إدريسي
2011-03-05, 02:32 AM
ياعباد الله فاثبتوا !
إنه لأمرٌ فطريٌّ محمودٌ أن يفرح المؤمن بنصر الله، وبرؤيته للناس يدخلون في دين الله، وبرؤيته لشرع الله يطبَّق في شتى مجالات الحياة في بلد من البلاد أو زمن من الأزمان. إنه لفرح محمود؛ لأن كل هذا الذي يفرح به نِعَم ينعم الله - تعالى - بها على عباده؛ فالفرح بها نوع من الشكر لله عليها: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْـمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الروم: ١ - ٥]. هل يلزم من هذا أن يحزن المؤمن حين يرى في الناس في بعض الأماكن أو بعض الأزمان إعراضاً عن ديــن الله أو ضعــفاً في الاستمسـاك بــه أو زيادة فــي الجهــل به، أو حين يرى فيهم زيادة في الاتِّباع لسنن الكفار؟ كلاَّ؛ فالله - سبحانه وتعالى - يقول: {وَمَن كَفَرَ فَلا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [لقمان: ٣٢]، ويقول - سبحانه -: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل: ٧٢١]. بل قال العلمـاء: إن الحـزن لـم يرد فـي كتـاب اللـه - تعالى - مأمـوراً به، بل ورد: إمـا منهيـاً عنـه كمـا فـي الآيات السابقة، وإما تقريراً لواقع كما في قوله - تعالى -: {قَدْ نَعْلَمُ إنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِـمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: ٣٣]. لماذا لا يحزن الإنسان حين يرى ذلك الإعراض عن دين الله؟ السبب - والله أعلم -: أولاً: أن الإعراض عن دين الله - تعالى - هو ذنب يرتكبه المعرِضون بإرادتهم؛ فلماذا نحزن على ارتكابهم له؟ وثانياً: أنه إذا كان الفرح بالنعم نوعاً من الشكر عليها، فإن مجرد الحزن على الكفر وتغيُّر الأحوال لا يغير من واقعها شيئاً، وإنما يضر المحزون ويضيع وقته وفكره فيما لا فائدة فيه. وثالثاً: لأن الإنسان العاقل لا يترك ما عرف من الحق أو يشكُّ فيه؛ لأن بعض الناس كذب به: {إنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [طه: ٥١ - ٦١]. ورابعاً: لأنه ليس من شرط الحق أن يكثر المؤمنون المستمسكون به: {فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إنَّهُ الْـحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} [هود: ٧١]. وإذا استوحش المؤمن بكثرة المفتونين المغيِّرين لشرع الله فَلْيتذكر أنـه ليس وحده في طـريق الحق الذي ثبَّته الله - تعالى - عليه؛ فهو طريق سلكه أفضل البشر: من الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين على مدى التاريخ البشري، وأنه إذا مات وهو مستمسك بالحق فسيسعد بصحبتهم جميعاً في دار الخلد. لكن المؤمن ينبغي أن يستمر - مع ذلك - في مقاومة الباطل بقدر ما يستطيع راجياً ثواب الله، تعالى؛ والله مثيبه على كل ما يبذل من جهد لإعلاء كلمته وقمع أعدائه. إن لشيخ الإسلام ابن تيمية كلاماً نفيساً في تعليقه على الحديث النبوي الشريف: «بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ؛ فطوبى للغرباء»[1]. ننقل بعض ما جاء فيه: 1 - لا يقتضي هذا أنه إذا صار غريباً أن المتمسك به يكون في شر، بل هو أسعد الناس، كما قال في تمام الحـديث: «فطـوبى للغـرباء». و«طـوبى» مـن الطيـب. قال - تعالى -: {طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَئَابٍ} [الرعد: ٩٢]؛ فإنه يكون من جنس السابقين الأولين الذين اتبعوه لَـمَّا كان غريباً، وهم أسعد الناس. أما في الآخرة فهم أعلى الناس درجة بعد الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام. 2 - وكما أن الله نهى نبيَّه أن يصيبه حزن أو ضيق ممن لم يدخل في الإسلام في أول الأمر، فكذلك في آخره؛ فالمؤمن منهي أن يحزن عليهم، أو يكون في ضَيْق من مكرهم. وكثير من الناس إذا رأى المنكر، أو تغيُّر كثيرٍ من أحوال الإسلام جَزع وكَلَّ ونَاحَ، كما ينوح أهل المصائب، وهو منهي عن هذا، بل هو مأمور بالصبر والتوكل والثبات على دين الإسلام، وأن يؤمن بالله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وأن العاقبة للتقوى. 3 - وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ثم يعود غريباً كما بدأ» يحتمل شيئين: أحدهما: أنه في أمكنة وأزمنة يعود غريباً بينهم ثم يظهر، كما كان في أول الأمر غريباً ثم ظهر؛ ولهذا قال: «سيعود غريباً كما بدأ». وهو لَـمَّا بدأ كان غريباً لا يُعرَف ثم ظهر وعُرِف؛ فكذلك يعود حتى لا يُعرَف ثم يظهر ويُعرَف. فَيَقِل من يعرفه في أثناء الأمر كما كان من يعرفه أولاً. ويُحتَمَل أنه في آخر الدنيا لا يبقى مسلم إلا قليل. وهذا إنما يكون بعد الدجال ويأجوج ومأجوج عند قرب الساعة؛ وحينئذٍ يبعث الله ريحاً تقبض روح كل مؤمن ومؤمنة، ثم تقوم القيامة. وأما قبل ذلك فقد أخبر الصادق المصدوق أنه لا تزال طائفة ممتنعة من أمته على الحق، أعزاء، لا يضرهم المخالف ولا خلاف الخاذل. فأما بقاء الإسلام غريباً ذليلاً في الأرض كلها قبل الساعة فلا يكون هذا. 4 - وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ثم يعود غريباً كما بدأ أعظم ما تكون غربته إذا ارتد الداخلون فيه عنه، وقد قال - تعالى -: {مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْـمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة: ٤٥]؛ فهؤلاء يقيمونه إذا ارتد عنه أولئك. وكذلك بدأ غريباً ولم يزل يقوى حتى انتشر؛ فهكذا يتغرب في كثير من الأمكنة والأزمنة، ثم يظهر، حتى يقيمَه الله ـ عز وجل ـ كما كان الأمر لما وُلِّي عمر بن عبد العزيز، قد تَغَرَّبَ كثير من الإسلام على كثير من الناس، حتى كان منهم من لا يعـرف تحـريم الخمر؛ فأظهـر اللـه به فـي الإسلام ما كان غريباً. 5 - وكذلك قوله - تعالى -: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِـحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: ٥٥]، وكلاهما وقع، ويقع كما أخبر الله ـ عز وجل ـ فإنه ما ارتد عن الإسلام طائفة إلا أتى الله بقوم يحبهم يجاهدون عنه، وهم الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة. 6 - يبيِّن ذلك أنه ذكر هذا في سياق النهي عن موالاة الكفار، فقال - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإنَّهُ مِنْهُمْ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِـمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إنَّهُمْ لَـمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: ١٥ - ٤٥]؛ فالمخاطَبون بالنهي عن موالاة اليهود والنصارى هم المخاطَبون بآية الردة؛ ومعلوم أن هذا يتناول جميع قرون الأمة. 7 - وهو لما نهى عن موالاة الكفار وبيَّن أن من تولاهم من المخاطَبين فإنه منهم، بَيَّن أن مـن تولاهم وارتد عن دين الإسلام لا يضر الإسلام شيئاً، بل سيأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه، فيتولون المؤمنين دون الكفار، ويجاهدون في سبيل الله، لا يخافون لومة لائم، كما قال - تعالى - في أول الأمر: {فَإن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ}. [الأنعام: ٩٨] فهؤلاء الذين لم يدخلوا في الإسلام، وأولئك الذين خرجوا منه بعد الدخول فيه لا يضرون الإسلام شيئاً، بل يقيم الله من يؤمن بما جاء به رسوله، وينصر دينه إلى قيام الساعة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــ
[1] رواه مسلم.
كتبه : أ.د. جعفر شيـخ إدريـس
إنه لأمرٌ فطريٌّ محمودٌ أن يفرح المؤمن بنصر الله، وبرؤيته للناس يدخلون في دين الله، وبرؤيته لشرع الله يطبَّق في شتى مجالات الحياة في بلد من البلاد أو زمن من الأزمان. إنه لفرح محمود؛ لأن كل هذا الذي يفرح به نِعَم ينعم الله - تعالى - بها على عباده؛ فالفرح بها نوع من الشكر لله عليها: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْـمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الروم: ١ - ٥]. هل يلزم من هذا أن يحزن المؤمن حين يرى في الناس في بعض الأماكن أو بعض الأزمان إعراضاً عن ديــن الله أو ضعــفاً في الاستمسـاك بــه أو زيادة فــي الجهــل به، أو حين يرى فيهم زيادة في الاتِّباع لسنن الكفار؟ كلاَّ؛ فالله - سبحانه وتعالى - يقول: {وَمَن كَفَرَ فَلا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [لقمان: ٣٢]، ويقول - سبحانه -: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل: ٧٢١]. بل قال العلمـاء: إن الحـزن لـم يرد فـي كتـاب اللـه - تعالى - مأمـوراً به، بل ورد: إمـا منهيـاً عنـه كمـا فـي الآيات السابقة، وإما تقريراً لواقع كما في قوله - تعالى -: {قَدْ نَعْلَمُ إنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِـمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: ٣٣]. لماذا لا يحزن الإنسان حين يرى ذلك الإعراض عن دين الله؟ السبب - والله أعلم -: أولاً: أن الإعراض عن دين الله - تعالى - هو ذنب يرتكبه المعرِضون بإرادتهم؛ فلماذا نحزن على ارتكابهم له؟ وثانياً: أنه إذا كان الفرح بالنعم نوعاً من الشكر عليها، فإن مجرد الحزن على الكفر وتغيُّر الأحوال لا يغير من واقعها شيئاً، وإنما يضر المحزون ويضيع وقته وفكره فيما لا فائدة فيه. وثالثاً: لأن الإنسان العاقل لا يترك ما عرف من الحق أو يشكُّ فيه؛ لأن بعض الناس كذب به: {إنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [طه: ٥١ - ٦١]. ورابعاً: لأنه ليس من شرط الحق أن يكثر المؤمنون المستمسكون به: {فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إنَّهُ الْـحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} [هود: ٧١]. وإذا استوحش المؤمن بكثرة المفتونين المغيِّرين لشرع الله فَلْيتذكر أنـه ليس وحده في طـريق الحق الذي ثبَّته الله - تعالى - عليه؛ فهو طريق سلكه أفضل البشر: من الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين على مدى التاريخ البشري، وأنه إذا مات وهو مستمسك بالحق فسيسعد بصحبتهم جميعاً في دار الخلد. لكن المؤمن ينبغي أن يستمر - مع ذلك - في مقاومة الباطل بقدر ما يستطيع راجياً ثواب الله، تعالى؛ والله مثيبه على كل ما يبذل من جهد لإعلاء كلمته وقمع أعدائه. إن لشيخ الإسلام ابن تيمية كلاماً نفيساً في تعليقه على الحديث النبوي الشريف: «بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ؛ فطوبى للغرباء»[1]. ننقل بعض ما جاء فيه: 1 - لا يقتضي هذا أنه إذا صار غريباً أن المتمسك به يكون في شر، بل هو أسعد الناس، كما قال في تمام الحـديث: «فطـوبى للغـرباء». و«طـوبى» مـن الطيـب. قال - تعالى -: {طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَئَابٍ} [الرعد: ٩٢]؛ فإنه يكون من جنس السابقين الأولين الذين اتبعوه لَـمَّا كان غريباً، وهم أسعد الناس. أما في الآخرة فهم أعلى الناس درجة بعد الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام. 2 - وكما أن الله نهى نبيَّه أن يصيبه حزن أو ضيق ممن لم يدخل في الإسلام في أول الأمر، فكذلك في آخره؛ فالمؤمن منهي أن يحزن عليهم، أو يكون في ضَيْق من مكرهم. وكثير من الناس إذا رأى المنكر، أو تغيُّر كثيرٍ من أحوال الإسلام جَزع وكَلَّ ونَاحَ، كما ينوح أهل المصائب، وهو منهي عن هذا، بل هو مأمور بالصبر والتوكل والثبات على دين الإسلام، وأن يؤمن بالله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وأن العاقبة للتقوى. 3 - وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ثم يعود غريباً كما بدأ» يحتمل شيئين: أحدهما: أنه في أمكنة وأزمنة يعود غريباً بينهم ثم يظهر، كما كان في أول الأمر غريباً ثم ظهر؛ ولهذا قال: «سيعود غريباً كما بدأ». وهو لَـمَّا بدأ كان غريباً لا يُعرَف ثم ظهر وعُرِف؛ فكذلك يعود حتى لا يُعرَف ثم يظهر ويُعرَف. فَيَقِل من يعرفه في أثناء الأمر كما كان من يعرفه أولاً. ويُحتَمَل أنه في آخر الدنيا لا يبقى مسلم إلا قليل. وهذا إنما يكون بعد الدجال ويأجوج ومأجوج عند قرب الساعة؛ وحينئذٍ يبعث الله ريحاً تقبض روح كل مؤمن ومؤمنة، ثم تقوم القيامة. وأما قبل ذلك فقد أخبر الصادق المصدوق أنه لا تزال طائفة ممتنعة من أمته على الحق، أعزاء، لا يضرهم المخالف ولا خلاف الخاذل. فأما بقاء الإسلام غريباً ذليلاً في الأرض كلها قبل الساعة فلا يكون هذا. 4 - وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ثم يعود غريباً كما بدأ أعظم ما تكون غربته إذا ارتد الداخلون فيه عنه، وقد قال - تعالى -: {مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْـمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة: ٤٥]؛ فهؤلاء يقيمونه إذا ارتد عنه أولئك. وكذلك بدأ غريباً ولم يزل يقوى حتى انتشر؛ فهكذا يتغرب في كثير من الأمكنة والأزمنة، ثم يظهر، حتى يقيمَه الله ـ عز وجل ـ كما كان الأمر لما وُلِّي عمر بن عبد العزيز، قد تَغَرَّبَ كثير من الإسلام على كثير من الناس، حتى كان منهم من لا يعـرف تحـريم الخمر؛ فأظهـر اللـه به فـي الإسلام ما كان غريباً. 5 - وكذلك قوله - تعالى -: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِـحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: ٥٥]، وكلاهما وقع، ويقع كما أخبر الله ـ عز وجل ـ فإنه ما ارتد عن الإسلام طائفة إلا أتى الله بقوم يحبهم يجاهدون عنه، وهم الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة. 6 - يبيِّن ذلك أنه ذكر هذا في سياق النهي عن موالاة الكفار، فقال - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإنَّهُ مِنْهُمْ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِـمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إنَّهُمْ لَـمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: ١٥ - ٤٥]؛ فالمخاطَبون بالنهي عن موالاة اليهود والنصارى هم المخاطَبون بآية الردة؛ ومعلوم أن هذا يتناول جميع قرون الأمة. 7 - وهو لما نهى عن موالاة الكفار وبيَّن أن من تولاهم من المخاطَبين فإنه منهم، بَيَّن أن مـن تولاهم وارتد عن دين الإسلام لا يضر الإسلام شيئاً، بل سيأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه، فيتولون المؤمنين دون الكفار، ويجاهدون في سبيل الله، لا يخافون لومة لائم، كما قال - تعالى - في أول الأمر: {فَإن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ}. [الأنعام: ٩٨] فهؤلاء الذين لم يدخلوا في الإسلام، وأولئك الذين خرجوا منه بعد الدخول فيه لا يضرون الإسلام شيئاً، بل يقيم الله من يؤمن بما جاء به رسوله، وينصر دينه إلى قيام الساعة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــ
[1] رواه مسلم.
كتبه : أ.د. جعفر شيـخ إدريـس