلك أن معظم هؤلاء العلماء لا يهتمون بالموضوع اليهودي اهتمـاماً خاصاً ولا يتعـرضون له إلا في إطـار اهتمامهم بالحضارة الغربية. فهم يتعرضون للموضوع اليهودي باعتباره موضوعاً غربياً حديثاً كما فعل ماركس في المسألة اليهودية حيث وضعها في إطار إشكالية ظهور الرأسمالية، وكما فعل دوركهايم في موضوع ظاهرة الانتحار بين اليهود (والكاثوليك والبروتستانت)، وكما فعل زيميل مع الغريب، وكما فعل لودفيج جومبلوفيتش مع الأمة اليهودية حيث توقَّع اختفاءها. وهم في هذا لا يختلفون البته عن ماكس فيبر أو ورنر سومبارت اللذين تناولا الموضوع اليهودي بشيء من الإسهاب في سياق الحديث عن أصول الرأسمالية الرشيدة.
أما الصهيونية، فمعظم علماء الاجتماع من اليهود غير مكترث بها ولم يكتب عنها لا معها ولا ضدها.
إمــيل دوركهـايم (1858-1917(
Emile Durkheim
أول عالم اجتماع فرنسي أكاديمي. وُلد في أبينال في مقاطعة اللورين التي لم تضمها فرنسا إلا في القرن السادس عشر، ولذا ظلت محتفظة إلى حد ما بطابعها الألماني. وكان أعضاء الجماعة اليهودية فيها من يهود اليديشية؛ يتحدثون رطانة ألمانية، ويعملون بالتجارة والربا، وغير مندمجين في المجتمع الفرنسي أو الثقافة اللاتينية (على عكس اليهود السفارد في الجنوب). ويمكن القول بأن التنظيم الاجتماعي للجماعة اليهودية في اللورين كان بسيطاً يتسم بما سماه دوركهايم فيما بعد «التضامن الآلي»، فقد كانت جماعة صغيرة يديرها الحاخام أو أحد الرؤساء (بارناسيم). وكانت عائلة دوركهايم تنتمي إلى هذه القيادة، فقد كان أبوه حاخاماً، كما أن أجداده كانوا من الحاخامات.
وكان من المفترض أن يتبع دوركهايم نفسه هذا التقليد العائلي الراسخ ويصبح حاخاماً، فدرس العبرية والعهد القديم والتلمود وتلقى في الوقت نفسه تعليماً علمانياً. وبعد أن وصل إلى سن التكليف الديني (برمتسفاه)، خاض تجربة صوفية قصيرة ذات مضمون كاثوليكي. ولكنه، بعد ذلك، ترك الإيمان الديني تماماً وإن لم يفقد اهتمامه بالدين كظاهرة. ولا شك في أن عملية الانفصال عن الجماعة اليهودية الصغيرة كانت تجربة قاسية لأقصى حد. غير أن المجتمع الفرنسي كان مجتمعاً مركباً يستند إلى التضامن العلماني (العضوي)، فكان يفتح ذراعيه لمن ينضم إليه ويتيح أمامه فرص الاندماج (ولذا وُصفت فرنسا بأنها البلد الذي يأكل اليهود). وكان دوركهايم من أكثر الفرنسيين فرنسية ومن أكثر العلمانيين علمانية، ولا شك في أن انتقاله من اللورين إلى باريس، من مجتمع صغير متزمت ضيق إلى مجتمع رحب، جعله يشعر بالحرية والانعتاق. ولذا، فإننا لا نجد في دراساته أي حنين للجماعة الصغيرة « المترابطة » (كما هو الحال في علم الاجتماع الألماني) وإنما الانتماء الكامل للمجتمع التعاقدي. ومن هنا حماسه الشديد، بل والمفرط، للبحث عن أساس أخلاقي للمجتمع الجديد الذي انتمى إليه ليحل محل القيم الدينية التي تركها، ومن هنا أيضاً إيمانه الديني بالمجتمع (المدني) وتأليهه المجتمع (ثم تأليهه الذات القومية بعد ذلك). ويُلاحَظ أن الفرنسيين عادةً ما ينتمون إلى بقعة أو منطقة محلية معينة على عكس دوركهايم الذي كانت تُعبِّر كتاباته عن الانتماء إلى كل فرنسا دون تفرقة، وإلى المجتمع الفرنسي في أعلى درجات تجريده. وقد كان انتماؤه إلى هذا البلد انتماءً مباشراً دون وساطة أية تقاليد أو تاريخ خاص، ولذا كان دوركهايم إنساناً علمانياً تماماً، يقترب إلى حدٍّ كبير من الإنسان العام الذي كان فلاسفة الاستنارة يحلمون به.
التحق دوركهايم بمدرسة المعلمين العليا. وكانت المدرسة مركزاً فكرياً مهماً في ذلك الوقت، إلا أن علم الاجتماع لم يكن قد احتل مكانته اللائقة بعد. وقد التقى هناك بزملاء كانوا فيما بعد رواد الفلسفة والعلم مثل الفيلسوف برجسون. ولم يكن دوركهايم طالباً متفوقاً وإن كان قد حظي ببعض كبار الأساتذة هناك من بينهم فوستيل دي كولانج وإميل بترو، كما تأثر بأعمال أوجست كونت وسان سيمون. وبعد تخرجه قرر أن يكرس نفسه للدراسة العلمية لعلم الاجتماع واشتغل بالتدريس في الجامعات الفرنسية كما اشتغل بتحرير حولية علم الاجتماع التي ظهر العدد الأول منها عام 1898.
إن الجذور الفكرية لدوركهايم هي جذور أي مفكر غربي حديث، فقد استوعب فكر ديكارت (وثنائيته الصلبة) وفكر حركة الاستنارة والعقلانية المادية (البحث الدائب عن أساس عقلي) وأعمال روسو (مفهوم الإرادة العامة والتفرقة بين الظاهرة الاجتماعية والظاهرة النفسية) ومونتسكيو (ترابط المجال الثقافي والاجتماعي)، وأعمال كونت (تقسيم العمل كمصدر للتضامن وفكرة الإجماع)، وفكر سان سيمون (علم الاجتماع كعلم مستقل) والفكر المعادي للاستنارة (أسبقية المجتمع على الفرد، والحاجة إلى السلطة والالتزام الخارجي) وآراء فوستيل دي كولانج (المنهج التاريخي ودور الدين) وأفكار إميل بترو (مستويات الواقع المختلفة) وتشارل رينوفييه (رفض الحتمية التاريخية ومركزية الاعتبارات الأخلاقية في البحث الفلسفي، والحاجة إلى علم أخلاق لإعادة بناء الجمهورية، ورؤية العنف باعتباره شراً). كما تأثر دوركهايم بهربرت سبنسر (الرؤية التطورية) ووليام سميث (أهمية الطقوس في الدين). أما في ألمانيا، فتأثر بكانط (فلسفة الأخلاق) وبزيميل وجومبلوفيتش وتونيز وبالفكر العضوي الألماني، وأخيراً بفيلهلم فوندت (فكرة روح الجماعة) وبمعمل علم النفس والأبحاث العلمية التي أجراها فوندت وشاهدها دوركهايم.
أما خلفية دوركهايم الاجتماعية، فهي تحوُّل فرنسا إلى مجتمع صناعي وتصاعد وتيرة هذا التحول. وقد واكبت ذلك أحداث سياسية واجتماعية أخرى مثل هزيمة فرنسا أمام ألمانيا، الأمر الذي ولَّد الحاجة إلى إعادة بناء الجمهورية. وقد نشب صراع شرس بين الكنيسة والقطاعات العلمانية في فرنسا حول حادثة دريفوس، فتصاعدت المطالبة بفصل الدين عن الدولة. وشهدت هذه المرحلة تصاعد أهمية الفكر القومي العضوي حتى أصبح الإطار المرجعي لرؤية الإنسان الأوربي للكون.
وثمة موضوعان أساسيان في علم الاجتماع عند دوركهايم، أولهما مشكلة النظام الاجتماعي في مجتمعات وصل فيها تقسيم العمل إلى درجات عالية من الشمول والتنوع، ويوجد فيها صراع بين الطبقات؛ مجتمع تصاعدت فيه معدلات التصنيع والتحديث والعلمنة، وغاب فيه اليقين الأخلاقي والتوقعات الاجتماعية المعتادة، وتُرك فيه الأفراد دون توجيه أخلاقي جماعي في محاولتهم الوصول إلى أهدافهم، وهذا هو ما أدَّى إلى تفكُّك المرجعية وغيابها وتزايد الأنانية والنفعية. وتمخض كل هذا عن حالة الأنومي أو اللا معيارية، فاللا معيارية ليست حالة عقلية فردية وإنما هي ظاهرة اجتماعية. والإنسان حسب تصور دوركهايم حيوان لا يشبع (على عكس الحيوانات الأخرى)، وكلما ازداد ما يحصل عليه يزداد نهمه. ولذا، فلابد أن توضع رغباته الفردية داخل حدود خارجية جماعية. ولنا أن نلاحظ أن هذه الأفكار هي إعادة إنتاج للأفكار المسيحية، والكاثوليكية على وجه التحديد، الخاصة بالخطيئة الأولى للإنسان وبأنه لا خلاص للفرد خارج الكنيسة، فالخلاص لا يتم إلا بشكل مؤسسي.
أما الموضوع الثاني، فهو طريقة حل هذه المشاكل. وكان دوركهايم يرى أن علم الاجتماع يمكنه أن يلعب دوراً حاسماً في البحث عن أساس جديد للتماسك الاجتماعي في المجتمع الحديث العلماني، ولذا فقد انصب اهتمامه على محاولة أن يجعل علم الاجتماع تخصصاً أكاديمياً مستقلاًّ وعلماً ذا أسس منهجية ومعرفية مستقلة.
درس دوركهايم ظاهرة الانتحار في إطار علم الاجتماع، فبيَّن أن الانتحار ليس انحرافاً نفسياً فردياً كما كان متصوَّراً وإنما حقيقة اجتماعية، فحاول الربط بين معدلات الانتحار كما حدده والفروق في التضامن الاجتماعي بين الجماعات المختلفة، فوجد أنه كلما تآكلت الضوابط المجتمعية والروابط الأسرية ضعف التضامن وزادت عزلة الفرد الاجتماعية وتعرَّض النظام السياسي والاجتماعي للانهيار، الأمر الذي يؤدي إلى ظهور حالة اللا معيارية، وتزايد معدلات الانتحار. فالانتحار يرتبط ارتباطاً عكسياً بدرجة التكافل في المجتمع.
وبيَّن دوركهايم أن معدل الانتحار في أوربا يزداد في الدول البروتستانتية عنه في الدول الكاثوليكية، وتقل نسبة الانتحار بين اليهود عنها بين الكاثوليك والبروتستانت، ويرجع هذا إلى ما يتمتع به البروتستانت من حرية البحث فضلاً عما يشيع بينهم من فردية نتيجة ضعف التضامن بين جماعاتهم. أما انخفاض معدلات الانتحار بين اليهود، فيرجع إلى شعورهم غير العادي بالتضامن الذي ولَّده بينهم ما تعرضوا له من مذلة وما تتميز به حياتهم من انعزالية. وما أنجزه دوركهايم في دراسته عن الانتحار هو توضيح الأبعاد الاجتماعية لظاهرة قد تبدو نفسية، وتأكيد إسهام علم الاجتماع في كشف أسباب اللا معيارية التي تؤدي إلى هذه الظاهرة، ومن ثم يصبح علم الاجتماع قادراً على اقتراح حلول لمشاكل المجتمع الحديث، وهذا هو جوهر مشروع دوركهايم المعرفي.
وفي كتابه الأخير والمهم الأشكال الأساسية للحياة الدينية يطرح دوركهايم رؤيته للدين وللعلاقة بين الدين والمجتمع. وينتمي دوركهايم لخط طويل من المثقفين الفرنسيين المؤمنين بحتمية الدين كظاهرة. فالدين ليس سمة من سمات السلوك الفردي، ولا هو اختيار شخصي، وإنما بُعد أساسي في الحياة الجماعية لا يستقيم المجتمع بدونه. وقد واجه هؤلاء المثقفون الإشكالية التي يمكن أن نُطلق عليها «إشكالية موت الإله في المجتمعات العلمانية»، وهي الإشكالية التي اكتشفها دوستويفسكي حين قال: إذا لم يكن الإله موجوداً، فكل شيء يصبح مباحاً. ويمكن أن نعيد صياغة هذه الفكرة على النحو التالي: إذا مات الإله اختفى المطلق المتجاوز للواقع المادي الذي تؤمن به الجماعة، أي اختفت المرجعية ومن ثم لم تَعُد هناك حدود للفرد، وأصبح كل فرد مرجعية ذاته وحاول تحقيق ذاته وصالحه كفرد. ومن ثم تظهر الإشكالية التالية: كيف يمكن التوفيق بين الصالح العام والاتجاهات الفردية في المجتمع؟ كيف نحمي المجتمع من السقوط في الإشكالية الهوبزية: حرب الجميع ضد الجميع؟ هذه هي الإشكالية الأساسية الكامنة في فلسفة المنفعة العلمانية التي تذهب إلى أن مصدر التماسك في المجتمع ومصدر حركته هو سعي كل فرد نحو مصلحته الشخصية لتحقيقها، وأن الفرد حين يحقق مصلحته الشخصية فهو يحقق الصالح العام بشكل تلقائي، وأن التناسق يتم من خلال الصراع بشكل آلي. إذ أن السؤال الذي يطرح نفسه: كيف يحدث هذا؟ لماذا لا يستمر الإنسان الفرد في تحقيق مصالحه حتى يدمر نسيج المجتمع ذاته؟ أفليست المصلحة الذاتية هي الحقيقة المطلقة (لوجوس) وتحقيقها هو الهدف (تيلوس)، خصوصاً أن دوركهايم أكد أن الإنسان حيوان شره لا تتوقف رغباته عند أية حدود؟ الدين حتمي إذن، ولكن الميتافيزيقا غير مقبولة في عصر العقل المادي والعلم والاستنارة والتفسيرات المادية، فما المخرج إذن؟ لقد حاول هؤلاء المثقفون الفرنسيون أن يحلوا المشكلة بالتوصل إلى دين جديد إنساني مُخلَّق يتوصل إلىه العقل البشري ليحل محل الدين التقليدي الذي يفترض المؤمنون به أنه مُرسَل من السماء. وبدأت هذه المحاولة بعبادة العقل إبّان الثورة الفرنسية، وحاول سان سيمون طرح رؤيته للمسيحية الجديدة، وطرح أوجست كونت رؤيته لديانة الإنسانية، وهو تقليد ليس مقصوراً بأية حال على المثقفين الفرنسيين وإنما يمتد ليشمل كل المحاولات الرامـية إلى تأسـيس مجتمـع علماني صرف يُغيِّب الإله أو يهمشه، فالفلسفة الماركسية تطرح ديانة الطبقة العاملة الجديدة، وتطرح الليبرالية ذاتها ديانة التقدم الدائم والانتصار المستمر للعقل (حتى أعلن فوكوياما نهاية التاريخ).
أما دوركهايم، فيحاول حل الإشكالية عن طريق تعريف الدين ليصل إلى ما يمكن تسميته «دين بدون إله» أو «لاهوت بدون إله» (وهو لاهوت موت الإله قبل أن تُطبَّق على الإنسان الغربي رؤيته التشاؤمية بشأن العدمية الكامنة في مثل هذه الرؤية). وهو دين ينطلق من مجموعة من الافتراضات:
1 ـ الدين نسق موحَّد من المعتقدات والممارسات التي تتصل بشيء مقدَّس. والمقدَّس شيء ليس له وظيفة عملية، فهو يتسم بسمات تجعلـه مهماً في حـد ذاته، مكتفياً بـذاته، فالدين نسـق يدور حول مطلق ما، بغض النظر عن طبيعة هذا المطلق.
2 ـ الإيمان بالإله ليس سمة عامة في الأنساق الدينية جميعاً، فما يميز الأنساق الدينية هو فصلها بين المقدَّس والمدنَّس،أي أن المطلق قد لا يكون الإله،ومن ثم لا حاجة للميتافيزيقا بالضرورة (أو على الأقل لا حاجة للميتافيزيقا التي تستند إلى الغيب وعالم ما وراء الطبيعة(.
3 ـ فكرة الإله مجرد إعلاء لفكرة المجتمع، والدين هو المجتمع بعد أن أصبح موضع القداسة والتبجيل والتقديس. والأفكار والممارسات الدينية التقليدية إنما تشير أو ترمز إلى المجتمع، أي أن الدين إن هو إلا شيء اجتماعي غير نابع من طبيعة الفرد وإنما من طبيعة المجتمع، فالمجتمع هو المصدر أو المنبع الأصلي أو السبب النهائي للخبرة الدينية.
4 ـ المجتمع، في واقع الأمر، هو المحرك الأول والأخير لكل الظواهر الإنسانية، فقد صرنا إلى ما نحن عليه بسبب المجتمع.
5 ـ تتمثل وظيفة الدين الرئيسية في تحقيق التضامن الاجتماعي وتدعيمه والمحافظة عليه.
6 ـ المجتمع يتحرك داخلياً ليسمو بنا، لا كما تفعل الشرارة الإلهية بطريقة غامضة (كما كان الظن في الماضي) وإنما بطريقة مادية يمكن رصدها ومعرفة قوانينها. ومن خلال هذا الرصد نكتشف أمرين:
أ) المعتقدات والممارسات تتحد في مجتمع أخلاقي واحد يُسمَّى «الكنيسة» ويضم كل الذين يرتبطون به.
ب) الشعائر (البرانية) أكثر أهمية من العقائد (الجوانية) في عملية تنظيم الأنساق الدينية واستمرارها.
هذا هو موقف دوركهايم من الدين وتعريفه له. ومن الواضح أنه حرَّر المطلق من فكرة الإله، وربطها بشيء آخر مادي تاريخي متعيِّن قابل للرصد هو المجتمع. وبعد تحديد قوانين البنية كما يتخيلها، يرسم لنا دوركهايم ملامح تاريخ عام للبشرية يبين لنا فيه كيف حدث التفتت الاجتماعي وكيف ضاع التماسك (السقوط والخطيئة الأولى في إطار مادي اجتماعي) وكيف يمكن التغلب على التفتت (الخلاص من خلال الكنيسة الجديدة التي تحتكر شعائر الخلاص تماماً مثل الكنيسة الكاثوليكية(.
وبيَّن دوركهايم أن تقسيم العمل هو الآلية الكبرى لكل من السقوط والخلاص، فهو الذي يسبب التحولات العميقة في المجتمع وهو المظهر الأساسي لهذه التحولات. وقد جرد دوركهايم العمل من كل علاقات القوة والهيمنة والسيطرة، ولذا فقد جعله المصدر الحقيقي للتضامن في المجتمع.
ويذهب دوركهايم إلى أن الفرد، باعتباره كياناً مستقلاًّ حراً له ضميره الخاص، لم يكن له وجود في المجتمعات البدائية البسيطة. فالانحراف عن العقل (أو الضمير) الجمعي كان يُعاقَب عليه بشدة من خلال النفي والاستبعاد وأشكال العقاب المختلفة، ولذا يكون التضامن في هذه المجتمعات تضامناً آلياً (برانياً) يستمد قوته من الضمير الجمعي والقانون القهري (لا من قوة الضمير الشخصي). ويَنتُج عن هذا الوضع التماثل أو التشابه بين الناس بصورة ملحوظة، وهو تماثل يُعبِّر عن وجود عواطف ومشاعر مشتركة، وعن مشاركة عامة في القيم والمعايير السائدة في المجتمع. وقد حدث تغيُّر في المجتمع البسيط الذي يستند إلى التضامن نتيجة تزايد عدد السكان والتموين والتصنيع، إذ أدَّى هذا إلى تراجع التضامن الآلي وتقويض الضمير الجمعي خلال تدهور العقيدة المشتركة وظهور الفردية. كما أدَّى اتساع نطاق تقسيم العمل (الذي يمتد ليشمل كل أشكال الحياة) إلى تزايد التباين بين الأفراد، وإلى اختفاء التشابه العقلي والنفسي والأخلاقي بينهم وذلك نتيجة زيادة الفردية،ويبدو ذلك واضحاً في تباين أذواق الأفراد ومعتقداتهم وآرائهم وأخلاقياتهم.ومن ثم يقل الدور الذي كانت تلعبه الوراثة في الحصول على المكانة الاجتماعية، وهكذا ينعدم التجانس في هذا المجتمع وتختفي القيم الدينية والأخلاقية المشتركة والممارسات القمعية التي تستند إلى الضمير الجمعي وهو ما يؤدي إلى ظهور حالة الأنومي (اللا معيارية) وانعدام التماسك (لحظة السقوط وغياب المطلق(.
والآن كيف يمكن استعادة التماسك والمركز والمطلق؟ يذهب دوركهايم إلى أن الكنيسة الجديدة (التي سيُزوِّد المجتمع بإطاره العقائدي والتي ستكون الآلية التي يحقق الإنسان من خلالها الخلاص) هي علم الاجتماع، فهو العلم الذي يُبيِّن كيف يتمكن الجزء (الفردي) من أن يتواصل مع الكل (الاجتماعي)، وكيف يمكن أن يحقق النسق تماسكه، وهو العلم الذي سيزوِّد الإنسان بالمعرفة العلمية اللازمة التي يمكن أن يستند إليها التشريع الاجتماعي. فكأن دوركهايم لم يفصل الأخلاق عن العلم وإنما كان يحاول إقامة علم أخلاق مختلف تماماً عن الفلسفة الأخلاقية. وعلم الاجتماع قادر على رصد المطلق وتعريفه وهو مطلق لا يتجاوز الزمان والمكان ولكنه مرتبط بهما، ولذا فإن القواعد الأخلاقية التي يطرحها هذا العلم ترتبط ارتباطاً وثيقاً بظروف الحياة الاجتماعية والتي تعتبر نسبية من حيث الزمان والمكان. وعلم الاجتماع سيكتشف القيم النسبية المناسبة للزمان والمكان، ولذا فهي قيم مطلقة مؤقتة تنبع مطلقيتها من موافقتها لملابسات اللحظة التاريخية والظروف المكانية (ومن ثم، فإن دوركهايم هو من أوائل المبشرين بلاهوت ما بعد الحداثة). إنها الأخلاقيات اللازمة لاستمرار المجتمع. وعلى الفرد أن يتبع هذه القوانين وأن يستبطنها تماماً باعتبارها القيمة المطلقة وعليه أن ينفذ الشعائر. وبذا، تحوَّل علم الاجتماع من علم يرصد الآليات بحياد علمي رهيب إلى علم معياري يقنن ويطرح الرؤى الأخلاقية التي تستند إلى قوانين علمية. وهو علم يرصد دائماً النظام والتماسك في المجتمع. وكل هذه الأبعاد تؤدي إلى شمولية كاملة حيث يجتمع التكنوقراط ليقرروا للبشر ما هو المطلق، ثم يطلبون منهم اتباعه باعتبار أن ما قرروه تم تقريره على أساس علمي.
وبهذا المعنى، فإن علم الاجتماع لم يَعُد مجرد علم وإنما أصبح نوعاً من أنواع الوعي (العلمي العلماني) المناسب للمجتمع الحديث (العلماني) وللحضارة الحديثة التي تعيش في ظلال العقلانية (المادية) الديكارتية. ومن ثم، فإن دوركهايم استمرار للتقاليد الفلسفية الوضعية التي تضرب بجذورها في فلسفة سان سيمون وأوجست كونت، وهي فلسفة تصدر عن الواحدية (المادية) الكونية التي لا تفصل بين عالم الطبيعة وعالم الإنسان وترى أن ثمة وحدة بينهما، فالثاني جزء لا يتجزأ من الأول. وهي رؤية عضوية للمجتمع، فهي تُشبِّه المجتمع بجسد الإنسان، وتدركه داخل إطار تطوُّري. فإذا مرض جسم الإنسان، فلابد أن يُزوَّد بالعلاج اللازم. وكذلك المجتمع، فإن أصيب بالمرض فلابد أن يُزوَّد بالدواء. وقد عرَّف دوركهايم علم الاجتماع بأنه علم طبيعي وموضوعي وشامل للظواهر الاجتماعية التي ترتبط فيما بينها بعلاقات عامة وضرورية مشتقة من طبيعتها الخاصة، أي أنها بعبارة أخرى خاضعة لنفس مبدأ الحتمية الذي تنهض عليه العلوم كافة (طبيعية كانت أم إنسانية)، ومن ثم فإن بوسعنا أن نكشف عن القوانين المعبِّرة عن هذه الروابط الضرورية بين الظواهر مستخدمين في ذلك مناهج الملاحظة الدقيقة والبرهان المنطقي والتعميم النظري، وهي نفسها المناهج التي تستخدمها العلوم الطبيعية. وهذا العلم سيساعد على اكتشاف أن المجتمع مكوَّن من أفراد، إلا أن الحقائق الاجتماعية تشكل واقعاً قائماً بذاته، ولذا فإن للمجتمع وجوداً موضوعياً خارجياً يعلو على الأفراد له قوانين مستقلة عنهم وعن وعيهم، وهو وجود يشكل سلوكهم وإدراكهم ويحدد الإطـار الاجتماعي. والفـرد هو الجزء والإطـار الاجتماعي هو الكل، والفرد السوي هو الذي ينجح في تحقيق الاندماج في الكل الاجتماعي. فالمجتمع، إذن، واقع لم تخلقه إرادات فردية. ولكنه، مع هذا، ليس منفصلاً تماماً عن الإنسان، فهو «التمثيل الجماعي للمجتمع»، ولذا فهو موجود داخلياً وخارجياً (ويمكن تشبيهه بالوثبة الحيوية عند برجسون التي لها وجود موضوعي وذاتي في آن واحد). وانطلاقاً من هذا، يكتشف دوركهايم فكرة الضمير الجمعي، فالمجتمع ـ كما أسلفنا ـ يوجد داخل الأفراد وخارجهم، ولذا فهو الشيء الوحيد الذي يمكن أن يبعث الرهبة والورع في نفوسهم، ويرغمهم على الخضوع لقواعد السلوك ولتقديم التضحية التي لا يمكن أن يستمر المجتمع بدونها. ولكن المجتمع ليس متعيناً بما فيه الكفاية ليصبح موضع التقديس والتبجيل، ولذا فإن شعور الفرد تجاه المجتمع يتم من خلال وساطة الضمير الجمعي الذي يتألف من التصورات والمعتقدات والرموز المقدَّسة والعواطف الشائعة والعامة بين الأفراد (الذين يشكلون غالبية أعضاء المجتمع) التي تكوِّن نسقاً خاصاً يوجد داخل الأفراد ولكنه مستقل عنهم وله قوة ذاتية مستقلة، ولهذا فإنه يمارس ضغطاً على الأفراد بحيث يُوجد بينهم تماثلاً عقلياً وعاطفياً ويخلق لديهم وعياً بواقعهم، فيدعم الكيان الجمعي لنفوس أولئك الأفراد. والضمير العام له وجوده الخاص المتميِّز، وهو كيان لاتاريخي إلى حدٍّ ما يدوم عبر الزمن ويعمل على توحيد الأجيال. والضمير الجمعي، في واقع الأمر، هو المجتمع وقد تحوَّل إلى صورة مجازية أساسية وقيمة حاكمة بإمكان الأفراد استبطانها. وإذا كان المجتمع هو ما يقابل الأب في الثالوث المسيحي، فإن الضمير الجمعي هو الابن المتجسد في التاريخ والذي يستطيع البشر التواصل معه لأنه الإنسان الإله. أما روح القُدُس التي تسري في كل شيء، فهي القوانين الاجتماعية التي يكتشفها كهنة الكنيسة الجديدة الذين قد لا يتحلون بالعصمة النهائية (كبابا روما) ولكنهم يتحلون بقدر من العصمة المؤقتة (التي تجعل منهم باباوات عصرهم). وهم الذين يقيمون شعائر الدين العلمي الجديد الذي سيحقق الخلاص للإنسان الحديث.
كيف يُعبِّر الضمير الجمعي عن نفسه في المجتمع الحديث؟ وجد دوركهايم أن تقسيم العمل الذي أدَّى إلى اللا معيارية هو نفسه الآلية التي تؤدي إلى ظهور الضمير الجمعي في شكله الحديث. ففي المجتمع الحديث، أصبح الفرد غير قادر على الاكتفاء الذاتي، وتم تنظيم المجتمع على أسس جديدة إذ أصبح يتَّسم بالتضامن العضوي، والمجتمع هنا مثل الكائن العضوي لا يشبه أعضاؤه بعضهم بعضاً مادام لكل عضو من هذه الأعضاء المكونة وظيفة محددة يؤديها تختلف عن الوظيفة التي تؤديها بقية الأعضاء، والوظائف المتكاملة هي السبب الرئيسي في استمرار وجود الكائن العضوي وحياته. ومن هنا، فإن تماسك المجتمع الحديث يمكن تفسيره بالإشارة إلى عدة عناصر من بينها:
1 ـ تبادل المصلحة داخل نطاق تقسيم العمل.
2 ـ ظهور ما يُسمَّى الآن «المجتمع المدني» الذي يستند إلى التنظيمات المدنية الطوعية والروابط المهنية مثل النقابات (التي تربط الفرد بالدولة(.
3ـ ظهور أخلاقيات المهنة والوظيفة التي تُوجِّه سلوك الفرد داخل هذه الروابط.
4 ـ ظهور التعاقد كأساس للعلاقات الاجتماعية.
بهذه الطريقة، يكون دوركهايم قد حل مشكلة تماسك المجتمع من خلال الأخلاق المدنية التي يفرضها المجتمع من الخارج ومن خلال آليات التضامن العضوي نفسها، ولكنها تنبع أيضاً من الداخل لأنها راسخة في ذوات الأفراد ونابعة من حاجاتهم. ومن خلال هذا، تظهر مجموعة القيم المتجاوزة للأفراد. وأنجز دوركهايم كل هذا دون اللجوء إلى ميتافيزيقا خارجية ودون حاجة إلى الاهتمام بمطلقات (مثل الإله) أو حتى شبه مطلقات (مثل الضمير الجمعي)، ودون السقوط في الذرية التي يؤدي إليها مذهب المنفعة (ولعل هذا هو الفرق بين الأصول البروتستانتية لعلم الاجتماع الإنجليزي مقابل الأصول الكاثوليكية لعلم الاجتماع الفرنسي).
اكتشف دوركهايم أن الآلية البرانية لا تكفي قط، وأن البراني لابد أن يصبح جوانياً والخارجي داخلياً، أي لابد من استبطان القواعد، ومن هنا ظهرت الحاجة مرة أخرى إلى الضمير الجمعي. ويُعدِّل دوركهايم موقفه، فبدلاً من علاقات العمل التي تؤدي إلى التماسك العضوي مباشرةً، يعود الضمير الجمعي إلى الظهور شكل القومية العضوية التي ترى أن القومية تسبق الفرد، وأن الفرد جزء من كل عضوي لا يمكنه أن يُوجَد خارجه، وأن ثقافة الإنسان ورؤيته للكون واختياراته الفردية كلها تنبع من كونه جزءاً من هذا الكل العضوي. لكل هذا، تم استبعاد الوعي الفردي والذاتية، واستُبعد الإنسان الفرد، واعتُبرت العقائد والقيم أشياء اجتماعية توجد خارج الوعي الذاتي. والقومية العضوية نتاج ذوبان ذات الفرد في ذوات الآخرين بحيث تتحول إلى ذات جمعية عضوية وكيان عضوي منزَّه عن الأفراد، وهو في واقع الأمر جماع ذواتهم، كيان في داخلهم وخارجهم في آن واحد (وهذا وصف دقيق أيضاً للعبادة اليسرائيلية القربانية وللحلولية الوثنية اليهودية القديمة حيث كان اليسرائيليون يعبدون إلهاً مقصوراً عليهم هو تجسد للشعب ورغباته وإرادته؛ إله لا يتجاوز الشعب ولا يتنزه عن الطبيعة والتاريخ وإنما يتوحد بالشعب والأرض). وبذلك يكون دوركهايم قد حوَّل القومية العضوية أو الذات القومية إلى المطلق (بدلاً من المجتمع أو الضمير الجمعي). ولا شك في أن القوانين والشعائر التي تُعمِّق التماسك العضوي لهذه الجماعة القومية هي شعائر هذا الدين الحلولي العضوي الجديد.
ويمكن القول بأن دوركهايم هو إسبينوزا علم الاجتماع الذي استبعد كل المطلقات من منظومته واستبعد الغائية والهدف. وأدَّى كل هذا إلى استبعاد الإنسان ككائن حر قادر على الاختيار والفرح والحزن، وكلاهما كان يشعر بالغبطة الشديدة لإنجازه الفلسفي، ذلك أنهما لم يدركا ما في موقفهما من شمولية وإطلاق وعداء جذري للإنسان. ولعل الفارق الوحيد بين إسبينوزا ودوركهايم ينبع من واقع أن الأول كان يدور في نطاق الصورة المجازية الآلية على حين أن الثاني كان يدور في إطار صـورة مجـازية عضـوية حيوية (ولكنها، شـأنها شأن صورة المجازية الآلية، تبتلع الإنسان وتفترض أسبقية المجتمع على الفرد كما تفترض أن أفعال الإنسان إن هي إلا جزء لا يتجزأ من حركة اجتماعية تطورية كبرى). وكلاهما يدور في إطار حلولية بدون إله أو وحدة الوجود المادية. وإذا كان إسبينوزا قد احتفظ بالإله وساوى بينه وبين الطبيعة، فإن دوركهايم ألغاه وخلع صفاته وقدراته على المجتمع. ورغم هذا الاختلاف، فإن كليهما وضع المطلق في نهاية الأمر داخل المادة، وجعل المادة (الطبيعة أو المجتمع) شيئاً مكتفياً بذاته ومصدراً للتماسك والحركة، فكلاهما يؤمن بأن ثمة نظاماً ضرورياً وكلياً للأشياء، نظاماً ليس فوق الطبيعة وحسب ولكنه فوق الإنسان أيضاً. وهو نظام كامن في الطبيعة عند إسبينوزا وكامن في المجتمع عند دوركهايم.
فأين تكمن خصوصية دوركهايم اليهودية؟ إن السياق الكلي والأساسي الذي يتحرك داخله دوركهايم هو الفكر الغربي العلماني الحديث الذي لا تختلف بنيته عما بيَّنا من قبل، ولا يمكن فهم فكره إلا في إطار هذا الفكر، بل لا يمكن فهم خصوصيته إلا في إطار خصوصية الفكر الفرنسي العقلاني المادي (الكاثوليكي في بعض أشكاله). ولا شك في أن جذور دوركهايم اليهودية لعبت دوراً في تأكيد بعض العناصر (الحلولية المتطرفة) وفي بلورة بعض العناصر الأخرى (أهمية التضامن في المجتمع والفكر العضوي)، ولكن المنظومة بقضها وقضيضها تظل منظومة علمانية عقلانية مادية بكل ما تتسم به هذه المنظومة من وضوح ومادية وتبسيط.
ساجدة لله
2010-10-27, 05:43 AM
جــورج زيميـل (1858-1918(
Georg Simmel
يُعتبَر جورج زيميل مؤسِّس ما يُسمَّى «علم الاجتماع الشكلي»، وأحد رواد علم النفس الاجتماعي واتجاه التفاعلية الرمزية. كما يرتبط اسمه بعلم اجتماع الجماعات الصغيرة. وقد ظهرت معظم أعماله في شكل مقالات انطباعية، ولم تشمل أية معالجة منهجية شاملة للعلاقات الاجتماعية، ولعل هذا يعود للعناصر الثلاثة التالية:
1 ـ وُلد زيميل في وسط برلين في منتصف القرن التاسع عشر، أي أنه وُلد في مدينة كبيرة تخوض ثورة تجارية وصناعية واجتماعية، وفي بيئة حضرية لا تسمح للإنسان بالانتماء الكامل.
2 ـ وُلد زيميل لأب كان يهودياً ثم تنصَّر وأصبح كاثوليكياً مثله مثل كثير من يهود برلين في ذلك الوقت، ومات والد زيميل وهو بعد طفل، ويبدو أنه لم يكن على علاقة طيبة بأمه التي كانت يهودية وأصبحت بروتستانتية لوثرية، أي أن انتماءه الديني لم يكن واضحاً، وحياته العائلية لم تُزوِّده بالطمأنينة اللازمة، ورغم أنه تم تعميده إلا أنه فقد الإيمان الديني.
3 ـ درس زيميل الفلسفة والتاريخ في جامعة برلين على يد بعض أشهر الأساتذة في عصره. وبعد حصوله على الدكتوراه، استقر في برلين، ولكنه لم يعيَّن في جامعتها وإنما حصل على وظيفة أستاذ جامعي لا يتقاضى مرتباً ويعتمد على المصروفات التي يدفعها الطلبة للتسجيل في المادة المقررة.
ولا شك في أن العناصر الثلاثة السابقة جعلت منه شخصية هامشية تقف على حدود الأشياء دون أن تصبح جزءاً منها (كما هو الحال مع الغريب). وتأثر زيميل بمعظم التيارات الفكرية في عصره، فاستوعب نتائج الرؤية التطورية في فلسفة برجسون ونيتشه، كما تأثر بفلسفة كانط. ولعل نظريته في الأشكال الثابتة نسبياً وفي المضامين المتغيرة، هي نتاج التزاوج بين فلسفة كانط والرؤية التطورية الحيوية.
وانصب اهتمام زيميل في المرحلة الأولى من حياته الفكرية على الدراسات الفلسفية، فكتب دراسة عن كلٍّ من شوبنهاور ونيتشه، واهتم في آخر حياته بفلسفة الحضارة باعتبارها المجال الذي تمكَّن من خلاله من أن يناقش تحوُّل التجربة الإنسانية إلى ذرات متناثرة في مجتمع أدَّى تقسيم العمل فيه إلى ظهور أفراد متخصصين لا يمتلكون رؤية كلية للواقع.
ويذهب زيميل إلى أن من العسير فهم المجتمع باعتباره وحدة سوسيولوجية مستقلة عن عقول الأفراد. وأن من الخطأ كذلك أن نعتقد أن للأفراد وحدهم وجوداً واقعياً. فالمجتمع ـ في رأيه ـ يُوجَد من خلال الأفراد، والأفراد إن هم إلا ذرات اجتماعية (أي المادة التي يتكون منها المجتمع). المجتمع عند زيميل هو، إذن، وحدة موضوعية تتبدَّى من خلال العلاقات المتبادلة (التعاونية والصراعية) بين العناصر الإنسانية المختلفة في المجتمع (ويتضح هنا أثر كانط حين ذهب إلى أن الإنسان لا يُدرك الطبيعة بشكل مباشر، أي باعتبارها مادة محضة، وإنما يُدركها من خلال مقولات عقلية قَبْلية. وكذا المجتمع، فهو لا يتبدى بشكل مباشر وإنما من خلال الأشكال الثابتة التي تأخذ شكل علاقات(.
ومهمة علم الاجتماع تحديد أشكال العلاقات الاجتماعية وتجريدها، وهي الأشكال التي تتسم بدرجة من الاستقرار النسبي وتتخذ شكلاً نمطياً يتميَّز عن المضمون أو المحتوى الذي يخضع للتغير المستمر. وتحليل هذه الأشكال أو الصور تحليلاً مجرداً وتحويلها إلى إطار تفسيري هو ـ حسب رؤية زيميل ـ جوهر الدراسة الاجتماعية إذ يقتضي دراسة البناء الواقعي للمجتمع. وتتضمن صور التنظيم المتشابهة (الأشكال الثابتة) محتويات مختلفة توجهها مصالح متضاربة، بينما المصالح الاجتماعية المتشابهة (المحتويات) تتحقق في أشكال مختلفة تماماً عن التنظيمات الاجتماعية. وعلى سبيل المثال، نجد أن التفاعل داخل الأشكال الثنائية يختلف تماماً عن التفاعل داخل الأشكال الثلاثية، فالأشكال الثلاثية تسمح بتكوين إستراتيجيات مركبة للتحالف بغض النظر عن طبيعة المتحالفين الذين يشكلون المحتوى، أي أن من الممكن دراسة شكل التفاعل بدون الإشارة لمحتواه المتعيِّن، وهذا ما تعنيه عبارة «علم الاجتماع الشكلي»؛ إنه علم متجاوز للتعاقب التاريخي، ويركز على الأشكال الثابتة التي تتسم بقدر من التجاوز للزمان ولتنوع المحتوى، بمعنى أن شكلاً اجتماعياً ما يمكن دراسته من خلال محتويات (ظواهر) مختلفة منتقاة من مراحل تاريخية مختلفة. وقد كان زيميل مهتماً في المحل الأول بتحديد مهمة علم الاجتماع باعتبارها دراسة الصور الخاصة للمجتمع والأشكال أو الأنماط المتواترة له، مجردةً من محتوياتها المادية ومضامينها الخاصة. لكن هذا لا يعني أن الأشكال أصبحت من الأفكار الأفلاطونية الثابتة أو المطلقة، فالشكل (أو النمط أو البنية المجردة) لا وجود له خارج المحتوى الاجتماعي. وهو لا يُوجَد قط في حالة صافية، فالأشكال هي مفاهيم أو بنى تركيبية تحليلية تُضخِّم بعض جوانب الواقع لتُظهر شكل بعض العلاقات الخاصة في الواقع ولا تتحقق تحققاً كاملاً قط. ومع هذا، فلابد من استخدامها لفهم هذه العلاقات (وهي في هذا تشبه الأنماط أو النماذج المثالية عند فيبر(.
وبالفعل، رصد زيميل مجموعة من الصور أو الأشكال أو الأنماط الاجتماعية، ومن أهـم هـذه الأشـكال أو الأنماط الاجتماعية نمط «الغريب». فالغريب ليس مجرد متجول يأتي اليوم ويذهب غداً، لا دور ولا مكان له في البنية، وإنما الغريب هو على العكس شخص يأتي اليوم ويبقى غداً ويتم تثبيته داخل جماعة مكانية محددة وتتحدد صفته باعتباره شخصاً غير منتم. فالغريب هو عنصر في الجماعة ولكنه ليس جزءاً منها، ولذا فله دور محدَّد ليس بإمكان أعضاء الجماعة أنفسهم أن يلعبوه. وبسبب وضعه هذا، وبسبب علاقته الخاصة مع الجماعة، فإنه قادر على الوصول إلى درجة من الموضوعية لا يستطيع أعضاء الجماعة أن يصلوا إليها. والغريب باعتبار أنه غير منتم، لا يشعر بأي التزام جذري تجاه المكونات الفريدة للجماعة ولا يشعر بأي احترام خاص تجاه توجهاتها الخاصة. ولذا، فإنه ينظر لها بموضوعية. وعلاوة على هذا، ونظراً لقربه وبُعده في آن واحد، فإن أعضاء الجماعة يمكنهم أن يجعلوه موضع ثقتهم وأن يسروا له بأسرارهم، وهي أسرار لا يمكن أن يدلوا بها لأحد أعضاء الجماعة، ذلك لأن الغريب لا يشكل أي تهديد لهم إن هو اطلع على خباياهم. ولهذا كله، بإمكان الغريب أن يكون قاضياً موضوعياً ووسيطاً محايداً في عملية تبادل السلع والعواطف. إن الغريب ليس غريباً لأنه خارجي، وإنما هو غريب بسبب علاقات التفاعل التي تربطه بالمجتمع، فهو مخلوق اجتماعي ويجب عليه أن يلعب دوره.
ومن الأشكال والأنماط الأخرى التي رصدها زيميل، نمط الأشكال الثنائية مقابل الأشكال الثلاثية، فالأشكال الثنائية لا تسمح للمشتركين في العلاقة بتجاوزها والوصول إلى مستوى موضوعي غير شخصي، ومن ثم لا تسمح بدرجة من القهر الخارجي البراني. ولكن غياب بنية موضوعية برانية في العلاقات الثنائية يؤدي إلى استيعاب المشتركين في علاقاتهم الثنائية هذه إذ أن العلاقة في كليتها تعتمد بشكل واضح وصريح على المشتركين فيها، ففي جميع أشكال العلاقات الأخرى يستطيع المشتركون فيها أن يفوضوا سلطاتهم وواجباتهم إلى طرف آخر. أما في العلاقة الثنائية، فإن كل شريك في العلاقة مسئول بشكل مباشر وشخصي وكامل عن كل شيء، كما لا يستطيع أي شريك أن يتملص من المسئولية ولا يمكنه إلقاء تبعة فشل ما على «المجموع» أو على «الكل» لأنه لا يتعامل إلا مع شخص واحد في إطار العلاقة الثنائية.
وحينما تتحول العلاقة الثنائية إلى علاقة ثلاثية، فإن ظهور العضو الثالث يُغيِّر العلاقة لا بشكل كمي وإنما بشكل كيفي. ففي العلاقة الثنائية يتم اتخاذ القرار من خلال الشخصية مباشرة، أما في العلاقة الثلاثية فبإمكان شخصين أن يتحالفا ضد الثالث ويسلبانه إرادته، والعلاقة الثلاثية أبسط العلاقات التي يصبح بإمكان الجماعة فيها أن تهيمن على أحد أعضائها، وهي تُجسِّد بشكل واضح جدلية العلاقة الاجتماعية: جدلية الحرية والقهر، والاستقلال وفقدانه.
والعلاقة الثلاثية يمكن أن تُولِّد ثلاثة أدوار لا يمكن أن تولدها العلاقة الثنائية: دور الوسيط الذي يتوسط بين الاثنين، أو دور المستغل الذي يمكن أن يوظِّف الخلافات بين الآخرين لصالحه، وأخيراً دور المفرِّق الذي يُفرق بين الآخرين ليصبح سيد الموقف.
ويُطبِّق زيميل هذه الأشكال الاجتماعية على ظواهر (محتويات) أو مواقف اجتماعية مختلفة. فيقارن بين التنافس الذي يتم بين رجلين على امرأة بأحداث كبرى مثل توازن القوى في أوربا، ويقارن إستراتيجيات أُم الزوج في تعاملها مع ابنها وزوجته بإستراتيجية روما في علاقتها بكلٍّ من أسبرطة وأثينا بعد أن هيمنت عليهما.
ودراسة زيميل هذه، تبيِّن أن محاولة تفسير الظواهر الاجتماعية على أُسُس نفسية محاولة ساذجة، إذ أن بنية الموقف نفسه وشكله (ثنائي أو ثلاثي) يُولِّد أنماطاً من السلوك وحالات عقلية جديدة تماماً، رغم أن الأشخاص أنفسهم لم يتغيَّروا، فما تغيَّر هو الشكل أو البنية. وقد طبق زيميل المنهج نفسه على الجماعات الصغيرة والكبيرة، ففي الجماعات الصغيرة يستطيع الأفراد أن يتعاملوا الواحد مع الآخر مباشرة بينما في حالة الجماعات الكبيرة لابد من وجود ترتيبات شكلية موضوعية مؤسسية لا شخصية سابقة يتم من خلالها تنظيم العلاقات المركبة. ولذا، فإن الجماعات الكبيرة لابد أن يظهر فيها التفاوت. ويُلاحَظ أن درجة التزام الأعضاء وحماسهم في الجماعات الصغيرة يفوق كثيراً درجة التزام وحماس أعضاء الجماعات الكبيرة، كما أن عضو الجماعة الصغيرة ينخرط في نشاطه بكل شخصيته وكيانه، أما في الجماعات الكبيرة فهو ينخرط في نشاط ما بجانب واحد من شخصيته. ولكن، رغم موضوعية العلاقات في الجماعات الكبيرة وبرودها (بسبب انقسام شخصية المرء)، إلا أن وجود الفرد في الجماعة الكبيرة يحميه من الهيمنة المباشرة والتقييم المستمر والفحص الدائم، كما تتيح له الفرص تنمية جوانب من شخصيته قد لا يوافق عليها أعضاء الجماعة الكبيرة.
وطبق زيميل كثيراً من مفاهيمه هذه على المجتمع الحديث، فالحضارة الحديثة تتجه نحو أن يتحقق للمرء مزيد من التحرر من العلاقات الاجتماعية ومن الاعتماد على الآخرين. ولكن هذه العملية ينتج عنها تزايد هيمنة المنتجات الحضارية التي صنعها الإنسان عليه. ففي المجتمعات البدائية يعيش الإنسان في دوائر اجتماعية ضيقة تحيط به وتستغرقه تماماً وتستوعب جماع شخصيته ويدين لها بالولاء. وكانت الهيمنة كاملة والتبعية كاملة، فالنبيل الإقطاعي لم يكن يهيمن سياسياً وحسب على الفلاح وإنما كان يهيمن عليه في كل المجالات الاقتصادية والقضائية والاجتماعية، وكان التنظيم الاجتماعي العام يأخذ شكل دوائر متداخلة بحيث تكون الدائرة الصغيرة جزءاً من دائرة أكبر. وهكذا، فإن القبيلة لا تتكون من أفراد وإنما من عائلات وأفخاذ وعشائر.
أما طريقة التنظيم الاجتماعي الحديثة فمختلفة تماماً، فلا توجد دائرة واحدة تستوعب شخصية الإنسان في كليتها، إذ يجد الإنسان نفسه عضواً في عدة دوائر غير متداخلة، فيشعر بولاءات مختلفة، فيكون ولاؤه الديني منفصلاً عن ولائه الوطني، الأمر الذي يؤدي إلى زيادة الوعي بالذات. ولا توجد سلطة واحدة تهيمن على الشخصية إذ تهيمن عدة مراكز على بعض جوانب من الشخصية وكيانه الاجتماعي، وهو ما يترك له حيزاً ضخماً من الحرية. ويؤدي هذا إلى ظهور ما يُسميه زيميل «مأساة الحضارة»، فالإنسان يصل إلى الحضارة من خلال استيعاب القيم الحضارية التي تحيط به، ومن خلال استخدام تراث الحضارة الذي صنعته يداه. ولكن الإنسان يجد نفسه يواجه، وبشكل مستمر، عالماً من الأشياء الحضارية المتنوعة والمتعددة والمتجددة التي يجب عليه أن يستوعبها ويستبطنها، ولكنه يفشل في ذلك نظراً لتنوعها وتعددها وتجددها، ولذا فإنها تصبح بعد قليل غريبة عنه ومصدر خطر على هويته، بل على كينونته الإنسانية. ولذا، تكتسب هذه الأشياء بعد قليل سمة برانية وتواجه الإنسان (الذي صنعها) باعتبارها الآخر، إذ تصبح لها بالفعل حركتها المستقلة عنه. وهكذا يجد الإنسان الحديث أنه يزداد تقدماً وهيمنة على العالم وإنتاجاً لمزيد من السلع، ولكنه يجد نفسه نتيجة ذلك محاطاً بعالم من الأشياء التي تقهره وتهيمن عليه على حاجاته ورغبـاته لأنه لا يمكـنه اسـتيعابها ولا السـيطرة عــلى تراكمها أو تطوُّرها. فالتكنولوجيا تخلق منتجات لا ضرورة لها لتلبي احتياجات غير طبيعية، فهي نتيجة تطوُّر النشاط التكنولوجي في مسار مستقل، ويُولِّد العلم معرفةً لا ضرورة لها، معرفة لا قيمة متعينة لها، فهي نتيجة التطور المستقل للنشاط العلمي. وبالتدريج، تتشابك الأشياء الحضارية والمفاهيم التكنولوجية والعلمية وتصبح عالماً مستقلاًّ قائماً بذاته يفـقد صلته بالتدريـج بذات الإنسـان ورغـباته الأساسية. وهكذا، فرغم أن هذه الأشكال الحضارية ظهرت لتكون بمنزلة مكان الاستقرار الإنساني، فإنها تصبح سجناً له ( «سجن المستقبل» على حد قول زيميل). ولذا، يقول بعض مؤرخي علم الاجتماع الغربي إن زيميل هو مؤسس سوسيولوجيا ما بعد الحداثة، إذ أدرك أنها حضارة الوفرة وفائض السلع التي تفوق مقدرة الإنسان على هضمها واستيعابها، وأنها حضارة تطمح إلى التحكم في الواقع وتنتهي إلى العكس.
وهذا هو الإطار الذي تدور فيه دراسة زيميل للنقود، فهو يرى أن ماركس أخطأ تماماً حينما تصوَّر أن النقود مقولة اقتصادية وحسب، ومن ثم أهمل سماتها الأخرى ووظائفها الرمزية. فالنقود مجردة وغير شخصية، ولذا فإن عملية التبادل التي تتم من خلال النقود مختلفة تماماً عن عملـية التبادل المباشـرة التي تتم من خلال المقايضـة. فالنقـود مجردة، ومن ثم فإنها تنمي الاتجاه نحو الحسابات الرشيدة الدقيقة، سواء في التبادل الاقتصادي أو في العلاقات الإنسانية. وهي طريقة تحويل الذاتي إلى موضوعي، والمباشر إلى غير مباشر، والمتعيِّن إلى مجرد، والخاص إلى عام. ولذا، حينما يسود الاقتصاد النقدي، نجد أن العلاقات الشخصية المغروسة في العواطف العامة تَضمُر وتذوي لتحل محلها علاقات غير شخصية محدَّدة بهدف محدَّد. ومن ثم تبدأ الحسابات المجردة تغزو كل مجالات الحياة الاجتماعية ويبدأ الإنسان في تحويل كل شيء إلى كم بما في ذلك رؤيته سمات الآخرين الكيفية وعلاقاته معهم. ومن ثم، فإن النقود هي الآلية الكبرى في تحويل الجماعة المترابطة (التراحمية أو التكافلية) إلى مجتمع تعاقدي، فهي تُقسِّم التجربة الإنسانية إلى ذرات مبعثرة فيتحوَّل الفرد إلى ذرة مستقلة ويتم تنميط كل أشكال الاختلاف ويتشيِّأ الوعي، وهي في النهاية تؤدي إلى ترشيد المجتمع والعلاقات الإنسانية. وقد بيَّن زيميل أيضاً أن ثمة ترابطاً بين تزايد استخدام النقود في المجتمع وتصاعد معدلات الترشيد وزيادة هيمنة المناهج العلمية والطبيعية في دراسة ظاهرة الإنسان.
ويبدو أن زيميل، في نهاية حياته، قد أصابه الإعياء من عدم الانتماء ومن الوقوف على هامش الأشياء وحدودها، ولذا فإنه، مع اندلاع الحرب العالمية الأولى، ألقى بنفسه تماماً في أحضان القومية العضـوية الألمانية وكـتب يقـول: « إني أحـب ألمانيا، ولذا أريدها أن تبقى، والجحيم لكل التبريرات الموضوعية لإرادة الحياة هذه باسم الحضارة والأخلاق والتاريخ وخلافه ». وقد أخبر صديقه إرنست بلوخ أنه وجد المطلق في خنادق الحرب. وهكذا، فإن المفكر الذي طالما احتفظ بمسافة بينه وبين الظواهر والأشياء قرر فجأة أن يتجاوز كل المسافات ويسد كل الثغرات ويهتف مع الجماهير بحياة الفولك، وهي ذات الجماهير التي ستهتف بحياة الفوهرر بعد بضع سنوات.
وقد ترك زيمـيل أثراً عـميقاً في كـثير من المفكرين وعلماء الاجتماع، من بينهم: جورج لوكاتش وإرنست بلوخ وماكس شيلر وكارل مانهايم وتيودور أدورنو وكل أعضاء مدرسة فرانكفورت ومارتن بوبر ومارتن هايدجر. وموضوعات زيميل هي نفسها موضوعات علم الاجتماع الألماني، ولعل أصوله اليهودية لا تظهر إلا في تركيزه على أنماط بعينها مثل نمط «الغريب». ومع هذا، يمكن القول بأن هذا النمط نمط أساسي ومركزي في الحضارة العلمانية الحديثة.
ساجدة لله
2010-10-27, 05:44 AM
لودفيـج جومبلوفيـتش (1838-1909)
Ludwig Gumplowicz
عالم اجتماع يهودي من ممثلي الداروينية الاجتماعية. وُلد في جاليشيا حينما كانت تابعة للإمبراطورية النمساوية المجرية في وقت كان فيه الصراع العرْقي مسيطراً على المسرح السياسي، فكان يهود جاليشيا أنفسهم مقسمين إلى عدة أقسام أهمها: أنصار الثقافة الألمانية، وأنصار الثقافة البولندية. وقد اشترك جومبلوفيتش في التمرد البولندي ضد النمسا. درس جومبلوفيتش القانون في جامعة فيينا ثم عمل في جامعة جراتس الإقليمية في النمسا حتى وفاته، وتأثر بأعمال كونت وسبنسر وجوبينو. أما أهم مؤلفاته، فهي: العنصر والدولة (1875) ، و صراع الأجناس (1883) ، و موجز في علم الاجتماع (1885).
كان جومبلوفيتش يرى ضرورة رَبْط علم الاجتماع بالميدان العام للعلم، إلا أنه كان يصر على أن الظواهر الاجتماعية تشكل طائفة متميزة بين جميع الظواهر الأخرى وأن علم الاجتماع هو العلم الذي يدرس هذه الظواهر، فهو علم المجتمع الإنساني والقوانين الاجتماعية وهو علم المجموعات البشرية وعلاقاتها المتبادلة. كما أن الفرد ليس له وجود بمعزل عن الجماعة، فالفرد إن هو إلا نتاج المجتمع، فالمجتمع أو الجماعة هي التي تفكر من خلال الفرد، والقول الذي يذهب إلى أن الإنسان يفكر كفرد إنما هو ضرب من الهذيان. ويذهب جومبلوفيتش بنزعته الداروينية إلى أن التطور (الثقافي والاجتماعي) هو نتاج خالص للصراع بين الجماعات الاجتماعية. فالإنسان مجموعة من الحاجات المادية وكل دوافعه مادية وأنانية، كما أن الظواهر الاجتماعية تحكمها قوانين عامة تعمل بطريقة مادية صرفة لا علاقة لها بالاعتبارات الدينية أو الأخلاقية ولابد من دراستها بالطرق العلمية. وعلم الاجتماع يرفض أية أحكام قيمية إذ أنها لا جدوى منها، والتطور الثقافي والاجتماعي نتاج خالص للصراع المادي بين الجماعات، والمجتمع إن هو إلا جماعات متصارعة يرتبط أعضاء كل منها بمصلحة مشتركة أو أكثر، ويتجه الناس الذين يشعرون بتقاربهم ويرتبطون بمصلحة أو مصالح مشتركة إلى أن يعملوا معاً بوصفهم وحدات تصارع من أجل السيطرة، ومن هنا تتشكل الجماعات ويظل الصراع حاداً لا يهدأ. وأهم أسباب الصراع رغبة البشر في تحسين أحوالهم الاقتصادية، ويذهب جومبلوفيتش إلى أن الجنس البشري لم يتطور من نوع إنساني واحد وإنما من عدة أنواع قديمة مختلفة ومتعددة في أماكن مختلفة وعصور مختلفة، ولذلك فليست هناك رابطة بين الأجناس (ومعنى هذا أنه لا يوجد جنس بشري واحد وإنما عدة أجناس مختلفة ذات أصول مختلفة).
ويرى جومبلوفيتش أن الحروب في العصور القديمة كانت تنتهي بإبادة الجماعة المهزومة، ولكن الناس رأوا في عصور لاحقة أن من الأفضل لهم أن يستعبدوا المهزومين ويستغلوهم اقتصادياً، ولذلك ظهرت الدولة من خلال تسلط جماعة على أخرى بهذه الطريقة. ثم ازدادت حدة الصراع بسبب الرغبة المتأججة في الغزو بين الدول، كما ظهر بالإضافة إلى ذلك الصراع الطبقي داخل هذه الدول. ومع أن الطبقات المتصارعة تغيرت عبر التاريخ، وتغيرت أهدافها أيضاً، إلا أن الطبقة التي تحتل مركز القوة تدرك دائماً أنها تستطيع أن تحافظ بسهولة على سيطرتها وأن تُوسِّع نطاقها من خلال تأسيس نظم قانونية وسياسية تخدم مصلحتها. وكان جومبلوفيتش، شأنه شأن كثير من المفكرين الألمان في عصره (بما في ذلك الصهاينة)، يذهب إلى المطابقة بين الدولة والمجتمع، فالدولة أرقى أنواع الاجتماع الإنساني وتنمو من خلال صراع الجماعات بعضـها مع البعـض الآخر، وهي الإطار الأسـاسي للجماعة الإنسانية، وهي تُعبِّر عن إرادة الجماعة (كمجموعة من الأفراد لهم مصلحة مشتركة) في صراعها مع الجماعات الأخرى، والتاريخ الإنساني هو تاريخ ظهور الدول واختفائها.
وكانت رؤية جومبلوفيتش للتاريخ دائرية، فرغم إيمانه بالتطور لم ير أن هذا التطور سينتهي بالضرورة إلى تقدم الجنس البشري (فمثل هذا الجنس غير موجود بسبب الأصول المتعددة للأنواع البشرية). بل وكان يرى أن من المستحيل التخطيط للمستقبل أو تحسين حال البشر من خلال التخطيط الاجتماعي ودولة الرفاه، كما كان يرى أن فائدة علم الاجتماع تكمن في أنه سينقذ الجنس البشري من أن يُضيِّع وقته بلا جدوى في مشروعات طوباوية للإصلاح.
وقضى جومبلوفيتش معظم حياته يُدرِّس القانون، ونظرياته في القانون ترتبط تماماً برؤيته الاجتماعية، فالقوانين تنمو من خلال صراع الطبقات والمصالح داخل الدولة الواحدة، وهي تتولد نتيجة الصراع وليست ثمرة تفكير رشيد، ولا يوجد قانون طبيعي كما كان يرى مفكرو الاستنارة إلا بمقدار ما يكون القانون نتاج طبيعة الإنسان والعمليات الاجتماعية. ولذا، لا يمكن تصنيف القوانين باعتبارها خيرة أو شريرة، عادلة أو ظالمة، فالقانون يهدف إلى مساعدة الطبقة المهيمنة على أن تستمر في استغلال الطبقات الأخرى. والعدالة لا تقرر الحقوق السياسية أو القانونية وإنما هي قيمة تَنتُج عن الصراع بين الطبقات الاجتماعية، والمنتصر هو الذي يحدد ما هي العدالة.
ومن هنا، فإن مفهوم حقوق الإنسان التي لا تُمس يستند إلى تأليه غير منطقي للإنسان وتقدير زائد لقيمة حياة الإنسان وعدم فهم للأساس الوحيد للدولة. والحقوق لا تستند إلى العدالة، وإنما على العكس تظهر العدالة تعبيراً عن الحقوق السائدة في الدولة، فهي تجريد بسيط لما هو قائم.
ويتَّسم فكر جومبلوفيتش بالعلمانية الصارمة التي طهرت النسق الفكري من أية غائية إنسانية أو أخلاقية والتي تنظر للكيان الاجتماعي باعتباره كياناً مادياً صرفاً يتحرك بالآليات المادية للصراع، ولا يمكن الحكم عليه بأي معيار خارج عنه، فهو لا يشير إلا إلى ذاته (ومعنى ذلك أن جومبلوفيتش يكتشف أن منطق مكيافيللي وهوبز وداروين هو الحقيقة الأساسية للمجتمع، ولعل هذا هو الذي دفعه إلى أن يكتب لصديقه هرتزل ليذكره بأنه لا يمكن تأسيس الدولة الصهيونية دون اللجوء للعنف والخديعة).
وكان جومبلوفيتش مهتماً باليهود واليهودية، وله دراسة طويلة عن تاريخ الجماعة اليهودية في بولندا. وكان يؤمن بأن اليهود كيان غير تاريخي وليست لهم أرض مشتركة أو لغة مشتركة، وبالتالي لا تتـوافر فيهم مواصـفات القـومية، وتنبأ باختفائهم ككيان قومي مستقل. ومع هذا، لا يمكن تفسير فكر جومبلوفيتش بالعودة إلى يهوديته، وإنما يمكن تفسيره بالعودة إلى تزايد معدلات العلمنة في المجتمع الغربي، خصوصاً في منتصف القرن التاسع عشر حين وصل الفكر الدارويني الإمبريالي إلى قمته.
وفي آخر حياته، تنصَّر جومبلوفيتش. ولكن إيمانه الجديد لم يُجْده فتيلاً، ففي عام 1894 انتحر أحد أبنائه، وفي عام 1909 انتحر هو وزوجته.
وكان جومبلوفيتـش مهـتماً بشـكل خــاص بالمؤرخ العربي ابن خلدون. وقد كتب ابنه ماكسيمليان جومبلوفيتش دراسة عام 1903 دافع فيها عن نظرية الأصول الخزرية ليهود اليديشية.
ماكس هوركهـايمر (1895-1973)
Max Horkheimer
عالم اجتماع وفيلسوف ألماني يهودي، وأحد أهم أعضاء مدرسة فرانكفورت. وُلد في شتوتجارب ودرس الفلسفة وعلم الاجتماع في الجامعات الألمانية، وحصل على درجة الدكتوراه عام 1922 من جامعة فرانكفورت عن فلسفة كانط الذي ترك أثراً عميقاً في فكره. وتأثر هوركهايمر بفكر كلٍّ من ماركس ونيتشه وبرجسون وديلثي وفرويد. اشتغل بالتدريس في جامعة فرانكفورت عام 1930، وترأس معهد فرانكفورت للبحوث الاجتماعية عام 1931 الذي كان يهتم في بداية تأسيسه بالدراسات العمالية، خصوصاً تاريخ الطبقة العاملة في ألمانيا. ولكن هوركهايمر ساهم هو وأدورنو وليو لوينثال في إعادة توجيه سياسة المعهد واهتماماته البحثية بحيث بدأ يركز على الفلسفة الاجتماعية ونظرية النقد الاجتماعي. لكن المعهد لم يضع ضمن أولوياته الالتزام السياسي المباشر. وقد أصبح هوركهايمر مديراً للمعهد ومحرراً لمجلته التي بدأت في الصدور عام 1932 والتي نشرت مقالات لريمون آرون وإريك فروم وولتر بنجامين. وبعد مجيء النازي إلى الحكم، انتقل مقر المعهد إلى جنيف ثم إلى باريس، ثم انتقل إلى نيويورك حيث استقر هوركهايمر عام 1934. وفي عام 1939، كتب مقالاً تحت عنوان « اليهود وأوربا » اعتُبر محاولة جادة ومهمة لتفهُّم الفاشية ونزعة معاداة اليهود. وترأس هوركهايمر قسم البحوث للجنة الأمريكية اليهودية في الفترة بين عامي 1945 و1947، وأشرف على إصدار سلسلة من الدراسات الاجتماعية والنفسية تحت عنوان « دراسات في التحيز» كانت من أهم ثمراتها ذلك العمـل المهم الشخصية المتسلطة الذي كتبه تيودر أدورنو عام 1950.
ويدور فكر هوركهايمر حول ما يُسميه الدور النقدي للنظرية، فالنظرية في تصوره تقوم دائماً بتوجيه النقد للأيديولوجيا لصالح المجتمع الحر العقلاني إذ أنها تأخذ موقف النفي من الواقع الاجتماعي القائم وتحاول أن تبلور الاحتياجات الكامنة لدى الجماهير والتي لا يتأتى لها الإفصاح عنها. فالفكر الأيديولوجي ليس منفصلاً عن الواقع الاجتماعي المادي، بل هو متواطئ دائماً مع المؤسسات الاجتماعية القمعية. وفي منظومة هوركهايمر، لم تَعُد البروليتاريا حاملة الفكر التقدمي بحكم موقفها من علاقات الإنتاج فهي الأخرى مُستوعَبة في النظام القائم ومُهيمَن عليها. وعلى هذا، فإن النظرية التعددية أصبحت الآلية الوحيدة تقريباً التي يمكن أن تكشف إمكانية الحرية والعقل في المجتمع الإنساني والتي يمكن عن طريقها الكشف عن أشكال الوعي الزائف. وبيَّن هوركهايمر في كتابه خسوف العقل (1947) أن الفلسفات الإجرائية (الوضعية ـ البرجماتية ـ العلمية) إن هي إلا تعبير عن العقل الأداتي ولا يمكنها أن تُوصِّل إلى الحقيقة أو القيمة أو العقل الحقيقي (العقل النقدي).
وصدر لهوركهايمر، بالاشتراك مع أدورنو، كتاب جدل الاستنارة وهو نقد شـامل لفلسـفة الترشـيد المتزايد ورفض لفكرة التقدم. ويذهب المؤلفان إلى أن الترشيد المتزايد للعلاقات الاجتماعية في العصر الحديث أدَّى إلى تناقص استقلال الفرد وأدَّى في نهاية الأمر إلى الشمولية والعنصرية (خصوصاً معاداة اليهود). فالرأسمالية ترجمت مُثُل الاستنارة إلى واقع معسكرات الاعتقال.
وأكد هوركهايمر أولوية الأخلاقيات على القضايا المعرفية أو الوجودية، وانتقد المنهج الوضعي للعلوم الاجتماعية ووجد أن النظرية أو العقل تُشكِّل مطلقاً يرفض أن يُرَّد إلى الإجراءات أو المادة ويحقق تجاوزاً للعملية التاريخية ذاتها، ولا شك في أن هذا تعبير عن نزعة التمركز حول الإنسان (الذات) التي تتصارع داخل الحضارة الغربية جنباً إلى جنب مع نزعة التمركز حول المادة (الموضوع). ولذا، فإننا نجد أنه مع حماسه للفكر الماركسي ينتقد التطبيق الاشتراكي في الاتحاد السوفيتي ويهاجم وحشية ستالين.
وقد عاد هوركهايمر إلى ألمانيا عام 1949 وأصبح أستاذاً في جامعة فرانكفورت، وأعاد تأسيس معهد البحوث الاجتماعية وترأسه حتى عام 1959، كما قام بالتدريس في جامعة شيكاغو. وقد ترك فكره أثراً عميقاً في جماعات اليسار الجديد في أوربا في الستينيات.
ولا يمكن وضع فكر هوركهايمر في سياق ديني أو فكري يهودي، كما لا يمكن فهم توجهاته وحديثه عن الدور النقدي للنظرية إلا في إطار الفكر الألماني أو تطور الحضارة الغربية الحديثة.
تيــودور أدورنــو (1903-1969(Theodor Adorno
عالم اجتماع ألماني وأهم مفكري مدرسة فرانكفورت. وُلد في فرانكفورت لأب يهودي وأم إيطالية كاثوليكية. واتخذ اسم والدته «أدورنو» بدلاً من اسم والده «فيزنجروند Wiesengrund» (وأصبح اسمه تيودور ف. أدورونو). درس الفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع وعلم الموسيقى. وفي عام 1931، اشتغل بالتدريس في جامعة فرانكفورت، كما ارتبط بشكل وثيق بمعهد البحوث الاجتماعية. وبعد صعود النازيين في ألمانيا إلى الحكم، هاجر إلى إنجلترا عام 1934 ثم إلى الولايات المتحدة عام 1938. وفي الفترة ما بين عامي 1941 و1948، شارك في رئاسة مشروع بحث في جامعة كاليفورنيا حول التمييز الاجتماعي. وأصدر خلال هذه الفترة عدة أعمال من أهمها جدل الاستنارة الذي أصدره بالاشتراك مع ماكس هوركهايمر عام 1947 ويُعَدُّ أهم أعمال مدرسة فرانكفورت، و فلسفة الموسيقى الجديدة (1949)، و الشخصية المتسلطة الذي كتبه أيضاً بالاشتراك مع عالم النفس الاجتماعي الأمريكي نفيث سانفورد عام 1950. وصدر هذا البحث الأخير تحت رعاية اللجنة الأمريكية اليهودية، فهو يتناول ظاهرة معاداة اليهود بالدرجة الأولى ويُعتبَر واحداً من أهم الدراسات التجريبية (الإمبريقية) في علم الاجتماع الحديث. ومـن مؤلفاته الأخرى دراساـت أخــلاقية صغيرة (1951)، و رطــانة الأصـالة (1964)، و ملاحظات عن الأدب (في جزأين 1958 و1969). وتتمحور هذه الأعمال وأغلب كتاباته الغزيرة الأخرى حول المشاكل الثقافية والاجتماعية ودور الفرد في المجتمع. وتأثر أدورنو بفكر هيجل وماركس وفرويد وزيميل، وتُعتبر نظريته حول المجتمع مزيجاً من أفكارهم ونظرياتهم.
ويرى أدورنو أن ظهور العقل في عصر الاستنارة وتحرره من الأساطير لم يؤد بالضرورة إلى نتائج إيجابية، فقد تحول العقل نفسه إلى قوة غير عقلانية تسيطر على الطبيعة وعلى الإنسان، كما رأى أن المجتمعات الحديثة تطمس الفرد تماماً وأن البشرية في طريقها إلى شكل جديد من أشكال البربرية، وأن ما جرى في معسكرات الإبادة النازية لا يُعَدُّ انحـرافاً عن مسـيرة التاريـخ والمجتمع، وإنما هـو جزء عضـوي من « تقدمها نحو الجحيم ». وعلى عكس علم الاجتماع الأكاديمي التقليدي، أكد أدورنو أن الفاشية هي النتاج الطبيعي للرأسمالية، ولكنه في الوقت نفسه رفض جميع أشكال التسلط والديكتاتورية وانتقد بشدة نظام ستالين في الاتحاد السوفيتي وآمن بإمكانية إقامة مجتمع يستند إلى العدل والمساواة.
ويُعَدُّ كتابه الجدل السلبي (1966) من أهم كتبه إذ يضم بعض أفكاره الكلية عن العصر الحديث والإنسان والكون، ويُعَدُّ كتابه النظرية الجمالية نظريته في الفن حيث يطرح تصوره بشأن استقلال العـمل الفني وفكرته القائلة بأن الأعمال الفنية الأصيلة تميل إلى «الكلية». ولذا، فالفن هو الذي يحيي الحق ويمثل دور المعارضة الحقيقية والدعوة إلى الانعتاق في « حضارة الصناعة ».
وقد عاد أدورنو إلى ألمانيا عام 1953، وأصبح أستاذاً في علم الاجتماع في جامعة فرانكفورت ثم رئيساً لمعهد البحوث الاجتماعية، ولاقت فلسفته قبولاً كبيراً لدى التيار اليساري الراديكالي بين الشباب الألماني، ولكنه هوجم فيما بعد بسبب انتقاده لاستخدام العنف. وتُوفي أدورنو في سويسرا عام 1969.
ويرد اسم أدورنو في كثير من المعاجم والموسوعات اليهودية باعتباره يهودياً مع أنه وُلد لأم كاثوليكية، ومن ثم فهو ليس يهودياً من منظور الشرع اليهودي، كما أنه أسقط اسم والده بسبب نبرته اليهودية الفاقعة. أما من منظور الرؤية فرؤيته تعود إلى التقاليد النقدية الفلسفية الألمانية وإلى نقد حركة الاستنارة والترشيد الذي يُعَدُّ موضوعاً أساسياً فيها. وهو عضو في مدرسة فرانكفورت التي تضم عدداً من المفكرين ذوي الأصول اليهودية والمسيحية، ولا تظهر الموضوعات اليهودية في كتابات هؤلاء المفكرين مثل موضوع الإبادة النازية ليهود غرب أوربا إلا باعتبارها تعبيراً عن شيء مهم وجوهري ووحشي في الحضارة الغربية الحديثة.
ساجدة لله
2010-10-27, 05:44 AM
أدورنــــو وهوركهــــايمر والمســـألة اليهوديـــة
Adorno and Horkheimer on the Jewish Question
كان اهتمام هوركهايمر وأدورنو باليهود واليهودية كبيراً، ولكنه لم يكن مركزياً، إذ ينبع من اهتمامهم العميق بقضية أشمل هي قضية القمع والتسلط (التي تشكل الانشغال الأساسي بالنسبة لهما). فالعداء لليهود ليس ظاهرة مستقلة من وجهة نظرهما، وإنما هو جزء من التعصب ضد الأقليات والعداء للديموقراطية على وجه العموم، والعداء للرأسمالية في بعض الأحيان، فاليهودي لا يسقط ضحية عداء خاص موجَّه نحوه هو بالذات (ومع هذا يوجد في كتاب الشخصية التسلطية مقياسان واحد لقياس التسلطية، وآخر لقياس درجة العداء لليهود).
وظاهرة القمع ذاتها مرتبطة في فكر هوكهايمر وأدورونو بالعقل الأداتي وبرغبة الإنسان الغربي في السيطرة على الطبيعة، بل إن الحضارة بالنسبة للإنسان الغربي إن هي إلا طقوس الهيمنة الكاملة على الطبيعة، ولذا فهي في واقع الأمر ليست حضارة وإنما مدنية وحسب. ويربط أدورنو وهوركهايمر بين العداء لليهود من جهة والعقل الأداتي من جهة أخرى، أي أن ظاهرة العداء لليهود تخرج من نطاق الاقتصادي والسياسي، لتدخل نطاق المعرفي والحضاري. والعقل الأداتي عقل يود السيطرة الكاملة على الطبيعة، وهو اتجاه يتصاعد مع الفاشية. ولكن هذه الرغبة في السيطرة غير المحدودة تُولِّد عند صاحبها إحساساً بالذنب، ولذا فالفاشي يُسقط طموحه وطمعه على اليهودي فيحوّله إلى الباحث عن السيطرة الكاملة.
ولكن هوركهايمر وأدورنو لا يكتفيان بهذا التفسير بل يتعمقان في تحليل الظاهرة. فهما يذهبان إلى أن من يحاول السيطرة على الطبيعة لا يرى سوى القوة، ولذا فصورة السعادة بلا قوة أو سلطة أو هيمنة تستفزه إلى درجة لا يمكنه تحملها، لأن مثل هذه السعادة ستكون سعادة حقيقية (على عكس السعادة الزائفة التي تستند إلى القوة). واليهود ـ حسب رأي هوركهايمر وأدورنو ـ يتمتعون بسعادة لا تستند إلى أية قوة أو سلطة. بل يتم خلط اليهود بالطبيعة ذاتها في الوجدان الغربي فهم يتقاضون أجوراً بلا عمل (الربا)، ولهم منزل ووطن بلا حدود (التلمود)، ولهم دين بلا أساطير. ولكن المفارقة الكبرى تكمن في أن اليهودي رمز الطبيعة هو أيضاً رمز المدنية في الوجدان الغربي، والمدنية معادية للطبيعة. فاليهودي مرتبط دائماً بعمليات الريادة والتقدم والهيمنة على الطبيعة. ولذا حينما تمردت الطبيعة على الحضارة (أي المدنية) كما حدث مع ظهور اللاعقلانية في الغرب، أصبح اليهود موضع الكره. فالفاشية تجعل الثورة ضد قمع الطبيعة آلية لقمع الطبيعة. وهكذا تمت التضحية باليهود الذين كانوا آلية الهيمنة على الطبيعة، من أجل آلية أكثر شمولاً للهيمنة علىها. إن هوركهايمر وأدورنو يذهبان إلى أن ظاهرة العداء لليهود ليست انحرافاً عن مسار الحضارة الغربية فهي مرتبطة بظهور العقل الأداتي الذي لا يضطهد اليهود وحسب بل كل البشر والطبيعة بأسرها، ولذا فإن إنهاء ظاهرة العداء لليهود لن يتحقق إلا مع محاولة قمع الطبيعة ذاتها.
ولكن بعد عام 1947 وبعد سقوط هتلر أضاف هوركهايمر وأدورنو بُعداً جديداً لإدراكهما لظاهرة العداء لليهود. فقد أصبحا يريان أن العداء لليهود ليس مرتبطاً بالعقل الأداتي وحسب، وإنما مرتبط بالعقلية الاختزالية " عقلية التذاكر" ككل. والفكر الفاشي (في تصورهما) ليس مهماً في ذاته، وإنما تعود أهميته إلى أنه تعبير عن هذه العقلية التي تتَّسم بالإسقاط الزائف ومحاولة إلغاء الموضوع تماماً وتصفية الآخر. فمعاداة اليهود متجذرة في اتجاه العقل الغربي نحو إنكار ما ليس شبيهاً لي (الآخر) والذي يُشجِّع نزوع الحضارة الغربية الشمولي إلى الهيمنة. واليهود بهذا المعنى برفضهم أن يندمجوا في هذه الحضارة يشكلون عقبة أمام عملية دمج البشر وإدخالهم شبكة السببية والهيمنة والإدارة الرشيدة حتى يصبح المجتمع الإنساني مجتمعاً ذا بُعد واحد.
ثم بدأ هوركهايمر يحاول تفسير بعض جوانب فكره ورؤيته للكون بالعودة لبعض العناصر الأساسية في العقيدة اليهودية. فصرح بأن رفض مدرسة فرانكفورت أن تصف المجتمع المثالي هو المعادل الحديث للحظر اليهودي القديم على النطق باسم الإله. وفي محاولة للتفرقة بين فكره وفكر ماركس، يرى هوركهايمر أن ماركس تأثر بالمشيحانية اليهودية (التي تركز كثيراً على فكرة المجتمع الطوباوي). أما هو فيرى أنه تأثر بتحريم تصوير الإله، ولكن رغم هذا التحريم يظل الإله محل التطلع والتشوق.
إن ما يحاول هوركهايمر قوله هنا أن فكر مدرسة فرانكفورت لم تسقط في عقلية نهاية التاريخ المشيحانية على طريقة ماركس، بل احتفظ بالنسق مفتوحاً وبالتجاوز حقيقة لا نهائية. وهو يرى أن ذلك هو الترجمة العلمانية لبعض المفاهيم اليهودية (مثل تحريم نطق اسم الإله وتحريم تصويره). وإذا أردنا ترجمة هذا المصطلح شبه الديني إلى مصطلحنا الفلسفي لقلنا إنه بينما ورث ماركس الحلولية اليهودية والنزعة نحو التجسد فيها، فقد ورث هوركهايمر النزعة التوحيدية اليهودية التي ترى الإله منزَّهاً عن المادة (الطبيعة والتاريخ) لذا لا يمكن أن يتجسد الإله وينتهي التاريخ، وينغلق الجدل وينتهي التجاوز. ويرى هوركهايمر أن اليهود في علاقتهم بالبشر يمثلون عنصر النفي (بالمعنى الفلسفي) وهو ظاهرة صحية إيجابية، فبدون هذا النفي يصل التاريخ إلى نهايته وتسود الشمولية.
وتطوُّر موقف هوركهايمر من اليهود هو تعبير عن تطور موقفه من الماركسية. فقد انتقل من الإيمان بالبروليتاريا كآلية استرجاع الكل، إلى الإيمان بأن أكثر ما يمكن أن يؤمل فيه الإنسان هو الاحتفاظ بجيوب من النفي، ومن ثم تزايَد اهتمامه باليهود وبالمسألة اليهودية وبالعقيدة اليهودية. ومن هذا المنظور أصبح المفكر صاحب العقل النقدي (مقابل العقل الأداتي) هو اليهودي الذي يرفض أن يُستوعَب في آليات المجتمع وأصبحت معاداة اليهود تعبيراً عن تلك الاتجاهات في المجتمعات التي تنحو نحو الشمولية والسيطرة على الطبيعة والإنسان.
لكل هذا كانت استجابة هوركهايمر لتأسيس الدولة الصهيونية مبهمة للغاية، فاليهود بعد أن كانوا جيباً من جيوب النفي الأساسية ورمزاً للأمل في تحقيق العدل في نهاية الزمان تحولوا إلى مجرد أمة مثل كل الأمم لها دولة قوية يتبعها جيشٌ له قياداته العسكرية وأصبحت تتبعها صناديق الجباية الخاصة بها (أي أن هوركهايمر كان يرى، شأنه في هذا شأن روزنزفايج أن اليهود " شعب غير تاريخي" وأن دخوله التاريخ ومعترك السياسة هو تصفية لهويته اللاتاريخية هذه!).
إن الصهيونية في تصور هوركهايمر تعبير عن عدم الإيمان بالتعددية السياسية والثقافية، فإسرائيل مجرد دولة، قد تكون دولة مُضطهَدة تأوي المضطهدين ولكنها مع هذا ليست صهيون التي وردت في العهد القديم حيث يعيش كل الأتقياء من كل الشعوب في سلام.
ريمـــــون آرون (1905-1982)
Raymond Aron
عالم اجتماع وفيلسوف وكاتب فرنسي بارز. وُلد في باريس لعائلة فرنسية بورجوازية من المثقفين. ويُعتبر آرون ممثلاً لجيل المفكرين والسـياسيين الفرنسـيين اليهود، من أمثال ليون بلوم وبيير منديس فرانس، الذين عبَّرت أفكارهم وسياستهم عن التيارات والاتجاهات الفكرية والسياسية المختلفة داخل المجتمع الفرنسي بصفة خاصة والمجتمع الأوربي الأوسع بصفة عامة، والذين تحددت علاقتهم باليهودية ومواقفهم تجاه إسرائيل من خلال انتمائهم الفرنسي والأوربي بالدرجة الأولى.
تخرَّج آرون في مدرسة المعلمين العليا عام 1928، ثم قام بالتدريس في جامعات ألمانية وفرنسية. وعُيِّن عام 1955، أستاذاً لعلم الاجتماع في جامعة السوربون، وفي عام 1960 عُيِّن مديراً للدراسات في المدرسة التطبيقية للدراسات العليا في باريس. وخلال الحرب العالمية الثانية، عمل آرون مديراً لتحرير جريدة فرانس ليبر التي كانت تصدر في إنجلترا، واستمر في نشاطه الصحفي بعد الحرب حيث سـاهم، سواء بكتاباته أو بوصفه مديراً للتحرير، في الفيجارو، و الإكسبرس ، و المجلة الأوربية لعلم الاجتماع وغير ذلك من الدوريات. وتأثر آرون بالمفكرين الفينومولوجيين وبعلم الاجتماع الألماني (خصوصاً نظريات ماكس فيبر).
ويدور فكر آرون حول فكرة رئيسية: نفى ما هو خارج الوجود المادي أو ما يقع وراء نطاق الخبرة أو المعرفة، أي رفض أي تسام أو تجاوز، بما في ذلك ما يُسمَّى «الديانات العلمانية»، وهي الأيديولوجيات التي تطرح إمكانية أن يتجاوز الانسان الواقع المادي من خلال الإيمان بمطلق ما يوجد داخل الطبيعة مثل التقدم وحتميته. ومن ثم نجده يرفض أي نوع من الحتمية ويتبنى بدلاً من ذلك مفهوماً للتاريخ لا يخضع للقوانين ولكنه نتاج مزيج من الصدفة والضرورة.
وقد اهتم آرون بصفة خاصة بالمجتمع الصناعي الحديث، واعتبر أن العامل الرئيسي في تحديد وتفسير حركيات هذه المجتمعات ليس الصراع الطبقي بقدر ما هو الصراع والتنافس بين النظم السياسية. كما بيَّن وجود سمات مشتركة بين كل المجتمعات الصناعية تعود كلها إلى التكنولوجيا لا الأيديولوجيا وتنبع من روح الإبداع والتقدم التي تسود المجتمع الصناعي والتنظيم البيروقراطي الرشيد. ولذا، فهو من دعاة نظرية التلاقي، أي أن المجتمعات الصناعية (رأسمالية كانت أم اشتراكية) ستلتقي في نهاية الأمر.
وكان آرون من كبار دعاة الحرب الباردة. ففي الخمسينيات، تناول موضوع الحرب في العصر الحديث وأشار إلى أن عملية توازن الرعب قد قوَّضت رغبة الكثيرين في أن يفكروا في الحرب. فالحرب جزء من الحياة اليومية، وهي تصوغ المجتمع تماماً مثل الصناعة، ويجب أخذها جدياً في الاعتبار عند صياغة السياسة حتى ولو أدَّت هذه السياسة إلى هولوكوست نووية تنتج عنها إبادة الجنس البشري. وإن أحجم الإنسان عن مثل هذا التفكير وعن تقبُّل نتائجه فقد تخلى عن العقل الإنساني وعن مقدرته على التحكم في مصائرنا. وتناول آرون في كتاباته العديدة أيضاً العلاقات الدولية، وتناقضات الديموقراطية، والعلاقة الجدلية بين الديموقراطية والشمولية.
وأكد آرون انتماءه للثقافة والفكر والمجتمع الفرنسي كبُعد أساسي من أبعاد شخصيته وهويته. أما اليهودية، فلم تكن سوى رمز احتفظ به تعبيراً عن أصوله وجذوره العائلية دون نفيها. ورفض آرون مفهوم الشعب اليهودي واعتبر أن اليهود شكلوا على مر التاريخ جماعات متفرقة لا تجمعهم أرض أو لغة أو نظام سياسي واحد وأن ما يربطهم هو العقيدة والشعائر والممارسات الدينية. واعتبر أن ميلاد الصهيونية، ومن ثم إسرائيل، ارتبط بظهور القومية في المجتمع الأوربي الحديث في القرن التاسع عشر، وما صاحب ذلك من اتجاهات للاندماج ومعاداة اليهود. كما اعتبر أن ميلاد الصهيونية انعكاس لمدى قوة الأسطورة في التاريخ.
ونبعت مواقفه من قضايا الشرق الأوسط من رؤيته الغربية للأمور، ومن منطلق المصالح الفرنسية والغربية، أي أنها تخلو من أية أبعاد يهودية خاصة. وقد بدأ اهتمامه بالصراع العربي الإسرائيلي عام 1956 بعد أن ارتبط بالصراع بين الشرق والغرب، فأدان العدوان الثلاثي على مصر، كما أيَّد استقلال الجزائر إلا أنه أيَّد التحالف الإسرائيلي الفرنسي، وتضامن مع إسرائيل خلال حرب 1967 وكتب سلسلة من المقالات بعنوان ديجول وإسرائيل واليهود انتقد فيها إدانة ديجول لإسرائيل عقب حرب 1967 واعتبرها مثيرة ومشجعة للعناصر المعادية لليهود في المجتمع الفرنسي. إلا أنه حذر من استمرار احتلال إسرائيل للأراضي العربية باعتبار أن ذلك سيؤدي حتماً إلى حرب جديدة، مثلما حدث بالفعل عام 1973.
دانيــال بــل (1919-)
Daniel Bell
عالم اجتماع أمريكي يهودي، وُلد في نيويورك، وتلقَّى فيها تعليمه. درَّس في العديد من الجامعات والمعاهد الأمريكية، وترأس تحرير عدد من المجلات العلمية الليبرالية مثل دايدالوس، و ناشيونال إنترست أي الصالح العام. ويُعَدُّ بل من أهم علماء الاجتماع الأمريكيين. وقد كتب العديد من الدراسات، وأظهر في كتاباته الأولى اهتماماً خاصاً بمسائل العمال والرأسمالية الأمريكية إذ حذر من احتمال أن تقوم الاحتكارات بالهيمنة على المجتمع الأمريكي بل وحذر من الحكومة نفسها، خصوصاً إذا ما أصبح قطاع اقتصاد الحرب قطاعاً ثابتاً. وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، أصدر بل عدة كتب تتَّسم بأنها مشبعة بروح التفاؤل بشأن المستقبل الديموقراطي للمجتمع إذ كان يرى أن المجتمع الأمريكي مجتمع مركب للغاية، ويختلف عن المجتمعات الغربية في العالم القديم، وتسود فيه روح شعبوية (شعبية) وعداء متأصل للتجريد الفكري. وذهب بل إلى أن هذه كلها ضمانات أكيدة ضد الشمولية، وأن منطق المجتمع الحديث الشمولي ومؤسساته الاقتصادية البيروقراطية لن تسود في الولايات المتحدة.
وفي عام 1960، ظهرت أهم أعمال بل وهو نهاية الأيديولوجيا وهو عبارة عن مجموعة من المقالات كتبها عبر عدة سنوات، دعا فيها إلى ظهور علم اجتماع جديد ونظرية اجتماعية جديدة أكثر برجماتية إذ ينبغي على المثقفين ألا يقبلوا أيديولوجيات الستينيات بل عليهم أن يدركوا أهمية دور جماعات المصالح وطبيعة المساومة والإجماع في المجتمع الليبرالي.
وبل من دعاة نظرية التلاقي، أي أن المجتمعين الرأسمالي والاشتراكي هما في نهاية الأمر مجتمع صناعي واحد، ولذا فإن هناك سمات حضارية مشتركة بين المجتمعات، ومن ثم فإن طبيعة تطورهما ستؤدي بهما إلى التلاقي أو التماثل. وهو بالتالي من دعاة دولة الرفاه الرأسمالية التي ستقوم بالاستعانة بخبرة المتخصصين (التكنوقراط) لاكتشاف أحسن السبل لإدارة المجتمع ولحسم الصراعات بين جماعات المصالح المختلفة دون أية أعباء أيديولوجية تثقل كاهلها أو وعيها. وهذه مسألة ـ في تصوره ـ ليست عسيرة إذ أن الصراعات الطبقية والعرْقية ليست بالعمق الذي تُصوِّره نظريات الصراع المختلفة. وكان بل مؤمناً تماماً بأن المجتمع ما بعد الصناعي سينجح في التغلب على التوترات الاجتماعية وفي الإبقاء على المجتمعات الشمولية. ويُعتبَر كتابه ما بعد الأيديولوجيا من أول الكتب التي بشرت بظهور عصر البعديات في الحضارة الغربية (ما بعد التاريخ ـ مابعد الإنسانية ـ مابعد الحداثة).
ولكن، مع نهاية الستينيات، عزف بل نغمة أخرى تماماً في كتابه ظهور المجتمع ما بعد الصناعي (1973)، وفي كتابه تناقضات الرأسمالية الحضارية، إذ بيَّن أن ثمة تآكلاً في المنظومة القيمية في المجتمع الرأسمالي (أخلاقيات العمل ـ إرجاء الإشباع ـ الإحساس بالرسـالة وبالمســئولية الاجتماعية) التي كانت مصدر تماسـكه في الماضي. فالنظام السياسي في المجتمع الرأسمالي في الوقت الحاضر يدور حول مجموعة من المصالح المتضاربة، ويشعر الأفراد بنهم لا يمكن إشباعه، ومع هذا فإنهم يصرون على حقهم في الإشباع (وهذا ما نسميه تصاعد معدلات الترشيد والعلمنة). والمجتمع التكنولوجي هو مجتمع الإنتاج الرشيد الذي يكافئ من يساهمون في العملية الإنتاجية الرشيدة، ومثل هذا المجتمع الذي تم ترشيده يبتعد بالأفراد تدريجياً عن عالَم السياسة (العام) الذي يوازن عالَم المصالح (الخاص). كما أن عزلة الفنون تساهم بشكل أعمق في هذا الاتجاه، ولذا كان بل يذهب إلى أن الثقافة الحداثية ثقافة معادية للإنسان ومضمونها السياسي تافه. وعلى هذا النحو، فقد انضم بل إلى زمرة المثقفين الذين يدركون أزمة المجتمع الحديث وأنه لا مخرج منها، ومن ثم فقد تفاؤله القديم.
ساجدة لله
2010-10-27, 05:44 AM
الباب الرابع عشر: علماء النفس من أعضاء الجماعات اليهودية
علماء النفـس من أعضاء الجـماعات اليهودية
Psychologists (and Psychiatrists) from Members of Jewish Communities
يضم العهد القديم والتلمود إشارات عديدة إلى أعراض واضطرابات في السلوك تدل على أمراض نفسية وعقلية. ولم ير العهد القديم هذه الاضطرابات باعتبارها نوعاً من أنواع المرض، بل اعتبرها نتيجةً لتملك روح شريرة جسد الإنسان، ورأى ضرورة رجم الشخص الذي تملكته روح شريرة حتى الموت.
وتأثر اليهود خلال العصر اليوناني بآراء فلاسفة اليونان وأطبائهم والذين كانوا أول من نظر إلى الأمراض النفسية نظرة علمية وربطوا بين الاضطرابات العقلية والاضطرابات الفسيولوجية.
ويذهب التلمود في بعض أجزائه إلى أن اضطرابات السلوك والجنون نوع من أنواع المرض، واهتم التلمود أيضاً بوضع الشرائع التي تحدد المسئولية العقلية للمريض ووضعه في المجتمع. كما تناول التلـمود وأدب المـدراش قضايا عديدة حول سـلوك الفـرد وعلاقته بالمجتمع، وحول القيم والمواقف، وحول أساليب التهذيب والعقاب. وقد اعتبر التلمود الأحلام ذات مصدر إلهي، وكتب أحد الحاخامات كتباً عن الأحلام مماثلة لكتب قدماء المصريين واليونانيين. كما تأثر الفلاسفة من أعضاء الجماعات اليهودية بمفهوم ورؤية اليونانيين لطبيعة ودور الروح والعقل والذكاء.
وفي العصور الوسطى في الغرب، اعتمد الأطباء من أعضاء الجماعات اليهودية، مثلهم مثل غيرهم من الأطباء، على النظريات اليونانية والرومانية في الطب، وانتشر الطب الشعبي بين أعضاء الجماعات اليهودية ويذهب الطب الشعبي إلى أن الأمراض العقلية والنفسية علامة على أن الأرواح الشريرة تتملك جسد الإنسان وأنها إحدى علامات الصراع بين قوى الخير وقوى الشر وكانت تعالج بالأحجبة والتعويذات والأناشيد وأحياناً بالتعذيب والسجن. وتناولت كثير من أعمال الفلاسفة والأطباء من أعضاء الجماعات اليهودية في العالم العربي الإسلامي العديد من القضايا النفسية. فعلى عكس الغرب، احتل الطب في العالم الإسلامي مكانة رفيعة، وأدرك أطباء الإسلام حقيقة العلاقة بين النفس والجسم والتفاعل الوثيق بينهما وأحسنوا معاملة المصابين بالأمراض العقلية ونجحوا في علاج كثير من هذه الأمراض علاجاً نفسياً. وكان من أبرز من تناوَل القضايا النفسية الفيلسوف موسى بن ميمون الذي كتب عدة كتب في الطب في القرن الثاني عشر وتعرض للاضطرابات الجسدية الناتجة عن اضطرابات عقلية أو عاطفية.
وقد تضمنت الحركة الحسيدية التي ظهرت في القرن الثامن عشر في الغرب كثيراً من الجوانب النفسية، إذ استمدت الكثير من الأفكار من القبَّالاه، كما أكدت تعاليمها أهمية النواحي الروحية والعاطفية.
وفي العصر الحديث، بدأ إخضاع الطبيعة الإنسانية والاضطرابات والأمراض النفسية والعقلية للبحث والدراسة العلمية. وشهد القرن التاسع عشر بداية صعود الطب النفسي وبداية توصيف وتصنيف الأمراض العقلية والنفسية وبداية معاملة المرضى معاملة إنسانية طيبة. كما تأسست أقسام لعلم النفس الأكاديمي في الجامعات الأوربية وانتشرت معامل علم النفس في المدن الأوربية والأمريكية. وظهرت مدارس عديدة في علم النفس تطرح كل منها تفسيراتها ونظرياتها الخاصة حول حقيقة السلوك والطبيعة البشرية ودوافعها.
وأدَّى انعتاق أعضاء الجماعات اليهودية في أوربا خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر إلى إتاحة الفرصة لهم للالتحاق بالجامعات الأوربية حيث وجدوا في المجالات العلمية التي كانت لا تزال حديثة وهامشية، مثل علم النفس، فرصاً أكبر للحراك والتقدم العلمي لم تكن متوافرة في المجالات العلمية الأقدم والأكثر عراقة.
وشكَّل أعضاء الجماعات اليهودية نسبة كبيرة في حقل علم النفس الأكاديمي بجميع فروعه ومدارسه، كما لعبوا دوراً ريادياً في الطب النفسي وفي نشأة التحليل النفسي ومدارسه. ومع هذا، لا يمكن الحديث عن «علم نفس يهودي» أو «تحليل نفسي يهودي» وهكذا، فالمحللون النفسيون وعلماء النفس من أعضاء الجماعات اليهودية يختلفون فيما بينهم ويتخاصمون وينتمون لمدارس وتيارات فكرية متصارعة، أُسُسها الفلسفية مختلفة.
وقد اشترك بعض أعضاء الجماعات اليهودية في تأسيس بعض معامل علم النفس في كلٍّ من بلجيكا وهولندا وألمانيا والولايات المتحدة في نهايات القرن التاسع عشر.
وقد كان أوتو سيلز عضواً بارزاً في مدرسة ويرزبورج لعلم النفس التي اهتمت بدراسة العمليات المصاحبة للتفكير. كما أسس ماكس فيرتهايمر (1880 ـ 1943) (بالاشتراك مع كرت كوفكا وولفجانج كوهلر) علم نفس الجشطالت، وكان أغلب مؤسسي هذه المدرسة من أعضاء الجماعات اليهودية.
أما في مجال الطب النفسي، فكان سيزار لومبروزو أول طبيب نفسي من أعضاء الجماعات اليهودية، وقد صدر له عام 1864 كتاب العبقرية والجنون وقدَّم فيه عرضاً لجوانب الشخصية الإجرامية التي أرجعها إلى خصائص وراثية وربطها ببعض الظواهر التشريحية.
أما هيبوليت برنهايم (1837 ـ 1919)، فكان من أوائل من وضعوا لبنات المدرسة النفسية التي رأت أن كثيراً من الاضطرابات العقلية ناشئة عن أسباب نفسية، على عكس المدرسة العضوية في ذلك الوقت والتي كانت ترى أن الاضطرابات العقلية ناتجة كلها عن علل عضوية.
ويعود الفضل لسيجموند فرويد (1856ـ 1939) في إقامة البناء النظري الذي تأسس عليه التحليل النفسي الحديث. ورغم المعارضة التي واجهت نظرية فرويد في البداية، إلا أنه بدأ يضم حوله مجموعة من الأتباع، وسرعان ما أخذت تعاليم التحليل النفسي في الانتشار واعترف بها علم النفس الأكاديمي وامتدت إلى مجالات أخرى مثل علم الاجتماع والأنثروبولوجيا والنقد الأدبي والفني والتربية.
وقد اختلف بعض أتباع فرويد معه ومن أبرزهم ألفريد أدلر وأوتو رانك (وهما يهوديان) وكارل يونج، وانتهى بهم الأمر إلى الانفصال عن مدرسته وتأسيس مدارس أخرى في التحليل النفسي.
وقد اختلف أدلر (1870 ـ 1937) مع فرويد حول مدى أهمية الغريزة الجنسية في تكوين الأمراض العصابية، ورأى أن « الشعور بالنقص » الذي ينشأ في الطفولة، سواء نتيجة ضعف أو نقص بدني أو متاعب وصعوبات في بيئة الطفل، هو السبب الأول في تكوين هذه الأمراض. واعتبر أن دافع القوة وتفرُّد الذات هو القوة الإيجابية المسيطرة على الحياة على خلاف فرويد الذي اعتبر الدافع الجنسي القوة المهمة الفعالة. وأطلق أدلر على نظريته الجديدة « علم النفس الفردي ».
أما أوتو رانك (1884 ـ 1939)، فظهر خلافه مع فرويد في كتابه الذي عزا فيه أسباب الأمراض العصابية إلى تجربة الميلاد نفسها حيث تمحورت نظريته حول الأم وعلاقة الابن بها. وبينما رأى فرويد أهمية فهم وإدراك الذات والتخلص من الأوهام، أكد رانك أهمية التعبير عن الذات وأهمية الأوهام وقيمتها العلاجية.
وقد أثارت حقيقة أن مؤسسي التحليل النفسي ورواده الأوائل كانوا جميعهم تقريباً من أعضاء الجماعات اليهودية كثيراً من الجدل حول مدى العلاقة بين ظهور نظرية التحليل النفسي ومضمونها والانتماء أو الأصل اليهودي، وذلك رغم أن فرويد وأتباعه كانوا من اليهود المندمجين وغير المتمسكين بممارسة الشعائر والتقاليد الدينية اليهودية، بل كانوا يسخرون من اليهود غير المندمجين، خصوصاً يهود شرق أوربا. وقد تنصَّر بعض أتباع فرويد حيث اعتنق أدلر البروتستانتية واعتنق رانك الكاثوليكية، لكن رانك عاد مرة أخرى إلى اليهودية عند زواجه. غير أن كل هذا لا ينفي وجود التأثير اليهودي في فكرهم، فرغم رفضهم العقلي لليهودية ورغم اندماجهم في بيئتهم الثقافية والاجتماعية إلا أن تكوينهم الثقافي والاجتماعي اليهودي الخاص كان له تأثير لا شك فيه على كلٍّ منهم يتفاوت من حالة إلى أخرى.
وقد تعدَّدت وتباينت التفسيرات في هذا الصدد، فذهب البعض مثل إرنست جونز أحد أتباع فرويد وكاتب سيرته الذاتية (وهو غير يهودي) إلى نفي أية أهمية أو دلالة للانتماء اليهودي لفرويد وأتباعه، ولكنه كان يرى أيضاً أن تمسك فرويد بنظريته وأفكاره (رغم المعارضة الشديدة التي واجهته) ينهض دليلاً على قدرة اليهود« الموروثة » على الصمود أمام العداء والرفض، وهو تفسير سطحي متهافت. وفي محاولة تفسير وجود عدد كبير من أعضاء الجماعات اليهودية كمؤسسين لعلم النفس والتحليل النفسي وكممارسين له، يمكننا أن نورد هذه الأسباب كمحاولة مبدئية:
1 ـ يُلاحَظ أن أعضاء الجماعات الوظيفية يوجدون في المجتمع وليسوا منه، وهو ما يطوِّر عندهم الحاسة النقدية بشكل قد يكون مرضياً وعدمياً أحياناً. وهم، نظراً لعدم تجذرهم في المجتمع، يهتمون بالنماذج الهامشية والمرضية وتصبح عندهم مقدرة غير عادية على فهمها والتعامل معها، خصوصاً أن عضو الجماعة الوظيفية عنده كفاءة في التعامل مع الآخر باعتباره موضوعاً أو مجرد حالة، باطنه مثل ظاهره، لا حرمة له ولا قداسـة، تتم دراسـتها ورصـدها وتوظيفها والاسـتفادة منها. وهذه القدرة على التعامل بشكل محايد ومتجرد مع خبايا النفس البشرية هي مقدرة لا تتوافر لكثير من البشر، وهي لابد أن تتوافر (بشكل أو بآخر) فيمن يود أن يضع أسس علم للنفس بحيث تُدرَس النفس البشرية كما تُدرَس الأشياء الطبيعية، أو حتى باعتبارها أمراً أكثر تركيباً. والواقع أن اضطلاع أعضاء الجماعات اليهودية بدور الجماعة الوظيفية جعل عندهم تقبلاً واستعداداً نفسياً وفلسفياً كامناً لأن يتركزوا في علم النفس وفي التحليل النفسي حينما ظهر هذا العلم. ولعل هذا هو ما أعرب عنه فرويد في محاضرة له أمام رابطة أبناء العهد (البناي بريت) عام 1926 حين قال إنه (باعتباره يهودياً) قد تحرَّر من التحيزات والآراء المسبقة التي تقيد الحرية الفكرية لغير اليهود (مثل الإيمان بقداسة الإنسان)، وأن كونه يهودياً يسَّر له الانضمام إلى الجبهة المعارضة لأفكار وفلسفات الأغلبية. وأعضاء الجماعة الوظيفية مغامرون يكتشفون الآفاق الجديدة ويحاولون فتح مجاهلها والاستفادة منها، ولابد أن علم النفس والتحليل النفسي كانا أحد المجالات الجديدة التي ارتادها الأطباء من أعضاء الجماعات اليهودية.
2 ـ ويمكن أيضاً أن نستخدم نموذج الحلولية (مقابل التوحيد) لتفسير تركز أعضاء الجماعات اليهودية في التحليل النفسي. ويمكن أن نذكر ابتداءً أن أعضاء الجماعة الوظيفية يتبنون رؤية حلولية للواقع (تضعهم داخل دائرة القداسة وتضع الآخر خارجها)، وأن القبَّالاه الحلولية سيطرت تماماً على اليهودية ابتداءً من منتصف القرن السابع عشر. والحلولية ترى أن الإله يحل في الإنسان والطبيعة ويتوحد بهما ويوحدهما بحيث يصبح الإله والإنسان والطبيعة شيئاً واحداً، وهذا يعني في واقع الأمر إلغاء كل الثنائيات بحيث يصبح الإنسان مادة مثل الطبيعة، يحوي داخله كل ما نحتاج إليه لفهمه وتفسيره، ويصبح سلوكه (البراني) وسيلة الوصول إلى عالمه (الجواني).
ويُلاحَظ أن النموذج الحلولي يدور دائماً حول الجنس (والأرض) وهذا ما حدث في القبَّالاه التي وُصفت بأنها تجنيس للإله وتأليه للجنس (بمعنى الغريزة الجنسية). ويُلاحَظ أخيراً أن المنظومة الحلولية ترتبط دائماً بالحل السحري وبمحاولة الوصول إلى الصيغة السحرية التي تشفي الآلام، كما أنها رؤية تتجاوز مقاييس الخير والشر وتدور في واقع الأمر حول مفاهيم مثل لذة الوصول ومتعة الذوبان. والرؤية الحلولية (خصوصاً في مرحلة الحلولية بدون إله ووحدة الوجود المادية) تخلق أيضاً استعداداً نفسياً كامناً لدى من يتحرك في إطارها لأن يتكشف علماً مثل علم النفس يحاول التعامل مع النفس البشرية باعتبارها كياناً مكتفياً بذاته لا يمكن الحكم عليه أخلاقياً. فمهمة المحلل النفسي أن يساعد المريض في أن يرى نفسه (أو يقبلها) خارج إطار المعايير الأخلاقية، معايير الخير والشر، وأن يتحرك داخل مفهوم تحقيق الذات وراحتها!
3 ـ ولعل الاتجاه المعادي للتاريخ وللوجود الإنساني داخل حدود التاريخ والمصاحب للرؤية الحلولية، والذي يمارسه أعضاء الجماعات الوظيفية بدرجات متفاوتة، ساهم هو الآخر في تعميق قابلية أعضاء الجماعات اليهودية للاشتغال بعلم النفس الذي تنحو كثير من اتجاهاته نحو تفسير سلوك الفرد في إطار معطيات نفسية ليس لها بالضرورة علاقة كبيرة بمعطيات التاريخ.
4 ـ لاحظ بعض الدارسين أن ثمة تشابهاً بين مناهج التفسير في اليهودية ومناهج التفسير في علم النفس. فالمفسرون اليهود كانوا يدورون في إطار الشريعة الشفوية، وهو مفهوم حلولي يساوي بين الوحي الإلهي (المكتوب) والاجتهاد البشري (الشفهي)، بل ويجعل الاجتهاد الشفوي أكثر أهمية وفعالية من النص المقدَّس. كما ظهر مفهوم التوازي بين توراة الخلق (العادية الظاهرة) وتوراة الفيض (الباطنة)، ولا يمكن التوصل إلى توراة الفيض إلا من خلال إعادة تفسير وتأويل النصوص الدينية الواضحة الظاهرة بحيث يتجاوز المفسر المعاني المباشرة ويعلو عليها ويصل إلى المعنى الباطني. وقد اعتمد التحليل النفسي أيضاً على المفسر الوسيط الذي يُحلل النص ليكتشف وراءه المعنى الباطني (الذي يشبه التوراة الشفوية أو حتى توراة الفيض).
5 ـ إذا كانت الحلولية تُلغي الثنائيات بحيث يصبح الإنسان جزءاً لا يتجزأ من الطبيعة/المادة، غير قادر على تجاوزها، فإن الانتماء إلى الجماعة الوظيفية يُنجز شيئاً مماثلاً، إذ أن عضو الجماعة الوظيفية يرى نفسه في إطار وظيفته بحيث لا يصبح له وجود خارجها، وغير قادر على تجاوزها. فالإنسان الحلولي والإنسان الوظيفي لهما بنية واحدة، رغم اختلاف المضامين، وجوهر هذه البنية هو الواحدية. ويخلق هذا الوضع استعداداً كامناً للعلمنة بين أعضاء الجماعات الوظيفية، فالعلمانية تدور حول مفهوم الإنسان الطبيعي الذي تدور حوله الفلسفة العقلانية المادية والذي يتفرَّع إلى الإنسان الاقتصادي (الوظيفي) الذي يدور حول الاقتصاد السياسي، والإنسان الجسماني أو الجنسي، الموضوع الأساسي لبعض أشكال علم النفس.
ولكن كل هذه الأسباب لا تجعل من أعضاء الجماعات اليهودية مسئولين عن ظهور علم النفس والتحليل النفسي. فهذه أمور مرتبطة بتطور الحضارة الغربية وعلمنة ظاهرة الإنسان بحيث تُلغَى كل الثنائيات ويُدرَس الإنسان في إطار غرائزه وسلوكه، ويحل مفهوم النفس (العلماني) محل مفهوم الروح (الديني).وتجب الإشارة هنا أيضاً إلى أن التحليل النفسي وُلد في فيينا التي كانت تُعَدُّ في نهاية القرن التاسع عشر مركزاً ثقافياً وفكرياً مهماً يموج بالعديد من النظريات والقيم والمعايير الجديدة في الفكر والأدب والفنون.وكان ظهور التحليل النفسي جزءاً من هذه العملية الانقلابية وأحد مظاهر التحولات الجديدة التي كانت تهدِّد القيم والأفكار السائدة حول الدين والإنسان والمجتمع.
وقد واجه التحليل النفسي هجوماً حاداً بسبب ما كان يشكله من تهديد للمفاهيم السائدة حول السلوك البشري بشكل عام والسلوك الجنسي بشكل خاص. ولأن رواده كان أغلبهم من أعضاء الجماعات اليهودية، فقد تضـاعف الهـجوم عليه من قبل المعادين لليهود. ومع مجيء النازية إلى أوربا، انتقل كثير من علماء النفس الأوربيين اليهود إلى الولايات المتحدة.
ولم يكن أعضاء الجماعات اليهودية من رواد التحليل النفسي في الولايات المتحدة، ولم يبدأوا في دخول هذا المجال بشكل واسع إلا بعد انتقال علماء النفس اليهود الأوربيين إلى الولايات المتحدة. إذ انتقلت معهم أيضاً بعض مدارس علم النفس الأكاديمي المهمة مثل الجشطالت. وكان لأعضاء الجماعات اليهودية، خصوصاً في الولايات المتحدة، مساهمات مهمة ومتنوعة في بلورة النظريات الخاصة بعلم النفس في الفترة المعاصرة. ويُلاحَظ أن التحليل النفسي منتشر في الوقت الحاضر في أمريكا اللاتينية، خصوصاً في الأرجنتين، لكن أعضاء الجماعات اليهودية لم يلعبوا دوراً فكرياً مهماً داخل هذا التشكيل الحضاري.
وقد كان من بين الأجيال الأولى للمحللين النفسيين من أعضاء الجماعات اليهودية مَنْ تعاطفوا مع الصهيونية وأيدوها مثل سيجفريد بيرنفلد الذي ساهم في تنظيم الشباب الصهيوني في ألمانيا. وماكس إيتنجتون، الذي أسس أول معهد تدريبي وأول عيادة للتحليل النفسي في برلين عام 1920، ثم استقر في فلسطين عام 1933 وأسس بها جمعية ومعهداً للتحليل النفسي لا يزالان موجودين حتى الآن. ولكن هناك من المحللين النفسيين من أعضاء الجماعات اليهودية مَن رفض الصهيونية أو لم يكترث بها أصلاً. والشخصيات الواردة في هذا القسم تقع كلها (باستثناء فرتايمر) في مجال التحليل النفسي والطب النفسي، وهي تختلف عن مجال علم النفس الأكاديمي بمعناه الدقيق. إلا أن اختيار «علم النفـس» في الـعنوان جاء جرياً مـع التقليد الشائع بضم هذه التخصـصات تحـت ما يُعرف بالعـلوم النفسـية أو الفـكر النفـسي بوجه عام.
ساجدة لله
2010-10-27, 05:45 AM
سيجموند فرويد (1856-1939) حياته وسياقها الغربي واليهودي الفكري
Sigmund Freud: His Biography and His Intllectual Western and Jewish Con####
مفكر من أعضاء الجماعة اليهودية في النمسا ومؤسس مدرسة التحليل النفسي، ويُعَدُّ من أهم المفكرين الغربيين، إن لم يكن أهمهم طُراً، لا يضارعه في مكانته (في رأي البعض) سوى كارل ماركس. وكما قال جاك لاكان إن ماركس وفرويد فسَّرا أهم عمليتين في المجتمع الإنساني، وهما الإنتاج والتكاثر (بالإنجليزية: برودكشن آند ربرودكشن production and reproduction) (الإنسان الاقتصادي الذي تحركه وسائل الإنتاج، والإنسان الجسماني الذي يحركه اللبيدو). وقد أثّر التحليل النفسي في معظم المدارس والاتجاهات الفكرية الغربية الحديث، حتى أن كثيراً من أفكار فرويد أصبحت بُعداً أساسياً في الخطاب الحضاري الغربي الحديثة. ولعل النسق الفرويدي من أهم الأنساق المعرفية التي وضعت أساس النسبية الأخلاقية التي أصبحت سمة أساسية في رؤية الإنسان الغربي للكون. وقد اكتسب فرويد مزيداً من الأهمية والمركزية بعد سقوط الاتحاد السوفيتي (والمنظومة الماركسية) ومع شيوع فكر ما بعد الحداثة والتمركز حول الأنثى والاهتمام المتزايد بالجسد والجنس والإنسان الجسماني في الحضارة الغربية الحديثة.
ارتبطت حركة التحليل النفسي ارتباطاً وثيقاً بالسيرة الذاتية لمؤسسها. وُلد فرويد في مدينة فرايبورج بمورافيا (الآن في التشيك)، وهي مدينة صغيرة في الإمبراطورية النمساوية/المجرية (متعددة الجنسيات والحضارات). وقد سُمِّي فرويد باسمين: اسم بولندي، «سيجسموند»؛ واسم عبري، «شلومو»، أي سليمان (تماماً مثل هرتزل الذي كان يُسمَّى «تيودور» و«بنيامين»(.
كان أبو فرويد يعمل بتجارة الصوف ولم يحالفه النجاح في تجارته فاضطر للانتقال إلى لايبزيج ثم إلى فيينا بحثاً عن الحراك الاجتماعي (كان فرويد يبلغ من العمر أربع سنوات حينما استقرت الأسرة في فيينا وبقي فيها بقية حياته). وكانت خلفية أبويه حسيدية، وأمه على وجه الخصوص جاءت من برودي (في جاليشيا) أحـد أهـم المعـاقل الحسـدية، وكان جـدها الأكبر تسـاديك حسيدي. وكان أبوها أحـد تلاميذ الواعظ أدولف جلينيك (1820 ـ 1893) القبَّالي الشهير، والذي كان يُلقي محاضراته في فيينا. ورغم هـذه الخلفـية الحسـيدية الأرثوذكسـية تزوج الأبـوان على يـد حاخـام إصـلاحي، فالأب كان قد فقد إيمانه الديني بعد أن هبت عليه رياح الاسـتنارة وأصـبح يؤمن إيمـاناً مطلقـاً بالعلم والعـقل (المـادي(.
كان أبو فرويد يكبر أمه بحوالي عشرين عاماً، وكان يتسم بالجمود والديكتاتورية (ولذا كان لا يذكره بالخير)، على عكس الأم التي وصفها فرويد بأنها كانت حنونة، وكان ينسب لها كل الصفات الحميدة. ويبدو أنه كان مستحوذاً على حب أمه إلى أن وُلد أخوه جوليوس فأحس فرويد نحوه بالكره العميق، ولكن حينما مات الأخ فجأة شعر فرويد بالذنب. وذكر فرويد أنه رأى أمه عارية فأثارته جنسياً، كما دخل مرة وهو في سن السابعة وتبول في غرفة نوم والديه. ويبدو أن علاقته بمربيته الكاثوليكية كانت تتسم بقدر كبير من الإبهام إذ كان يحبها ويكرهها في آن واحد، وكثيراً ما كانت تصحبه إلى الكنيسة. ويبدو أن الأبوين اهتما بفرويد على حساب إخوته بسبب نبوغه الملحوظ، ولذا كانت غرفته الغرفة الوحيدة المزودة بمصباح كيروسين (على عكس الغرف الأخرى المزودة بشموع). كما مُنع إخوته الآخرون من أن يتعلموا الموسيقى حتى لا يزعجوا أخاهم أثناء التدريب.
لم يذهب فرويد إلى المدرسة إلا بعد أن ناهز العاشرة من عمره فتعلم القراءة والكتابة والحساب في البيت. وبرع في عدد من اللغات منها اللاتينية واليونانية والإنجليزية، كما تعلم العبرية (وإن كان قد أنكر هذه الحقيقة فيما بعد)، ودرس التوراة والعقيدة اليهودية في سن مبكرة.
وفي عام 1873 التحق فرويد بجامعة فيينا حيث درس الطب، ولم يكن متحمساً لدراسته بيد أنه قضى جل هذه الفترة داخل معمل الفسيولوجيا، وكان أستاذه بروكه (مدير معهد الفسيولوجيا بالجامعة) من زعماء مدرسة هلمهولتز الطبية ذات المنحى المادي المتطرف. وركز فرويد في دراساته على العلوم الأساسية كالتشريح وعلم وظائف الأعضاء. بدأ فرويد عام 1873 أول سلسلة من أبحاثه العلمية الأصيلة حيث قام بدراسة الغدد التناسلية الذكرية لثعبان الماء، وقام بإجراء دراسات أخرى في مجال الأعصاب. كما أجرى بعض التجارب عن الكوكايين وكان هو نفسه يتعاطاه ويقدمه لخطيبته وأصدقائه، ووجد أنه يشفي من الاكتئاب ويساعد على التغلب على عُسر الهضم. ونشر عام 1884 ورقة بعنوان « حول الكوكا » تحدث فيها عن خواص الكوكايين التخديرية وربط بين استخداماته العلاجية وبين الممارسات الدينية لمواطني أمريكا الجنوبية وكان فرويد يتصور أنه اكتشف عقاراً سحرياً يشفي كل شيء وأنه من ثم سيتمكن من خلاله أن يحقق لنفسه الشهرة التي كان يبحث عنها. ولكن حينما عرفت المؤسسة الطبية بأمر تجاربه،وُجّه إليه نقد شديد لاستخدامه الكوكايين خارج نطاق العمليات الجراحية.
فكر فرويد في أن يستمر في أبحاثه داخل إطار الجامعة وأن يحصل على وظيفة أكاديمية، ولكنه اضطر إلى التخلي عن مشروعه بسبب فقره وعدم استطاعته تحمل الأعباء المالية للبحث الأكاديمي في انتظار الأستاذية. وقد تفاقم الأمر إذ التقى بخطيبته مارثا بيرنايز وتفاهما على الزواج الأمر الذي كان سيكلفه الكثير. (ومع هذا يذهب البعض إلى أن معاداة اليهود المتفشية في الأوساط الأكاديمية النمساوية في هذا الوقت هي التي دفعته إلى قبول نصيحة أستاذه بروكه بأن يترك العمل الأكاديمي ويتجه إلى ممارسة الطب). ولم يكن القرار الذي اتخذه فرويد سهلاً إذ وجد نفسه يستبدل العلم التطبيقي بالعلم البحثي. ومع هذا اهتم أثناء فترة تدريبه في المستشفى بموضوعات مثل الجهاز العصبي والشلل ومرض عدم النطق (التي نشر عنها بحثاً عام 1891).
وكجزء من تدريبه سافر فرويد إلى فرنسا عام 1885، حيث اتصل بعدد من الأطباء الفرنسيين المتخصصين في الأمراض النفسية وعلى رأسهم شاركو وبيير جانيه، وكانـوا في علاجهم الأمراض العقليـة يسـتعملون التنـويم المغناطيسي (ولنُلاحظ النمط المتكرر: المخدرات والعلاج النفسي ـ التنويم المغناطيسي والعلاج النفسي ـ وأخيراً العلاج النفسي من خلال دراسة اللاوعي). فاهتم فرويد بهذه الطريقة واكتشف أن من الممكن، في أحوال كثيرة، جعل المريض يتذكر حوادث ومشاعر يبدو أنها كانت سبباً في إحداث أعراض مَرَضية عصبية أو نفسية. فاستنتج من هذا أن استعادة مثل هذه الذكريات وما صاحبها من تجارب انفعالية تفيد في علاج المريض، لأنه وجد أن أعراض المرض غالباً ما كانت تختفي متى كان التذكر ممكناً. وقد عرف من شاركو فكرة الارتباط بين المرض النفسي والجنس.
وبعد عودة فرويد إلى فيينا عام 1886 توثقت علاقته مع جوزيف بروير الذي كان قد أجرى بعض المحاولات لعلاج المرضى المصابين بالهستريا. وقد سعى فرويد بالتعاون مع بروير إلى إكمال هذه الطريقة لكن تبيَّن لهما أن التنويم المغناطيسي لا يُفيد إلا في مساعدة المريض على التذكر واستعادة التجارب التي أدَّت إلى المرض. وبمزيد من التجارب تبيَّن لبروير أن بالإمكان الاستعاضة عن التنويم المغناطيسي بما سماه أحد مرضاه «العلاج بالمحادثة»، وذلك بأن يتحادث مع المريض في موضوعات انفعالية دون الاستعانة بالتنويم المغناطيسي.
ولنا أن نُلاحظ أن علاقة الطبيب الذي يستخدم التنويم المغناطيسي مع مرضاه لا تختلف كثيراً عن علاقة المحلل النفسي بمرضاه، فكلٌ من المنوم المغناطيسي والمحلل يأخذ دور الإرادة الأعلى، فهو السوبرمان، والمريض السبمان لا يمكنه أن يَشفَى إلا بأن يتخلى عما بقي لديه من إرادة، ويذعن لإرادة المنوم المتأله تماماً، ويفضي بما داخله فيتطهر، وعملية التطهر، في حالة المحـلل النفـسي، تتم من خلال التفسير. بحيث يدرك المريض نفسه من خلال تفسير طبيبه النفسي.
وشهد عام 1895 صدور كتاب بروير وفرويد دراسات عن الهستريا الذي تكمن فيه البذرة الأولى التي نبتت منها فيما بعد نظرية التحليل النفسي في عقل فرويد. (ويذهب البعض إلى أن عام 1895 هو تاريخ ميلاد التحليل النفسي). وقد عرض المؤلفان في المقدمة المشتركة التي كتباها الخطوط العامة لنظريتهما التي ركزت على دلالة الانفعالات وأهمية التمييز بين الأحداث العقلية الشعورية واللا شعورية. وكان المؤلفان يتحركان في إطار كمي إذ أكدا أن «الطاقة النفسية» كمية ثابتة لابد أن تجد لنفسها مُتنفَّساً طبيعياً فإن لم تجده عبَّرت عن نفسها بطريقة غير سوية. ومن ثم يكون منهج العلاج النفسي عن طريق التنفيس هو البحث عن هذا المسار السوي وتفريغ العواطف من خلاله.
لكن بروير وجد المناقشات مع المرضى حول التفاصيل الشخصية والجنسية لحالتهم أمراً محيراً وغير واضح. على عكس فرويد الذي وجد في أقوال مرضاه وردود أفعالهم مفاتيح يمكن استخدامها في العلاج. وقد أدَّى عدم اقتناع بروير بما يقوله فرويد عن الدور الحاسم للجنس في المرض النفسي إلى قطيعة بين الاثنين عام 1896 (وهذا نمط سنلاحظه في حياة فرويد: إصراره العقائدي على الواحدية الجنسية كنموذج تفسيري، ورفض كل اعتراض على هذه الواحدية، مثل موقفه مع يونج وأدلر فيما بعد، اللذين شككا في هذه الواحدية التفسيرية).
وشهد عام 1900 إنجاز فرويد كتابه الأم تفسير الأحلام ويمثل هذا الكتاب نقطة تحول درامية مهمة في حياته إذ يطرح فيه أول ملامح نظريته النفسية،ويتحدث عن بناء الجهاز النفسي وتقسيمه إلى مناطق سماها الشعور واللاشعور، وعن نظريته في الكبت. ويذخر الكتاب بأحـلام فرويد وأحـلام غيره محللـة بطريقته التي أسماها «التداعي الطليق»، كما قدَّم في هذا الكتاب مفهوم مُركَّب أوديب.
وشهد عام 1904 صدور كتاب علم أمراض النفس في الحياة اليومية، كما صدر في العام الذي يليه كتاب النكتة وعلاقتها باللا شعور. وبيَّن فرويد في هذين الكتابين أن الحيل التي وجدها في العصاب والأحلام تعمل أيضاً في كثير من زلات القلم أو اللسان أو اليد أو الذاكرة التي تصادفها في الحياة اليومية والتي تُعزَى عموماً إلى «الصدفة» أو التداعي الخاطئ أو إلى بعض العوامل العامة كالتعب. والأمر نفسه يسري على القفشات والنكت والفكاهات.
وفي عام 1905 صدر كتاب ثلاث مقالات في النظرية الجنسية (الذي يُعدُّ أهم أعماله) حيث يطرح ملامح نظريته النفسية بشكل أوَّلي، ويتحدث عن الثنائية الجنسية والجنسية الطفلية ومراحل تطور النفس البشرية (المرحلة الفمية ـ المرحلة الشرجية ـ المرحلة القضيبية ـ فترة الكمون).
ومما يجدر ذكره أن فرويد على المستوى الشخصي كان ينظر للجنس نظرة سلبية. وكان يحذر دائماً من خطر الجنس ويرى أن الناس يجب عليهم أن يتجاوزوا « هذه الحاجة الحيوانية المشتركة »، فالفعل الجنسي ـ في تصوره ـ منحط، ويلوث العقل والجسد. ومنذ عام 1897 حينما كان يبلغ من العمر 41 عاماً كتب يقول إنه أقلع هو شخصياً عن ممارسة الجنس.
وفي عام 1902 بدأ فرويد حلقة النقاش الأسبوعية التي كانت تحضرها مجموعة خلصائه ومنهم يونج وأدلر ورانك وجونز وأبراهام وإيتنجتون ورايك وفيتلز وفرنزي وغيرهم.
وفي عام 1909زارفرويد الولايات المتحدة وازدادت شهرته الدولية وألقى سلسلة محاضرات كلارك الشرفية، التي صدرت في كتاب محاضرات تمهيدية في التحليل النفسي الذي يبسط فيه رؤيته العامة للتحليل النفسي وفكرة الأنا والأنا الأعلى والهو. وفي عام 1911 أُسِّست الجمعية الدولية للتحليل النفسي وانتُخب يونج رئيساً لها بدعم من فرويد. ولكنها شهدت عام 1914 انشقاق أدلر ويونج، فقد اهتم أدلر بدور العدوان، غاضاً من شأن الناحية الجنسية واهتم بدور الأنا مغفلاً اللاشعور وركز على الجانب الجماعي والاجتماعي، أما يونج فقد عارض اللاشعور الفردي باللاشعور الجمعي وعارض التفسير الجنسي لمُركَّب أوديب بتفسير رمزي لها.
وشهد عام 1913 نشر كتاب الطوطم والتابو وهو أول كتاب يخرج بالتحليل النفسي من إطار الممارسة العيادية إلى فضاء الفلسفة الكونية والرؤية الحضارية. ويفترض فرويد في الكتاب أن أصل فكرة الطوطم هو الأب القوي الذي اتحد ضده الأبناء وقتلوه وأكلوا لحمه نيئاً في محاولة للتوحد معه، وأن الحيوان الطوطمي بديل الأب المقتول. ويؤكد الكتاب فكرة العلاقة بين بناء الأسطورة وبناء المرض النفسي.
وفي عام 1914 نشر فرويد بحثاً في مجلة إيماجو (مجلة الجمعية الدولية للتحليل النفسي) حول تمثال موسى لمايكل أنجلو ونُشر البحث بدون اسم، وهو محاولة لتفسير تمثال مايكل أنجلو من منظور التحليل النفسي.
ونشر عام 1915 بحثاً متخصصاً بعنوان الحب الطرحي وكتاباً بعنوان مستقبل وهم الذي يحارب فيه فكرة الدين ويُبيِّن أن التحليل النفسي آخر ضربة يوجهها العلم للدين باعتباره وهماً تعويضياً للبشر.
وشهد عام 1918 (أي في أعقاب الحرب العالمية الأولى) كتاب الحضارة ومنغصاتها وهو كتاب متشائم ملئ بالكآبة يرى أن الحرب حتمية وضرورة نفسية.
وقد صيغت تعديلات رئيسية في النظرية الفرويدية ابتداءً من عام 1920، وتقابل النظرية الفرويدية الجديدة في الغرائز بين غرائز الحياة (إيروس) وغرائز الموت والعدوان (ثناتوس). (بينما كان التقسيم السابق يضع الأنا مقابل اللبيدو أو الهو). وفي كتاب ما وراء مبدأ اللذة (1920) استند فرويد إلى ما أسماه إجبار التكرار وإلى اعتبارات بيولوجية في القول بوجود نزعة بدائية للتدمير الذاتي.
وفي عام 1934 بدأ فرويد يكتب كتاب موسى والتوحيد (الذي لم يُنشَر إلا عام 1939 قبل موته ببضعة أشهر). وبعد ظهور النازية اضطر فرويد لمغادرة النمسا إلى لندن حيث وافته المنية يوم 21 سبتمبر 1939.
قد يكون من الضروري أن نضع فرويد في سياقه الحضاري (الاجتماعي ـ الاقتصادي ـ الفلسفي ـ السياسي) العام حتى نفهم نظريته وندرك أبعادهـا. وهـذا أمر مهم بالنسـبة لأية نظرية أو نتـاج فكري، ولكن الأمر بالنسبة لفرويد أكثر إلحاحاً لعدة أسباب:
1 ـ يرتبط التحليل النفسي بفرويد ارتباطاً قوياً، الأمر الذي أدَّى بالكثيرين إلى افتراض يجعل حياة فرويد الشخصية السياق الوحيد للتحليل النفسي.
2 ـ كان فرويد يربط أحياناً بين التحليل النفسي وانتمائه اليهودي.
3 ـ يتلبس التحليل النفسي بلباس الموضوعية والعالمية وكأنه يقترب في دقته وحياده من العلوم الطبيعية المتجردة من الزمان والمكان، الأمر الذي يجعل كثيراً من الباحثين يغفلون عن الأبعاد الحضارية الغربية للتحليل النفسي.
4 ـ يستخدم التحليل النفسي مجموعة من الرموز والمصطلحات (مُركَّب أوديب ـ الأنا ـ الهو ـ اللاشعور ـ النرجسية ـ المرحلة الشرجية) التي تضفي هالة من العالمية على التحليل النفسي، وكأنه ليس ذا سياق حضاري محدد.
والسياق الحضاري لنظريات التحليل النفسي هو الحضارة الغربية الحديثة في العقود الأخيرة في القرن التاسع عشر، التي هيمنت عليها العلمانية الشاملة (وحدة الوجود المادية) باعتبارها رؤية للكون. وقد تفرَّعت عنها أيديولوجيات وظواهر أخرى مثل الإمبريالية والعنصرية والصهيونية، وهي جميعاً تنويعات على الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية الشاملة. ونحن نَصف العلمانية الشاملة بأنها رؤية حلولية كمونية واحدية مادية ترى أن مركز العالم كامن فيه، وأن كل ما يلزم لتفسيره يوجد بداخله، وهو ما يعني أن العالم إن هو إلا مادة قابلة للحوسلة، وأن كل الظواهر، وضمنها الإنسان، تُفسَّر في إطار قوانين الحركة المادية، أي أن الإنسان يتم تفكيكه ثم رده إلى عنصر مادي واحد أو إلى بضعة عناصر مادية، فهو كائن طبيعي/مادي غير قادر على تجاوز قوانين الطبيعة/المادة.
العالم الطبيعي/المادي إذن هو نقطة البداية والنهاية في الحلولية الواحدية المادية، أي العلمانية الشاملة. ويبدأ النموذج الحلولي عادةً بإعلان أن الإنسان مركز الكون، وموضع الحلول والكمون. ولكنه سرعان ما يبتلعه الكون ليصبح مجرد جزء لا يتجزأ منه، تحركه القوى الطبيعية المادية ويذعن لقوانينها تماماً، فلا حول له ولا قوة ولا إرادة. ولذا نجد أن نظريات القرن التاسع عشر كانت تحاول قدر طاقتها أن تكتشف القانون العام الذي يحكم كل الظواهر الطبيعية المادية وأن تصل إلى النموذج القابل للتكرار بكل دقة وانتظام. وقد وصل هذا الاتجاه إلى ذروته في محاولة أينشتاين العقيمة الوصول إلى القانون الموحَّد الذي يربط جميع مجالات الطبيعة.
وقد انطلقت مدرسة هلمهولتز (التي ينتمي إليها إرنست بروكه الذي ترك في نفس فرويد أثراً عميقاً لا يضارعه ما تركه غيره من الناس في نفسه طوال حياته كلها) من هذه الحلولية المادية الصارمة التي لا تعرف أية ثغرات أو انقطاعات. وقد لخص ديبو ريموند، أحد أعضاء هذه المدرسة، مبادئها في الكلمات التالية: « لا يوجد في جسم الإنسان من أنواع الطاقة الفعالة سوى الطاقات الفيزيائية والكيمائية العادية. ففي الحالات التي لا يمكن تفسيرها حالياً بهذه الطاقات علينا إما أن نكتشف الطريقة الخاصة لفعلها بواسطة المنهج الفيزيائي الرياضي أو أن نفترض وجود قوى جديدة مماثلة في مرتبتها للقوى الكيمائية الفيزيائية المطبوعة في المادة، يمكن ردها إلى قوة الجذب والطرد »، أي أن الإنسان إن هو إلا جسد مادي محض، تحركه قوانين الحركة.
وقد ارتبط بهذا الاتجاه المادي الصارم اتجاهاً تطورياً، فقد كان أتباع مدرسة هلمهولتز يذهبون إلى أن أية وحدة في عالم الكائنات، حيواناً كانت أو إنساناً، هو عضو في أسرة واحدة اختلفت مظاهرها بحكم عملية التطور، وهو تطور طبيعي مادي ولذا « لا توجد أرواح أو جواهر أو صور كاملة، ولا توجد خطط عليا أو أغراض نهائية تؤثِّر في هـذا العالم. والطـاقات الطبيعية هي وحدها العلل فيما نشهد من معلومات ». كل هذا يعني في واقع الأمر رفض كل ما ليس مادياً رفضاً كاملاً، بالمعنى الصارم والمباشر للكلمة، كما يعني رفض محاولات العقل البشري تجاوز عالم الطبيعة/المادة أو أنسنته عن طريق إسقاط المشاعر الإنسانية عليه. وهكذا يَضمُر الإنساني ويذوي ثم يختفي وتصبح المرجعية الوحيدة هي الطبيعة/المادة، وهي مرجعية كمونية مادية تجعل القوى المادية الكامنة في الطبيعة المحرك الوحيد للتاريخ، وتجعل الصراع من أجل البقاء المادي جوهر الحياة، وتجعل القيم الإنسانية والأخلاقية مجرد مُعوِّقات في طريق التطور الطبيعي/المادي.
في هذا الإطار الطبيعي/المادي تظهر نظرية المنفعة (واللذة) التي تجعل الهدف النهائي، وربما الوحيد، للحياة تحقيق اللذة، كما يظهر مفهوم الحتمية المادية، حجر الأساس بالنسبة للعديد من نظريات وأيديولوجيات القرن التاسع عشر. لكن الحتمية المادية الصارمة تعني في واقع الأمر ظهور الإنسان أحادي البُعد الذي يُحركه عنصر واحد أو عنصران ماديان مثل العنصر الاقتصادي أو العنصر الجنسي. فظهر علم النفس الترابطي الآلي الذي يُفسِّر الإنسان في كليته باعتباره كائناً بسيطاً يدخل بقضه وقضيضه في شبكة السببية المادية الصلبة (وفيما بعد ظهر بافلوف والمدرسـة السـلوكية تعـبيراً عن هذا الاتجاه الاختزالي نفـسه).
ولكن هذه الهيمنة الكاملة للعقلانية المادية تعني في واقع الأمر ظهور اللاعقلانية المادية، فضمور الإنسان باعتباره كائناً حراً مسئولاً عن أفعاله، مستقلاً عن الطبيعة، يعني في واقع الأمر أن العقل الإنساني عديم الجدوى وكذلك القيم الإنسانية والفعل الإنساني، وهذا يعني حتمية ظهور نموذج آخر يملأ هذا الفراغ. وبالفعل شهدت أوربا تدريجياً ظهور فكرة اللاشعور وبدأ الاهتمام بالتنويم المغناطيسي (ومما يجدر ذكره أن الاهتمام بالسحر والتنجيم أخذ هو الآخر في التزايد، ومما هو معروف أن كثيراً من رواد حركة الحداثة في الفن كانوا يترددون على مدام بلاتافسكي العرّافة). وقد شاعت فلسفة شوبنهاور (التصوفية الحلولية) وفلسفة نيتشه التي تمجد الفرد والإرادة، وفلسفات القوة التي تمجد السوبرمان الإمبريالي، وتدعو ضمناً السبمان، أحادي البُعد، إلى أن يذعن للقوانين الطبيعية وقوانين الواقع، وهو ما كرسته كثير من الفلسفات المادية الواقعية مثل البرجماتية.
وقد ظهرت مجموعة من المفكرين العلمانيين ممن أدركوا الجوانب المظلمة للاستنارة والجوانب التفكيكية للمشروع التحديثي في الإطار المادي، وممن أيقنوا أن عملية التقدم التراكمية قد اكتسبت حركية مستقلة ولم يَعُد الإنسان يتحكم فيها. وقد عبَّر هذا عن نفسه في موضوع « مأساة الحضارة » الذي عبَّر عنه ماكس فيبر أحسن تعبير، فقد كان يرى أن عبقرية الحضارة الغربية تكمن في اتجاهها نحو الترشيد، ولكنه اكتشف أيضاً أن تزايد معدلات الترشيد تنتهي إلى الترشيد الإجرائي المنفصل عن القيمة وعن الإنسان، والذي ينتهي بأن يُودَع الإنسان في القفص الحديدي التكنوقراطي البيروقراطي، فكأن التراكم الحضاري يؤدي إلى الضمور الإنساني. وهذه النزعة التشاؤمية لم تكن مقصـورة على فيبر، بل نجدها في كتابات زيميل وكارلايل وغيرهما، وتم التعبير عنها في مفاهيم مثل التشيؤ والتسلّع والعقلانية التكنولوجية. وإشكالية مأساة الحضارة هي تعبير عن إدراك بعض المفكرين الغربيين قضية تَداخُل العقلانية المادية واللاعقلانية المادية.
وتتضح المادية (بشكلها العقلاني واللاعقلاني) في ظهور النسبية الأخلاقية واختفاء فكرة الإنسان الحر المسئول أخلاقياً، القادر على تجاوز ذاته وتجاوز بيئته. فالجريمة أثر سلبي من آثار البيئة، أو مجرد اضطراب نفسي ناجم عن اضطراب عضوي أو قوى نفسية معيَّنة لا يستطيع الإنسان التحكم فيها. وقد عبَّرت هذه النسبية الأخلاقية عن نفسها في الأخلاقيات السائدة في مدينة فيينا (المدينة التي وُلدت فيها حركة الحداثة الأدبية والفنية) فساد جو من الإباحية وظهرت عدة دراسات تنطلق من الجنس باعتباره المحرك الأول وعن دور الجنس عند الأطفال وأثر الكبت على الصحة العقلية والجنسية. وترددت كلمات مثل «اللبيدو» و«كاثارسيس (تَطهُّر)».
ومما يجدر ذكره أن الجماعة اليهودية التي كان فرويد ينتمي إليها كانت تتسم بقدر عال من التحلل الخُلقي والاجتماعي. فيهود فيينا كانوا أساساً من يهود اليديشية الذين دخلوا مرحلة الانحلال الاجتماعي والثقافي بعد تَعرُّضهم لعمليات العلمنة الشرسة والجذرية التي قامت بها الحكومات المطلقة (في روسيا وألمانيا والإمبراطورية النمساوية/المجرية) وبعد دخول اليهودية الحاخامية مرحلة الأزمة، وبعد هيمنة المنظومة القبَّالية الحلولية، فتحولوا من جماعة متماسكة إثنياً ودينياً إلى جماعة مُفكَّكة. فكانت عند يهود المجر واحدة من أعلى نسب الأطفال غير الشرعيين، أما الجماعة اليهودية في جاليشيا (التي أتى منها والدا فرويد) فكانت تُعدُّ من أكبر مصادر البغايا في العالم كما سادت فيها أكبر نسبة تكاثر بين اليهود (ولذا كان يُقال لها باللاتينية «فاجينا جودايوروم» أي «فرج اليهود»). فالسياق اليهودي لم يكن يختلف كثيراً عن السياق الغربي العلماني الشامل.
وفرويد هو ابن عصره، فرؤيته للكون حلولية واحدية مادية، علمانية شاملة، تدور حول فكرة الإنسان الطبيعي/المادي في جانبيه العقلاني واللاعقلاني، وقد تأثر بداروين ومدرسة هلهمولتز ورؤية جوته الحلولية للطبيعة. قال جوته في مقال عن الطبيعة: "أيتها الطبيعة أستحلفك مرات ومرات أن تقدمي لنا الإجابة عن كل أسرارك". فالسر ليس سراً وإنما هو ظاهرة طبيعية/مادية ويمكن اكتشافه، وحينئذ يصبح قانوناً عاماً (كان فرويد يتصور أن علم الأعصاب سيكتشف الأساس الفسيولوجي لتصوره للنفس البشرية)، فالإنسان كائن طبيعي/مادي، تخضع حركاته وسكناته لقوانين الطبيعة. ومن ثم فالسلوك الإنساني ليس عشوائياً، بل إن الظواهر النفسية، سواء كانت أعراض مرض أو سـقطات ذاكرة أو عثرات لسـان، قد تبدو كأنها لا معـنى لها وغير مفهومة، يسودها الاعتباط والتفكك أو الصدفة، ولكنها في واقع الأمر ظواهر لها معنى يمكن اكتشافه، فهي نتيجة منطقية للأسباب التي ارتبطت بها وأدَّت إليها. لذا فالسلوك الإنساني يتبع نمطاً محدداً له معنى كامن يمكن اكتشافه ودراسته بشكل علمي منهجي، تماماً كما تُدرَس الكائنات الأخرى مثل الحيوان. ومن هنا حديث فرويد عن «الجهاز النفسي» وكأن نفس الإنسان لا تختلف عن الجهاز التنفسي والهضمي والتناسلي. واستخدام مثل هذا المصطلح ينم عن رغبة فرويد الشديدة في تحقيق هدفه الأسمى ألا وهو الوصول بالتحليل النفسي إلى حالة العلم العام أو العلم الحقيقي (كما كان يقول). وقد كان يعتبر حالات تفسير الأحلام كعملية جمع المادة العلمية. ورغم أن التجربة المضبوطة مستحيلة في حالته إلا أنه كان يتصور أنه يستعيض عنها بقدرة المحلل على التقدير والتخمين. وقد حاول فرويد كذلك أن يجد الأصل العضوي (أي الأساس العلمي المادي الواقعي) لهذا الجهاز النفسي. بل إنه في عمل مثل ما فوق مبدأ اللذة حاول أن يجد الأصل الإمبريولوجي التشريحي لانفصال الأنا عن الهو.
وهذه جميعاً محاولات لإخضاع الإنسان للقانون الطبيعي/المادي وإدخاله شبكة السببية المادية الصلبة بحيث يمكن تفسيره في كل أبعاده من خلال عنصر واحد أو عنصرين، فهو إنسان أحادي البُعد خاضع للحتميات المادية، لا يملك من أمر نفسه شيئاً.
عند هذه النقطة تتحول عقلانية فرويد المادية إلى لا عقلانية مادية إذ تصبح عقلانية الإجراءات ولا عقلانية الرؤية (وهذه سمة عامة في الحضارة الغربية الحديثة لاحظها ماكس فيبر وغيره من المفكرين الغربيين). فإنسان فرويد الطبيعي يشبه من بعض النواحي إنسان آدم سـميث (وماركـس) الاقتـصادي، فكلاهما تحركه العناصر المادية الواحدية، وكلاهما خاضع لحتميات السوق أو الجسد، وكلاهما لا تحركه رغبة اجتماعية في التواصل أو رغبة إنسانية في التراحم. ورغم نقاط التماثل الواضحة هذه، إلا أنه ثمة نقطة اختلاف أساسية، فالإنسان الاقتصادي يتحرك في فضاء حضاري، فهو على الأقل يتحرك في السوق يجيد فهم آليات البيع والشراء. أما إنسان فرويد الجسماني فهو يتحرك في فضاء لا تاريخي لا إنساني، فركيزة النسق الفرويدي الأساسية، اللوجوس الحقيقي والنهائي، هو الإيروس (بل إنه هو التيلوس أيضاً فهو الأساس والمحرك والهدف). ويحاول فرويد أحياناً أن يوسِّع نطاق الدوال «جنس» و«لذة» و«لبيدو» و«إيروس» ليشمل كل مجالات الحياة (الحب ـ العمل... إلخ)، (تماماً كما يفعل بعض الماركسيين مع الدال «اقتصاد» أو «علاقات الإنتاج»). ولكن الجنس الرابض داخل الإنسان وما يرتبط به من نتائج (مثل مركَّب أوديب - مراحل تطور الشخصية البشرية) يظل الركيزة الأساسية في نهاية الأمر والمطاف. بل إن فرويد عمَّق البُعد اللاتاريخي واللااجتماعي في نظريته حينما عدَّل رؤيته، فبعد أن كان هناك صراع بين الأنا (ذات البُعد الاجتماعي) واللبيدو، أصبحت المسألة هي الصراع بين الإيروس والثاناتوس، وكلاهما يوجد في عالم القوى اللاتاريخية. وعلى كل فهذا الانتقال من الدافع الاقتصادي إلى الدافع الجنسي هو تعبير عن تزايُد معدلات الحلولية والكمونية. فالإنسان الاقتصادي يبحث عن مراكمة الثروة وتحركه وسائل الإنتاج وآليات السوق، أي أن ما يحركه شيء خارجه، وبالتالي فتمركزه حول ذاته ليس كاملاً إذ لا يزال يوجد عالم موضوعي خارجه. أما الإنسان الجسماني فما يحركه هو اللبيدو، أي شيء كامن تماماً داخلـه، لا يتفـاعل إلا في حدود الحد الأدنى مع المجتمع والحضارة، التي تشكل مجرد عوائق لتَحقُّق اللبيدو. (وظهور الجسد ثم الجنس باعتبارهما الصور المجازية الأساسية، حيث يُردُّ العالم أولاً للجسد ثم للجنس وفي نهاية الأمر للحظة القذف نفسها التي تصبح لحظة الخلق والتكوين وتأله الإنسان وذوبان الذات في الموضوع الكوني وغياب الوعي، هو إحدى سمات النظم الحلولية منذ بداية التاريخ).
ولكن التمركز حول الذات يؤدي إلى التمركز حول الموضوع، فمبدأ اللذة ـ حسب تصور فرويد ـ مبدأ كمي، إذ يذهب إلى أن ثمة كماً محدوداً من الطاقة داخل كل فرد (وداخل كل حضارة) إن لم يُستخدَم في مجال ما فإنه يُنقَل إلى مجال آخر، وإن لم يُشبَع بطريقة سوية، فإنه سيجد مسارات أخرى له. ومبدأ اللذة يدفع الإنسان دفعاً لإشباع رغباته الحسية وتحصيل أكبر قدر ممكن من اللذة وأقل قدر من الألم. وكلمتا «رغبة» و «إشباع» قد توحيان بوجود إرادة إنسانية، ولكن الأمر أبعد ما يكون عن ذلك. فالإنسان كائن سلبي، آلة يسوقها اللبيدو واللاوعي، كائن ملحق بأعضائه الجنسية (على حد قول كارل كاوتسكي) يتلقى المدخلات التي تأتيه من الجسد ومن الواقع. وكل ما يفعله الجهاز النفسي هو أن ينظم نفسه بنفسه لتقليل التوتر الناجم عن تناقض الدوافع الغريزية بعضها مع بعض وبينها وبين الواقع. وهذه الطاقة قوة لم « تتحرر » من الإرادة والوعي الفرديين وحسب ولا من العقل والقيم الأخلاقية والقيمة (كما هو الحال مع الرشد المادي الاقتصادي) وإنما تعاديهم، بل وتشن عليهم هجوماً شرساً لا هوادة فيه.
وإذا كان الإنسان الاقتصادي يسقط في الحتميات الاقتصادية، فهي على الأقل حتميات مفهومة غير مرتبطة بعالم خارج الإنسان وتتبع نموذجاً رياضياً يمكن التنبؤ به، أما إنسان فرويد الجسماني فيسقط في حتميات الجنس المظلمة الكامنة في ذاته ولكنها لا يمكن سبُر غورها أو فهمها. إن الإنسان، حسب الرؤية الفرويدية، كائن غير اجتماعي متمركز حول ذاته تماماً، ولكن الذات التي تمركز حولها يتحكم فيها اللاشعور ويسيِّرها، فهو كائن لا إرادة له، هو سبمان، دون الإنسان، يذعن تماماً لقوانين الطبيعة/المادة الكامنة فيه. وكما يقول فرويد: « إن حياتنا مُسيَّرة التزاماً بقوى مجهولة لا سبيل إلى التحكم فيها ».
ولكن إلى جوار هذه الجمـلة الإخبـارية المظلمـة يضـيف فرويـد ما يلـي: « وهكذا فإن الأنا الواعية [التي تنطوي على الضمير والوعي والإرادة] في علاقتها بالهو [اللاشعور واللبيدو] تشبه رجلاً ممتطياً جواداً عليه أن يكبح جماحه ». والصورة المجازية التي يستخدمها فرويد تحتوي على قدر كبير من الإبهام غير موجود في الجملة الإخبارية. فبعد أن يتحدث عن قوى مجهولة تُسيِّر الإنسان، نجده يشير إلى الهو باعتبارها حيواناً جامحاً، والأنا باعتبارها الإنسان القادر على التجاوز وعلى التحكم بدرجات متفاوتة في الحيوان. والصورة تجعلنا نتعاطف مع الإنسان، فهو إنسان بمقدار استطاعته أن يكبح جماح الحيوان وبمقدار احتفاظـه بتوازنه. كما أن الصـورة لا تنطوي على فشل المحاولة الحتمي، فإمكانية النجاح إمكانية حقيقية مطروحة. هذا الإبهام الذي يَسم الصورة المجازية ويغيب في الجملة الإخبارية يعبِّر عن تَناقُض عميق داخل فرويد سنجده يتصاعد بحدة في أعماله الأخيرة.
وإلى جانب السبمان الذي تتحكم فيه القوى المظلمة الجامحة هناك دائماً السوبرمان، هذا الكائن الإمبريالي، والذي يأخذ أشكالاً متعددة في المنظومة الفرويدية لعل أهمها المفسر القادر على فك الشفرات وفهم الأسرار. (ولعل اهتمام فرويد بالكوكايين والتنويم المغناطيسي ثم باللاوعي ودوره تعبير عن هذا العقل الإمبريالي الذي يحاول حوسلة العالم بأسره).
ورؤية فرويد للإنسان، شأنها شأن أية رؤية مادية، رؤية صراعية إلى حد كبير. فهناك بطبيعة الحال رؤيته للعدوان كمحرك أساسي للإنسان، ولذا نجد الصراع في كل مكان: الإنسان في صراع مع الحضارة ـ الأنا في صراع مع الهو ـ الإيروس في صراع مع الثناتوس ـ الأب مع الابن ـ البنت مع الأم ـ الذكر مع الأنثى ـ آليات الدفاع ضد اللبيدو مقابل آليات الاقتحام والالتفاف.
إن الرؤية الفرويدية جزء من حركة تفكيكية تقويضية عامة بدأت في واقع الأمر مع المشروع التحديثي الغربي، وتصاعدت حدتها في القرن التاسع عشر، ثم وصلت إلى قمتها مع الحركة التفكيكية في أواخر القرن العشرين. وكان فرويد يدرك أنه جزء من هذه الحركة التفكيكية التقويضية، فقد وصف نفسه بأنه أحد ثلاثة طعنوا نرجسية الإنسان (أي قاموا بتفكيكه ورده إلى المادة): كوبرنيكوس وداروين وفرويد نفسه. وفرويد محق في ذلك تماماً فكوبرنيكوس بيَّن للإنسان أن الأرض ليست مركز الكون، ومن ثم فالإنسان ليس ذا أهمية خاصة في النظام الشمسي، وإنما مجرد جزء من كل. وقد عمَّق داروين هذا الاتجاه حين بيَّن أن الإنسان سليل القرود وابن الطبيعة الذي أنتجته من خلال عمليـة تطـورية ليس لها هـدف واضح ولا يحـظى الإنسان فيها بأهمية خاصة. وأخيراً جاء فرويد ليُبيِّن أن القرد لا يوجد خارج الإنسان وحسب وإنما يوجد داخله وفي صميم كيانه. فإذا كان كوبرنيكوس وداروين قد حطما أي تفرُّد خارجي للإنسان، فإن فرويد حطم أيضاً أوهام التفرُّد الداخلي بحيث يصبح الإنسان خاضعاً لقوانين الطبيعة/المادة من الداخل والخارج، ومن ثم تم تحويله إلى مادة كاملة.
ولكن بعد تحطيم مقولة الإنسان بهذه الشراسة، ماذا يبقى لنا؟ بعد التفكيك ماذا يمكن أن نفعل؟ كان دعاة الاستنارة المضيئة يتحدثون عن اليوتوبيا التكنولوجية وعن إمكانية إقامة الفردوس في الأرض. ولكن دعاة الاستنارة المظلمة لم يشاركوهم هذه الأوهام، فرؤيتهم للواقع وللإنسان كانت أكثر عمقاً، فقد كان عندهم إدراك للشر في النفس البشرية ولحدودها ولطموحها للتجاوز ولإخفاقها، ولذا فإحساسهم بالمأساة كان عميقاً، على عكس السطحية التي يتسم بها الفكر الاستناري. ولذا نجد أن فرويد رغم مادية النموذج الذي ينطلق منه إلا أنه استمر في تعديله وتطويره من آونة لأخرى حتى يمكنه أن يُعبِّر عن تركيبية النفس البشرية التي عجزت الاستنارة المضيئة عن إدراكها. ولكنه شأنه شأن دعاة الاستنارة المظلمة، كان يرى الذئب الرابض داخل الإنسان، والغابة الموجودة خارجه وكان يرى أن لا مخرج له منهما. ولذا نجده في كتاباته الأخيرة لا يتحدث عن اللبيدو والإيروس وحسب وإنما يتحدث أيضاً عن مأساة الحضارة والإحساس بالذنب والندم والثناتوس. وقد عبَّر فرويد عن إحساسه بالطريق المسدود الذي دخله المشروع التحديثي التفكيكي وعدميته الواضحة حين لخص الهدف النهائي لمشروع التحليل النفسي بأنه «تحويل البؤس الهستيري إلى شقاء عام » (تو ترانسفورم هستيريكال ميزري إنتو كومان أنهابينيس to transform hysterical misery into common unhappiness).
ساجدة لله
2010-10-27, 05:45 AM
رؤيـــة فـرويــد
Freud's World View
ينتمي فرويد إذن إلى تقاليد التفكيك والتقويض المادية التي تودي بالإنسان كمقولة مستقلة عن عالم الطبيعة/المادة، ويقف على قمة هذه التقاليد الفيلسوف إسبينوزا الذي أدرك العالم من خلال نموذج حلولي هندسي بارد صارم. ولكن فرويد لم يكن مادياً على طريقة إسبينوزا اللا تاريخية الجامدة، وإنما كان مادياً على طريقة هيجل الدينامية الحركية، مادية المضمون مثالية الخطاب والديباجات. ومنظومة هيجل المادية واحدية مثل منظومة إسبينوزا ولكنها لا تتحقق دفعة واحدة في الزمان والمكان وإنما من خلال متتالية تاريخية. ولكن هذه المتتالية تنتهي عند نقطة محددة حيث يتحد المقدَّس والزمني ويتحد الفكر والمادة، أي أنها تنتهي بالتجسد الكامل حيث يصبح التاريخ جسد الإله لا يختلف كثيراً عن إله إسبينوزا الذي هو الطبيعة، ولكن إله هيجل إله عضوي ينمو تدريجياً إلى أن يصل إلى ذروته ولحظة اكتماله في نهاية التاريخ والفردوس الأرضي.
ينطلق فرويد من المفهوم التطوري الهيجلي (والدارويني) وإن كان لا يشارك النزعة الطوباوية الهيجلية. وقد أحدث ثورة في مفهوم الشخصية. فقد كان يرى أن الشخصية ثمرة التفاعل المتبادل بين التكوين الوراثي للفرد وبيئته الاجتماعية، أي أن الشخصية فيما يرى فرويد هي التفاعل المتبادل بين حاجات الفرد الداخلية (الغرائز والدوافع) والعالم الخارجي. والفرد يكشف عن حاجاته ورغباته الغريزية عن طريق البيئة، التي إما أن تتيح لهذه الرغبات والحاجات فرصة التحقق والإشباع أو تحول دون ذلك عن طريق التعويق أو الإنكار.
ورغم هذه الرؤية الدينامية في العلاقة بين الذات والبيئة إلا أن فرويد يسقط في الجمود والانغلاق حين ركز على الغرائز والدوافع بوصفها صاحبة الدور الأكبر في هذه العلاقة. أما البيئة فقد كان دورها سلبياً إلى أقصى حد،ينحصر في أنها إما أن تساعد على إشباع حاجات الفرد أو تعمل على إحباطها. ومن هنا كان تركيزه على الغريزة والدوافع وتهميشه لدور الحضارة وكل ما يقع خارج نطاق الذات وعالم الغرائز والدوافع.
وتتميَّز الغريزة بأربع خصائص: مصدرها وهدفها وموضوعها وقوتها. فالمصدر، هو حالة البدن وحاجته للإشباع، والهدف هو التخلص من التوتر الذي يصاحب هذه الحالة، والموضوع هو الشخص أو الشيء الذي تتجه إليه الغريزة، أما القوة فهي شدة الحاجة المحركة للغريزة. والغريزة لفظ عام أما المصطلح الذي يفضل فرويد استخدامه فهو «اللبيدو» والتي يمكن ترجمتها بعبارة «طاقة شهوية» (يتحدث هوبز عن دافع واحد يسيطر على الإنسان هو اللبيدو دومناندي libido dominandi، أي شهوة السيطرة). وهو مرتبط باللاشعور والهو والقوى المظلمة داخل الإنسان التي لم تحتك بالحضارة ويتسم بأنه غير منطقي وغير أخلاقي أو متجاوز للمنطق والأخلاق.
ويذهب كثير من مفسري فرويد إلى أن اللبيدو هي الطاقة الجنسية الكمية إلا أنها لا تعني مجرد النشاطات واللذة التي تتعلق بعمل الجهاز التناسلي وإنما تعني أيضاً مجموع التنبيهات والنشاطات التي تظهر منذ الطفولة وتنشأ عنها اللذة، وبهذا المعنى يشكِّل مفهوم الحـياة الجنسـية في نظـر فرويد مفهوماً أشـمل من مفهوم الحياة التناسلية. فاللبيدو هو ما يجعلنا نعيش الحياة ونحب ما نعمل، ونُقبل على ما نحب بعشق.
واللبيدو ليس غريزة وإنما دافع، فالغرائز (مثل البقاء المادي) ثابتة ذات طابع بيولوجي حتمي، أما الدوافع فهي متغيِّرة وأقل حتمية، يتغيَّر هدفها وموضوعها وقوتها. وقد كان اللبيدو في البداية جزءاً لا يتجزأ من غريزة البقاء ولكنه انفصل عنها وأصبح مستقلاً، فمص الثدي على سبيل المثال عمل بيولوجي له أبعاد لبيدية. فهو مصدر للبقاء ومصدر للذة الجنسية في الوقت نفسه. ومع انفصال اللذة عن البقاء والدوافع عن الغرائز يظهر قدر من التناقض إلى أن تصبح اللذة الجنسية نهاية في حد ذاتها، مستقلة تماماً عن الرغبة في البقاء. وهي في هذه الحالة تُعدُّ انحرافاً عن غريزة البقاء نحو هدف آخر. وسنلاحظ هنا نمطاً أساسياً عند فرويد: هو أن نقطة انطلاقه حتمية مادية، ولكنه يبذل في الوقت نفسه محاولات مستمية لخلق ثغرة أو حيز داخل النظام المادي المصمت يسمح للإنسان بقدر من حرية الإرادة.
واللبيدو ـ كما أسلفنا ـ هو الطاقة النفسية الكمية التي يستثمرها الإنسان في تعامله مع العالم الخارجي ولا يمكن فصله عن مفهوم صورة الجسد (إيماجو Imago) أو على حد تعبير ألفيم، المحلل النفسي البرتغالي، "صورة الجسد هي ظلام القاعة الذي نرى فيه الفيلم السينمائي". فالإنسان كما يراه فرويد يستثمر طاقته النفسية أو اللبيدو من خلال تصوره صورة جسده عبر مراحل تطورية معينة تبدأ برؤيته العالم كفم وثدي، مروراً بالمرحلة النرجسية حيث يركز الإنسان على جسده وحده، إلى أن يفهم أن ثمة آخر في هذا العالم.
ويرى بعض مفسري فرويد أننا حين نترك نطاق التعريفات النظرية والقول وننتقل إلى مستوى الإجراءات وتشغيل النموذج، فإننا نجد أن فرويد كان، في واقع الأمر، يحصر اللبيدو في الجنس بالمعنى الغرائزي الحتمي. ونحن نميل للأخذ بهذا الرأي الأخير، ولكننا نضيف إلى هذا أن الجنس لم يكن المتعة الجنسية فحسب (وفرويد كما أسلفنا كان ينظر للجنس نظرة سلبية للغاية تَنمُّ عن الاشمئزاز) وإنما كان تصوراً أشمل ذا طبيعة حلولية. فالجنس هو اللذة التي تنتج عن الاتحاد بعنصر ما والشعور بالذوبان فيه، أي أنه يرتبط تماماً بالرغبة المحيطية في ذوبان الذات في موضوع أكبر منها. وهذا التعريف تعريف وسط مركَّب، بمعنى أنه يستوعب كلاً من الحتمية والرغبة في تأكيد حرية الاختيار.
ويظهر التناقض بين تأكيد الحتمية والرغبة في خَلْق ثغرة أو حيز (يستطيع الإنسان أن يمارس من خلالهما حريته وفرديته) في لجوء فرويد إلى الإيقاع الهيجلي الثلاثي الذي يسم الفكر الغربي الحديث (الأطروحة والأطروحة المضادة والأطروحة الثالثة المركبة - صراع الأضداد واتحادها) وكلها محاولات ناجمة عن استخدام نموذج مادي واحدي لتفسـير الكـثرة والتعـدد والتركيب اللامتناهي الذي يسم الظاهرة الإنسانية.
ويُقسِّم فرويد النفس الإنسانية (أو الخريطة النفسية) إلى ثلاثة أقسام طوبولوجية:
1 ـ اللاشعور: مستودع الدوافع البدائية والجنسية والعدوانية ومقر الرغبات والحاجات الانفعالية التي قد تكون من القوة بحيث تشكل تهديداًَ لصاحبها إذا ظهرت في شعوره وإدراك وجودها، ومن ثم فهو يحاول دفعها إلى عالم اللاشعور.
وعملية الكبت هذه هي نفسها عملية لا شعورية. وكلما حاولت هذه المشاعر الظهور في منطقة الشعور فإنها تُواجَه بمقاومة كبيرة. فمحاولة جعلها شعورية لا تتحقق إلا بصعوبة بالغة وبطرق عديدة. واللاشعور من ثم هو منطقة اختزان الذكريات، المؤلم منها والمخجل، والمشكلات الناجمة عن الدوافع المتعارضة التي يتعذر حلها. ويؤثِّر اللاشعور في سلوكنا اليومي ويوجهه، رغم أنه يقع خارج مجال شعورنا وإرادتنا. فالرغبات اللاشعورية أشد قوة وأعمق أثراً من الاتجاهات والمشاعر الشعورية.
2 ـ الشعور (الوعي): مستودع الإحساسات والأفكار القادمة من العالم الخارجي أو تلك القادمة من عالم الوعي، والشعور يمثل الجانب السطحي للشخصية، والمستوى الظاهر لها.
3 ـ ما قبل الشعور: مستودع الإحساسات والأفكار التي كانت شعورية منذ فترة وتم اختزالها ومن ثم بوسع الشخص تَذكُّرها حسب إرادته، ولكنها لم تكن في وعيه وانتباهه طوال الوقت. وهذا الجزء هو مُستقَر الذكريات ومستودع اللغة والأفكار المتداولة والشائعة وما يتعلمه الإنسان وخبراته السابقة.
ويظهر التقسيم الثلاثي مرة أخرى في تقسيم الجهاز النفسي إلى الهو والأنا والأنا العليا:
1 ـ الهو (باللاتينية: إيد Id): وهو البُعد البيولوجي في الشخصية ومستودع الغرائز ويمثل كل ما هو موروث وموجود في البدن. وتحوي الهو الفوضى والظلام والطيش واللاشعور، وهي قوة مجهولة لا يُسبَر لها غور. والهو لا تتحمل التوتر وتبحث عن الإشباع بغض النظر عن الظروف المحيطة، وتتحرك حسب مبدأ اللذة ومحاولة تقليل التوتر. ولا علاقة للهو بالعالم الخارجي وهو غير متكيف مع المجتمع فهـو لا يعـرف القـيم أو الخير أو الشـر أو الأخلاق. والهو لاشعوري ويسعى للتعبير عن نفسه على نحو غير مباشر، فمثلاً الأحلام وهفوات اللسان تجليات مُقنَّعة لمضمونات لاشعورية أفلتت من الأنا وصارت علنية ولا تخضع إلا لما أسماه فرويد «مبدأ اللذة».
2 ـ الأنا (باللاتينية: إيجو Ego): وهو المكون النفسي الذي ينمو من الهو تحت تأثير البيئة ويمثل الأنا الشعور والعقل والنور. والأنا هو الجزء من الشخصية الذي يَنشُد العثور على مخارج واقعية لدوافع الهو فيقوم بإشباعها أو كفها أو تأجيلها تبعاً لما يمليه الواقع الخارجي. وفي الوقت نفسه يؤمِّـن الأنا الشخص من الوقوع في نزاع مع محيطه ويجنبه التجارب الأليمة، وهو مصدر ضبط النفس ووسيلة التكيف مع المحيط. ويتوهم الأنا (الشعور) أنه يستجيب للعالم الخارجي وفق معارف صادقة أو ما يسميه فرويد «مبدأ الواقع». ولكن فرويد يذهب إلى أن هذا إن هو إلا خداع للذات، فالأنا تظن أن سلوكها يتحكم فيه العقل والمعرفة إلا أنها تأتمر في واقع الأمر بأوامر الهو وغريزتي الجنس (إيروس) والموت (ثناتوس) وإن كان يتم هذا بشكل مقنَّع قد لا تدركه الأنا نفسها.
3 ـ الأنا الأعلى (باللاتينية: سوبر إيجو Superego): وهو المكون الاجتماعي والأخلاقي والحضاري وينمو من الأنا ووظيفته السعي إلى تحقيق الغايات والمُثُل العليا (الاجتماعية والأخلاقية والحضارية). ويبدأ تكوين الأنا الأعلى في الطفولة، فالطفل يسعى إلى تحقيق اللذة ويسترشـد في سـلوكه بمبدأ اللذة ويسـتجيب لدوافعـه وغرائزه بلا حدود. ولكن كلما كبر بدأ يدرك مبدأ الواقع فيتعلم قواعد السلوك التي يتلقاها من أبويه ومن خلال نظام المكافأة والعقاب. وبالتدريج يتكون الرقيب وهو المثل الأعلى الذي يستخلصه الأنا من بين الأوامر والنواهي التشريعية والأخلاقية والدينية ويتعلم كيف يضبط سلوكه بما يواجهه من حقائق فيحقق أكبر قدر من اللذة مع أقل ضرر ناجم عنها. وهكذا تتكون الأنا الأعلى التي توعز للأنا بكبح جماح الهو وتحثها على إحلال الأهداف الأخلاقية محل الدوافع الغريزية (ولذا فهي أقرب إلى ما نطلق عليه «الضمير»). ومع هذا يمكن القول بأن موقف فرويد تجاه الأنا الأعلى يتسم بالتأرجح بين نقطتين: فمن ناحية تظهر الأنا الأعلى كوسيلة لإعلاء الرغبات وتحقيق الأهداف الأخلاقية، ولكن من ناحية أخرى تظهر باعتبارها رقيباً صارماً يصادر الرغبات الجنسية الضرورية ويؤدي إلى شعور بالذنب لا مبرر له.
وقد أدمج فرويد الأنا في اللبيدو وأحل محلهما مفهوم الإيروس (الذي يُعبِّر عن نفسه من خلال غرائز حب الذات وحفظ النوع). ولزيادة تركيب الرؤية وضع فرويد الإيروس مقابل ما أسماه «ثناتوس» وهو عكس الحياة. وفي محاولته تفسير كنه ثناتوس (رغبة الموت والهدم) لا يقترب فرويد قط من العناصر الاجتماعية والتاريخية إذ يظل يدور في إطار الحلولية الكمونية المادية، فيحاول تفسير الثناتوس تفسيراً مادياً تطورياً حتى يبقى داخل نطاق النموذج المادي الواحدي الصارم. ولذا نجده في كتاب ما فوق مبدأ اللذة يذهب إلى أن المادة الحية العضوية تحتفظ داخلها بذكرى أصلها غير العضوي ولذا فهي تنزع إلى العودة إلى الأصل غير الحيوي. وأطلق على هذا مبدأ «إجبار التكرار»، أي الرغبة المحتومة في تكرار الحالة السكونية المتوازنة التي عاشتها المادة العضوية عندما كانت مادة غير عضوية (وكأن المادة تحوي داخلها سراً غير مُدرَك ومع هذا يدفعها هذا السر دفعاً، فهو تيلوس مادي حلولي تماماً). ويبدو أن الثناتوس سوف تنجح في النهاية في القيام بدورها وهو التحلل أو الموت الذي هو نهاية كل كائن حي. ومن ثم قال فرويد قولته الشهيرة: "إن هدف الحياة هو الموت"، وهي مقولة لا معنى لها بطبيعة الحال، إلا إذا كانت الإشارة إلى الموت البيولوجي، وهذا ما نعرفه جميعاً دون حاجة لفرويد. أما القول بأن الرغبة في الموت هو هدف الحياة فهو من لغو القـول الذي لا يفـسر شـيئاً والذي لا توجـد أية قرائن مادية أو عضوية عليه.
ورغم أن اللبيدو هو المحرك الأول في النظام الفرويدي إلا أنه يتحقق في الزمان من خلال متتالية ثابتة يمر بها كل الأفراد، لا تختلف كثيراً عن تلك المتتاليات التاريخية العديدة التي كان العقل الغربي قد أفرزها في القرن التاسع عشر. فهناك متتالية كونت: مرحلة دينية ـ مرحلة ميتافيزيقية ـ مرحلة وضعية. كما توجد متتالية ماركس: شيوعية بدائية ـ عبودية ـ إقطاع ـ رأسمالية ـ شيوعية. وكانت هذه المتتاليات تنتهي دائماً في لحظة تحقُّق النموذج، قمة التقدم ونهاية التاريخ والفردوس الأرضي، أي الحضارة الغربية الحديثة.
يشارك فرويد في فكرة المتتاليـة التاريخـية والمراحل الثابتـة ولكنه لا يشارك في النزعة الطوباوية. وقد حاول أن يُفسِّر نمو الشخصية الإنسانية من خلال نظرية نمو الغريزة الجنسية من عدد من «الغرائز المكوِّنة» (اللبيدو) التي تظهر لدى الطفل منذ الميلاد. ويذهب فرويد إلى أن الإنسان حيوان يُولَد عاجزاً تماماً يعتمد في بقائه على رعاية الأم والأب وأعضاء المجتمع الإنساني، وبدون هذه الرعاية فإن الطفل الإنساني يهلك. في هذه المرحلة يُلاحظ فرويد أن الطفل ليس ذاتاً متكاملة موحَّدة، وإنما هو حقل من القوى المتغيرة الحدود، ليست له هوية واضحة، والحدود بين الذات والموضوع ليست ثابتة. والطفل خاضع تماماً لمبدأ اللذة. لا يعرف الفرق بين الأجناس فهو ليـس بذات كما أنه لا جنس له (بالإنجليزية: أنجندرد سابجيكت ungendered subject). ويجد الطفل لذة جنسية في جسده وترتبط غرائزه الجنسية ببعض الأجزاء المعينة أو الأعضاء في الجسم. وهذه هي مرحلة الشهوية الذاتية (بالإنجليزية: أوتو إيروتيك auto-erotic). والطفل في هذه المرحلة لا يرى جسده باعتباره موضوعاً كاملاً. والغرض الأساسي من كل فعل يقوم به الإنسـان في هـذه المرحلة هو إشـباع الحاجات الحسـية وتحصيل أكبر لذة، أي تحقيق مبدأ اللذة. ثم يبدأ الطفل في النمو من خلال مراحل عدة هي في جوهرها ترتيب تدريجي للدوافع اللبيدية وإدراك متزايد لمبدأ الواقع. إذ سرعان ما يدرك الإنسان أيضاً وجود مبدأ الواقع ويصطدم به. وبالتالي يزداد الفعل الإنساني تركيباً، وبدلاً من تحقيق مبدأ اللذة وحسب، فإنه يحاول تحقيقه في إطار الاعتراف بمبدأ الواقع والحدود التي يفرضها على الذات، ومن ثم يحاول الإنسان تقليل الألم وتحاشي التوتر.
وتمر الشخصية بثلاث مراحل أساسية (الإيقاع الثلاثي الهيجلي دائماً) تفضي إلى مرحلة رابعة أخرى، وإن كان فرويد كعادته أضاف مراحل انتقالية حتى تزداد خريطته البسيطة تركيباً:
1 ـ المرحلة الفمية (الشفوية): وهي مرحلة تلعب فيها الشفتان دوراً أساسياً وفيها يحصل الطفل على اللذة من خلال عملية الرضاعة وفي علاقته بثدي الأم ومصه. وتتسم هذه المرحلة بالاتجاه نحو امتلاك الأشياء والاحتفاظ بها (وتستمر هذه المرحلة حوالي 18 شهر(.
2 ـ المرحلة الشرجية (الإستية): وهي مرحلة يحصل فيها الطفل على اللذة من خلال عملية التبرز، فطرد الفضلات يسبب له إحساساً بالارتياح ويزيل عنه مصدر الضيق والتوتر. والسمة الأساسية في هذه المرحلة هي الإخراج. ويبدأ الطفل يشعر بأن بوسعه أن يتحكم في مشاعر أمه عن طريق إخراج البراز (فهذا يسبب لها السعادة) أو الاحتفاظ به (فيسبب لها الضيق). ويُلاحَظ أن الطفل يبدأ في تَعلُّم جدلية الحياة من خلال معرفته الفرق بين المرحلتين: الاحتفاظ مقابل الإخراج، والتملك مقابل العطاء، والنشاط مقابل السلبية.
3 ـ المرحلة القضيبية: وهي مرحلة تحتل فيها المشاعر الجنسية والعدوانية (المرتبطة بوظيفة الأعضاء التناسلية) مركز الثقل. ويُلاحَظ أن هذه المرحلة قضيبية وليست عضوية جنسية (بالإنجليزية: جنيتال genital) أي مختصة بالأعضاء التناسلية، فالقضيب ـ عند فرويد ـ هو المركز. وفي هذه المرحلة يحصل الطفل على اللذة من خلال تخيله الممارسات الجنسية والعبث بأعضائه التناسلية.
وهذه المرحلة تهيئ لظهور مُركَّب أوديب (نسبة إلى أسطورة الملك أوديب الذي قتل أباه، وتزوج أمه جهلاً بحقيقة علاقته بهما). ومُركَّب أوديب يتلخص في أنه ميل جنسي من جانب أحد نوعي الجنس تجاه أحد الوالدين من الجنس المقابل، مع ميل عدواني تجاه أحد الوالدين من الجنس نفسه. فالصبي يميل إلى أمه، والفتاة تميل إلى والدها. ونتيجة ذلك يشعر الطفل بتهديد من الوالد من الجنس نفسه، إذ يخاف أن يقوم أبوه بخصيه. ويرى الطفل أن الطفلة دون قضيب فيظن أن الأب قد قام بخصيها، فيضطر إلى أن يكبت ميوله الشبقية نحو أمه ويقبل مبدأ الواقع ويُعزِّي نفسه بأنه سيصبح هو نفسه أباً فيما بعد ويتوحد مع الأب وقيمه، ومن ثم يصبح موضوعاً له جنس (بالإنجليزية: جندرد سابجيكت gendered subject). ويصبح الإنسان محل الحب والكره والخوف والتوقير في آن واحد.
ولابد أن نشير هنا إلى أن مُركَّب أوديب هو جوهر المنظومة الفرويدية، فهو ليس مسألة تحدث على مستوى الفرد وحسب، وإنما تحدث على مستوى الجماعة والتاريخ الإنساني، أي على مستوى الحضارة ككل. فمن خلال مُركَّب أوديب ينتقل الطفل من حالة الالتصاق (المحيطية) بالأم ومن حالة الطبيعة إلى حالة الانفصال عن الأم والطبيعة والانتقال إلى حالة الحضارة. ومُركَّب أوديب بداية القيم والقانون وكل أشكال السلطة الدينية والاجتماعية والسياسية. ويُعدُّ تحريم الجماع بالمحارم رمز كل أشكال السلطة التي سيقبلها الإنسان (كما سنبين فيما بعد). إن قصة أوديب هي أسطورة التكوين (بالإنجليزية: جنسيس genesis) بالنسبة لفرويد.
4 ـ مرحلة الكمون: بعد أن يكبت الطفل ميوله الشبقية نحو الأم، وبعد أن يصبح الأب محل الحب والكره يدخل الطفل مرحلة من الكمون الجنسي تستمر من السادسة حتى بداية سن البلوغ والمراهقة (12 عاماً) حين تبدأ المرحلة الخامسة. ويتوقف جانب كبير من مستقبل الابن على مدى نجاحه في صرف رغبته اللاشعورية في غشيان المحارم ورغبة الموت وتوجيهها نحو غايات اجتماعية مقبولة.
5 ـ المرحلة التناسلية: وهي المرحلة التي تتجه فيها الميول الجنسية إلى الجنس الآخر، ويتحول الشخص من عالم الطفولة إلى عالم الراشدين والتأهب للزواج والاستقلال الأسري، أي أن جزءاً كبيراً من اللبيدو يتجه إلى الخارج، بعيداً عن الأهداف الجنسية، إلى مختلف الموضوعات والنشاطات التي تُكوِّن معاً الحضارة الإنسانية، إذ يحقق الفرد قدراً من التسـامي. والوظيفـة البيولوجيـة لهـذه المرحلة هي التكاثر وحفظ النوع.
بيد أن هذه المكونات (الشعور وما قبل الشعور واللاشعور والهو والأنا والأنا الأعلى وإيروس وثناتوس) لا تعمل مستقلة بعضها عن بعضها الآخر، بل تعمل معاً في اتساق متكامل، وليس هناك فصل حاسم بين وظائفها. والتطور السوي هو تكامل تحت سيادة تلك الغرائز المرتبطة بالأعضاء التناسلية. ويعتقد فرويد أن الانحرافات الجنسية لدى الراشدين ترجع إلى الفشل في تحقيق السيادة واستمرار السيطرة غير الملائمة لبعض الغرائز المكونة الأخرى غير الغريزة التناسلية.
وقد زاد فرويد تعقيد الصورة التي وضعها عن الجنسية وتطورها وذلك بإعطاء تصور لمراحل العلاقة بالموضوع. وأولى هذه المراحل هي المرحلة الذاتوية حيث يتمركز الطفل حول ذاته. ثم المرحلة النرجسية حيث يرى الآخر من خلال نفسه، وتتوجه اللبيدو إلى الذات. ومرحلة حب الموضوع المكتملة النمو والتي تتجه فيها الدفعات الجنسية إلى الخارج نحو شـخص (أو في الشكل البديل، نحو شيء) خارج الذات.
وبالطبع لا يكتمل أبداً نمو الشهوية الذاتية، شأنها شأن أية وظيفة بدائية أخرى من وظائف العقل والجسم. إذ يظل هناك قدر معين من اللبيدو يجد إشباعه عن طريق الشهوية الذاتية، فنحن جميعاً نستمتع بأحاسيس نابعة من المناطق والأعضاء الشهوية في الجسم كالأعضاء الجنسية، والفم، والشرج، والجلد، والعضلات... إلخ. وبالنسبة للفم فإن الاستمتاع بتناول الطعام (جاسترونومي gastrononmy) قد طوَّر تلك الأحاسيس إلى ما يقارب الفنون الجميلة. ونحن جميعاً نُوجّه، بشكل سويّ، قدراً معيَّناً من «الحب» إلى أشخاصنا (قدري حفني).
وحين وصل فرويد إلى قضية المرأة نجده يتناولها بطريقة واحدية مادية حتمية، موغلة في الحتمية. وبدلاً من تَعقُّب وضع المرأة التاريخي وظروف حياتها في كل مرحلة من مراحل المجتمع فإنه يسميها «القارة المظلمة» من ناحية، وهي من ناحية أخرى رجل تم خصاؤه، تقضي حياتها تعاني من إحساس عميق بالنقص التشريحي الذي يشوب تكوينها الأنثوي. ويذهب فرويد إلى أن صغار الفتيات يُرجعن افتقارهن إلى التكوين التشريحي الذكري إلى الخصاء كعقوبة عن خطيئة. وتكتشف الطفلة أن أمها مخصيّة مثلها، فتنقل مشاعرها إلى الأب وتحاول إغواءه، وهي محاولة محكوم عليها بالفشل، فتترك الطفلة الأب لتعود للأم وتَقبَل وضعها كأنثى، وهو وضع يتسم بالدونية والسلبية. وبدلاً من القضيب الذي تحسد الذكر عليه، تحلم بأن يكون لها طفلٌ تحمل به من الأب. وهكذا أصبحت صفات المرأة التشريحية هي شخصيتها بل ومصيرها الحتمي.
وعالم الشعور واللاشعور وما قبل الشعور والإيروس والثناتوس والهو والأنا والأنا الأعلى عالم صراعي (تماماً مثل عالم داروين الإمبريالي) لا تهدأ فيه النفس ولا تستقر. إذ تقوم الأنا والوعي بعمليات كبت مستمرة بينما تقوم الهو واللاوعي بمحاولات دائمة للاقتحام. وفي غياب أية مرجعية خارجية ومع إنكار قدرة الإنسان على التجاوز فإن الصراع يتأجج وتشتد حدته وتتحول النفس البشرية إلى ساحة حقيقية للصراع والاضطرابات لا يختلف كثيراً عن الصراع الدائر في المجتمع التعاقدي.
ولكن الصـراع ليـس واضـحاً دائماً إذ تحاول الهو أن تخادع الرقيب. وأشار فرويد إلى عدة طرق تسلكها موضوعات الكبت في صورة متنكرة لتجد لها منفذاً إلى الشعور من بينها: الأعراض العصابية ـ النسيان (أي حجب ذكرى معيَّنة بذكرى أخرى أو تشويهها بحيث يختفي المكبوت) ـ الهفوات (فلتات القلم واللسان وما شابه ذلك) ـ النكتة. مثال ذلك لو نسى امرؤ اسم شخص ما، فإن هذا يعني أنه في أعماق أعماقه لا يحب هذا الشخص أو أنه يرغب في أن يزيحه بعيداً عن طريقه. إن العاطفة أو الرغبة التي سبق للمرء أن طردها من شعوره اعتراضاً منه عليها، تشق طريقها قسراً في صورة متنكرة في هيئة نسيان. كما يذهب فرويد إلى أن موضوع الدعابة هو أولاً وأساساً التسرية والعدوان وأن الدوافع المكبوتة ورغبات العدوان والتسرية كثيراً ما تنفذ إلى الشعور تحت ستار النكتة.
ويذهب فرويد إلى أن الأعراض العصابية، مثل حالات الخوف المزمن أو الشلل أو غيرهما، إنما هي بعض المسالك الخادعة التي تشقها عنوة الرغبات أو الدوافع أو الأفكـار المكبوتـة والتي تحتفظ بشـحناتها من الطاقـة النفسية الثائرة أبداً، لتفرغ هذه الشحنة إما في شكل أعراض نفسية أو بدنية أو كليهما معاً. بل إن فرويد يذهب إلى أن المحلل بوسعه أن يجد مادته في كل ما يصدر عن المريض من أفعال وأقوال: « من كانت له عينان تبصران وأذنان تسمعان فسوف يرى اللاشعوري في كل الأرجاء ».
ولكن المادة التي ستصل إلى المحلل ذات محتوى ظاهر يخبئ المعنى الباطن، ويلجأ اللاشعور إلى التخبئة من خلال آليات عديدة (تُسمَّى آليات أو ميكانزمات الدفاع) من بينها التكثيف « أي الإدغام اللاشعوري للأفكار» (بالإنجليزية: كوندنسيشن condensation) والنقل والإزاحـة (بالإنجليزية: ديسبليـسمنت displacement) والترميز والنكوص. ومن ثم يبدو المحتوى الظاهر كما لو كان لغزاً أو رسالة هيروغليفية أو كلاماً لا معنى له. لكل هذا يصبح الكبت مفتاحاً لفهم كل الظواهر العقلية السوية والعصابية (بل هو مفتاح فهمنا للحياة العقلية بوجه عام(.
أما عن العلاج فقد ذهب فرويد إلى أن المشكلة هي أن نسمح لما هو لاشعوري بالنفاذ إلى الشعور. وإذا تحقق لنا ذلك فبوسعنا تفسير محتواه اللاشعوري ومن ثم تزول الأعراض، ذلك لأن موضوع الكبت إذا دخل نطاق الشعور فإن شحنة الطاقة النفسية تجد سبيلها للانطلاق.
وكما أسلفنا، بيَّن فرويد أن هناك عدة سبل للوصول إلى مادة اللاشعور. ولكن فرويد اقترح ثلاثة طرق أساسية للحصول على المواد التي سيخضعها للتحليل:
1 ـ التداعي الطليق (الحر ـ اللا إرادي(:
التداعي الطليق أو الحر محاولة تستهدف الإفلات في غفلة من الرقيب أو الضمير أو الأنا الأعلى. ويشجَّع المريض على الإفصاح عن كل ما يرد إلى خاطره دون تَدبُّر سابق أو اتساق ودون حجب أية فكرة أو تصوُّر لأنه غير لائق أو محيِّر أو تافه أو مؤلم أو مشين أو غير معقول أو مخالف لقواعد الأخلاق والمعاملات، ودون أي تدخُّل أو توجيه من جانب الطبيب الذي يكون دوره، في بداية الأمر، مجرد مُستمع ومُسجِّل لما يسمع. ومن ثم يمكن أن تفلت الألفاظ والعبارات والتصورات الذهنية من الرقيب وتنكـشف المشـاعر المكبوتة في اللاشعور وتخرج إلى دائرة الشعور. حينئذ يتلقفها المحلل ليجد فيها زاداً من الرموز التي يمكنه أن يؤولها على نحو يكشف له معناها اللاشعوري وذلك على أساس أن التفكير الإنساني يأخذ شكل سلسلة من الخواطر المترابطة. وتسلسل الترابطات يؤدي إلى المشاعر والأفكار والدوافع التي تسببت في مشاكل المريض النفسية ثم من وراء ذلك إلى تجاربه الأصلية التي أدَّت إلى حدوث عدم التكيف النفسي.
2 ـ الأحلام:
يرى فرويد أن الأحلام تؤدي وظيفة مماثلة. فإذا كان هدف التداعي الطليق السماح للفكرة اللا إرادية بالنفاذ إلى اللاشعور في لحظة تَوقُّف الرقابة، فإن الأحلام بالمثل تخادع الشعور أثناء النوم، وهي الفترة التي تتوقف فيها الرقابة نسبياً، ومن ثم تسمح بمرور الدلالات الرمزية لمادة اللاشعور المكبوتة. وكان فرويد يرى أن الأحلام بنية مترابطة تمام الترابط لها منطقها الداخلي الخاص، ولذا يمكن إخضاع الأحلام والمادة الرمزية التي تحتويها لفن التأويل، شأنها في هذا شأن التداعي الطليق. وقد أُطلق على هذه الأحلام عبارة «الأحلام النمطية». ومع هذا فمن المهم أن نذكر أن فرويد ركز على فكرة التأويل الشخصي لكل رمز يرد في الأحلام. وفي كثير من الأحيان كان يرفض فكرة التأويل العام للرموز.
3 ـ الطرح أو التحويل:
الطريقة الثالثة التي ابتدعها فرويد وطورها للتحليل النفسي هي «الطرح»، فالعلاقة الوثيقة بين المحلل والمريض والتي يكشف خلالها المريض عن مكنون نفسه تؤدي إلى قيام علاقة عاطفية مشبوبة من جانب المريض تجاه المحلل تتدرج ما بين العشق الجنسي وبين الاستخفاف الشديد والكراهية المقيتة. ويُفسِّر فرويد هذه الظاهرة بأن المريض يعيد تمثيل الانفعالات التي عاناها في موقف سابق وكبت ذكرياته عنها وينقل انفعالات طفولته المبكرة ومشاعرها واتجاهاتها إلى المحلل. ويذهب إلى أن هذه الانفعالات المطروحة تزودنا بدلالات المادة اللاشعورية المكبوتة. كما تعطي المريـض فرصـة الاسـتبصار، فهـي طريقة لتحقيق الشــفاء للمريض.
وهنا يظهر الإيقاع الثلاثي مرة أخرى: المريض - المادة المشفَّرة الناتجة عن عمليات التداعي الحر والأحلام والطرح - وأخيراً يظهر المحلل الذي يلعب هنا دور الإله، أو على الأقل المفسر القادر على فك شفرة النص المقدَّس، ومن ثم فتفسيره في واقع الأمر أكثر قوة كما أنه مفعم بالمعنى أكثر من النص الأصلي نفسه.
ولم يكتف فرويد بتقديم هذه الخرائط البسيطة أو المتشابكة للنفس الإنسانية بل عمم مفاهيمه على كل نشاطات الإنسان الحضارية (الفن ـ العلم ـ الثقافة ـ أصول المجتمع ـ الأخلاق ـ الدين ـ الحرب). فحينما يُعاد توجيه اللبيدو نحو موضوعات مختلفة، فإن هذا يتم من خلال عملية إزاحة متدرجة من موضوع لآخر، ولكل غريزة مُكوِّنة شكل من أشكال التسامي المميَّزة الخاصة لها، فالمشاعر التي كانت مُوجَّهة أصلاً إلى الأم تُوجَّه إلى المرأة المحبوبة أو المدرسة أو المدينة أو الوطن. ومشاعر الحب والكراهية والإعجاب والرهبة التي كانت مُوجَّهة للأب تُوجَّه نحو السلطة سواء أكانت الملك أم رئيس الجمهورية أم مدير المخابرات أم رجل الدين أم صاحب العمل. وكان فرويد يذهب إلى أن ثمة تلازماً حتمياً بين الحضارة من جهة وكبت الرغبات الغريزية (الحصان الجامح) والمرض النفسي من جهة أخرى، فكلما تقدمت الحضارة زاد قمع الإنسان لدوافعه البدائية. ويتبع ذلك نجاح أو فشل المرء بقدر أو بآخر في إعلاء الطاقة الجنسية المقموعة. ولكن هذا حل لا يتيسر إلا لقلة من الناس، أما الغالبية الساحقة فهـم يخفـقون في هذا، فالعصاب هو ثمن الحضارة بكل أوامرها التي تضع قيوداً على إشباع غرائز الإنسان، فكل إنسان متحضر هو إنسان عصابي بدرجة أو أخرى (عرَّف أحد المعلقين على فرويد الإنسان بأنه «حيوان عصابي»). وبسبب إحساس الناس بالقيود التي تفرضها عليهم الحضارة وبسبب ضيقهم بها فإنهم يندفعون إلى وسائل الإشباع البديل كالتدخين أو المخدرات أو الدين أو الأعمال الفنية الإبداعية.
انطلاقاً من هذه الرؤية أعد فرويد ما أسماه «دراسة تسجيلية للمشاعر المرضية» عن ليوناردو دافنشي. وحاول في دراسته هذه أن يُفسِّر على ضوء منهج التحليل النفسي الأسباب التي من أجلها كان ليوناردو فناناً وعالماً في آن واحد. ويذهب فرويد إلى أن ليورنادو دافنشي أصبح فناناً بسبب مُركَّب أوديب الذي كان ذا صورة خاصة في حالته هو. إذ كان طفلاً يتيماً عاشقاً لأمه التي أيقظت فيه قبل الأوان نشاطه الجنسي ومن ثم تَسامَى بطاقة هذا النشاط إلى نشاطه كفنان. أما كونه عالماً فمرجعه إلى أن نشاطه الجنسي وهو طفل تَركَّز حول « البحث » عن الموضوعات الجنسية ثم عاوده هذا النشاط في مقتبل حياته، بعد أن كبته، في شـكل رغبـة حضارية في البحث في الطبيعة. وهكذا يُردُّ فن دافنشي إلى اللبيدو والبحث عن الطبيعة وإلى الطاقة الجنسية التي لم تتحقق.
ولا يختلف الدين كثيراً عن الفن، فهو أيضاً عصاب ووسواس عام و« مرض نفسي أصاب البشرية »، كما لا يختلف عن الأحلام أو التداعي الحر فهو يمثل إخراج صراعات الإنسان اللاشعورية ورفعها إلى المستوى الكوني، وهو في جانب منه يزود الإنسان بإشباعات بديلة لدوافعه البدائية، وفي جانب آخر يعمل كقوة قامعة لتلك النزعات.
وينطلق فرويد في كتابه الطوطم والمحرم من الافتراض الذي قال به داروين بأن الكائنات البشرية الأولى كان لها نمط من الحياة شبيه بنمط الحياة عند القردة العليا، أي أنها كانت تكوِّن جماعات صغيرة يرأسها ذكر قوي ومستبد هو سيد جماعته وأب لها لا حدود لما له عليها من سلطان. هذا الأب كان أباً غيوراً يستأثر بكل الإناث ولا يكاد أبناؤه يشبون عن الطوق حتى يطردهم خارج العشيرة أو يخصيهم أو حتى يقتلهم. ولكن حدث ذات يوم أن التأم شمل الإخوة المطرودين فقتلوا أباهم ووضعوا بذلك حداً لعصر العشيرة الأبوية، وحيث إنهم كانوا من أَكَلة لحوم البشر فقد التهموا لحم أبيهم نيئاً في محاولة التوحد به. وبعد فترة بدأت الجماعة تختار حيواناً قوياً مرهوباً ليحل محل الأب هو «الحيوان الطوطمي» أو «الطوطم». وظلت الجماعة تحتفظ للحيوان الطوطمي بالانفعالات الثنائيـة نفسها التي كانت من نصـيب الأب (أي التبجيل والبغض والخشية معاً)، ومن ثم فإن الطوطم برغم كونه موضع العبادة والحماية كان يُقتَل ويُلتَهم من أفراد الجماعة، وكان ذلك يتم في احتفال ذي طقوس خاصة هو الوليمة الطوطمية (التي ربما كانت أول احتفال بشري).
غير أن الأبناء وكل الأخوة غير الأشقاء أدركوا أن المصير الذي حل بالأب سوف يحل بالضرورة بهم ما لم يؤلفوا حلفاً فيما بينهم يُحرِّم القتل والزواج من داخل القبيلة. وهكذا ظهرت " الأباعدية " أو الزواج بعيداً عن الجماعة التي ينتمي لها الفرد، أي أن جريمة قتل الأب وغشيان المحارم أدَّت في واقع الأمر إلى انتقال الإنسان من حالة الطبيعة إلى حالة الحضارة، وهي التي أدَّت إلى بناء مجتمع على أساس عقد اجتماعي من نوع خاص يتضمن التنازل عن الغرائز وإدراك الالتزامات المتبادلة.
ولكن فرويد لا يكتفي بهذا العنصر العملي المادي، إذ نجده يتحدث عن إحساس بالذنب نشأ لدى جماهير الناس منذ عصور ما قبل التاريخ إثر جريمة قتل الأب وغشيان المحارم وأكل لحوم البشر. وانطلاقاً من مفهوم لاماركي تطوري يذهب فرويد إلى أن هذا الإحساس بالذنب أصبح على مدى آلاف الأعوام بمثابة ذاكرة سلالية مكبوتة داخل اللاشعور لها شحنتها القوية الفعالة. وبالتدريج تَحوَّل الأب القتيل إلى صورة الإله السماوي المحب الذي يَعد المؤمنين بالسعادة في عالم آخر إن هم تنازلوا عن رغباتهم الغريزية في هذا العالم، وما الخطيئة الأولى إلا ذكرى جريمة قتل الأب الإله، أما الوليمة الطوطمية والتناول المسيحي فهما شعيرتان يعيد بهما الإنسان تمثيل الجريمة والتهام الأب البدائي. وهكذا يصبح كل شـيء واضـحاً مفككاً، وهكـذا نكتشـف أن عقدة أو عقيدة أوديـب ليسـت محرك الأفراد وحسـب وإنما محرك التـاريخ والحضارة أيضاً. وفي الصفحات الأخيرة من الطوطم والمحرم يقول فرويد: « بوسعي إذن أن أنهي وألخص هذا البحث السريع بالقول بأننا نجد في مُركَّب أوديب بداية الدين والأخلاق والمجتمع والفن ».
ويُظْهر فرويد المقدرة التفكيكية التقويضية نفسها في دراسته للحضارة الإنسانية، فتفسيره لنشأتها لا يختلف كثيراً عن تفسيره لنشأة الفن والدين. فالمدنية تبدأ حين يتفق عدد من البشر على فرض حدود على إشباع الفرد لرغباته. ورؤية فرويد للطاقة الجنسية ـ كما أسلفنا ـ رؤية كمية، فثمة طاقة جنسية محددة في كل فرد وفي كل مجتمع، فإن أشبع كل فرد هذه الطاقة لن يكون هناك مجال للحياة الاجتماعية لكي تستمد من الحياة الجنسية الطاقة الضرورية لتأمين ديمومتها وتأمين تماسك الجماعة. « ولذا تنزع المدنية دائماً إلى وضع حدود لحياة الإنسان الجنسية، فهي في طورها الطوطمي بدأت بتحريم عشق المحارم، ثم تطورت المدنية بتحريماتها وقوانينها وعاداتها لتضع قيوداً جديدة على كل من الرجل والمرأة وهو ما أدَّى بحكم الضرورة الاقتصادية إلى سحب قدر كبير من الطاقة من أصولها الجنسية كإجراء احتياطي صارم. وهو يضرب مثلاً لذلك بحضارة الغرب (أي الحضارة المسيحية) التي بدأت بتحريم مظاهر الحياة الجنسية في الطفولة برغم وضوح مظاهرها، ثم أعقبت ذلك بوضع حدود لحياة الراشدين بما تفرض من قصر الاختيار بينهم على أفراد من الجنس الآخر وبما تحرِّم من ضروب الإشباع خارج العملية الجنسية بوصفه شذوذاً غير مباح. وهي في إصرارها على لون واحد من الحياة الجنسية للناس جميعاً تتجاهل الفروق بينهم ولا يعنيها أن يُحرم عدد قليل منهم من المتعة الجنسية وبذا تُنزل بهم ظلماً اجتماعياً فادحاً. وليت الأمر اقتصر على ذلك، بل إنه حتى الحب الغيري (أي لأفراد من الجنس الآخر) قد تَعرَّض أيضاً لقيود إضافية بتحريمه خارج الزواج الشرعي وخارج الوحدانية، أي أن مدنية الغرب تقول للناس إنها لا تريد من الحياة الجنسية أن تكون في ذاتها مصدراً للذة وأنها لا تحتملها إلا لعدم وجود بديل لها لبقاء الجنس البشري وحسب » (جرجس).
ثمة صراع جوهري بين رغبة الفرد الذي يأمل في الإشباع الجنسي ومتطلبات المجتمع التي تتعارض مع هذه الرغبات، فنمو المدنية رهن بما تفرضه على الفرد من قيود، ولذا فالإنسان يبغض المدنية. وقد لعب الدين دوراً أساسياً في عملية إعلاء الرغبة الجنسية والرغبة العدوانية عن طريق توليد الإحساس بالذنب بحيث يوجه الفرد إلى نفسه العدوان الفظ نفسه الذي كان يوجهه كطفل في خياله إلى العالم الخارجي على صورة قتل الأب فتصبح هذه النزعة العدوانية من مقومات الضمير. وينشأ توتر بين الضمير وصاحبه يؤدي إلى الشعور بالذنب الذي يظهر في صورة الحاجة إلى العقاب، ثم يَعقُب ذلك الندم. والندم منبعث من ثنائية شعور الطفل إزاء أبيه: البغض والحب معاً (قتل الأب الطوطمي وإشباع دافع البغض ونزعة العدوان من جهة، والحب الذي يظهر في صورة الندم من جهة أخرى).
ويرى فرويد أن الأديان لم يفتها إدراك الدور الذي يلعبه الشعور بالإثم في المدنية، فزعمت أنها تعمل على خلاص الإنسان من هذا الشعور الذي تسميه الخطيئة. وقد حاولت المسيحية تحقيق هذا الخلاص عن طريق التضحية بحياة فرد واحد يحمل معه ذنوب البشر جميعاً. وهكذا تدعو الأديان إلى المحبة والتضحية بالذات وتُعمِّق في الإنسان الإحساس بالذنب إن أشبع رغباته. وهكذا كلما خطونا نحو المدنية زاد الثمن الذي ندفعه، وهو ثمن باهظ ليس له ما يبرره، إذ أن الرغبة في الإشباع والعدوانية أمور مفطورة في الطبيعة البشرية.
ويتساءل فرويد عن حكمة الدعوة إلى فضائل مستحيلة مثل كبح جماح الرغبات الجنسية والعدوانية، فكل خبرات الحياة والتاريخ تبيِّن أن الإنسان أناني عدواني بطبعه. وإذا كانت هذه الخصال أساسية في الإنسان فإن الشيوعية، شأنها شأن الدين، تقوم بعملية تزييف للطبيعة البشرية، فالعدوان حَكَم حياة الإنسان كجماعة في العصور البدائية حين لم يكد يكون للملْكية الخاصة وجود، والعدوان يحكم حياته كفرد وهو لا يزال في المهد وحتى قبل أن يكون مفهوم الملكية بمعناها الشرجي قد تكوَّن لديه. وحتى إذا زالت من حياة الناس المنافسة من أجل الثروة المادية فستظل المنافسة في مجال العلاقات الجنسية قائمة. ولو زالت المنافسة من هذا المجال وسمحنا بالحرية الجنسية التامة وأزلنا نظام الأسرة (وهو لب حضارتنا) فسوف تكون هناك مجالات أخرى لإشـباع هـذا الميل إلى العـدوان لأن الإنسـان لن يشعر بالراحة دونه. وحينما طَلَب أينشـتاين من فرويد خطاباً يدعـو فيه إلى السـلام رد الأخير عليه قائلاً إن الحـرب أمـر طبيـعي تماماً، إذ أنها ترتكز على أساس بيولوجي مكين « فثمة غريزة للكراهية والتدمير تلتقي في منتصف الطريق مع تجار الحرب » (جرجس).
ولكن هذا العداء المتبادل بين الناس ينطوي على تهديد مستمر للمجتمع بالتفكك، بل والفناء، لا تجدي في دفعه المصلحة المشتركة بينهم. ولكن في الإطار الدارويني/الفرويدي ثمة حل دارويني/فرويدي للمشكلة، فبدلاً من قمع الميول العدوانية (وهو أمر مستحيل على أية حال) تُوجَّه هذا الميول نحو الجماعات الأخرى أو نحو الأفراد الذين هم خارج الجماعة، ويمكن في هذا الإطار فهم حتمية حالة الحرب والتصفيات العرْقية والدينية. وفي هذا الشأن يذكر فرويد « فضل » اليهود على المدنية، فقد انتشروا في أرجاء العالم ومن ثم اتجه إليهم عدوان الشعوب التي عاشوا بينها فأتاحوا لتلك الشعوب فرصة التنفيس عن طاقة العدوان.
ولكن في الغابة الداروينية المليئة بالبشر المصابين بالعصاب النفسي والذين لا همَّ لهم إلا إشباع غرائزهم الجنسية والعدوانية يظهر دائماً السوبرمان محرك التاريخ. ويظهر مُركَّب أوديب كنموذج تفسيري لكل شيء، فجماهير السبمن تشعر بحاجتها النفسية العميقة والنظرية للخضوع لسلطة بديلة لسلطة الأب (الذي تم ذبحه في بداية التاريخ والذي يقوم كل طفل بذبحه على الأقل مرة واحدة في حياته). وهذه الرغبة تُوجَد في الإنسان منذ الطفولة ولابد من التعبير عنها، ولذا فهي تتوجه للرجل العظيم الذي يحمل كل سمات الأب، وهو رجل يكون محط إعجابنا وموضع ثقتنا، ولكننا لا نملك إلا أن نهابه أيضاً. هذا الرجل العظيم هو الدكتاتور الذي يعـفينا من مسـئولية التفـكير والاختـيار على المستوى الاجتماعي، وهو المحلل النفسي الذي يلعب الدور نفسه على المستوى الفردي.
ولكن هذا الحل، شأنه شأن كل الحلول التي يطرحها فرويد، يحوي جرثومة فنائه، فالدين وهم يُعمِّق الإحساس بالإثم، وتوجيه طاقة العدوان للخارج يعني أشكالاً مختلفة من العدوان، وعملية الإعلاء مكتوب عليها الفشل، وزيادة التمدن تعني زيادة الألم، والرجل العظيم يمكن أن يكون رجلاً عصابياً (وكان هتلر يقرع الأبواب). لذا انتهى فرويد بالغوص في العدمية واللاعقلانية المادية: « إنني الآن قادر على أن أنصت دون ارتياب لأولئك النقاد الذين يؤكدون لنا أن المرء الذي يُقوِّم غايات الحضارة ووسائلها لا يسعه إلا أن يَخلُص إلى نتيجة واحدة هي أن كل شيء لا يساوي الجهد المبذول من أجله، وأن الحضارة لم تُنتج لنا في نهاية الأمر سوى ما لا طاقة للإنسان بتحمُّله ». وهكذا انتصر الحصان الجامح وسقط راكبه وتحول إيمان العالم العقلاني المادي بسلطان المعرفة إلى استخفاف مطلق بها، تماماً كما أصبحت مهمة المحلل النفسي تحويل البؤس الهستيري إلى شقاء عام! وهكذا يتفكك المفكك الأكبر وتلفه الظلمات التي ادعى أنه اكتشفها في النفس البشرية.
ورغم إسهامات فرويد المهمة في فهم أنفسنا فثمة نقط قصور عديدة لابد من معرفتها لمعرفة حدود المنظومة الفرويدية.
1 ـ نموذج فرويد المعرفي (شأنه شأن كثير من المفكرين العلمانيين الشاملين في القرن التاسع عشر)، نموذج حلولي واحدي مادي، يحاول تفسير الواقع بأسره في إطار عنصر مادي واحدي كامن في المادة. والنماذج المادية عادةً نماذج واحدية صراعية داروينية. وفرويد لا يمثل استثناءً من هذه القاعدة. وحدود نموذجه هي نفسها حدود النماذج المادية الصراعية، وهو يُسقط من اعتباره إلى حد كبير ما يقع خارج نطاق النماذج المادية مثل مفهوم حرية الإرادة والمقدرة على التكيف، بل على التجاوز الجذري.
2 ـ نظرية التحليل النفسي نظرية أحادية التفسير ترفض تَعدُّد السببية وذلك يتضح في:
أ ) تفسير ظاهرة المقاومة: فإذا وافق المريض على ما يقوله المحلل فهو يثبت صحة وجهة نظر التحليل النفسي، وإذا لم يوافق فهو يقاوم ما هو موجود داخله بالفعل، وبالتالي يثبت المريض في كلتا الحالتين صحة وجهة نظر المحلل النفسي!
ب) القدرة التفسيرية المطلقة: تدَّعي نظرية فرويد القدرة على تفسير كل شيء بدءاً من فلتات اللسان مروراً بتدخين السجائر وصولاً للعلاقات الجنسية الكاملة، كما تشمل مقدرتها التفسيرية كل المراحل التاريخية منذ بداية ظهور الإنسان حتى نهاية الحضارة مروراً بأية ظاهرة اجتماعية ثقافية تخطر على قلب بشر!
3 ـ أسقط النموذج الفرويدي الجوانب الاجتماعية ورغبة الإنسان في التواصل مع الآخرين. وكل أتبـاع فرويد الذين تمردوا عليه كان تمردهم يمثل محاولة لاسترجاع بعض العناصر التي أسقطها فرويد (يونج واللاشعور الجمعي ـ أدلر ومفهوم الجماعة والعنصر الاجتماعي). وبالطبع كان هناك من دفعوا أطروحته إلى نتيجتها المنطقية فأثاروا في نفسه الفزع مثل فيتلز (ومع هذا يجب أن نضع في الاعتبار أن فرويد نفسه في كتاباته كان يحاول أن يفلت من قبضة النموذج الحلولي الواحدي المادي، ومن هنا الحديث " الميتافيزيقي" عن ثناتوس والندم).
4 ـ النموذج الدارويني نموذج طبيعي/مادي يتسم بالعمومية وبإسقاط الخصوصية الإنسانية والحضارية. وقد حاول فرويد تَجاوُز هذا بتَبنّي النموذج اللاماركي: وهو نموذج يذهب إلى أن الصفات الحضارية المُكتسَبة يتم توارثها، فهو من ثم نموذج مادي علمي يدور في إطار الحتمية (التوارث) ولكنه يُدخل قدراً من الخصوصية (الصفات المتوارثة المكتسبة). ولكن مادية النموذج وعموميته تهزم فرويد فمفاهيم مثل مُركَّب أوديب ومراحل النفس البشرية المختلفة (الفمية ـ الشرجية ـ الكمون ـ التناسلية.. إلخ) هي مفاهيم ومراحل لا تعرف الخصوصية الحضارية ولا الفردية الإنسانية، فهي متحررة من الزمان والمكان. فكل البشر، أفراداً وحضارات، يمرون بالمراحل نفسها ويسقط معظمهم صرعى المرض النفسي، فهناك من يكتب قصيدة وهناك من ينتحر أو يُجن. أما التساؤل عن سبب حدوث هذا لشخص بعينه وحدوث العكس لشخص آخر، فهذا ما لا يستطيع النموذج الفرويدي تفسيره. كما لا يمكنه أن يُبيِّن لنا سبب أفضلية كتابة القصيدة على الانتحار. وأخيراً لا يستطيع النموذج الفرويدي أن يُفسِّر لنا لمَ يؤدي عصاب شاعر ما إلى كتابة قصيدة رديئة أو إلى صرخة ألم بينما يؤدي عصاب شاعر آخر إلى كتابة قصيدة عظيمة.
5 ـ تظهر حدود النموذج الفرويدي في إغفاله طرح بعض الأسئلة الجوهرية. ففرويد يتحدث عن إحساس الإنسان بالذنب بعد مقتل الأب ولا يحدثنا عن مصـدر هـذا الإحسـاس: هل هو تعبير عن اللبيدو والإيروس أم تعبير عن الثناتوس؟ ولمَ يشعر الإنسان بالذنب أساساً؟ ولمَ يتذكر الإنسان شيئاً كريهاً مثل مقتل الأب ويتوارثه ويُشفِّره رموزاً يتعاطاها ليل نهار ثم يحاول بعد ذلك كبتها، مع أنه كان من المفروض، حسب ما تمليه الاتجاهات اللبيدية للإنسان، أن ينسى مثل هذا الفعل ويستمر في قتل الأب واغتصاب الأم والأخوات؟ لمَ هذه اللحظة الفارقة (كما يسميها على عزت بيجوفيتش)؟ لمَ هذا الدُوار الميتافيزيقي الذي يجعل الإنسان يرفض أن يستمر قرداً طبيعياً ويقرر أن يصبح إنساناً معذباً يتذكر الجرم ولا ينساه؟ ألا يشير هذا إلى حس أخلاقي أصيل في الإنسان بجوار اللبيدو؟ إن فرويد يرصد كل هذا ويشير إليه في منظومته، وهو ما يخلق فضاءً إنسانياً داخل المنظومة اللاإنسانية، ومع هذا تظل حدودها المادية مُطبَّقة عليه، تحدد حدود خطابه ومجال حركته ورؤيته.
6 ـ لا تتسم منظومة فرويد بالشمول وحسب وإنما بقدر من الشمولية. فالأحلام، على سبيل المثال، لها معناها الظاهر الذي يختلف عن المعنى الباطن (الحقيقي) الذي لا يستطيع أحد إلا المفسر (السوبرمان) الوصول إليه. وهذا المفسر القوي قادر على فرض المعنى الذي يراه من خلال آلياته. والمعنى الباطن تعبير عن اللاشعور الذي يُوجِّه سلوكنا اليومي، رغم وجوده خارج دائرة شعورنا وإرادتنا. ولذا حين نكتشف في الإنسان وجود قوة فعالة مثل الحب والتراحم والإحساس بالذنب فإن المفسر القوي يردها إلى اللاشعور الذي يُرد بدوره إلى عالم الهو واللبيدو والظلام. وقد انتهى الأمر بالمحلل النفسي إلى أن يقول: « إن الشعور بالخطيئة تعبير عن اللاشعور » وهو قول متناقض يُبيِّن هيمنة أيديولوجيا اللاشعور الحتمية المادية.
7 ـ توجد تحيزات في المنظومة الفرويدية تبين أنه يدور أساساً في إطار غربي:
أ ) أسلفنا الإشارة للرؤية المادية والرؤية التطورية والرؤية الصراعية باعتبارها الرؤى المهيمنة على فرويد، وهي الرؤى السائدة في عصره في أوربا.
ب) يتبنَّى فرويد نموذجاً ذكَرياً واضحاً في التحليل يتحوَّل فيه القضيب ليصبح الركيزة الأساسية للبناء الفوقي. فنجد أن الطفل يعاني من خوف الخصاء والمرأة تعاني من حسد القضيب. وهذا الموقف من المرأة هو امتداد لرؤية الفكر اليوناني للمرأة باعتبارها مخلوقاً أدنى من الرجل ورؤية الجسد الذكَري بوصفه نموذجاً للكمال والاتساق.
جـ) يستخدم فرويد مجموعة من الأساطير اليونانية كصور مجازية يكتشف من خلالها النفس البشرية، ولا شك في أن هذا حدّ من مجاله. ولعله لو استخدم أساطير أخرى وصوراً مجازية أخرى لاختلف نطاق الملاحظة واختلفت الشواهد ومن ثم اختلفت النتائج. وقد أشار عديد من علماء الأنثروبولوجيا إلى وجود العديد من المجتمعات يؤدي تطورها التاريخي وطرق تنشئتها لأطفالها إلى تكوين شخصيات مختلفة تماماً عن افتراضات فرويد. وقد طرح أحد العلماء الصينيين سؤالاً عن مركب أوديب في الصين الذي تسود فيه عبادة الأسلاف، وهل يمكن أن ينشأ مثل هذا المركب في مثل هذا المجتمع؟
د ) تعميمات فرويد مأخوذة من مجتمع فيينا في القرن التاسع عشر بكل ما فيه من سمات التشدد والتزمت الجنسي العلني (والانحلال والتفسخ الجنـسي السـري) وهو ما جـعل كثيراً من الاضطرابات تأخذ شكلاً جنسياً.
8 ـ كثير من مسلمات فرويد لا يمكن البرهنة عليها ولا يمكن تفسيرها عقلياً. ولنأخذ قضية الأحلام:
أ ) ليس هناك ما يدل على ضرورة ربط كل الأحلام بالجنس.
ب) لم ينكر فرويد نفسه أن الأحلام أحياناً تكون ذات مصدر فسيولوجي مثل عسر الهضم أو الإحسـاس بعـدم الراحة ومن ثم فمثل هذه الأحلام ليست ذات هدف ولا معنى.
جـ) لم ينكر فرويد أيضاً أن الأحلام تنبع أحياناً من الوعي ذاته ومن ثم لا علاقة لها باللاوعي. ولكن تظل مشكلة مَنْ الذي يقرر تلك المشكلة الأساسية.
د ) يبدو أن مفهوم فرويد للأحلام والعقل يتناقض مع بعض مكتشفات العالم الحديث.
9 ـ ثمة مفاهيم لم يستطع فرويد أن يحدد موقفه منها تماماً، ولذا فهي تتسم بالإبهام الشديد. فلنأخذ القمع والإعلاء: هل هي أمور مرغوب فيها أم شيء بغيض؟ ففي محاضراته في جامعة كلارك يتحدث عن إمكانية الإعلاء والتجاوز ويؤكد ضرورة أن تصبح بؤرة الدوافع الجنسية هدفاً أكثر بُعداً من الجنس وأن تكون لها قيمة اجتماعية أعلى. ولكنه في المحاضرة التالية يغوص في الحلولية مرة أخرى ويحذر من تَجاهُل الجانب الحيواني لطبيعتنا، وهذا الإبهام يظهر في كتاباته الحضارية مثل كتاب الطوطم والتحريم و موسى والتوحيد.
ولعل هذا الإبهام هو الذي أدى بفرويد إلى التركيز على الشخصيات غير السوية. فالجنس بالنسبة لفرويد هو اللوجوس (الركيزة النهائية) والإشباع الجنسي هو التيلوس (الهدف النهائي). ولكنه في الوقت نفسه كان يرى أن الحضارة مبنية على القمع والإعلاء. وهكذا تصطدم الحتمية اللبيدية بالحقيقة الإنسانية الحضارية، فيظهر موضوع مأساة الحضارة. ولذا كان لابد أن يجد فرويد مخرجاً. ومن هنا كان التركيز على الشخصيات غير السوية، فهذه الشخصيات تعبير عن هيمنة اللاشعور والهو وقوانين الطبيعة/المادة، على عكس الشخصيات السوية التي تؤكد مجموعة من القيم الاجتماعية والأخلاقية التي تؤكد حرية الإرادة ومقدرة الإنسان على التجاوز والتي تتناقض مع النموذج المادي.
ولعل هذا الإبهام في موقف فرويد وعدم حسمه لهذه القضية هو الذي أدَّى في نهاية الأمر إلى استخدام كثير من الناس نظريته في اللبيدو أساساً لتبرير الحرية الجنسية والإباحية والشذوذ، رغم إصراره هو نفسه على أن الكبت، وليس الإشباع، هو أساس الحضارة. فكأن منطق النموذج الواحدي الطبيعي/المادي هو الذي ساد وتفوَّق وهمَّش المقدرة على الإعلاء والتجاوز.
10 ـ تدثر التحليل النفسي بلغة موضوعية وتحدَّث فرويد بأسلوب يوحي بأنه متجرد من الزمان والمكان، وبأن المفاهيم التي يستخدمها مفاهيم قابلة للاختبار وترقى لمستوى القوانين النظرية العامة، وهو أمر يشكك فيه معظم الباحثين للأسباب التالية:
أ ) كثير من المصطلحات التي يستخدمها فرويد إما عامة إلى درجة كبيرة (اللبيدو)، أو خاصة إلى درجة كبيرة (مركب أوديب)، أو غامض إلى أقصى حد (ثناتوس)، أو متناقضة (إيروس وثناتوس).
ب) هذه المصطلحات تعبِّر عن مفاهيم ومقولات من الصعب اختبارها (وإن كان هناك من المفاهيم الفرويدية ما تم اختباره وبالفعل أثبت مقدرته التفسيرية).
جـ) بنى فرويد أداءه على أساس نظريات إثنولوجية لم تتأكد صحتها فقد كان يتلقف أية نظرية إثنولوجية يتراءى له أنها تتلاءم وأغراضه رغم أنها أصبحت موضع استهجان من قبَل علماء الإثنولوجيا. وقد قال دفاعاً عن منهجه هذا: « إنني أولاً وقبل كل شيء لست عالم إثنولوجيا بل عالم تحليل نفسي: ومن ثم كان من حقي أن أنتقي من بين المعطيات الإثنولوجية كل ما أراه مفيداً لأبحاثي التحليلية ». وهكذا نراه يقتبس كل ما يبدو مفيداً لوجهة نظره ويتخذه أساساً لنظريته عن نشأة المجتمع والأخلاق والدين.
د ) كانت طريقة فرويد في جمع البيانات غير منهجية وغير مضبوطة، فهو لم يسجل كلام المرضى مباشرةً بل كان يدونه بعد الجلسات، الأمر الذي يثير إمكانية أنه كان يعيد تفسيرها وهو يسجلها في وقت لاحق. كما أنه لم يحاول أن يتأكد من صحة أقوال مرضاه. وقد بدأت تظهر معلومات تبيِّن أنه كان ينام أحياناً أثناء مقابلاته مع مرضاه، كما كان يكتب بعض خطاباته أثناء الجلسات. بل إن هناك أيضاً من الأدلة ما يشير إلى أنه كان يزيف المعلومات أحياناً. ويُقال إنه نصح أحد المرضى بأن يترك زوجته بناءً على طلب عشيقة المريض التي دفعت لفرويد مكافأة مالية نظير هذا. وهناك كذلك قضية علاقته بأخت زوجته.
هـ) كان فرويد يلوي عنق الحقائق فمريضته الشهيرة دورا على سبيل المثال قالت إن أحد أصدقاء أسرتها تحرش بها جنسياً، فكتب فرويد أنها تقمع ذكريات الطفولة عن ممارسـة العادة السـرية بل وتكبت رغبتهـا في أن يتم التحرش بها جنسياً. وحينما كانت دورا ترفض ادعاءات فرويد كان يخبرها أن رفضها يعني القبول لأنها مقاومة لا شعورية. فقد كان فرويد يرفض أية إجابة لا تتفق مع وجهة نظره طالما استقر رأيه على شيء، وكان يستخدم كل ذكائه وكل قدرته على الإقناع لإجبار مريضه على التصريح بصحة رأيه.
و ) لم يشرح فرويد قط طريقة استخلاصه للنتائج من البيانات التي جمعها.
ز ) نطاق البيانات التي جمعها فرويد كان ضيقاً للغاية فقد استند أساساً إلى بعض المشاهدات التي كان مجتمع فيينا يزخر بها، كما أن انتماءه اليهودي ساهم ولا شك في تضييق نطاق هذه البيانات. كما أن خبراته الشخصية كانت محدودة إلى حد كبير. ورغم كل هذا جعل فرويد من تلك المشاهدات أساساً لنظرية عامة في الشخصية تُطبَّق على الناس جميعاً أياً كان الوضع الحضاري الذي يعيشون فيه.
11 ـ ويقودنا هذا إلى النقطة الأخيرة وهي شخصية فرويد نفسه، وهي قضية مهمة بسبب ارتباط التحليل النفسي به. ومن المعروف الآن أن فرويد لم يكن شخصية سوية تماماً، فقد كان يعاني ـ كما بيَّنا ـ مشكلة هوية حادة بسبب كونه يهودياً غير يهودي، الأمر الذي سبَّب كثيراً من الإبهام في مفاهيمه.
ويشير الدكتور قدري حفني إلى شخصيته التسلطية وكيف أنه كان لا يقبل المعارضة. فحينما اختلف مع يونج وصفه بأنه الكذاب ـ المدعي ـ المهرطق (وهو ما يُبيِّن أن فرويد كان يرى أن التحليل النفسي البديل العلماني للدين، وأن المفسر هو البديل العلماني للكاهن). وحيث إن المسألة مسألة دينية فإن فرويد كتب إلى إرنست جونز مشجعاً إياه على طرد أنصار يونج من جمعية لندن مستخدماً في خطابه مصطلحاً شـبه ديني ( « إن عزمك على تطـهير جمعيـة لندن من أنصار يونج لأمر رائع » ).
ووصف فرويد أدلر، بعد اختلافهما، بأنه « كومة من النفايات مليئة بالسم والشر». وقال إنه « صنع من القزم عملاقاً ». فرد أدلر: "... حتى القزم، إذا ما احتل مكانه على كتفي عملاق ضخم، فإنه يستطيع أن يرى أبعد ممن يحمله". فرد فرويد، مرة أخرى، قائلاً: «... قد يصدق ذلك على القزم، ولكن لا يصدق، بحال، على قملة في شعر ذلك العملاق ». بل إن الأمر ليمضي إلى ما هو أبعد من ذلك. فبعد وفاة أدلر، في الأول من مايو 1937، كتب آرنولد زفايج إلى فرويد معبِّراً عن تأثره لذلك، إذ أن أدلر وافته المنية فجأة وهو يسرع الخطى عبر أحد شوارع إسكتلندا في طريقه لإلقاء إحدى محاضراته، فإذا بفرويد يكتـب لزفايج، في 22 يونيـه 1937، مؤنباً إياه، لإبدائه مثل تلك المشاعر، قائلاً: «... إنني لا أفهم تعاطفك من أجل أدلر. إن ملاقـاة الموت في أحد الشـوارع الفاخرة في إسكتلندا ليُعدُّ، بالنسبة إلى ولد يهودي خرج من ضاحية متواضعة من ضواحي فيينا، حدثاً رائعاً في حد ذاته، ودليلاً على مدى ما بلغه من رفعة. لقد كافأته الدنيا بسخاء نظير ما قدمه من خدمات بمعارضته التحليل النفسي ». وكل هذه الملاحظات تدل على ضيق الأفق والتسلط والفشل الذريع في فهم الآخر.
وقد ترك فرويد أثراً عميقاً في كثير من العاملين بالتحليل النفسي. فقام بعض أتباعه ببلورة بعض العناصر في المنظومة الفرويدية دون غيرها. ففيتلز مثلاً ذهب إلى أن الترخيصية الجنسية هي الحل الطبيعي لمشاكل البشر النفسية. وقام ويلهلم لايخ بالبحث عن الحل السحري في طاقة الأورجون التي ذهب إلى أنها الأساس العلمي للتحليل النفسي، وتحدث كارل أبراهام الألماني عن « سقوط قضيب الأم ». وقد تحوَّل التحليل النفسي في الولايات المتحدة إلى نوع من العبادة الوثنية حيث صار المحللون يعتقدون أنهم كهنة وأن مهنتهم مقدَّسة. وامتلأت كتب التحليل النفسي بالترهات التي تهدف إلى إقناع الفرد بأن كل ما يفعله سويّ، طالما أنه يريحه نفسياً ويُشبع رغباته.
وعلى المستوى الفلسفي أكد بعض أتباع فرويد البُعد الحتمي، فذهب لاكان الفرنسي إلى أن اللاشعور هو الأساس فاستخدم منهج اللغويات ليخبرنا بأن اللاشعور هو من يتكلم أو يفكر حينما يتكلم الإنسان أو يفكر. كما ذهب لاكان إلى أن الاتصال البشري مستحيل حيث إن اللاشعور سيتدخل في الطريق. ولكن ظهر محللون نفسيون رفضـوا مثل هـذه الحتمـية مثل إريك إريكسون وإريك فروم ودونالد وينكوت. فإريكسون يُصِّر على تاريخية طريقة التحليل النفسي وبالتالي ينفي عنها الجانب الحتمي والفكر الاختزالي الذي يقفز من الفرد إلى المجتمع، ويتحدث عن الروح والخالق كضرورة للإيمان والثقة (على عكس فرويد « الذي لا إله له » على حد قوله). وبالمثل يرى وينكوت أنه لا يكفي أن نقول إن ثمة سبباً عضوياً للمرض النفسي، بل يجب أن نتساءل عن سبب اختلال هذا التوازن العضوي من الداخل. فالإنسان ليس آلة ولا مجموعة مركبات. والسؤال الأساسي عنده هو: لماذا وكيف أصبح الإنسان إنساناً؟
ساجدة لله
2010-10-27, 05:46 AM
البُعـــد "اليهــودي" في رؤيــــة فرويــــد
The Jewish Dimension Of Freud's World VIEW
من القضايا الأساسية التي تثار في الدراسات الخاصة بتاريخ التحليل النفسي والمنظومة الفرويدية قضية البُعد اليهودي فيها، ويمكننا أن نؤكد ابتداءً أن فرويد ينتمي بشكل كامل إلى الحضارة الغربية التي هيمن عليها نموذج العلمانية الشاملة والتي كانت قد بدأت تدخل مرحلة السيولة واللاعقلانية المادية. ويُعتبَر فرويد من أهم مفكري هذه الحضارة ومنظريها، ولا يمكن فَهْم فكره إلا في إطار الحضارة الغربية الحديثة. ومع هذا يذهب كثير من مؤرخي الأفكار إلى القول بأن التحليل النفسي « علم يهودي » يضرب بجذوره في طبيعة اليهود النفسية (وهذه مقولة أخذ بها النازيون وكثير من الصهاينة). والمدافعون عن هذا الرأي (أ. روباك A.Roback ـ إيزيدور سادجر Sadger ـ إرنست جونز Jones) يسوقون قرائن عديدة من بينها أن اليهود دائمو التأمل في أسباب الظواهر، ويتضح هذا في مزامير داود وفي التلمود. وهذا التفسير يربط بين التحليل النفسي وبعض الصفات الأزلية الثابتة في طبيعة اليهود. وهناك من يحاول أن يُدخل بُعداً تاريخياً فيذهب إلى القول بأن التحليل النفسي هو محاولة اليهودي أن يعالج عُصابه الناجم عن وجوده الدائم في المنفى. وتذهب سوزان هاندلمان إلى أن فرويد إن هو إلا تعبير عن تقاليد الهرمنيوطيقا المهرطقة (انظر الباب المعنون «اليهود واليهودية وما بعد الحداثة») وهو جزء من انتقام اليهودي من مجتمع الأغيار الذي اقتلعـه من مكانه، ولذا فاليهـودي يقـوم بتفكيك الحضارة الغربية المسيحية، تماماً كما قامت هذه الحضارة بتفكيكه. ومثل هذه الأفكار تلاقي رواجاً غير عادي في بعض الأوساط في العالم العربي، وتُستخدَم في تدعيم الرأي القائل بوجود « مؤامرة يهودية » تعبِّر عن الجوهر اليهودي.
وكان فرويد نفسه يغذي هذه الأفكار فكان يربط بين التحليل النفسي وانتمائه اليهودي، فالمقاومة التي لاقاها التحليل النفسي كانت، في تَصوُّره، جزءاً من رفض الحضارة الغربية لكل ما هو يهودي. والتحليل النفسي في تصوره كان من إبداعه (« لمدة عشر سنوات كنت أنا الشخص الوحيد الذي انشغل به ولا أحد يعرف أكثر مني ما هو التحليل النفسي »).
وكان فرويد يتصور أن عالم الأغيـار سيرفض التحليل النفسي بسبب يهوديته ولذا كان يتصـور أنه لابد من إعطائه واجهة «مسيحية». وكان هذا هو الدور المُوكَل ليونج ابن الراعي السويسري. فكتب فرويد إلى كارل أبراهام (1908) خطاباً يحثه فيه على كسب مودته « فيونج مسيحي وابن قسيس [ولذا فهو] يجد عناصر مقاومة داخلية شديدة تعوق اقترابه مني. ونحن لا غنى لنا إطلاقاً عن رفاقنا الآريين كافة، وإلا سقط التحليل النفسي ضحية معاداة اليهود ». وحينما اعترض أتباع فرويد على ترشيح يونج لرئاسة الجمعية الدولية قال لهم فرويد: « إن معظمكم من اليهود ومن ثم فإنكم لن تستطيعوا ضم أصدقاء للفكر الجديد. على اليهود أن يَقنَعوا بدورهم المتواضع في تمهيد الطريق، فمن أشد الأمور أهمية بالنسبة لي أن أستطيع إيجاد روابط مع دنيا العلم. وها أنتم ترون أني أتقدم في السن وأشعر بالتعب من الهجوم المتواصل. إننا جميعاً [أي اليهود العاملين في حقل التحليل النفسي] في خطر ». ثم أمسـك فرويد بثنيـة سـترته ومـضى يقول بطريقة مسرحية: « إنهم لن يتركوا لي سترة أغطي بها ظهري ولكن السويسريين [أي المسيحيين] سينقذوننا سينقذونني، وسينقذونكم جميعاً أيضاً »
وكان فرويد كثيراً ما يتباهى باليهودية وبانتمائه اليهودي، فكان يرى أن الشعب اليهودي قَدَّم التوراة للعالم، وأن اليهودية مصدر طاقة لكثير مما كتب. وقد أكد أكثر من مرة أنه كان دائماً مخلصاً لشعبه « ولم أتظاهر بأنني شيء آخر: يهودي من مورافيا جاء أبواه من جاليشيا ». وحينما سأله صديق يهودي عما إذا كان من الواجب على اليهود أن يوجهوا أولادهم لاعتناق المسيحية (وهو أمر كان شائعاً بين اليهود آنـذاك، بل من المعروف أن بعـض أقـارب فرويد قد تَنصـَّروا) رد قـائلاً : « اليهودية مصدر طاقة لا يمكن أن تُعوَّض بأي شيء آخر، [فاليهودي] عليه كيهـودي أن يكافح، ومن الواجـب أن يُنـمِّي في نفسـه كل هذا الكفاح، فلا تحرمه من هذه الميزة،.
وقد انضم فرويد لجماعة بناي بريت عام 1895 وفيها ألقى أولى محاضراته عن تفسير الأحلام. وفي 6 مايو عام 1926 أقامت الجمعية حفلاً خاصاً بمناسبة بلوغه السبعين من عمره. ولم يَحضُر فرويد هذا الحفل وأناب عنه في حضوره طبيبه الخاص البروفسور لدفيج براون الذي ألقى كلمته والتي تضمنت قوله «... إن كونكم يهوداً لأمر يوافقني كل الموافقة لأنني أنا نفسي يهودي. فقد بدا لي دائماً إنكار هذه الحقيقة ليس فقط أمراً غير خليق بصاحبه، بل هو عمل فيه حماقة أكيدة. إنني لتربطني باليهودية أمور كثيرة تجعل إغراء اليهودية واليهود أمراً لا سبيل إلى مقاومته، قوى انفعالية غامضة كثيرة كلما زادت قوتها تَعذَّر التعبير عنها في كلمات. بالإضافة إلى شعور واضح بالذاتية الداخلية، الخلوة الآمنة لتركيب عقلي مشترك. ثم بعد هذا كله كان إدراكي أنني مدين بالفضل لطبيعتي اليهودية فيما أملك من صفتين مميزتين لم يكن في وسعي الغناء عنهما خلال حياتي الشاقة: فلأني يهودي وجدت نفسي خلواً من التحيزات التي أضلت غيري دون استخدام ملكاتهم الذهنية، وكيهودي كنت مستعداً للانضمام إلى المعارضة وللتصرف دون موافقة الأغلبية الساحقة. وهكذا وجدت نفسي واحداً منكم أقوم بدوري في اهتماماتكم الإنسانية والقومية، واكتسبت أصدقاء من بينكم، وحثثت الأصدقاء القليلين الذين تبقوا على الانضمام إليكم». ولكنه بعد خمسة أعوام نجده يكتب رداً على تهنئة حاخام فيينا له بمناسبة عيد ميلاده الخامس والسبعين يقول: « في مكان ما في أعماق روحي أشعر أني يهودي متعصب.. وأني شديد الدهشة أن أكتشف نفسي هكذا، رغم كل جهودي للوصول للموضوعية ولإنكار التحيز »، أي أن اليهودية التي جعلته خلواً من التحيزات في سن السبعين، جعلته غير قادر على إنكار التحيز في سن الخامس والسبعين. هل هذه سقطة فرويدية، بمعنى أنه فـي المرة الأولى كان يدَّعي خلـوه من التـحيزات حين كان يُلقي خطاباً عاماً، وفي المرة الثانية سقط القناع وكشف مكنون نفسه لأنه يكتب خطاباً خاصاً لحاخام؟
بل يبدو أن فرويد كان يغازل الصهيونية ويظهر هذا في تباهيه بما يُسمَّى «الشعب اليهودي». وكان فرويد يعرف تيودور هرتزل ويوليه الاحـترام ويشـير إليـه باعتـباره « الشـاعر والمحارب من أجل حقوق شعبنا ». وأرسل إليه أحد كتبه مع عبارة إهداء شخصي عليه. وكان أحد أبناء فرويد عضواً في جماعة قديما الصهيونية، كما كان هو نفسه عضواً فخرياً بها.
وقد كتب فرويد إلى إحدى تلميذاته من العاملات بالتحليل النفسي، وهي إشبيلر اين، بعد أن علم أنها توشك أن تضع طفلاً، يقول لها: "... أود لو خرج الطفل ذكراً أن يصير صهيونياً متعصباً.. إننا يهود، وسـنظل يهوداً.. وسـيبقى الآخرون، على اسـتغلالهم لنا، دون أن يفهمونا، أو يقدرونا حق التقدير » (الخطاب مؤرخ في أغسطس 1913 ولكنه لم يُنشَر إلا عام 1982). وكان فرويد عضواً في مجلس أمناء الجامعة العبرية بالقدس، وكان يفتخر بذلك ويقول عنها « جامعتنا".
ويُشير الدكتور قدري حفني إلى ما يسميه «التنظيم الصهيوني الفرويدي». فقد نشر فرويد عام 1914 كتيباً بعنوان تاريخ حركة التحليل النفسي أشار فيه إلى تشكيل الرابطة الدولية للتحليل النفسي عام 1902 "حين تشكَّلت حولي مجموعة من أطباء شبان، كان هدفهم المعلن تَعلُّم وممارسة ونشر التحليل النفسي... وبعد سنتين من المؤتمر الأول الخاص للمحللين النفسيين، انعقد المؤتمر الثاني في نورمبرج هذه المرة في مارس 1910، وفي الفترة الفاصلة بين هذين المؤتمرين... وإزاء العداء المتزايد الذي كان يُواجَه به التحليل النفسي في ألمانيا... صمَّمت مشروعاً، وأفلحت أثناء ذلك المؤتمر الثاني، في وضعه موضع التنفيذ، بمساعدة صديقي س. فيرنزي. وكان هذا المشروع يرمي إلى تزويد حركة التحليل النفسي بتنظيم... تحاشياً للتجاوزات التي يمكن أن تُرتكَب باسم التحليل النفسي... وكنت أرغب، أيضاً، في أن تقوم بين أنصار التحليل النفسي علاقات صداقة وتآزر ولهذا، وليس لأي شيء آخر، كنت أرغب في قيام الرابطة الدولية للتحليل النفسي...".
كان ذلك هو أقصى ما صرَّح به فرويد علناً آنذاك. أمّا ما نُشر بعد ذلك بأعوام طوال، فقد كان مختلفاً تماماً. لقد قام المحلل النفسي المعروف، إرنست جونز، ابتداءً من عام 1953، بالشروع في نشر سيرة حياة فرويد. وكان جونز آنذاك آخر الأحياء من القيادة السرية للتنظيم الصهيوني الفرويدي. وتضمَّنت تلك السيرة، التي نُشرت في ثلاثة أجزاء، العديد من الخطابات المتبادلة بين فرويد وخلصائه، ومن بينهم أعضاء تلك القيادة السرية، والتي كانت تضم، إلى جانب فرويد، كلاً من جونز وفيرنزي وساخس ورانك وأبراهام، وإيتنجتون الذي انضم إلى تلك القيادة بعد تشكيلها بعدة أعوام.
أشار جونز إلى أن بداية التفكير في تشكيل تلك القيادة السرية ترجع إلى يوليه 1912 حيث اقترح جونز على فيرنزي اقتراحاً مؤداه تشكيل « جماعة صغيرة من المحللين الموثوق فيهم كنوع من الحرس القديم الذي يحيـط بفرويد ». ونوقـش هـذا الاقتراح، بالتفصيل مع فرويد، الذي استجاب له فوراً وبصورة إيجابية. وتتضح تفاصيل هذا الاقتراح، وكذلك طبيعة استجابة فرويد له، في خطاب بعث به فرويد إلى جونز، يحمل تاريخ الأول من أغسطس 1912، أي بعد مرور أقل من شهر على بزوغ الفكرة، ذكر فيه: "... إن ما استولى على خيالي فوراً هو فكرتك عن مجلس سري يتألف من خيرة رجالنا وأكثرهم استحقاقاً للثقة، للقيام على أمور التطورات اللاحقة للتحليل النفسي، وللدفاع عن القضية في مواجهة الأشخاص والأحداث بعد وفاتي... وقبل كل شيء، ينبغي أن تلتزم تلك اللجنة السرية المطلقة، سواء فيما يتعلق بوجودها أصلاً، أو فيما يتعلق بأعمالها... ومهما أتت به الأيام المقبلة، فإن القائد المقبل لحركة التحليل النفسي ينبغي أن يخرج من بين هذه الحلقة الصغيرة المختارة من الرجال...". ولم يمض عام حتى عقدت تلك القيادة أول اجتماعاتها في منزل فرويد، الذي أهدى لكل من أعضائها فصاً إغريقياً قديماً من مجموعته، وقام هؤلاء بتركيب هذا الفص على خاتم ذهبي، كان فرويد يلبس مثيلاً له. وحين انضم إيتنجتون إلى القيادة، أهدى فرويد إليه خاتماً مماثلاً كذلك.
وكان عدد اليهود بين أتباع فرويد كبيراً بشكل ملحوظ. فحلقة النقاش الأسبوعية التي بدأها عام 1902 كان يحضرها يونج وأدلر ورانك وجونز وأبراهام وإيتنجتون ورايك وفيتلز وفرنزي، وكلهم من اليهود ما عدا يونج وجونز. ويشير الدكتور قدري حفني إلى الصهاينة منهم. فماكس إيتنجتون، مثلاً، وهو أحد أعضاء القيادة السرية للتنظيم الفرويدي الصهيوني، قرر، في سبتمبر 1933، أن يغادر ألمانيا إلى فلسطين، حيث أقام هناك بقية حياته، وأنشأ «الجمعية الفلسطينية للتحليل النفسي » التي ما زالت قائمة حتى الآن، بعـد أن تغيَّر اسـمها طبعاً. وقـال المحلل النفـسي سـيدني بومر: « لم يكن انتقـال إيتنجتون إلى إسـرائيل مجرد اسـتجابة لضرورات الحرب، بل كان نتيجة طبيعية لميله، طوال حياته، إلى الصهيونية ». أما المحلل النفسي الشهير، إرنست سيميل، والصديق الصدوق لماكس إيتنجتون، فهو صاحب الكتاب المعروف المعاداة للسامية مرض اجتماعي، وفيه يُرجع المشكلة اليهودية برمتها إلى أسباب نفسية خالصة. ولقد بلغ من تقدير فرويد لسيميل أنه أهداه، عام 1939، ذلك الخاتم الشهير نفسه الذي سبق أن أهدى مثله لأعضاء القيادة السرية للتنظيم قبل ذلك بسنوات طوال. أما سيجموند برنفيلد، المحلل النفسي، فهو نفسه ذلك العضو البارز في المنظمات الصهيونية، الذي تَبنَّى أفكار الفيلسوف الصهيوني مارتن بوبر، وكرَّس جانباً كبيراً من كتاباته النفسية لإبراز خصائص الشعب اليهودي، والدفاع عن فكرة «فلسطين كوطن قومي لليهود». وقد زكَّاه فرويد بقوله: "... إنه خبير بارز في التحليل النفسي. واعتبره واحداً من أقوى العقول بين تلامذتي وأتباعي...". وكذلك الحال بالنسبة للطبيب والمحلل النفسي فيلكس دويتش، الذي كان، منذ شبابه، من أنشط أعضاء التنظيم الطلابي الصهيوني في فيينا، والذي التقى، في صفوف هذا التنظيم، بمارتن فرويد، ابن سيجموند فرويد؛ ومن خلال لقائهما، عرف دويتش طريقه إلى فرويد والفرويدية.
أما فيما يتصل بتكوين فرويد الثقافي فنحن نعرف أنه درس العبرية والتوراة في طفولته. ومن المؤكد أن فرويد كان على علم بالتراث القبَّالي فأبواه كانا من خلفية حسيدية، وكان جلينيك، وهو واحد من أشهر العلماء القبَّاليين، يعطي محاضراته في فيينا في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر. ورغم أن أحداً لم يدرس مدى معرفة فرويد بالحركة الفرانكية التي نبعت من الحركة القبَّالية، وحققت انتشاراً واسعاً بين العناصر الثورية اليهودية، إلا أن بوسعنا أن نفترض أن فرويد كان على علم بها وبرؤيتها للكون. وعلى كل لا يتطلب التأثر بالأفكار المعرفة المتخصصة والقراءة المباشرة للأعمال الأصلية، إذ يكفي أن يعيش المرء في مناخ فكري معيَّن وداخل تشكيل ثقافي معيَّن ليستوعب أفكاره الرئيسية. وهناك الملايين من «الرومانتيكيين » في بلادنا ممن استقوا رؤيتهم الرومانسية لا من جان جاك روسو ولا أشعار جوته أو وردزورث وإنما من الأغاني والأفلام والروايات العاطفية الشعبية والثقافة الشائعة. والمناخ الذي كان يعيش فيـه فرويد ويتحرك كان مشـبعاً بالأفكار والصـور الحلولية الكمونية اليهودية. وذكرى الحركة الفرانكية ذات النزعة الترخيصية كانت لا تزال حية في الأذهان، بخاصة بين يهود اليديشية في جاليشيا، وفلولها كانت لا تزال موجودة، وابنة رئيس الحركة (التي تقول بعض المراجع إنها كانت تعاشر أباها جنسياً، كجزء أساسي من طقوس الجماعة الترخيصية) ظلت تترأس الحركة حتى وفاتها في منتصف القرن التاسع عشر، وكان كثير من أعضائها منبثين بين النخبة الثقافية في أوربا.
بعد تناول ادعاءات فرويد عن يهوديته وتعصبه وصهيونيته وعن العلم اليهودي، وبعد الحديث عن خلفية فرويد الثقافية اليهودية يظل السؤال مطروحاً: هل المنظومة الفرويدية بالفعل «منظومة يهودية »؟ وهل التحليل النفسي « علم يهودي » كما يدَّعي الصهاينة وأعداء اليهود في آن واحد، وكما يدَّعي فرويد نفسه أحياناً؟ في تصورنا أن الإجابة على هذا السؤال مركبة. وباختصار شـديد نحـن نذهب إلى القول بأن المنظومة الفرويدية قد تكون «يهودية » ظاهراً ولكنها في حقيقة الأمر منظومة علمانية شاملة، وبأن عناصرها اليهودية الصميمة تشبه بنيوياً عناصر داخل المنظومة العلمانية الشاملة، بسبب الإطار الحلولي الكموني الذي يجمع بينهما.
ولنبدأ بتناول البُعد اليهودي الظاهر في المنظومة الفرويدية. ولإنجاز هذا يجب أن نُضيِّق نطاق الرؤية ونركز لا على التلمود كله وإنما على بعض العناصر الحلولية فيه وعلى القبَّالاه (وقد اعتمدنا على كتاب صبري جرجس، وعلى دراسة باكان فرويد والتقاليد الصوفية اليهودية).
1 ـ لعل أهم نقط التماثل بين المنظومة الفرويدية والمنظومة القبَّالية هي مركزية الجنس في كليهما. وقد سُمِّيت الفرويدية «النظرية الجنسية الشاملة» أي «الواحدية الجنسية»، وهي تسمية لها ما يبررها. فالجنس ـ حسب تصور فرويد ـ ليس وراء كل سقم نفسي وحسب، بل إن طاقته هـي المحرك أيضـاً لكل ما يَصدُر عنه من وجوه النشـاط من لحظة أن نُولَد. والجنس ليس مقصوراً على العلاقة الجنسية، ولكنه في واقع الأمر صورة مجازية تتخلل على نحو ما كل النشاط الإنساني، وضمن ذلك نشاط الإنسان العلمي والفني. وهذا لا يختلف كثيراً عن استخدام القبَّالاه للجنس كصورة مجازية أساسية في رؤيتها للعالم فقد عزا التراث القبَّالي إلى الإله صفة الجنسية. فالتجليات النورانية العشرة (سفيروت) كان يتم التعبير عنها من خلال رموز وصور مجازية جنسية. وتُعدُّ الشخيناه (السفيروت العاشر) التعبير الأنثوي عن الإله.
وفي صدد ما جاء عن الجنس في التراث القبَّالي يذكر باكان أن هذا التراث يتضمن عشرة أسفار هي الفيض القدسي والسلطات الخفية للإله، وكل جزء منها مرتبط بجانب من الإله. وتاسع هذه الأسفار اسمه «يسود» (ويعني الأساس) ومكان اليسود الأعضاء الجنسية لآدم قدمون أو الإنسان الأول وهو المايكروكوزم (العالم الأصغر) الذي يقابل الماكروكوزم (العالم الأكبر). (انظر: «الموضوعات الأساسية الكامنة في القبَّالاه وبنية الأفكار» ـ «التجليات النورانية العشرة [السفيروت]» ـ «التجلي الأنثوي للإله [الشخيناه]»). وقد وصف بعض الحاخامات القبَّالاه بأنها قامت بتجنيس الإله وتأليه الجنس، وهذا وصف دقيق أيضاً للمنظومة الفرويدية على الأقل في جانبها الاختزالي الشائع.
2 ـ ثمة نقطة التقاء بين الفكر القبَّالي والفكر الفرويدي تتمثل في المعرفة أو «داث»، فداث في التراث القبَّالي تَنتُج من اتحاد «حوخماه» أو الحكمة و«بيناه» أو الفهم. والحوخمـاه مفهـوم ذَكَري والبيـناه مفهـوم أنثوي، وبذا تكون داث النسل المقدَّس لاتحادهما الخفي.
غير أن المعرفة (داث) تُستخدَم أيضاً في التوراة بمعنى الاتصال الجنـسي. وأول اسـتخدام لهـا ورد في (تكوين 4: 1) بهـذا المعـنى، « وعرف آدم امرأته حواء فحبلت... »، وقد تكرر استخدام الكلمة بالمعنى نفسه في مناسبات متعددة بعد ذلك.
ويذكر باكان أن الزوهار يتحدث عن الاتصال الجنسي بوصفه «الكشف عن العرى». ولما كانت كلمة بيناه التي تعني «الفهم» تعني في الوقت نفسه «الأم» فإن الرجل الذي يخطئ جنسياً يكون في الوقت نفسه كأنه قد « كشف عن عرى الأم » (بيناه). وفرويد يخال أنه وصل إلى الفهم (بيناه) بالكشف عن اللاشعور، أي الكشف عن عرى العقل في الإنسان. ويتضمن مفهوم الموقف الأوديبي خيال الأم العارية. والمعرفة (داث) في التراث القبَّالي تَنتُج من اتحاد الحكمة والفهم، والمعرفة (الاستبصار) عند أصحاب التحليل النفسي الفرويدي ثمرة اتحاد الشعور واللاشعور. وهذا الاتحاد في ذاته كما يقولون خبرة شهوية عميقة من حيث أنه يتناول الكشف عن الموقف الأوديبي، أي اكتشاف المرء عقدة أوديب داخل نفسه والكشف عنها ثم الكشف عما تنطوي عليه من خيال الأب والأم في العلاقة الجنسية، ومن حلول الطفل، خيالاً أيضاً، محل الأب في هذه العلاقة.
والعلاقة بين المعرفة والجنسية لها شواهد أخرى عند فرويد أيضاً، فقد ذكر في مجموعة مقالاته أن الطفل في سن الثالثة إلى الخامسة، حين تصل حياته الجنسية إلى قمتها الأولى، يبدأ يبدي من النشاط ما يمكن أن يُعزَى إلى رغبته في التقصي والمعرفة، كما أن الرغبة في المعرفة لدى الأطفال، فيما يرى فرويد، تتجه على نحو عنيف وفي فترة مبكرة إلى المشكلات الجنسية. بل إن التحليل الفرويدي ليمضي في هذا الاتجاه إلى مدى أبعد فيزعم أننا نكون أكثر دقة إذا قلنا إن هذه المشكلات (الجنسية) قد تكون أول ما ينبه رغبته في المعرفة عموماً.
3 ـ ثمة نقطة التقاء أخرى أشار إليها باكان هي تلك المرتبطة بما جاء بالزوهار من نسبة الجنسية الثنائية للإنسان، فالإله ينطوي داخل نفسه على الشخيناه وهي مرادفه الأنثوي. وآدم الذي خُلق على مثال الإله كان ينطوي على مرادف أنثوي هو الضلع الذي خُلقت منه حواء. جاء بالتوراة « فأوقع الرب الإله سباتاً على آدم فنام. فأخذ واحدة من أضلاعه وملأ مكانها لحماً. وبنى الرب الإله الضلع التي أخذها من آدم امرأة وأحضرها إلى آدم » (تكوين 2: 21 ـ 22)، وجاء بها أيضاً « وهذه تُدعَى امرأة لأنها من إمرئ أُخذت » (تكوين 2: 23). والفكر القبَّالي ينطوي على أن الذكر والأنثى قطبان لكيان واحد، كما أن الزوهار يتضمـن أن « الإلــه لا يبـارك مكاناً إلا حيـث يجتمــع فيــه رجل وامرأة، وأن الرجل لا يُسمَّى رجلاً إلا إذا اتصـل بامرأة.. والرجل غير المتزوج ناقص وتعوزه نعمة الإله ».
ويذهب فرويد إلى أن الإنسان يُولَد بتركيب جنسي ثنائي، وأن هذه الثنائية تنفصل فيما بعد، ولكن التحقيق في حياة الإنسان لا يصل إلى غايته إلا بعودة هذه الثنائية إلى الاتصال مرة أخرى في العلاقة الجنسية السوية.
4 ـ في سفر براخوت في التلمود وردت آراء عن الأحلام تشبه كثيراً من آراء فرويد. فقد ورد في هذا السفر « إن المرء لا يرى في الحلم إلا ما توحي به أفكاره.. »، فالأحلام تعبير عن رغبة لدى الحالم وبالإمكان تفسيرها عن طريق اللـعب بالألفـاظ وهي ذات مدلول جنسي،وهي في أساسها تعبير رمزي،كما أنها تعبِّر عن الصراع بين دوافع « الخير» ودوافع « الشر».وهذه جميعاً تطابق ما قال فرويد عن الأحلام.
ومن المعالم البارزة في سفر براخوت أنه يستخدم الخيالات الجنسية ليرمز إلى المعرفة فيقول « إذا حلم إنسان بأنه يتصل بأمه جنسياً فله أن يتوقع الوصول إلى الفهم.. وإذا حلم بأنه يتصل جنسياً بعذراء مخطوبة فله أن يتوقع الوصول إلى معرفة التوراة... وإذا حلم شخص بأنه يتصل جنسياً بامرأة متزوجة فله أن يثق في أنه على موعد مع القدر بالنسبة لمستقبل العالم، بشرط ألا يكون على معرفة بها وألا يكون قد فكَّر فيها أثناء المساء ».
وقد وصف سفر براخوت قاعدتين رئيسيتين لتفسير الأحلام، الأولى أن كل الأحلام ذات معنى، فالحلم الذي لا يُفسَّر كالكلمة التي لا تُقرأ، والثانية أن كل الأحلام تخرج من الفم وأن كل الأحلام تتبع تفسيرها.
5 ـ ثمة نقطة التقاء أخيرة بصدد ما يراه التراث القبَّالي في المراحل السابقة للبلوغ. جاء بذلك التراث، فيما روى باكان، أن المراحل السابقة للبلوغ تسودها دوافع شريرة. وفي هذا المعنى قال الزوهار إن الطفل بمجرد ولادته يرتبط « الملقن » الشرير به ويظل يلازمه حتى يصل إلى سن الثالثة عشرة حين يجيء إليه « الملقن » الخيِّر.ومنذ ذلك التاريخ يلازم الملقنان الرجل، الخيّر عن يمينه والشرير عن يساره.
فإذا رجعنا إلى كتاب فرويد مقالات ثلاث في نظرية الجنسية ألفيناه يُقرر أن كل ما نعده انحرافاً جنسياً في حياة الإنسان بعد مرحلة الرشد كان مظهراً سوياً لجنسية الطفولة في المرحلة السابقة للبلوغ، أي أن الشر الذي يعاني منه الرجل هو امتداد لما كان سوياً في حياته أثناء الطفولة.
ويمكننا الآن أن نتوجه إلى نقطة أكثر تفصيلاً هي علاقة التأويل الفرويدي بمدارس التفسير اليهودية. قال فرويد في تفسير الأحلام إنه سيقوم بتحليل الإنتاج الإنساني كما لو كان يحلل التوراة (ويُقال إن اسم المريضة «دورا» هو في واقع الأمر تحريف مُتعمَّد لكلمة «توراة» إذ استبدل فرويد حرف التاء بحرف الدال كما فعل مع «آتون» و«آدون» أو «أدوناي»)، وهـو لم يجانبه الصـواب في قولـه إذ نلاحظ نقط تماثل عديدة:
1 ـ ابتداءً يرى التحليل النفسي أن حلم المريض لا يقول شيئاً داخلياً، فهو كلمات متراصة معناها الظاهري غير منطقي وغير مترابط، ولكن المفسر يأتي بآلياته التفسيرية المختلفة ليصل إلى المعنى الباطن فيصبح الحلم ذا معنى. كل هذا يعني أن الطبيب المفسر هو الشخصية المحورية فلا المريض ولا كلماته لها معنى. وهذا لا يختلف كثيراً عن موقف كثير من المنظومات الحلولية من عملية التفسير إذ تذهب هذه المنظومات إلى أن المعنى المنطقي الظاهر للنص معنى سطحي، أما المعنى الباطن فهو يتطلب تفسيراً عرفانياً إشراقياً لا يمكن أن يأتي به إلا «الشيخ» أو «الإمام». وهذا الموقف نفسه لا يختلف كثيراً عن بعض المواقف الحاخامية من التوراة، فالنص المقدَّس صامت، أو معناه الظاهر سطحي ليس ذا قيمة كبيرة. ويأتي المفسر الحاخامي أو القبَّالي مسلحاً بآلياته التفسيرية فيعيد ترتيب منطوق النص واستكناه ألفاظ وعبارات بعينها في ألعاب هندسية وحروفية كبيرة ليتكشف المعنى الحقيقي الخفي للتوراة.
2 ـ لكل هذا نجد أن التفسير أكثر أهمية من النص في التحليل النفسي تماماً كما هو الأمر مع الشريعة الشفوية (التلمود ـ شروح الحاخامات) التي تصبح أكثر أهمية من النص المقدَّس ذاته.
3 ـ بيَّن سفر براخوت كيف يُستخدَم اللعب بالألفاظ في سبر المعنى الخبيئ للأحلام. ففي التراث اليهودي يُعدُّ اللعب بالألفاظ من الوسائل المهمة في البحث عن المعنى الخفي للتوراة، وفي هذا الصدد فإن الاعتقاد يتجه إلى أن لكل كلمة معناها الباطن. وقد أكد كتاب الزوهار هذا الرأي كما أكد أهمية اللعب بالألفاظ. وفرويد أيضاً أكد أهمية اللعب بالألفاظ في كتابه علم أمراض النفس في الحياة اليومية، في الكشف عن اللاشعور وتبيين محتوياته، أي أن أهميتها تكمن في تبينُّ الدوافع الحقيقية وفي الوقت نفسه الخفية لدى الإنسان. (جرجس)
ولكن أكثر النظم الحلولية اليهودية اقتراباً من الفرويدية هي المنظومة الفرانكية، وهي المنظومة التي وصلت فيها الحلولية الكمونية اليهودية قمتها في العدمية والتفكيكية. وخلفية الفرانكية والفرويدية مشتركة فكلاهما أيديولوجية يحملها يهود فقدت اليهودية بالنسبة لهم أي معنى، وهم يهود فقدوا هويتهم اليهودية يودون الانتماء لمجتمع الأغيار لأن الانتماء اليهودي، بالنسبة لهم، كان قد أصبح عبئاً لا يُطاق للأسباب التالية:
1 ـ يقول مؤرخو العقيدة اليهودية والجماعات اليهودية في أوربا إن اليهود نتيجة الاحتكاك الطويل بالمسيحية استوعبوا مفهوم الخطيئة الأولى والإحساس بالسقوط الأمر الذي عمَّق الإحساس بالذنب لديهم.
2 ـ كانت اليهودية قد تحجرت بحيث أصبحت مجموعة من التحريمات والأوامر والنواهي التي أصبحت تمثل أغلالاً ثقيلة جعلت من الصعب على اليهودي أن يكون يهودياً وإنساناً في آن واحد.
3 ـ في الوقت نفسه انتشرت مُثُل الاستنارة بين الأغيار وبين اليهود وزادت من معدلات التحرر الجنسي.
4 ـ كان تراث القبَّالاه بصوره المجازية الجنسية العديدة قد تغلغل في الوجدان اليهودي وصَعَّد توقعاتهم الجنسية والطوباوية بشكل عام. ومع فشل حركة شبتاي تسفي وإحباط النزعة الطوباوية كان لابد أن تعبِّر هذه النزعة عن نفسها على شكل تصعيد التوقعات الجنسية.
5 ـ كل هذا جعل من الصعب على أعضاء الجماعات اليهودية الاستمرار في إقامة الشعائر اليهودية وتنفيذ الأوامر والنواهي وكبح جماح رغباتهم وشهواتهم. في هذا الإطار ظهرت الفرانكية ومن بعدها الفرويدية. وقد أخذت الفرانكية شكل حركة مشيحانية ترخيصية، وأخذت الفرويدية (في شكلها الاختزالي الشائع) شكل حركة علمية ترخيصية.
كان جيكوب فرانك يقول لقد أتيت لأحرر العالم من كل الشرائع والعادات الموجودة فيه. وبالفعل أوقف فرانك العمل بالأوامر والنواهي وألغى الحدود بين المقدَّس والمدنَّس فأصبح كل شيء مقدَّساً ومن ذلك الإثم نفسه، ومن ثم أصبح الوصول إلى النور غير ممكن إلا بالنزول في الظلام وأصبح الصعود غير ممكن إلا بالسقوط في الهوة. فمن خلال الوقوع في الخطيئة سينبثق عالم لا مكان للخطيئة فيه، عالم هو الخير كله. ولذا فالممارسات الجنسية الجماعية الداعرة شكل من أشكال العبادة وطريقة للتواصل بين أعضاء الجماعة (كما هو الحال دائماً مع الجماعات الحلولية المتطرفة). وقد جاء فرويد فوجد حضارة الغرب مليئة بالمحرمات التي فرضها الدين عليها، مكبلة بالقيود التي تحول دون انطلاق الناس، كما رأى الشعور بالإثم يكتنفهم إذا ما خرجوا على ما فيها من ضروب المنع والتحريم، فطُرح التحليل النفسي باعتباره الإطار الذي يرفع الشعور بالخطيئة عن كاهلهم. فكأن فرويد هو الماشيَّح العلماني الجديد الذي جعل اللبيدو هو اللوجوس، وتحقيقها دون قيود هو التيلوس (الهدف والغاية). وإن لم يكن فرويد قد دعا إلى الممارسات الجنسية الجماعية فإنه كان يرى أحياناً أن الطريق الأساسي للسعادة الحقة هو الإفصاح الجنسي الكامل.
ويتواتر في العهد القديم موضوع جماع المحارم (قصة ابنتي لوط ـ قصة اغتصاب أمنون لأخته نامار). ولكن في المنظومة الفرانكية يكتسب الموضوع حدة خاصة (يُقال إن فرانك كان يجامع ابنته). وتأكيد أهمية جماع المحارم. ومركزية موضوع جماع المحارم أمر منطقي باعتبار أن الإنسان الذي لا حـدود له والذي تتمتع كل أفعـاله، مهما كانت آثمة، بقداسـة كاملة، هو إله، من حقه، بل من واجبه، أن يخرق كل الحدود ليؤكد قداسته الكاملة وألوهيته (النتيجة الحتمية للحلول الكامل). ويُلاحَظ أن جماع المحارم يلعب دوراً أساسياً في المنظومة الفرويدية. (ويمكن أيضاً أن نقارن بين دور الأب والأخ الأعظم والأم في المنظومة الفرانكية ودور الأب والأم والابن في المنظومة الفرويدية(.
ثم نأتي للنزعة التفكيكية العدمية. كان فرانك مدركاً لهذا إدراكاً كاملاً إذ قال: « أينما كان يخطو آدم، كانت تنشأ مدينة، لكن أينما أضع أنا قدمي يجب أن يُدمَّر كل شيء، فقد أتيت إلى هذا العالم لأُدمِّر وأُبيد ». وكان فرانك يرى أن مهمة أتباعه تحطيم كل الأديان على أن يتم هذا من خلال ما أسماه «عبء الصمت». وكان يرى أن اليهود قد اخترقوا الإسلام (من خلال شبتاي تسفي) وأن العناصر اليهودية المهرطقة قد اخترقت اليهودية ولم يبق سوى المسيحية ولذا كان على أتباع فرانك ادعاء المســيحية حتى ينضـموا إليهـا ويحطمـوها من الداخل.
ولعـل فرويد لم يكن يتسم بالوضوح نفسه والعدمية نفسها فموقفه ـ كما أسلفنا ـ كان مبهماً، ومع هذا نجد في كتاباته ما يشي بإدراكه للدور التفكيكي الذي كان يلعبه، سواء في علاقته بالدين أو في الحضارة الإنسانية نفسها، فالدين وهم، والفن تعبير عن المرض، والحضارة أهم مصادر آلام الإنسان لأنها مبنية على قمع اللبيدو.
وثمة إيمان بدور البطل المتميز في كل من الفرانكية والفرويدية ولذا نجد أن الحركة الفرانكية تدور حول جيكوب فرانك تماماً كما كانت حركة التحليل النفسي تدور حول فرويد. وأخيراً ثمة نزعة عسكرية واضحة في الفرانكية لا تظهر بالوضوح نفسه في المنظومة الفرويدية وإن كان فرويد ذاته يرى حتمية الحرب، باعتبار أن الصراع أحد الغرائز الإنسانية الأساسية.
نقط التماثل إذن واضحة. ومع هذا هناك الكثير من التحفظات الجوهرية. ومن الطريف أن فرويد نفسه كان أول من أثار مثل هذه التحفظـات، فقد كان يصر أحياناً على أنه لا يوجـد « علم يهـودي أو آري »، وكان يشير إلى نفسه بأنه « رجل طب لا إله له »، أو « يهودي لا إله له ». وكما هو معروف كان فرويد يرى أن الدين، وضمن ذلك العقيدة اليهودية، مجرد وهم. وقد اشتكت زوجته من أنه كان يرفض أن يدعها تضيء شموع السبت (وهي إحدى الشعائر اليهودية) لأن الدين في تَصوُّره « محض خرافة ». وتضمنت صفحة العنوان في كتاب تفسير الأحلام، أهم ما كتب فرويد في نظر الكثيرين، شعاراً باللاتينية استعاره من فرجيل ونصه ما يلي: « وإذا لم تكن الآلهة القابعة فوق ذات نفع لي فسأثيره جحيماً شاملاً ». وهذه العبـارة النفعية المادية الوثنيـة مقتطعة من عبـارة أطول وأكثر دلالة هي: « إذا لم تكن قوتي كبيرة على نحو كاف فلن أتردد يقيناً في طلب العون حيثما يمكن أن يوجد. وإذا لم تكن الآلهة القابعة فوق ذات نفع لي فسأثيره جحيماً شاملاً ». ولخص فرويد موقفه من اليهودية حين وصف علاقته بإسبينوزا بأنهم « إخوة في اللا إيمان [أي الكفر[ ».
ثمة ازدواجية ظاهرة هنا بين الانتماء الكامل لليهودية، بل والصهيونية، وتأكيد لأهمية هذا الانتماء والتباهي به من جهة، والإنكار الكامل له وتأكيد الانتماء للحضارة الغربية الحديثة ولنماذجها التفسيرية المادية من جهة أخرى. ولعل خطابه للراعي أوسكار فيستر يُعبِّر عن هذه الازدواجية، فقد سأله ساخراً: «وبالمناسبة ما بال التحليل النفسي لم يبتدعه واحد من المؤمنين الأتقياء. وكان عليه أن ينتظر ليقوم بذلك يهودي لا إله له (أي ملحد) ؟ » ففرويد هنا ليس يهودياً وحسب، وإنما ملحد أيضاً.
ولعل هذه الازدواجية تزول حين نضع أيدينا على عنصرين أساسيين وهما أن فرويد كان يهودياً غير يهودي، بمعنى أن إثنيته اليهودية كانت قشرة لا تؤثر في اللب، فهي مجرد ادعاء، إذ أن انتماءه الثقافي الحقيقي كان للحضارة الغربية الحديثة. والعنصر الثاني هو أن الحلولية اليهودية ذاتها لم تكن تختلف كثيراً عن الحلولية المسيحية أو الحلولية الواحدية المادية، أي العلمانية الشـاملة ومن الصعـب التمييز بينهما، فسواء على المستوى الإثني أو على المستوى العقائدي فإن فرويد في واقع الأمر ينتمي للمنظومة العلمانية الشاملة رغم كل التباهي بانتمائه اليهودي، ورغم كل ديباجاته اليهودية.
ساجدة لله
2010-10-27, 05:46 AM
1 ـ فرويد يهودي غير يهودي:
حينما وُلد فرويد كانت اليهودية كعقيدة تفاقمت أزمتها، والجيتو كان قد تحطمت أسواره، وكان اليهود يندمجون بخطى سريعة متزايدة، ولذا تبخر وهم الخصوصية الإثنية اليهودية. وقد غيَّر سيجموند فرويد اسمه من «سيجسموند»، اسم الملك البولندي الذي دعا اليهود للاستيطان في بولندا وأحسن إليهم وأكرم وفادتهم، إلى «سيجموند» وهو اسم بطل نوردي (تماماً كما فعل هرتزل الذي كان له اسم عبري «بنيامين» وآخر أوروبي وهو «تيودور». أما ماكس «نوردو» فقد تَبنَّى اسمه النوردي بكل وضوح). وقد فكر فرويد في التنصر في إحدى مراحل حياته، شـأنه في هـذا شـأنه نصف يهود برلين، على سبيل المثال. فاليهود كانوا قد ابتعدوا تماماً عن عقائدهم الدينية وموروثاتهم الإثنية (التي أتوا بها من المجتمعات التي هاجروا منها)، وكان المثقفون بينهم قد ازدادوا ابتعاداً بعد انتشار مُثُل التنوير وتَزايُد معدلات الاندماج والعلم.
ومع هذا واكب عمليات العلمنة والدمج تزايد ملحوظ في حدة العنصرية والعداء لليهود وانتشار مفاهيم مثل النقاء العرْقي والشعب العضوي التي فرضت على اليهود تصنيفاً لم تَعُد له أية علاقة بواقعهم، الأمر الذي يدل على غباء العنصريين، وأنهم غير قادرين على قراءة الواقع. كل هذا نتجت عنه ظاهرة اليهودي غير اليهودي، فهو يهودي اسـماً، إما لأنه يتصـور ذلك أو لأن المجتمع فرض عليه هذا الاسم، ولكنه فعلاً ابن عصره ومجتمعه، بكل ما فيه من سلبيات وإيجابيات.
وقد عبَّر هذا الإبهام عن نفسه في كتابات فرويد مثل موسى والتوحيد. فموسى نبي اليهود هو في واقع الأمر من الأغيار، ورغم أنه أتى بالتوراة إلا أن التوراة هي في واقع الأمر عقيدة التوحيد المصرية.
وقد اختلط يهوه إله اليهود بآتون إله المصريين وهكذا. وهذه التهويمات هي في الواقع تعـبير عن محـاولة فرويـد أن يتعامل مع قضية « اليهودي غير اليهودي »، ولكنها طُرحت هنا على هيئة « غير اليهودي اليهودي » وهما شيء واحد. فكأن موسى هو فرويد غير اليهودي الذي فُرض عليه أن يكون يهودياً.
ويبدو أن فرويد لم يكن مدركاً لهذا الوضع على المستوى الواعي. وثمة تعبير مدهش عن هذا الإخفاق في الفهم في المقدمة التي كتبها فرويد للترجمة العبرية لكتاب الطوطم والتحريم. فقد أشار أحد أصدقائه إلى درجة ابتعاده عن « دين آبائه » بل عن كل دين آخر، وإلى أنه نبذ كل الخصائص المشتركة مع « قومه »، ثم سأله: « أي شيء تَبقَّى لك من اليهودية؟ » (وهو سؤال شديد الوجاهة، لم تتمكن الدولة الصهيونية حتى وقتنا هذا من الإجابة عليه: من اليهودي؟). وكان رد فرويد مبهماً إلى أقصى حد: "لم يبق لي الكثير منها، ولكن ما تَبقَّى على الأرجح هو الجوهر". ولكن يظل السؤال هو: ما هذا الجوهر اليهودي، الذي بقي بعد أن تساقط كل شيء آخر؟ لم يستطع فرويد الإجابة على هذا السؤال إذ أكد: "أنه يعجز عن تفسير هذا الجوهر"، وهي إجابة أقل ما توصف به أنها غريبة خصوصاً أنها صادرة عن مفكر جعل همه تفكيك كل ما هو إنساني وطوَّر آليات لفك شفرة الأحلام وزلات اللسان والنكت وتفسير أعماق الإنسان المظلمة، كيف يعجز مثل هذا المفكر عن فهم هذا الجوهر اليهودي (الذي كان الطاقة المحركة لفكره كما قال). لكـن فرويد تدارك الأمـر وقال: "ولكن اليوم سيجئ، دون ثمة ريب، حين يصبح ذلك [أي تفسير الجوهر اليهودي] ميسوراً للعقل العلمي".
2 ـ الحلولية اليهودية والحلولية العلمانية الشاملة:
لاحظ الناقد الروسي باختين حلولية فرويد حين أشار إلى المنظومة الفرويدية باعتبارها « واحدية روحية ». كما أشار بعض النقاد إلى النظرية الفرويدية بأنها النظرية « الجنسية الشاملة ». والواحدية هي الأرضية التي تلتقي عندها كل الحلوليات.
ولعل فرويد ذاته قد أدرك ذلك (بشكل غير واع). فحينما غيَّر اسمه من «سيجسموند» اختار اسم «سيجموند»، وسيجموند في الميثولوجيا النوردية هو ذلك الكائن البشري الذي تحدَّى الآلهة وهزمها، وهو معادل يسرائيل في التراث العبري، فيعقوب صارع الإله وهزمه فسُمِّي «يسرائيل». فكأن فرويد أدرك تَماثُل الأساطير الوثنية الحلولية، وحينما كان فرويد يُطوِّر منظومته اختار أسماء لاتينية مثل «إيجو» و«سوبر إيجو» و«إيد»، ويُقال إن كلمة «إيد» صدى لكلمة «ييد» حسب رأي بعض المفكرين، وهي ليست بعيدة عن كلمة «يسود» التي تكاد تكون مساوية «للبيدو».
وتتبدَّى حلولية فرويد وواحديته في ذلك التماثل المدهش بين المنظومة الفرويدية والمنظومة الغنوصية، والتي يمكن إيجاز بعض جوانبها فيما يلي:
أ ) كل من الغنوصية والفرويدية رؤية واحدية مغلقة ومنظومة حلولية تَرُد كل الظواهر إلى مبدأ واحد هو الأصل النوراني للإنسان في المنظومة الغنوصية، وهو اللبيدو في المنظومة الفرويدية.
ب) تنطلق كل من الغنوصية والفرويدية من نقطة تماسك عضوي كامل قد تكون صلبة أو سائلة، ولكنها تخلو من أية ثغرات أو حدود بين الأشياء، هي حالة البليروما الأولى في النظام الغنوصي، وهي الحالة المحيطية للطفل أو حالة الطبيعة حيث يلتصق الطفل بأمه تماماً. وتظل هذه اللحظة الأولى مسيطرة على الإنسان ويقضي حياته بمحاولة العودة إليها (تماماً كما يفعل الإنسان الروحاني في المنظومة الغنوصية).
جـ) كل من الغنوصية والفرويدية محاولة لتفسير الكون والإنسان والطبيعة والتاريخ من خلال مجموعة من الأساطير والصور المجازية، حيث نجد أن العلاقات السببية يُعبَّر عنها من خلال أحداث الأسطورة.
د ) تعود جاذبية كل من الغنوصية والفرويدية (في شكلها الشعبي الترخيصي) إلى أنهما يقدمان حلولاً واحدية بسيطة لكل المشاكل.
هـ) كل من المنظومة الغنوصية والفرويدية يُسقطان تماماً عنصر التاريخ والزمان والبنية فهما منظومتان كونيتان تتعاملان مع عناصر كونية متجاوزة للزمان والمكان وحدود الإنسان الفرد.
و ) يُلاحَظ أن كلاً من الغنوصية والفرويدية ينطلقان من صورة مجازية جنسية أساسية، ويلعب الجماع في النظام الغنوصي دوراً أساسياً، فالأيونات ثمرة الجماع الجنسي بين الإله الأب والأم. ويلعب الجماع دوراً مماثلاً في المنظومة الفرويدية. كما يُلاحَظ أن الأيونات في المنظومة الغنوصية تحمل أحياناً أسماء الأعضاء التناسلية، وهذا ليس بعيداً عن استخدام فرويد للأعضاء التناسلية كمقولات تحليلية تفسيرية.
ز ) يُلاحَظ أن الثنائية الجنسية مفهوم أساسي في كل من الغنوصية والفرويدية.
ح) الخلاص الغنوصي يتم من خلال المعرفة، معرفة الإنسان لذاته، والصيغة السحرية الشاملة التي يمكن من خلالها فك شفرة الكون ومعرفة اسم الإله الأعظم. والخلاص الفرويدي يتم أيضاً من خلال فك شفرة أحلام المريض ومعرفة سبب عصابه ومن خلال هذه المعرفة يمكنه أن يصل إلى الخلاص.
ط) لا يمكن أن يتم الخلاص والعودة إلى الأصل النوراني إلا من خلال خداع الأركون، حكام السماوات السبعة، الذين يمنعون الإنسان من العودة لأصله، والشيء نفسه يوجد في المنظومة الفرويدية. فعملية العلاج هي في جوهرها محاولة لمغافلة الرقيب حتى يُفصح المريض عن مكنونات نفسه ومن خلال فهمها يصل المريض إلى المعرفة التي ستيسر له سُبل الخلاص.
ي) لا توجد منظومة أخلاقية غنوصية، والأمر نفسه ينطبق على المنظـومة الفـرويدية. فهما متجــاوزتان للأخـلاق ولفكرة الخير والشر.
ك) لا يوجد مفهوم للخطيئة في كل من الغنوصية والفرويدية، فالشر خلل كوني والعصاب فشل في تسريب الطاقة الجنسية.
ل) ثمة ثنائية صلبة تسم النظام الغنوصي هي ثنائية الروحانيين والجسمانيين (السوبرمن والسبمن) وهي لا تختلف كثيراً عن ثنائية المفسر (النوراني) والمريض (الجسماني).
م ) يمكن أن نجد عناصر مختلفة أخرى مثل التشابه بين الإله الصانع وحالة الحضارة عند فرويد، فكلاهما معاد للإنسان، والتشابه بين سقوط الإنسان النوراني في المنظومة الغنوصية ثم عودته ومراحل حياة الإنسان في النظام الفرويدي (سقوطه وخوفه من الخصي وعودته وتصالحه مع الأب ـ سقوطه وعصابه وعودته من خلال العلاج). وقد لعب المفكرون اليهود دوراً أساسياً في كل من الغنوصية والفرويدية. كما أن موقف الغنوصية والفرويدية من اليهود ليس إيجابياً، فيهوه هو الإله الصانع في المنظومة الغنوصية، وقد بيَّنا موقف فرويد المبهم من اليهودية ويهوه.
وتجب الإشارة إلى أن الفرويدية غنوصية تشاؤمية، من النمط النيتشوي، وليست غنوصية تفاؤلية، من النمط الماركسي. فإذا كانت الماركسية تبدأ من حالة البليروما (الشيوعية البدائية) وتنتهي نهاية سعيدة في المجتمع الشيوعي، فإن الفرويدية تبدأ في حالة البليروما، ولكن العودة مستحيلة، فحالة الحضارة، بكل ما تؤدي إليه من عصاب، هي مصير المجتمع.
ولنا أن نلاحظ أن المنظومة القبَّالية اليهودية التي تأثر بها فرويد هي الأخرى منظومة غنوصية في عناصرها الأساسية فهي تؤله الإنسان والمادة والجسد وأخيراً الجنس.
ولا يهم إذا كان مصدر رؤية فرويد الحلولية يهودية أم لا، فقد تداخلت القبَّالاه اليهودية والقبَّالاه المسيحية بحيث لم يعد هناك فرق واضح بينهما. وقد تحول الاثنان باعتبارهما وحدة وجود روحية إلى وحدة وجود مادية، أي علمانية شاملة. ويظهر هذا في حلولية بومه وشبتاي تسفي وسويدنبرج الروحية، التي لا تختلف كثيراً عن حلولية إسـبينوزا أو لايبنتز أو هيـجل، الروحية المادية، التي هي في واقع الأمر وحـدة وجـود مادية ذات ديباجات روحية. فلا يوجد تناقض جوهري بين الحلوليتين، ويستطيع المثقف أن يكون حلولياً يهودياً مغرقاً في يهوديته أو حلولياً مسيحياً مغرقاً في مسيحيته. ولا يتناقض هذا مع كونه واحدياً مادياً (أي علمانياً شاملاً) مغرقاً في واحديته وماديته التي تُفصح عن نفسها من خلال ديباجات روحية.
وفي مدخل «التحديث كتفكيك» بيَّنا النزعة التفكيكية في المشروع التحديثي في الإطار الحلولي الواحدي المادي، وفي المداخل الخاصة باليهودية وما بعد الحداثة تناولنا تقاليد الهرمنيوطيقا المهرطقة بين المثقفين من أعضاء الجماعات اليهودية، وكيف أن المثقف اليهودي يمكن أن يكون تفكيكياً بسبب علمانيته ويهوديته، فلا يوجد تناقض بين الواحد والآخر. والحلول هو الحلول والتفكيك هو التفكيك سواء كانت الديباجات علمانية مادية أم قبَّالية « روحية ».
كل هذا يعني أن حلولية فرويد وماديته تنبع من الأرضية الحلولية الغنوصية الصلبة التي تنطلق منها كل الأيديولوجيات العلمانية، والديباجات اليهـودية إن هـي إلا ديباجات، فالبنيـة الحلوليـة الواحدية واحدة.
ولعل أكبر دليل على أن الحلولية الواحدية هي المنظومة الأساسية ذات المقدرة التفسيرية الأشمل وأن المنظومة الفرويدية إن هي إلا تعبير عن هذه الحلولية المادية (العلمانية الشاملة)، أن هذه المنظومة انتشرت في كل أرجاء العالم بين اليهود وغير اليهود، وأصبحت عالمية غير مقصورة على وطن أو جماعة دينية أو إثنية بعينها. والمنظومة الفرويدية لا تختلف في هذا عن فكر تشارلز داروين أو مدرسة هلمهولتز، وهي مدارس أسسها مسيحيون، يُقال إن بعضهم كان معادياً لليهودية.
ولعل حالة يونج الذي عارض فرويد وأصبح من أهم أعدائه تُلقي كثيراً من الضوء على هذه القضية. فيونج المسيحي كان يعرف القبَّالاه اليهودية اللوريانية وكان معجباً بشكل خاص بفكرة أن الإنسان يساعد الإله في عملية رأب الصدع الذي نشأ أثناء عملية الخلق (تَهشُّم الأوعية). وهذه العملية هي التي يُطلَق عليها في التراث القبَّالي اصطلاح «الإصلاح الكوني (تيقون)». وكان يونج معجباً أيضاً بالمنظومة الغنوصية وتأثر بها ونشر بعض أهم النصوص الغنوصية واكتشف أن الأفكار الغنوصية هي في واقع الأمر الأفكار التي كد معظم حياته للوصول إليها. وتحمل منظومته كثيراً من ملامح المنظومات الغنوصية. وفكرة الرموز الأولية عنده تمثل السيولة الكونية حيث الإنسان واحد في كل زمان (الإنسان القديم) وكذلك تظهر الثنائية الجنسية في أفكاره عن الأنيما والأنيموس أو القرين الذكري للمرأة والقرينة الأنثوية للذكر. فرغم معارضته لفرويد ورغم العداء بينهما فإن الإطار المعرفي العام واحد، وهو الحلولية الكمونية الواحدية ذات الديباجات الروحية.
فرويد إذن مفكر حلولي واحدي مادي يستخدم ديباجات يهودية لا تؤثر بشكل جوهري في بنية منظومته أو مكوناتها. ومع هذا لابد من تأكيد أن فرويد، شأنه شأن ماركس، مفكر عظيم لا يمكن أن يذعن لهذه الواحدية أو الاختزالية ولذا نجد كثيراً من الإبهام في موقفه من الحلولية الواحدية. وقد أشرنا إلى صورة « الحصان الجامح » الذي يركبه الإنسان باعتبارها تعبيراً مأساوياً ملهاوياً عن هذا الإبهام، وعن التركيبية الكامنة خلف الاختزالية الجنسية، كما أشرنا إلى كتابه الحضارة ومنغصاتها وتأرجحه الشديد بين تأكيد ضرورة الكبت والإعلاء من أجل خَلْق الحضارة ثم إعلانه فشل المحاولة.
وهذا الإبهـام نفسه نجده في موقفه من العداء لليهود واليهودية. وقد حكى أبو فرويد له عن حادثة وقعت له، إذ أن شخصاً غير يهـودي أسـقط قبعته في بالوعة الشـارع المجاورة للرصـيف وصرخ فيـه « أيها اليهودي ابتعد عن الرصيف ». وهنا سأل فرويد الابن أباه عن طريقة استجابته لهذا الموقف فقال الأب: « نزلت إلى الشارع والتقطت قبعتي من البالوعة ». ويبدو أن فرويد شعر بالاحتقار نحو أبيه، ولكنه ولا شك كان احتقاراً مشوباً بالحزن وبقدر من التعاطف.
وفي محاولته تفسير ظاهرة العداء لليهود يسوق فرويد عدة أسباب تجعل من اليهود الضحية، وهذا هو الموقف الصهيوني التقليدي. ولكن فرويد في الوقت نفسه يجعل الضحية هي السبب فيما يلحق بها من أذى (وهذا هو الموقف التقليدي للمعادين لليهود)، فالعداء لليهود ـ حسب تصوره ـ غيرة لاشعورية يثيرها اليهود في غيرهم من الشعوب بادعائهم أنهم أول أبناء الإله وآثرهم عنده، أي أنهم شعب الله المختار. وقد فصل اليهود أنفسهم عن بقية العالمين بسبب إحساسـهم بالتـميز. وأخـيراً يرى فرويد أن اليهـود يمثلون ضمير الإنسان. ولكن موقف فرويد من الضمير مبهم للغاية. فاليهود هم الذين أعطوا المسيحية الوصايا العشرة بكل ما تحوي من حدود وقيود. والحدود والقيود أساس الحضارة، ولكنها أيضاً آلية الكبت والقمع. فمن ثم فاليهودي هو رمز الضمير الذي يأتي بالحضارة للناس، ومن ثم فهو أيضاً رمز هذا الكبت والإحساس بالذنب والعصاب الذي يصيب الإنسان في المجتمعات المتحضرة.
ونلاحظ أن فرويد ربط في هذا السياق بين اليهود والضمير (والكبت والحضارة). ولكن الأمر لم يكن كذلك دائماً، بل إن العكس هو الأغلب، فاليهود يرتبطون في الوجدان الغربي باللبيدو (اليهودي التائه ـ اليهودي كشيطان ـ اليهودي كقوة مكبوتة ـ قاتل المسيح ـ اليهودي كمتآمر أزلي ضد الشرائع المسيحية). وقد أسلفنا الإشارة إلى أن كلمة «إيد Id» التي اختارها فرويد للإشارة إلى الهو هي في واقع الأمر اختصار لكلمة «ييد» الألمانية والتي تعني «يهودي» وتومئ لكلمة «يسود» بمعنى الأساس الجنسي، أي اللبيدو. وقد أثار أحد الباحثين قضية أن كلمة Id ليست من اختيار فرويد، فقد استخدم التعبير الألماني داس. إس Das-es. ولكن هذا لا يغيِّر من الأمر شيئاً لأن الكلمة الألمانية نفسها ليست بعيدة عن كلمتي «ييد» و«يسود». ويبدو أن مثل هذا الاتجاه نحو التوحيد بين اليهود واللبيدو أمر شائع في الخطاب الحضاري الغربي، فأوتو رانك يتحدث عن اليهود باعتبارهم القوة المظلمة المحصنة ضد الحضارة والتي حافظت على علاقتها المباشرة والنشيطة مع الطبيعة. ونجد أدورنو وهوركهايمر يتحدثان أيضاً عن تلك العلاقة التلقائية المباشرة بين اليهود وحالة الطبيعة. في هذه المعادلة الجديدة سنجد أن اليهود هم اللبيدو وأن الحضارة (الغربية أو غير اليهودية) هي الضمير والأنا الأعلى والمقدرة على الكبت والتعالي والتجاوز.
ويبدو أن فرويد أدرك أن الإفصاح عن اللبيدو دون حدود أو سدود أو قيود يعني تَقبُّل الرؤية الحلولية المادية والوثنية القَبلية، وأن رفضها وتأكيد التجاوز هو قبول للرؤية التوحيدية. فالإنسان يصبح سوياً (يصبح إنساناً) حين ينجح في التحكم في الحصان الجامح وفي إعلاء مشاعره وتجاوزها ونقلها من الأم ومن الجنس نفسه إلى الجنس الآخر، داخل حدود اجتماعية (أي أنه يتجاوز المرحلة الرَحمية في مصطلحنا). ومع هذا كان فرويد يرى أن عملية القمع هذه محكوم عليها بالفشل بالنسبة للأغلبية الساحقة، رغم أنها عملية جوهرية لتأسيس الحضارة.
ثمة إبهام مأساوي هنا بين إعجابه بالتوحيد والتجاوز والحضارة (ولنسمها «النزعة الربانية»)، يواكبه إحساس عميق بفشل المحاولة وحتمية السقوط في الحلولية والنزعة الرَحمية. وقد عبَّر هذا الإبهام عن نفسه بشكل مثير واضح في آخر كتب فرويد موسى والتوحيد. فموسى هو الذي أتى بالشريعة والحدود وهو الذي علَّم اليهود عقيدة التوحيد (والإعلاء والتجاوز) فتحولوا من برابرة أجلاف (شعب اللبيدو) إلى شعب موحِّد، مختار من الإله. ولكن هل يخضع اللبيدو للكبت وقيود الحضارة والضمير (هل ينتصر التوحـيد على الحلول؟) إجـابة فرويـد ـ كما أسـلفنا ـ إجابة سلبية، ولكنه لم يكن بوسعه أن يقبلها بسبب عدميتها وسذاجتها. ولذا يحل فرويد هذه الإشكالية بأن يجعل عقيدة التوحيد عقيدة مصرية، ويجعل موسـى نفسـه مصرياً، ويجعل أصلـه اليهـودي أصلاً مُتخيَّلاً.
ويستند فرويد في أطروحته هذه إلى أسانيد واهية للغاية (يبدو أن فرويد لم يكن يفرق بين الإبداع الأدبي والنظرية العلمية. ولذا كان العنوان الأصلي لكتاب موسى والتوحيد هو الرجل موسى: رواية تاريخية The Man Moses: A Historical Novel). ويرى فرويد أن «موسى» كلمة هيروغليفية تعني «الابن المحبوب» ونجدها في كلمة «رع موسى» (رمسيس) و«تحوت موسى» (تحتمس). واستنتج من ذلك أن الأمير المصري قد أزال الصدر الوثني من اسمه واستبقى العَجُز الذي لا يدل على اسم إله في ذاته. وقد قارن فرويد أيضاً بين اسمي الإله المستخدمين في التوراة «يهوه» و«أدوناي»، واسترعى انتباهه أن يهوه دموي ومقاتل وعنصري (إله الحلولية)، وهو ما يجعله إلهاً قَبلياً وثنياً، بينما أدوناي رقيق وكوني وإنساني (منزَّه عن الطبيعة والتاريخ وعالم المادة)، وهي صفات تجعل الرسالة عالمية وكونية. ولذا رجَّح فرويد أن أدوناي من أصل مصري وأن اسم «أدون» هو تحريف لكلمة «آتون».
حاول موسى المصري (الضمير ـ الحضارة ـ الكبت ـ التجاوز ـ التوحيد) أن يُدخل المدنية على العبرانيين الأجلاف (اللبيدو ـ الحلولية ـ الوثنية) ولكنه فشل في ذلك، بل انتهى به الأمر إلى أن قتله العبرانيون. وهكذا انتصرت الوثنية والبربرية والحلولية على التوحيد. ولكن كما هو الحال دائماً بعد جريمة قتل الأب (أو المعلم الذي يقوم مقامه) شعر العبرانيون بالخطيئة والإثم (والرغبة في التجــاوز) فجـمعوا بين إلاهـهم الوثني يهـوه وأدوناي/آتون التوحيدي، إله موسـى، ونسـبوا إليه الأصل اليهودي، وكان فرويـد يقـول «كان موسى مصرياً، شاء قوم أن يجعلوا منه يهودياً » (وهذا ما نعبِّر نحن عنه بعبارة «اليهودية كتركيب جيولوجي تراكمي»).
وهذه ليست نهاية سعيدة أو حزينة وإنما هي نهاية مأساوية/ ملهاوية، منفتحة، نهاية لم يُحسَم فيها شيء، فنحن أمام « موسى المصري » نبي اليهود، صاحب رسالة التوحيد في وسط حلولي!
ساجدة لله
2010-10-27, 05:46 AM
ماجـنوس هـيرشفلد (1868-1935(
Magnus Hirschfeld
عالم ألماني تخصَّص في العلوم الطبية والعلوم الخاصة بالجنس والعلاقات الجنسية، درس في مدينتي برسلاو وستراسبورج ثم درس الطب في جامعة ميونخ. وفي الفترة بين عامي 1894 و1896، عمل كممارس عام في مدينة ماجدبرج الألمانية حيث كان قد انتقل للعيش في إحدى ضواحي برلين. وتخصَّص مثل أبيه، الذي كان أيضاً طبيباً مرموقاً، في مشاكل الصحة العامة. وأقام مؤسسة للتأمين الصحي على العمال. إلا أن محاكمة الشاعر أوسكار وايلد، الذي كان متهماً بالشذوذ الجنسي، ثم انتحار أحد مرضى هيرشفلد عشية زواجه، أثار عنده اهتـماماً شـديداً بالبحث والدراسـة في العلوم المتصلة بالجنس بصفة عامة، وبالشذوذ بصفة خاصة. وأصبح هذا المجال بالفعل اهتمامه الأول والرئيسـي طوال حياته. وفي أول أعمـاله سافو وسقراط، الذي أصدره عام 1896، أكد هيرشفلد أن الرغبة الجنسية عند الشواذ، مثلها مثل الرغبة عند الأسوياء، وهي نتاج تفاعلات وعوامل بيولوجية داخل جسم الإنسان. وقد قوبل عمل هيرشفلد باستحسان، وهو ما شجعه على تأسيس اللجنة العلمية الإنسانية. وقد أثار هيرشفلد كثيراً من الاهتمام عندما بادر بتقديم التماس للبرلمان الألماني يطالب فيه بإلغاء الجزء الخاص بجرائم الشذوذ الجنسي من القانون الجنائي الألماني. وقد وقع على هذا الالتماس عدد من الشخصيات البارزة في تلك الفترة من أمثال مارتن بوبر وهيرمان هس وماكس برود وألبرت أينشتاين وتوماس مان وغيرهم. ونشر في الفترة بين عامي 1908 و1923 مجلة ثم كتاباً سنوياً نشر فيه مجموعة كبيرة ومتنوعة من الدراسات المتصلة بالشذوذ الجنسي في مجالات التاريخ والأدب والفن والموسيقى وعلم النفس وغير ذلك. وفي عام 1918، افتتح هيرشفلد مشروعه الطموح، ألا وهو معهد العلوم الجنسية، الذي شمل عيادة وجامعة حرة تُقدِّم محاضرات وفصولاً دراسية ومركزاً للأبحاث يضم 20.000 مجلد. وقد ضم المعهد قسماً للاستشارات الزوجية كان الأول من نوعه في ألمانيا، وتم تقليده على نطاق واسع في مناطق أخرى.
وقد دُعي هيرشفلد لإلقاء محاضرة في الجامعة العبرية في القدس عام 1933. ومع مجيء النازية إلى الحكم في ألمانيا، تم إغلاق معهد العلوم الجنسية، كما تم إحراق كتب هيرشفلد وأعماله، وانتقل هيرشفلد إلى فرنسا حيث تُوفي عام 1935.
ألفريـد أدلــر (1870-1937(Alfred Adler
عالم نفسي نمساوي ومؤسس علم النفس الفردي. وُلد في فيينا، وتخرَّج في جامعتها عام 1895. وبعد زواجه، اعتنق أدلر البروتستانتية باعتبارها أكثر الأديان ليبرالية. تأثر أدلر بالفكر الاشتراكي بتوجهه المجتمعي، وقد دعاه فرويد عام 1902 للانضمام إلى دائرته وإلى مجموعة النقاش التي تعقـد جلسـات أسـبوعية في فيينا. وفي عام 1910، انتُخب أدلر رئيساً لجمعية فيينا للتحليل النفسي والتي انبثقت من مجموعة النقاش. إلا أن الخلافات النظرية بينه وبين فرويد تزايدت إذ وجد أن إدعاء فرويد بأن تجارب الإنسان الجنسية تشكل الأساس النفسي لتطوره إدعاء مبالغ فيه. وقد اتفق مع فرويد حول أهمية الأحلام ولكنه رفض ربط فرويد الآلي بين الأحلام والجنس، فالرمز الواحد قد يكون له مدلول غير جنسي بالنسبة للآخر. وانتهى به الأمر إلى أن يرفض رؤية فرويد للنفس البشرية على اعتبار أن تحويله الجنـس إلى مقولة تفسيرية أساسـية بل ووحيدة هو شطط ما بعده شطط. ولذا، فقد استقال من جمعية فيينا للتحليل النفسي عام 1911. وأسس جمعية وجريدة خاصة به، وافتتح عام 1920 عيادات للأطفال. ومنذ عام 1926، أخذ في زيارة الولايات المتحدة بشكل دوري، ثم استقر في نيويورك حيث أصبـح عام 1932 أستاذاً لعلم النفس الطبي في كلية لونج أيلاند الطبـية. وتُوفي أدلر عام 1937 أثناء جولة علمية في إسكتلندا.
وتستند نظرية أدلر حول الشخصية وأسلوبه في العلاج النفسي إلى مفاهيم وحدة تكامل الإنسان والإرادة والقدرة على تقرير المصير والتوجيه والتكييف المستقبلي للإنسان، وهي مفاهيم كانت تتناقض مع الرؤية الآلية للإنسان والعناصرية (أي التي تردُّ الإنسان لعدة عناصر بسيطة مادية) والتي كانت سائدة في عصره. فقد اعتبر أدلر أن الكائن الحي الذي ينمو من خلية واحدة يظل وحدة بيولوجية ونفسية واحدة، فالإنسان وحدة متكاملة تتسم بالانسجام، وكل العمليات الجزئية، مثل الدوافع والإدراك الحسي والذاكرة والأحلام، خاضعة جميعها للمجموع. وقد أطلق أدلر على هذه العملية المتكاملة «نمط حياة الفرد». لكن مفهوم تكامل الإنسان يستلزم وجود قوة دافعة مهيمنة واعتبر أدلر أنها السعي نحو الكمال.
وحيث إن الفرد كائن فريد، فإن الهدف الذي يضعه لنفسه وأسلوبه في الوصول إليه فريد أيضاً. ورغم أن هذا الهدف قد يتخذ أشكالاً غريبة، فإنه دائماً يتضمن عنصر الحفاظ على احترام الذات.
وقد يكون من المفيد التوقف هنا عند ما يُسمَّى الجوانب النيتشويه في علم النفس الأدلري، إ ذ يذهب أدلر إلى أن ثمة خوفاً داخل كل فرد من الدونية، فكل فرد يتأثر حتماً في حياته المبكرة بضعفه في مواجهة القوى المحيطة به. كما أن لكل فرد بعض نقاط الضعف أو الدونية البدنية أو العقلية. وحين يكتشف المرء ذلك، فإن اتجـاه بحثه عن القـوة يتحدد عموماً بمحـاولة تعويض تلك الدونية العضوية. والحياة الإنسانية تُكرَّس في الحقيقة للنضال من أجل التفوق كتعويض لذلك الإحساس بعدم الكفاءة، أي أن إرادة القوة هي القوة الدافعة الإنسانية الأساسية. وقد يتم التغلب على الإحساس بالدونية الأصلية من خلال التدريب وبذل الجهد المستمرين بحيث تتحول الدونية إلى تفوق. وقد يحدث العكس، إذ يضع الشخص لنفسه هدفاً خيالياً لا يتطلب أي إنجاز حقيقي في العالم الخارجي، بل قد يلجأ الفرد لحماية نفسه إلى اعتبار أنه إنسان تافه لا قيمة له، مستبدلاً دونية بأخرى أكثر إيلاماً. ويجب أن يهدف العلاج أولاً وقبل كل شيء إلى اكتشاف أسلوب حياة المريض والاتجاه العام للتعويض لديه.
إلا أن أدلر يرى أننا لا يمكننا أن نعتبر الإنسان منفصلاً عن محيطه الاجتماعي، فمشاكل الحياة الأساسية (الوظيفية والاجتمـاعية والجنسـية جميعـها) هي، في الواقع، مشاكل اجتماعية. وحل هذه المشاكل أو التكيف الاجتماعي للفرد يحتاج إلى ما أسماه أدلر «الاهتمام الاجتماعي مكتمل النمو». إن هدف الفرد، إذن، يجب أن يتضمن فائدة أو نفعاً اجتماعياً يتفق مع قيم ومثل المجتمع. واعتبر أدلر أن الشخصيات المَرَضية هي في الواقع شخصيات فاشلة في الحياة نتيجة أن الاهتمام الاجتماعي غير مكتمل النمو وأيضاً نتيجة إحساس قوي بالدونية.
ورأى أدلر أن دور المعالج النفسي تنمية الإحساس باحترام الذات لدى المريض من خلال التشجيع وتوضيح أخطائه في نمط الحياة من خلال تحليل وتفسير الذكريات البعيدة والأحلام من خلال العمل على تقوية الاهتمام الاجتماعي. وتتسم أساليب العلاج بالمرونة حيث إن هدفها الوحيد إعادة تنظيم إدراك المريض وتوجيه سلوكه نحو النضج والنفع الاجتماعي.
وقد قدَّمت مدرسة أدلر في علم النفس بديلاً شاملاً لآراء فرويد. وتُعتبَر التطورات اللاحقة في نظرية الشخصية والعلاج النفسي مرتبطة إلى حدٍّ كبير بآراء ونظريات أدلر حيث إن الرؤية الإنسانية للإنسان، الذي يُعتبَر أدلر من روادها، والتوجه الاجتماعي الذي تبناه، اكتسبا قبولاً واسعاً في دوائر علم النفس. وتوجد جمعيات في أوربا، وخصوصاً في الولايات المتحدة، تتبنى نظريات أدلر في علم النفس مثل الجمعية الأمريكية لعلم النفس الأدلري والتي تصدر مجلة علم النفس الفردي. كما يوجد في إسرائيل معهد أدلري تأسس في تل أبيب تحت رعاية الحكومة يقوم بتدريب علماء النفس والمستشارين والمدرسين العاملين في المدارس الإسرائيلية. ورغم أن أدلر من أصل يهودي، إلا أنه لا توجد أية أنماط أو عناصر ظاهرة أو كامنة يمكن تفسيرها على أساس انتمائه أو أصوله اليهودية. هذا على عكس فرويد الذي تضرب رؤيته ومصطلحه بجذورهما في التراث القبَّالي، وعلى عكس يونج (المسيحي) الذي تأثر هو الآخر بهذا التراث نفسه.
ماكــس فرتايمـــر (1880-1943(
Max Wertheimer
مؤسـس علم نفـس الجشـطالت (أو المدرسة الشكلية في علم النفس). وُلد في براغ (تشيكوسلوفاكيا)، ودرس الفلسفة وعلم النفس وحصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة ورزبورج. وفي عام 1910، اشتغل بالتدريس في جامعة فرانكفورت حيث بدأ أيضاً في إجراء أبحاثه العلمية التي تمخضت عنها نظرية الجشطالت والتي كان لها تأثير ثوري في مجال سيكولوجية الإدراك. وبيَّن فرتايمر من خلال أبحاثه أن « الحركة بالنسبة إلى الشخص الذي يدركها ليست قابلة للتجـزئة إلى إحسـاسـات بـدائية، فهي تؤلف كلاًّ أو شكلاً » (كلياً متكاملاً). ومن هنا كلمة «جشطالت» أو «أشكال» (كلية متكاملة). ولا يمكن اعتبار الإدراك أجزاء منفصلة عن بعضها البعض، فهي تتفاعل فيما بينها، والتغيير في أي جزء يؤدي إلى تغير تام في إدراك المجمل فالكل أكبر من مجموع أجزائه. وقد شكلت نظرية الجشطالت تحدياً عميقاً لعلم النفس الترابطي الذي كان سائداً آنذاك، خصوصاً إزاء المفهوم الذري للإدراك، وأوحت بقدر كبير من البحوث التجريبية في مجالات الإدارك الحسي والتعليم والذكاء وأنماط التفكير وغير ذلك من السلوك الإنساني. كما عمل فرتايمر على استخدام نظرية الجشطالت لمعالجة القضايا المتصلة بالمنطق وعلم الجمال والفنون وعلم الأخلاق.
وبعد الحرب العالمية الأولى، التحق فرتايمر بجامعة برلين وأسس وقام بتحرير مجلة البحث النفساني التي قامت بنشر كثير من أبحاث مدرسة الجشطالت. ومع صعود النازية إلى الحكم، كان فرتايمر من أوائل العلماء اليهود الذين هاجروا إلى الولايات المتحدة حيث انتقل إليها عام 1934 وانضم إلى المدرسة الجديدية للبحوث الاجتماعية في مدينة نيويورك، وظل بها حتى وفاته عام 1943.
فريتــز فيتلـز (1880-1950)
Fritz Wittels
عالم نفساني أمريكي يهودي من أصل نمساوي، نادى بإتاحة الحرية الكاملـة للتعبير الجنـسي إلى درجة متطرفة أزعجت فرويد نفسه. وقد وصـف كارل يونج آراءه بأنهـا محاولة قاسـية وفظـة ترمي إلى تدمير « أنساقنا الأخلاقية الحالية ». ولكن فيتلز كان يرى أن إشباع الجنس سيزيد من إنجازات الإنسان وسيدفعه إلى الأمام، كما كان يرى أن التحليل النفسي سيغيِّر وجه الأرض ويسرع بالبعث الأخلاقي للإنسان ويأتي بالعصر الذهبي حيث لا مجال للأمراض النفسية. والواقع أن فيتلز في تجاوزه لفرويد قد نزع ما تبقى من سحر يحيط بالجنس (أي زاد معدلات العلمنة) وأنزله من عليائه ليصبح جهداً طبيعياً مادياً عضلياً، ومن ثم يمكن القول إنه كان أكثر « علمية» ومادية من فرويد.
ويُلاحَظ هنا تداخل عدة موضوعات يهودية حلولية يدفع بها فيتلز إلى نهايتها المنطقية. فإذا كانت الخطيئة الكبرى هي كبت الرغبات الجنسية وفرض الحدود، فإن الخير الأعظم هو الإفصاح الكامل عنها وإسقاط الحدود والوصول إلى الخلاص بالجسد. فالإنسان، بحلول الخالق فيه، يصبح مطلقاً كامل القداسة يتجاوز الخير والشر. وفي إطار حلولي كامل، يحل الإله في كل من الخير والشر ويؤدي كلٌّ منهما إلى الآخر. لكن دوافع الإنسان، بما في ذلك دوافعه الدينية، هي خير وقداسة، فالخطيئة الكبرى هي فرض الحدود (والأوامر والنواهي) على هذه الدوافع. أما الخير الأعظم، فهو إسقاط الحدود والإفصاح الكامل عنها، بما في ذلك الرغبات الجنسية، فيتم الخلاص بالجسد (كما يقول الشبتانيون والحسيديون والقبَّاليون). وقد قيل إن القبَّالاه جنَّست الإله وألَّهت الجنس، أي أنها جعلت من الجنس مطلقاً. ومن ثم، فإن الإفصاح الجنسي هو خير السبل للتعبير عن المطلق واستحضار العصر المشيحاني (أو العصر الذهبي أو الفردوس الأرضي أو نهاية التاريخ) حين يتم إصلاح الخلل الكوني (تيقون) وهو عصر امتلاء كامل لا ثغرات فيه ولا مجال للأمراض النفسية، الجميع فيه أصحاء مثل الآلهة.
هذه الرؤية القبَّالية الحلولية تظهر في كتاب فيتلز اليهودي الذي يتحول عن دينه وإن كان ذلك يتم بشكل آخر. إذ يذهب المؤلف إلى أن تحوُّل اليهودي عن دينه يدل على الإفلاس الخلقي، فاليهود هم هدف الاضطهاد والتمييز العنصري، ولذا فإنهم حينما يدافعون عن مصالحهم إنما يدافعون عن مصلحة البشر كلهم وعن العدالة، ومن هنا فإن دفاع اليهود عن أنفسهم إنما هو إصلاح العالم بأسره (تيقون)، ولذا يتعيَّن على اليهود أن يقبلوا الدفاع عن العدالة هدفاً لحياتهم. وهكذا، يُوضَع اليهود في مركز الكون ويتحولون إلى عنصر أساسي في عملية الخلاص الكوني، تماماً كما تفعل القبَّالاه. ويمكننا هنا أن نجد تماثلاً بنيوياً مدهشاً لا يمكن فهمه إلا في إطار الحلولية القبَّالية، فالإله يحل في اليهود والجنس والبشر، وتحرير اليهود موضع الحلول الإلهي وكذلك التعبير عن الرغبات الجنسية (التي هي الأخرى موضع الحلول الإلهي) سيحرر الإله وسيجمع شتاته المتبعثر (من خلال عملية التيقون) فتعود له وحدته وحيويته وفعاليته فتسود العدالة بين البشر ويأتي العصر الذهبي والمشيحاني. ويمكننا هنا أن نرى النمط الكامن الذي بدأ يتضح في كثير من حركات التحرر في الغرب حيث يدافعون عن حقوق السود والنساء والشواذ جنسياً كما يدافعون عن البيئة والحيوانات. ونقطة الانطلاق هنا ليست إنسانية (بمعنى أن الإنسان هو مركز الكون والمسئول عن تعميره والحفـاظ عليه) وإنماحلولية (فكـل الكائنـات متسـاوية لأنها تتمتع بالدرجة نفسها من القداسة)، ولذا لا يمكن فرض حدود من أي نوع عليها. ومن أهم مؤلفات فيتلز سيرة حياة فرويد (1924).
Powered by vBulletin® Version 4.2.0 Copyright © 2024 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved, TranZ by Almuhajir