صفاء
2008-03-01, 05:04 PM
شذونة.. الطريق إلى الأندلس
أتم المسلمون فتح بلاد المغرب، واستقرت الأوضاع بها بعد جهاد طويل من قبل الفاتحين، حتى كتب الله التمكين للمسلمين على يد موسى بن نصير، وأقبل سكان المغرب على الإسلام أفواجًا يذوقون حلاوته وينعمون بعدله، ولم يبق من شمال المغرب سوى "سبتة" التي استطاعت لمناعتها ويقظة حاكمها الكونت يوليان أن تقف أمام طموحات الفاتحين المسلمين.
وفي الوقت الذي كان يفكر فيه موسى بن نصير بمد الفتح إلى الأندلس وعبور المضيق إليها جاءته رسالة من الكونت يوليان يعرض فيها تسليم سبتة، ويغريه بفتح إسبانيا ويهون عليه الأمر، وكانت العلاقة بين يوليان ولذريق ملك إسبانيا سيئة جدا، فعزز ذلك ما كان يستعد من أجله موسى بن نصير، ويشاور الخلافة الأموية في سبيل تحقيقه، ولم يكتف موسى بن نصير بالمراسلة، بل اجتمع هو ويوليان في سفينة في عرض البحر للاتفاق والمفاوضة، وكان يوليان قد عرض على موسى بن نصير تقديم سفنه لنقل المسلمين إلى إسبانيا، ومعاونته بالجند والإرشاد، بالإضافة إلى تسليم سبتة، وباقي معاقلها إلى المسلمين.
وكان العرض مغريًا يدعو إلى الإقدام عليه، لكن موسى بن نصير لم يكن يملك الموافقة النهائية دون الرجوع إلى الخليفة الوليد بن عبد الملك، فكتب إليه بأمر هذا العرض، فأجابه بأن يتأنى ويتمهل وأن يختبر الأمر بحملة صغيرة توقفه على حقيقة الأمر، قبل أن يخوض أهوال البحر.
حملة طريف
واستجابة لأمر الخليفة بدأ موسى بن نصير في تجهيز حملة صغيرة لعبور البحر إلى إسبانيا، وكان قوامها خمسمائة جندي يقودهم قائد من البربر يدعى "طريف بن مالك"؛ لاستكشاف الأمر واستجلاء أرض الأسبان، وقدم يوليان لهذه الحملة أربع سفن أقلتهم إلى إسبانيا، فعبرت البحر ونزلت هناك في منطقة سميت بجزيرة طريف، نسبة إلى قائد الحملة، وكان ذلك في (رمضان 91هـ= يوليو 710م) وجاست الحملة خلال الجزيرة الخضراء، وغنمت كثيرًا ودرست أحوال إسبانيا، ثم قفلت راجعة إلى المغرب، وقدم قائدها إلى موسى بن نصير نتائج حملته.
حملة طارق
بعد مرور أقل من عام من عودة حملة طريف بن الأندلس كان موسى بن نصير قد استعد للأمر، وحشد جنوده، وجهز سفنه، واختار قائدًا عظيمًا لهذه المهمة الجليلة هو طارق بن زياد والي طنجة، وهو من أصل بربري دخل آباؤه الإسلام فنشأ مسلمًا صالحًا، وتقدمت به مواهبه العسكرية إلى الصدارة، وهيأت له ملكاته أن يكون موضع ثقة الفاتح الكبير موسى بن نصير، فولاه قيادة حملته الجديدة على الأندلس.
خرج طارق بن زياد في سبعة آلاف جندي معظمهم من البربر المسلمين، وعبر مضيق البحر المتوسط إلى إسبانيا، وتجمع الجيش الإسلامي عند جبل صخري عرف فيما بعد باسم جبل طارق في (5 من رجب 92هـ= 27 من إبريل 711م).
سار الجيش الإسلامي مخترقًا المنطقة المجاورة غربًا بمعاونة يوليان وزحف على ولاية الجزيرة الخضراء؛ فاحتل قلاعها، وترامت أنباء هذا الفتح إلى أسماع لذريق، وكان مشغولا بمحاربة بعض الثائرين عليه في الشمال، فترك قتالهم وهرع إلى طليطلة عاصمته، واستعد لمواجهة هذا الخطر الداهم على عرشه، وبعث بأحد قادته لوقف الجيش الإسلامي، لكنه أخفق في مهمته.
وكان طارق بن زياد قد صعد بجيشه شمالا صوب طليطلة، وعسكرت قواته في منطقة واسعة يحدها من الشرق نهر وادي لكة، ومن الغرب نهر وادي البارباتي، وفي الوقت نفسه أكمل لذريق استعداداته، وجمع جيشًا هائلا بلغ مائة ألف، وأحسن تسليحه، وسار إلى الجنوب للقاء المسلمين، وهو واثق إلى النصر مطمئن إلى عدده وعتاده، ولما وقف طارق على خبر هذا الجيش كتب إلى موسى نصير يخبره بالأمر، ويطلب منه المدد؛ فوافاه على عجل بخمسة آلاف مقاتل من خيرة الرجال، فبلغ المسلمون بذلك اثني عشر ألفًا.
اللقاء المرتقب
وكان لا بد من الصدام، فالتقى الفريقان جنوبي بحيرة خندة المتصلة بنهر بارباتي الذي يصب في المحيط الأطلسي بالقرب من مدينة "شذونة"، وكان لقاء عاصفًا ابتدأ في (28 من رمضان 92هـ= 18 من يوليو 711م) وظل مشتعلا ثمانية أيام، أبلى المسلمون خلالها بلاء حسنًا، وثبتوا في أرض المعركة كالجبال الراسيات، ولم ترهبهم القوى النصرانية، ولا حشودهم الضخمة، واستعاضوا عن قلة عددهم ـ إذا ما قورنوا بضخامة جيش عدوهم ـ بحسن الإعداد والتنظيم، وبراعة الخطط والتنفيذ، وبشجاعة الأفئدة والقلوب، وبقوة الإيمان واليقين، والرغبة في الموت والشهادة.
نجح المسلمون في الصمود والثبات ثمانية أيام عصبية، حتى مالت كفة النصر إلى صالحهم، وتحول جيش لذريق العرمرم إلى غثاء كغثاء السيل، لا خير فيه ولا غناء، فقد كان على ضخامته متفرق الكلمة موزع الأهواء، تمزق صفوفه الخيانة؛ ولذلك لم يكن عجيبا أن يحقق المسلمون النصر على ضآلة عددهم؛ لأنهم التمسوا أسباب النصر وعوامل الفوز، فتحقق لهم في اليوم الثامن بعد جهاد شاق، وفر لذريق آخر ملوك القوط عقب الموقعة، ولم يُعثر له على أثر، ويبدو أنه فقد حياته في المعركة التي فقد فيها ملكه، أو مات غريقًا في أحد الأنهار عند فراره.
نتائج النصر
بعد هذا النصر تعقب طارق فلول الجيش المنهزم الذي لاذ بالفرار، وسار الجيش فاتحا بقية البلاد، ولم يلق مقاومة عنيفة في مسيرته نحو الشمال، وفي الطريق إلى طليطة بعث طارق بحملات صغيرة لفتح المدن، فأرسل مغيثًا الرومي إلى قرطبة في سبعمائة فارس، فاقتحم أسوارها الحصينة واستولى عليها دون مشقة، وأرسل حملات أخرى إلى غرناطة والبيرة ومالقة، فتمكنت من فتحها.
وسار طارق في بقية الجيش إلى طليطلة مخترقًا هضاب الأندلس، وكانت تبعد عن ميدان المعركة بما يزيد عن ستمائة كيلومتر، فلما وصلها كان أهلها من القوط قد فروا منها نحو الشمال بأموالهم، ولم يبق سوى قليل من السكان، فاستولى طارق عليها، وأبقى على من ظل بها من أهلها وترك لأهلها كنائسهم، وجعل لأحبارهم ورهبانهم حرية إقامة شعائرهم، وتابع طارق زحفه شمالا فاخترق قشتالة ثم ليون، وواصل سيره حتى أشرف على ثغر خيخون الواقع على خليج بسكونية، ولما عاد إلى طليطلة تلقى أوامر من موسى بن نصير بوقف الفتح حتى يأتي إليه بقوات كبيرة ليكمل معه الفتح.
عبور ابن نصير إلى الأندلس
كان موسى بن نصير يتابع سير الجيش الإسلامي في الأندلس، حتى إذا أدرك أنه في حاجة إلى مدد بعد أن استشهد منه في المعارك ما يقرب من نصفه، ألزم طارقًا بالتوقف؛ حرصًا على المسلمين من مغبة التوغل في أراض مجهولة، وحتى لا يكون بعيدًا عن مراكز الإمداد في المغرب، ثم عبر هو في عشرة آلاف من العرب وثمانية آلاف من البربر إلى الجزيرة الخضراء في (رمضان 93هـ= يونيه 712م)، وسار بجنوده في غير الطريق الذي سلكه طارق، ليكون له شرف فتح بلاد جديدة، فاستولى على شذونة، ثم اتجه إلى قرمونة وهي يومئذ من أمنع معاقل الأندلس ففتحها، ثم قصد إشبيلية وماردة فسقطتا في يده، واتجه بعد ذلك على مدينة طليطلة حيث التقي بطارق بن زياد في سنة (94هـ= 713م).
وبعد أن استراح القائدان قليلا في طليطلة عاودا الفتح مرة ثانية، وزحفا نحو الشمال الشرقي، واخترقا ولاية أراجون، وافتتحا سرقطة وطركونة وبرشلونة وغيرها من المدن، ثم افترق الفاتحان، فسار طارق ناحية الغرب، واتجه موسى شمالا، وبينما هما على هذا الحال من الفتح والتوغل، وصلتهما رسالة من الوليد بن عبد الملك الخليفة الأموي، يطلب عودتهما إلى دمشق، فتوقف الفتح عند النقطة التي انتهيا إليها، وعاد الفاتحان إلى دمشق، تاركين المسلمين في الأندلس تحت قيادة عبد العزيز بن موسى بن نصير، الذي شارك أيضا في الفتح، بضم منطقة الساحل الواقعة بين مالقة وبلنسبة، وأخمد الثورة في إشبيلية وباجة، وأبدى في معاملة البلاد المفتوحة كثيرًا من الرفق والتسامح.
وبدأت الأندلس منذ أن افتتحها طارق تاريخها الإسلامي، وأخذت في التحول إلى الدين الإسلامي واللغة العربية، وظلت وطنا للمسلمين طيلة ثمانية قرون، كانت خلالها مشعلا للحضارة ومركزًا للعلم والثقافة، حتى سقطت غرناطة آخر معاقلها في يدي الإسبان المسيحيين سنة (897هـ = 1492م).
من مصادر الدراسة:
ابن الأثير: الكامل في التاريخ- دار صادر- بيروت- (1399هـ= 1979م).
المقري: نفخ الطيب من غصن الأندلس الرطيب- تحقيق إحسان عباس- دار صادر- بيروت- 1968م.
محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس- مكتبة الخانجي- القاهرة- (1408 هـ= 1988م).
حسين مؤنس: فجر الأندلس- الدار السعودية للنشر والتوزيع- جدة- الطبعة الثانية (مصورة عن الطبعة الأولى بالقاهرة)- (1405هـ= 1985م).
عبد الفتاح مقلد: كيف ضاع الإسلام من الأندلس- القاهرة- (1413هـ= 1993م).
أتم المسلمون فتح بلاد المغرب، واستقرت الأوضاع بها بعد جهاد طويل من قبل الفاتحين، حتى كتب الله التمكين للمسلمين على يد موسى بن نصير، وأقبل سكان المغرب على الإسلام أفواجًا يذوقون حلاوته وينعمون بعدله، ولم يبق من شمال المغرب سوى "سبتة" التي استطاعت لمناعتها ويقظة حاكمها الكونت يوليان أن تقف أمام طموحات الفاتحين المسلمين.
وفي الوقت الذي كان يفكر فيه موسى بن نصير بمد الفتح إلى الأندلس وعبور المضيق إليها جاءته رسالة من الكونت يوليان يعرض فيها تسليم سبتة، ويغريه بفتح إسبانيا ويهون عليه الأمر، وكانت العلاقة بين يوليان ولذريق ملك إسبانيا سيئة جدا، فعزز ذلك ما كان يستعد من أجله موسى بن نصير، ويشاور الخلافة الأموية في سبيل تحقيقه، ولم يكتف موسى بن نصير بالمراسلة، بل اجتمع هو ويوليان في سفينة في عرض البحر للاتفاق والمفاوضة، وكان يوليان قد عرض على موسى بن نصير تقديم سفنه لنقل المسلمين إلى إسبانيا، ومعاونته بالجند والإرشاد، بالإضافة إلى تسليم سبتة، وباقي معاقلها إلى المسلمين.
وكان العرض مغريًا يدعو إلى الإقدام عليه، لكن موسى بن نصير لم يكن يملك الموافقة النهائية دون الرجوع إلى الخليفة الوليد بن عبد الملك، فكتب إليه بأمر هذا العرض، فأجابه بأن يتأنى ويتمهل وأن يختبر الأمر بحملة صغيرة توقفه على حقيقة الأمر، قبل أن يخوض أهوال البحر.
حملة طريف
واستجابة لأمر الخليفة بدأ موسى بن نصير في تجهيز حملة صغيرة لعبور البحر إلى إسبانيا، وكان قوامها خمسمائة جندي يقودهم قائد من البربر يدعى "طريف بن مالك"؛ لاستكشاف الأمر واستجلاء أرض الأسبان، وقدم يوليان لهذه الحملة أربع سفن أقلتهم إلى إسبانيا، فعبرت البحر ونزلت هناك في منطقة سميت بجزيرة طريف، نسبة إلى قائد الحملة، وكان ذلك في (رمضان 91هـ= يوليو 710م) وجاست الحملة خلال الجزيرة الخضراء، وغنمت كثيرًا ودرست أحوال إسبانيا، ثم قفلت راجعة إلى المغرب، وقدم قائدها إلى موسى بن نصير نتائج حملته.
حملة طارق
بعد مرور أقل من عام من عودة حملة طريف بن الأندلس كان موسى بن نصير قد استعد للأمر، وحشد جنوده، وجهز سفنه، واختار قائدًا عظيمًا لهذه المهمة الجليلة هو طارق بن زياد والي طنجة، وهو من أصل بربري دخل آباؤه الإسلام فنشأ مسلمًا صالحًا، وتقدمت به مواهبه العسكرية إلى الصدارة، وهيأت له ملكاته أن يكون موضع ثقة الفاتح الكبير موسى بن نصير، فولاه قيادة حملته الجديدة على الأندلس.
خرج طارق بن زياد في سبعة آلاف جندي معظمهم من البربر المسلمين، وعبر مضيق البحر المتوسط إلى إسبانيا، وتجمع الجيش الإسلامي عند جبل صخري عرف فيما بعد باسم جبل طارق في (5 من رجب 92هـ= 27 من إبريل 711م).
سار الجيش الإسلامي مخترقًا المنطقة المجاورة غربًا بمعاونة يوليان وزحف على ولاية الجزيرة الخضراء؛ فاحتل قلاعها، وترامت أنباء هذا الفتح إلى أسماع لذريق، وكان مشغولا بمحاربة بعض الثائرين عليه في الشمال، فترك قتالهم وهرع إلى طليطلة عاصمته، واستعد لمواجهة هذا الخطر الداهم على عرشه، وبعث بأحد قادته لوقف الجيش الإسلامي، لكنه أخفق في مهمته.
وكان طارق بن زياد قد صعد بجيشه شمالا صوب طليطلة، وعسكرت قواته في منطقة واسعة يحدها من الشرق نهر وادي لكة، ومن الغرب نهر وادي البارباتي، وفي الوقت نفسه أكمل لذريق استعداداته، وجمع جيشًا هائلا بلغ مائة ألف، وأحسن تسليحه، وسار إلى الجنوب للقاء المسلمين، وهو واثق إلى النصر مطمئن إلى عدده وعتاده، ولما وقف طارق على خبر هذا الجيش كتب إلى موسى نصير يخبره بالأمر، ويطلب منه المدد؛ فوافاه على عجل بخمسة آلاف مقاتل من خيرة الرجال، فبلغ المسلمون بذلك اثني عشر ألفًا.
اللقاء المرتقب
وكان لا بد من الصدام، فالتقى الفريقان جنوبي بحيرة خندة المتصلة بنهر بارباتي الذي يصب في المحيط الأطلسي بالقرب من مدينة "شذونة"، وكان لقاء عاصفًا ابتدأ في (28 من رمضان 92هـ= 18 من يوليو 711م) وظل مشتعلا ثمانية أيام، أبلى المسلمون خلالها بلاء حسنًا، وثبتوا في أرض المعركة كالجبال الراسيات، ولم ترهبهم القوى النصرانية، ولا حشودهم الضخمة، واستعاضوا عن قلة عددهم ـ إذا ما قورنوا بضخامة جيش عدوهم ـ بحسن الإعداد والتنظيم، وبراعة الخطط والتنفيذ، وبشجاعة الأفئدة والقلوب، وبقوة الإيمان واليقين، والرغبة في الموت والشهادة.
نجح المسلمون في الصمود والثبات ثمانية أيام عصبية، حتى مالت كفة النصر إلى صالحهم، وتحول جيش لذريق العرمرم إلى غثاء كغثاء السيل، لا خير فيه ولا غناء، فقد كان على ضخامته متفرق الكلمة موزع الأهواء، تمزق صفوفه الخيانة؛ ولذلك لم يكن عجيبا أن يحقق المسلمون النصر على ضآلة عددهم؛ لأنهم التمسوا أسباب النصر وعوامل الفوز، فتحقق لهم في اليوم الثامن بعد جهاد شاق، وفر لذريق آخر ملوك القوط عقب الموقعة، ولم يُعثر له على أثر، ويبدو أنه فقد حياته في المعركة التي فقد فيها ملكه، أو مات غريقًا في أحد الأنهار عند فراره.
نتائج النصر
بعد هذا النصر تعقب طارق فلول الجيش المنهزم الذي لاذ بالفرار، وسار الجيش فاتحا بقية البلاد، ولم يلق مقاومة عنيفة في مسيرته نحو الشمال، وفي الطريق إلى طليطة بعث طارق بحملات صغيرة لفتح المدن، فأرسل مغيثًا الرومي إلى قرطبة في سبعمائة فارس، فاقتحم أسوارها الحصينة واستولى عليها دون مشقة، وأرسل حملات أخرى إلى غرناطة والبيرة ومالقة، فتمكنت من فتحها.
وسار طارق في بقية الجيش إلى طليطلة مخترقًا هضاب الأندلس، وكانت تبعد عن ميدان المعركة بما يزيد عن ستمائة كيلومتر، فلما وصلها كان أهلها من القوط قد فروا منها نحو الشمال بأموالهم، ولم يبق سوى قليل من السكان، فاستولى طارق عليها، وأبقى على من ظل بها من أهلها وترك لأهلها كنائسهم، وجعل لأحبارهم ورهبانهم حرية إقامة شعائرهم، وتابع طارق زحفه شمالا فاخترق قشتالة ثم ليون، وواصل سيره حتى أشرف على ثغر خيخون الواقع على خليج بسكونية، ولما عاد إلى طليطلة تلقى أوامر من موسى بن نصير بوقف الفتح حتى يأتي إليه بقوات كبيرة ليكمل معه الفتح.
عبور ابن نصير إلى الأندلس
كان موسى بن نصير يتابع سير الجيش الإسلامي في الأندلس، حتى إذا أدرك أنه في حاجة إلى مدد بعد أن استشهد منه في المعارك ما يقرب من نصفه، ألزم طارقًا بالتوقف؛ حرصًا على المسلمين من مغبة التوغل في أراض مجهولة، وحتى لا يكون بعيدًا عن مراكز الإمداد في المغرب، ثم عبر هو في عشرة آلاف من العرب وثمانية آلاف من البربر إلى الجزيرة الخضراء في (رمضان 93هـ= يونيه 712م)، وسار بجنوده في غير الطريق الذي سلكه طارق، ليكون له شرف فتح بلاد جديدة، فاستولى على شذونة، ثم اتجه إلى قرمونة وهي يومئذ من أمنع معاقل الأندلس ففتحها، ثم قصد إشبيلية وماردة فسقطتا في يده، واتجه بعد ذلك على مدينة طليطلة حيث التقي بطارق بن زياد في سنة (94هـ= 713م).
وبعد أن استراح القائدان قليلا في طليطلة عاودا الفتح مرة ثانية، وزحفا نحو الشمال الشرقي، واخترقا ولاية أراجون، وافتتحا سرقطة وطركونة وبرشلونة وغيرها من المدن، ثم افترق الفاتحان، فسار طارق ناحية الغرب، واتجه موسى شمالا، وبينما هما على هذا الحال من الفتح والتوغل، وصلتهما رسالة من الوليد بن عبد الملك الخليفة الأموي، يطلب عودتهما إلى دمشق، فتوقف الفتح عند النقطة التي انتهيا إليها، وعاد الفاتحان إلى دمشق، تاركين المسلمين في الأندلس تحت قيادة عبد العزيز بن موسى بن نصير، الذي شارك أيضا في الفتح، بضم منطقة الساحل الواقعة بين مالقة وبلنسبة، وأخمد الثورة في إشبيلية وباجة، وأبدى في معاملة البلاد المفتوحة كثيرًا من الرفق والتسامح.
وبدأت الأندلس منذ أن افتتحها طارق تاريخها الإسلامي، وأخذت في التحول إلى الدين الإسلامي واللغة العربية، وظلت وطنا للمسلمين طيلة ثمانية قرون، كانت خلالها مشعلا للحضارة ومركزًا للعلم والثقافة، حتى سقطت غرناطة آخر معاقلها في يدي الإسبان المسيحيين سنة (897هـ = 1492م).
من مصادر الدراسة:
ابن الأثير: الكامل في التاريخ- دار صادر- بيروت- (1399هـ= 1979م).
المقري: نفخ الطيب من غصن الأندلس الرطيب- تحقيق إحسان عباس- دار صادر- بيروت- 1968م.
محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس- مكتبة الخانجي- القاهرة- (1408 هـ= 1988م).
حسين مؤنس: فجر الأندلس- الدار السعودية للنشر والتوزيع- جدة- الطبعة الثانية (مصورة عن الطبعة الأولى بالقاهرة)- (1405هـ= 1985م).
عبد الفتاح مقلد: كيف ضاع الإسلام من الأندلس- القاهرة- (1413هـ= 1993م).