المهاجرة الى الله
2010-12-27, 03:30 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
ثماني قواعد ضرورية لطالب العلم
الحرص على التدرج في سلم التعلم الذي اصطلح عليه العلماء:
وهذه القاعدة من أهم القواعد في مجال التفقه في دين الله - عز وجل - وفي مجال طلب العلم الشرعي؛ لأنها تمس ظاهرة معاصرة صرنا نلمسها جميعًا في ساحة التعلم، وهي أننا ـ إلا من رحم الله ـ نريد أن ننال العلم قفزًا، ومن قفز من فوق الجدران فزلت به قدمه وسقط على أم رأسه فلا يلومن إلا نفسه؛ لأنه بدلاً من أن يأتي البيوت من أبوابها أراد أن يقفز من فوق الجدران.
فاعلم أخي المسلم أنك إذا حاولت أن تستغني عن سلم التعلم وعن التدرج فيه فإنك لا تصل إلى الفقه، ولا تفقه أبدًا، ولكن قد تصل إلى شذوذات وتخبطات وشطحات.. قد تنتصر لها ويئول أمرك إلى الغرور والعياذ بالله..
ماذا نقصد بسلم التعلم؟!
هناك من توهم أنه يمكنه أن ينال العلم بلا تعب ولا نصب، فيستغني عن مصنفات الأقدمين أو يستغني بقليل الكتب عن باقيها، كمن يستغني بكتب الألباني - رحمه الله - عن غيرها من كتب أهل العلم القدماء وأقوالهم، أو يكتفي بجمع كتب الفتاوى لابن باز وغيره من العلماء - رحمهم الله - عن تلقي العلم ودراسته من الكتب خاصة كتب الأقدمين، وسمعنا أيضًا أن هناك من يكتفي بتقريب التهذيب، ونيل الأوطار، فدخل رأسًا في هذين الكتابين واكتفى بهما ظنًّا منه أن علم الرواية أو علم الرجال الذي يمثله (تقريب التهذيب)، وأن علم أدلة الأحكام الذي يمثله (المنتقى) وشرحه (نيل الأوطار) يغنيان عن باقي السلم كله.
وسمعنا أيضًا بمن يقتني ويقرأ فتح الباري شرح صحيح البخاري، وسير أعلام النبلاء للذهبي وهو في خمسة وعشرين مجلدًا في تراجم العلماء وغيرهم، ولم يتم بعد شيئًا من سلم التعلم، بل ربما لم يتم الكتب الأولية للعلوم الشرعية، ولا حتى كتابًا متكاملاً في العقيدة وآخر في الفقه، ثم إذا به يقتني ويقرأ هذه الموسوعات الكبرى من موسوعات العلم، التي لا يصل إليها الإنسان إلا بعد أن يقطع سلم التعلم، فأين المنهجية في شراء الكتب وقراءتها؟!
إن المتفقه في سلم التعلم عليه أن يحرص على التأسيس العلمي الصحيح المتقن، وعليه أن يبدأ بتلقي الأوليات في كل علم ثم يتدرج ويترقى.
وبما أننا قررنا في القاعدة الثانية أن أول العلوم التي يجب على كل مسلم أن يتعلمها: التوحيد والفقه، فعليك إذن أن تبدأ بهما، وبما أننا في القاعدة الثالثة قررنا أن نتعلم العقيدة أو التوحيد على منهج السلف الذين هم الصحابة ومن سار على منهجهم من الأئمة والعلماء، فعليك إذن في التوحيد أن تتفقه بمثل هذه الكتب: [كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - ورسائله التي أسس فيها الضروري من مسائل الإيمان والتوحيد مثل (الأصول الثلاثة)، و(مسائل الجاهلية)، ثم تنتقل إلى بعض كتب شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - مثل (الواسطية)، و(الحموية)، و(التدمرية).
فإذا تلقنت هذه الكتب وفهمتها تنتقل منها إلى (العقيدة الطحاوية) وشرحها لابن أبي العز الحنفي.
فإذا فهمت العقيدة الطحاوية بشرحها هذا ودرستهما جيدًا، وأردت أن تتوسع في فقه الإيمان فلتدرس أبواب (الإيمان)، و(التوحيد) و(الاعتصام بالسنة) من صحيح البخاري وصحيح مسلم وسنن أبي داود والترمذي وابن ماجه والدارمي، ونحو ذلك من أمهات السنة.
فهذا سلّم للتعلم في أول علم يجب عليك تعلمه وهو التوحيد، ويمكن إضافة كتابين مبسطين في البداية هما (تطهير الجنان لابن حجر آل بوطامي) و(الإيمان لمحمد نعيم ياسين) كمزيد من التدرج والحرص عليه، وكتاب معارج القبول وهو مقارب في مادته للعقيدة الطحاوية مع أسلوب أسهل.. فيمكن إضافته قبلها.
أما فقه الشريعة: فبعد أن ذكرنا أن أقوم طريقة وأسرع وسيلة تصل بها إلى فقه الأحكام الشرعية أن تبدأ باختيار مذهب للدراسة كوسيلة للتفقه، فسلم التعلم حينئذٍ في الفقه يبدأ بأن تختار متنًا من متون المذاهب الواضحة الميسرة التي تسلم من التعقيدات اللفظية.
ففي المذهب الحنبلي يمكنك اختيار عمدة الفقه لابن قدامة المقدسي وشرحه العدة، أو منار السبيل لابن ضويان، وهو شرح على متن الدليل للشيخ يوسف بن مرعي، أو زاد المستقنع لموسى بن أحمد وهو اختصار للمقنع.
فكل كتاب من هذه الكتب الثلاثة يمثل المرحلة الأولى للدراسة على أساس اتخاذ مذهب الإمام أحمد - رحمه الله - وسيلة للتفقه، فإذا فهمت متنًا من هذه المتون الثلاثة تكون قد أخذت الضروري من الأحكام والمسائل، خاصة الأحكام العملية التي تتعلق بالعبادات والبيوع والنكاح ونحو ذلك، فيمكنك أن تنتقل حينئذٍ إلى (الكافي) أو (المقنع)، ثم إذا انتهيت من ذلك كله وصلت في المرحلة الثالثة إلى (المغني)، وكل هذه الكتب الثلاثة لابن قدامة - رحمه الله -.
أما من اتخذ الفقه المالكي وسيلة للتفقه فله أن يبدأ بالرسالة لابن أبي زيد القيرواني.
وأما في الفقه الشافعي فعليك بالمنهج للنووي أو المهذب للشيرازي، والمهذب هو المتن الذي شرحه النووي - رحمه الله - ـ ومن تبعه ـ بكتابه الكبير المجموع الذي يعد من موسوعات الفقه المقارن.
وأما في الفقه الحنفي فبإمكانك أن تبدأ بالهداية لبرهان الدين الحنفي، وهو من أنفس متون الفقه الحنفي وأجلها وأغزرها بالفقه والأدلة، وعليه شروح كثيرة من أنفعها شرح (فتح القدير) للكمال بن الهمام، وشرح (البناية) للبدر العيني.
فعليك إذن كخطوة أولى على طريق إتقان علم الفقه أو التخصص فيه أن تبدأ بهذه المتون الفقهية فتقرؤها وتدرسها وتحفظها إن أمكن؛ لأنها لخصت لك المسائل والأحكام الشرعية، وأحسن هذه المتون الذي يذكر لك الدليل مع الحكم الشرعي ولو في بعض الأحيان، هو (عمدة الفقه) لابن قدامة الحنبلي، وهو المشروح في العدة.
فهذه المتون تعطيك ملخصًا جامعًا للأحكام الشرعية، وتطعم هذه الأحكام بالأدلة بشكل لا يحيرك ولا يعقد عليك التلقي، بأسلوب خفيف ميسر يليق بمبتدئ.
وبتلقي الفقه بواسطة متون هذه المذاهب الفقهية، تكسب شيئًا آخر، تكسب اللغة الفقهية؛ لأن هذه المتون صيغت بلغة علمية فقهية راقية، فلغتك العلمية نفسها تتحسن أكثر وتتطور، وتصبح متفقهًا يحسب لكل كلمة حسابها، لا يتكلم بحشو ولا تكرار، ولا يجعجع بما لا طائل من ورائه؛ لأن من عادة الفقهاء في المتون الفقهية أن كل كلمة يضعونها تدل على مسألة أو حكم في الغالب.
أما فقه السنة فميزته أنه يمثل حدًّا مناسبًا شاملاً بأسلوب ميسر، فهو كافٍ لمن لم يغرم على مواصلة السلم الفقهي.
فهذا فيما يتعلق بكتب علوم الغايات التي تتمثل في التوحيد والفقه، ولا شك أن كتاب الله - عز وجل - من وراء ذلك كله ومهيمن عليه.
أما ما يمكن إلحاقه بعلوم الغايات ـ أعني التفسير والحديث والسيرة باعتبارها تصحح الإيمان والعمل ـ فيمكن في التفسير البدء بتفسير الجلالين، ثم البيضاوي، ثم ابن كثير، لكن ينبغي للمبتدئ الذي يقرأ في التفسير أن يكون بصيرًا بعقيدته ودارسًا لها، وأن يكون مرتبطًا بمعلمه أو شيخه كما هو الأصل في تلقي مختلف العلوم الشرعية؛ وذلك لأن في تفسير الجلالين والبيضاوي بعض الأشعريات التي تحتاج إلى تنبيه، ولكنهما غزيران بالفائدة لما فيهما من عناية بمعاني الألفاظ واللغة وأسباب النزول وغيرها من أغراض التفسير، وفي تفسير ابن كثير بعض الإسرائيليات والروايات الحديثية التي تحتاج إلى طالب علم متبصر ولكنه مع ذلك من أجلّ التفاسير قدرًا.
أما في الحديث فيمكن البدء بالأربعين النووية أو الخمسين باعتبار ما زاده ابن رجب، مع شرحها، ورياض الصالحين للنووي، ومتون أدلة الأحكام مثل بلوغ المرام للحافظ ابن حجر أو عمدة الأحكام للحافظ عبد الغني المقدسي - رحمهما الله -.
أما في السيرة فيمكنك البدء بتهذيب سيرة ابن هشام، فهي تعطيك سيرته - صلى الله عليه وسلم - بصورة متكاملة تعتمد على أسلوب السرد، مع كونها مختصرة، وهي بهذا الأسلوب تمنحك ملكة طيبة في رواية السيرة وأحداثها بأسلوب عربي أصيل شيق.
أما ما يتعلق بكتب الأخلاق والرقائق فالكلام عن السلم فيها ليس من الأهمية بمكان، فالغالب فيها كلها السهولة، وهي متقاربة ولا يترتب عليها مسائل علمية، وما يتعلق بها منها بالفقه أو العقيدة فقد سبق الإشارة إلى السلم في ذلك، لكن نشير إلى كتب مهمة في ذلك كالكبائر والجواب الكافي ومختصر منهاج القاصدين.
أما في علوم الوسائل:
فالتجويد العمدة فيه على التلقي مباشرة من فم المقرئ، فهذه هي الوسيلة الرئيسة لتجويد القرآن، لكن يستحسن علماء هذا الفن بالإضافة إلى ذلك أن تتعلم التجويد من خلال كتاب مختصر يلخص لك أبواب التجويد المتعلقة بتصحيح النطق، مثل كتاب التجويد الميسر، فهو يناسب المبتدئين ومن يهمهم تصحيح نطقهم بالقرآن دون توسع في مسائل هذا الفن ودون ما لا صلة له بالنطق وهو مسجل في أشرطة إمعانًا في تيسير التلقي.
ثم من أراد التوسع في مسائل هذا العلم فيمكنه دراسة كتاب قواعد التجويد، ثم شرح المقدمة الجزرية وقصيدتي الخاقاني والسخاوي في مخارج الحروف وصفاتها؛ إذ إن أحسن ما تحفظ بواسطته أحكام هذا العلم ومسائله المنظومات، وأحسن المنظومات في هذا العلم المقدمة الجزرية.
والكتب السابقة كلها للشيخ عبد العزيز القارئ، وهي نموذج للتسلسل في هذا العلم، وكتب التجويد على اختلاف مستوياتها كثيرة متعددة غير ما ذكرنا.
ويستحسن للصغار أن يكون أكثر اهتمام موجهيهم بالتلقين، فإن الطفل يتعلم مباشرة من فم المقرئ وبسهولة ويسر، وإن أمكن أن يحفظوا متن تحفة الأطفال والغلمان في تجويد القرآن فلا بأس؛ فهي منظومة سهلة سلسلة مفيدة للكبار والصغار.
أما في النحو والصرف: فجرت عادة المتفقهين إلى اليوم أن يبدءوا بدراسة (الآجرومية)، وهي مشروحة في التحفة السنية، فإذا أتقنوها انتقلوا إلى (ملحة الإعراب) للزمخشري، فإذا أتقنوا هذه المنظومة انتقلوا إلى (ألفية ابن مالك)، فإذا كان هناك بقية من عمر وهمة وأراد المتفقه التبحر في هذا العلم بعد انتهائه من العلوم الضرورية يدرس (الكافية الشافية) لابن مالك ويحفظها.
وفي مصطلح الحديث: فيمكن البدء بالبيقونية ثم نخبة الفكر لابن حجر، فإذا أتقنوا النخبة انتقلوا إلى مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث أو إلى علوم الحديث للحافظ ابن كثير، ثم بعد ذلك من يريد التبحر في هذا العلم عنده من الكتب الموسعة والمنظومات شيء كثير مثل (ألفية الحافظ العراقي) و(ألفية السيوطي) ونحو ذلك من المطولات. ومن أحسن هذه المطولات تدريب الراوي شرح تقريب النواوي: التدريب للسيوطي، والتقريب للنووي، وتوضيح الأفكار للصنعاني.
أما في أصول الفقه: فعليك أن تبدأ بمتن من المتون المختصرة مثل روضة الناظر لابن قدامة، أو الورقات لإمام الحرمين الجويني، أو المنار للنسفي.
وإذا كنت قد عزمت على الدخول في سلم التفقه في الأحكام الشرعية وشرعت في اتخاذ دراسة المذهب الحنبلي وسيلة للتفقه فيناسبك أن تدرس روضة الناظر، وإذا عزمت على مواصلة السلم متخذًا من دراسة مذهب الشافعية أو المالكية وسيلة للتفقه فيناسبك الورقات، أما إن عزمت على التفقه متخذًا من دراسة مذهب الأحناف وسيلة للتفقه فيناسبك المنار.
وهناك علوم أخرى مثل الفرائض ـ أي المواريث ـ وهي من الفقه، وأحسن متن في ذلك يبتدئ به طالب العلم "الرحبية"، ثم ينتقل منها إلى ما تيسر له من كتب هذا العلم الموسعة.
ومن العلوم أيضًا البلاغة، وهي من علوم اللغة العربية، والمعوَّل فيها على التلخيص للقزويني وشروحه، وهو تلخيص لكتابه (المفتاح في المعاني والبيان).
وفي ختام الحديث حول هذه القاعدة نؤكد أن هذا التأسيس والتدرج في سلم التعلم ضروري لكل متفقه، فينبغي أن تحافظ عليه ولا تقفز على جدران العلم قفزًا، فلتأتِ البيوت من أبوابها، فإذا أحكمت هذا التأسيس العلمي، عندئذٍ تصل إلى علوم الاجتهاد، فإن كان عندك بقية من همة عالية وقريحة وقّادة فلتدرس علوم الاجتهاد مثل: علم التخريج، وعلم الإسناد والرواية وعلم الرجال وشروح الحديث الكبرى مثل فتح الباري شرح صحيح البخاري للحافظ ابن حجر، وشرح النووي على صحيح مسلم، وشرح العيني (عمدة القاري) ونحو ذلك من الموسوعات العلمية، ومثل موسوعات الفقه المقارنة بين المذاهب كالمجموع للنووي، ومثل كتب الخلاف وأدلة المذاهب ونحو ذلك من أمهات الفقه الكبرى.
فهذه الموسوعات وغيرها من الكتب المشابهة وعلوم الاجتهاد لا ينبغي العكوف عليها إلا بعد الانتهاء من الكتب الضرورية في مختلف العلوم التي سبق الإشارة إليها، فقد ذكرنا كتبًا ضرورية فيها وكتبًا لمن يريد التبحر، فلابد لطالب العلم من الانتهاء من الضروري منها قبل أن يقبل على دراسة الموسوعات الكبرى وعلوم الاجتهاد المشار إليها أخيرًا... فلابد من المحافظة على سلم السلف في التعلم، وإلا يخشى على المتفقه من عدم الفهم أو صعوبته أو من الشذوذ وشطط الفهم والولع بالغرائب، بل وربما الوقوع في الابتداع.
ونكتفي بهذا في هذه القاعدة.
http://manhjia.com/manhaj/6 (http://manhjia.com/manhaj/6)
ثماني قواعد ضرورية لطالب العلم
الحرص على التدرج في سلم التعلم الذي اصطلح عليه العلماء:
وهذه القاعدة من أهم القواعد في مجال التفقه في دين الله - عز وجل - وفي مجال طلب العلم الشرعي؛ لأنها تمس ظاهرة معاصرة صرنا نلمسها جميعًا في ساحة التعلم، وهي أننا ـ إلا من رحم الله ـ نريد أن ننال العلم قفزًا، ومن قفز من فوق الجدران فزلت به قدمه وسقط على أم رأسه فلا يلومن إلا نفسه؛ لأنه بدلاً من أن يأتي البيوت من أبوابها أراد أن يقفز من فوق الجدران.
فاعلم أخي المسلم أنك إذا حاولت أن تستغني عن سلم التعلم وعن التدرج فيه فإنك لا تصل إلى الفقه، ولا تفقه أبدًا، ولكن قد تصل إلى شذوذات وتخبطات وشطحات.. قد تنتصر لها ويئول أمرك إلى الغرور والعياذ بالله..
ماذا نقصد بسلم التعلم؟!
هناك من توهم أنه يمكنه أن ينال العلم بلا تعب ولا نصب، فيستغني عن مصنفات الأقدمين أو يستغني بقليل الكتب عن باقيها، كمن يستغني بكتب الألباني - رحمه الله - عن غيرها من كتب أهل العلم القدماء وأقوالهم، أو يكتفي بجمع كتب الفتاوى لابن باز وغيره من العلماء - رحمهم الله - عن تلقي العلم ودراسته من الكتب خاصة كتب الأقدمين، وسمعنا أيضًا أن هناك من يكتفي بتقريب التهذيب، ونيل الأوطار، فدخل رأسًا في هذين الكتابين واكتفى بهما ظنًّا منه أن علم الرواية أو علم الرجال الذي يمثله (تقريب التهذيب)، وأن علم أدلة الأحكام الذي يمثله (المنتقى) وشرحه (نيل الأوطار) يغنيان عن باقي السلم كله.
وسمعنا أيضًا بمن يقتني ويقرأ فتح الباري شرح صحيح البخاري، وسير أعلام النبلاء للذهبي وهو في خمسة وعشرين مجلدًا في تراجم العلماء وغيرهم، ولم يتم بعد شيئًا من سلم التعلم، بل ربما لم يتم الكتب الأولية للعلوم الشرعية، ولا حتى كتابًا متكاملاً في العقيدة وآخر في الفقه، ثم إذا به يقتني ويقرأ هذه الموسوعات الكبرى من موسوعات العلم، التي لا يصل إليها الإنسان إلا بعد أن يقطع سلم التعلم، فأين المنهجية في شراء الكتب وقراءتها؟!
إن المتفقه في سلم التعلم عليه أن يحرص على التأسيس العلمي الصحيح المتقن، وعليه أن يبدأ بتلقي الأوليات في كل علم ثم يتدرج ويترقى.
وبما أننا قررنا في القاعدة الثانية أن أول العلوم التي يجب على كل مسلم أن يتعلمها: التوحيد والفقه، فعليك إذن أن تبدأ بهما، وبما أننا في القاعدة الثالثة قررنا أن نتعلم العقيدة أو التوحيد على منهج السلف الذين هم الصحابة ومن سار على منهجهم من الأئمة والعلماء، فعليك إذن في التوحيد أن تتفقه بمثل هذه الكتب: [كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - ورسائله التي أسس فيها الضروري من مسائل الإيمان والتوحيد مثل (الأصول الثلاثة)، و(مسائل الجاهلية)، ثم تنتقل إلى بعض كتب شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - مثل (الواسطية)، و(الحموية)، و(التدمرية).
فإذا تلقنت هذه الكتب وفهمتها تنتقل منها إلى (العقيدة الطحاوية) وشرحها لابن أبي العز الحنفي.
فإذا فهمت العقيدة الطحاوية بشرحها هذا ودرستهما جيدًا، وأردت أن تتوسع في فقه الإيمان فلتدرس أبواب (الإيمان)، و(التوحيد) و(الاعتصام بالسنة) من صحيح البخاري وصحيح مسلم وسنن أبي داود والترمذي وابن ماجه والدارمي، ونحو ذلك من أمهات السنة.
فهذا سلّم للتعلم في أول علم يجب عليك تعلمه وهو التوحيد، ويمكن إضافة كتابين مبسطين في البداية هما (تطهير الجنان لابن حجر آل بوطامي) و(الإيمان لمحمد نعيم ياسين) كمزيد من التدرج والحرص عليه، وكتاب معارج القبول وهو مقارب في مادته للعقيدة الطحاوية مع أسلوب أسهل.. فيمكن إضافته قبلها.
أما فقه الشريعة: فبعد أن ذكرنا أن أقوم طريقة وأسرع وسيلة تصل بها إلى فقه الأحكام الشرعية أن تبدأ باختيار مذهب للدراسة كوسيلة للتفقه، فسلم التعلم حينئذٍ في الفقه يبدأ بأن تختار متنًا من متون المذاهب الواضحة الميسرة التي تسلم من التعقيدات اللفظية.
ففي المذهب الحنبلي يمكنك اختيار عمدة الفقه لابن قدامة المقدسي وشرحه العدة، أو منار السبيل لابن ضويان، وهو شرح على متن الدليل للشيخ يوسف بن مرعي، أو زاد المستقنع لموسى بن أحمد وهو اختصار للمقنع.
فكل كتاب من هذه الكتب الثلاثة يمثل المرحلة الأولى للدراسة على أساس اتخاذ مذهب الإمام أحمد - رحمه الله - وسيلة للتفقه، فإذا فهمت متنًا من هذه المتون الثلاثة تكون قد أخذت الضروري من الأحكام والمسائل، خاصة الأحكام العملية التي تتعلق بالعبادات والبيوع والنكاح ونحو ذلك، فيمكنك أن تنتقل حينئذٍ إلى (الكافي) أو (المقنع)، ثم إذا انتهيت من ذلك كله وصلت في المرحلة الثالثة إلى (المغني)، وكل هذه الكتب الثلاثة لابن قدامة - رحمه الله -.
أما من اتخذ الفقه المالكي وسيلة للتفقه فله أن يبدأ بالرسالة لابن أبي زيد القيرواني.
وأما في الفقه الشافعي فعليك بالمنهج للنووي أو المهذب للشيرازي، والمهذب هو المتن الذي شرحه النووي - رحمه الله - ـ ومن تبعه ـ بكتابه الكبير المجموع الذي يعد من موسوعات الفقه المقارن.
وأما في الفقه الحنفي فبإمكانك أن تبدأ بالهداية لبرهان الدين الحنفي، وهو من أنفس متون الفقه الحنفي وأجلها وأغزرها بالفقه والأدلة، وعليه شروح كثيرة من أنفعها شرح (فتح القدير) للكمال بن الهمام، وشرح (البناية) للبدر العيني.
فعليك إذن كخطوة أولى على طريق إتقان علم الفقه أو التخصص فيه أن تبدأ بهذه المتون الفقهية فتقرؤها وتدرسها وتحفظها إن أمكن؛ لأنها لخصت لك المسائل والأحكام الشرعية، وأحسن هذه المتون الذي يذكر لك الدليل مع الحكم الشرعي ولو في بعض الأحيان، هو (عمدة الفقه) لابن قدامة الحنبلي، وهو المشروح في العدة.
فهذه المتون تعطيك ملخصًا جامعًا للأحكام الشرعية، وتطعم هذه الأحكام بالأدلة بشكل لا يحيرك ولا يعقد عليك التلقي، بأسلوب خفيف ميسر يليق بمبتدئ.
وبتلقي الفقه بواسطة متون هذه المذاهب الفقهية، تكسب شيئًا آخر، تكسب اللغة الفقهية؛ لأن هذه المتون صيغت بلغة علمية فقهية راقية، فلغتك العلمية نفسها تتحسن أكثر وتتطور، وتصبح متفقهًا يحسب لكل كلمة حسابها، لا يتكلم بحشو ولا تكرار، ولا يجعجع بما لا طائل من ورائه؛ لأن من عادة الفقهاء في المتون الفقهية أن كل كلمة يضعونها تدل على مسألة أو حكم في الغالب.
أما فقه السنة فميزته أنه يمثل حدًّا مناسبًا شاملاً بأسلوب ميسر، فهو كافٍ لمن لم يغرم على مواصلة السلم الفقهي.
فهذا فيما يتعلق بكتب علوم الغايات التي تتمثل في التوحيد والفقه، ولا شك أن كتاب الله - عز وجل - من وراء ذلك كله ومهيمن عليه.
أما ما يمكن إلحاقه بعلوم الغايات ـ أعني التفسير والحديث والسيرة باعتبارها تصحح الإيمان والعمل ـ فيمكن في التفسير البدء بتفسير الجلالين، ثم البيضاوي، ثم ابن كثير، لكن ينبغي للمبتدئ الذي يقرأ في التفسير أن يكون بصيرًا بعقيدته ودارسًا لها، وأن يكون مرتبطًا بمعلمه أو شيخه كما هو الأصل في تلقي مختلف العلوم الشرعية؛ وذلك لأن في تفسير الجلالين والبيضاوي بعض الأشعريات التي تحتاج إلى تنبيه، ولكنهما غزيران بالفائدة لما فيهما من عناية بمعاني الألفاظ واللغة وأسباب النزول وغيرها من أغراض التفسير، وفي تفسير ابن كثير بعض الإسرائيليات والروايات الحديثية التي تحتاج إلى طالب علم متبصر ولكنه مع ذلك من أجلّ التفاسير قدرًا.
أما في الحديث فيمكن البدء بالأربعين النووية أو الخمسين باعتبار ما زاده ابن رجب، مع شرحها، ورياض الصالحين للنووي، ومتون أدلة الأحكام مثل بلوغ المرام للحافظ ابن حجر أو عمدة الأحكام للحافظ عبد الغني المقدسي - رحمهما الله -.
أما في السيرة فيمكنك البدء بتهذيب سيرة ابن هشام، فهي تعطيك سيرته - صلى الله عليه وسلم - بصورة متكاملة تعتمد على أسلوب السرد، مع كونها مختصرة، وهي بهذا الأسلوب تمنحك ملكة طيبة في رواية السيرة وأحداثها بأسلوب عربي أصيل شيق.
أما ما يتعلق بكتب الأخلاق والرقائق فالكلام عن السلم فيها ليس من الأهمية بمكان، فالغالب فيها كلها السهولة، وهي متقاربة ولا يترتب عليها مسائل علمية، وما يتعلق بها منها بالفقه أو العقيدة فقد سبق الإشارة إلى السلم في ذلك، لكن نشير إلى كتب مهمة في ذلك كالكبائر والجواب الكافي ومختصر منهاج القاصدين.
أما في علوم الوسائل:
فالتجويد العمدة فيه على التلقي مباشرة من فم المقرئ، فهذه هي الوسيلة الرئيسة لتجويد القرآن، لكن يستحسن علماء هذا الفن بالإضافة إلى ذلك أن تتعلم التجويد من خلال كتاب مختصر يلخص لك أبواب التجويد المتعلقة بتصحيح النطق، مثل كتاب التجويد الميسر، فهو يناسب المبتدئين ومن يهمهم تصحيح نطقهم بالقرآن دون توسع في مسائل هذا الفن ودون ما لا صلة له بالنطق وهو مسجل في أشرطة إمعانًا في تيسير التلقي.
ثم من أراد التوسع في مسائل هذا العلم فيمكنه دراسة كتاب قواعد التجويد، ثم شرح المقدمة الجزرية وقصيدتي الخاقاني والسخاوي في مخارج الحروف وصفاتها؛ إذ إن أحسن ما تحفظ بواسطته أحكام هذا العلم ومسائله المنظومات، وأحسن المنظومات في هذا العلم المقدمة الجزرية.
والكتب السابقة كلها للشيخ عبد العزيز القارئ، وهي نموذج للتسلسل في هذا العلم، وكتب التجويد على اختلاف مستوياتها كثيرة متعددة غير ما ذكرنا.
ويستحسن للصغار أن يكون أكثر اهتمام موجهيهم بالتلقين، فإن الطفل يتعلم مباشرة من فم المقرئ وبسهولة ويسر، وإن أمكن أن يحفظوا متن تحفة الأطفال والغلمان في تجويد القرآن فلا بأس؛ فهي منظومة سهلة سلسلة مفيدة للكبار والصغار.
أما في النحو والصرف: فجرت عادة المتفقهين إلى اليوم أن يبدءوا بدراسة (الآجرومية)، وهي مشروحة في التحفة السنية، فإذا أتقنوها انتقلوا إلى (ملحة الإعراب) للزمخشري، فإذا أتقنوا هذه المنظومة انتقلوا إلى (ألفية ابن مالك)، فإذا كان هناك بقية من عمر وهمة وأراد المتفقه التبحر في هذا العلم بعد انتهائه من العلوم الضرورية يدرس (الكافية الشافية) لابن مالك ويحفظها.
وفي مصطلح الحديث: فيمكن البدء بالبيقونية ثم نخبة الفكر لابن حجر، فإذا أتقنوا النخبة انتقلوا إلى مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث أو إلى علوم الحديث للحافظ ابن كثير، ثم بعد ذلك من يريد التبحر في هذا العلم عنده من الكتب الموسعة والمنظومات شيء كثير مثل (ألفية الحافظ العراقي) و(ألفية السيوطي) ونحو ذلك من المطولات. ومن أحسن هذه المطولات تدريب الراوي شرح تقريب النواوي: التدريب للسيوطي، والتقريب للنووي، وتوضيح الأفكار للصنعاني.
أما في أصول الفقه: فعليك أن تبدأ بمتن من المتون المختصرة مثل روضة الناظر لابن قدامة، أو الورقات لإمام الحرمين الجويني، أو المنار للنسفي.
وإذا كنت قد عزمت على الدخول في سلم التفقه في الأحكام الشرعية وشرعت في اتخاذ دراسة المذهب الحنبلي وسيلة للتفقه فيناسبك أن تدرس روضة الناظر، وإذا عزمت على مواصلة السلم متخذًا من دراسة مذهب الشافعية أو المالكية وسيلة للتفقه فيناسبك الورقات، أما إن عزمت على التفقه متخذًا من دراسة مذهب الأحناف وسيلة للتفقه فيناسبك المنار.
وهناك علوم أخرى مثل الفرائض ـ أي المواريث ـ وهي من الفقه، وأحسن متن في ذلك يبتدئ به طالب العلم "الرحبية"، ثم ينتقل منها إلى ما تيسر له من كتب هذا العلم الموسعة.
ومن العلوم أيضًا البلاغة، وهي من علوم اللغة العربية، والمعوَّل فيها على التلخيص للقزويني وشروحه، وهو تلخيص لكتابه (المفتاح في المعاني والبيان).
وفي ختام الحديث حول هذه القاعدة نؤكد أن هذا التأسيس والتدرج في سلم التعلم ضروري لكل متفقه، فينبغي أن تحافظ عليه ولا تقفز على جدران العلم قفزًا، فلتأتِ البيوت من أبوابها، فإذا أحكمت هذا التأسيس العلمي، عندئذٍ تصل إلى علوم الاجتهاد، فإن كان عندك بقية من همة عالية وقريحة وقّادة فلتدرس علوم الاجتهاد مثل: علم التخريج، وعلم الإسناد والرواية وعلم الرجال وشروح الحديث الكبرى مثل فتح الباري شرح صحيح البخاري للحافظ ابن حجر، وشرح النووي على صحيح مسلم، وشرح العيني (عمدة القاري) ونحو ذلك من الموسوعات العلمية، ومثل موسوعات الفقه المقارنة بين المذاهب كالمجموع للنووي، ومثل كتب الخلاف وأدلة المذاهب ونحو ذلك من أمهات الفقه الكبرى.
فهذه الموسوعات وغيرها من الكتب المشابهة وعلوم الاجتهاد لا ينبغي العكوف عليها إلا بعد الانتهاء من الكتب الضرورية في مختلف العلوم التي سبق الإشارة إليها، فقد ذكرنا كتبًا ضرورية فيها وكتبًا لمن يريد التبحر، فلابد لطالب العلم من الانتهاء من الضروري منها قبل أن يقبل على دراسة الموسوعات الكبرى وعلوم الاجتهاد المشار إليها أخيرًا... فلابد من المحافظة على سلم السلف في التعلم، وإلا يخشى على المتفقه من عدم الفهم أو صعوبته أو من الشذوذ وشطط الفهم والولع بالغرائب، بل وربما الوقوع في الابتداع.
ونكتفي بهذا في هذه القاعدة.
http://manhjia.com/manhaj/6 (http://manhjia.com/manhaj/6)