ابن النعمان
2011-02-19, 11:01 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
مظاهر اليسر و السماحة في الاسلام والاستفادة منها
يقول الاستاذ الدكتور وهبة بن مصطفى الزحيلي فى كتابه (وسطية الإسلام وسماحته) : ومظاهر اليسر والسماحة وآلياته كثيرة في أصول الشريعة ، لا بد من ملاحظتها والانطلاق منها في الدعوة الخيرة الشاملة إلى الإسلام ، وأهمها ما يأتي:
1- الاستفادة من الجسور المشتركة بين الأديان:
الجسور المشتركة بين الإسلام وما سبقه من الأديان كثيرة وغنية ، يمكن الانطلاق منها في شرعنا والتحاكم إليها للتوصل إلى ما يبرز سماحة الإسلام وسموه في الدعوة إلى وحدة الصف ، والوقوف أمام التيارات الإلحادية أو العلمانية أو المادية أو غيرها من نزعات الفلسفة الوضعية ، فيكون الخطاب الديني لهؤلاء أقوى وأنفذ وأحكم .
فالأديان الثلاثة " الإسلام واليهودية والمسيحية " تؤمن بالذات الإلهية ، وبرسالة الرسل الكرام ، وبالكتب السماوية ، وبالملائكة الأطهار ، وباليوم الآخر يوم الثواب والحساب .
والوصايا الأخلاقية العشر مقررة في هذه الأديان: لا تزن ، ولا تسرق ، لا تقتل نفسا ، لا تكذب . . . إلخ . ومنهج الحرام والحلال في الأحكام واحد ، للدلالة على وجود النظام الديني القائم على تحقيق وإشاعة نزعة الخير والمصلحة ، ومقاومة نزعة الشر والمفسدة .
والرسالة القرآنية الخاتمة تصرح بمهمة تصديق القرآن الكريم لما سبقه في آيات كثيرة منها: { الم }{ الله لا إله إلا هو الحي القيوم }{ نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل }{ من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام } [ آل عمران: 1 - 4 ] .
ولكن تظل للقرآن الهيمنة على ما تقدمه من الشرائع ، لمصلحة البشرية جمعاء ، في تشريع الأفضل والأحكم والأخلد ، ولتصحيح ما وقع فيه أتباع الديانتين السابقتين من أخطاء وانحرافات وتأويلات وتحريفات ، فقال الله تعالى: { وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة } [ المائدة: 48 ] .
والأديان في أصولها الصحيحة ودعوتها إلى الإيمان الحق والعدل والخير واحدة ، والاختلاف إنما هو في الفروع والجزئيات مراعاة لتقدم العقل البشري وتطور الإنسانية ، بشرط وحدة الاعتقاد ، وصحة الإيمان ، وما أحكم وأدق هذا الإخبار والتعبير القرآني وهو قول الله (: { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب } [ الشورى: 13 ] .
وتنحصر علاقة المسلمين بغيرهم في ضوء هذا المفهوم في شطرين:
الأول : الإقرار والتصديق بكل ما صح نزوله على الأنبياء والرسل السابقين من الصحف والكتب الإلهية .
الثاني : تصحيح ما وقعت فيه الكتب الحالية المتداولة من انحراف عن وحدة الهدي الإلهي في العقيدة والنظام التشريعي .
2- كون التكاليف بقدر الاستطاعة:
من أبرز خصائص الإسلام: قلة تكاليفه في العبادات وغيرها ، فدائرة المباح فيه أوسع بكثير من دائرة الحرام ، ومنها جعل التكليف بحسب الوسع والطاقة ، أو القدرة والاستطاعة لينسجم الإنسان مع التكاليف الإلهية بيسر وسهولة ، ويبادر إلى أدائها وتطبيقها بصفة دائمة دون مشقة ولا إحراج ، وأساس ذلك قول الله سبحانه: { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } [ البقرة: 286 ] .
وكذلك ما نجده في السنة النبوية من وصايا وتوجيهات تزجر الناس عن المغالاة في العبادة ، والامتناع من الطيبات ، منها: « يا أيها الناس ، خذوا من الأعمال ما تطيقون ، فإن الله لا يمل حتى تملوا ، وإن أحب الأعمال إلى الله ما دام وإن قل » (1) ، « إن هذا الدين متين ، فأوغل فيه برفق ، فإن المنبت لا أرضا قطع ، ولا ظهرا أبقى » (2) أي إن المنقطع عن الرفقة لا يقطع المسافة ، ويهلك دابته التي أرهقها .
« هلك المتنطعون » (3) أي المتعمقون المتشددون في غير موضع الشدة . كل هذا يرشدنا إلى أن الإسلام يلتزم في تشريعه مبدأ الاقتصاد في الطاعات والاعتدال في القربات .
3- نبذ التعصب الديني والمذهبي:
_________
(1) أخرجه مالك والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن عائشة رضي الله عنها .
(2) أخرجه البزار عن جابر رضي الله عنه ، وهو ضعيف بهذا اللفظ ، واللفظ الصحيح ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن أنس رضي الله عنه: « إن هذا الدين متين ، فأوغلوا فيه برفق» .
(3) أخرجه أحمد في مسنده ، ومسلم وأبو داود عن ابن مسعود رضي الله عنه .
اقتضت حكمة الله جل جلاله أن يوجد الاختلاف بين الناس في الملل والنحل والمذاهب والاعتقادات والأديان لمعرفة الحق من الباطل ، ولإقرار الحرية وترك الاختيار والإرادة للإنسان ، ولإظهار مدى جهاد أو مجاهدة الإنسان نفسه ، وإبراز دوره في التمييز ، وإعمال عقله وفكره وقناعته في اعتقاده وتفضيله الدين الحق ، وإيثاره الرأي السديد والصائب . قال الله تعالى: { ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين }{ وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون } [ يونس: 99 - 100 ] .
وهذا دليل واضح على ضرورة التسامح في التعامل والنظرة السامية إلى واقع الناس ، وترك الاعتراض عليهم إلا في حدود الدعوة الهادئة والمنطقية إلى الله - تعالى - وقرآنه عن بينة ورشد وقناعة .
وهو دليل أيضا على ترك التعصب الديني الكريه ، والترفع عن الأحقاد ، لأن الإنسان لا يصح له أن يتجاوز السنن الإلهية ، وعليه أن يرضى بما رضي الله تعالى ، فليس للداعية التسرع بتكفير الآخرين ، لأنه سلوك منفر ومبعد ، كما ليس لأي مسلم إيذاء مشاعر الآخرين أو الاستعلاء عليهم ، أو احتقارهم أو محاولة الاعتداء عليهم أو التنكيل بهم ، حتى مع أشد الناس كفرا وهم المشركون الوثنيون ، لقوله تعالى: { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم } [ الأنعام: 108 ] أي إن سب الآلهة الباطلة أمام أتباعها مدعاة لسب الإله الحق ، فيمنع ذلك سدا للذرائع .
4- منع الإكراه في الدين:
الحرية الاعتقادية متروكة لكل إنسان في شرعة القرآن ، لا بمعنى إقرار الضالين والكافرين على كفرهم ، وإنما بمعنى ترك كل محاولات الإكراه أو الإجبار على تغيير المعتقد أو الدين أو المذهب ، لأن ذلك لا ينفع ولا يفيد شيئا ، فإنه سرعان ما يزول ظرف الإكراه يعود الإنسان إلى ما كان عليه ، ولأن توفير سبل الهداية وأسباب الانشراح للإسلام بيد الله تعالى .
وهذا ما قرره القرآن الكريم صراحة في قوله تعالى: { لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم } [ البقرة: 256 ] والآية محكمة باقية على مفهومها ، وتقرر شرعا دائما كما صرح بذلك أغلب المفسرين (1)
ويؤكد ذلك آية أخرى في معناها: { فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } . . . [ الكهف: 29 ] وليس هذا بمعنى التخيير ، وإنما هو تهديد ولوم بعد ظهور الأدلة الواضحة والقاطعة على أحقية الإسلام بالاتباع ، ومع ذلك فإن المصلحة في هذا التهديد إنما هي للإنسان ، ولكن دون مصادمة حريته .
هذا . . ولم يثبت في تاريخ الإسلام أن المسلمين مارسوا الإكراه على الدين مع غير المسلمين ، كما صرح أرنولد في كتابه " الدعوة إلى الإسلام " .
5- مقاومة كل أنواع التطرف والغلو في البلاد التي لا عدوان فيها على المسلمين:
_________
(1) تفسير الطبري 3 / 10 ، البحر المحيط لأبي حيان 2 / 281 ، تفسير القرطبي 3 / 280 ، أحكام القرآن لابن العربي 1 / 233 .
تبين مما تقدم أن الإسلام والانتصار لقضاياه والدفاع عن مبادئه ومحاولة نشر عقيدته ، والترويج لنظامه وشرائعه ، لا يكون على الإطلاق بارتكاب السلوك الإجرامي والإفساد والتخريب والتدمير ، أو الانطلاق من معايير التشدد والغلو والتطرف الغريبة عن روح الإسلام ومنهجه في الدعوة ، والمجافية للأصول الحضارية والمدنية ، لأن هذا السلوك الشائن لا يحقق أي هدف ، وإنما يزرع الرعب والخوف بين الآمنين ، ويلحق الضرر والأذى بالمصلحة العامة العليا للأمة ، وتكون الخسارة محققة للجميع .
فلقد أدركنا في هذا البحث حرص الإسلام على السماحة والاعتدال والاتزان ، والقصد في الاعتقاد والأفعال والطاعات .
وحبذا لو توافرت الضمانات المناسبة لممارسة الحوار والبيان والمشورة من الدول التي تبتلى بهذه التصرفات الشاذة ، لاجتثاث جذور هذه المشكلات الإرهابية الخطيرة ، والعودة إلى مسيرة الجماعة ، وهذا هو دور العلماء والمرشدين لا السياسيين الذين يعتمدون على سياسة البطش والقمع فقط ، دون إفساح المجال لسماع مطالب هؤلاء المتطرفين ، وقد نجحت " مصر" بفضل جهود علمائها في التخلص من ظاهرة " التكفير والهجرة " من طريق الإقناع وبيان أحكام الشريعة وإيراد آيات القرآن والوصايا النبوية في هذا الشأن .
ولا ننسى أن ما تمارسه المقاومة الوطنية في فلسطين والعراق وكشمير وكوسوفو والبوسنة والهرسك والشيشان ونحوها لا يعد في شرع الله ودينه تطرفا ولا إرهابا ، وإنما هو ممارسة لحق مشروع بالدفاع عن الوطن الإسلامي والعربي ، بل واجب لدحر العدوان والاستعمار والاستكبار الغربي والشرقي والصهيوني ، فهو في الواقع إرهاب من الدولة المعتدية ، ورد الفعل عليه لا يسمى إرهابا .
وهذا يعني ضرورة التفرقة بين الإرهاب الذي هو كل اعتداء بغير حق لدوافع سياسية ، وبين المقاومة التي هي نمط من الجهاد والدفاع بالقدر الممكن ، لأن طرد الغاصب واجب شرعي ، أما سلوك المسلم أو المنتمي للإسلام الذي يضر ببلده ووطنه ففعله خيانة وجريمة .
دعوة الإسلام للحوار
لم ينتشر الإسلام ونظامه في المشارق والمغارب إلا بفضل الحوار الهادف الذي يعني قبول التكافؤ بين مختلف الشعوب والأمم .
فبالحوار والإقناع وإعطاء التصور الصحيح للإسلام ، ومحاولة نقاش الآخرين واحترامهم ، تحقق انتصار الإسلام ، وتم قبول دعوته السامية القائمة على البساطة والاعتقاد الصحيح ، والتزام حقوق الإنسان ، ولا سيما العمل بمقتضى العدالة والمساواة والحرية والإخاء الإنساني والمرونة .
ومنهج الإسلام هو اتباع طريقة الحوار التام أو السوي الذي يقصد به الكشف عن الحقيقة المجردة ، وتحقيق المصادقة بين المتحاورين .
ولا فرق بين الحوار المحلي في داخل الدولة مع بعض المتطرفين ، أو الحوار الخارجي أو الدولي بين المسلمين وغيرهم من الشعوب والأمم من أتباع المذاهب والأديان الأخرى ، لتحقيق رسالة الاستخلاف في الأرض ، وتحقيق النجاح في نشر الدعوة الإسلامية ، فالإسلام كله دعوة دائمة للحوار مع أهل الأديان الأخرى ، وهو أيضا دعوة خالصة لحوار الحضارات لبيان زيف الحضارة المادية وانطلاقها من الماديات فقط ، وإثبات صحة منهج الحضارة الإسلامية القائمة على مراعاة الماديات والروحانيات معا .
والحوار أجدى على الإسلام والمسلمين من التقاطع والتدابر والانعزال ، أو العزلة أو الانغلاق والعنصرية فهو يحقق المصلحة الإسلامية ، بنشر الدعوة بطريق هادئ ، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في المرحلة المكية مع المشركين ، ولأن الحوار دليل على الثقة بالنفس والمبدأ ، ولأن الإسلام كما عرفنا دين التسامح والتوازن والاعتدال ، ولا يقر ما يسمى بالإرهاب الفكري والحربي إلا للضرورة لقمع عدوان المعتدين ، واستخلاص الحقوق المغتصبة من الظلمة الغاصبين .
كما أن الإسلام في تكوين عقيدته وغرس الإيمان في النفس الإنسانية يعتمد على العقل والحكمة ، والعلم وموازينه ، وتبادل الآراء المفيدة لإظهار الحقيقة ، وإيثار المصلحة ، وتوفير مناخ السعادة ، والابتعاد عن الهرطقة والسفسطة والجدل العقيم .
ولا يغمط الإسلام ثقافة الآخرين ومعارفهم وتجاربهم ، لكنه يصحح المعوج منها أو الضار ، ويوجه الناس للخير دون إجبار .
ولا ينكر في الإسلام تفاوت المدارك والثقافات والنزعات ، فيكون الإسلام الذي هو رحمة شاملة للعالمين طريق إنقاذ ونجاة ، وإرساء لمعالم الحكمة والاعتدال ، بالحوار المفيد والنقاش الهادئ .
ولدينا دعوتان قرآنيتان للحوار :
الأولى : فيما بين المسلمين أنفسهم وفيما بينهم وبين غيرهم ، في قول الله تعالى: { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين } [ النحل: 125 ] .
الثانية : أسلوب الحوار مع أهل الكتاب ( اليهود والنصارى ) بصفة خاصة:
وذلك في الآية الكريمة: { ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون } [ العنكبوت: 46 ] .
وعلى العكس من ذلك فإن غير المسلمين هم أعداء الحوار البناء ، كما ورد في آيات قرآنية كثيرة ، منها: { ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق } [ الكهف: 56 ] ومنها: { ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير } [ الحج: 8 ] .
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات(وسطية الإسلام وسماحته – الدكتور وهبة ابن مصطفى الزحيلى)
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
مظاهر اليسر و السماحة في الاسلام والاستفادة منها
يقول الاستاذ الدكتور وهبة بن مصطفى الزحيلي فى كتابه (وسطية الإسلام وسماحته) : ومظاهر اليسر والسماحة وآلياته كثيرة في أصول الشريعة ، لا بد من ملاحظتها والانطلاق منها في الدعوة الخيرة الشاملة إلى الإسلام ، وأهمها ما يأتي:
1- الاستفادة من الجسور المشتركة بين الأديان:
الجسور المشتركة بين الإسلام وما سبقه من الأديان كثيرة وغنية ، يمكن الانطلاق منها في شرعنا والتحاكم إليها للتوصل إلى ما يبرز سماحة الإسلام وسموه في الدعوة إلى وحدة الصف ، والوقوف أمام التيارات الإلحادية أو العلمانية أو المادية أو غيرها من نزعات الفلسفة الوضعية ، فيكون الخطاب الديني لهؤلاء أقوى وأنفذ وأحكم .
فالأديان الثلاثة " الإسلام واليهودية والمسيحية " تؤمن بالذات الإلهية ، وبرسالة الرسل الكرام ، وبالكتب السماوية ، وبالملائكة الأطهار ، وباليوم الآخر يوم الثواب والحساب .
والوصايا الأخلاقية العشر مقررة في هذه الأديان: لا تزن ، ولا تسرق ، لا تقتل نفسا ، لا تكذب . . . إلخ . ومنهج الحرام والحلال في الأحكام واحد ، للدلالة على وجود النظام الديني القائم على تحقيق وإشاعة نزعة الخير والمصلحة ، ومقاومة نزعة الشر والمفسدة .
والرسالة القرآنية الخاتمة تصرح بمهمة تصديق القرآن الكريم لما سبقه في آيات كثيرة منها: { الم }{ الله لا إله إلا هو الحي القيوم }{ نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل }{ من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام } [ آل عمران: 1 - 4 ] .
ولكن تظل للقرآن الهيمنة على ما تقدمه من الشرائع ، لمصلحة البشرية جمعاء ، في تشريع الأفضل والأحكم والأخلد ، ولتصحيح ما وقع فيه أتباع الديانتين السابقتين من أخطاء وانحرافات وتأويلات وتحريفات ، فقال الله تعالى: { وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة } [ المائدة: 48 ] .
والأديان في أصولها الصحيحة ودعوتها إلى الإيمان الحق والعدل والخير واحدة ، والاختلاف إنما هو في الفروع والجزئيات مراعاة لتقدم العقل البشري وتطور الإنسانية ، بشرط وحدة الاعتقاد ، وصحة الإيمان ، وما أحكم وأدق هذا الإخبار والتعبير القرآني وهو قول الله (: { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب } [ الشورى: 13 ] .
وتنحصر علاقة المسلمين بغيرهم في ضوء هذا المفهوم في شطرين:
الأول : الإقرار والتصديق بكل ما صح نزوله على الأنبياء والرسل السابقين من الصحف والكتب الإلهية .
الثاني : تصحيح ما وقعت فيه الكتب الحالية المتداولة من انحراف عن وحدة الهدي الإلهي في العقيدة والنظام التشريعي .
2- كون التكاليف بقدر الاستطاعة:
من أبرز خصائص الإسلام: قلة تكاليفه في العبادات وغيرها ، فدائرة المباح فيه أوسع بكثير من دائرة الحرام ، ومنها جعل التكليف بحسب الوسع والطاقة ، أو القدرة والاستطاعة لينسجم الإنسان مع التكاليف الإلهية بيسر وسهولة ، ويبادر إلى أدائها وتطبيقها بصفة دائمة دون مشقة ولا إحراج ، وأساس ذلك قول الله سبحانه: { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } [ البقرة: 286 ] .
وكذلك ما نجده في السنة النبوية من وصايا وتوجيهات تزجر الناس عن المغالاة في العبادة ، والامتناع من الطيبات ، منها: « يا أيها الناس ، خذوا من الأعمال ما تطيقون ، فإن الله لا يمل حتى تملوا ، وإن أحب الأعمال إلى الله ما دام وإن قل » (1) ، « إن هذا الدين متين ، فأوغل فيه برفق ، فإن المنبت لا أرضا قطع ، ولا ظهرا أبقى » (2) أي إن المنقطع عن الرفقة لا يقطع المسافة ، ويهلك دابته التي أرهقها .
« هلك المتنطعون » (3) أي المتعمقون المتشددون في غير موضع الشدة . كل هذا يرشدنا إلى أن الإسلام يلتزم في تشريعه مبدأ الاقتصاد في الطاعات والاعتدال في القربات .
3- نبذ التعصب الديني والمذهبي:
_________
(1) أخرجه مالك والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن عائشة رضي الله عنها .
(2) أخرجه البزار عن جابر رضي الله عنه ، وهو ضعيف بهذا اللفظ ، واللفظ الصحيح ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن أنس رضي الله عنه: « إن هذا الدين متين ، فأوغلوا فيه برفق» .
(3) أخرجه أحمد في مسنده ، ومسلم وأبو داود عن ابن مسعود رضي الله عنه .
اقتضت حكمة الله جل جلاله أن يوجد الاختلاف بين الناس في الملل والنحل والمذاهب والاعتقادات والأديان لمعرفة الحق من الباطل ، ولإقرار الحرية وترك الاختيار والإرادة للإنسان ، ولإظهار مدى جهاد أو مجاهدة الإنسان نفسه ، وإبراز دوره في التمييز ، وإعمال عقله وفكره وقناعته في اعتقاده وتفضيله الدين الحق ، وإيثاره الرأي السديد والصائب . قال الله تعالى: { ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين }{ وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون } [ يونس: 99 - 100 ] .
وهذا دليل واضح على ضرورة التسامح في التعامل والنظرة السامية إلى واقع الناس ، وترك الاعتراض عليهم إلا في حدود الدعوة الهادئة والمنطقية إلى الله - تعالى - وقرآنه عن بينة ورشد وقناعة .
وهو دليل أيضا على ترك التعصب الديني الكريه ، والترفع عن الأحقاد ، لأن الإنسان لا يصح له أن يتجاوز السنن الإلهية ، وعليه أن يرضى بما رضي الله تعالى ، فليس للداعية التسرع بتكفير الآخرين ، لأنه سلوك منفر ومبعد ، كما ليس لأي مسلم إيذاء مشاعر الآخرين أو الاستعلاء عليهم ، أو احتقارهم أو محاولة الاعتداء عليهم أو التنكيل بهم ، حتى مع أشد الناس كفرا وهم المشركون الوثنيون ، لقوله تعالى: { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم } [ الأنعام: 108 ] أي إن سب الآلهة الباطلة أمام أتباعها مدعاة لسب الإله الحق ، فيمنع ذلك سدا للذرائع .
4- منع الإكراه في الدين:
الحرية الاعتقادية متروكة لكل إنسان في شرعة القرآن ، لا بمعنى إقرار الضالين والكافرين على كفرهم ، وإنما بمعنى ترك كل محاولات الإكراه أو الإجبار على تغيير المعتقد أو الدين أو المذهب ، لأن ذلك لا ينفع ولا يفيد شيئا ، فإنه سرعان ما يزول ظرف الإكراه يعود الإنسان إلى ما كان عليه ، ولأن توفير سبل الهداية وأسباب الانشراح للإسلام بيد الله تعالى .
وهذا ما قرره القرآن الكريم صراحة في قوله تعالى: { لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم } [ البقرة: 256 ] والآية محكمة باقية على مفهومها ، وتقرر شرعا دائما كما صرح بذلك أغلب المفسرين (1)
ويؤكد ذلك آية أخرى في معناها: { فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } . . . [ الكهف: 29 ] وليس هذا بمعنى التخيير ، وإنما هو تهديد ولوم بعد ظهور الأدلة الواضحة والقاطعة على أحقية الإسلام بالاتباع ، ومع ذلك فإن المصلحة في هذا التهديد إنما هي للإنسان ، ولكن دون مصادمة حريته .
هذا . . ولم يثبت في تاريخ الإسلام أن المسلمين مارسوا الإكراه على الدين مع غير المسلمين ، كما صرح أرنولد في كتابه " الدعوة إلى الإسلام " .
5- مقاومة كل أنواع التطرف والغلو في البلاد التي لا عدوان فيها على المسلمين:
_________
(1) تفسير الطبري 3 / 10 ، البحر المحيط لأبي حيان 2 / 281 ، تفسير القرطبي 3 / 280 ، أحكام القرآن لابن العربي 1 / 233 .
تبين مما تقدم أن الإسلام والانتصار لقضاياه والدفاع عن مبادئه ومحاولة نشر عقيدته ، والترويج لنظامه وشرائعه ، لا يكون على الإطلاق بارتكاب السلوك الإجرامي والإفساد والتخريب والتدمير ، أو الانطلاق من معايير التشدد والغلو والتطرف الغريبة عن روح الإسلام ومنهجه في الدعوة ، والمجافية للأصول الحضارية والمدنية ، لأن هذا السلوك الشائن لا يحقق أي هدف ، وإنما يزرع الرعب والخوف بين الآمنين ، ويلحق الضرر والأذى بالمصلحة العامة العليا للأمة ، وتكون الخسارة محققة للجميع .
فلقد أدركنا في هذا البحث حرص الإسلام على السماحة والاعتدال والاتزان ، والقصد في الاعتقاد والأفعال والطاعات .
وحبذا لو توافرت الضمانات المناسبة لممارسة الحوار والبيان والمشورة من الدول التي تبتلى بهذه التصرفات الشاذة ، لاجتثاث جذور هذه المشكلات الإرهابية الخطيرة ، والعودة إلى مسيرة الجماعة ، وهذا هو دور العلماء والمرشدين لا السياسيين الذين يعتمدون على سياسة البطش والقمع فقط ، دون إفساح المجال لسماع مطالب هؤلاء المتطرفين ، وقد نجحت " مصر" بفضل جهود علمائها في التخلص من ظاهرة " التكفير والهجرة " من طريق الإقناع وبيان أحكام الشريعة وإيراد آيات القرآن والوصايا النبوية في هذا الشأن .
ولا ننسى أن ما تمارسه المقاومة الوطنية في فلسطين والعراق وكشمير وكوسوفو والبوسنة والهرسك والشيشان ونحوها لا يعد في شرع الله ودينه تطرفا ولا إرهابا ، وإنما هو ممارسة لحق مشروع بالدفاع عن الوطن الإسلامي والعربي ، بل واجب لدحر العدوان والاستعمار والاستكبار الغربي والشرقي والصهيوني ، فهو في الواقع إرهاب من الدولة المعتدية ، ورد الفعل عليه لا يسمى إرهابا .
وهذا يعني ضرورة التفرقة بين الإرهاب الذي هو كل اعتداء بغير حق لدوافع سياسية ، وبين المقاومة التي هي نمط من الجهاد والدفاع بالقدر الممكن ، لأن طرد الغاصب واجب شرعي ، أما سلوك المسلم أو المنتمي للإسلام الذي يضر ببلده ووطنه ففعله خيانة وجريمة .
دعوة الإسلام للحوار
لم ينتشر الإسلام ونظامه في المشارق والمغارب إلا بفضل الحوار الهادف الذي يعني قبول التكافؤ بين مختلف الشعوب والأمم .
فبالحوار والإقناع وإعطاء التصور الصحيح للإسلام ، ومحاولة نقاش الآخرين واحترامهم ، تحقق انتصار الإسلام ، وتم قبول دعوته السامية القائمة على البساطة والاعتقاد الصحيح ، والتزام حقوق الإنسان ، ولا سيما العمل بمقتضى العدالة والمساواة والحرية والإخاء الإنساني والمرونة .
ومنهج الإسلام هو اتباع طريقة الحوار التام أو السوي الذي يقصد به الكشف عن الحقيقة المجردة ، وتحقيق المصادقة بين المتحاورين .
ولا فرق بين الحوار المحلي في داخل الدولة مع بعض المتطرفين ، أو الحوار الخارجي أو الدولي بين المسلمين وغيرهم من الشعوب والأمم من أتباع المذاهب والأديان الأخرى ، لتحقيق رسالة الاستخلاف في الأرض ، وتحقيق النجاح في نشر الدعوة الإسلامية ، فالإسلام كله دعوة دائمة للحوار مع أهل الأديان الأخرى ، وهو أيضا دعوة خالصة لحوار الحضارات لبيان زيف الحضارة المادية وانطلاقها من الماديات فقط ، وإثبات صحة منهج الحضارة الإسلامية القائمة على مراعاة الماديات والروحانيات معا .
والحوار أجدى على الإسلام والمسلمين من التقاطع والتدابر والانعزال ، أو العزلة أو الانغلاق والعنصرية فهو يحقق المصلحة الإسلامية ، بنشر الدعوة بطريق هادئ ، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في المرحلة المكية مع المشركين ، ولأن الحوار دليل على الثقة بالنفس والمبدأ ، ولأن الإسلام كما عرفنا دين التسامح والتوازن والاعتدال ، ولا يقر ما يسمى بالإرهاب الفكري والحربي إلا للضرورة لقمع عدوان المعتدين ، واستخلاص الحقوق المغتصبة من الظلمة الغاصبين .
كما أن الإسلام في تكوين عقيدته وغرس الإيمان في النفس الإنسانية يعتمد على العقل والحكمة ، والعلم وموازينه ، وتبادل الآراء المفيدة لإظهار الحقيقة ، وإيثار المصلحة ، وتوفير مناخ السعادة ، والابتعاد عن الهرطقة والسفسطة والجدل العقيم .
ولا يغمط الإسلام ثقافة الآخرين ومعارفهم وتجاربهم ، لكنه يصحح المعوج منها أو الضار ، ويوجه الناس للخير دون إجبار .
ولا ينكر في الإسلام تفاوت المدارك والثقافات والنزعات ، فيكون الإسلام الذي هو رحمة شاملة للعالمين طريق إنقاذ ونجاة ، وإرساء لمعالم الحكمة والاعتدال ، بالحوار المفيد والنقاش الهادئ .
ولدينا دعوتان قرآنيتان للحوار :
الأولى : فيما بين المسلمين أنفسهم وفيما بينهم وبين غيرهم ، في قول الله تعالى: { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين } [ النحل: 125 ] .
الثانية : أسلوب الحوار مع أهل الكتاب ( اليهود والنصارى ) بصفة خاصة:
وذلك في الآية الكريمة: { ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون } [ العنكبوت: 46 ] .
وعلى العكس من ذلك فإن غير المسلمين هم أعداء الحوار البناء ، كما ورد في آيات قرآنية كثيرة ، منها: { ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق } [ الكهف: 56 ] ومنها: { ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير } [ الحج: 8 ] .
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات(وسطية الإسلام وسماحته – الدكتور وهبة ابن مصطفى الزحيلى)
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته