مشاهدة النسخة كاملة : مرقس يحاوركم: القران دينى الحديث ومسحيتى تبدا من جديد
- ص 444 -
وقال السيوطي في الإتقان : " وفي مصحف ابن مسعود مائة واثنا عشرة سورة لأنه لم يكتب المعوذتين ، وفي مصحف أُبيّ ست عشر لأنه كتب في آخره سورتي الحفد والخلع .
وأخرج أبو عبيد عن ابن سيرين قال : كتب أُبيّ بن كعب في مصحفه فاتحة الكتاب والمعوذتين و ( اللهم إناّ نستعينك ) و ( اللهم إياك نعبد ) وتركهن ابن مسعود وكتب عثمان منهن فاتحة الكتاب والمعوذتين " ( 1 ) .
للقاري ج2ص315 ، مناهل العرفان ج1ص268 ، صحيح البخاري ج3ص144 ، مسند أحمد ج5ص129-130 بأسانيد متعددة ، الفقه على المذاهب الأربعة ج4ص258 ، روح المعاني ج1ص24، كنـز العمال ج2ص356-373 ، إرشاد الساري7ص242 وغيرها من المصادر .
( 1 ) الإتقان في علوم القرآن للسيوطي ج1ص65.
موقف ابن مسعود من المعوّذتين
بلغ موقف ابن مسعود من المعوذتين شهرة أغنتنا عن تكلف ذكر أدلته ، فأمره واضح لا يحتاج إلى بيان ، ومن جاس خلال الديار يعلم أن روايات أهل السنة الصريحة المتظافرة الصحيحة كانت سببا كافيا لـجزم كثير من علماء أهل السنة بإنكاره لقرآنية المعوذتين كما سيأتي نقل كلماتـهم بإذنه تعالى ، وهذه الصراحة ينفر عنها التأويل والتحوير ، وهاك غيضا من فيض نسكن به نفوس البعض :
عن مسند الحميدي : " قال ثنا سفيان قال ثنا عبدة بن أبي لبابة وعاصم بن بـهدلة أنـهما سمعا زرّ بن حبيش يقول : سألت أبي بن كعب عن المعوذتين ، فقلت : يا أبا المنذر! إن أخاك ابن مسعود يحكـّها من المصحف ! ، قال : إني سألت رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم قال : قال لي : قل ، فقلت : فنحن نقول كما قال رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم " ( 1 ) .
ومن مجمع الزوائد : " عن زر قال : قلت لأبيّ : إن أخاك يحكهما من الصحف ! ، قيل لسفيان ابن مسعود فلم ينكر ، قال سألت رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم فقال : فقيل لي ، فقلت . فنحن نقول كما قال رسول الله " ( 2 ) .
" وعن عبد الرحمن بن يزيد يعني النخعي قال : كان عبد الله يحك المعوذتين من مصاحفه ويقول : إنـهما ليستا من كتاب الله تبارك وتعالى " ( 3 ) .
" وعن عبد الله ، أنه كان يحك المعوذتين من الصحف ، ويقول : إنما أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يتعوذ بـهما وكان عبد الله لا يقرأ بـهما " ( 4 ) .
( 1 ) المسند للحميدي ج1ص185ح374.
( 2 ) مجمع الزوائد المجلد السابع ص149 ( باب ما جاء في المعوذتين ) ، وعلق عليه ( قلت : هو في الصحيح خلا يـحكهما من المصحف ، رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد رجال الصحيح ).
( 3 ) ن.م ، وعلق عليه ابن حجر ( رواه عبد الله بن أحمد والطبراني ورجال عبد الله رجال الصحيح ورجال الطبراني ثقات ) .
( 4 ) ن.م ، وعلق عليه ابن حجر ( رواه البزار والطبراني ورجالهما ثقات ) .
- ص 443 -
وعن المصنّف لابن أبي شيبة : " حدثنا أبو الأحوص عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن يزيد قال : رأيت عبد الله مـحا المعوذتين من مصاحفه ، وقال : لا تخلطوا فيه ما ليس منه" ( 1 ) .
وعنه أيضا : "حدثنا وكيع عن ابن عون عن ابن سيرين قال : كان ابن مسعود لا يكتب المعوذتين " ( 2 ) .
وعند الشافعي في الأم : " أخبرنا وكيع عن سفيان الثوري عن أبي إسحق عن عبد الرحمن بن يزيد قال : رأيت عبد الله يحك المعوذتين من المصحف ويقول لا تخلطوا به ما ليس منه " ( 3 ) .
مسند أحمد : " حدثنا عبد الله حدثني أبي ثنا سفيان بن عيينة عن عبدة وعاصم عن زر قال قلت : لأبي إن أخاك يحكهما من المصحف ! فلم ينكر . قيل لسفيان بن مسعود ، قال : نعم ، وليسا في مصحف ابن مسعود كان يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوذ بـهما الحسن والحسين ولم يسمعه يقرؤهما في شيء من صلاته فظن أنـهما عوذتان وأصر على ظنه وتحقق الباقون كونـهما من القرآن فأودعوهما إياه " ( 4 ) .
وقال ابن جحر العسقلاني في فتح الباري : " وقد أخرجه عبد الله بن أحمد في زيادات المسند والطبراني وابن مردويه من طريق الأعمش عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن يزيد النخعي قال : " كان ابن مسعود يحك المعوذتين من مصاحف ويقول إنـهما ليستا من كتاب الله " ( 5 ) .
( 1 ) المصنّف لابن أبي شيبة ج10ص538ح10254.
( 2 ) مصنف ابن أبي شيبة ج6ص147ح30212.
( 3 ) الأم ج7ص189.
( 4 ) مسند أحمد ج5 ص130ح21227
( 5 ) فتح الباري بشرح صحيح البخاري ج8ص743 ، ومجمع الزوائد المجلد السابع ص149 وعلق عليه (رواه عبد الله بن أحمد والطبراني ورجال عبد الله رجال الصحيح ورجال الطبراني ثقات ) ، راجع : مشكل الآثار ج1ص33و34 ، التفسير الكبير للرازي ج1ص213 ، فواتح الرحموت بـهامش المستصفى ج2ص9 ، الجامع لأحكام القرآن ج20ص251 ، شرح الشفا
- ص 444 -
وقال السيوطي في الإتقان : " وفي مصحف ابن مسعود مائة واثنا عشرة سورة لأنه لم يكتب المعوذتين ، وفي مصحف أُبيّ ست عشر لأنه كتب في آخره سورتي الحفد والخلع .
وأخرج أبو عبيد عن ابن سيرين قال : كتب أُبيّ بن كعب في مصحفه فاتحة الكتاب والمعوذتين و ( اللهم إناّ نستعينك ) و ( اللهم إياك نعبد ) وتركهن ابن مسعود وكتب عثمان منهن فاتحة الكتاب والمعوذتين " ( 1 ) .
للقاري ج2ص315 ، مناهل العرفان ج1ص268 ، صحيح البخاري ج3ص144 ، مسند أحمد ج5ص129-130 بأسانيد متعددة ، الفقه على المذاهب الأربعة ج4ص258 ، روح المعاني ج1ص24، كنـز العمال ج2ص356-373 ، إرشاد الساري7ص242 وغيرها من المصادر .
( 1 ) الإتقان في علوم القرآن للسيوطي ج1ص65.
البخاري ذكر إنكار ابن مسعود لقرآنية المعوذتين في صحيحه !
ويكفينا أن إنكار ابن مسعود للمعوذتين أخرجه البخاري في صحيحه في ( باب تفسير سورة قل أعوذ برب الناس ) : " عن زر قال : سألت أبي بن كعب قلت : يا أبا المنذر ! إن أخاك ابن مسعود يقول : كذا وكذا ، فقال أبي : سألت رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم ، فقال لي : قيل لي ، فقلت . قال : فنحن نقول كما قال رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم " ( 2 ) .
وكما ترى فقد حاولت رواية البخاري ستر رائحة التحريف التي تزكم الأنوف ، ولكن دون جدوى لأن ما أبـهمته ب (كذا وكذا) قد بيّنه كثير من علماء وحفاظ أهل السنة كما مر ، ونص على حقيقة ما في صحيح البخاري رواة الأخبار والمحدثين ، فهذا البيهقي يقول بعد ذكر هذه الرواية :
" وأنبأ أبو عبد الله الحافظ أنبأ أبو بكر بن إسحاق أنبأ بشر بن موسى ثنا الحميدي ثنا سفيان ثنا عبدة بن أبي لبابة وعاصم بن بـهدلة أنـهما سمعا زر بن حبيش يقول : سألت أبي بن كعب عن المعوذتين فقلت : يا أبا المنذر أن أخاك ابن مسعود يحكهما من المصحف ! قال :
( 2 ) صحيح البخاري ج4ص1904ح4693 ، ح4692.
- ص 445 -
إني سألت رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم ، قال : فقيل لي ، فقلت . فنحن نقول كما قال رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم . رواه البخاري في الصحيح عن قتيبة وعلي بن عبد الله عن سفيان " ( 1 ) .
وكذا قال الحافظ ابن حجر الهيثمي في مجمع الزوائد عندما علق على الرواية السابقة : " هو في الصحيح – أي صحيح البخاري- خلا (حكهما من المصحف) ، رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد رجال الصحيح " ( 2 ) .
وكذلك علق المحدث حبيب الرحمن الأعظمي على الرواية السابقة في تحقيقه لمسند الحميدي بقوله : " أخرجه البخاري من طريق قتيبة وعلي بن المديني عن سفيان (ج8ص524) ولم يصرح بما كان يصنع ابن مسعود " ( 3 ) .
وستأتي بإذنه تعالى كلمات شراح البخاري كالكرماني والقسطلاني والعيني التي تكشف لنا حقيقة ما حاولت رواية البخاري تدليسه والستر عليه !
وابن حجر العسقلاني اعترف بـهذا التدليس والتعمية للفضيحة لكنه حاول إبعاد البخاري عن هذا التدليس والإبـهام بقوله :
" قوله ( يقول كذا وكذا ) هكذا وقع هذا اللفظ مبهما ، وكان بعض الرواة أبـهمه استعظاما له ، وأظن ذلك من سفيان فإن الإسماعيلي أخرجه من طريق عبد الجبار بن العلاء عن سفيان كذلك على الإبهام ، وكنت أظن أولا أن الذي أبهمه البخاري لأنني رأيت التصريح به في رواية أحمد عن سفيان ولفظه ( قلت لأبي : إن أخاك يحكها من المصحف )
( 1 ) سنن البيهقي الكبرى ج2ص394ح3851 .
( 2 ) مجمع الزوائد للهيثمي ج7ص149.
( 3 ) المسند للحميدي ج1ص185ح374.
- ص 446 -
وكذا أخرجه الحميدي عن سفيان ومن طريقه أبو نعيم في المستخرج ، وكأن سفيان كان تارة يصرح بذلك وتارة يبهمه " ( 1 ) .
وملخص كلام ابن حجر هو أن البخاري أخرج الرواية ولكنه لم يبهمها ، بل الراوي كان يصرح تارة ويبهم أخرى استعظاما لقول ابن مسعود ، بدليل أن الرواية وردت مبهمة عند غير البخاري أيضا وهو الإسماعيلي ، ولكنه على أي حال يعترف بأن ما أبـهم في صحيح البخاري هو إنكار ابن مسعود للمعوذتين ، وهذا كاف لنا .
ويمكن التأمل فيما أفاده ابن حجر ، لأن ما ذكره لا يبعد البخاري عن مرمى السهام ولا يكفي لرمي غير البخاري بتـهمة الإبـهام والتعمية ، لأمور :
1- ورود الرواية مبهمة عند الحافظ أبي بكر الإسماعيلي لا يعني أن الإسماعيلي لم يتّبع بذلك ابـهام البخاري ، لأن الإسماعيلي – المتأخر زمانا عن البخاري- قام بتخريج أحاديث صحيح البخاري ، وكان مفتونا به مقلدا متبعا لما في صحيح البخاري ، حتى اعترض عليه لذلك بعض معاصريه ، فيكون اتباعه وتقليده لما في الصحيح من إبـهام للرواية أمرا متوقعا جدا ( 2 ) ، فلا تجدي هذه الموافقة ، لرفع البخاري عن تـهمة التعمية .
( 1 ) فتح الباري ج8ص742ح4693.
( 2 ) قال الذهبي في تذكرة الحفاظ ج3ص948-949 : ( قال حمزة بن يوسف وسمعت أبا محمد الحسن بن علي الحافظ بالبصرة يقول : كان الواجب للشيخ أبي بكر أن يصنف لنفسه سننا ويختار ويجتهد فإنه كان يقدر عليه لكثرة ما كان كتب ولغزارة علمه وفهمه وجلالته وما كان ينبغي له أن يتقيد بكتاب محمد بن إسماعيل فإنه كان أجل من أن يتبع غيره ) ، ونقل أيضا : ( فكنت أخبره بما صنف –الإسماعيلي-من الكتب وجمع من المسانيد والمقلين وتـخريـجه على كتاب البخاري وجميع سيرته فيعجب من ذلك ).
- ص 447 -
2- المعروف عن البخاري أنه لم يكن يلتزم نقل الرواية كما سمعها من الراوي ، بل كان ينقل بالمعنى ( 1 ) ، وهذه المنهجية التي كان يسير عليها البخاري لا تحتم عليه نقل الرواية كما سمعها ، فاحتمال تلاعبه بـهذا المقطع ( يحكها من المصحف ) أمر وارد .
3- إن كان الاستعظام هو السبب لإبـهام الراوي لكلام ابن مسعود فلماذا كان يصرح تارة ويبهم أخرى ؟!
وعلى أي حال فإن غرضنا هنا هو إثبات تخريج البخاري لهذه الرواية في صحيحه ، سواء كان هو الذي أبـهم كلام ابن مسعود ب ( كذا وكذا ) أم غيره .
فتمويه رواية البخاري لم ينطل على أحد ، ولا أدري لماذا انتخب البخاري هذه الرواية بالذات للحديث عن المعوذتين مع أنـها لا تثبت قرآنية المعوذتين بل تشكك في قرآنيتهما أكثر ؟! ، بل إن رواية البخاري تشعر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه لم يكن متيقنا من أن المعوذتين نزلتا كقرآن ! فما علمه صلى الله عليه وآله وسلم عن المعوذتين هو أنه أُمر قراءتـهما وكما تعبر الرواية ( قيل لي ، فقلت ) ، أما كونـهما مجرد كلمات للدعاء والتعوذ أم سورا قرآنية فهذا ما لا يعلمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ! ، وهذا بعينه قول كبار علماء أهل السنة مثل ابن حجر العسقلاني حيث قال في فتح الباري :
" وليس في جواب أُبـي تصريح بالمراد ، إلا أن في الإجماع على كونـهما من القرآن غنية عن تكلف الأسانيد بأخبار الآحاد " ( 2 ) .
( 1 ) سير أعلام النبلاء للذهبي ج12ص411 : ( وقال أحيد بن أبي جعفر والي بخارى : قال محمد بن إسماعيل يوما رب حديث سمعته بالبصرة كتبته بالشام ، ورب حديث سمعته بالشام كتبته بمصر ، فقلت له : يا أبا عبد الله بكماله ؟! قال : فسكت ) ، وهو في مقدمة فتح الباري ج1ص487 ، تغليق التعليق ج5ص417 ، تدريب الراوي ج1ص95 وصححه .
( 2 ) فتح الباري ج8ص743.
- ص 448 -
وكذا قال الإمام يوسف الحنفي أبو المحاسن : " عن زر أنه سأل أبي بن كعب عن المعوذتين وقال : إن أخاك ابن مسعود يحكهما من المصحف ! فقال أبي : سألت رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم فقال : قيل لي ( قل ) ، فقلت -أي أبي بن كعب - فنحن نقول كما قال الرسول صلى الله عليه (وآله) وسلم . ففي هذا الجواب لا دلالة على كونـهما من القرآن ولا نفيهما عنه " ( 1 ) .
ولا ريب أن اختيار البخاري لهذه الرواية المشينة لمقام الرسالة يعتبر نقطة سوداء مخزية تسجل على البخاري .
ولنرجع لصلب الموضوع ، اتضح إلى هنا أن الروايات صريحة في إنكار ابن مسعود لقرآنية المعوذتين ، بل إن بعضها يفيد أن موقف ابن مسعود كان معروفا ومشهورا بين الصحابة والتابعين .
( 1 ) معتصر المختصر ج2ص201.
موقف علماء أهل السنة :
افترق المساكين إلى فرقتين ، فمنهم من خضع دون مكابرة وأقرّ ما جاء به صحيح البخاري وغيره من المصنفات ، ومنهم من كابر ورفض الفكرة من الأساس وقال بكذب تلك المرويات وعاند بلا دليل وقال ( هذا غير معقول ! ) ، ولا أرى وجها للاستحالة عند هؤلاء إلا أن ابن مسعود معصوم عن الخطأ !
ثم انقسم من أقر بما جاء به الأثر الصحيح إلى قسمين قسم يُؤول ما فعله ابن مسعود ، وسيتضح أن تأويلهم بعيد كل البعد عن الواقع مع صراحة الروايات ، وقسم آخر أقر واستسلم للأمر الواقع وطفق يقلب كفيّه !
- ص 449 -
* التفصيل :
ذهب القاضي الباقلاني والنووي وابن حزم وقيل هو رأي الفخر الرازي إلى أن ما ذكر عن ابن مسعود باطل مكذوب لا يلتفت إليه ، لأن من أنكر شيئا من القرآن فقد كفر ولو صح عن ابن مسعود هذا لكان كافراً وللزم أن بعض القرآن لم يثبت بالتواتر وهذا في غاية الإشكال ، لذا أراد هؤلاء نفي تلك النسبة عن ابن مسعود حتى يبعدوه عن الكفر ، فمنهم من رد الروايات بلا تعليل وحكم ببطلانـها وكذبـها شاء الواقع أم أبى ! ، وتصدى لهم العسقلاني وردّ عليهم القول بعدم إمكان تكذيب الروايات الصحيحة بالمزاج . ومنهم من قال إن التأويل مقبول والطعن في الروايات مرفوض كابن حجر نفسه ، ولكنه ولم يأت بتأويل مقبول ! قال :
" وأما قول النووي في شرح المهذب ( أجمع المسلمون على أن المعوّذتين والفاتحة من القرآن ، وأن من جحد منهما شيئا كفر ، وما نقل عن ابن مسعود باطل ليس بصحيح ) ففيه نظر ، وقد سبقه لنحو ذلك أبو محمد بن حزم فقال في أوائل المحلى ( ما نقل عن ابن مسعود من إنكار قرآنيّة المعوذتين فهو كذب باطل ) وكذا قال الفخر الرازي في أوائل تفسيره ( الأغلب على الظن أن هذا النقل عن ابن مسعود كذب باطل ) ، والطعن في الروايات الصحيحة بغير مستند لا يقبل ، بل الرواية صحيحة والتأويل مقبول ، والإجماع الذي نقله إن أراد شـموله لكل عصر فهو مخدوش ، وأن أراد استقراره فهو مقبول " ( 1 ) .
وكذا رجّح السيوطي في الإتقان كلام ابن حجر لأن ما ورد عن ابن مسعود صحيح ولا مجال لإنكاره ، ولم يقبل ما ذهب له الفخر الرازي والقاضي أبو بكر والنووي وابن حزم من تكذيب الروايات ، ويتضح من إشكال الفخر الرازي أن المشكلة لا تكمن في سند الروايات وإنما فيما يلزم من قبول تلك الروايات وإن كانت صحيحة ، قال الرازي :
( 1 ) فتح الباري ج 8ص743 ط دار المعرفة .
- ص 450 -
"إن قلنا أن كونـهما – المعوّذتين- من القرآن كان متواترا في عصر ابن مسعود لزم تكفير من أنكرها ، وان قلنا إن كونـها من القرآن كان لم يتواتر في عصر ابن مسعود لزم أن بعـض الـقرآن لم يتواتـر، قال : وهذه عقدة صعبة " ( 1 ) .
إذن ، فالذي أجبرهم على ردها هو ما يلزم منها من الحكم بالتكفير أو عدم التواتر ، فالروايات من حيث السند والدلالة لا يمكن ردّها أو التغلّب على صراحتها بالتأويل ولو أمكن لما استصعب على الفخر الرازي حل عقدتـها .
وهنا وجه آخر لرد هذه النسبة لابن مسعود وهو كلام ابن حزم الذي أكثر ترديده بعض الوهابية ، ومفاده أن بعض شيوخ القراءة قرؤوا على ابن مسعود ، وهؤلاء أثبتوا المعوذتين في مصاحفهم ، فلو كان ابن مسعود ينكر المعوذتين لاقتفوا أثره في ذلك ، قال في المحلى :
" وكل ما روي عن ابن مسعود من أن المعوذتين وأم القرآن لم تكن في مصحفه فكذب موضوع لا يصح وإنما صحت عنه قراءة عاصم عن زر بن حبيش عن ابن مسعود وفيها أم القرآن والمعوذتان " ( 2 ) .
غاية هذا الكلام أن ابن مسعود ما أنكر المعوذتين ! ، وهذا الكلام تافه للغاية ويرده رواياتـهم الصريحة الصحيحة ، وعلى أي حال فلا بأس بالتعقيب على هذا كلام المتهالك الباطل صغرويا وكبرويا ، بأمور :
1- إن وظيفة القارئ هي اقتفاء أثر الشيخ في نحو القراءة وكيفية إخراج الحروف لا أن يحذف ويزيد سورا !!
2- سلمنا ، ولكن من قال إن القارئ يجب عليه اقتفاء أثر شيخه فيما علم خطؤه به ؟!
( 1 ) ن.م.
( 2 ) المحلى ج1ص13 .
- ص 451 -
3- سلمنا ، ولكن من قال إن الذين قرؤوا على ابن مسعود لم يعترضوا على إنكاره للمعوذتين ؟! فهاهي الروايات صريحة في اعتراض زر بن حبيش عليه وابن مسعود شيخه في القراءة !
فدفاع ابن حزم فاسد من رأسه إلى أخمص قدميه ، والوهابية الغرقى يلقون السمع لأي قائل ويتسمكون به ، والغريق يتمسك بقشه !
* ابتدأت معمعة التأويل !
ولدفع إشكال الرازي ذكر ابن حجر جوابا عنه ، قال : " وأجيب باحتمال أنه كان متواترا في عصر ابن مسعود لكن لم يتواتر عند ابن مسعود ، فانحلت العقدة بعون الله " ( 1 ) .
وللأسف ، فإن العقدة مازالت عالقة بل تعقدت أكثر ! ، لأمور :
1- ما ذكره ابن حجر ليس إلا احتمال لم يقم الدليل عليه وقد نص ابن حجر على كونه احتمالا .
2- من قال إن وجوه الصحابة الذين سمعوا آيات القرآن وعلموا بـها وجدانا يحتاجون لتواتر النقل لتثبت الآيات عندهم ؟! هذا خلاف المنطق ، لأن التواتر طريق إلى اليقين والحس المباشر هو عين اليقين ، ناهيك عما في يتضمنه هذا الكلام من تعذر اليقين بالقرآن لابتلائه بالدور ، حيث يحتاج كل صحابي للتواتر .
3- سلمنا ، ولكن من غير المعقول أن تتواتر سورتان بين الصحابة بعددهم الهائل الذي يصل قرابة مائة ألف صحابي وفي نفس الوقت يقصر التواتر عن ابن مسعود الذي بقي على قيد الحياة بينهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم
( 1 ) فتح الباري ج 8ص743 ط دار المعرفة.
- ص 452 -
مدة أكثر من ثلاث عشرة سنة !! ، هذا أمرٌ لا يمكن تصوّره فضلا عن قبوله فابن مسعود لم يكن يسكن الوديان وكهوف الجبال حتى يتحقق التواتر عند الصحابة ولا يتحقق عنده !
4- ثم إن موقف ابن مسعود وكلامه ليس موقف من لم يثبت عنده قرآنية السورتين ، الذي من شأنه أن يتوقف في حكم المسألة ويكل أمرها إلى الله عز وجل ، لأن موقفه هو موقف الرافض المعارض للفكرة والمتشبث برأيه ، فقد قام بحكها من الصحف ودعا الناس لعدم خلطها بالقرآن لأن المعوذتين من غيره ، وأنـهما نزلتا كعوذتين وليستا كقرآن ، فأين هذا من ذاك ؟!!
وعليه ، فمازالت الروايات سليمة وبعيدة عن الطعن والخدش في السند والدلالة وهذا يعني أن ما ذهب له الفخر الرازي وجماعته من تكذيب الروايات ليس بصحيح ، وما أشكله الفخر الرازي على بني جلدته ما زال قائما لم يدفعه تـهالك ابن حجر .
ولتفاهة توجيه ابن حجر لم يقبله بعض الأساتذة فقال معرضا به :
" وقد أبى ابن حجر إلا تصحيح تلك الرواية ( 1 ) ، فقال في شرح البخاري (فقول من قال إنه كذب عليه مردود ، والطعن في الروايات الصحيحة بغير مستند لا يقبل ، بل الرواية صحيحة والتأويل محتمل). ثم لم يستطع تأويلا مقبولا ، والله يغفر لنا وله " ( 2 ) .
( 1 ) كلامه يوهم أن تصحيح الروايات نبع من ابن حجر ! مع أن صحة السند هو القول الفصل في المسألة لا رأي فلان وفلان ! وليس ابن حجر هو الوحيد الذي صحح الروايات ، فقد صححها كثير غيره ، وصححها كل من التمس للروايات تأويلا ، وصححها كل من حكم بصحة كل ما أخرجه البخاري في صحيحه ، وكذا من أخذ بالروايات واعترف بأن ابن مسعود أنكر المعوذتين ، كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى .
( 2 ) هامش إعجاز القرآن للباقلاني ص442 تحقيق أحمد صقر ط دار المعارف بمصر .
- ص 453 -
والذين ركبوا صعب ابن حجر كثيرون ، فقبلوا الروايات والتمسوا لـها الوجوه والتخريجات ، نحو هذا التأويل الذي شاع وذاع مع أنه أكثر تفاهة من السابق ، وقد ذكره القرطبي في تفسيره ثم رده في وجه صاحبه :
" وقال بعض الناس : لم يكتب عبد الله المعوِّذتين لأنّه أمن عليهما من النسيان فأسقطهما وهو يحفظهما كما أسقط فاتحة الكتاب من مصحفه وما يُشكّ في حفظه وإتقانه لها . فرُدّ هذا القول على قائله وأقبح عليه بأنّه قد كتب : {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} و{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وهنّ يجرين مجرى المعوذتين في أنـهن غير طوال والحفظ إليهن أسرع ونسيانـهن مأمون وكلّهن يخالف فاتحة الكتاب إذ الصلاة لا تتم إلا بقراءتـها وسبيل كل ركعة أن تكون المقدّمة فيها قبل أن يقرأ من بعدها فإسقاط فاتحة الكتاب من المصحف على معنى الثقة ببقاء حفظها والأمن من نسيانـها صحيح وليس من السور ما يجري في هذا المعنى مجراها ولا يسلك به طريقها وقد مضى هذا المعنى في سورة الفاتحة والحمد لله " ( 1 ) .
ثم ذكر القرطبي في موضع آخر من تفسيره تأويلا يتخلص به من إشكال الكفر الذي ذكره الفخر الرازي ، فعن يزيد بن هارون أنه قال :
" المعوّذتان بمنـزلة البقرة وآل عمران من زعم أنهما ليستا من القرآن فهو كافر بالله العظيم ، فقيل له : فقول عبد الله بن مسعود فيهما ؟ فقال : لا خلاف بين المسلمين في أن عبد الله بن مسعود مات وهو لا يحفظ القرآن كله " ( 2 ) .
وهذه أوهن من بيت العنكبوت ، لمناقضتها للأحاديث التي لا كلام عندهم في صحّتها من أن ابن مسعود كانت قراءته آخر قراءة ، والرسول صلى الله عليه وآله وسلم أمر الصحابة باستقرائه القرآن ، بالإضافة إلى إن هذا القول لا يرفع شبهة الكفر ، إذ ليس من اللازم كي يحكم بكفر المنكر لآيات القرآن أن يكون حافظا لها عن ظهر قلب ! فقد ينكر المرء سورة البقرة فيحكم بكفره وإن لم يكن حافظا لها ! ، ثم هل من المعقول ألا يحفظ ابن مسعود المعوذتين ؟!!
( 1 ) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج20ص251.
( 2 ) ن.م ج1ص53.
- ص 454 -
* الغريق والقشة !
وبقيت آخر ورقة عند القوم وهي أن ابن مسعود رجع عن إنكاره لقرآنية المعوذتين ، وقد ذهب له بعضهم كابن كثير في تفسير سورة الفلق ، والفخر الرازي في مقدمة تفسيره وقال إن هذا من باب حسن الظن بابن مسعود !
وكلام هؤلاء يتضمن اعترافا صريحا بتحريف ابن مسعود للقرآن وأنه أنكر قرآنية المعوذتين ، ولكنهم من باب حسن الظن به قالوا برجوعه عن تحريفه ، ونحن نقبل ما قامت عليه الأدلة وهو ثبوت التحريف وقد اعترفوا به ، أما رجوعه عن التحريف فهذا لا دليل عليه إلا حسن الظن ! ، فنأخذ منهم ما قام عليه الدليل ونترك لهم حسن الظن ، ولو كان حسن الظن يجدي نفعا في المقام لقال الشيعة إن العلماء الشيعة الذين قالوا بتحريف القرآن تراجعوا عن أقوالهم وبنفس الدليل ، وتنتهي القضية .
* وشهِد شاهدٌ من أهلها :
وبعد أن ذكرنا قول مَن قبل الروايات وحاول بتكلف تأويلها ، نذكر هنا بعض من اعترف بدلالتها الواضحة ، فصرح أن ابن مسعود أخطأ ولا يمكن القول بأن الصحابة كلهم أخطأوا وابن مسعود أصاب بمفرده ، وما شذ به ابن مسعود من القول بتحريف القرآن يلزمه وحده ، ومن هؤلاء العلماء ابن قتيبة الدينوري في تأويل مشكل القرآن والقرطبي في تفسيره ، والعلامة البزار في مسنده ، وغيرهم الكثير من علماء أهل السنة الآتية أسماؤهم وكلماتـهم في مقام آخر بإذنه تعالى .
- ص 455 -
قال ابن قتيبة في تأويل مشكل القرآن : " وأما نقصان مصحف عبد الله بـحذفه أُمّ الكتاب والمعوذتين وزيادة أبي سورتي القنوت ، فإنا لا نقول : إن عبد الله وأُبـيًّا أصابا وأخطأ المهاجرون والأنصار ، ولكن عبد الله ذهب فيما يرى أهل النظر إلى أن المعوذتين كانتا كالعُوذَةِ والرُّقية وغيرها ، وكان يرى رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم يُعَوّذ بـهما الحسن والحسين وغيرهما ، كما كان يُعوّذ بكلمات الله التامة ، وغير ذلك ، فظن أنـهما ليستا من القرآن ، وأقام على ظنّه ومخالفته الصحابة " ( 1 ) .
واعترف القرطبي في تفسيره بالطامة التي جاء ابن مسعود بـها خارقا إجماع الصحابة وأهل البيت عليهم السلام ، فقال : " وزعم ابن مسعود انّهما تعوّذ به وليستا من القرآن وخالف به الإجماع من الصحابة وأهل البيت " ( 2 ) .
وكذا اعترف علامتهم البزّار في مسنده : " لم يتابع ابن مسعود أحد من الصحابة وقد صح عن النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم أنه قرأ بـهما في الصلاة وأثبتتا في المصحف " ( 3 ) ، وبقية اعترافات علمائهم تأتي بإذنه تعالى في محل آخر .
وكما ترى فإن رفض ابن مسعود لقرآنية المعوذتين ليس مجرد نقل محدّثين يروون الرواية كما يسمعونـها ، بل هو معتقد علمائهم .
( 1 ) تأويل مشكل القرآن ص33 . لابن قتيبة تحقيق سيد أحمد صقر ط. الحلبي .
( 2 ) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج 20 ص251 .
( 3 ) الدر المنثور ج4ص416 ط دار المعرفة .
- ص 456 -
* فذلكة البحث :
يمكننا القول على ضوء ما تمليه علينا روايات أهل السنة ، أن التساهل في مدعى ابن مسعود والتغاضي عنه أمر غير صحيح ولا يمكن قبوله البتة ، وذلك لأمور :
1- ادعى أهل السنة أن ابن مسعود هو الوحيد الذي علم العرضة الأخيرة للقرآن وهي التي عرضها أمين الوحي على الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم في آخر حياته الشريفة .
فهذا ما صح عن ابن عباس : " قال : أي القراءتين ترون كان آخر قراءة ؟ قالوا : قراءة زيد ، قال : لا ! إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يعرض القرآن كل سنة على جبريل فلما كانت السنة التي قبض فيها عرضه عليه عرضتين فكانت قراءة ابن مسعود آخرهن " ( 1 ) .
والمقصود من آخر قراءة هو القرآن الذي استقر عليه الإسلام ، فتكون قراءة ابن مسعود التي التزم بـها طيلة حياته هي القراءة التي نسخ منها ما نسخ ، وبُدّل منها ما بُدل من الآيات والسور – بزعمهم – ولا أحد يعلم بـها إلا ابن مسعود كما نص عليه ابن عباس سابقا ، ومثلها هذه الرواية :
" قال : أيّ القراءتـيّن تعدّون أوَّل ؟ قالوا : قراءة عبد الله . قال: لا ! بل هي الآخرة ، كان يعرض القرآن على رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم في كل عام مرّة ، فلمّا كان العام الذي قبض فيه عرض عليه مرّتين فشهد عبد الله ، فعلم ما نسخ وما بُدِّل " ( 2 ) .
وقال ابن حزم : "حدثنا أحمد بن محمد الجسوري ثنا وهب بن مسرة ثنا ابن وضاح ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا معاوية عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال : أي القراءتين تعدون أول ؟ قلنا : قراءة عبد الله ! قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعرض عليه
( 1 ) المستدرك على الصحيحين ج2ص230 وقال الحاكم (صحيح الإسناد على شرط الشيخين) ووافقه الذهبي .
( 2 ) مسند أحمد بن حنبل ج5ص141-142ح3422 ، والمصنّف لابن أبي شيبة ج10ص559ح10337، ط دار المعارف ، وعُلّق عليه بالهامش (إسناده صحيح). وراجع مسند أحمد ج1ص275ح2494 وص362ح3422 ، قال في مجمع الزوائد ج9ص288: (في الصحيح بعضه رواه أحمد والبزار ورجال أحمد رجال الصحيح).
Powered by vBulletin® Version 4.2.0 Copyright © 2024 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved, TranZ by Almuhajir