مشاهدة النسخة كاملة : كتاب قصة الحضارة
ابو الياسمين والفل
2011-01-07, 06:43 AM
كلنا او بعضنا قرأ او سمع بكتاب قصة الحضارة القيم ولمزيد من الفائدة سانقل منه اجزاء عن المسيحيه من وجهة نظر الكاتب وول ديورانت وبدون تدخل منى فى الموضوع باى شكل من الاشكال وهو كتاب شيق استغرق من الكاتب زمنا طويلا 1885-1981
ولان الموضوع طويل لذا ساضع كل يوم جزء حتى يكتمل الموضوع
الباب السادس والعشرون(عيسى أو يسوع)
4 ق.م- 30 م
الفصل الأول
المراجع
هل وجد المسيح حقاً؟ أو أن قصة حياة مؤسس المسيحية وثمرة أحزان البشرية، وخيالها، وآمالها- أسطورة من الأساطير شبيهة بخرافات كرشنا، وأوزريس، وأتيس، وأدنيس، وديونيشس، ومثراس؟ لقد كان بولنجبروك والملتفون حوله، وهم جماعة ارتاع لأفكارهم فلتير نفسه، يقولون في مجالسهم الخاصة إن المسيح قد لا يكون له وجود على الإطلاق، وجهر فلني Volney بهذا الشك نفسه في كتابه خرائب الإمبراطوريّة الذي نشره في عام 1991؛ ولما التقى نابليون في عام 1808 بفيلاند Wieland العالم الألماني لم يسأله القائد الفاتح سؤالاً تافهاً في السياسة أو الحرب، بل سأله هل يؤمن بتاريخية المسيح؟
ولقد كان من أعظم ميادين نشاط العقل الإنساني في العصر الحديث وأبعدها أثراً ميدان "النقد الأعلى" للكتاب المقدس- التهجّم الشديد على صحته وصدق روايته، تقابله جهود قوية لإثبات صحة الأسس التاريخية للدين المسيحي؛ وربما أدت هذه البحوث على مر الأيام إلى ثورة في التفكير لا تقل شأناً عن الثورة التي أحدثتها المسيحية نفسها. وقد دارت رحى أولى المعارك في هذه الحرب التي دامت مائتي عام كاملة في صمت وسكون، وكان الذي أدارها هو هرمان ريمارس Hermann Reimarus أستاذ اللغات الشرقية في جامعة همبرج، فقد ترك بعد وفاته في عام 1768 مخطوطاً عن حياة المسيح يشتمل على 1400 صفحة حرص على ألا ينشره في أثناء حياته. وبعد ستة سنين من ذلك الوقت نشر جتهولد لسنج Gotthold Lessing أجزاء من هذا المخطوط، رغم معارضة أصدقائه في هذا النشر، وسماه هتامات ولفنبتل Wolfenbuttel Fragments. ويقول ريمارس أن يسوع لا يمكن أن يُعد مؤسس المسيحية أو أن يفهم هذا الفهم، بل يجب أن يفهم على أنه الشخصية النهائية الرئيسية في جماعة المتصوفة اليهود القائلين بالبعث والحساب، ومعنى أن المسيح لم يُفكر في إيجاد دين جديد بل كان يفكر في تهيئة الناس في استقبال دمار العالم المرتقب، وليوم الحشر الذي يحاسب فيه الله الأرواح على ما قدمت من خير أو شر. وفي عام 1796 أشار هردر إلى ما بين مسيح متى، ومرقص، ولوقا، ومسيح إنجيل يوحنا من فوارق لا يمكن التوفيق بينهما، وفي عام 1828 لخص هنريخ بولص Heinrich Paulus حياة المسيح في 1192، صفحة، وعرض تفسيراً عقلياً للمعجزات: أي أنه آمن بوقوعهما، ولكنه عزاها إلى علل وقوى طبيعية. ثم جاء دافد استروس David Strauss (1835- 1836) في كتابه عن حياة المسيح- وهو كتاب عظيم الأثر في التاريخ- فرفض ما حاوله بولص من توفيق بين المعجزات والعلل الطبيعية، وقال إن ما في الأناجيل من خوارق الطبيعة يجب أن يُعد من الأساطير الخرافية، وإن حياة المسيح الحقيقية يجب أن تعاد كتابتها بعد أن تحذف منها هذه العناصر أياً كانت عناصرها. وقد أثارت مجلدات استروس الضخمة عاصفة قوية في التفكير الألماني دامت جيلاً من الزمان. وفي نفس العام الذي ظهر في كتاب استروس هاجم فردنادندكرستيان بور Ferdinand Christian Bour رسائل بولص وقال انها كلها مدسوسة عليه عدا رسائله إلى أهل غلاطية، وكورنثوس، (كورنثة) ورومية (روما). وفي عام 1840 بدأ برونو بور Bruno Bauer سلسلة من الكتب الجدلية الحماسية يبغي بها أن يثبت يسوع لا يعدو أن يكون أسطورة من الأساطير، أو تجسيداً لطقس من الطقوس نشأ في القرن الثاني من مزيج من الأديان اليهودية، واليونانية، والرومانية. وفي عام 1863 أخرج إيرنس رينان Ernest Renan حياة يسوع الذي روع ملايين الناس باعتماده فيه على العقل وسحر لب الملايين بنثره الجزل. وقد جمع رينان في هذا الكتاب نتائج النقد الألماني، وعرض مشكلة الأناجيل على العالم المثقف كله. وبلغت المدرسة الفلسفية صاحبة البحوث الدينية ذروتها في أواخر القرن التاسع عشر على يد الأب لوازي Loisy الذي حلل نصوص العهد الجديد تحليلاً بلغ من الصرامة حداً اضطرت معه الكنيسة الكاثوليكية إلى إصدار قرار يحرمانه هو وغيره من "المحدثين". وفي هذه الأثناء وصلت المدرسة الهولندية مدرسة بيرسن Pierson ونابر Naber، ومتثاس Matthas بالحركة إلى أبعد حدودها إذ أنكرت بعد بحوث مضنية حقيقية المسيح التاريخية. وفي ألمانيا عرض آرثر دروز Arthur Drews هذه النتيجة السالبة عرضاً واضحاً محدداً (1906)؛ وفي إنكلترا أدلى و.ب. اسمث W. B. Smith، و ج. م ربرتسن J. M. Robertson بحجج من هذا النوع أنكر فيها وجود المسيح. وهكذا بدا أن الجدل الذي دام مائتي عام سينتهي إلى إفناء شخصية المسيح إفناء تاماً. وبعد فما هي الأدلة التي تثبت وجود المسيح؟ إن أقدم إشارة غير مسيحية إليه هي التي وردت في كتاب قدم اليهود ليوسفوس (93؟م):
"وفي ذلك الوقت كان يعيش يسوع، وهو رجل من رجال الدين، إذا جاز أن نسميه رجلاً، لأنه كان يأتي بأعمال عجيبة، ويعلم الناس، ويتلقى الحقيقة وهو مغتبط. وقد إتبعه كثيرون من اليهود وكثيرون من اليونان. لقد كان هو المسيح"؟
قد تنطوي هذه السطور العجيبة على أصل صادق صحيح؛ ولكن هذا الثناء العظيم الذي يثنى به على المسيح يهودي يريد به الزلفى للرومان أو اليهود- وكانا كلاهما يناصبان المسيحية العداء في ذلك الوقت -، نقول إن هذا الثناء لما يبعث الريبة في هذه الفقرة، ولذلك يرفضها علماء المسيحية، ولا يكادون يشكون في أنها مدسوسة على يوسفوس(3). وفي التلمود إشارات إلى يسوع الناصري، ولكنها من عهد متأخر جداً يجعلها مجرد ترديد الأصداء والأفكار المسيحية(4). وأقدم ما لدينا من إشارات إلى المسيح في أدب الوثنيين ما ورد في خطاب كتبه بلني الأصغر (حوالي 110)(5)، يستشير فيه تراجان عما يعامل به المسيحيين وبعد خمس سنين من ذلك الوقت وصف تاستس(6) إضطهاد نيرون للكرستياني Christiani في رومة ويقول انهم في ذلك الوقت كان لهم أتباع في جميع أنحاء أوربا. وهذه الفقرة شبيهة بكتابات تاستس في أسلوبه، وقوته، وتحيزه شبها له يرتب معه أحد من الباحثين إلا درور وحده في صدورها من هذا الكتاب(7). ويذكر روتونيوس (حوالي 125) خبر هذا الاضطهاد نفسه(8)، كما يذكر نفي كلوديوس (حوالي 52) "اليهود الذين أثاروا اضطرابات عامة بتحريض المسيح (Impuisore Chresto)"(9). وتتفق هذه الفقرة اشد الاتفاق مع ما ورد في إصحاح أعمال الرسل من أن كلوديوس أصدر مرسوماً أوجب فيه على "اليهود أن يخرجوا من روما"(10). وهذه الإشارات كلها تثبت وجود المسيحيين لا المسيح نفسه؛ ولكننا إذا لم نسلم بوجود المسيح فلا مناص لنا من أن نأخذ بالفرض الضعيف جداً وهو أن شخصية يسوع قد اخترعت اختراعاً في جيل واحد؛ ولابد لنا من أن نفترض فوق ذلك أن الجالية المسيحية وجدت في روما قبل عام 52 ببضع سنين، وإلا لما كانت خليقة أن يصدر بشأنها مرسوم إمبراطوري. ويقول ثالس Thallus وهو كاتب وثني عاش في منتصف ذلك القرن الأول في هتامه من كتاب احتفظ لنا بها يويوس افركانس(11) إن الظلمة العجيبة التي يقال إنها حدثت وقت موت المسيح، كانت ظاهرة طبيعية محضة، ولم تكن أكثر من مصادفة عادية. أما وجود المسيح فهو عند هذا الكاتب قضية مسلم بها مفروغ من صحتها. وقصارى القول أن نكران ذلك الوجود لم يخطر على ما يظهر لأشد المخالفين لليهودية أو لليهود المعارضين للمسيحية الناشئة في ذلك الوقت.
أما الأدلة المسيحية على وجود المسيح فتبدأ إلى الرسائل المعزوة إلى القدّيس بولص. وبعض هذه الرسائل لا يعرف كاتبها معرفة أكيدة، ومنها عدة رسائل- تؤرخ بعام 64م ولكنها كتبت في الحقيقة بعد ذلك التاريخ- لا يكاد يختلف الباحثون في أنها في جوهرها من كتابات بولص. ولم يشك أحد قط من وجود بولص نفسه أو في لقائه الكثير لبطرس، ويعقوب، ويوحنا؛ ويعترف بولص بأن هؤلاء الرجال قد عرفوا المسيح في أثناء حياته ويحسدهم على هذه المعرفة(12). وكثيراً ما تشير الرسائل المعترف بنسبتها إليه إلى العشاء الأخير(13) وإلى حادث الصلب(14).
هذا ما كان من أمر المسيح نفسه، أما الأناجيل فليس أمرها بهذه السهولة. ذلك أن الأربعة أناجيل التي وصلت إلينا هي البقية الباقية من عدد أكبر منها كثيراً، كانت في وقت ما منتشرة بين المسيحيين في القرنين الأول والثاني. واللفظ الدال على الإنجيل "Gospel" (وهو في اللغة الإنكليزية القديمة Gopspel أي أخبار طيبة) ترجمة للفظ اليوناني Euangelion والذي يبدأ به إنجيل مرقس
ومعناه "أخبار سارة"- هي أن المسيح قد جاء، وأن ملكوت الله قريبة المنال. وأناجيل متى، ومرقس، ولوقا، يمكن الإحاطة بها بنظرة واحدة: ذلك بأن محتوياتها وحوادثها يمكن ترتيبها في أعمدة متوازية "والنظر إليها كلها مجتمعة"؛ وقد كتبت كلها باللغة اليونانية الدارجة، ولم تكن نماذج طيبة في النحو أو في الصقل الأدبي. بيد أن ما في أسلوبها السهل من قوة وإيصال المعاني عن أقرب طريق، وما في تشبيهاتها والصور التي ترسمها من وضوح، وما في الاحساسات التي تصورها من عمق، وما في القصص التي ترويها من روعة، كل هذا يكسبها حتى في صورتها الأصلية الفجة جمالاً فذاً، زاده قوة عند العالم الإنجليزي الترجمة العظيمة البعيدة كل البعد عن الدقة، والتي وضعت للملك جيمس.
وترجع أقدم النسخ التي لدينا من الأناجيل الأربعة إلى القرن الثالث. أما النسخ الأصلية فيبدو أنها كتبت بين عامي 60، 120م، ثم تعرضت بعد كتابتها مدى قرنين من الزمان الأخطاء في النقل، ولعلها تعرضت أيضاً لتحريف مقصود يراد به التوفيق بينها وبين الطائفة التي ينتمي إليها الناسخ أو أغراضها. والكتّاب الذين عاشوا قبل نهاية القرن الأول الميلادي لا ينقلون قط شيئاً عن العهد الجديد، بل كان ما ينقلونه مأخوذ من العهد القديم ولسنا نجد إشارة لإنجيل مسيحي قبل عام 150 إلا في كتاب ببياس Papias الذي كتب في عام 135 إذ يقول أن "يوحنا الأكبر"- وهو شخصية لم يستطع الاستدلال على صاحبها- قال إن مرقس ألّف إنجيله من ذكريات نقلها إليه بطرس(15). ويضيف ببياس إلى هذا قوله: "وأعاد متّى كتابة الكلمات بالعبرية"- ويبدو أن هذا الإنجيل مجموعة آرامية من أقوال المسيح. والراجح أن بولص كانت لديه وثيقة من هذا النوع، وذلك لأنه ينقل أحياناً كلمات يسوع بنصها%=@كشف جرنفل Grenfell وهنت Hunt في خرائب إحدى المُدن القديمة في مصر في عامي 1897، 1903 عن عشرين قطعة من الكلمات تتفق إلى حد ما في فقرات مماثلة لها في الأناجيل. ولا ترجع هذه البرديات إلى ما قبل القرن الثالث ولكنها قد تكون نسخاً من مخطوطات أقدم منها.@ وإن كان لا يذكر الأناجيل قط. ويتفق الناقدون الثقاة بوجه عام على أسبقية إنجيل مرقس في الزمن على سائر الأناجيل، وفي تحديد تاريخه بين عامي 65 و 70م. وإذ كان هذا الإنجيل يكرر المسألة الواحدة أحياناً في عدة صور(16) فإن الكثيرين من الباحثين يعتقدون أنه يعتمد على الكلمات السالفة الذكر وعلى قصة أخرى قديمة العهد قد تكون هي الصورة الأولى لإنجيل مرقس نفسه. ويبدو أن إنجيل مرقس كان منتشراً أثناء حياة بعض الرسل أو حياة الرعيل الأول من أتباعهم ومريديهم. ولهذا فإنه يبدو من غير المحتمل أنه كان يختلف اختلافاً جوهرياً عما كان لديهم من أقول وعن تفسير المسيح لهذه الأقوال(17). ومن حقنا إذن أن نحكم كما حكم شوتزر Schwetyer ذلك العالم النابه الحكيم بأن إنجيل مرقس في جوهره "تاريخ صحيح"(18).
وتقول الرواية المأخوذ بها إن إنجيل متى أقدم الأناجيل كلها، ويعتقد إيرنيوس Ireneaeus أنه كتب في الأصل باللغة "العبرية"- أي الآرامية، ولكنه لم يصل إلينا إلا باللغة اليونانية. وإذ كان يبدو لنا انه في هذه الصورة الأخيرة يردد أقوال إنجيل مرقس، وأنه ينقل في أكبر الظن من أقوال يسوع نفسها، فإن النقاد يميلون إلى القول بأنه من تأليف أحد أتباع متى، وليس من أقوال "العشار" نفسه. وحتى أكثر العلماء يرجعون به إلى تلك الفترة البعيدة المحصورة بين عامي 85-90م(30). وإذ كان الغرض الذي يبتغيه متّى هو هداية اليهود فإنه يعتمد أكثر من غيره من المبشرين على المعجزات التي تعزى إلى المسيح، ويحرص حرصاً يدعو إلى الريبة على أن يثبت أن كثيراً من نبوءات
العهد القديم تحققت على يدي المسيح. بيد أنه رغم هذا أشد الأناجيل الأربعة تأثيراً إلى النفس وإثارة إلى العاطفة. ولا يسعنا إلا أن نعده بين روائع الآداب العالمية، وإن لم يدرك ذلك كاتبه القديم.
والإنجيل حسب نص القدّيس لوقا، وهو النص الذي يعزى عادة إلى العقد الأخير من القرن الأول، يعلن أنه يرغب في تنسيق الروايات السابقة عن المسيح، والتوفيق بينها، وأنه يهدف إلى هداية كفرة لا اليهود. وأكبر الظن أن لوقا نفسه كان من غير اليهود، وأنه كان صديق بولص، ومؤلف سفر أعمال الرسل(21). وهو يقتبس كثيراً من كتابات مرقس كما يقتبس منها متّى(22)، فإنك لتجد في إنجيل متّى ستمائة آية من الستمائة والإحدى والستين التي يشتمل عليها النص المعتمد لإنجيل مرقس، ونجد منها ثلاثمائة وخمسين في إنجيل لوقا تكاد أن تكون هي بنصها(23). وفي إنجيل متّى كثير من الفقرات التي توجد في لوقا ولا توجد في إنجيل مرقس، وهنا أيضاً تكاد تكون هي بنصها، ويبدو أن لوقا أخذ هذه عن متّى أو أن لوقا ومتّى أخذاها عن أصل مشترك، لم نعثر عليه بعد. ويصقل لوقا هذه المقتبسات الصريحة بمهارة أدبية تحمل لينان على الظن بأن هذا الإنجيل أجمل ما ألف من الكتب.
ولا يدعى الإنجيل الرابع أنه ترجمة ليسوع، بل هو عرض للمسيح من وجهة النظر اللاهوتية بوصفه كلمة الله، وخالق العالم، ومنقذ البشرية وهو يناقض الأناجيل الأخرى في كثير من التفاصيل وفي الصورة العامة التي يرسمها للمسيح(25). وإن ما يصطبغ به الكتاب من نزعة قريبة من نزعة القائلين بأن الخلاص لا يكون بالإيمان بل بالمعرفة، وما فيه من تأكيد لآراء الميتافيزيقية، قد جعلا الكثيرين من الباحثين في الدين المسيحي يشكون في صدق القول بأن واضعه هو الرسول يوحنا(26). بيد أن التجارب توحي إلينا بأن لا نعجل في تكذيب الروايات القديمة؛ ذلك بأن أسلافنا لم
يكونوا كلهم بلهاء. وتنزع الدراسات الحديثة إلى تحديد تاريخ الإنجيل الرابع بأواخر القرن الأول. والراجح أن الروايات المأثورة كانت صادقة إذ تعزو إلى المؤلف نفسه "رسائل يوحنا"، ذلك بأنه تعرض الأفكار نفسها بالأسلوب نفسه.
وملاك القول أن ثمة تناقضاً كثيراً بين بعض الأناجيل والبعض الآخر، وأن فيها نقطاً تاريخية مشكوكاً في صحتها، وكثيراً من القصص الباعثة على الريبة والشبيهة بما يروى عن آلهة الوثنيين، وكثيراً من الحوادث التي يبدو أنها وضعت عن قصد لإثبات وقوع النبوءات الواردة في العهد القديم، وفقرات كثيرة ربما كان المقصود منها تقدير أساس تاريخي لعقيدة متأخرة من عقائد الكنيسة أو طقس من طقوسها. لقد كان المبشرون بالإنجيل يرون كما يرى شيشرون وسالست، وتاستس أن التاريخ وسيلة لنشر المبادئ الخلقية السامية، ويبدو أن ما تنقله الأناجيل من أحاديث وخطب قد تعرضت لما تتعرض له ذاكرة الأميين من ضعف وعيوب، ولما يرتكبه النساخ من أخطاء أو "تصحيح".
فإذا سلمنا بهذا كله بقي الشيء الكثير إن ما في الأناجيل من تناقض لا يتعدى التفاصيل الجزئية إلى الحقائق العامة، وإن الأناجيل الثلاثة الأولى لتتفق اتفاقاً عجيباً، وتعرض في مجموعها صورة منسقة للمسيح. ولقد دفعت حماسة الكشف كبار الناقدين إلى أن يقيسوا صحة أحوال العهد الجديد بمقاييس لو طبقت على مئات من العظماء الأقدمين أمثال حمورابي، وداود، سقراط- لزالوا كلهم من عالم الحقائق وهووا إلى عالم الخرافات . وإن المبشرين بالإنجيل، رغم ما يتصفون به من تحيز وميل مع الهوى ومن الأخذ بأفكار دينية سابقة، ليسجلون كثيراً من الحادثات التي يعمد المخترعون الملفقون إلى إخفائها- كتنافس الرسل على المنازل العليا في ملكوت الله، وفرارهم بعد القبض على
يسوع، وإنكار بطرس، وعجز المسيح عن إتيان المعجزات في الجليل، وإشارة بعض مَن سمعوه إلى ما عسى أن يكون مصاباً به من الجنون، وتشككه الأول في رسالته، واعترافه بأنه يجهل أمر المستقبل، وما كان يمر به من لحظات يمتلئ قلبه فيها حقداً على أعدائه، وصيحة اليأس التي رفع بها عقيرته وهو على الصليب؛ إن مَن يطلع على هذه المناظر لا يشك قط في أن وراءها شخصية تاريخية حقة. ولو أن عدداً قليلاً من الرجال السذج قد اخترعوا في مدى جيل واحد هذه الشخصية الجذابة، وهذه المبادئ الأخلاقية السامية، وهذه النظرية الأخوية الملهمة، لكان عملهم هذا معجزة أبعد عن العقول من أية معجزة تسجلها الأناجيل. وإن الخطوط الرئيسية في سيرة المسيح، وأخلاقه، وتعاليمه لتبقى بعد قرنين من النقد الشديد واضحة معقولة؛ لتكون أروع ظاهرة في تاريخ الغربيين وأعظمها فتنة للألباب.
وان شاء الله الفصل الثانى مع نشأة عيسى
ابوالسعودمحمود
2011-01-07, 12:55 PM
بارك الله فيك ياابا الياسمين والفل
ابو الياسمين والفل
2011-01-07, 04:40 PM
الفصل الثاني
نشأة عيسى
يحدد متّى ولوقا ميلاد المسيح في "الأيام التي كان فيها هيرودس ملكاً على بلاد اليهود"(27)- أي قبل العام الثالث ق.م على أن لوقا يقول عن يسوع إنه كان "حوالي الثلاثين من العمر" حين عمّده يوحنا في السنة الخامسة عشرة من حكم تيبيريوس(27أ)، أي في عام 28-29م، وهذا يجعل ميلاد المسيح في عام 2-1 ق.م. ويضيف لوقا إلى هذا قوله: "وفي تلك الأيام صدر مرسوم قيصر أغسطس يقضي بأن تفرض ضريبة على العالم كله... حين كان كويرنيوس Quirinius والياً على سوريا. والمعروف أن كويرنيوس كان حاكماً لسوريا بين عامي 6-12م؛ ويذكر يوفوس أنه أجرى إحصاء في بلاد اليهود، ولكنه يقول إن هذا الإحصاء كان في عام 6-7م(28)، ولسنا نجد ذكراً لهذا الإحصاء إلا هذه الإشارة. ويذكر ترتليان(29) إحصاء لبلاد اليهود قام به سترنينس حاكم سوريا في عام 8-7 ق.م)، فإذا كان هذا هو الإحصاء الذي يشير إليه لوقا فإن ميلاد المسيح يجب أن يؤرخ قبل عام 6 ق.م. ولسنا نعرف اليوم الذي وُلِدَ فيه بالتحديد، وينقل لنا كلمنت الإسكندري (حوالي 100م) آراء مختلفة في هذا الموضوع كانت منتشرة في أيامه؛ فيقول إن بعض المؤرخين يحدده باليوم التاسع عشر من إبريل وبعضهم بالعاشر من مايو، وإنه هو يحدده بالسابع عشر من نوفمبر من العام الثالث قبل الميلاد- وكان المسيحيون الشرقيون يحتفلون بمولد المسيح في اليوم السادس من شهر يناير منذ القرن الثاني بعد الميلاد. وفي عام 354 احتفلت بعض الكنائس الغربية ومنها كنيسة روما بذكرى مولد المسيح في اليوم الخامس والعشرين من نوفمبر، وكان هذا التاريخ قد عد خطأ يوم الانقلاب الشتائي الذي تبدأ الأيام بعده تطول؛ وكان قبل هذا يحتفل فيه بعيد مثراس، أي مولد الشمس التي لا تقهر. واستمسكت الكنائس الشرقية وقتاً ما باليوم السادس من يناير، واتهمت أخواتها الغربية بالوثنية وبعبادة الشمس؛ ولكن لم يكد يختتم القرن الرابع حتى اتخذ اليوم الخامس والعشرين من ديسمبر عيداً للميلاد في الشرق أيضاً .
ويقول متّى ولوقا إن مولد المسيح كان في بيت لحم، القائمة على بعد خمسة أميال جنوبي أورشليم، ثم يقولان إن أسرته انتقلت منها إلى الناصرة في الجليل، أما مرقص فلا يذكر بيت لحم. ولا يذكر المسيح إلا باسم "يسوع الناصري". وقد سمي بالاسم العادي المألوف "يسوع" Yeshu`a ومعناها معيّن يهوه؛ وحرّفه اليونان إلى Iesous والرومان إلى Iesus.
ويبدو أنه كان ينتسب إلى أسرة كبيرة، وشاهد ذلك أن جيرانه أدهشتهم تعاليمه القوية فأخذوا يتساءلون قائلين: "ترى أنى له هذه الحكمة، والقدرة على القيام بهذه العجائب؟ أليس هو إبن النجار؟ أليست أمه تسمى مارية Mary، أليس أخوته هم يعقوب، ويوسف، وشمعون ويهوذا؟ ألا تقوم أخواته هنا بيننا؟"(31). ويحدثنا لوقا عن البشرى بأسلوب أدبي بليغ وينطق مريم- مارية بتلك العبارات البليغة، وهي من أروع القصائد التي يشمل عليها العهد الجديد.
وتأتي شخصية مريم في القصة بعد شخصية ولدها في الروعة والتأثير: فهي تربّيه وتتحمل مسرات الأمومة المؤلمة؛ وتفخر بعلمه في أيام شبابه،وتدهش فيما بعد من تعاليمه ومطالبه، وترغب في أن تبعده عن جموع أتباعه المثيرين، وأن تعيده إلى بيته الهادئ الشافي (لقد بحثت أنا وأبوك عنك محزونين) ؛ وشاهدته وهو يُصلَب، وعجزت عن إنقاذه، ثم تلقت جسده بين ذراعيها، فإذا لم يكن هذا تاريخا فهو الأدب السامي، لأن صلات الآباء والأبناء تؤلف مسرحيات أعمق مما تؤلفه عاطفة الحب الجنسي. أما القصص التي أذاعها سلسس Celsus وغيره فيما بعد عن مريم وجندي روماني فالنقاد مجمعون على أنها "إفتراء سخيف"(32). وأقل من هذا سخفاً تلك القصص التي تذكر أكثر ما تذكر في الأسفار المحذوفة عن مولد المسيح في كهف أو إسطبل، وعن سجود الرعاة والمجوس له وعبادتهم إياه. وعن مذبحة الأبرياء، والفرار إلى مصر، وإذا كان العقل الناضج لا يرى ضيراً في هذا الشعر الشعبي. ولا يذكر بولص ويوحنا شيئاً عن مولده من عذراء وأما متّى ولوقا اللذان يذكرانه فيرجعان نسب يسوع إلى داود عن طريق يوسف، بسلاسل أنساب متعارضة؛ ويلوح أن الاعتقاد في مولد المسيح من عذراء قد نشأ في عصر متأخر عن الاعتقاد بأنه من نسل داود.
ولا يذكر أصحاب الأناجيل إلا القليل الذي لا يغني عن شباب المسيح. فهم يقولون إنه أختُتِن حين بلغ الثامنة من عمره. ولقد كان يوسف نجاراً، وإن مَن كان في ذلك العصر مَن توارث المهن ليوحى بأن يسوع قد احترف هذه الحرفة اللطيفة وقتاً ما، وكان يعرف مَن ينتمي إلى حرفته من الصناع، كما كان يعرف الملاّك ورؤساء الخدم، والمستأجرين، والأرقاء، وكل ما كان يحيط به في الريف، ويتردد ذكر هؤلاء جميعاً في أحاديثه. وكان يحس بما في الريف من جمال طبيعي، وما للزهر من لون جميل، وما يحيط بالأشجار المثمرة من هدوء وسكون. وليست قصة أسئلته للتلاميذ في الهيكل مما لا يقبله العقل. وكان ذا عقل يقظ طلعة، والشاب متّى بلغ الثانية عشرة من عمره في بلاد الشرق أوشك أن يبلغ سن النضوج. لكنه لم يتعلم تعليماً منظماً، وشاهد ذلك أن جيرته كانوا يتسائلون: "كيف يستطيع هذا الرجل أن يقرأ وهو لم يذهب قط إلى المدرسة؟"(33). وكان يتردد على المجمع الديني، ويستمع إلى تلاوة الكتاب المقدس، ويبدو عليه السرور حين يسمعه. وقد انطبعت في ذاكرته الأقوال الواردة في أسفار الأنبياء والمزامير بنوع خاص، وكان لها أثر كبير في تشكيله. ولعله قرأ أيضاً سفري دانيال وأخنوخ، لأنا نجد في تعاليمه المتأخرة أثراً كبيراً من رؤى المسيح الموعود، ويوم الحشر، ومملكة السماء.
وكان الهواء الذي يتنفسه مشحوناً بالحماسة الدينية، وكان آلاف من اليهود ينتظرون على أحر من الجمر مجيء منقذ إسرائيل. وكان السحر والشياطين، والملائكة، وحلول الشياطين في أجسام الآدميين، وإخراجها، والمعجزات، والنبوءات، والإطلاع على الغيب، والتنجيم، كانت كل هذه عقائد مسلَّم بها في كل مكان. ولعل قصة المجوسي كانت تسليماً لابد منه لعقائد المنجمين في ذلك العصر(34)، وكان السحرة يطوفون بالمُدن، وما من شك في أن عيسى قد عرف شيئاً عن الأسينيين وعن حياة الزهد الشبيهة كل الشبه بحياة البوذيين ، وذلك في خلال أسفار جميع الصالحين من يهود فلسطين إلى بيت المقدس في أثناء عيد الفصح. ولعله قد سمع أيضاً عن شيعة تدعى "الناصرة Mazarenes" كان المنتمون إليها يعيشون في بيريه في الناحية الأخرى من نهر الأردن؛ وكانوا يرفضون التعبد في الهيكل، ويأبون التقيد بالناموس(36). ولكن الذي ثار حماسته الدينية هو عظات يوحنا إبن أليصابات قريبة مريم.
ويروي يوسفوس قصة يوحنا بشيء من التفصيل(37). فإذا قرأناها بدا لنا المعمدان شيخاً طاعناً في السن، أما الحقيقة فهي عكس هذا، فهو في الوقت الذي نتحدث عنه في سن عيسى أو قريب منه، ويصفه مرقس ومتّى بأنه كان يرتدي ثوباً من الشعر؛ ويعيش على الجراد الجاف وعسل النحل، ويقف بجوار نهر الأردن؛ ويدعو الناس إلى التوبة. وكان يماثل الإسينيين في الزهد، ولكنه يخالفهم في اعتقاده أن التعميد يكفي أن يكون مرة واحدة؛ وقد يكون اسمه "المعمدان" مرادفاً للفظ اليوناني "إسين" أي الاستحمام(38)؛ وقد أضاف يوحنا إلى عقيدة التطهير الرمزي تنديده الشديد بالنفاق، وعدم التمسك بالأخلاق القويمة، وطلبه إلى المذنبين أن يستعدوا إلى الدار الآخرة، وإعلانه قرب حلول مملكة السماء(39)، وقوله إنه إذا تابت بلاد اليهود كلها وتطهرت من الخطيئة جاء المسيح وحلت مملكة السماء على الفور.
ويقول لوقا إنه في "السنة الخامسة عشرة من حكم تيبيريوس" أو بعدها بقليل جاء يسوع إلى نهر الأردن ليُعمّد على يديه. وهذا القرار الذي اتخذه رجل "يقرب من سن الثلاثين"(40) شاهد على أن المسيح قد آمن بتعاليم يوحنا، وأن تعاليمه هو لن تفترق في جوهرها عن تلك التعاليم. أما أساليبه، وأخلاقه فكانت تختلف عن أمثالها عند يوحنا: فهو لم يعمّد أحداً(41)، ولم يعش في البيداء، بل عاش في العالم. ولم ينقضِ على هذا اللقاء بين عيسى ويوحنا إلا قليل من الوقت حتى أمر هيرودس أنتباس "صاحب المُدن الأربع" في الجليل بسجن يوحنا. وتقول الأناجيل إن سبب القبض على يوحنا هو انتقاد هيرودس لأنه طلق زوجته، وتزوج هيرودياس وهي لا تزال زوجة لفليب أخيه غير الشقيق. أما يوسفوس فيقول إن سبب القبض عليه هو خوف هيرودس أن يكون يوحنا يستتر بستار الإصلاح الديني ليثير القلاقل السياسية في البلاد(42). ويروي مرقس(43) ومتى(44) في هذا المجال قصة سالوم إبنة هوردياس، التي فتنت هيرودس برقصها أمامه حتى عرض عليها أن يقدم لها أية مكافئة تطلبها. ويقولان إنها طلبت إليه رأس يوحنا، بتحريض من أمها، وإن الحاكم أجابها وهو كاره إلى طلبها. وليس في الأناجيل شيء عن حب سالوم ليوحنا، وليس في يوسفوس ما يشير إلى أنها كانت لها يد في موته.
والى اللقاء فى الفصل الثالث (الرسالة)
ابو الياسمين والفل
2011-01-08, 01:36 AM
الفصل الثالث
الرسالة
ولما سجن يوحنا أخذ عيسى يقوم بعمل المعمدان ويخطب في الناس مبشراً بملكوت الله(45)، ويقول لوقا إنه "عاد إلى الجليل"، وإنه "كان يعلم في مجامعهم"(46). وليست لدينا صورة مطبوعة في أذهاننا عن ذلك الشاب المثالي وهو يقوم بدوره في قراءة الكتاب المقدس على المجتمعين في الناصرة، ويختار لهم فقرة من سفر اشعيا: "روح الرب عليّ لأن الرب مسحني لأبشر المساكين، أرسلني لأعصب منكسري القلب، لأنادي للمَسبيين بالعتق وللمأسورين بالإطلاق" "والعُمى بالبَصر، وأرسل المنسحقين في الحرية" ، ويضيف لوقا "وجميع الذين في المجمع كانت عيونهم شاخصة إليه، فابتدأ يقول إليهم إنه اليوم قد تم هذا المكتوب في مسامعكم"، وكان الجميع يشهدون ويتعجبون من كلمات النعمة الخارجة من فيه(48). ولما عرف أن يوحنا قد قُتل وأن أتباعه كانوا يبحثون عن زعيم جديد تحمل يسوع العبء وما يستتبعه من خطر، وارتد أولاً في حذر وحيطة إلى القرى الهادئة وصار يتجنب على الدوام الجدل السياسي، ثم أصبح في كل يوم أعظم جرأة في إعلانه إنجيل التوبة، والإيمان، والنجاة، حتى ظن بعض أتباعه أنه هو يوحنا قام من بين الأموات(49).
وإنـا ليصعب علينا أن ننظر إليه نظرة موضوعية مجردة. وليس سبب هذه الصعوبة مقصوراً على أن كل ما نعرفه عنه منقول عن الذين كانوا يعبدونه، بل إن من أكبر أسبابها أن تراثنا الأخلاقي ومُثُلنا العليا وثيقا الصلة به، تكونا على منواله، ولهذا فإنا نحس بما يصيبنا من أذى إذا وجدنا عيباً في أخلاقه. لقد بلغ شعوره الديني من القوة حداً جعله يندد أشد التنديد بمن لا يشاركونه في آرائه، ويعفو عن كل الأغلاط إلا عدم الإيمان. وإن الإنسان ليجد في الأناجيل فقرات قاسية مريرة لا توائم قط ما يقال لنا عن المسيح في مواضع أخرى منها؛ ويبدو أنه قبل دون بحث وتمحيص أقسى ما كان يؤمن به معاصروه عن جهنم السرمدية التي يعذب فيها مَن لا يتوبون من الكفار والمذنبين بالنار التي لا تنطفئ أبداً والديدان التي لا تشبع من نهش أجسامهم(50). وهو يقول دون أن يحتج عليه أحد إن رجلاً فقيراً في الجنة لم يُسمَح له بأن يترك نقطة واحدة من الماء تسقط على لسان رجل غني في الجحيم(51). وينصحنا بنبل شرف ألا نحكم حتى لا يُحكم علينا، ولكنه يعلن الناس والمُدن التي لم تؤمن برسالته ويلعن شجرة التين التي لم تكن تحمل ثمراً(52). ولعله كان قاسياً بعض القسوة على أمه(53). وكان يتصف بحماسة النبي العبراني المتزمت أكثر من اتصافه بالهدوء الشامل الذي يمتاز به الحكيم اليوناني وكانت عقائده القوية تملأ قلبه؛ كما كان غضبه للحق يطمس من حين إلى حين معالم إنسانيته العميقة؛ ولكن أغلاطه كانت هي الثمن الذي أداه لذلك الأيمان القوي الذي استطاع أن يحرك به العالم. أما فيما عدا هذا فقد كان أحب الناس إلى القلوب. وليست لدينا صورة واحدة له ولم يترك لنا أتباعه وصفاً دقيقاً له، ولكن الذي لا شك فيه أنه كان وسيماً بعض الوسامة، كما كان ذا روح جذّابة، استطاع بفضلهما أن يجمع حوله كثيرات من النساء وكثيرين من الرجال. وفي وسعنا أن نستدل من بعض العبارات المتفرقة(54). على أنه كان يلبس، كما كان يلبس أهل زمانه، عباءة فوق جلباب، وخفين في قدمه، ولعله كان يضع على رأسه غطاء ينزل على كتفيه ليقيه حر الشمس(55). وكانت كثيرات من النساء يجدن عنده شيئاً من العطف والحنان يبعث فيهن إخلاصاً عامراً تفيض به قلوبهن. وليس انفراد يوحنا بذكر المرأة التي ضُبطت وهي تزني حجة على كذبها، فليست هذه القصة مما يفيد يوحنا من الناحية الدينية، وهي فوق هذا مما يتفق كل الاتفاق مع أخلاق المسيح . ولا يقل جمالاً عن هذه القصة قصة أخرى ليس في طاقة أتباعه أن يخترعوها، وهي قصة العاهر التي أثَرت في قلبها سرعة قبوله توبة المذنبين، فخرّت راكعة بين يديه، ودهنت قدميه بالطيب الثمين، وغسلتهما بدموعها، وجففتهما بشعر رأسها، وقال عنها عيسى إن خطاياها قد غُفِرت لها "لأنها أحبّت كثيراً"(57). ويروى أن الأمهات كن يأتين إليه بأطفالهن ليمسهم بيديه، وأنه "احتضنهم ووضع يديه عليهم وباركهم"(58).
ولم يكن عيسى من النساك الزاهدين كما كان الأنبياء والإسينيون والمعمدان. ويروى عنه أنه قدم كثيراً من الخمر في حفل للزواج، وأنه كان يعيش مع "العشارين والمذنبين"، وأنه قبل عاهراً تائبة ضمن أتباعه. ولم يكن يأنف من مسرات الحياة الساذجة، وإن كان قد قسا قسوة غير طبيعية على رجل كان يشتهي فتاة. وكان في بعض الأحيان يقبل الدعوة إلى الولائم في بيوت الأغنياء، ويبدو أنه كان في العادة يختلط بالفقراء، وإن كانوا من الامحاريين Amhaarez أشبه الناس بالمنبوذين الذين كان الفريسيون والصدوقيون يحتقرونهم ويتجنبونهم. وكان يدرك أن الأغنياء لن يؤمنوا برسالته، فكان لذلك يبني آماله على ما عساه يحدث من انقلاب يدخل الفقراء الوضيعين الأعلين في ملكوت الله. ولم يكن يشبه قيصر إلا في وقوفه إلى جانب الطبقات السفلى وفي اتصافه بالرحمة. أما فيما عدا هذا فما أكبر الفرق بين الرجلين في أخلاقهما، ونظرتهما إلى الحياة، وما يهتمان به فيها. لقد كان قيصر يرجو أن يصلح الناس بتبديل نظمهم وشرائعهم، أما المسيح فكان يرغب في أن يكون تغيير طبائع الناس وسيلة لتبديل النظم والاستغناء عن كثير من الشرائع. وكان قيصر هو الآخر ممن يغضبون أحياناً، ولكن انفعالاته كانت على الدوام تحت سيطرة بصيرته النفاذة، أما عيسى فلم يكن أيضاً غير ذي بصيرة، وكان يجيب عن أسئلة الفريسيين الماكرة بمهارة تكاد تضارع مهارة المحامين. ولكنها لم تكن مهارة خالية من الحكمة، ولم يكن في وسع أحد أن يربكه ولو هدده بالقتل، لكن قواه العقلية لم يكن منشَؤها اتساع عقله أو كثرة معارفه، بل كان مبعثها نفاذ البصيرة، وقوة الشعور، ووحدة الغرض. ولم يكن يدعي العلم بكل شيء، وكثيراً ما كان يفاجأ بالحوادث التي لا ينتظر وقوعها، وكان الذي يحمله على المغالاة في تقدير قواه ومواهبه هو جده وحرصه على الوصول إلى غرضه وتحمسه له، كما حدث في الناصرة وأورشليم، بيد أن قواه كانت غير عادية، ولعل الذي يثبت هذا هو معجزاته.
وأكبر الظن أن معظم هذه المعجزات كانت تحدث في أكثر الأحوال بقوة الإيحاء - أي بتأثير روح قوية واثقة من نفسها، في روح قابلة للتأثر. ولقد كان وجوده في حد ذاته يبعث القوة في مَن حوله، فكانت لمسته المبشرة بالخير تشفي المريض وتقوي الضعيف، وليست رواية أمثال هذه القصص عن غيره من الناس في الخرافات والتاريخ(59) دليلاً على أن معجزات المسيح هي الأخرى خرافات وأساطير، فليس منها إلا عدد قليل لا يصدقه العقل، ويمكن مشاهدة أمثالها في كل يوم تقريباً في لورد Lourdes، وما من شك في أنها كانت تحدث أثناء حياة المسيح في إبدورس Epidaurus وغيرها من مراكز العلاج النفسي في العالم القديم؛ وقد شفى الرسل أنفسهم حالات من هذا النوع. وهناك عاملان يدلان على أن هذه المعجزات ظاهرة نفسية، أولهما أن المسيح نفسه كان يعزو شفاء المرضى على يديه إلى "إيمان" مَن يشفيهم؛ وثانيهما عجزه عن القيام بمعجزات في الناصرة، لأن أهلها فيما يظهر كانوا ينظرون إليه على أنه "إبن نجار" ولا يؤمنون بقواه غير العادية؛ ومن ثم كان قولهم إنه "ليس نبي بلا كرامة إلا في وطنه وفي بيته"(60). ويُقال لنا عن مريم المجدلية إن "سبعة شياطين قد أُخرجَت منها، أي أنها كانت تشكو آلاماً ونوبات عصبية، (ويذكرنا هذا باعتقاد البعض أن الشياطين تتقمص أجسام الناس)"؛ والظاهر أن هذه الآلام والنوبات كانت تخف حدتها في حضرة عيسى؛ ومن أجل هذا كانت تحبه لاعتقادها بأنه أعاد إليها الحياة، وأن قربه منها كان أمراً لا غنى عنه لسلامة عقلها. وأما إبنة بايروس فقد قال المسيح عنها في صراحة: إن البنت لم تمت بل كانت نائمة - ولعلها كانت مصابة بالشخوص ، ولم يلجأ حين ناداها بأن تستيقظ إلى لهجته الرقيقة المعتادة بل قال بلهجة الآمر القوية: "طليثا قومي" (أي يا صبية قومي)(61). ولسنا نقصد بهذا أن نقول إن عيسى كان يرى أن معجزاته ظواهر طبيعية محضة؛ فقد كان يحس أنه لا يأتي بهذه المعجزات إلا بمعونة ما فيه من روح قدسية. ولسنا نعرف أنه كان مخطئاً في اعتقاده هذا، كما أننا لا نستطيع حتى الآن أن ندرك حدود ما في تفكير الإنسان وإرادته من إمكانيات وقوى كامنة. ويبدو أن عيسى نفسه كان يحس بخور نفساني بعد أن يقوم بمعجزاته، وأنه كان يحاولها وهو كاره، وينهي أتباعه عن إذاعتها، ويؤنب مَن يطلب غليه "علامة"، ولقد ساءه أن أكبر الأسباب التي دعت الرسل أنفسهم إلى الإيمان به هو ما أتاه من أفعال "عجيبة".
ويصعب علينا أن نقول إن أولئك الرسل كانوا من طراز الذين يختارون ليبدلوا أقوال العالم. فالأناجيل تظهر ما بين أخلاقهم من اختلاف واقعي، وتكشف عن عيوبهم كشفاً صريحاً، فهم لا يخفون مطامعهم، ولما أراد عيسى أن يهدئ من هذه المطامع وعدهم بأنهم سيجلسون في يوم الحساب على اثني عشر كرسياً يدينون أسباط إسرائيل الاثني عشر(62). ولما أن سجن المعمدان انضم أندرو أحد أتباعه إلى عيسى وجاء معه بأخيه سيمون الذي سماه المسيح باسم كفاس، أي "الصخرة". وترجم اليونان اسمه إلى بطرس، وبطرس هذا شخصية بشرية لحماً ودماً، فهو متهور، جاد، كريم، غيور، هياب يصل به الوجل في بعض الأحيان إلى حد الجبن الذي لا يسع الإنسان إلا أن يعفو عنه. وقد كان هو وأندرو يصيدان السمك في بحيرة الجليل، وكذلك كان ولدا زبدي Zebedee يعقوب ويوحنا. وانتقل هؤلاء الأربعة بأعمالهم وأسرهم وأصبحوا دائرة ضيقة حول المسيح. وكان متّى جابياً في مجينة كبرنوم القائمة على الحدود؛ أي أنه كان يقوم بعمل للدولة، وإذن فقد كان في منصبه هذا يخدم رومة، لهذا كان مكروهاً من كل يهودي يتوق إلى الحرية. وكان يهوذا الكريوثي وحده دون سائر الرسل الذي لم يأتِ من الجليل. وجمع الاثني عشر كلهم جميع ما يملكون وعهدوا إلى يهوذا أن يتولاها نائباً عنهم. وكانوا في طوافهم مع المسيح في رحلاته التبشيرية يعيشون على ما يقدمه لهم القرويون، ويأخذون طعامهم آناً بعد آن مما يمرون به من الحقول، ويقبلون ضيافة أصدقائه ومَن يهتدون بهديهم. وقد أضاف عيسى إلى الاثني عشر اثنين وسبعين من الأتباع، وبعث بأثنين منهم إلى كل بلدة يريد أن يزورها، وقال لهم "لا تحملوا كيساً، ولا مزوداً، ولا أحذية"(63). وانضمت بعض النساء الصالحات الرحيمات إلى أولئك الرسل والاتباع وقدمن لهم المعونة، وأدين لهم تلك الأعمال المنزلية التي لا غنى عنها، والتي هي أعظم سلوى لحياة الرجال. وعلى يد هذه الجماعة الصغيرة الوضيعة غير المتعلمة أرسل المسيح إنجيله إلى العالم.
الى اللقاء فى الفصل الرابع (الانجيل)
ابو الياسمين والفل
2011-01-11, 04:02 AM
الفصل الرابع
الإنجيل
وكان يعلم الناس بالبساطة التي تتطلبها حال مستمعيه، ويمزج هذه التعاليم بالقصص الطريفة التي تجعل دروسه تنفذ إلى الأذهان، وبالحكم والأمثال القوية بدل الحجج العقلية، وبالاستعارات، والمجازات التي لا تقل روعة عن أمثالها في أي أدب من آداب العالم. وكانت طريقة القصص الرمزي التي يلجأ إليها مألوفة في بلاد الشرق، وقد أخذ بعض تشبيهاته الرائعة، ولعله أخذها دون علم منه، عن أنبياء بني إسرائيل، وكتاب المزامير وأحبار اليهود(64). وبيد أن وضوح خطبه واتجاهها إلى هدفها مباشرة، وروعة خياله وقوته، وإخلاصه العظيم، قد رفعت أقواله إلى مستوى الشعر الملهم. ولسنا ننكر الغموض يكتنف بعض أقواله، وأن بعضها يبدو لأول وهلة مما يجافى مع العدالة(65)، وأن منها ما يشتمل على السخرية اللاذعة والحقد المرير، ولكنها كلها تقريباً نماذج في الإيجاز والوضوح والقوة.
وكانت بداية تعاليمه هي إنجيل يوحنا المعمدان، وهذا الإنجيل نفسه يرجع إلى دانيال وأخنوخ، إذ ليس في التاريخ طفرات. ومن أقواله أن ملكوت الله قد حان أجلها، وأن الله سيقضي عما قريب على عهد الشر والخبائث، وأن إبن الإنسان سيأتي "على سحب السماء" ليحاسب جميع البشر الأحياء منهم والأموات(66). ومن أقواله إن الوقت الذي يجب أن يتوب فيه الإنسان من ذنوبه يمر مسرعاً، فأما مَن تاب وأناب، وسلك سبيل العدالة، وأحب الله وآمن برسوله، فإنه يرث ملكوت السموات، ويسمو إلى القوة والمجد في عالم قد تحرر آخر الأمر من جميع الشرور والآلام والموت.
وكانت هذه الأفكار كلها مألوفة لسامعيه، ولهذا فإن المسيح لم يحددها تحديداً واضحاً، ومن ثم نشأت في وقتنا هذا صعاب جمة سببها ما في هذه الأفكار من غموض. ترى ماذا كان يعني بملكوت السموات؟ أهي سماء خيالية خارجة عن مألوف الطبيعة؟ يخيل إلينا أنها لم تكن كذلك، لأن الرسل والمسيحيين الأولين كانوا على بكرة أبيهم ينتظرون أن توجد مملكة أرضية، وكانت هذه هي الرواية اليهودية التي ورثها عنهم المسيح، ومن أجل هذا كان يعلم أتباعه أن يصلّوا إلى الأب قائلين "ليأتِ ملكوتك، لتكن مشيئتك، كما في السماء كذلك على الأرض".
ولم ينطق إنجيل يوحنا المسيح بقوله إن "مملكتي ليست من هذا العالم"(67) إلا بعد أن خبا هذا الأمل. فهل كان يعني بها حالة روحية أو طوبى مادية؟ لقد كان يتحدث في بعض الأحيان عن ملكوت الله في وصفها حالة من حالات الروح يصل إليها الأطهار المبرؤون من الذنوب- "ملكوت الله داخلكم"(69)، وكان في أحيان أخرى يصورها كأنها مجتمع سعيد في مستقبل الأيام، حكامه هم الرسل، ويأخذ من أعطي أو أوذى في سبيل المسيح مائة ضعف(70). ويبدو أنه لم يكن يرى أن ملكوت الله هي الكمال الخلقي إلا مجازاً، وأنه يرى أن هذا الكمال الخلقي إنما هو إعداد لهذا الملكوت وثمن يؤدى للحصول عليه، وأنه هو الحال التي تكون عليها حميع الأرواح الناجية في الملكوت إذا ما تحقق(71).
ومتى يحين موعد هذا الملكوت؟ قريباً "الحق أقول لكم إني لا أشرب بعد من نتاج الكرمة إلى ذلك اليوم حين أشربه جديداً في ملكوت الله". ومن أقواله لأتباعه: "لا تكملون مُدن إسرائيل حتى يأتي ابن الإنسان"(72). ثم أخره قليلاً فيما بعد: "إن من القيام ههنا قوماً لا يذوقون الموت حتى يروا إبن الإنسان آتياً في ملكوته"(74)؛ "لا يمضي هذا الجيل حتى يكون هذا كله"(75). ومرت به لحظات رأى فيها من حسن السياسة أن يحذر رسله بقوله: "وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد ولا الملائكة الذين في السماء، ولا الإبن إلا الأب"(76). وستسبقه علامات: "وسوف تسمعون بحروب وأخبار حروب... تقوم أمّة على أمّة ومملكة على مملكة، وتكون مجاعات وأوبئة وزلازل في أماكن... يعثر كثيرون... يبغض بعضهم بعضاً، ويقوم أنبياء كذبة كثيرون، ويضلّون كثيرين، ولكثرة الإثم تبرد محبة الكثيرين"(77). وفي بعض الساعات جعل يسوع مجيء ملكوت الله ينتظر استحالة الإنسان إلهاً عادلاً كما جعله موقوفاً على هذه الاستحالة، وهو يجعل حلول الملكوت عادة عملاً من أعمال الله، وعطية معجزة يفاجأ بها الناس من قبل العناية الربانية.
وقد فهم الكثيرون ملكوت الله بأنه طوبى شيوعية؛ وحسبوا المسيح ثائراً اجتماعياً(78). وإنا لنرى في الأناجيل بعض الشواهد التي تؤيد هذا الرأي، منها أن المسيح لا يخفي احتقاره للرجل الذي يجعل همه في الحياة جمع المال والانغماس في الترف(79)، فهو يتوعد الفتى البطين بالجوع والشقاء، ويواسي بالتطويبات التي ضمن لهم بها ملكوت الله. ولما سأله شاب غني عما يجب أن يفعله بعد أن حفظ الوصايا قال: "بع أملاكك، وأعطِ الفقراء فيكون لك كنز في السماء، و... إتبعني"(80). ويبدو أن الرسل كانوا يفسرون الملكوت بأنه انقلاب ثوري للعلاقات القائمة بين الأغنياء والفقراء، وسوف نراهم هم والمسيحيين الأولين يؤلفون جماعة شيوعية: "وجميع الذين آمنوا كانوا معاً، وكان عندهم كل شيء مشتركاً"(81). وكانت التهمة التي أدين من أجلها عيسى هي أنه كان يتآمر ليكون "ملك اليهود".
ولكن في وسع الرجل المحافظ أن يجد في العهد الجديد شواهد يؤيد بها آراءه. منها أن المسيح قد اتخذ متّى صديقاً له، ومتى هو الذي ظل كما كان عاملاً من قبل الرومان، ومنها أنه لم يطعن قط على الحكومة المدنية ولم يكن له فيما تعلم نصيب في الحركة اليهودية التي تهدف إلى الحرية القومية، وأنه كان ينصح بالكياسة البعيدة أشد البعد عن الثورة السياسية. وقد نصح الفريسيين بأن يعطوا "ما لقيصر لقيصر وما لله لله"(82). ولسنا نجد في قصة الرجل الذي "دعا عبيده" قبل سفره "وسلمهم أمواله"(83) أية شكوى من الربا أو الاسترقاق. بل إنها تسلم بهاتين السنتين بوصفهما من الأمور التي لا تقبل الجدل. ويبدو أن المسيح يقر ما فعله العبد الذي استثمر العشر الميقات (600 ريال أمريكي) التي عهد بها إليه شيده، فصارت عشرين؛ وأنه لا يقر عمل العبد الذي تركت له منها واحدة فحبسها ولم يستثمرها حتى يعود سيده من غيبته، وينطق هذا السيد بتلك العبارة القاسية: إن كل من له يُعطى، ومن ليس له فالذي عنده يُؤخذ منه(84)، وهي خير ما تلخص به أعمال السوق التجارية، إن لم نقل إنها خير خلاصة لتاريخ العالم. وفي قصة رمزية أخرى نرى العمال غاضبين على صاحب العمل الذي يؤجر من عمل ساعة بقدر ما يؤجر الذين ظلوا يكدحون طوال اليوم؛ فينطق المسيح صاحب العمل بقوله: "أوَ ما يحل لي أن أفعل ما أريد بمالي؟"(85). ويبدو أن المسيح لم يفكر في القضاء على الفقر، لأن الفقراء دائماً معه. فهو كالأقدمين جميعاً يرى أن من الأمور المسلّم بها أنه يجب على العبد أن يخدم سيده على خير وجه: "طوبى لذلك العبد الذي إذا جاءه سيده يجده يفعل هكذا"(86) أي ما كلفه به. وهو لا يرى من شأنه أن يهاجم النظم الاقتصادية أو السياسية القائمة في وقته، بل يفعل عكس هذا فيهاجم ذوي النفوس الثائرة المتحمسة الذين يغتصبون ملكوت السموات(87). أما الثورة التي كان يفكر فيها فكانت أعمق من هذه الثورة وأبعد منها أثراً، فهي ثورة إذا لم تحدث كانت كل الإصلاحات سطحية سريعة الزوال. فإذا استطاع أن يطهر قلوب الناس من الشهوات الأنانية، ومن القسوة، والفجور، فإن الطوبى تحل، ولا يبقى أثر لتلك النظم التي تنشأ من شره الإنسان وعنفه، وما تستتبعه من الحاجة إلى القوانين. وهذا إذا تم كان أعمق الثورات، التي إذا قيست إليها الثورات جميعاً كانت تغييراً موقوتاً يضع طبقة مكان طبقة، وتظل الطبقة الغالبة تستغل الناس كما كانت تستغلهم الطبقة المغلوبة. وبهذا المعنى كان المسيح أعظم الثائرين؛ أي محدثي الانقلابات في تاريخ العالم.
وليست أهم أعماله أنه يبشر بدولة جديدة، بل أهمها أنه يضع الخطوط الرئيسية لمبادئ أخلاقية مثالية. وكانت تلك المبادئ الأخلاقية هي التي تنبأ بقيامها عندما يحل موعد ملكوت الله(88)، والتي كان يقصد بها أن يكون الناس خليقين بالدخول في هذا الملكوت. ومن ثم كانت تلك "التطويبات" وما فيها من تمجيد للوداعة، والفقر والرقة، والسلام لم يسبق له مثيل، وكانت نصيحته أن يدير الإنسان خده الثاني، وأن يكون الناس كصغار الأطفال "لا مثلاً عليا للفضيلة!" وعدم اهتمامه بالشئون الاقتصادية، وبالفقر، وبشئون الحكم، وتفضيله العزوبة عن الزواج، وأمره الناس بأن يتخلوا عن جميع الروابط العائلية لم تكن هذه قواعد للحياة العادية، بل كانت نظاماً يكاد يماثل نظام الأديرة يهيّئ الرجال والنساء لأن يختارهم الله لمملكة مرتقبة، لن تكون فيها شريعة، ولا زواج، ولا علاقات جنسية، ولا فقر، ولا حر، وقد أثنى يسوع على الذين تركوا "بيتاً، أو والدين، أو أخوة، أو امرأة، وأولاداً" بل أثنى أيضاً على الذين "خصّوا أنفسهم لأجل ملكوت السموات"(89). وما من شك في أن هذه التعاليم قد وضعت لتسير عليها أقلية دينية ورعة، ولم توضع لمجتمع دائم، لقد كانت هذه مبادئ أخلاقية، ضيقة في أغراضها، ولكنها عامة في مجالها، لأنها تطبق فكرة الاخوة والقاعدة الذهبية على الأجانب والأعداء كما تطبقها على الجيران والأصدقاء، وكانت تتطلع إلى زمن لا يعبد في الناس الله في الهياكل بل يعبدونه "بالروح، والصدق" وبكل عمل يعملونه لا بالألفاظ الزائلة.
ترى هل كانت هذه المبادئ الأخلاقية جديدة؟ ليس ثمة شيء جديد إلا الترتيل، وإن الفكرة الرئيسية التي تدور حولها عِضات المسيح- فكرة يوم الحساب وملكوت الله- لهي من الأفكار التي وجدت عند اليهود قبل ذلك الوقت بمائة عام. ولقد نادت الشريعة بأخوة البشر قبل ذلك بزمن طويل، فقد جاء في سفر اللاويين: "تحب قريبك كنفسك" و "كالوطني منكم يكون لكم الغريب النازل عندكم وتحبه كنفسك"(90). وكان اليهود قد أمروا في سفر الخروج أن يحسنوا لأعدائهم(91)، وكان إرميا(92) وإشعيا(93)، قد أشارا عليهم أن يديروا خدهم لمن يلطمهم. وكان الأنبياء أيضاً قد جعلوا الحياة الصالحة أعلى درجة من العداوة أياً كان نوعها، وكان إشعيا(94) وهوشع(95)، قد شرعا يبدلان يهوه من رب الجنود إلى إله الحب، وكان هلل قد صاغ القاعدة الذهبية كما صاغها كنفوشيوس؛ وليس من حقنا أن نأخذ على يسوع أنه ورث المبادئ الأخلاقية التي كانت سائدة بين شعبه، وأفاد من تلك المبادئ.
وقد ظل المسيح زمناً طويلاً لا يرى في نفسه إلا أنه أحد اليهود، يؤمن بأفكار الأنبياء، ويواصل عملهم، ويجري على سنتهم، فلا يخطب إلا في اليهود، ولما أرسل أتباعه لينشروا إنجيله لم يرسلهم إلا لمدن اليهود: "إلى طريق أمم لا تمضوا، وإلى مدينة السامرين لا تدخلوا"(96)؛ ومن ثم كان تردد الرسل بعد موته في أن يحملوا "الأنباء الطيبة" إلى عالم "الكفرة"(97)؛ ولما إلتقى بالسامرية عند البئر قال لها "الخلاص لهو من اليهود"(98)؛ وإن لم يكن من حقنا أن نحكم عليه من أقوال لعلها قد تقولها عليه إنسان لم يكن حاضراً معه، أو كتبها بعد ستين عاماً من الحادثة التي قيلت فيها. ولما طلبت إليه إمرأة كنعانية أن يشفي غبنتها أبى في أول الأمر وقال: "لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالّة"(99). وقال للأبرص الذي شفاه من علّته "اذهب أرِ نفسك للكاهن وقدّم القربان الذي أمر به موسى"(100): "على كرسي موسى جلس الكتبة والفريسيون،
فكل ما قالوا لكم أن تحفظوه فاحفظوه وافعلوه، لكن حسب أعمالهم لا تعملوا"(101)، ولما عرض يسوع أن تعدل الشريعة اليهودية، سار على سنة هلل فلم يفكر في انه ينقض هذه الشريعة: "لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء، ما جئت لأنقض بل لأكمّل"(102) "ولكن زوال السماء والأرض أيسر من أن تسقط نقطة واحدة من الناموس" .
لكنه مع هذا قد بدل كل شيء بقوة أخلاقه وشعوره. فقد أضاف إلى الشريعة اليهودية أمره إلى الناس بأن يستعدوا للدخول في الملكوت بأن يحيوا حياة العدالة، والرأفة والبساطة. وزاد الشريعة صرامة في مسائل الجنس والطلاق(105)، ولكنه خففها بأن كان أكثر استعداداً للعفو(106)، وذكر للفريسيين أن السبت قد وضع لخير الإنسان(107)، وخفف الشروط الموضوعة على الطعام والطهارة، وحذف بعض أوقات الصوم، وأعاد الدين من المراسم والطقوس إلى الصلاح والاستقامة، وندد بالجهر بالصلوات، والتظاهر بالصدقات، والاحتفالات الفخمة بالجنازات، وترك الناس أحياناً يظنون أن الشريعة اليهودية سوف تمحى حين تحل الملكوت(108).
وقد قاوم اليهود على اختلاف شيعتهم هذه الإصلاحات عدا الإسينيين، وكان الذي أغضبهم بنوع خاص ما دعاه لنفسه من حق العفو عن الخطايا والتحدث باسم الغلة. وقد هالهم أن يروه يختلط بعمال روما المبغضين؛ وبالنساء ذوات السمعة السيئة. وكان كهنة الهيكل وأعضاء السنهدرين يرقبون نشاطه بعين الريبة، ويرون في هذا النشاط ما كان يراه هيرودس في نشاط يوحنا وهو أنه ستار يخفي تحته ثورة سياسية، وكانوا يخشون أن يتهمهم الحاكم الروماني بأنهم يتحللون مما هو مفروض عليهم من تبعات ليحافظوا بذلك على النظام الاجتماعي.
وقد أوجسوا في نفوسهم خيفة من وعد المسيح بتدمير الهيكل، ولم يكونوا واثقين من أن هذا التدمير إنما هو تدمير مجازي لا يقصد به حرفيته. أما المسيح نفسه فقد ندد بهم تنديداً شديداً.
"الكتبة الفريسيون... يحزمون أحمالاً ثقيلة سرة الحمل ويضعونها على أكتاف الناس، وهم لا يريدون أن يحركوها بإصبعهم. وكل أعمالهم يعملونها لكي تنضرهم الناس، فيعرضون عصائبهم ويعظمون أهداب ثيابهم، ويحبون المتكأ الأول في الولائم والمجالس الأولى في المجامع: لكن ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون.. أيها القادة العميان.. أيها الجهال والعميان!.. تركتم أثقل الناموس- الحق والرحم والإيمان... تنقون خارج الكأس والصحفة، وهما من داخل مملوءان اختطافاً ودعارة... ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون لأنكم تشبهون قبوراً مبيضة!... تظهرون للناس أبراراً ولكنكم من داخل مشحونون رياء ونفاق... إنكم أبناء قتلة الأنبياء، فإملأوا أنتم مكيال آبائكم! أيها الحيّات أولاد الأفاعي كيف تهربون من دينونة جهنم؟... إن العشارين والزواني يسبقونكم إلى ملكوت الله"(109).
ترى هل كان يوحنا عادلاً في حكمه على الفريسيين؟ أكبر الظن أنه كان من بينهم مَن يستحقون هذا التقريع، وأن منهم كثيرين كانوا يفعلون ما فعله المسيحيون بعد بضعة قرون من ذلك الوقت فيستبدلون بطهارة النفس مظاهر التقى الخارجية. غير أنه كان من بين الفريسيين كثيرون يرون أن الشريعة يجب أن تخفف وأن تكون أكثر إنسانية مما هي(110). ولعل عدداً كبيراً من هذه الطائفة كانوا رجالاً مخلصين وأشرافاً ظرفاء إلى حد كبير؛ يشعرون بأن القواعد الشكلية التي أغفلها يسوع يجب ألا يُحكم عليها مستقلة عن غيرها من القواعد، بل يجب أن تؤخذ على أنها جزء من الشرائع التي ساعدت على جمع كلمة اليهود، بعثت فيهم العزة والأدب وسط عالم يبغضهم ويعاديهم. وكان بعض الفريسيين يعطفون على عيسى، وقد جاءوه ليحذروه من المؤامرات التي كانت تدبر لاغتياله(111)، ولقد كان نقوميدس Nicomedus أحد المدافعين عنه من أغنياء الفريسيين.
وحلّت القطيعة الأخيرة بين عيسى وبينهم حين بدأ يعتقد أنه هو المسيح المنتظر، ويُعلن هذا في صراحة ووضوح. لقد كان أتباعه ينظرون إليه في أول الأمر على أنه خليفة يوحنا المعمدان، ثم أخذوا يعتقدون شيئاً فشيئاً أنه هو المنقذ الذي سيرفع نير الرومان عن إسرائيل، ويبسط حكم الله على الأرض. ولما أن سألوه "قائلين يا رب هل في هذا الوقت ترد الملك إلى إسرائيل؟(112) لم يجبهم إلا بقوله "ليس لكم أن تعرفوا الأزمنة والأوقات التي جعلها الرب في سلطانه" وأجاب جواباً شبيهاً بهذا الجواب في غموضه حين سأله رسل من عند المعمدان هل هو المسيح المنتظر؟ وأراد أن يخرج من عقول أتباعه فكرة أنه مسيح سياسي فأنكر كل إدعاء بأنه من نسل داود(113). ولكن يلوح أن ترقب أتباعه وآمالهم القوية، وما تبينه من قواه النفسية غير العادية قد أقنعاه تدريجاً بأنه رسول من عند الله جاء ليعد الناس لحكم الله في الأرض لا ليعيد سيادة اليهودية. ولم يقل (في الأناجيل الثلاثة المتشابهة: متّى، ومرقس: ولوقا) إنه هو الأب إله واحد أو يسوي نفسه به؛ فقد سأل أتباعه "لماذا تدعوني صالحاً؟ ليس أحد صالحاً إلا واحداً هو الله"(114) وقال وهو يصلي في جتسماني: "ليكن لا كما أريد أنا، بل كما تريد أنت"(115). وقد أخذ لفظ "إبن الأنسان" الذي جعله دانيال مرادفاً للفظ المسيح، واستعمله في بادئ الأمر دون أن يقصد به نفسه في وضوح ثم انتهى آخر الأمر بإطلاق هذا اللفظ على نفسه في مثل قوله: "فإن إبن الإنسان هو رب السبت أيضاً"(117)- وهي عبارة رآها الفريسيون تجديفاً في حق الله. وكان يدعو الله باسم "الأب" دون أن يقصد بهذا في بعض الأحيان أباه هو نفسه، بيد أنه أحيانا أخرى يقول: "أبي". ويبدو أنه يقصد بهذا أنه ابن الله بصفة أو درجة خاصة(118). وقد ظل وقتاً طويلاً ينهي أتباعه عن أن يسموه المسيح، ولكنه في قيصرية فلبس رضي بقول بطرس إنه "المسيح ابن الله الحي"(119). ولما اقترب من أورشليم في آخر يوم أثنين قبل وفاته ليوجه آخر دعوة إلى الناس حباه "جمهور التلاميذ" قائلين "مبارك الملك الآتي باسم الرب"، ولما طلب إليه بعض الفريسيين أن ينتهر تلاميذه من أجل هذه التحية رد عليهم بقوله: "إنه لو سكت هؤلاء فالحجارة تصرخ"(120). وقد جاء في الإنجيل الرابع أن الجماهير حيته بقولها "إنه ملك إسرائيل"(121). ويبدو أن أتباعه كانوا لا يزالون يعتقدون أنه مسيح سياسي سيقضي على سلطان الرومان ويجعل الكلمة العليا لليهودية. وكانت هذه الأصوات والتحيات هي التي قضت على المسيح بأن يموت ميتة الثوار.
والى اللقاء فى الفصل الخامس
الموت والتجلّي
ابو الياسمين والفل
2011-01-13, 05:49 AM
الفصل الخامس
الموت والتجلّي
اقترب عيد الفصح واجتمع في أورشليم عدد كبير من اليهود ليقربوا القرابين للهيكل. وكان البهو الخارجي يضج بأصوات البائعين ينادون على الحمام وغيره من حيوانات الضحايا والصيارفة يعرضون النقود المتداولة في هذا المكان بدل نقود الوثنيين المتداولة في الإمبراطوريّة الرومانية. ولما زار عيسى الهيكل في اليوم الثاني بعد دخوله المدينة هاله ما كان تحت المظلات من ضجيج وأعمال تجارية، فانتابته هو وأتباعه نوبة من الغضب الشديد، دفعتهم إلى قلب مناضد الصيارفة وتجّار الحمام، وبعثرت نقودهم على الأرض، وإخراج التجار من ساحته بضرب العصى. وظل عدة أيام بعد مجيئه يعلم في الهيكل دون أن يتعرض له أحد(122). ولكنه كان يخرج منه ليلاً ويبيت في جبل الزيتون لخوفه أن يُقبض عليه أو يُغتال.
وكان عمال الحكومة - المدنيون منهم والدينيون، الرومان واليهود - يراقبونه، وأكبر الظن أن هذه المراقبة قد بدأت من يوم أن خلف يوحنا المعمدان في عودته. وكان عجزه عن أن يضم إليه عددا كبيراً من الأتباع مما جعلهم يهملون أمره، ولكن يبدو أن الاستقبال الحماسي الذي استقبل به في أورشليم حير زعماء اليهود فصاروا يخشون أن تلتهب حماسة هذه الجماعات التي اجتمعت في عيد الفصح، فتدفعها عواطفها الثائرة ونزعتها الوطنية إلى الثورة على السلطة الرومانية ثورة طائشة عقيمة لم يحن موعدها بعد، فتكون عاقبتها القضاء على كل ما تستمتع به اليهودية من حكم ذاتي وحرية دينية. ومن أجل هذا دعا الحاخام الأكبر السنهدريين إلى الاجتماع.
وقال له: "إنه خير لنا أن يموت إنسان واحد عن الشعب ولا تهلك الأمة كلها"(123) ووافقته أغلبية الحاضرين على رأيه وأمر المجلس بإلقاء القبض على المسيح.
ويبدو أن نبأ هذا القرار وصل إلى مسامع يسوع، ولعل الذي أوصله إليه بعض أعضاء في السنهدرين نفسه. ففي اليوم الرابع عشر من شهر نيسان العبري (وهو اليوم الثالث من شهر إبريل) من العام الثلاثين في أرجح الأقوالhttp://civilizationstory.com/civilization/images/comment.gif أكل عيسى ورسله عشاء عيد الفصح في دار صديق له في أورشليم، وكانوا ينتظرون أن يُنجّي المعلم نفسه بما له من معجزات؛ لكنه لم يفعل شيئاً من هذا، ورضي بما قُدّر له، ولعله كان يأمل أن يتقبل الله موته على أنه تضحية يكفر بها عن ذنوب شعبه(124). وقد قيل له إن أحد الاثني عشر كان يأتمر به ليسلمه إلى أعدائه، وفي هذا العشاء الأخير اتهم المسيح علناً يهوذا الإسخريوطيhttp://civilizationstory.com/civilization/images/comment.gif . وقد جرى يسوع على السنن اليهودية فبارك الخمر الذي قدمه للرسل ليشربوه، ثم غنوا جميعاً أغنية هاليل اليهودية(127). ويقول يوحنا إنه قال لهم "يا أولادي أنا معكم زماناً قليلاً بعد... وصية جديدة أنا أعطيكم أن تحبوا بعضكم بعضاً... لا تضطرب قلوبكم. أنتم تؤمنون بالله فآمنوا بي. في بيت أبي منازل كثيرة... أنا أمضي لأعد لكم مكاناً"(128).
ويبدو أن من المعقول جداً أن يطلب المسيح إليهم في هذه الساعة الرهيبة أن يكرروا هذا العشاء في مواسم خاصة (كما تتطلب ذلك عادة اليهود)، إحياء لذكراه؛ وليس ببعيد أنه، وهو ذو الإحساس الشرقي المرهف والخيال الشرقي الوثاب، قد سألهم أن يتصوروا أن العيش الذي يأكلونه هو جسمه، وأن الخمر التي يشربونها هي دمه.
ويُقال إن الجماعة الصغيرة اختبأت تلك الليلة في حديقة جتسيماني في خارج أورشليم. وفيها عثرت عليهم سيرة من شرطة الهيكل(129). وقبضت على يسوع. وسيق أولاً إلى بيت أونياس أحد كبار الكهنة السابقين، ثم نُقل منه إلى بيت قيافا. ويقول مرقس "إن المجلس" ولعل الأصح إن لجنة من أعضاء السنهدرين - اجتمعت في ذلك المكان. وشهد عليه شهود كثيرون، وذكروا بنوع خاص تهديده بتخريب الهيكل. ولما سأله قيافا هل هو "المسيح ابن الله؟" أجابه كما تقول الرواية "أنا هو"(130)، واجتمع السنهدرين في صباح اليوم التالي وأثبت عليه جريمة التجديف (وكان عقابها الإعدام في تلك الأيام) وقرر أن يسوقه أمام الحاكم الروماني. وكان قد جاء إلى أورشليم ليرقب الجماهير المختلفة بعيد الفصح.
وكان بيلاطس البنطي رجلاً قاسياً، استدعي إلى روما بعد وقت ما من هذه الحادثة متهماً بابتزاز المال واستخدام القسوة(131)، وعُزل من منصبه. على أنه لم يبدُ له وقتئذ أن هذا الواعظ الوديع الخلق خطر حقيقي على الدولة. وسأل الرجل يسوع سؤالاً يكاد يكون من قبيل المداعبة: "أأنت ملك اليهود؟" أجاب يسوع، حسب رواية متّى بقوله "نعم" ولا يسع الإنسان إلا أن يشك في هذه التفاصيل التي تناقلها الناس مشافهة في أغلب الظن، ثم دونوها بعد وقوعها بزمن طويل. فإذا أخذنا بهذا النص وجب علينا أن نجزم بأن يسوع كان قد قرر أن يموت، وأن نظرية بولس عن التكفير تجد ما يؤيدها في عمل المسيح نفسه. وينقل يوحنا عن يسوع أنه أضاف إلى جوابه السابق قوله: "لهذا قد وُلدّت أنا... لأشهد للحق". وسأله بيلاطس "ما هو الحق؟" - وهو سؤال لعل الباعث عليه نزعة الإنجيل الرابع الميتافيزيقية، ولكنه يدل بأجلى بيان على ما هنالك من فروق بين ثقافة الروماني السفسطائية الساخرة ومثالية اليهودي الواثقة المتحمسة. ومهما يكن من شيء فلم يكن أمام القانون بعد اعتراف المسيح إلا أن يدينه، وبناء على هذا أصدر بيلاطس وهو كاره حكمه بالإعدام.
وكان الصلب من طرق العقاب الرومانية اليهودية. وكان الجلد يسبقه عادة، فإذا ما جلد المذنب بقسوة أصبح جسمه كتلة من اللحم المتورّم الدامي. ووضع الجنود الرومان تاجاً من الشوك على رأس المسيح يسخرون بذلك من تلقيبه "ملك اليهود" كما نقشوا على صليبه باللغات الآرامية واليونانية واللاتينية "عيسى الناصري هو ملك اليهود" Nazarathaeus Rek Joudeorum. وسواء كان يسوع من دعاة الثورة أو من غير دعاتها فليس ثمة ريب في أن روما قد حكمت عليه بوصفه من هؤلاء الدعاة، وكذلك فهم تاستس الأمر على هذا النحو(134). وكانت جماعة صغيرة، لا يزيد عددها على ما يتسع له فناء بيت بيلاطس، قد طالبت بإعدام المسيح؛ فلما أن أخذ يصعد تل جمجمة "تبعه جمهور كبير من الشعب" كما يقول لوقا(135)، والنساء اللواتي كن يلطمن وينحن عليه. وما من شك في أن هذا الحكم لم يرق في عين الشعب اليهودي.
وقد أذن لكل مَن يريد أن يشهد هذا المنظر الرهيب أن يشهده. وكان الرومان الذين يرون أن لابد لهم أن يحكموا الناس بالإرهاب يختارون لتنفيذ حكم الإعدام في مَن يرتكبون الجرائم التي يحدد لها القانون هذه العقوبة الطريقة التي يسميها شيشرون "أقسى أنواع التعذيب وأبشعها"(136). فكانت يدا المذنب وقدماه تُدَق (أو تربط في حالات نادرة) إلى الخشبة، وكانت فيها قطعة بارزة تسند العمود الفقري أو القدمين. وإذا لم يُرجَم المذنب فيُقتَل فإنه يبقى على هذه الحال يومين أو ثلاثة أيام، يُقاسي فيها آلام عدم الحركة، وهو عاجز عن طرد الحشرات التي تتغذى من لحمه العاري، فتخور قواه ببطئ حتى يقف القلب عن الحركة ويضع حداً لهذا العذاب الأليم.
وكان الرومان أنفسهم يشفقون على ضحايا هذا التعذيب في بعض الأحيان، ويقدمون لهم شراباً فيفقدهم وعيهم. ويُقال إن الصليب كان يُرفع "عند الساعة الثالثة" أي في الساعة التسعة صباحاً. ويقول مرقس إن لصّين صلبا مع يسوع وإنهما كانا يسبانه. ويؤكد لنا لوقا أن واحداً منهما كان يدعو له(138). ولم يكن مع عيسى أحد من الرسل إلا يوحنا وحده، وكان معه ثلاث نساء تسمى كل واحدة منهن مريم، أم المسيح ومريم أختها، ومريم المجدلية (وكانت أيضاً نساء ينظرن من بعيد)(139). واقتسم الجند ثياب الميت كعادة الرومان؛ وإذا لم يكن للمسيح إلا ثوب واحد فإنهم أخذوا يلقون القرعة ليروا من يأخذ الثوب. ولعلنا نقرأ في هذا المعنى الآية الثامنة عشرة من المزمور الثاني والعشرين منسوبة إلى مسيح. "يقتسمون ثيابي بينهم وعلى لباسي يقترعون". ويبدأ هذا المزمور نفسه بتلك الكلمات: "إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟". وذلك هو نداء اليأس البشري الذي يعزوه مرقس ومتى إلى المسيح وهو يحتضر. فهل يمكن أن يكون الإيمان العظيم الذي أعانه في موقفه أمام بيلاطس قد انقلب في تلك اللحظات المريرة إلى شك أسود؟ ولعل لوقا قد رأى أن هذه العبارة لا تتفق مع عقائد بولس الدينية فبدلها بقوله: "يا أبتاه في يديك أستودع روحي" - وهي عبارة تردد صدى الآية الخامسة من المزمور الحادي والثلاثين ترديداً يثير الريب لما فيه من دقة.
وأشفق جندي على المسيح الظمآن، فجاء بإسفنجة مغموسة في الخل وقربها من فيه؛ فشرب عيسى وقال: "قد أكمل". وفي الساعة التاسعة - الثالثة بعد الظهر - "نادى يسوع بصوت عظيم... وأسلم الروح". ويضيف لوقا إلى هذا - ويدلِ بقوله على عطف اليهود "وكل الجموع الذين كانوا مجتمعين لهذا المنظر... رجعوا وهم يقرعون صدورهم"(141).
واستطاع اثنان من اليهود لرحماء ذوي النفوذ أن يحصلا على إذن من بيلاطس بإنزال جثة المسيح عن الصليب فأنزلاها وحفظاها بالند والمُر ووارياها التراب.
ترى هل مات حقاً؟ لقد كان اللصان اللذان إلى جانبه لا يزالان على قيد الحياة، ولقد كسر الجنود ساقهما حتى تتحمل أيديهما ثقل جسمهما، فيؤثر ذلك في حركة الدم ويقف القلب بعد قليل. غير أن هذا لم يحدث في حالة عيسى، وإن كان قد قيل إن جندياً طعنه في قلبه بحربة، فانبثق الدم من الجرح أولاً ثم خرج بعده مصل الدم. وأبدى بيلاطس دهشته من أن يموت رجل بعد ست ساعات من صلبه؛ ولم يوافق على أن يُرفع جسد المسيح عن الصليب إلا بعد أن أكد له قائد المائة المكلف به أنه قد مات.
وبعد يومين من هذا الحادث زارت مريم المجدلية - وكان حبها ليسوع تمتزج به تلك النشوة العصبية التي تمتاز بها عواطفها كلها - قبر المسيح مع مريم أم يعقوب وسالومة فوجدته فارغاً. فامتلأت قلوبهن خوفاً وسروراً معاً، وجرين لينقلن ذلك النبأ إلى تلاميذه. وإلتقين في الطريق برجل حسبنه يسوع "فإنحنين احتراماً له، وأمسكن بقدميه. وفي وسعنا أن نتصور الأمل الذي انبعث في النفوس الساذجة من هذا النبأ وما لقيه من ترحيب؛ لقد قهر يسوع الموت وأثبت أنه هو المسيح المنتظر ابن الله، وملأ ذلك النبأ قلوب "أهل الجليل" بنشوة جعلتهم على استعداد لأن يصدقوا أية معجزة وأي وحي. ويرى الرواة أن المسيح ظهر في ذلك اليوم نفسه إلى تلميذين من تلاميذه في الطريق الموصل إلى عمواس، وتحدث إليهم، وأكل معهم، ولكن "أُمسكَت أعينهما عن معرفته" ثم "أخذ خبزاً وبارك وكسر، فانفتحت أعينهما وعرفاه ثم اختفى عنهما"(142). ورجع التلاميذ إلى الجليل فلما "رأوه" بعد قليل "سجدوا له، ولكن بعضهم شكّوا"(143). وبينما كانوا يصطادون السمك رأوا المسيح ينضم إليهم؛ فألقوا شباكهم ولم يستطيعوا أن يجذبوها من كثرة السمك(144).
وجاء في سفر أعمال الرسل أن المسيح صعد بجسمه إلى السماء بعد أربعين يوماً من ظهوره إلى مريم المجدلية. لقد كانت فكرة "انتقال" القدّيس بجسمه وحياته إلى السماء من الأفكار الشائعة المألوفة بين اليهود؛ فقد رووها عن موسى، وأخنوخ، وإليشع وإشعيا. وهكذا اختفى السيد المسيح بنفس الطريقة الخفية التي ظهر فيها. ولكن يبدو أن معظم تلاميذه كانوا يعتقدون مخلصين أنه قد وُجِد معهم بجسمه بعد صلبه. وفي ذلك يقول لوقا: "ورجعوا إلى أورشليم بفرح عظيم، وكانوا كل حين في الهيكل يسبحون ويباركون الله"(145)http://civilizationstory.com/civilization/images/comment.gif .
والى اللقاء فى الباب السابع والعشرون
الرسل
30 - 95 م
الفصل الأول
بطرسhttp://civilizationstory.com/civilization/images/comment.gif
ابو الياسمين والفل
2011-02-08, 05:08 AM
الباب السابع والعشرون
الرسل
30 - 95 م
الفصل الأول
بطرس
نشأت المسيحية من الإيحاء الغامض العجيب الخاص بحلول الملكوت، واستمدت دوافعها من شخصية المسيح نفسه وتخيلاته، كما استمدت قوتها من عقيدة البعث والحساب، والوعد بحياة الخلود، واتخذت صورة العقائد الثابتة في لاهوت بولس، ثم نمت باستيعابها العقائد والطقوس الوثنية؛ وأصبحت كنيسة ظافرة منتصرة، بعد أن ورثت ما امتازت به روما من أنماط وعبقرية منظّمة.
ويبدو أن الرسل كانوا جميعاً يؤمنون بأن المسيح سيعود بعد قليل ليقيم ملكوت السموات على الأرض. أنظر إلى أقوال بطرس في رسالته الأولى: "نهاية كل شيء قد اقتربت فتعقّلوا واصحوا للصلوات"(3) وتقول رسالة يوحنا الأولى: "أيها الأولاد، هي الساعة الأخيرة وكما سمعتم أن ضد المسيح يأتي قد صار الآن أضداد للمسيح كثيرون (نيرون، فسبازيان، دومتيان). من هنا نعلم أنها الساعة الأخيرة"(4). وكان الاعتقاد بنزول مسيح ليطهر الأرض، ويقيم ملكوت الله، ويبعث الناس بأجسامهم، وبعودته إلى الأرض، هو القاعدة الأساسية للدين المسيحي في أوائل عهده. على أن هذه العقائد لم تحل بين الرسل وبين استمرارهم في التمسك بالدين اليهودي. وشاهد ذلك ما جاء في أعمال الرسل: "وكانوا كل يوم يواظبون في الهيكل بنفس واحدة"(5) وأطاعوا قوانين التغذية والحفلات(6)، واقتصروا في أول الأمر على دعوة اليهود وحدهم إلى دينهم، وكثيراً ما كانوا يخطبون فيهم في الهيكل(7).
وكانوا يعتقدون أنهم قد تلقوا عن المسيح أو عن الروح القدس قوى عجيبة من الإلهام، وشفاء الأمراض والأقوال. وأقبل عليهم كثيرون من المرضى والعجزة، ويقول مرقس(8) إن بعضهم شفوا حين مسحوا بالزيت - وكان هذا المسح على الدوام من وسائل العلاج المنتشرة في بلاد الشرق. ويصور مؤلف سفر أعمال الرسل صورة مؤثرة للاشتراكية القائمة على الثقة المتبادلة التي كانت سائدة بين هؤلاء المسيحيين الأولين إذ يقول:
"وكان لجمهور الذين آمنوا قلب واحد ونفس واحدة، ولم يكن أحد يقول إن شيئاً من أمواله له بل كان عندهم كل شيء مشتركاً... لم يكن فيهم أحد محتاجاً لأن كل الذين كانوا أصحاب حقول أو بيوت كانوا يبيعونها ويأتون بأثمان المبيعات ويضعونها عند أرجل الرسل، فكان يوزع كل واحد كما يكون له احتياج"(9).
ولما كثر عدد المهتدين، وكثر ما تحت أيدي الرسل من الأموال عينوا سبعة من شمامسة الكنيسة للإشراف على شئون هذه الجماعة؛ وظل رؤساء اليهود فترة من الزمن لا يعارضون قيام هذه الشيعة لصغرها وانتفاء الأذى من وجودها، فلما تضاعف عدد "الناصريين" (النصارا) في بضع سنين قلائل وقفز عددهم من 120 إلى 8000(10) استولى الرعب على قلب الكهنة، فقُبض على بطرس وغيره وجيء بهم أمام السنهدرين لمحاكمتهم. وكان السنهدرين يريد أن يحكم بإعدامهم، ولكن فريسياً يدعى غمالائيل - أكبر الظن أنه معلم بولس - أشار على المجلس أن يؤجل الحكم؛ ثم وفق بين الرأيين بأن جُلِدَ المقبوض عليهم وأطلق سراحهم. وحدث بعد ذلك بزمن قليل (30م) أن استدعى أحد الشمامسة الذين عينوا للإشراف على جماعة المهتدين واسمه اصطفانوس (أو استيفن) للمثول أمام السنهدرين واتهم بأنه، يتكلم بكلام تجديف على موسى وعلى الله)(11)، فدافع الرجل عن نفسه دفاعاً قوياً غير مبال بما يتهدده من أخطار:
"يا قساة القلوب وغير المختونين بالقلوب والآذان، أنتم دائماً تقاومون الروح القدس، كما كان آباؤكم كذلك أنتم! أي الأنبياء لم يضطهده آباؤكم، وقد قتلوا الذين سبقوا فأنبئوا بمجيء البار الذي أنتم الآن صرتم مُسَلّميه وقاتليه، الذين أخذتم الناموس بترتيب ملائكة ولم تحفظوه"(12) .
وأثار هذا الدفاع القوي غضب السنهدرين فأمر بأن يُجر إلى خارج المدينة ويرجم بالحجارة. وكان شاب فارسي يدعى شاوول يساعد على هذا الهجوم؛ وبعد ذلك صار هذا الشاب ينتقل من بيت إلى بيت في أورشليم ويقبض على أتباع "الكنيسة" ويزجهم في السجن(13).
وفر اليهود المهتدون ذوو الأسماء والثقافة اليونانية الذين يتزعمهم اسطفانوس إلى السامر وإنطاكية وأنشئوا فيها جماعات مسيحية قوية. أما معظم الرسل الذين يبدو أنه سلموا من الاضطهاد لأنهم ظلوا يراعون الناموس، فقد بقوا في أورشليم مع المسيحيين الهوديين. وبينما كان بطرس يحمل الإنجيل إلى البلاد اليهودية صار يعقوب "العادل" "أخو الرب" رئيس الجماعة المقيمة في أورشليم بعد أن قل عددها ونقصت مواردها. وكان يعقوب يبشر بالناموس بكل ما فيه من صرامة، ولم يكن يقل عن الإسينيين تقشفاً وزهداً؛ فلم يكن يأكل اللحم، أو يشرب الخمر، ولم يكن له إلا ثوب واحد، ولم يقص شعره أو يحلق لحيته قط. وظل المسيحيون تحت قيادته سبعة أعوام لا يمسهم أذى. ثم حدث حوالي عام 41 أن قُتل رجل يدعى أنه يعقوب بن زبدي، فقبض على بطرس ولكنه فر. ثم قُتل يعقوب العادل في عام 63. وبعد أربعة أعوام من ذلك الوقت ثار اليهود على روما. وأيقن المسيحيون المقيمون في أورشليم أن "نهاية العالم" قد دنت، فلم يأبهوا بالشؤون السياسية، وخرجوا من المدينة وأقاموا في بلاد الوثنية الضالعة مع روما والقائمة على الضفة البعيدة من نهر الأردن وافترقت اليهودية والمسيحية من تلك الساعو، فاتُّهم اليهود المسيحيين بالخيانة وخور العزيمة، ورحّب المسيحيون بتدمير الهيكل على يد تيطس تحقيقاً لنبوءة المسيح، واتقدت نار الحقد في قلوب أتباع كلا الدينين، وأملت عليهم بعض ما كتبوا من أعظم آدابهم تقى وصلاحاً.
وأخذت المسيحية اليهودية من ذلك الوقت يقل عدد أتباعها وتضعف قوتها وتترك الدين الجديد للعقلية اليونانية تشكله وتصبغه بصبغتها. وأصمت الجليل، التي قضى فيها المسيح كل حياته تقريباً، والتي عفت منها ذكرى المجدلية وغيرها من النساء اللاتي كن من بين أتباعه الأولين، أصمت أذنها عن سماع الوعّاظ الذين جاءوها يدعون أهلها للدخول في دين الناصري ابن الله. ذلك أن اليهود المتعطشين إلى الحرية، والذين كانوا يذكرون كل يوم في صلواتهم أن "الله واحد" لم يستسيغوا فكرة "المسيح" المنتظر الذي لا يأبه بكفاحهم في سبيل الاستقلال، ورأوا أن من العار أن يُقال إن إلهاً قد وُلدَ في كهف أو إسطبل في إحدى قراهم. وظلت المسيحية اليهودية قائمة مدى خمسة قرون بين طائفة قليلة من المسيحيين السريان المسمين بالابيونيم "الفقراء" الذين كانوا يجمعون بين التقشف المسيحي والناموس اليهودي الكامل؛ فلما كان آخر القرن الثاني الميلادي حكمت عليهم الكنيسة المسيحية بالكفر وأخرجتهم من حظيرتها.
وكان الرسل والتلاميذ في هذه الأثناء قد نشروا الإنجيل بين اليهود المشتتين(14) بنوع خاص وهم المنتشرون فيما بين دمشق وروما. فهدا فليب عدداً من أهل السامرة وقيصرية، وأوجد يوحنا جالية مسيحية قوية في إفسوس وأخذ بطرس يعض في مُدن سوريا. وفعل بطرس ما كان يفعله معظم الرسل فإصطحب معه في أثناء تجواله "أختاً" لتكون بمثابة زوجة له ومعينة (15). وبلغ نجاحه في شفاء المرضى حداً أغرى ساحراً يدعى سمعان المجوسي أن يعرض عليه مالاً ليشركه معه في قواه العجيبة. ففي يافا أقام تابيثا وكان يبدو أنها قد ماتت، وفي قيصرية هدى إلى المسيحية قائداً رومانياً على مائة. وجاء في سفر أعمال الرسل أنه رأى رؤيا اقتنع على أثرها أن عليه أن يقبل المهتدين من الوثنيين واليهود على السواء، ثم اقتصر من ذلك الوقت على تعميد المهتدين من غير اليهود بدل أن يعمدهم ويختنهم معاً، وذلك إذا استثنينا بعض حالات طريفة. وفي وسعنا أن نحس بما كان يعمر قلوب هؤلاء المبشرين الأولين من حماسة إذا اطلعنا على رسالة بطرس الأولى:
"بطرس رسول يسوع المسيح إلى المتقربين من شتات بنطس، وغلاطية، وكبدوكية وآسيا، وبيثنية المختارين... لتكثر لكم النعمة والسلام... أيها الأحباء أطلب إليكم كغرباء ونزلاء... أن تكون سيرتكم بين الأمم حسنة لكي... يمجدوا الله في يوم الاتقاد من أجل أعمالكم الحسنة التي يلاحظونها... فاخضعوا لكل ترتيب بشري من أجل الرب... كأحرار وليس كالذين الحرية عندهم سترة للشر... أيها الخدّام كونوا خاضعين بكل هيبة، ليس للصالحين مترفقين فقط بل للعتقاء أيضاً... كذا كن أيتها النساء كن خاضعات لرجالكن حتى وإن كان البعض لا يطيعون الكلمة يربحون بسيرة النساء بدون كلمة ملاحظين سيرتكن الطاهرة بخوف. ولا تكن زينتكن الزينة الخارجية من ضفر الشعر والتحلي بالذهب وليس الثياب، بل... زينة الروح الوديع الهادئ... كذلكم ايها الرجال كونوا ساكنين بحسب الفطنة مع الإناء النسائي كالأضعف معطين إياهن كرامة كالوارثات أيضاً معكم نعمة الحيوة... غير مجازين عن شر بشر... ولكن قبل كل شيء لتكن محبتكم بعضكم لبعضٍ شديدة لأن المحبة تستر كثرة من الخطايا"(16).
ولسنا نعرف متى شق بطرس طريقه إلى روما أو المراحل التي وصل بها إلى تلك المدينة. فأما بجروم (حوالي 390) فيؤرخ وصوله إليها بعام 41م. وقد بقيت الرواية القائلة بأن كانت له اليد الطولى في إنشاء الجالية المسيحية في عاصمة الدولة الرومانية صامدة للنقد(17): ويحدثنا لكتانتيوس Lactantius عن قدوم بطرس إلى روما في عهد نيرون(18)، وأكبر الظن أن الرسول زار روما عدة مرات وكان وهو طليق، وبولس وهو سجين، يبذلان ما وسعهما من جهد ويتنافسان لهداية أهلها حتى استشهد كلاهما في سبيل هذه الغاية، ولعل استشهادهما كان في عام واحد هو عام 64(19). ويروي أرجن أن بطرس "صُلب ورأسه مدلى إلى أسفل، لأنه طلب أن يعذب بهذه الطريقة"(20)، ولعله كان يأمل أن يكون الموت بها أسرع إليه أو (كما يقول المؤمنون) لأنه يرى أنه غير خليق بأن يموت بالطريقة التي مات بها المسيح. وتقول النصوص القديمة إن زوجنه قتلت معه، وإنه أرغم على أن يراها تساق للقتل(21). وتحدد إحدى القصص المتأخرة حلبة نيرون، القائمة في ميدان الفاتكان، موضعاً لمقتله وفي هذا المكان شُيّدت كنيسة القدّيس بطرس، وقيل إنها تضم عظامه.
وما من شك في أن تجواله في آسية الصغرى وروما قد ساعد على الاحتفاظ بكثير من العناصر اليهودية في الدين المسيحي. فقد ورث هذا الدين عنه وعن غيره من الرسل ما في الدين اليهودي من توحيد، وتزمّت، واعتقاد في البعث والنشور؛ وهذه الرحلات ورحلات بولس هي التي جعلت العهد القديم الكتاب المقدّس الوحيد الذي عرفته المسيحية في القرن الأول، وظلت المجامع اليهودية أهم الأماكن التي تُبَث فيها الدعوة المسيحية كما ظل اليهود أهم الجماعات التي تُبَث بينهم هذه الدعوة حتى عام 70م. ولهذا انتقلت إلى الطقوس المسيحية أشكال العبادات العبرانية واحتفالاتها وملابسها. وتسامى حمل بسكال فصار هو حمل الله المكفّر عن الخطايا في القداس الكاثوليكي. كذلك أخذت المسيحية عن أساليب اليهود في إدارة المجامع تنصيب جماعة من الكبراء (برزبتيري أي قساوسة) لتولي شئون الكنائس. وقبلت المسيحية فيها كثيراً من الأعياد اليهودية كعيد الفصح وعيد العنصرة، وإن كانت قد غيرت أشكالها وتواريخها. وقد ساعد تشتت اليهود في أقطار العالم على انتشار المسيحية، وكان مما مهّد السبيل لهذا الانتشار كثرة انتقال اليهود من مدينة إلى مدينة، والصِلات القائمة بينهم في جميع أنحاء أوربا، وتجارتهم الواسعة، والطرق الرومانية المعبدة، والسلم الرومانية. وكانت المسيحية حسب تعاليم المسيح وبطرس يهودية، ثم أصبحت في تعاليم بولس نصف يونانية، وأضحت في المذهب الكاثوليكي نصف رومانية، ثم عاد إليها العنصر اليهودي والقوة اليهودية حين دخلها المذهب البروتستنتي.
والى اللقاء فى الفصل الثاني
بولس
1- المضطهد
التوحيد
2011-02-10, 11:49 PM
السلام عليكم
أريد الحصول على الكتاب, ممكن توفره لي اخي الكريم
ابو الياسمين والفل
2011-02-14, 04:44 AM
الفصل الثاني
بولس
1- المضطهد
وُلِد واضع اللاهوت المسيحي في طرسوس من أعمال كليكيا حوالي السنة العاشرة من التاريخ الميلادي. وكان أبوه من الفريسيين، ونشأ إبنه على مبادئ هذه الشيعة الدينية المتحمسة، وظل رسول الأمم طوال حياته يعد نفسه فريسياً حتى بعد أن نبذ الشريعة اليهودية. كذلك كان والده مواطناً رومانيّاً، أورث إبنه هذا الحق الثمين. وأكبر الظن إن اسم بولص كان هو اللفظ اليوناني المرادف للاسم العبري شاول، ولهذا ظل الاسمان يطلقان على خذا الرسول منذ طفولته(22)، ولم يتعلم تعليماً راقياً ولم يدرس الكتب اليونانية لأن الفريسيين على بكرة أبيهم لم يكونوا يسمحون بأن يتأدب أبناؤهم بهذا الأدب اليوناني الخالص، ولو أن كاتب الرسائل درس اليونانية لما كتبها بهذا الأسلوب اليوناني الركيك. على أنه عرف كيف يتحدث بهذه اللغة بطلاقة تمكّنه من أن يخاطب بها المستمعين له من الأثينيين، وأن يشير أحياناً إلى بعض الفقرات المنشورة في الأدب اليوناني. ومن حقنا أن نعتقد أن بعض المبادئ الدينية والأخلاقية للرواقية انتقلت من البيئة المدرسية في طرسوس إلى مسيحية بولس. فهو يستعمل اللفظ الرواقي نيوما (Uenma) أي النفس للدلالة على المعنى الذي يستعمل فيه مترجموه الإنجليز لفظ Spirit (الروح). وكان طرسوس كما كان في معظم المُدن اليونانية أتباع للأرفية. وغيرها من العقائد الخفية، يعتقدون أن الله الذي يعبدونه قد قام من أجلهم، ثم قام من قبره، وإنه إذا دعي بإيمان حق، وصحب الدعاء الطقوس الصحيحة استجاب لهم وأنجاهم من الجحيم، وأشركهم معه في موهبة الحياة الخالدة المباركة(23). وهذه الأديان الغامضة الخفية هي التي أعدّت اليونان لاستقبال بولص وأعدّت بولس لدعوة اليونان.
وبعد أن تعلم الشاب حرفة صنع الخيام، وتلقى العلم في المجمع الديني القائم في المدينة، أرسله أبوه إلى أورشليم وهناك كما يقول بولس نفسه: "تعلم عند قدمي غمالائيل على طريقة الناموس الدقيقة"(24). وكان المشهور عن غمالائيل أنه حفيد هلل، وقد خلفه في رياسة السنهدرين، وواصل السنة القديمة سنّة تفسير الناموس تفسيراً ليّناً راعى فيه ضعف النفس البشرية. غير أن الفريسيين الذين كانوا أكثر منه تزمتاً هالهم أن يجدوه ينظر نظرة ال'عجاب والتقدير للنساء الوثنيات أنفسهن(25). وقد بلغ من علمه أن اليهود، الذين يجلّون العلماء أعظم الإجلال أطلقوا عليه اسم "جمال الناموس"، ولقّبوه بما لم يُلقّب به إلا ستة رجال من بعده وهو "الربان" أي سيدنا. واتخذ بولس عنه وعن غيره تلك الطريقة الحصيفة، والجدلية السفسطائية في بعض الأحيان، في تفسير الكتاب المقدس، وهي التي وضحت في التلمود. وقد بقي بولس إلى آخر أيامه يهودياً في عقله وخُلُقِه على الرغم من تعلمه أوليات الهلنية، ولم ينطق بكلمة يُشتَم منها أنه يشك في شرائع موسى موحى بها من عند الله، وظل يعتقد في عزة وفخار كما يعتقد اليهود أن اختيار الله وحده هو طريق النجاة. في صورة تُعَد من أروع آيات الفن في العالم كله؛ ولكن الحقيقة أن هذه الصور التي تُمثّله أدب وفن لا تاريخ.
أما عقله فكان من طراز شائع كثيراً بين اليهود: كان فيه من نفاذ البصيرة وشدة الانفعال أكثر مما فيه من الدماثة والظرف؛ وكان فيه من الإحساس القوي والخيال أكثر مما فيه من نزاهة الحكم والنظرة الموضوعية إلى الأشياء، وكان قوياً في العمل لأنه كان ضيق التفكير. وكان رجلاً "أسكرته النشوة الإلهية" أكثر مما أسكرت اسبنوزا نفسه، يلتهب صدره بالحماسة الدينية بالمعنى الحرفي للفظ الالتهاب - لقد كان صدره ينطوي "في داخله على الإله" نفسه.
وكان يعتقد أنه ملهم موحى إليه قادر على فعل المعجزات. وكان إلى هذا ذا طبيعة عملية، قادراً على الجد والتنظيم، صبوراً إلى أقصى حد في تأسيس العشيرة المسيحية والمحافظة عليها. وكانت عيوبه وفضائله شديدة الصلة بعضها ببعض لا غنى لكلتيهما عن الأخرى شأنه في هذا شأن الكثيرين من الرجال. فقد كان شجاعاً مندفعاً، متعسّفاً حاسماً في أحكامه، مسيطراً مجدّاً، متعصّباً مبتدعاً، فخوراً أمام الناس متواضعاً لله، عنيفاً في غضبه قادراً على أن يستشعر أرق الحب والرحمة، يشير على أتباعه على أن يباركوا من يظطهدونهم، ولكنه يتمنى لأعدائه الذين يختنون أن "يقطّعوا أيضاً"(28). وكان يدرك أسباب ضعفه، ويحاول الخلاص منها، ويقول لمن هداهم "ليتكم تحتملون غباوتي قليلاً"(29). وتلخص الحاشية التي كتبت على رسالته الأولى لأهل كورنثوس أخلاقه حين تقول: "السلام بيدي أنا بولس، إن كان أحد لا يحب الرب يسوع المسيح فليكن أنا ثيما! ماران أثا! نعمة الرب يسوع المسيح معكم، محبتي مع جميعكم". لقد كان الرجل ما لابد أن يكون لكي يستطيع أن يفعل ما فعل. وبدأ بمهاجمة المسيحية دفاعاً عن اليهودية، وانتهى بنبذ اليهودية دفاعاً عن المسيح، وكان في كل لحظة من لحظاته داعياً ورسولاً. فلما هاله احتقار اصطفانوس
وهو يصف نفسه بقوله: "في الحضارة ذليل بينكم"(26) ويزيد على ذلك: "ولئلا أرتفع بفرط الإعلانات أعطيت شوكة في الجسد ملاك الشيطان ليلطمني لئلا أرتفع"(27). ولا يزيد في وصف نفسه على هذا. وتصوره الروايات المأثورة وهو في سن الخمسين رجلاً زاهداً متقشفاً مقوّس الجسم، أصلع الرأس، ملتحياً عريض الجبهة، أصفر الوجه صارمه، نفّاذ العينين. وعلى هذا النحو تخيله درورللناموس انضم إلى قتلته، وتزعم الاضطهاد الأول للمسيحيين في أورشليم، ولما سمع أن الدين الجديد أصبح له في دمشق أتباع كثيرون "تقدم إلى رئيس الكهنة وطلب منه رسائل إلى دمشق إلى الجماعات حتى إذا وجد أُناساً من الطريق رجالاً أو نساء يسوقهم موثقين إلى أورشليم" (31م)(30). ولربما كان تحمسه لاضطهادهم ناشئاً من شكوك خفية سرت وقتئذ في نفسه؛ وكان في مقدوره أن يقو، ولكن هذه القسوة لم تكن من النوع الذي لا يعقبه ندم. ولعل منظر اصطفانوس وهو يُرجم بالحجارة حتى يموت، ولعل لمحات من ذكريات الشباب - ذكريات صلب المسيح - كانت تعود إلى خياله فتضطرب بها ذاكرته وتثقل عليه في سفره، وتهيّج خياله. ولما اقتربت جماعته من دمشق، كما جاء في سفر أعمال الرسل:
"فبغتة ابرق حوله نور من السماء، فسقط على الأرض وسمع صوتاً قائلاً له شاول، شاول، لماذا تضطهدني؟ فقال من أنت يا سيد؟ فقال الرب أنا يسوع الذي أنت تضطهده... وأما الرجال المسافرون معه فوقفوا صامتين يسمعون الصوت ولا ينظرون أحداً. فنعض شاول من الأرض وكان وهو مفتوح العينين لا يُبصر أحداً، فاقتادوه بيده وأدخله إلى دمشق وبقي ثلاثة أيام لا يُبصر. وليس في وسع أحد أن يعرف العوامل التي أحدثت هذه التجربة وما أعقبها من انقلاب أساسي في طبيعة الرجل. ولعل ما قاساه من التعب في سفره الشاق الطويل في شمس الصحراء اللفحة، أو لعل ومضة برق في السماء ناشئة من شدة الحرارة، لعل شيئاً من هذا أو ذاك كله قد أثّر في جسم ضعيف رُبّما كان مصاباً بالصرع، وفي عقل يعذبه الشك والإجرام، فدفع بالعملية التي كانت تجري في عقله الباطن إلى غايتها، وأصبح ذلك المفكر الشديد الانفعال أقدر الداعين إلى مسيح اصطفانوس. وكان الجو اليوناني الذي يحيط به في طرسوس يتحدّث عن منقذ ينتشل البشرية؛ كما كانت علوم بني جنسه من اليهود تتحدّث عن حياة (مسيح) منتظر، ولمَ لا يكون يسوع صاحب الشخصية العجيبة الغامضة الفتانة، الذي لا يتردد الناس في استقبال الموت من أجله، هو ذلك المسيح المنتظر؟ فلما أحسّ في آخر سفره وهو لا يزال ضعيفاً وأعمى بيدي يهودي مهتدٍ، رحيمتين، تلمسان وجهه وتسكنان ألمه "فللوقت وقع من عينيه شيء كأنه قشور، فابصر في الحال وقام واعتمد، وتناول طعاماً فتقوى"(22). وبعد بضعة أيام من ذلك الوقت دخل مجامع دمشق وقال للمجتمعين فيها إن عيسى ابن الله.
2- المبشر
وأصدر حاكم دمشق، بإيعاز اليهود الذين ساءهم ما فعل بولس، أمراً بالقبض عليه، فما كان من أصدقائه الجدد إلا أن أنزلوه في سلة من فوق أسوار المدينة. ويقول هو إنه ظل ثلاثة أيام يدعو إلى المسيح في قرى بلاد العرب، ولما عاد إلى أورشليم عفا عنه بطرس، واتخذه صديقاً له، وعاش معه فترة من الزمان. وكان معظم الرسل يرتابون فيه، ولكن برنابا، وهو مهتدٍ حديث، رحب به وقدّم له كثيراً من المعونة، وأقنع كنيسة أورشليم أن تحمل مضطهدها القديم بشرى مجيء المسيح الذي سيقيم عما قريب ملكوت الله. وحاول اليهود، الذين يتكلمون اللغة اليونانية والذي جاءهم بالإنجيل، أن يقتلوه، ولعل الرسل خشوا أن تعرضهم حماسته الشديدة للخطر فأرسلوه إلى طرطوس.
وظل في مسقط رأسه ثماني سنين لا يعرف عنه التاريخ شيئاً. ولعله شعر مرة أخرى بأثر التصوّف الديني المنتشر بين اليونان وما في من تبشير بمجيء المنقذ. ثم أقبل عليه برنابا وطلب إليه أن يساعده على خدمة الدين في إنطاكية. وأخذ الرجلان يعملان معاً (43 - 44 ؟) فهديا كثيراً من الناس، فلم تلبث إنطاكية أن فاقت سائر المُدن في عدد مَن بها من المسيحيين. وفيها أطلق الوثنيون إلى "المؤمنين"، أو "التلاميذ" أو "القدّيسين" كما كانوا يسمون أنفسهم اسم الكرستيانوي أي أتباع المسيح أي الإنسان الممسوح. وهنا أيضاً انضمت "الأمم" أي غير اليهودي إلى الدين الجديد. وكان معظم هؤلاء ممن "يخشون الله" وكانت كثرتهم من النساء اللاتي آمنّ ببعض طقوس اليهودية وبما فيها من دعوة إلى الوحدانية.
ولم يكن الاخوة في إنطاكية فقراء كأمثالهم في أورشليم، فقد كانت فيهم أقلية لا بأس بها من طبقة التجّار، فاندفعوا بقوة هذه الحركة الفتية الناشئة إلى جمع قدر من المال ليستعينوا به على نشر الإنجيل، "فوضع" رؤساء الكنيسة "أيديهم" على برنابا وبولس وبعثوهما فيما يسميه التاريخ "رحلة القدّيس بولس التبشيرية الأولى" (45 - 47 ؟) وهي تسمية تستخف بشأن برنابا. وأبحر الرجلان إلى قبرص، ولقيا نجاحاً مشجعاً بين اليهود الكثيرين المقيمين في تلك الجزيرة. ثم ركبا السفينة من يافوس إلى برجا في بمفيلية واجتازا طرقاً جبلية وعرة تعرضا فيها للخطر حتى وصلا إلى إنطاكية في بسيديا Pisidia. واستمع إليهما الكنيس ورحب بهما فلما بدأ يعظان "الأمم" كما يعظان اليهود غضب عليهما اليهود المتمسكون بدينهم وحملوا موظفي البلدية على إخراج المبشرين من المدينة. ونشأت هذه الصعاب نفسها في إقونيوم Icobium، ورجم بولس في لسترا بالحجارة وجر علو وجهه إلى خارج المدينة، وتركا في العراء ظناً من أعدائه أنه مات. بيد أن قلبي بولس وبرنابا كانا لا يزالان يفيضان غبطة بروح القدس فحملا الإنجيل إلى دربي Derbe ثم عادا بالطريق نفسه إلى برجا وأبحرا منها إلى إنطاكية السوريّة، وفيها واجهتهما أعقد مشكلة في تاريخ المسيحية ذلك أن بعض التابعين الممتازين في دمشق سمعوا أن المبشرين كانا يقبلان المهتدين من "الأمم" دون أن يحتما عليهم الختان، فجاءوا إلى إنطاكية "يعلمون الاخوة أنه إن لم تختتنوا حسب عادة موسى لا يمكنكم أن تخلصوا"(23). ولم يكن الختان عند اليهودي من الطقوس التي توجبها صحة الجسم، بقدر ما كان رمزاً مقدساً لعهده القديم الذي عاهد عليه الله، ولهذا روع اليهودي المسيحي حين فكر في نكث ذلك العهد. وأدرك بولس وبرنابا أنه إذا نال هؤلاء المبعوثون بغيتهم فإن المسيحية لن يقبلها إلا عدد قليل من غير اليهود، وأنها ستبقى "بدعة يهودية" (كما سماها هينى فيما بعد) لا تلبث أن تزول بعد قرن من الزمان. ومن أجل هذا سافرا إلى أورشليم (50؟) وعرضا المسألة على بساط البحث مع سائر الرسل، وكانوا كلهم تقريباً لا يزالون يتعبدون مخلصين في الهيكل. فأما يعقوب فقد تردد كثيراً في قبول رأيهما، وأما بطرس فقد دافع عن المبشرين؛ واتفق الجميع آخر الأمر على ألا يُطلب إلى المهتدين الوثنيين أكثر من أن يقلعوا عن الزنى، وعن أكل المخنوقة والدم وما ذبح على النصب(34). ويبدو أن بولس يسر الأمر بأن وعد العشيرة المسيحية المعدمة في دمشق بشيء من المال المطرد الزيادة في كنيسة إنطاكية(35).
ولكن هذه النتيجة كان لها من الخطر ما يحول دون البت فيها بهذه السهولة. فقد جاءت من أورشليم إلى إنطاكية طائفة أخرى من المسيحيين اليهود مستمسكين بدينهم، ورأت بطرس يأكل مع الكفرة وأقنعته بأن ينفصل هو واليهود الذين اعتنقوا المسيحية عن المهتدين غير المختتنين، ولسنا نعرف رأي بطرس في هذه المسألة، ولكن بولس يخبرنا أنه "قاوم بطرس مواجهة" في إنطاكية(36)، واتهمه بالرياء؛ ولعل بطرس لم يرغب، كما لم يرغب بولس، في أكثر من أن تكون "كل الأشياء لكل الناس".
والراجح أن بولس قام برحلته التبشيرية الثانية في عام 50 من التاريخ الميلادي. وكان قد اختلف مع برنابا الذي اختفى وقتئذ في موطنه بجزيرة قبرص ولم يعد له ذكر في التاريخ. وعاد بولس يزور مرة أخرى بني ملته في آسية الصغرى، وضم إليه في لسترا تلميذا يدعى تيموثاوس أحبه. من كل قلبه الذي ظل منذ زمن طويل متعطشاً إلى مَن يحب. وسافرا معاً واجتازا فريجيا وغلاطية حتى وصلا شمالاً إلى إسكندرية ترواس؛ وفيها تعرف بولس بلوقا وهو ممن اعتنقوا اليهودية من غير المختتنين؛ وكان لوقا رجلاً طيب القلب كبير العقل وهو في أكبر الظن صاحب الإنجيل الثالث وسفر أعمال الرسل - وهما السفران اللذان خففا من حدة النزاع الذي إمتاز به تاريخ المسيحية منذ بدايته. ثم أبحر بولس وتيموثاوس ومساعد آخر يدعى سيلاس من ترواس إلى مقدونية، ووطأت أقدامهم لأول مرة أرضاً أوربية. فلما وصلا إلى فلبي، وهي المكان الذي هزما فيه انطونيوس بروتس قبض عليهما بتهمة تكدير السلام، وجلدا، وزجا في السجن، ثم أطلق سراحهما حين عرف أنهما مواطنان رومانيان. وانتقلا من فلبي إلى تسالو###ي (سالو###)، وفيها دخل بولس المجمع وظل ثلاثة أسبات يخطب في اليهود، فآمن بدعوته عدد قليل منهم، وأسسوا فيها كنيسة لهم، وأثار غيرهم أهل المدينة عليه واتهموه بأنه يدعو لملك جديد، واضطر أصدقاؤه أن يخرجوه خلسة إلى بيرية في أثناء الليل. وهناك تقبل اليهود الدعوة بقبول حسن، ولكن أهل تسالو###ي جاءوا يتهمون بولس بأنه عدو لليهودية، فأقلع منها إلى أثينة على ظهر سفينة (51؟) وحيداً كسير القلب كاسف البال.
وهنا في قلب الديانة الوثنية وعلومها وفلسفتها ألقى نفسه بلا صديق، ولم يكن في هذا البلد إلا عدد قليل من اليهود الذين يستمعون إلى مواعظه. وكان عليه أن يقف بين الناس في السوق العامة كما يفعل أي خطيب حديث يريد أن يتحدث إلى الجماهير، وينافس عشرات الخطباء في إيصال دعوته إلى آذان المارة. وكان بعض مَن يستمعون إليه يناقشونه فيما يقول وبعضهم الآخر يسخرون منه ويسألون: "ترى ماذا يريد هذا المهذار أن يقول؟"(37). وأظهر عدد من الناس اهتماماً بقوله، وأخذوه إلى الأريوبجس أو أكمة المريخ ليجد مكاناً أهدأ من السوق العامة يسمع الناس فيه صوته. وقال لهم إنه رأى في أثينة مذبحاً نُقش عليه "لإله مجهول" وأكبر الظن أن هذا النقش كان يعبر عن رغبة من نقوشه في التسبيح بحمد إله لا يعرفون اسمه على وجه التحقيق، أو في استرضاء هذا الإله أو طلب معونته، ولكن بولس فسره بأنه اعتراف منهم بجهلهم كنه الله، ثم أضاف إلى ذلك هذه الأقوال البليغة. "فالذي تتقونه وأنتم تجهلونه، هذا أنا أنادي لكم به، الإله الذي خلق العالم وكل ما فيه، هذا إذاً هو رب السماء والأرض لا يسكن في هياكل مصنوعة بالأيادي... هو يعطي الجميع حياة ونفساً وكل شيء... وصنع من دم واحد كل أمة من الناس... لكي يطلبوا الله لعلهم يتلمسونه فيجدونه مع أنه عن كل واحد منا ليس بعيداً لأننا به نحيا ونتحرك ونوجد؛ كما قال بعض شعرائكم أيضاً . لأننا أيضاً ذريته، فإذاً نحن ذرية الله لا ينبغي أن نظن أن اللاهوت شبيه بذهب أو فضة أو حجر نقش صناعة واختراع إنسان. فالله الآن يأمر جميع الناس في كل مكان أن يتوبوا متغاضياً عن أزمنة الجهل، لأنه أقام يوماً هو فيه مزمع أن يدين المسكونة بالعدل برجل قد عينه مقدماً للجميع إيماناً إذ أقامه من الأموات"(38).
ولقد كانت جرأة منه أن يحاول التوفيق بين المسيحية والفلسفة اليونانية ومع هذا فإنه لم يتأثر بهذه المحاولة إلا عدد قليل؛ ذلك أن ما سمعه الأثينيون من الآراء قبل ذلك الوقت قد بلغ من الكثرة ما يحول بينهم وبين التحمس لما يلقى إليهم أياً كان شأنه. وغادر بولس المدينة يائساً ذهب إلى كورنثة، وكانت التجارة قد جمعت فيها جالية كبيرة من اليهود: وأقام في هذه المدينة ثمانية عشر شهراً (51 - 52 ؟م) يكسب فيها قوته بصنع الخيام ويخطب كل سبت في كنيستها: وأفلح في هداية رئيس الكنيس، وعدد غيره من الأفراد بلغ من الكثرة حداً ارتاع له اليهود فاتهموا بولس أمام غاليون Galieo الحاكم الروماني بأنه يستميل "الناس على أن يعبدوا الله بخلاف الناموس". فأجابهم غاليون بقوله: "إذا كان مسألة عن كلمة وأسماء، وناموسكم، فتبصرون أنتم، لأني لست أشاء أن أكون قاضياً لهذه الأمور"، ثم طردهم من المحكمة. وأخذت الطائفتان تتضاربان "ولكن لم يهم غاليون شيء من ذلك"(39). وعرض بولس الإنجيل على غير اليهود من أهل كورنثة ودخل كثيرون منهم في دينه، ولعل المسيحية قد بدت لهم أنها صورة أخرى من الأديان الخفية، التي طالما حدثتهم عن المنقذين الذين يبعثون بعد موتهم، ولعلهم حين قبلوها قد مزجوها بتلك العقائد القديمة، وأثروا في بولس فجعلوه يفسر المسيحية تفسيراً يألفه العقل الهلنستي.
ثم انتقل بولس من كورنثة إلى أورشليم (53 ؟) ليسلم على الاخوة. ولكنه لم يلبث إلا قليلاً حتى بدأ سفرته التبشيرية الثالثة، وزار فيها الجاليات المسيحية في إنطاكية وآسية الصغرى، وبعث فيهم القوة والعزيمة بحماسته وثقته. وقضى في إفسوس عامين، وأتى فيها بأمثال عجيبة جعلت كثيرين من الناس يعتقدون أنه صانع معجزات، وحاولوا أن يشفوا مرضاهم بلمس الأثواب التي لبسها، ووجد صانعوا التماثيل التي كان عابدو الأوثان يضعونها في هيكل أرطيس أن تجارتهم كسدت، ولعل بولس قد أعاد هنا ما أعلنه في أثينة من تشهير بعبادي الصور أو الوثنيين. وقام رجل يدعى دمتريوس ممن كانوا يصنعون نماذج من فضة للضريح العظيم ليتبرك بها الحجاج الصالحون، قام هذا الرجل بتنظيم مظاهرة احتجاج على بولس والدين الجديد، وسار على رأس جماعة من اليونان إلى ملهى المدينة وظلوا ساعتين كاملتين ينادون "عظيمة هي أرطيس الإفسيسيين!" وأفلح أحد موظفي المدينة في تفريق هذا المجمع الحاشد، ولكن بولس رأى من الحكمة أن يغادرها إلى مقدونية.
وقضى بضعة أشهر سعيداً وسط الجماعات التي أوجدها في فلبي، وتسالو###ي وبيريه. ولما سمع أن الانشقاق والفساد أخذا يفتــــّان في عضد الاخوة في كورنثة لم يكتفِ بلومهم الشديد في عدة رسائل بعث بها إليهم، بل انتقل إليهم بنفسه (56؟) ليواجه مَن كانوا يذمونه ويفترون عليه. وكانوا قد ادعوا أنه يستفيد مادياً من عِظاته، ويسخرون من الرؤى التي كان يحدثهم عنها، وطلبوا من جديد أن يتمسك المسيحيون جميعاً بالشريعة اليهودية، فأخذ بولس يذكر الاخوة الثائرين أنه كان حيث ما حل يكسب قوته بعمل يديه، وأما الكسب المادي فقد سألهم هل يعرفون ما عاد عليه من أسفاره - لقد جلد سبع مرات، ورجم مرة، وتحطمت به السفينة ثلاث مرات، وتعرض لمئات الأخطار من اللصوص، والوطنيين المتحمسين، والغرق في الأنهار(40). وترامى إليه وهو في هذه المحنة أن "جماعة مختتنين" قد نقضوا، على ما يبدو، اتفاق أورشليم وذهبوا إلى غلاطية وطلبوا إلى جميع المهتدين أ، يطيعوا الشريعة اليهودية إطاعة كاملة. فما كان منه إلا أن كتب إلى أهل غلاطية رسالة تفيض بالغظب، إنفصل بها نهائياً عن المسيحيين المتهودين، بل وأعلن فيها أن الناس لا ينجون لاستمساكهم بشريعة موسى بل بإيمانهم القوي الفعال بالمسيح المنقذ إبن الله. ثم سافر إلى أورشليم، وهو لا يعلم ماذا ينتظره فيها من محن وبلايا أشد، ليدافع عن نفسه أمام الرسل، وليحتفل في المدينة المقدسة بعيد العنصرة القديم. وكان يرجو أن يسافر من أورشليم إلى روما، وإلى أسبانيا نفسها، ولا يستريح حتى تسمع كل ولاية من ولايات الإمبراطوريّة بأخبار المسيح الذي قام بين الموتى وبما وعد به أتباعه الصالحين.
والى اللقاء فى
3- العالم الديني
ابو الياسمين والفل
2011-02-14, 05:24 AM
السلام عليكم
أريد الحصول على الكتاب, ممكن توفره لي اخي الكريم
من عينى خذ هذا الرابط والله يسهل لك
http://civilizationstory.com/civilization/
Powered by vBulletin® Version 4.2.0 Copyright © 2024 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved, TranZ by Almuhajir