مشاهدة النسخة كاملة : زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم
بسم الله الرحمن الرحيم
زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم
زينب بنت جحش رضي الله عنها
وها نحن نلتقي مع إحدى النسمات العطرة ، بما جمعته سيرتها من صفاء نفسٍ ونقاوة سريرة ، تلكم هي أم المؤمنين زينب بنت جحش بن رياب بن يعمر الأسدي ، وأمها أمية بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأخوها عبدالله بن جحش أول أمير في الإسلام ، وُلدت سنة 33ق هـ ، وكان اسمها "برَّة"، فسماها النبي صلى الله عليه وسلم زينب ، وكانت تكنى : أم الحكم ، وهي إحدى المهاجرات الأول .
تزوجها زيد بن حارثة مولى النبي صلى الله عليه وسلم ليعلمها كتاب الله وسنة رسوله ، ثم زوّجها الله من السماء لنبيه صلى الله عليه وسلم سنة ثلاث من الهجرة ، وأنزل الله فيها قوله: { وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أَحق أَن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا } ( الأحزاب :37 ) ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تبنى زيداً ، ودُعي "زيد بن محمد " ، فلما نزل قوله تعالى: { ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الَّله } (الأحزاب:5) ، تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة زيدٍ بعد أن طلقها زيد ، وهدم ما كان معروفاً عند الجاهلية من أمر التبني .
ومنذ اختارها الله لرسوله ، وهي تفخرُ بذلك على أمهات المؤمنين، وتقول كما ثبت في البخاري : ( زوَّجكنَّ أهاليكن ، وزوجني الله من فوق سبع سماوات ، وسماها النبي صلى الله عليه وسلم بعد الزواج "زينب" ، وأطعم عليها يومئذٍ خبزاً ولحماً ) .
وفي شأنها أنزل الله تعالى الأمر بإدناء الحجاب ، وبيان ما يجب مراعاته من حقوق نساء النبي عليه الصلاة والسلام .
كانت رضي الله عنها من سادة النساء ، ديناً وورعاً ، وجوداً ومعروفاً ، محضن اليتامى ومواسية الأرامل ، قد فاقت أقرانها خَلْقاً وخُلقاً .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزور زينب ، ويمكث معها ، ويشرب العسل عندها ، فغارت بعض نسائه ، وأردن أن يصرفنه عن ذلك ، فعن عائشة رضي الله عنها : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند زينب بنت جحش ، فيشرب عندها عسلا ، قالت: فتواطيت أنا و حفصة : أنَّ أيَّتـُنا ما دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم فلتقل : إني أجد منك ريح مغافير ، أكلت مغافير ؟ - صمغٌ يؤكل ، طيب الطعم ، له رائحه غير طيبة - ، فدخل على إحداهما ، فقالت: ذلك له ، فقال: بل شربت عسلاً عند زينب بنت جحش ، ولن أعود له ، فنزل: { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك} ... إلى قوله... {إن تتوبا}
ل عائشة و حفصة {وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا} لقوله بل شربت عسلاً ) رواه البخاري و مسلم .
ومن مناقبها رضي الله عنها ، أنها أثنت على عائشة أم المؤمنين خيراً ، عندما استشارها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حادث الإفك ، ففي الحديث قالت عائشة : ( وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم عن أمري ما علمت؟ أو ما رأيت؟ فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري ، والله ما علمت إلا خيراً ، قالت عائشة : وهي التي كانت تساميني - تعاليني وتفاخرني - من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، فعصمها الله بالورع ) رواه البخاري و مسلم .
ومن مناقبها أنها كانت ورعةً قوّامة ، تديم الصيام ، كثيرة التصدق وفعل الخير ، وكانت من صُنَّاع اليد ، تدبغ و تخرز ، ثم تتصدَّق بثمن ذلك ، وقد أثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على كثرة تصدقها وكنَّى عن ذلك بطول يدها، فعن عائشة أم المؤمنين قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أسرعكن لحاقاً بي أطولكنَّ يداً ، قالت : فكنَّ يتطاولن أيتهنَّ أطول يداً ، قالت : فكانت أطولنا يداً زينب ؛ لأنها كانت تعمل بيدها وتصدق ) رواه البخاري و مسلم .
وقد أحسنت عائشة رضي الله عنها في الثناء على زينب إذ قالت : ولم أر امرأة قط خيراً في الدين من زينب ، وأتقى لله ، وأصدق حديثاً ، وأوصل للرحم ، وأعظم صدقة ، وأشد ابتذالاً لنفسها في العمل الذي تصدق به وتقرب به إلى الله تعالى.
ولقد بلغ من حبّها للعطاء أنها قالت حين حضرتها الوفاة : " إني قد أعددت كفني ، فإن بعث لي عمر بكفن فتصدقوا بأحدهما ، وإن استطعتم إذ أدليتموني أن تصدقوا بإزاري فافعلوا " .
وعن برزة بنت رافع رضي الله عنها قالت : " لما خرج العطاء بعث عمر بن الخطاب إلى زينب بنت جحش بعطائها ، فأتيت به ونحن عندها . فقالت : ما هذا ؟ ، قلت : أرسل به إليك عمر ، قالت : غفر الله له ، والله لغيري من إخواتي كانت أقوى على قسم هذا مني ، فقلنا لها : إن هذا لك كله ، فقالت : سبحان الله . فجعلت تستر بينها وبينه بجلبابها أو بثوبها ، ثم قامت توزّعه وتقول لنا : اذهب به إلى فلان - من أهل رحمها وأيتامها - ، حتى بقيت بقيّة تحت الثوب ، فأخذنا ما تحت الثوب ، فوجدناه بضعة وثمانين درهماً ، ثم رفعت يديها ثم قالت : اللهم لا يدركني عطاء لعمر بعد عامي هذا أبداً ".
فكانت حقاً أول زوجاته صلى الله عليه وسلم لحوقاً به ، حيث توفيت سنة 20 للهجرة وقد جاوزت الخمسين عاماً ، وصلى عليها عمر بن الخطاب ، وصُنع لها نعشٌ وكانت أول امرأة يُفعل معها ذلك ، ودُفنت بالبقيع ، فرضي الله عنها وعن أمهات المؤمنين .
الشبكة الاسلامية
بسم الله الرحمن الرحيم
عائشة رضي الله عنها
هي الصدّيقة بنت الصدّيق أم عبدالله عائشة بنت أبي بكر بن قُحافة ، وأمها أم رومان بنت عامر بن عويمر الكِنَانية ، ولدت في الإسلام ، بعد البعثة النبوية بأربع أو خمس سنوات.
وعندما هاجر والدها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة ، بعث إليها بعبد الله بن أريقط الليثي ومعه بعيران أو ثلاثة للحاق به ، فانطلقت مهاجرة مع أختها أسماء ووالدتها وأخيها .
وقد عقد عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة ببضعة عشر شهراً وهي بنت ست سنوات ، ودخل بها في شوّال من السنة الثانية للهجرة وهي بنت تسع سنوات.
وقبل الزواج بها رآها النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام ، فقد جاءه جبريل عليه السلام وهو يحمل صورتها إليه ويقول له :( هذه زوجتك في الدنيا والآخرة )رواه الترمذي وأصله في الصحيحين .
ولم يتزوج صلى الله عليه وسلم من النساء بكراً غيرها ، وهو شرفٌ استأثرت به على سائر نسائه ، وظلّت تفاخر به طيلة حياتها ، وتقول للنبي – صلى الله عليه وسلم - : " يا رسول الله ، أرأيت لو نزلتَ وادياً وفيه شجرةٌ قد أُكِل منها ، ووجدتَ شجراً لم يُؤكل منها ، في أيها كنت ترتع بعيرك ؟ " قال : ( في التي لم يرتع منها ) ، وهي تعني أنه لم يتزوج بكراً غيرها ، رواه البخاري ، وتقول أيضاً : " لقد أُعطيت تسعاً ما أُعطيتها امرأة بعد مريم بنت عمران - ثم قالت - لقد تزوجني رسول الله – صلى الله عليه وسلم - بكراً ، وما تزوج بكراً غيري " .
وكان لعائشة رضي الله عنها منزلة خاصة في قلب رسول الله – صلى الله عليه وسلم –لم تكن لسواها ، حتى إنّه لم يكن يخفي حبّها عن أحد ، وبلغ من حبّه لها أنه كان يشرب من الموضع الذي تشرب منه ، ويأكل من المكان الذي تأكل منه ، وعندما سأله عمرو بن العاص رضي الله عنه : ، قال له : عائشة ) متفق عليه ، وكان النبي – صلى الله عليه وسلم – يداعبها ويمازحها ، وربّما سابقها في بعض الغزوات .
وقد روت عائشة رضي الله عنها ما يدلّ على ملاطفة النبي – صلى الله عليه وسلم – لها فقالت:( والله لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوم على باب حجرتي ، والحبشة يلعبون بالحراب ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسترني بردائه لأنظر إلى لعبهم من بين أذنه وعاتقه ، ثم يقوم من أجلي حتى أكون أنا التي أنصرف )رواه أحمد .
ولعلم الناس بمكانة عائشة من رسول الله – صلى الله عليه وسلم - كانوا يتحرّون اليوم الذي يكون فيه النبي – صلى الله عليه وسلم – عندها دون سائر الأيّام ليقدّموا هداياهم وعطاياهم ، كما جاء في الصحيحين.
ومن محبتّه – صلى الله عليه وسلم – لها استئذانه لنساءه في أن يبقى عندها في مرضه الذي تُوفّي فيه لتقوم برعايته .
ومما اشتهرت به عائشة رضي الله عنها غيرتها الشديدة على النبي – صلى الله عليه وسلم - ، التي كانت دليلاً صادقاً وبرهاناً ساطعاً على شدّة محبّتها له ، وقد عبّرت عن ذلك بقولها له : " وما لي لا يغار مثلي على مثلك ؟ "رواه مسلم
وفي يومٍ من الأيّام كان النبي - صلى الله عليه وسلم - عندها ، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بوعاء فيه طعام ، فقامت عائشة رضي الله عنها إلى الوعاء فكسرته ، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يجمع الطعام وهو يقول : ( غارت أمكم )رواه البخاري .
وكلما تزوّج النبي - صلى الله عليه وسلم – بامرأة كانت تسارع بالنظر إليها لترى إن كانت ستنافسها في مكانتها من رسول الله عليه الصلاة والسلام ، وكان النصيب الأعظم من هذه الغيرة لخديجة رضي الله عنها بسبب ذكر رسول الله لها كثيراً .
وعندما خرج النبي – صلى الله عليه وسلم – في إحدى الليالي إلى البقيع ، ظنّت أنّه سيذهب إلى بعض نسائه ، فأصابتها الغيرة ، فانطلقت خلفه تريد أن تعرف وجهته ، فعاتبها النبي – صلى الله عليه وسلم – وقال لها : ( أظننت أن يحيف الله عليك ورسوله ؟ )رواه مسلم .
والحديث عن فضائلها لا يُملّ ولا ينتهي ، فقد كانت رضي الله عنها صوّامة قوّامة ، تُكثر من أفعال البرّ ووجوه الخير ، وقلّما كان يبقى عندها شيءٌ من المال لكثرة بذلها وعطائها ، حتى إنها تصدّقت ذات مرّة بمائة ألف درهم ، لم تُبق منها شيئاً .
وقد شهد لها النبي – صلى الله عليه وسلم – بالفضل ، فقال :( فضلُ عائشة على النساء ، كفضل الثريد على سائر الطعام )متفق عليه
ومن فضائلها قوله - صلى الله عليه وسلم - لها (يا عائشة هذا جبريل يقرأ عليك السلام ، فقالت : وعليه السلام ورحمة الله )متفق عليه .
وعلى الرغم من صغر سنّها ، إلا أنها كانت ذكيّةً سريعة التعلّم ، ولذلك استوعبت الكثير من علوم النبي - صلى الله عليه وسلم – حتى أصبحت من أكثر النساء روايةً للحديث ، ولا يوجد في نساء أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - امرأة أعلم منها بدين الإسلام .
ومما يشهد لها بالعلم قول أبي موسى رضي الله عنه ما أشكل علينا أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - حديثٌ قط فسألنا عائشة ، إلا وجدنا عندها منه علماً "رواه الترمذي .
وقيل لمسروق : هل كانت عائشة تحسن الفرائض؟ قال : إي والذي نفسي بيده، لقد رأيت مشيخة أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - يسألونها عن الفرائض "رواه الحاكم .
وقال الزُّهري : لو ُجمع علم نساء هذه الأمة ، فيهن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ، كان علم عائشة أكثر من علمهنّ " رواه الطبراني .
وإلى جانب علمها بالحديث والفقه ، كان لها حظٌٌّ وافرٌ من الشعر وعلوم الطبّ وأنساب العرب ، واستقت تلك العلوم من زوجها ووالدها ، ومن وفود العرب التي كانت تقدم على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – .
ومن بركتها رضي الله عنها أنها كانت السبب في نزول بعض آيات القرآن ، ومنها آية التيمم ، وذلك عندما استعارت من أسماء رضي الله عنها قلادة ، فضاعت منها ، فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم – بعض أصحابه ليبحثوا عنها ، فأدركتهم الصلاة ولم يكن عندهم ماءٌ فصلّوا بغير وضوء ، فلما أتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم شكوا إليه ، فنزلت آية التيمم ، فقال أسيد بن حضير لعائشة : " جزاكِ الله خيراً ، فوالله ما نزل بك أمر قط إلا جعل الله لكِ منه مخرجاً ، وجعل للمسلمين فيه بركة " متفق عليه .
وعندما ابتليت رضي الله عنها بحادث الإفك ، أنزل الله براءتها من السماء قرآناً يتلى إلى يوم الدين ، قال تعالى:{ إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي توَلى كبره منهم له عذاب عظيم ، لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين }
(النور: 11-12).
وقد توفّيت سنة سبع وخمسين ، عن عمر يزيد على ثلاث وستين سنة ، وصلّى عليها أبو هريرة ، ثم دفنت بالبقيع ، ولم تُدفن في حجرتها بجانب رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، فقد آثرت بمكانها عمر بن الخطاب ، فرضي الله عنهما وعن جميع أمهات المؤمنين
يتبع ان شاء الله ....
حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنها
هي أم المؤمنين حفصة بنت أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، وأمها زينب بنت مظعون رضي الله عنهم أجمعين .
ولدت في مكة قبل البعثة بخمس سنوات – وهو العام الذي شارك فيه النبي صلى الله عليه وسلم في بناء الكعبة - ، ولما بلغت سنّ الزواج تقدّم إليها خُنيس بن حُذافة السهمي فتزوّجها ، حتى جاء ذلك اليوم المبارك الذي أشرقت فيه نفوسهما بأنوار الإيمان ، واستجابا لدعوة الحق والهدى ، فكانا من السابقين الأوّلين .
ولما أذن الله للمؤمنين بالهجرة ، لحقت حفصة وزوجها بركاب المؤمنين المتّجهة صوب المدينة ، حتى استقرّ بهم الحال هناك .
وما هو إلا قليلٌ حتى بدأت مرحلة المواجهة بين المؤمنين وأعدائهم ، فكان خنيس من أوائل المدافعين عن حياض الدين ، فقد شهد بدراً وأحداً ، وأبلى فيهما بلاء حسنا ، لكنّه خرج منهما مثخناً بجراحات كثيرة ، ولم يلبث بعدها إلا قليلا حتى فاضت روحه سنة ثلاث للهجرة ، مخلّفا وراءه حفصة رضي الله عنها.
وشقّ ذلك على عمر ، واكتنفته مشاعر الشفقة والحزن على ابنته ، فأراد أن يواسيها في مصابها ، ويعوّضها ذلك الحرمان ، فقام يبحث لها عن زوجٍ صالح ، حتى وقع اختياره على عثمان بن عفان رضي الله عنه ، فأته فعرض عليه ابنته لفضله ومكانه ومنزلته ، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه : " لقيت عثمان بن عفان ، فعرضت عليه حفصة ، فقلت : إن شئت زوّجتك حفصة بنت عمر ، قال عثمان : سأنظر في أمري ، فلبث عثمان ليالي ، ثم اعتذر لعمر بأنه لا رغبة له في الزواج ، قال عمر : فلقيت أبا بكر ، فقلت : إن شئت زوّجتك حفصة بنت عمر ، فسكت أبو بكر ، ولم يُرجِع إلى عمر بجواب ، قال عمر : فكان غضبي من فعل أبي بكر وعدم ردّه أشدّ من غضبي لرد عثمان ، قال عمر : فلبثت ليالي ، ثم خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فزوّجته إياها ، فلقيني أبو بكر ، فقال: لعله كان في نفسك شيءٌ عليّ حين لم أُرجع إليك جواباً في حفصة ؟ ، قلت : نعم ، قال : فإنه لم يمنعني من ذلك إلا أني قد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكرها ، فلم أكن لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولو تركها لقبلتها ".
وهكذا شرّفها الله سبحانه لتكون زوجة للنبي صلى الله عليه وسلم ، تقتبس من أنواره ، وتنهل من علمه ، بما حباها الله من ذكاءٍ وفطنةٍ ، وشغفٍ للمعرفة ، ونلمس ذلك من أسئلتها التي تلقيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم استفهاماً للحكمة واستيضاحاً للحقيقة ، فمن ذلك أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( يأتي جيش من قبل المشرق يريدون رجلا من أهل مكة ، حتى إذا كانوا بالبيداء خُسف بهم ، فرجع من كان إمامهم لينظر ما فعل القوم ، فيصيبهم مثل ما أصابهم ) . فقالت : يا رسول الله ، فكيف بمن كان منهم مستكرها ؟ ، فقال لها : ( يصيبهم كلهم ذلك ، ثم يبعث الله كل امرئ على نيته ) .
وعنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إنى لأرجو أن لا يدخل النار إن شاء الله أحداً شهد بدراً والحديبية ) ، فقالت : ( أليس الله عز وجل يقول : { وإن منكم إلا واردها } ، فأجابها : { ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيّا } ( مريم : 72 ) . يقول الإمام النووي معلّقا : " فيه دليل للمناظرة والاعتراض ، والجواب على وجه الاسترشاد ، وهو مقصود حفصة ، لا أنها أرادت رد مقالته صلى الله عليه وسلم " .
ولما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه أن يحللن بعمرة قالت له : ما يمنعك يا رسول الله أن تهلّ معنا ؟ ، قال : ( إني قد أهديت ولبدت ، فلا أحل حتى أنحر هديي ) .
وخلال السنين التي عاشتها في كنف النبي صلى الله عليه وسلم ، ذاقت من نبيل شمائله وكريم خصاله ، ما دفعها إلى نقل هذه الصورة الدقيقة من أخلاقه وآدابه ، سواءٌ ما تعلّق منها بهديه وسمته ، ومنطقه وألفاظه ، أو أحوال عبادته ، فنجدها تقول : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم ثلاثة أيام من الشهر : الإثنين والخميس ، والإثنين من الجمعة الأخرى ، وتقول :كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه وضع يده اليمنى تحت خده وقال ( رب قني عذابك يوم تبعث عبادك ) ثلاث مرات ".
وقد شهد لها جبريل بصلاحها وتقواها ، وذلك حينما طلب من النّبي صلى الله عليه وسلم أن يراجعها بعد أن طلّقها تطليقةً ، وقال له : ( إنها صوّامة ، قوّامة ، وهي زوجتك في الجنة ) رواه الحاكم ، و الطبراني ، وحسنه الألباني .
أما أعظم مناقبها رضي الله عنها ، فهو اختيارها لتحفظ نسخة المصحف الأولى ، والتي جمعها أبوبكر رضي الله عنه من أيدي الناس بعد أن مات أكثر القرّاء ، وظلت معها حتى خلافة عثمان رضي الله عنه .
وعاشت رضي الله عنها تحيي ليلها بالعبادة وتلاوة القرآن والذكر ، حتى أدركتها المنيّة سنة إحدى وأربعين بالمدينة عام الجماعة ، فرضي الله عنها وعن أمهات المؤمنين .
زينب بنت خزيمة الهلالية رضي الله عنها
هي زينب بنت خزيمة بن الحارث بن عبد الله بن عمرو الهلالية العامرية ذات النسب الأصيل والمنزلة العظيمة ، فأمها هي هند بنت عوف بن الحارث بن حماطة الحميرية ، وأخواتها لأبيها وأمها : أم الفضل – أم بني العباس بن عبد المطلب - ، ولبابة - أم خالد بن الوليد - ، وأختها لأمها : ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين .
وقد اختلفوا فيمن كان زوجها قبل النبي صلى الله عليه وسلم ، فقيل إنها كانت عند الطفيل بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف رضي الله عنه ثم طلقها ، وقيل : إنها كانت عند ابن عمّها جهم بن عمرو بن الحارث الهلالي ثم عند عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب رضي الله عنه والذي استشهد في بدر ، وأقرب الأقوال في زواجها أنها كانت تحت عبد الله بن جحش رضي الله عنه ، ثم تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاة زوجها يوم أحد .
والذي يهمّنا أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوّجها مواساة لها فيما أصابها من فقدها لأزواجها ، ومكافأة لها على صلاحها وتقواها ، وكان زواجه صلى الله عليه وسلم بها في رمضان من السنة الثالثة للهجرة بعد زواجه بحفصة رضي الله عنها ، وقبل زواجه بميمونة بنت الحارث .
وذُكر أن النبي صلى الله عليه وسلم خطبها إلى نفسها فجعلت أمرها إليه ، فتزوجها وأصدقها أربعمائة درهم ، وأَوْلَمَ عليها جزوراً ، وقيل إن عمّها قبيصة بن عمرو الهلالي هو الذي تولّى زواجها .
ولم تذكر المصادر التي ترجمت سيرتها إلا القليل من أخبارها ، خصوصاً ما يتناول علاقاتها ببقية زوجاته عليه الصلاة والسلام ، ولعل مردّ ذلك إلى قصر مدة إقامتها في بيت النبوة .
والقدر المهم الذي حفظته لنا كتب السير والتاريخ ، هو ذكر ما حباها الله من نفس مؤمنة ، امتلأت شغفاً وحبّاً بما عند الله من نعيم الآخرة ، فكان من الطبيعي أن تصرف اهتماماتها عن الدنيا لتعمر آخرتها بأعمال البر والصدقة ، حيث لم تألُ جهداً في رعاية الأيتام والأرامل وتعهّدهم ، وتفقّد شؤونهم والإحسان إليهم ، وغيرها من ألوان التراحم والتكافل ، فاستطاعت بذلك أن تزرع محبتها في قلوب الضعفاء والمحتاجين ، وخير شاهد على ذلك ، وصفها بـ" أم المساكين " ، حتى أصبح هذا الوصف ملازما لها إلى يوم الدين .
ولم تلبث زينب رضي الله عنها طويلاً في بيت النبوة ، فقد توفيت في ربيع الآخر سنة أربع للهجرة عن عمر جاوز الثلاثين عاماً ، بعد أن قضت ثمانية أشهر مع النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد صلى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفنها بالبقيع ، وبذلك تكون ثاني زوجاته به لحوقاً بعد خديجة بنت خويلد ، فرضي الله عنها وعن جميع أمهات المؤمنين .
ام سلمة المخزومية رضي الله عنها
هي أم المؤمنين ، هند بنت أبي أمية حذيفة بن المغيرة المخزومية القرشية المشهورة بكنيتها أم سلمة ، والدها سيّد من سادات قريشٍ المعدودين ، وكان بين الناس مشهوراً بالكرم وشدّة السخاء حتى لُقّب بـ : " زادُ الراكب " ، إذ كان يمنع من يرافقه في سفره أن يتزوّد لرحلته ويكفيه مؤونة ذلك .
وهي بنت عم خالد بن الوليد رضي الله عنه ، وبنت عم أبي جهل بن هشام .كانت أم سلمة رضي الله عنها من الجيل الأوّل الذي أسلم مبكّرا في مكة ، ونالت في ذلك ما ناله المؤمنون من صنوف الأذى وألوان العذاب ، حتى أذن الله للمؤمنين بالهجرة الأولى إلى الحبشة ، لتنطلق هي وزوجها عبد الله بن عبد الأسد المخزومي مهاجريْن في سبيل الله ، فارّين بدينهم من أذى قريشٍ واضطهادها ، محتمين بحمى النجاشي الملك العادل .
ولما أرادت تلك الأسرة أن تهاجر إلى المدينة ، واجهت الكثير من المصاعب والابتلاءات ، فقد تسامع قومها بنو المغيرة بتأهّبها وزوجها للرحيل فقالوا لزوجها : " هذه نفسك غلبْتنا عليها ، فعلام نتركك تأخذ أم سلمة وتسافر بها ؟ " ، فنزعوا خطام البعير من يده وأخذوها منه ، فغضب لذلك بنو عبد الأسد قوم زوجها وقالوا : " والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا " ، فتجاذبوا الولد بينهم حتى خلعوا يده ، وانطلق به بنو عبد الأسد ، وظلّت أم سلمة عند بني المغيرة وانطلق الزوج مهاجراً لوحده .
وهكذا تفرّق شمل الأسرة ، وابتليت بلاءً عظيماً ، فالزوج هاجر إلى المدينة ، والزوجة عند أهلها في مكة ، والولد مع أهل أبيه ، مما كان له عظيم الأثر على نفس أم سلمة رضي الله عنها ، فكانت تخرج كل يوم إلى بطحاء مكة تبكي ، وتتألم لما أصابها ، وظلّت على حالها قرابة سنة ، حتى مرّ بها رجل من قومها وهي تبكي ، فرحمها ورقّ لحالها ، فانطلق إلى قومه قائلاً لهم : " ألا تطلقون سبيل هذه المسكينة ؟ فإنكم فرقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها " ، فأجابوه لذلك وقالوا لها : " الحقي بزوجك إن شئت " .
ولما سمع بنو عبد الأسد ذلك ردّوا عليها ولدها ، فانطلقت من فورها إلى مكة ، تقول أم سلمة رضي الله عنها واصفةً رحلتها : " فجهّزت راحلتي ، ووضعت ابني في حجري ، ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة ، وما معي أحد من خلق الله ، حتى إذا كنت بالتنعيم – موضع من مكة - لقيت عثمان بن طلحة - وكان يومئذٍ مشركاً - ، فقال لي : إلى أين ؟ ، قلت : أريد زوجي بالمدينة ، فقال : هل معك أحد ؟ ، فقلت : لا والله ، ما معي إلا الله وابني هذا ، فأخذته النخوة فقال : والله لا أتركك ، فأخذ بخطام البعير فانطلق معي يقودني ، فوالله ما صحبت رجلاً من العرب أكرم منه ، كان إذا نزل المنزل أناخ بي ثم تنحّى إلى شجرة فاضطجع تحتها ، فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري فجهّزه ، ثم استأخر عني وقال : اركبي ، فإذا ركبت واستويت على بعيري أتى فأخذ بخطامه فقادني ، فلم يزل يصنع ذلك حتى أقدمني المدينة " .
وفي غزوة أحد أُصيب زوجها بجرح عميق ، وبعد شهور تُوفي رضي الله عنه متأثراً بجرحه ، وهذا ابتلاء آخر يصيب أم سلمة ، بعد رحيل زوجها من الدنيا تاركاً وراءه أربعة من الأولاد هم: برة وسلمة ، وعمر، ودرة ، فأشفق عليها صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكرالصديق - رضي الله عنه- فخطبها ، إلا أنها لم تقبل ، وصبرت مع أبنائها .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفكر في أمر تلك المرأة الكريمة ، المؤمنة الصادقة ، الوفية الصابرة ، فتقدم لها وتزوجها مكافأة ومواساة لها ، ورعاية لأبنائها .
تقول أم سلمة رضي الله عنها : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله { إنا لله وإنا إليه راجعون } اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيراً منها إلا أخلف الله له خيراً منها ، فلما مات أبو سلمة قلت : أي المسلمين خير من أبي سلمة ؟ أول بيت هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم إني قلتها ، فأخلف الله لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالت: أرسل إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطب بن أبي بلتعة يخطبني له ، فقلت: إني كبيرة السنّ ، وأنا غيور-أي تغار من ضرائرها من النساء - وذات عيال ، فقال صلى الله عليه وسلم : أنا أكبر منك ، وأما الغيرة فيذهبها الله عز وجل، وأما العيال فإلى الله ورسوله ) رواه مسلم ، فتزوّجها النبي صلى الله عليه وسلم في شوال سنة أربع من الهجرة.
وقد أخذت أم سلمة حظّاً وافراً من أنوار النبوّة وعلومها ، حتى غدت ممن يُشار إليها بالبنان فقها وعلماً ، بل كان الصحابة يفدون إليها ويستفتونها في العديد من المسائل ، ويحتكمون إليها عند الاختلاف ، ومن ذلك أن أبا هريرة وبن عباس اختلفا في عدة المتوفى عنها زوجها إذا وضعت حملها ، فقال أبو هريرة : لها أن تتزوج ، وقال ابن عباس : بل تعتدّ أبعد الأجلين ، فبعثوا إلى أم سلمة فقضت بصحّة رأي أبي هريرة رضي الله عنهم.
وكانت- رضي الله عنها- من النساء العاقلات الناضجات ، يشهد لهذا ما حدث يوم الحديبية ، بعد كتابة الصلح ، حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالتحلل من نسكهم ، وحثّهم على النحر ثم الحلق ، فشقّ ذلك على الصحابة الكرام ، ولم يفعلوا ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سلمة مغضباً ، فذكر لها ما كان من أمر المسلمين وإعراضهم عن أمره ، ففطنت - رضي الله عنها –إلى سبب إعراضهم وعدم امتثالهم ، فقالت للنبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله أتحب أن يمتثلوا لأمرك ؟ ، اخرج فلا تكلم أحداً منهم كلمة حتى تنحر بدنتك وتدعو حالقك فيحلقك ، فقام وخرج ، ولم يكلم أحداً حتى نحر بدنته ودعا حالقه فحلقه ، فلما رأى الناس ذلك قاموا فنحروا فجعل بعضهم يحلق بعضاً ، قال الإمام ابن حجر : " وإشارتها على النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية تدل على وفور عقلها وصواب رأيها " .
وفي شهر ذي القعدة من العام التاسع والخمسين للهجرة أسلمت روحها الطاهرة إلى خالقها ، وكانت قد بلغت من العمر أربعاً وثمانين سنة ، حين بلغها مقتَلُ الحسين ، فوجَمَت لذلك ، وحَزِنَت عليه كثيراً ، و غُشيَ عليها ، ولم تلَبث بعدهُ إلا يَسيراً ، فكانت آخر أمهات المؤمنين موتاً ، فرضي الله عنها ، وعن جميع أمهات المؤمنين .
جويرية بنت الحارث رضي الله عنها
هي أم المؤمنين جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار بن حبيب بن جذيمة الخزاعية المصطلقية ، كانت تحت ابن عم لها يقال له مسافع بن صفوان المصطلقي ، وقد قُتل في يوم المريسيع ، ثم غزا النبي صلى الله عليه وسلم قومها بني المصطلق فكانت من جملة السبي ، ووقعت في سهم ثابت بن قيس رضي الله عنه .
وزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم منها وقع في السنة الخامسة للهجرة ، وكان عمرها إذ ذاك عشرين سنة ، ومن ثمار هذا الزواج المبارك فكاك المسلمين لأسراهم من قومها .
ففي الحديث عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت : ( لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا بني المصطلق ، وقعت جويرية بنت الحارث في السهم لثابت بن قيس بن الشماس أو لابن عم له ، وكاتبته على نفسها ، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم تستعينه في كتابتها ، فقالت : يا رسول الله ، أنا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار ، وقد أصابني ما لم يخف عليك ، فوقعتُ في السهم لثابت بن قيس بن الشماس أو لابن عم له ، فكاتبته على نفسي ، فجئتك أستعينك على كتابتي ، فقال لها : فهل لك في خير من ذلك ؟ قالت: وما هو يا رسول الله ؟ قال : أقضي كتابتك وأتزوجك ، قالت : نعم يا رسول الله ، قال: قد فعلت ، وخرج الخبر إلى الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج جويرية بنت الحارث ، فقال الناس : أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأرسلوا ما بأيديهم - أي أعتقوا- من السبي ، فأعتق بتزويجه إياها مائة أهل بيت من بني المصطلق ، فما أعلم امرأة أعظم بركة على قومها منها ) رواه الإمام أحمد في مسنده .
وروى ابن سعد في الطبقات أنه لما وقعت جويرية بنت الحارث في السبي ، جاء أبوها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن ابنتي لا يُسبى مثلها ؛ فأنا أكرم من ذاك ، فخل سبيلها ، فقال : ( أرأيت إن خيّرناها ، أليس قد أحسنّا ؟) ، قال : بلى ، وأدّيت ما عليك . ، فأتاها أبوها فقال : إن هذا الرجل قد خيّرك فلا تفضحينا ، فقالت : فإني قد اخترت رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وغيَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمها ، فعن ابن عباس قال : ( كان اسم جويرية بنت الحارث برة ، فحوّل النبي صلى الله عليه وسلم اسمها ، فسماها جويرية ) رواه الإمام أحمد في مسنده .
وكانت رضي الله عنها ذات صبرٍ وعبادة ، كثيرة الذكر لله عزوجل ، ولعلّنا نستطيع أن نلمس ذلك من خلال الحديث الذي رواه ابن عباس رضي الله عنه ( أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ على جويرية بنت الحارث وهي في مسجد ، ثم مر النبي صلى الله عليه وسلم بها قريباً من نصف النهار ، فقال لها : ما زلتِ على حالكِ ، فقالت: نعم ، قال ألا أعلمكِ كلماتٍ تقولينها : سبحان الله عدد خلقه ، سبحان الله عدد خلقه ، سبحان الله عدد خلقه ، سبحان الله رضا نفسه ، سبحان الله رضا نفسه ، سبحان الله رضا نفسه ، سبحان الله زنة عرشه ، سبحان الله زنة عرشه ، سبحان الله زنة عرشه ، سبحان الله مداد كلماته ، سبحان الله مداد كلماته ، سبحان الله مداد كلماته ) رواه الترمذي ، وصحّحه الألباني .
ولم تذكر لنا كتب الحديث إلا القليل من مرويّاتها ، ومن جملة ذلك ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن جويرية بنت الحرث رضي الله عنها قالت : ( دخل عليّ النبي صلى الله عليه وسلم يوم جمعة وأنا صائمة فقال لي : أصمت أمس ؟ ، قلت : لا ، قال : تريدين أن تصومي غدا ؟ ، قلت : لا ، قال فأفطري ) .
توفيت أم المؤمنين جُويرية في المدينة سنة خمسين، وقيل سنة سبع وخمسين للهجرة وعمرها 65سنة . فرضي الله عنها ، وعن أمهات المؤمنين أجمعين.
ام حبيبة رملة بنت ابي سفيان رضي الله عنها
هي أم المؤمنين ، رملة بنت أبي سفيان ، صخر بن حرب بن أمية القرشية ، أمّها صفية بنت أبي العاص بن أمية ، وأخواها معاوية كاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، و عتبة والي عمر بن الخطاب على الطائف .
وهي بنت عم الرسول صلى الله عليه وسلم ، وليس من أزواجه من هي أقرب نسباً إليه منها ، ولا في نسائه من هي أكثر صداقاً منها ، ولا من تزوج بها وهي نائية الديار أبعد منها.
ولدت قبل الإسلام ، وكانت تكنى أم حبيبة ، نسبة إلى ابنتها من زوجها الأول ، وهي من الثلّة المؤمنة التي أسلمت مبكراً في مكة.
تزوجت عبيد الله بن جحش الأسدي ، وعاشت معه تلك التجربة القاسية التي لاقاها المؤمنون في بدايات الدعوة المكيّة ، وما انطوت عليه من معاناة مريرة وأحداث مروعة ، ولم يكن ثمّة مخرجٍ من هذه الحال سوى هجرة الأوطان وترك الديار ، إلى أرضٍ تسمح لهم بحريّة العبادة ، ووقع الاختيار على أرض الحبشة ، وهكذا هاجرت أم حبيبة مع زوجها إلى الحبشة ليظفروا بالأمن والأمان ، ولم تدم سعادتها طويلاً ، فقد حدث لها ما لم يكن في الحسبان .
تقول أم حبيبة : " رأيت في النوم كأن عبيد الله بن جحش زوجي بأسوأ صورة وأشوهها ، ففزعت ، فقلت في نفسي: تغيّرت والله حاله ، فلما أصبح الصباح دعاني وقال لي : يا أم حبيبة ، إني نظرت في الدين قبل إسلامي ، فلم أرى ديناً خيراً من النصرانية ، وكنت قد دنت بها ، ثم أسلمتُ ودخلتُ في دين محمد ، ولكني الآن أرجع إلى النصرانية ، ففزعتُ من قوله وقلت : والله ما هو خيرٌ لك . وأخبرتُه بالرؤيا التي رأيتها فيه ، فلم يحفل بها ، وأكبّ على الخمر يعاقرها حتى مات .
فأصابني من ذلك همٌّ وغمٌّ عظيمين ، إلى أن رأيت فيما يرى النائم من يناديني قائلاً : يا أم المؤمنين ، فأوّلتها أن رسول الله يتزوجني ، فما هو إلا أن انقضت عدّتي ، حتى أتاني رسول النجاشي يستأذن الدخول عليّ ، فإذا هي جاريةٌ له يقال لها أبرهة ، كانت تقوم على ثيابه ودهنه ، فدخلتْ عليّ فقالت : إن الملك يقول لك : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إليّ أن أزوجك إيّاه ، ففرحت وقلت : بشّرك الله بخير ، فقالت لي : يقول لك الملك وكّلي من يزوّجك ، فأرسلت إلى خالد بن سعيد العاص فوكّلته ، وأعطيتُ الجارية ما عندي من حليٍّ وجواهر مكافأةً لها على ما بشّرتني به .
فلما كان العشي أمر النجاشي بحضور جعفر بن أبي طالب ومن معه من المسلمين ، فخطب النجاشي فقال : الحمد لله الملك القدوس السلام ، المؤمن المهيمن العزيز الجبار ، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ، وأنّه الذي بشر به عيسى بن مريم عليه السلام ، أما بعد : فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إليّ أن أزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان ، فأجبته إلى ما دعا إليه ، وقد أصدقتها أربعمائة دينار . ثم سكب الدنانير بين يدي القوم ، فتكلم خالد بن سعيد فقال : الحمد لله أحمده وأستعينه وأستنصره ، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ، أما بعد : فقد أجبتُ إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وزوّجته أم حبيبة ابنة أبي سفيان ، فبارك الله لرسوله . ثم قام ودفع إليّ الدنانير ، ثم أرادوا أن يقوموا ، فقال لهم النجاشي : اجلسوا ؛ فإنّ سنّة الأنبياء إذا تزوجوا أن يؤكل طعامٌ على الزواج ، فدعا بطعام فأكلوا ثم تفرقوا ".
وتواصل أم حبيبة سرد قصتها قائلةً : " فلما وصل إليّ المال أرسلتُ إلى الجارية التي بشّرتني ، فقلت لها : إني كنت أعطيتك ما أعطيتك يومئذٍ ولا مال بيدي ، فهذه خمسون مثقالا فخذيها واستغني بها ، لكنها ردّت إليّ كل ما أعطيتها ، وقالت : عزم عليّ الملك ألا آخذ منك شيئا ، وإني قد تبعت دين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلمت لله ، فحاجتي إليك أن تقرئي رسول الله مني السلام ، وتعلميه أني قد اتبعت دينه ، فلما قدمتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع شرحبيل بن حسنة أخبرته كيف كانت الخطبة ، وما فعلت بي الجارية ، فتبسّم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : ( وعليها السلام ورحمة الله ) .
لقد احتفلت المدينة بهذا الحدث العظيم سنة 7هـ ، وكان عمرها يومئذٍ 36سنة ، وأنزل الله تعالى في شأن هذا الزواج المبارك قوله : {عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة } ( الممتحنة : 7 ) ، يقول ابن عباس رضي الله عنهما : " ..فكانت المودة التي جعل الله بينهم تزويج النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان ، فصارت أم المؤمنين ، وصار معاوية خال المؤمنين " .
هذا وقد شهد لها القريب والبعيد بالذكاء والفطنة ، والفصاحة والبلاغة ، ، وكانت فوق ذلك من الصابرات المجاهدات ، ويظهر جهادها وصبرها من خلال هجرتها إلى الحبشة مع زوجها ، تاركة أهلها وقومها ، ثم صبرها على الإسلام عندما تنصّر زوجها ، مما أدى إلى انفصالها عنه ، فصارت وحيدة لا زوج لها ولا أهل ، وفي غربة عن الديار ، لكن الإسلام يصنع العجائب إذا لامس شغاف القلوب ، فثبتت في موطن لا يثبت فيه إلا القليل ، مما رفع قدرها ، وأعلى منزلتها في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأراد مواساتها بزواجه منها .
وكان لها مع والدها أبي سفيان وقفة براءٍ من الشرك وأهله ، فإنه لمّا قدم المدينة راغباً في تمديد الهدنة ، دخل على ابنته أم حبيبة ، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته دونه ، فاستنكر والدها ذلك وقال : " يا بنيّة ، أرغبتِ بهذا الفراش عنّي؟ ، أم أم رغبتِ بي عنه ؟ "، فأجابته إجابة المعتزّ بدينه المفتخر بإيمانه : "بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنت امرؤ نجسٌ مشرك " .
وأما إسهامها في باب الرواية ، فقد روت عدداً من الأحاديث النبوية ، منها ما جاء في "الصحيحين" : أنه لما جاء نعي أبي سفيان من الشام دعت أم حبيبة رضي الله عنها بصفرة في اليوم الثالث ، فمسحت عارضيها وذراعيها ، وقالت إني كنت عن هذا لغنية لولا أني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج ، فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرا ) .
ولما أحسّت بقرب رحيلها دعت عائشة رضي الله عنها وقالت لها : " قد كان بيننا ما يكون بين الضرائر ، فهل لك أن تحللينني من ذلك ؟ " ، فحلّلتها واستغفرت لها فقالت لها : " سررتِني سرّك الله " ، وأرسلت إلى أم سلمة رضي الله عنها بمثل ذلك ، ثم ماتت رضي الله عنها سنة أربع وأربعين للهجرة بالمدينة ، وقد بلغت من العمر اثنان وسبعون سنة ، فرضي الله عنها وأرضاها ، وجعل الجنة مأواها.
صفية بنت حيي بن اخطب
هي أم المؤمنين صفية بنت حيي بن أخطب بن سعنة ، أبوها سيد بني النضير ، من سبط لاوي بن نبي الله إسرائيل بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام ، ثم من ولد هارون بن عمران ، أخي موسى عليه السلام ، وأمها هي برة بنت سموءل من بني قريظة .
كانت مع أبيها وابن عمها بالمدينة ، فلما أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير ساروا إلى خيبر ، وقُتل أبوها مع من قُتل مِن بني قريظة.
تزوجها قبل إسلامها سلام بن مكشوح القرظي– وقيل سلام بن مشكم – فارس قومها ومن كبار شعرائهم ، ثم تزوّجها كنانة بن أبي الحقيق ، وقتل كنانة يوم خيبر ، وأُخذت هي مع الأسرى ، فاصطفاها رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه ، وخيّرها بين الإسلام والبقاء على دينها قائلاً لها : ( اختاري ، فإن اخترت الإسلام أمسكتك لنفسي – أي : تزوّجتك - ، وإن اخترت اليهودية فعسى أن أعتقك فتلحقي بقومك ) ، فقالت : " يا رسول الله ، لقد هويت الإسلام وصدقت بك قبل أن تدعوني ، حيث صرت إلى رحلك وما لي في اليهودية أرب ، وما لي فيها والد ولا أخ ، وخيرتني الكفر والإسلام ، فالله ورسوله أحب إليّ من العتق وأن أرجع إلى قومي " .
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتقها وتزوّجها ، وجعل عتقها صداقها ، وكانت ماشطتها أم سليم التي مشطتها ، وعطرتها ، وهيّأتها للقاء النبي صلى الله عليه وسلم .
وأصل هذه القصة ما ورد في الصحيح عن أنس قال : ( قدم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر ، فلما فتح الله عليه الحصن ذُكر له جمال صفية بنت حيي بن أخطب ، وقد قتل زوجها وكانت عروسا ، فأعتقها النبي صلى الله عليه وسلم وتزوجها ، حتى إذا كان بالطريق جهّزتها له أم سليم فأهدتها له من الليل ، فأصبح النبي صلى الله عليه وسلم عروساً فقال : من كان عنده شيء فليأتِ به ، فجعل الرجل يجيء بالتمر ، وآخر يجيء بالسمن ، وثالثٌ بالسويق ، فكانت تلك وليمة رسول الله صلى الله عليه وسلم على صفية ، ثم خرجنا إلى المدينة . قال: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحوِّي لها وراءه بعباءة ثم يجلس عند بعيره ، فيضع ركبته ، فتضع صفية رجلها على ركبته حتى تركب ) رواه البخاري .
ووجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بخدها لطمة فقال: ( ما هذه ؟ ) ، فقالت : إني رأيت كأن القمر أقبل من يثرب ، فسقط في حجري ، فقصصت المنام على ابن عمي ابن أبي حقيق فلطمني ، وقال : تتمنين أن يتزوجك ملك يثرب ، فهذه من لطمته.
وكان هدف رسول الله صلى الله عليه وسلم من زواجها إعزازها وإكرامها ورفع مكانتها ، إلى جانب تعويضها خيراً ممن فقدت من أهلها وقومها ، ويضاف إلى ذلك إيجاد رابطة المصاهرة بينه وبين اليهود لعله يخفّف عداءهم ، ويمهد لقبولهم دعوة الحق التي جاء بها .
وأدركت صفية رضي الله عنها ذلك الهدف العظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ووجدت الدلائل والقرائن عليه في بيت النبوة ، فأحست بالفرق العظيم بين الجاهلية اليهودية ونور الإسلام ، وذاقت حلاوة الإيمان ، وتأثّرت بخلق سيد الأنام ، حتى نافس حبّه حب أبيها وذويها والناس أجمعين ، ولما مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم تأثّرت رضي الله عنها لمرضه ، وتمنت أن لو كانت هي مكانه ، فقد أورد ابن حجر في الإصابة وابن سعد في الطبقات ، عن زيد بن أسلم رضي الله عنه قال: " اجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي توفى فيه، واجتمع إليه نساؤه، فقالت صفية بنت حيي : إني والله يا نبي الله لوددتُ أنّ الذي بك بي ، فتغامزت زوجات النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال صلى الله عليه وسلم : والله إنها لصادقة ".
كانت رضي الله عنها امرأة شريفة ، عاقلة ، ذات حسب أصيل ، وجمال ورثته من أسلافها ، وكان من شأن هذا الجمال أن يؤجّج مشاعر الغيرة في نفوس نساء النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد عبّرت زينب بنت جحش عن ذلك بقولها : " ما أرى هذه الجارية إلا ستغلبنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم " .
وفي ضوء ذلك، يمكن أن نفهم التنافس الذي حصل بين صفية رضي الله عنها وبين بقيّة أمهات المؤمنين ، ومحاولاتهن المتكرّرة للتفوّق عليها ، ولم يَفُتْ ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم ، فكان يسلّيها ويهدئ ما بها .
تقول صفيّة : رضي الله عنها " دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وقد بلغني عن عائشة و حفصة كلام ، فقلت له : بلغني أن عائشة و حفصة تقولان نحن خير من صفية ، نحن بنات عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه ، فقال : ( ألا قلت : وكيف تكونان خيراً مني ؟ وزوجي محمد وأبي هارون وعمّي موسى ) .
ومن مواقفها الدالة على حلمها وعقلها ، ما ذكرته كُتب السير من أن جارية لها أتت عمر بن الخطاب فقالت : إن صفية تحب السبت ، وتصل اليهود ، فبعث عمر يسألها ، فقالت : أما السبت فلم أحبه منذ أبدلني الله به الجمعة، وأما اليهود فإن لي فيهم رحماً فأنا أصلها، ثم قالت للجارية: ماحملكِ على ما صنعت ؟ قالت : الشيطان قالت : اذهبي فأنت حرة .
ولم تكن – رضي الله عنها - تدّخر جهداً في النصح وهداية الناس ، ووعظهم وتذكيرهم بالله عز وجل ، ومن ذلك أن نفراً اجتمعوا في حجرتها ، يذكرون الله تعالى ويتلون القرآن ، حتى تُليت آية كريمة فيها موضع سجدة ، فسجدوا ، فنادتهم من وراء حجاب قائلة : " هذا السجود وتلاوة القرآن ، فأين البكاء ؟ " .
ولقد عايشت رضي الله عنها عهد الخلفاء الراشدين ، حتى أدركت زمن معاوية رضي الله عنه ، ثم كان موعدها مع الرفيق الأعلى سنة خمسين للهجرة ، لتختم حياة قضتها في رحاب العبادة ، ورياض التألّه ، دون أن تنسى معاني الأخوة والمحبة التي انعقدت بينها وبين رفيقاتها على الدرب ، موصيةً بألف دينار لعائشة بنت الصدّيق ، وقد دفنت بالبقيع ، فرضي الله عنها وعن سائر أمهات المؤمنين.
سودة بنت زمعة رضي الله عنها
هي سودة بنت زمعة بن قيس القرشية العامرية ، ثاني زوجات النبي صلى الله عليه وسلم ، كريمة النسب ، فأمها هي الشموس بنت قيس بن زيد الأنصارية ، من بني عدي بن النجار ، وأخوها هو مالك بن زمعة .
كانت رضي الله عنها سيدة ً جليلة نبيلة ، تزوجت بدايةً من السكران بن عمرو ، أخي سهيل بن عمرو العامري ، وهاجرت مع زوجها إلى الحبشة فراراً بدينها ، ولها منه خمسة أولاد .
ولم يلبث أن شعر المهاجرون هناك بضرورة العودة إلى مكة ، فعادت هي وزوجها معهم ، وبينما هي كذلك إذ رأت في المنام أن قمراً انقض عليها من السماء وهي مضطجعة ، فأخبرت زوجها السكران فقال : والله لئن صدقت رؤياك لم ألبث إلا يسيراً حتى أموت وتتزوجين من بعدي ، فاشتكى السكران من يومه ذلك وثقل عليه المرض ، حتى أدركته المنيّة .
وبعد وفاة زوجها جاءت خولة بنت حكيم بن الأوقص السلمية امرأة عثمان بن مظعون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : يا رسول الله ، كأني أراك قد دخلتك خلة – أي الحزن - لفقد خديجة ؟ ، فقال : ( أجل ، كانت أم العيال ، وربة البيت ) ، قالت : أفلا أخطب عليك ؟ ، قال : ( بلى ؛ فإنكن معشر النساء أرفق بذلك ) ، فلما حلّت سودة من عدّتها أرسل إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطبها ، فقالت : أمري إليك يا رسول الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( مري رجلاً من قومك يزوّجك ) ، فأمرت حاطب بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود فزوّجها ، وذلك في رمضان سنة عشر من البعثة النبوية ، وقيل في شوّال كما قرّره الإمام ابن كثير في البداية والنهاية .
وهي أول امرأة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد خديجة ، ولم يتزوج معها صلى الله عليه وسلم نحواً من ثلاث سنين أو أكثر ، حتى دخل بعائشة رضي الله عنها.
وحينما نطالع سيرتها العطرة ، نراها سيدةً جمعت من الشمائل أكرمها ، ومن الخصال أنبلها ، وقد ضمّت إلى ذلك لطافةً في المعشر ، ودعابةً في الروح ؛ مما جعلها تنجح في إذكاء السعادة والبهجة في قلب النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن قبيل ذلك ما أورده ابن سعد في الطبقات أنها صلّت خلف النبي صلى الله عليه وسلم ذات مرّة في تهجّده ، فثقلت عليها الصلاة ، فلما أصبحت قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : " صليت خلفك البارحة ، فركعتَ بي حتى أمسكت بأنفي ؛ مخافة أن يقطر الدم ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانت تضحكه الأحيان بالشيىء " .
وبمثل هذا الشعور كان زوجات النبي صلى الله عليه وسلم يعاملنها ، ويتحيّنّ الفرصة للمزاح معها ومداعبتها ، حتى إن حفصة و عائشة أرادتا أن توهمانها أن الدجال قد خرج ، فأصابها الذعر من ذلك ، وسارعت للاختباء في بيتٍ كانوا يوقدون فيه ، وضحكت حفصة و عائشة من تصرّفها ، ولما جاء رسول الله ورآهما تضحكان قال لهما : ( ما شأنكما ) ، فأخبرتاه بما كان من أمر سودة ، فذهب إليها ، وما إن رأته حتى هتفت : يا رسول الله ، أخرج الدجال ؟ فقال : ( لا ، وكأنْ قد خرج ) ، فاطمأنّت وخرجت من البيت ، وجعلت تنفض عنها بيض العنكبوت .
ومن مزاياها أنها كانت معطاءة تكثر من الصدقة ، حتى إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعث إليها بغِرارة – وعاء تُوضع فيه الأطعمة - من دراهم ، فقالت : ما هذه ؟ ، قالوا : دراهم ، قالت : في غرارة مثل التمر ؟ ففرقتها بين المساكين .
وهي التي وهبت يومها ل عائشة ، رعايةً لقلب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ففي صحيح البخاري : ( أن سودة بنت زمعة وهبت يومها وليلتها ل عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، تبتغي بذلك رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم ) .
وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : ( ما رأيت امرأة أحب إلي أن أكون في مسلاخها -أي جلدها- من سودة بنت زمعة من امرأة فيها حدة) ، -ومعناه تَمنَّت أن تكونَ في مثل هدْيها وطريقتها ، ولم ترد عائشة عيب سودة بذلك بل وصفتها بقوة النفس وجودة القريحة وهي الحدة -قالت : ( فلما كبرت جعلت يومها من رسول الله صلى الله عليه وسلم لي) ، قالت يا رسول الله: ( قد جعلت يومي منك لعائشة ) . فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم ل عائشة يومين يومها ويوم سودة .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " خشِيت سودة أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يارسول الله، لا تطلقني وأمسكني واجعل يومي لعائشة ، ففعل "، ونزلت هذه الآية: { وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير } (النساء:128) . قال ابن عباس : فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز . رواه البيهقي في "سننه" .
ولما حجّت نساء النبي صلى الله عليه وسلم في عهد عمر لم تحجّ معهم ، وقالت : قد حججت واعتمرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنا أقعد في بيتي كما أمرني الله ، وظلّت كذلك حتى توفيت في شوال سنة أربع وخمسين بالمدينة ، في خلافة معاوية بن أبي سفيان بعد أن أوصت ببيتها لعائشة ، أسكنهنّ الله فسيح جنّاته .
ميمونة بنت الحارث الهلالية رضي الله عنها
هي أم المؤمنين ، ميمونة بنت الحارث بن حَزْن الهلالية ، آخر امرأة تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أختها لبابة الكبرى زوجة العباس بن عبد المطلب ، و لبابة الصغرى زوجة الوليد بن المغيرة ، فهي إذاً خالة عبدالله بن عباس ، وخالد بن الوليد رضي الله عنهم .
وأخوات ميمونة لأمها أسماء بنت عميس امرأة جعفر بن أبي طالب ، و سلمى بنت عميس الخثعمية زوجة حمزة بن عبد المطلب ، و سلامة بنت عميس زوجة عبد الله بن كعب بن منبّه الخثعمي ، ولذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( أخوات مؤمنات : ميمونة بنت الحارث ، وأم الفضل بنت الحارث ، وسلمى امرأة حمزة ، وأسماء بنت عميس ) رواه النسائي في سننه الكبرى .
تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد فراغه من عمرة القضاء في ذي القعدة من السنة السابعة للهجرة ، وذلك عندما قدم عليه جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه من أرض الحبشة فخطبها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأجابته ، وقامت بتوكيل العباس بن عبد المطلب في أمر زواجها ، فزوّجها للنبي - صلى الله عليه وسلم - .
وهنا تُثار قضية بين علماء التراجم والسير ، وهي خلافهم في الحال التي تزوّج فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - بميمونة وهل كان زواجه بها حال إحلاله أم حال إحرامه ، فابن عباس رضي الله عنه كان يرى أنه تزوّجها وهو محرم ، بينما تروي لنا ميمونة نفسها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوجها وهي حلال - كما روى ذلك الإمام مسلم - ، وقد رجّح العلماء روايتها لعدّة اعتبارات ليس هذا موطن بسطها .
وبعد أن أنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عمرته أراد أن يعمل وليمة عرسه في مكّة ، وإنما أراد تأليف قريشٍ بذلك ، فأبوا عليه ، وبعثوا إليه حويطب بن عبد العزى بعد مضي أربعة أيام يقول له : " إنه قد انقضى أجلك فاخرج عنا " ، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا رافع فنادى بالرحيل ، فخرج إلى "سرف"، - وهو موضع قرب التنعيم يبعد عن مكة عشرة أميال – وبنى بها ، وكان عمرها عندئذٍ 26سنة ، وعمره - صلى الله عليه وسلم - 59سنة ، وقد أولم عليها بأكثر من شاة ، وأصدقها أربعمائة درهم ، وقيل بخمسمائة درهم .
وكان اسمها في السابق بَرَّة ، فغيّره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ميمونة ، شأنها في ذلك شأن أم المؤمنين جويرية رضي الله عنها ، والتي كان اسمها " برّة " ، فغيّره عليه الصلاة والسلام إلى جويرية .
وكانت رضي الله عنها من سادات النساء ، مثلاً عالياً للصلاح ورسوخ الإيمان ، تشهد أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها على ذلك بقولها : ".. أما أنها كانت من أتقانا لله وأوصلنا للرحم " ، وقد روت عدداً من الأحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، كان منها صفة غسله عليه الصلاة والسلام .
وكان ابن عباس رضي الله عنهما يبيت عندها أحياناً في بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فيكسب علماً، وأدباً ، وخلقاً ، ويبثّه بين المسلمين ، من ذلك قوله رضي الله عنهما: ( بتُّ ليلةً عند ميمونة بنت الحارث خالتي ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندها في ليلتها ، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل ، فقمت عن يساره ، فأخذ بشعري ، فجعلني عن يمينه ، فكنت إذا أغفيت يأخذ بشحمة أذني ، فصلى إحدى عشرة ركعة ، ثم احتبي حتى إني لأسمع نفَسه راقداً ، فلما تبين له الفجر صلى ركعتين خفيفتين ) رواه البخاري ومسلم .
ثم قدّر الله أن تكون وفاتها في الموضع الذي بنى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند زواجه منها ، وذلك سنة 51 للهجرة ، وكان عمرها إذ ذاك ثمانين سنة ، وصلّى عليها ابن عباس رضي الله عنهما ، ودخل قبرها هو ويزيد بن الأصم وعبد الله بن شداد بن الهادي - وهم بنو أخواتها - ، وعبيد الله الخولاني - وكان يتيماً في حجرها - ، فرضي الله عنهم أجمعين.
الشبكة الاسلامية
Powered by vBulletin® Version 4.2.0 Copyright © 2024 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved, TranZ by Almuhajir