مشاهدة النسخة كاملة : دولة الموحدين
الصفحات :
1
2
3
4
5
[
6]
7
8
9
10
ومن أعمال عبدالمؤمن: مسح جميع أراضي مملكته، وحصل من الولاة على بيانات دقيقة عن سكان كل ولاية، وعن خواصها وثروتها وغلاّتّها. وكان يرمي من ذلك إلى تقرير الضرائب من ناحية، وأن تتخذ هذه البيانات أساساً لتقرير عدد الجند وأنواعه من ناحية أخرى، فسكان الثغور في المغرب والأندلس يقدمون البحارة والسفن، والمناطق الصحراوية والفنية بالخيل تقدم الفرسان ودواب الحمل والجمال، وعلى الولايات الأخرى في المدن الداخلية مثلاً - تقديم الجند المشاة والسلاح، كل بنسبة سكانها.
وكان عبدالمؤمن يحتفظ بالسلاح بكميات وافرة، وبمقادير جيدة في المخازن المعدة له. وأنشأ مصانع السلاح في كثير من قواعد مملكته تعطي القسيَّ والنُّشَّاب والخوذات والدروع والسهام.. وآلات الرمي والمنجنيقات التي تستخدم في الحصار وعزم عبدالمؤمن على تغيير نظام الطبقات ولذلك قام بحركة واسعة للقضاء على كل العناصر الغير موالية له وتخلص من كل العناصر التي لم يكن ولاؤها له غير مؤكد. ومشاغبتها عليه محتمل وقوعه وخافه الموحدون خوفاً عظيماً وأرعبت النفوس منه وساعدته الظروف على تحقيق أهدافه الشخصية وطموحه الذاتي، فمن هذه الظروف أن طبقة الجماعة قد تناقص عددها تناقصاً كبيراً. فقد قتل خمسة أفراد من أعضاء هذه الطبقة في موقعة البحيرة سنة 524هـ التي هزم فيها الموحدون من قبل القوات
المرابطية. وهؤلاء هم: أبو محمد عبدالله بن محسن الوانشريشي وسليمان بن مخلوف الحضرمي، وأبو عمران موسى بن تماري الكدميوي وأبو يحيى ابن بيكيت وأبو عبدالله بن سليمان. أما أبو حفص عمر بن علي آصناك، فقد توفي سنة 536هـ وقتل عبدالله يعلي بن ملوية سنة 527هـ بعد أن خرج على الخليفة عبدالمؤمن. إذ أنه حقد على الموحدين بيعتهم له أما أبو الحسن بن واكاك، فقد قتله طلحة غلام أبي اسحاق أمير المسلمين المرابطي سنة 541هـ.
وإذن فقد توفي في طبقة الجماعة، المكونة من عشرة أشخاص، ثمانية أفراد، ولم يعد باقياً على قيد الحياة منهم إلا ابو حفص عمر بن يحيى الهنتاتي وعبدالمؤمن بن علي وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة لطبقة الجماعة، فإنه من المؤكد أن الكثيرين من أعضاء طبقتي أهل خمسين وأهل سبعين، وغيرها من الطبقات قد تناقص بسبب الحروب المستمرة التي خاضها الموحدون. ولذلك أتيحت وفاة الكثيرين من أعضاء طبقات الموحدين، فرصة طيبة لعبدالمؤمن بن علي لأن يجري تعديلاً في نظام الطبقات وبعد أن تخلص من أكثر من (32080) شرع لتنفيذ المخطط الهادف لتغيير نظام الطبقات فأصدر أوامره لجميع الموحدين من المصامدة وغيرهم بالحضور إلى حضرته في مراكش فحضروا والرعب يملأ جوانحهم والخوف يملأ قلوبهم، خوفاً ورهبة مما يخبئه لهم الخليفة. لقد رسم عبدالمؤمن خطته في اناة وروية، ونفذها على خطوات وعلى مهل وفي غير استعجال، حتى اذا ما استوفى ربط الحلقات واحكامها، جاءت نتيجة خطته محققة لما وضعها من أجله. وهي أن يكون له في الدولة كل شيء ولايكون للموحدين أي شيء. هكذا أصبح عبدالمؤمن خليفة الموحدين اسماً وفعلاً.
ولما أن أصبحت الحال تلك، وأحضر الموحدين إلى حاضرة مراكش، أعلن فيهم تغيير نظامهم الطبقي وأعلن عليهم النظام الجديد وحدد فيه مكان كل منهم وتغيرت الطبقات من أربعة عشرة طبقة إلى ثلاث طبقات: (فالطبقة الأولى: هم السابقون الأولون الذين بايعوا بن تومرت، وصحبوه وغزوا معه وصلوا خلفه، والذين شاهدوا البحيرة وباءوا بفضلها واشتملوا بردة شرفها وارتقوا إلى ذروة الحظوة بها، وشهد لهم بالفضل الذي لايوازي والرتبة التي لا تعادل. ويتلو هذه الطبقة: من آمن بهذا الأمر ودخل في هذا الحزب وانضوى إلى هذا الشعب من بعد البحيرة إلى فتح وهران. والطبقة الثانية من فتح وهران إلى هلم جرا. من النظر إلى التنظيم الجديد لطبقات الموحدين، يتبين أن عبدالمؤمن ألغى طبقة الجماعة الغاء نهائياً، وهي الطبقة التي كان لها الحق الأول في إدارة شئون الموحدين ومراقبة الخليفة. هذا بالإضافة إلى أنه ألغى طبقتي أهل خمسين وأهل سبعين وهما الطبقتان التاليتان لطبقة الجماعة في النفوذ والسيطرة. وهكذا أزاح عبدالمؤمن من أمامه الطبقات ذات الشأن في نظام ابن تومرت. بل إن عبدالمؤمن ألغى الطبقات الأربعة عشر، وجمعها كلها في طبقة واحدة، وهي الطبقة الأولى في نظامه. وهو قد ذهب إلى مدى أبعد، إذ جعل في هذه الطبقات كل من رأى بن تومرت وبايعه وصلى خلفه واشترك معه في حروبه. ليس هذا فقط، بل وكل من اشترك في غزوة البحيرة التي هزم فيها الموحدون عند أحواز مراكش من قبل المرابطين، يوم الثاني عشر من جمادي الثانية من سنة خمسمائة وأربعة وعشرين هجرية الموافق الثالث عشر من مايو سنة 1130م.
ومعنى هذا أن عبدالمؤمن حطم نفوذ الطبقات المتنفذة الأولى في نظام بن تومرت ثم انه ساوى بين أعضاء الطبقات الأخرى والطبقات الثلاثة الأولى، وجعل مكانة الجميع على قدم المساواة. وهذه المساواة بين أفراد الطبقات أتاحت لأفراد الطبقات الاحدى عشر الأخيرة في النظام الملغي، كسباً معنوياً كبيراً وفائدة مادية جليلة. وبهذا استطاع أن يكسب ود واخلاص وتأييد أفراد هؤلاء الجماعة لاتاحته لهم هذه الفرصة الذهبية. كما وأن التنظيم الجديد أتاح للكثيرين ممن كانوا خارج الطبقات الموحدية، فرصة الانتماء للنظام الموحدي واكتسابهم شرف الانضواء تحت رايته.
أما الطبقة الثانية، فهي تشمل كل الذين دخلوا في حركة الموحدين، منذ موقعة البحيرة سنة 524هـ وحتى فتح وهران سنة 538هـ وهذا يعني أن النظام الجديد أتاح الفرصة للجماعات والقبائل المختلفة التي دخلت في طاعة الموحدين بعد سنة 524هـ وحتى سنة 538هـ. سواءً كانت هذه الطاعة قد جاءت طواعية واختياراً أو اجباراً وقسراً بحد السيف. وهكذا استطاع عبدالمؤمن بحركة بارعة أن يستل الضغينة من نفوس الذين فرضت عليهم طاعة الموحدين بعد عام البحيرة وحتى فتح وهران. وذلك بمساواتهم بغيرهم من الموحدين الأولين، وادراجهم في الطبقة الثانية من النظام الجديد. وهذا بطبيعة الحال أدى إلى انتشار الرضى بينهم واطمئنانهم إلى مستقبلهم الذي يبشر به انضواؤهم في النظام الطبقي للموحدين. وهي إلى جانب الكسب المعنوي والسياسي، قد أتيحت لهم فرصة الاستفادة المادية إلى أبعد مدى.
وهذه الطبقة سوف تنظر بعين الرضى والتأييد للخليفة عبدالمؤمن بن علي، الذي أقدم بشجاعة فائقة على تغيير النظام القديم، وأتاح لأفرادها شرف الانتماء إلى النظام الموحدي، بل وفي الطبقة الثانية منه، وبهذا استطاع عبدالمؤمن أن يجعل أفراد هذه الطبقة من المخلصين له والمؤيدين لسياسته والدافعين لأعدائه.
والطبقة الثالثة، تضم من دخل حركة الموحدين منذ فتح وهران سنة 538هـ وإلى أي زمن تلا ذلك، فاتحاً الباب لكل من يطيع الموحدين لأن ينتظم في سلك الطبقة الثالثة.
ثم أن عبدالمؤمن لما أن افتتح المغرب الأوسط وأدخله في دولة الموحدين، بعد أن قضى على امارة بني حماد فيه، قام بمحاربة قبائل بني هلال، الذي وقفوا في وجهه. وتمكن الموحدون من هزيمتهم في أكثر من موقعة وأرغموهم على الخضوع والطاعة. وبدلاً من أن يقوم عبدالمؤمن بالانتقام من هذه القبائل وزعمائها، نجده ينقل معه ألفاً من كل قبيلة منهم وينزلهم بالمغرب الأقصى كما قام في نفس الوقت برد الأموال والحرم التي غنمت من تلك القبائل ومنحهم جزيل العطاء. وعن هذه الأحداث يذكر البيذق قائلاً: "وأما ما كان من أمر غنائم العرب وسبيها، فترك منها أمير المؤمنين في فاس ومكناسة وفي سلا وحمل مع نفسه سلاطينهم إلى مراكش وعيالهم وهم: ديفل بن ميمون وحباس بن الرومية وابن الزحامس وابن زيان، وأبو قطران، وأبو عرفة، والقائد ابن معرف. فهؤلاء الملوك رد لهم الخليفة عيالهم وأعطاهم المال وصرفهم إلى بلادهم. فقالوا للخليفة تأمرنا بالرجوع إليك. فقال لهم الخليفة مجاوباً لهم نحن نصل إليكم وردهم كافة بنسائهم حملها لهم القبائل وكان ذلك في عام 547هـ".
هذا بالاضافة إلى أن الخليفة بعد غزوته للمغرب الأدنى، أحضر معه الكثير من قبائل العرب وأنزلهم بالمغرب الأقصى. وهو في الواقع قام بهذا العمل، ليبعد شر هذه القبائل عن افريقية والمغرب الأوسط ويجعلها في متناول يده، كما أنه كان يرمي إلى كسب ودها واستخلاص ولائها. كما وأن جلبه لتلك الآلاف منهم وانزالهم بالقرب منه، يخفي وراءه سياسته في أن يتقوى بهم ويجعلهم كعصبية له ضد ثورة المصامدة المحتملة.
وحرص على ملاطفة العرب واستمالتهم وحرضهم على قتال النصارى ودخول الأندلس معه فقال:
أقيموا إلى العلياء هوج الرّواحل
وقودوا إلى الهيجاء جُرْد الصواهلِ
وقوموا لنصر الدين قومة ثائرٍ
وشدوا على الأعداء شدة صائــــلِ
فما العُّز إلا ظهرُ اجرد سابح
وأبيض مأثور وليس سائــــــــــل
بني العمِّ من عليا هلال بن عامر
وما جمعت من باسل وابنِ باسل
تعالوا فقد شُدَّتْ إلى الغزو نَّيةٌ
عواقبـــــــــــها منصورة بالأوائلِ
هي الغروة الغراءُ والموعدُ الذي
تنجَّزَ من بعدِ المدى المتطـــــاولِ
بها نفتح الدنيا بها نبلغ المنى
بها نُنْصِفُ التَّحقيقَ من كلِّ باطلِ
فلا تتوانوا فالبدارُ غنيمةٌ
وللمُدْ لج السّاري صفاء المناهلِ
وكانت الشعراء تقصد عبدالمؤمن لمدحه، ولما قال فيه التِّفاسي قصيدته:
ماهزَّ عطفيه بين البيض والأسلِ
مثل الخليفة عبدالمؤمن بن علي
أشار إليه أن يقتصر على هذا المطلع، وأمر له بألف دينار ولما سار عبدالمؤمن بجيوشه ونزل جبل طارق، وسمّاه جبل الفتح، فأقام أشهراً، وبنى هناك قصوراً ومدينة، ووفد إليه كبراء الأندلس، وقام بعض الشعراء منشداً:
ماللعدى جُنَّةٌ أوقى من الهرب
أين المعزُّ وخيلُ الله في الطلب
وأين يذهب من في رأس شاهقة
وقد رمته سهامُ الله بالشُّهُــــ،ب
حدِّث عن الروم في أقطار أندلسٍ
والبحر قد ملأ البرَّينِ بالعَرَبِ
فأعجب بها عبدالمؤمن وقال: بمثل هذا يمدح الخلفاء وبعد أن أطمأن عبدالمؤمن إلى سلامة الخطوات التي اتخذها في سبيل أن تكون له السيادة الكاملة في الدولة، وضمن تحطم نفوذ الشخصيات البارزة في مجموعة الموحدين، وتأكد له ولاء أغلب الطبقات في النظام الجديد، وبعد أن ضمن حماية نفسه وأسرته بمجموع بني هلال وسليم التي أنزلها في أحواز أقدم على الخطوة الخطيرة التي مافتئ يستعد لها ويمهد الطريق أمامها ألا وهي جعل الحكم في دولة الموحدين في عقبه، وتوليه أحد أبنائه ولياً لعهده
يتبع
الهزبر
2008-05-20, 06:56 PM
السلام عليكم.
بورك فيك اخت صفاء وعذرا لابتعادي عن الموضوع يجب ان اقرا منه كل يوم جزءا.
متابع باذن الله
يجب ان اقرا منه كل يوم جزءا.
الله يكون في عونك اخي الهزبر :p018:
متابع باذن الله
بارك الله فيك اخي الهزبر وشكرا لك على المتابعة والمرور الكريم
وفي عام 549هـ أعلن عبدالمؤمن للملأ من طبقات الموحدين والقبائل الداخلة في طاعتهم، من بني هلال وصنهاجة، توليته لابنه محمد ولياً لعهده وقامت تلك الجماعات في الحال بالموافقة على ذلك الأمر، وبايعت لولي العهد. وقد بين الخليفة في رسالة بعث بها إلى طلبة الموحدين في سبتة وطنجة، الظروف التي تمت فيها تولية ابنه لخلافته والعوامل التي فرضت عليه ذلك، فجاء فيها: "ولكم أن كثيراً من أولياء هذه الدعوة العلية واخوانها من أشياخ الأنظار وأعيانها، تقدمت رغبتهم في أمر أخرته الخيرة لميقاتها، وأرجأته التؤدة إلى خير أوقاتها... وكانت العشائر العربية الهلالية والقبائل الشرقية والصنهاجية ومن معها، حاضرة وبادية من أهل اقليمها وذوي ألبابها وحلومها، يشيرون إلى ذلك على انشراحهم ويعلمون أنه غاية اقتراحهم ومادة نفوسهم وأرواحهم ولم تزل مخاطبتهم في ذلك تتردد حيناً بعد حين ورغباتهم تتأكد لما كان عندهم فيه من ثلج ويقين. فلما اتفق بحمد الله وصولهم في هذه الوفادة، للأخذ بأطناب السعادة المنيفة بهم على مقتضى الآمال والإرادة، صرحوا لأول لقائهم بما أضمروه، وأبدوا سرهم المكنون وأظهروه. واعلموا أن محمداً
- وفقه الله - هو الذي ارتضوه لحمل عبئهم وتخيروه، ورغبوا في تقديمه على بلادهم وانفاذه معهم على قصده في توليته مرادهم... فرأينا بعد استخارة الله تعالى أن نجمع في هذا الموضع المبارك من وصله من شيوخ الموحدين وطلبتهم وعمالهم ونتذاكر معهم في ذلك الأمر المسئول ونعارضهم فيه على الجملة والتفصيل، ونلقي إليهم حديث القوم المذكورين، بأتم وجوه الالقاء والتوصيل فكان ذلك على ما أقصد وذكروا في الأمر على ما أتوخى فيه واعتمد. وعرفوا بأن ذلك ليس مما بنى عليه ولا مما اعتقد... وتقدمهم الشيخ الأجل أخونا أبو حفص عمر بن يحيى - أعزه الله بتقواه - هذا أمر نحن بتقديمه وأعلم بوجوبه ولزومه وأولى بتأميره علينا وتحكيمه. ونحن السابقون إلى مبايعته على حدود الشرع ورسومه. فهو مختارنا للدين والدنيا وسؤلنا المأمول للحياطة والرعيا.. وقال أكثر الحاضرين من الأشياخ والطلبة والعمال ومن أعلم به من الطلبة والفقهاء ومن جرت مذاكرته في مثل هذه الآراء: هذا أمر في ضمائر أكثر معقود وفي نفوس جمهورنا موجود وهو الذي ليس عليه من آمالنا مزيد... وابتدأها الشيخ الأجل أبو حفص المذكور بيمناه، قصد اعتقادها على أكرم وجه وأسناه، وتتابع الأشياخ والطلبة بعده على درجاتهم وسرى النعيم بها في أبشارهم ومناتهم، وباشرها من حضرها من القبائل الموحدين وسائر اخوانهم المؤمنين قبيلاً بعد قبيل".
يتبين لنا من هذه الرسالة نقاط أولها أن عبدالمؤمن يبعد عن نفسه شبهة التفكير في تولية أحد أبنائه لخلافته في الحكم.
وثانيها أن هذه الفكرة إنما أثارتها قبائل هلال وصنهاجة والقبائل الشرقية. وهي التي لم تكتف باثارة الموضوع، بل وألحت عليه. ومسألة تعيين الحاكم أو الخليفة في دولة الموحدين، ليست من الأمور البسيطة التي يمكن لمثل هذه القبائل أن تبدي رأيها عنها وتتدخل فيها. فهي مسألة حساسة وتمس الحركة الموحدية في جوهرها فالواجب أن يثيرها الموحدون أنفسهم لا هذه القبائل التي اخضعت بحد السيف.
وتدخل هذه القبائل في مثل هذا الموضوع، يثير الشك بأن الخليفة عبدالمؤمن هو الذي أوحى لها بأن تثير وتلح عليه.
والنقطة الثانية، هي أن الموحدين وأشياخهم لما أن جمعهم الخليفة في حضرته، وعرض عليهم رغبة قبائل هلال وصنهاجة والقبائل الشرقية في أن يتولى ابنه محمد الحكم بعده، بينوا أنهم أولى من غيرهم في اقتراح مثل هذا الأمر وأنهم أولى بعقد النية والعزم عليه. والحقيقة أن تغيير نظام الطبقات جعل عبدالمؤمن السيد المطاع بلا منازع في دولة المرابطين ولذلك بادروا وسارعوا بالموافقة لما أراد وتقديم البيعة لولي عهده، النقطة الرابعة: يبدو أن أبا حفص عمر بن يحيى وجد نفسه أمام أمر الواقع ولذلك بادر باظهار الرضى عن هذه البيعة وكان أول المبايعين لابن عبدالمؤمن وتنازل أمام ضغط الواقع عن حقه الطبيعي لعبدالمؤمن في الحكم.
وهكذا استطاع عبدالمؤمن أن يجعل الحكم وراثياً في عقبه وبذلك يكون انحرف عن تعاليم ابن تومرت في قضائه على الطبقات وجعل الحكم وراثياً.
وبهذا الفعل ثارت حفيظة الكثيرين من الموحدين مما دفع بعضهم بالثورة عليه ومن الطبيعي أن يكون أهل بن تومرت أول المعارضين لعبدالمؤمن ولذلك قامت خيانات في الجيش الموحدي بقيادة يصلتين بن المعز الذي انفصل بجيشه في معارك الموحدين مع العرب في المغرب الأوسط مما سبب في انتصار بني هلال على جيش ابن واندوين والقضاء على أغلبه، وقتل قائد الجيش الموحدي في المعركة. وطمع بنو هلال أثر هذا الانتصار في الموحدين الذين اهتزت روحهم المعنوية لهذه الهزيمة. ولكن عبدالمؤمن بقدرته العسكرية الفذة استطاع أن يهزم تلك القبائل وأن يحافظ على وحدة الجيش الموحدي وارتفاع روحه المعنوية، وظهر للموحدين بمظهر الرجل الفذ القادر على الوقوف في وجه العواصف الهوج، ففوت بعمله ذاك الفرصة على يصلتين الذي كان يرمي إلى القضاء على جيش عبدالمؤمن بفعله ذاك والقي القبض على يصلتين وقتل في سبتة عام 546هـ بتهمة الخيانة العظمى.
وفي عام 549هـ حاول أخو بن تومرت، عيسى وعبدالعزيز في مدينة مراكش القيام بثورة على عبدالمؤمن والاستيلاء على مقاليد الحكم إلا أن المخلصين من انصار عبدالمؤمن واهل مراكش افشلوا تلك المحاولة الفاشلة وكان عبدالمؤمن بعيداً عن مراكش في سلا، وقبض على المتآمرين وكان تعدادهم الثلثمائة شخص وقتلوا جميعاً واعدم اخوا بن تومرت وفي عام 555هـ حاول بيت بن تومرت اغتيال عبدالمؤمن إلا أن تلك المؤامرات اهبطت في مهدها وشعر عبدالمؤمن بضرورة جلب قبيلته لحمايته من المؤامرات المتكررة، فأنفذ الأموال إلى زعماء قبيلته وأمرهم أن يأتوه ركباناً ويركبوا معهم كل من تجاوز سن الحلم من أبناء القبيلة.
وقد وصل رجال قبيلة كومية سنة 557هـ إلى مراكش في تعداد تجاوز الاربعين ألفاً وفرح بهم عبدالمؤمن فرحاً عظيماً وأنزلهم في مراكش واعطاهم الدور ووزع عليهم البساتين، وجعل منهم حرسه الخاص الذي يقف بين يديه في جلوسه ويحيط به في تسياره وبذلك اطمئن على نفسه على حكم ابنائه من بعده.
إن الخطوات التي اتخذها عبدالمؤمن من ابعاد قبائل المصامدة وشراء خدمات قبائل بني هلال، واسناد أمر الحماية إلى قبيلته كومية، والقضاء على تنظيم ابن تومرت في الطبقات جعل من الموحدين خدماً لمصلحة فرد وأطماعه المادية بعد ان كانوا يخدمون فكرة ويدافعون عن مبدأ، ففقدت نفوسهم تلك الروح المتوثبة والحماس الشديد في سبيل تقدم الدولة ونجاح الدعوة.
إن مسلك عبدالمؤمن في جعل الحكم وراثياً ساهم في ايجاد تنافس شديد وتنازع مميت بين ابناء عبدالمؤمن فيما بعد، بل سفكت دماء، وحيكت مؤامرات دنيئة بين الأخوة في سبيل تولي الحكم، وكان من نتيجة ذلك كله ضعف الدولة، وتدهورها السريع في فترة ليست بالطويلة.
لم يكتفي عبدالمؤمن ببيعة الموحدين لابنه بل قام بتعيين ابنائه على أغلب ولايات الدولة، وجعل إلى جانبهم وزراء من الطلبة ليكونوا مرشدين وناصحين لهم. ومن الأمور المهمة والأحداث ذات الدلالة في تاريخ دولة الموحدين، ظهور التكلات التي ساهمت في اضعاف الدولة، وكانت سبباً في وقوع وزيرين في نكبتين عظيمتين على يد عبدالمؤمن وهما: الوزير أبو جعفر أحمد بن عطية، وعبدالسلام الكومي.
يتبع
شيء من سيرة عبدالمؤمن ووفاته:
1- لما نزل عبدالمؤمن سلا وهي على البحر المحيط ينصب إليها نهر عظيم ويمر في البحر عبر النهر، وضربت له خيمة، وجعلت جيوشه تعبر قبيلة قبيلة، فخر ساجداً، ثم رفع وقد بلّ الدمع لحيته، فقال: أعرف ثلاثة وردُوا هذه المدينة لاشيء لهم إلا رغيف واحد، فراموا عبور هذا النهر، فبذلوا الرغيف لصاحب القارب على أن يُعَدِّ بهم، فقال: لا آخذه إلا عن اثنين، فقال احدهما وكان شاباً: تأخذ ثيابي وأنا أسبح، ففعل، فكان الشابُّ كلما أعيا، دنا من القارب، ووضع يده عليه يستريح، فيضربه بالمجذاف، فما عدَّى الا بعد جُهد فما شك السامعون أنه هو السابح، والآخران بن تومرت، وعبدالواحد الشرقي.
2- ذكر ابن العماد في شذرات الذهب عبدالمؤمن بن علي فقال: (كان ملكاً عادلاً سايساً عظيم الهيبة عالي الهمة كثير المحاسن متين الديانة قليل المثل وكان يقرأ كل يوم سبعاً من القرآن العظيم، ويجتنب لبس الحرير ويصوم الاثنين والخميس ويهتم بالجهاد والنظر في الملك كأنما خلق له وكان سفاكاً لدماء من خالفه سأل أصحابه مسألة ألقاها عليهما فقالوا لا علم لنا الا ما علمتنا فلم ينكر ذلك عليهم فكتب بعض الزهاد هذين البيتين ووضعهما تحت سجادته وهما:
ياذا الذي قهر الانام بسيفه
ماذا يضرك أن تكون إلهــــاً
الفظ بها فبما لفظت فإنه
لم يبق شيء أن تقول سواها
فلما رآها وجم وعظم أمرهما وعلم أن ذلك بكونه لم ينكر على أصحابه قولهم لا علم لنا إلا ما علمتنا فكان عبدالمؤمن يتزيا بزي العامة ليقف على الحقائق فوقعت عيناه على شيخ عليه سيما الخير فتفرس فيه أنه قائل البيتين فقال له أصدقني أنت قائل البيتين قال أنا هو قال لم فعلت ذلك قال قصدت اصلاح دينك فدفع إليه ألف دينار فلم يقبلها ومن شعره وقد كثر الثوار عليه:
لاتحفلن بما قالوا وما فعلوا
أن كنت تسموا إلى العليا من الرتب
3- فبعد أن أتم عبدالمؤمن افتتاح المغرب الأوسط وإسقاط امارة بني حماد فيه، وافتتاح المغرب الأدنى وإجلا النورمانديين منه إلى صقلية، وضمها إلى دولة الموحدين، وأصبحت دولة خلافته تمتد من حدود برقة شرقاً حتى البحر المحيط غرباً، ويشمل سلطانه معظم بلاد الأندلس الاسلامية، وبعد أن تم له تعيين ابنه ولياً لعهده، وعقد لأبنائه على أغلب ولايات الدولة وقضى على أغلب المتآمرين ورؤوس الفتنة، وخضّد شوكة افراد بيت بن تومرت، وعمل على تقوية جانبه باصطناع أعراب بني هلال وتقويه ظهره بعصبية قبيلته، شرع في الاعداد للمشروع العسكري الكبير الذي نوى القيام به، ألا وهو دخول الأندلس بجيش لم يسبق له مثيل للقضاء على الممالك والامارات الاسبانية وكل من تمرد على دولة الموحدين ولذلك استعد عبدالمؤمن لهذه الحملة.
يقول ابن صاحب الصلاة: (تم اعداد مائتي قطعة بحرية جديدة في دور الصناعة بمرسى المعمورة عند حلق البحر على ضفاف وادي سبو، وغيره من الدور في بلاد المغرب وسواحل الأندلس وهذه القطع تعتبر اضافة لقطع الأسطول الموحدي الزاخر. وكانت الاستعدادات في نفس الوقت تجري لتدريب الرجال على أفانين القتال البحري والتهيئة له. كما أنه: "وأعد من القمح والشعير للعلوفات والمواساة للعساكر على وادي سبو بالمعمورة المذكورة، ما عاينته مكدساً كأمثال الجبال بما لم يتقدم الملك قبله.. ونظر في استجلاب الخيل له من جميع طاعاته بالعدوة وافريقية، وانتخاب الأسلحة من السيوف المحلاة والرماح الطوال على أجمل الهيئات والدروع والبيضات والترسة، إلى غير ذلك من الثياب والكسا والعمائم والبرانس، ما استغربته الأذهان ولاتقدم بمثله زمان. وقسم ذلك كله على الموحدين ...).
خرج عبدالمؤمن بن علي من مراكش في جموع الموحدين ومختلف القبائل يوم الخميس خامس عشر من ربيع الأول من عام ثمانية وخمسين وخمسمائة هجرية (558هـ) وانتهى به السير في رباط الفتح من مدينة سلا. ونزلت الجيوش في الفحوص الواقعة ما بين عين غبولة وأرض بندغل وكان تعداد الجيش حوال مائة الف راجل ومائة ألف فارس. وتقرر في مجلس الحرب الذي عقده الخليفة، تقسيم الجيش أربعة أقسام، وتوجيهها إلى أربع جهات مختلفة من بلاد اسبانيا:
1- الجيش الأول: يتجه إلى مدينة قلمرية عاصمة البرتغال.
2- الجيش الثاني: إلى فرناند ودي ليون.
3- الجيش الثالث: إلى الفونسو الثامن ملك قشتالة.
4- الجيش الرابع: يسير إلى برشلونة.
غير أن الذي غير هذا المخطط وجمّد هذا العمل الكبير، مرض عبدالمؤمن بن علي المفاجئ، وانتظار الموحدين شفائه، إلا أن المرض أصاب قوته وأظهر ضعفه حتى اسلمه إلى منيته مساء يوم الخميس العاشر من جماد الآخرة من سنة 558هـ قال ابن كثير في عام ثمان وخمسين وخمسمائة:
"فيها مات صاحب المغرب عبدالمؤمن بن علي، وخلفه من بعده في الملك ابنه يوسف وحمل أباه إلى مراكش على صفة أنه مريض، فلما وصلها أظهر موته فعزاه الناس وبايعوه على الملك من بعد أبيه، ولقبوه أمير المؤمنين، وقد كان عبدالمؤمن هذا حازماً شجاعاً، جواداً معظماً للشريعة، وكان من لايحافظ على الصلوات في زمانه يقتل، وكان إذا أذن المؤذن وقبل الأذان يزدهم الخلق في المساجد، وكان حسن الصلاة ذا طمأنينة فيها، كثير الخشوع، ولكن كان سفّاكاً للدماء، حتى على الذنب الصغير، فأمره إلى الله يحكم فيه بما يشاء...).
إن المتتبع لتاريخ عبدالمؤمن بن علي يلاحظ بوضوح أن حماسه لدعوة بن تومرت تبدد حيث انشغل بالأمور السياسية والعسكرية واكتفى بالقيام بزيارة قبر ابن تومرت بين الفينة والأخرى، كرمز على محبته له ولدعوته، أما العمل على تأصيلها في نفوس الناس ونشرها في أماكن جديدة فلم يذكر المؤرخون - على حسب اطلاعي - أنه قام بشيء من هذا، ويدل على ذلك أن عبدالمؤمن لما بسط سلطانه على بلاد المغرب والأندلس لم تنتشر دعوة ابن تومرت في تلك الديار، ولم تتأصل محبتها في قلوب سكانها كما تأصلت عند سكان بلاد المغرب الأقصى الذين انتشرت بينهم تلك الدعوة في عصر بن تومرت ولم يسر ظل الدعوة الموحدية جنباً إلى جنب مع الظل السياسي للدولة في عهد عبدالمؤمن وإن كان استمر على نفس البرنامج التعليمي الذي وضعه بن تومرت واصدر أوامره إلى كافة الموحدين بشأن ضرورة المحافظة على تعاليم ابن تومرت والعمل على نشرها وكان ذلك تكتيكاً من عبدالمؤمن لكي يحافظ على مكانته بين الموحدين المخلصين لدعوة ابن تومرت. إن تاريخ عبدالمؤمن يشير إلى أنه لم يكن جاداً في الالتزام الحرفي لدعوة بن تومرت، ولعل ماتحمله دعوة بن تومرت من شطط وغلو في بعض افكارها من الأسباب الرئيسية التي جعلته يحجم عن العمل على نشرها حتى لا يحدث رد فعل مضاد له مما يعرض دولته للخطر.
يتبع
ابويعقوب يوسف
هو السلطان الكبير، أبو يعقوب يوسف ابن السلطان عبدالمؤمن بن علي ، صاحب المغرب.
قيل بأنه تملك بعد أخيه المخلوع محمد لطيشه ، وشربه الخمر، فخلع بعد شهر ونصف، وبويع أبو يعقوب ، وكان شاباً مليحاً، ابيض بحُمرة ، مستدير الوجه، أفوه، أعين ، تام القامة حلو الكلام فصيحاً، حلو المفاكهة، عارفاً باللغة والاخبار والفقه، متفننا، عالي الهمة ، سخياً، جواداً، مهيباً، شجاعاً خليقاً للملك.
أولاً علمه وبيعته:
أ- علمه:
قال عبدالواحد بن علي التميمي : صح عندي أنه كان يحفظ أحد الصحيحين، أظنه البخاري. قال: وكان سديد الملوكية ، بعيد الهمة ، جواداً ، استغنى الناس في أيامه. ثم إنه نظر في الطب والفلسفة، وجمع كتب الفلاسفة ، وتطلبها من الاقطار، وكان يصحبه أبا بكر محمد بن طفيل الفيلسوف ، فكان لايصبر عنه، وسمعت ابا بكر بن يحيى الفقيه، سمعت الحكم بن أبا الوليد بن رشد الحفيد يقول: لما دخلت على أمير المؤمنين أبي يعقوب ، وجدته هو وابن طفيل فقط، فأخذ ابن طفيل يُطريني ، فكان أول ما فاتحني أن قال: ما رأيهم في السماء؟ أقديمة أم حادثة، فخفت، وتعللت، وأنكرت الفلسفة، ففهم، فالتفت الى ابن طفيل ، وذكر قول أرسطو فيها، وأورد حُجج أهل الاسلام فرأيت منه غزارة حفظ، لم أكن أظنها في عالم ، ولم يزال يبسطني حتى تكلمت، ثم أمر لي بخلعة ومال ومركوب.
وقال عنه العلامة شوفي ابوخليل: (أعرف الناس كيف تكلمت العرب، واحفظهم لأيامها ومآثارها وجميع أخبارها في الجاهلية والاسلام، وأحسن الناس ألفاظاً للقرآن الكريم، وأسرعهم نفوذ خاطر في غامض مسائل النحو، وأحفظهم للغة العربية وكان بعيد الهمة، سخياً جواداً ، استغنى الناس في أيامه وكثرت في أيديهم الاموال، هذا مع ايثار للعلم شديد وتعطش إليه مفرط، صح أنه كان يحفظ أحد الصحيحين وأغلب الظن أنه البخاري، حفظه في حياة أبيه بعد تعلم القرآن الكريم، هذا مع ذكر جميل من الفقه، وكان له مشاركة في علم الأدب وأتساع في حفظ اللغة وتبحر في علم النحو حسبما تقدم. وطمع به شرف نفسه وعلو همته الى تعلم الفلسفة والطب …. وجمع مكتبة، كان مافيه قريباً مما اجتمع للحكم المستنصر بالله الأموي ثاني الخلفاء بالأندلس (350-366هـ) حيث احتوت مكتبته على اربعمائة ألف مجلد.
ب- بيعته:
يرأى الأستاذ الدكتور مراجع عقيله الغنائي أن بيعة يوسف بن عبدالمؤمن تمت بمؤامرة دبرت بزعامة الأخوين عمر ويوسف ابني عبدالمؤمن والحزب الموالي لهما وأن أبا حفص عمر بن عبدالمؤمن حرص على أن يسيطر منذ توليه الوزارة لأبيه على الأمور في الدولة وأن ينظم كتلة من الموحدين ترتبط مصالحهما به، ولذلك اصبح عليه من السهل تدبير أمر خلع أخيه غير الشقيق، محمد، ووضع أخيه الشقيق يوسف على الحكم بدلاً منه. ولربما كان عمل الامير عمر ، بجعل الامارة لأخيه يوسف بدلاً منه وهو الشخصية ذات القوة والنفوذ أنما كان يبعد نفسه عن شبهة التآمر والذي يرجح الفرض القائل بوقوع المؤامرة في خلع محمد ورفع أخيه يوسف، أن بعضاً من ابناء عبدالمؤمن رفضوا في أول الأمر المبايعة لأخيهم يوسف فقد رفض السيد ابو سعيد عثمان والي غرناطة، والسيد أبومحمد عبدالله والي بجاية، أن يبايعا لأخيهما بالأمارة. ولذلك لم يستطع يوسف ابن عبدالمؤمن أن يسمى باسم امير المؤمنين وانما اكتفى باسم الامير. كما وان رائحة المؤامرة قد تسربت الى جموع الموحدين والجيوش الكثيفة التي كانت نازلة بمدينة سلا ، لذلك ألغي مشروع العبور الى الأندلس، وأعطيت الجنود الأمر بالرجوع الى مواطنها، كما أخذ شيوخ الموحدين يعملون على إزالة الشكوك من نفوس الموحدين، فأبن صاحب الصلاة يقول: (ووعظ الشيخ المرحوم الموحدين أجمع على طبقاتهم مراتبهم وذكرهم بما يجب عليهم في دينهم وصلاح يقينهم وعرفهم بما أوجب الله عليهم من مفروضهم ومسنونهم وبحق البيعة ولم يعلم أحداً بالوفاة واشتد عليهم في لزوم الصلاة والضرب بالسياط أهل الفسق والجناة، وشغلهم بأنفسهم من الحديث بالخزعبلات. وألزم الحفاظ من الموحدين وغيرهم عند المساء وعند الفراغ من صلاة الصبح، بقراءة الحزب واشتد عليهم في ملازمة ذلك بأعظم الاشتداد واللزب ثم نفذ الأمر من الأمير بانصراف العساكر المجتمعة الى قبائلهم ومواضعهم وتأخر العرض الى وقت يأذن الله به من إزماعهم واجتماعهم…..).
وسعى شيوخ الموحدين في سبيل الاصلاح بين الأخوة والتوفيق بينهم وصفا الجو بين أبناء عبدالمؤمن بعد جهد جهيد، وتمت البيعة العامة ليوسف بن عبدالمؤمن في منتصف جمادى الآخرة من سنة ثلاثة وستين وخمسمائة (563هـ) ومنذ هذا التاريخ تسمى يوسف باسم أمير المؤمنين ، وهو الاسم الخلافي عند الموحدين.
ثانياً: سياسة يوسف عبدالمؤمن في الأندلس:
كانت سياسة الموحدين بالأندلس في عهد يوسف بن عبدالمؤمن تدور على ثلاثة محاور:
1- المحور الأول : استكمال السيادة الموحدية على الاندلس، ولذلك استهدفوا كل الإمارات الخارجة عن سيادتهم من أجل ادخالها تحت نفوذهم.
2- المحور الثاني: العمل على الحد من أطماع الممالك والأمارات الأسبانية.
3- المحور الثالث: المساهمة في ازدهار الحضارة الإسلامية في الاندلس.
إلا أن الثورات العنيفة التي تعرضت لها دولة الموحدين اثخنتها وكانت حركة التمرد التي قادها محمد بن مردنيش في الاندلس من أعنفها.
ينتسب محمد بن مردنيش الى الاصول العربية وكان والده سعد بن محمد والياً للمرابطين على افراغه.
تولى محمد بن سعد بن مردنيش : حكم بلنسيه بعد وفاة صهره ابن عياض، يوم الجمعة الثاني والعشرين من شهر ربيع الاول سنة (542هـ) الموافق 21 أغسطس سنة (1147م). ثم قام علي بن عبيد والي مرسه بالتنازل لابن مردنيش عن حكمها في جمادى الاولى سنة (542هـ). وبذلك أصبح حكم ابن مردنيش يشمل شرق الاندلس ، ومن بلنسيه شمالاً حتى قرطاجة جنوباً.
واستطاع ابن مردنيش أن يحافظ على وحدة إمارته وتماسكها ودخل في أحلاف وعهود ومواثيق مع مماليك النصارى وإمارتها ضد الموحدين وكان غرض الاسبان النصارى في الوقوف مع ابن مردنيش وشد أزره، أنهم وجدوا فيه خصماً عنيداً للموحدين، ، كما أنهم رأوا فيه قوة أندلسية مسلمة تستطيع ان تحارب المسلمين بنفس القوة والأسلوب. كما أنه كان من الدوافع الرئيسية لمعاضدة أمراء وملوك النصارى لابن مردنيش ، هو أن لا يتيحوا الفرصة للموحدين بالسيطرة على كل الأندلس الإسلامية ، وثانيا إبقاء المسلمين في حالة فرقة وتفكك.
إلا أن توسع الموحدين في بلاد الأندلس وشدة شوكتهم جعلت الكثير من الممالك والإمارات الأسبانية النصرانية توقع معاهدات هدنة وحسن جوار معهم او تحالفهم وبهذا فقد بن مردنيش الكثير من حلفائه الإسبان السابقين الذين كان وجوده يعتمد عليهم في المقام الأول. ولما أن أخذ سلطان الموحدين يتسع في البلاد الأندلسية ، وأن أغلب أماراته وولاياته دخلت في حوزتهم ، وأن معظم أمراء الأندلس سلموا ما بأيديهم للموحدين سواء عن طواعية أو كره منهم ، رأى ابن مردنيش أن الحلقة أخذت تضيق عليه وأن مال إماراته التي جهد من إقامتها ، هو الوقوع في أيدي الموحدين ، خاصة وبعد أن فقد الكثير من حلفائه ولذلك أخذ الحقد يملأ نفسه وأخذت نفسيته تشذ في تصرفاتها ، بل وبدا الشك يختمر عنده تجاه عماله وكبار رجالات دولته الذين يعتمد عليهم ، ونتيجة لهذه الأحقاد والشكوك والتبلبل الفكري ، أخذ يتصرف تصرفات طائشة تكاد لا تصدر إلا عن رجل مجنون . ومنها أنه قتل وزيريه ابني الجذع بالجوع ، إذ بنى لهما بناء ورماهما فيه ومنع عنهما الأكل حتى ماتا .
كما أنه قتل أخته وطفلها إغراقاً في البحر ، وارتكب الكثير جدا من أمثال هذه الأعمال ، ولذلك امتلأت منه النفوس رعبا وخاصة أقرب الناس إليه ، وتوالت النكبات على ابن مردنيش ، ولم يخلصه من مأساته إلا موته المفاجئ عام 567 هـ وهو لم يتجاوز من العمر الثامنة والأربعين . وبموته قدم آل محمد بن سعد بن مردنيش طاعتهم للموحدين ، وبذلك آل حكم شرق الأندلس كله إلى الموحدين وبذلك شملت سيادتهم كل الأندلس الإسلامية .
آثار حركة ابن مردنيش على دولة الموحدين :
فقد تأثرت دولة الموحدين بحركة التمرد الواسعة في شرق الأندلس وهزت هيبتهم وسلطانهم وقوتهم في نفوس النصارى الأسبان اولا ثم امراء الأندلس
ثانيا ثم المغاربه ثالثا وبالرغم من أن الموحدين استطاعوا آخر الأمر أن يقضوا على إمارة ابن مردنيش ، وضم املاكه ضمن حدود خلافتهم ، لقد استطاع ابن مردنيش ان يقف فترة طويلة امام الموحدين وأن يستولي على الكثير من القواعد المهمة التي كانت في أيديهم وأن ينزل بهم الخسائر الفادحة، لقد انشغل الموحدون بحربهم مع ابن مردنيش وركزوا جل قواهم أمام ابن مردنيش مما أتاح الفرصة للطامعين والمتذمرين من أهل المغرب لأن ينتهزوا تلك الفرصة ويشقوا عصا الطاعة ، وبذا كانت مقاتلة ابن مردنيش الطويلة للموحدين ، واستنزافه للكثير من جهدهم ورجالهم ووقتهم ، كانت إحدى البذور التي أضعفت دولة الموحدين منذ قيامها.
يتبع
ثالثا : الثورة في المغرب الأقصى :
وفي عام 559 هـ - 1164 هـ قامت قبائل صنهاجة بالثورة ضد خليفة الموحدين يوسف بن عبدالمؤمن وتزعم تلك الثورة مرزدغ الصنهاجي وانضمت إلى تلك الحركة بطون من صنهاجة وغمارة وأورية وقام الثوار بمهاجمة النواحي ودخلوا تازا ، حيث قتل رجالها وسبي نساءها واحتوى أموالها ولم يتوان خليفة الموحدين في إرسال جيشا للثوار ففض جموعهم وقضى على زعمائهم.
وكانت هذه الثورة هي أول شرارة للثورات التي قامت في المغرب الأقصى منذ 560 هـ ، فقد تبعتها ثورة كبيرة أخرى ، قادها سبع بن منحفاد وخلفه قبيلة غمارة وكانت هذه الثورة أخطر من سابقتها على دولة الموحدين ولذل خرج لهم الخليفة الموحدي على رأس جيوشه الجرارة للقضاء عليها وفي الثالث من شهر رمضان من سنة اثنين وستين وخمسمائة تمكن الموحدون من انزال الهزيمة بقبائل غمارة المنحازة إلى هذا الجبل . وكانت هذه الهزيمة سببا في دخول الكثيرين من غمارة في طاعة الموحدين وأصبحت قوات الموحدين تحرز انتصاراً بعد انتصار وتلاحق المتمردين من الثوار حتى استطاعت أن تلقي القبض على سبع بن منحفاد ثم قتل وصلب ليكون عبرة لغيره وكان ذلك في عام 562 هـ . وهكذا تمكن الموحدون من القضاء على الثورة التي هزت كيان دولتهم واضعفت قوتهم وأوهنت شوكتهم وبذلك الانتصار اضطرت كثير من القبائل المغربية الى الطاعة والإذعان لدولة الموحدين .
غير أن الموحدين ما كادوا يقضون على ثورتي صنهاجة وغمارة ، حتى التهبت ثورة أخرى في سنة ثالث وستين وخمسمائة (563 هـ) ، ووقعت بجبل تاسررت في المغرب الأقصى ونواحيه وجرد جيش موحدي قوي إلى الثوار ، بقيادة السيد أبي حفص عمر ، تمكن من إخماد الثورة والقضاء على رؤوسها .
بعد ذلك هدأت الأمور في دولة الموحدين بعض الوقت وهدأت البلاد ، سواء في المغرب أو الأندلس ، ودخلت دولة الموحدين في فترة من الهدوء عمها الإطمئنان والراحة ، فانتعشت الزراعة والصناعة وراجت الحركة التجارية.
رابعاً: الثورة في المنطقة الشرقية من المغرب الأقصى :
بسبب الظلم الذي تعرض له أهل قفصة في المغرب الأوسط اندلعت ثورة بن الرند في عام 575 هـ واستطاع علي بن المعز بن المعتز الرندي أن يتخلص من حكم الموحدين في قفصة وساعدته عدة أسباب في تحقيق هدفه منها ، ما فعله قراقوش التقوى من أعمال ضد سيطرة الموحدين ونجاحه في الإستيلاء على الكثير من البلاد من أيدي الموحدين وكان قراقوش هذا مرسل من قبل الأيوبيين في مصر لضم ما يمكن ضمه للدولة الأيوبية السنية الخاضعة للخلافة العباسية في بغداد وكما أن الإنشغال الذي حدث للموحدين بسبب الثورات في الأندلس والمغرب الأقصى شجع ابن الرند وأهل قفصة في السعي من اجل التخلص من الهيمنة الموحدية المتعصبة لمذهب وعقيدة ابن تومرت المنحرفة ، ولذلك اهتم الموحدون بأمر هذه الثورة ، وخاصة وأن قراقوش التقوى اشتهر صيته في أفريقية وقوي سلطانه وتحالفت معه قبائل من بني هلال وبني سليم ، فخشيت دولة الموحدين من اندلاع الثورات وانتشار اعمال التمرد ومن حدوث تحالف ثلاثي في المغرب الأوسط والأدنى بين ابن الرند وقراقوش وقبائل بني هلال وسليم ولذلك بادر خليفة الموحدن يوسف بن عبدالمؤمن بالخروج على رأس جيش من مراكش في عام 575 هـ واستطاع يوسف بن عبدالمؤمن أن يحتل قفصة في عام 576 هـ ثم أخذ الخليفة بعد ذلك في المرور على بعض ولايات أفريقية ومدنها ، ليتفقد احوالها ويطمئن عليها ، وبعد ان رتب الخليفة أمور افريقية رجع إلى قاعدة حكمه وبمعيته قائد ثورة التمرد على ابن الرند الذي لجأ الى الخليفة مستسلما وتائبا وطالبا للعفو عند حصار الموحدين لمدينة قفصة.
لقد ساهمت الثورات التي حدثت ضد دولة الموحدين في تشجيع ملوك وامراء الأسبان ، على الطمع في دولة الموحدين ، وأحيت فيهم روح القتال والحرب التي كادت تنتهي في عهد عبدالمؤمن بن علي ولذلك تجددت روح العداء للموحدين من جديد .
خامسا: غزو الخليفة الموحد لبلاد الأندلس :
لما استتب الأمر ليوسف بن عبدالمؤمن في بلاد المغرب ، انصرف إلى الجهاد في الأندلس وكان أول عبوره لمضيق جبل طارق إلى أسبانية في صفر سنة 655هـ/1171 م ، واستطاع ان يوجه ضرباته الشديدة الى إبن سعد بن مردنيش الذي توفى عام 567هـ فتنازل أبناؤه على أملاكهم كلها للموحدين، فتفرغ بذلك أبو يعقوب يوسف إلى حرب النصارى ، ومكث في الأندلس أربعة أعوام ، نظم خلالها عدة غزوات ضد النصارى ، حقق فيها نجاحات رائعة ، ثم عاد إلى مراكش عام 571هـ/1176م بعد أن بنى جامع أشبيلية، وأدخل الماء إليها وأقام جسرا على واديها .
واستمرت الحرب بين المسلمين والنصارى في الأندلس على شدتها ، برية وبحرية ولما رأى أبو يعقوب يوسف ضآلة النتائج التي أحرزتها قواته في جهاده ضد النصارى ، عبر إلى الأندلس في صفر 580 هـ / 1184م وصمم على قتال مملكة البرتغال التي كانت أشد الأعداء على المسلمين ووضع خطة تقضي أولا بمهاجمة مملكة البرتغال من البر والبحر ، ثم الزحف على ضفاف نهر التاجة إلى قلب مملكتي قشتاله وليون ، بينما تنشغل قوات اسلامية أخرى تزحف من الجنوب قوات النصارى القشتاليةوالليونية ، وساعده في تحقيق خطته حشوده الضخمة ، وقوى مسلمي الأندلس . سار أبو يعقوب يوسف على راس الجيش الرئيسي متجها إلى بطليوس ، معتزما حصار اشبونة ، وكان عليه قبل أن يتمكن من محاصرتها بنجاح ، أن يستولي على قلعة شنترين الواقعة على مقربة منها على ضفة نهر التاجة اليسرى ، وعلى ذلك فما كاد يعبر نهر التاجة بجيشه ، حتى ضرب الحصار حول قلعة شنترين مؤملاً أن تسقط في يده قبل مقدم الأسطول الذي خصص لمحاصرة أشبونة من جهة البحر.
وبعد أحد عشر يوما من حصار شنترين بدأ يضربها بآلات الحصار ولم تمض ثلاثة أيام على مهاجمة المدينة ، حتى استولى ابو يعقوب عليها ، خلا قلعتها ، وذلك في 22 ربيع الأول سنة 580 هـ ، وكان أبو يعقوب يتولى القيادة بنفسه معتبر القادة الذين معه آلات صماء لتنفيذ مشيئته ، وكان ذلك يسبب المرارة الشديدة في نفوس أولئك القادة المجربين ، فاعترضوا على تحويل المعسكر من شرقي شنترين إلى شماليها وغربيها ، حيث يتعرض الجيش بذلك إلى خطر التطويق من جانب الأعداء ولكن إرادة أبي يعقوب يوسف هي التي نفذت دون سواها ، فكان الخطر ولما دخل الليل أمر ابو يعقوب ولده إسحاق والي أشبيلة ان يبكر في صباح اليوم التالي بالسير في قوات الأندلس والقيام بالهجوم في اتجاه أشبونة، وذلك لكي يحمي الهجوم علىقلعة شنترين من التعرض للمفاجأة ، فهل وقع سوء فهم ، أم كانت ثمة فتنة؟
إن أبا إسحاق سار في الليل بدلا من أن يسير في الصباح ، وبدلا من أن يسير في اتجاه اشبونة عاد فعبر نهر التاجة وسار بقوات الأندلس في اتجاه اشبيلية وما كاد هذا النبأ يذاع بين بقية الجيش، حتى انتشر الإضطراب والروع في أنحاء المعسكر الإسلامي ، وتفاقم الأمر ، حيث زحف سانو إبن ملك البرتغال على شنترين ليلا في جيش يبلغ خمسة عشرة ألف مقاتل ، وفي تلك الأثناء كان ابو يعقوب قد شرع في تنفيذ خطته لمهاجمة مدينة الكوبازة ، بيد أنه حينما تحول بمعسكره إلى المواقع الجديدة ، ألقى بنفسه أمام الجيش البرتغالي وجها لوجه .
وكان تغيير مواقع المعسكر الذي أمر به أبو يعقوب ، خلافا لنصح قواده ، ووجود الجيش البرتغالي في مركز يهدد المسلمين ومسير القوات الأندلسية الى ما وراء نهر التاجة ، وهو ما بدا كأنه أمر غير طبيعي ، وأخيرا ذيوع نبأ ما لبث أن تأيد بمقدم جيش آخر من النصارى أعظم من سابقه ، كل هذه الأمور بثت في معسكر الموحدين نوعا من الرعب العام ، ترتب عليه ان غدت أوامر أبي يعقوب لا قيمة لها . وفي صباح اليوم التالي وصل جيش من النصارى يبلغ عشرين ألف مقاتل ، وانضم إلى جيش البرتغال الذي يقوده ولي العهد سانشو ، وبادر النصارى بمهاجمة الموحدين وهم في اضطرابهم واختلال نظامهم ، وساعدت حامية القلعة شنترين جيش النصارى بالخروج من القلعة ، ومهاجمة المسلمين ولما كان قسم كبير من الموحدين قد عبر نهر التاجة ، فإنه لم يبقى لدى أبي يعقوب سوى حرسه الخاص ، وقليل من القوات الأخرى، وقوافل العتاد والمتاع التي لم تستطع لحاقا بباقي الصفوف . ورأى زعيم الموحدين وهو يضطرم سخطا ، انه وقع ضحية خيانة ، أو ضحية سوء تفاهم، لقد وجد نفسه أمام الأعداء وخاض معركة كانت كفة النصارى فيها أرجح فقد قتل حرس أبي يعقوب وحمل ابو يعقوب على النصارى بسيفه وقتل ستة من الرجال ،واخيرا طعنه أحد النصارى بسيفه طعنة نافذة فسقط على الأرض ملطخا بدمائه.
ولما بلغ خبر اشتباك الخليفة مع النصارى رجع الأمير أبو اسحاق بقواته وهاجم بها النصارى وسالت دماء الفريقين غزيرة ، فتح المسلمون في نهايتها قلعة شنترين.
استشهد ابو يعقوب يوسف بن عبدالمؤمن في 12 ربيع الأول 580هـ/24أيار (يوليو) سنة 1184م وكانت مدة حكمه اثنين وعشرين عاما .
لقد حمل الجنود خليفتهم إلى اشبيلية ، وأرسل منها في تابوت إلى تينملل حيث دفن بجوار أبيه عبدالمؤمن.
سادساً: أسباب فشل أبي يعقوب يوسف في توحيد الأندلس :
لم يستطع السلطان يوسف عبدالمؤمن أن يحقق نصرا حازماً على النصارى في الأندلس لعدة أسباب منها :
1- لم تكن قيادة يوسف بن عبدالمؤمن قد وصلت الى درجة النضج العسكري والسياسي ولذلك نجده يحشد الجيوش الكبيرة التي تحتوي على عناصر مختلفة من قبائل بني هلال وسليم وقبائل الموحدين ومقاتلة الأندلس والجند الموحدي وليست لهذا الجيش خطة مرسومة يسير علهيا ، كما حدث عند غزوه لمدينة وبذة عام 567 هـ حيث كان قرار الغزو جاء متأخرا عن وقت وصوله الى الأندلس بقرار فردي من الخليفة الموحدي والذي كان هو صاحب الرأي النهائي والقاطع في إدارة قيادة الجيش وكان من سماته أخذه للقرارات بسرعة مذهلة وبدون ترو أحيانا فهو قرر ان تكون وجهة حملته الكبيرة مدينة ونده ، بمجرد اقتراح وفد شرق الأندلس ذلك عليه ، ثم انه اثناء مسيره الى وندة ، غير وجهة مسيرة الجيش لافتتاح حصني بلج والكرسي وذلك لمجرد اقتراح ابن همشك عليه بذلك .
2- ومما يعيب كفاءة خليفة الموحدين ، عدم تقديره للظروف وعدم قدرته على الوصول إلى هدفه من أيسر الطرق وعلى سبيل المثال ما حدث من رفضه لعرض أهل مدينة ونده تسليم مدينتهم مقابل حصولهم على الأمان وكان من المشرّف له أنه قبل هذا العرض وحصل على المدينة بدون أي جهد كان.
3- كانت للخليفة الموحدي ميولات فكرية طغت على الاهتمامات العسكرية والسياسية ولذلك نجد الخليفة الموحد بدلا من ان يكون مشرفا على تسيير دفة المعارك وهو القائد الوحيد والمسؤول الأول ، مشغولا بمناقشة مسائل فكرية لا تمت إلى المواقف العسكرية بصلة ، فعندما كانت جيوش الموحدين تحاصر مدينة وندة جاءه احد قادة الوحدين وطلب من الخليفة امداده ببعض الجند حتى يتمكن من احراز النصر ، لم يلتفت إليه واستمر في مناقشة تلك المسائل .
4- لم يكن ولاء المسلمين قوي لدولة الموحدين ولذلك كلما تحين فرصة للطعن فيها والثورة عليها يستغلهاخصومهم الذين تعرضوا للظلم والقهر من زعماء الموحدين .
5- انتشار الخيانة في اداء الواجب والتعدي على اموال الدولة من قبل الولاة في عهد يوسف بن عبدالمؤمن ولذلك اضطر الخليفة لمحاسبة الولاة ومعاقبة الجناة في الاموال التي اغتصبوها ونفيهم من البلاد ووصل الامر بالبعض إلى أن أنزل بهم عقوبة الإعدام ، لقد شمل ظلم الولاة الكثير من رعايا الدولة وتولدت قاعدة عريضة من المجتمع تعارض سياسة الولاة الظالمة القمعية وواصلوا جهادهم السلمي بمطالبة الدولة بمحاسبة بعض الولاة ، واضطر الخليفة لمحاسبة بعض مسؤولي الدولة ومن أشهر هذه الحوادث:
- محاسبة محمد بن أبي سعيد مسؤول الأعمال المخزنية في اشبيلية وثبتت عليه خيانته للدولة فصودرت أمواله وممتلكاته وامتحن في نفسه طويلا ثم ضرب عنقه وكان ذلك عام 573هـ.
6- انتشار الطاعون في المغرب والأندلس في زمن يوسف بن عبدالمؤمن في عام 571 هـ واستمر لمدة عام تقريبا ، بالمغرب الأقصى وامتد الى الاندلس وإلى المغرب الأوسط والأدنى. وقد قضى على الكثيرين من السكان وعلى بعض زعماء دولة الموحدين منهم أربعة من أبناء عبدالمؤمن بن علي . وقد أصيب الخليفة الموحدي نفسه وأخوه السيد ابو حفص عمر ، ولكنهما شفيا من المرض وعوفيا ، وكاد هذا المرض أن يقضي على من كان بدور الخليفة وأهله ، أما أهل مدينة مراكش فقد قضى على الكثيرين منهم وضاق المصلى بالموتى ، فأمر الخليفة بأن يصلى عليهم في عامة مساجد مراكش ، ونتيجة لهذا الوباء الفاتك ، فقد خيم جو من الكآبة والحزن على مراكش الزاهر ، ولم يعد يخرج منها أحد أو يأتي وافد إليها.
ومن كبار الشخصيات التي قضى عليها هذا الوباء الشيخ ابو حفص عمر بن يحي الهنتاتي . وهو أحد طبقة الجماعة ، ومن كبار الشخصيات التي ساهمت في إقامة دولة الموحدين وقد كان قادما من قرطبة إلى مراكش فأصيب في الطريق ومات عام 571هـ وكان لهذا الوباء الذي فتك بالكثيرين من أهل المغرب والأندلس ، اثره في اضعاف المعنويات ، وفي قلة الأيدي العاملة ، وتعطل التجارة ، وتوقف الحياة الزراعية والصناعية وقد ترتب على ذلك ازمة اقتصادية حادة كانت ذات اثر مادي ومعنوي سيء على الرعية وشجعت هذه الظروف العصيبة التي تمر بها دولة الموحدين ممالك وإمارات النصارى من النيل من الموحدين ولذلك نقضت تلك الممالك والإمارات المعاهدات التي بينها وبين الموحدين وأخذت تعبث في بلاد الأندلس بالفساد "وكان الناس من ضعف المرض لا يستطيعون الحركة" ونتيجة لهذه الظروف القاسية لم يستطع الموحدون ان يقوموا برد حاسم على التو والحين.
يتبع
7- تمرد قبيلة هرغة على الخليفة الموحدي: هذه القبيلة ينحدر - منها محمد بن تومرت مؤسس دولة الموحدين ، ففي سنة 578 هـ وصلت الأخبار إلى الخليفة الموحدي في مراكش بأن قبيلة هرغة قد استولت على معدن الفضة الذي يستخرج بقربهم من جبل السوس فاهتم الخليفة لهذا الحادث لأمرين: الأمر الأول وهو وجوب القضاء على تمرد هذه القبيلة التي تشعر بسموها لانتهائها إلى ابن تومرت وخوفا من التفاف قبائل الموحدين حولها .
والأمرالثاني: فإن معدن الفضة يمثل موردا ماليا مهما لخزنة الموحدين ، ولذلك فإن فقده يصيب هذه الخزانة بضربة عنيفة .
ولذلك بادر الخليفة بالخروج من مراكش في صفر سنة 578 هـ على رأس قواته . ولما وصل الىجبل السوس أرغم قبيلة هرغة على تجديد الولاء والتوبة مما ارتكبته واسترجع منها ما كانت اغتصبته من المعدن. ثم بعد ذلك أمر ببناء حصن منيع حول المنجم، ووضع عليه جنداً لحراسته لقد كان لهذه الثورة أثراً في اضعاف شوكة الموحدين واضطراب هيبتهم وتشجيع خصومهم على محاربتهم.
8- ضعف التكتيك العسكري عند الخليفة الموحدي وحرصه على أن يتولى جميع الأمور بنفسه وعدم اصغائه لنصح الناصحين ويظهر ضعف تكتيكه العسكري في حصر جيوشه الضخمة في مهاجمة نقطة صغيرة، كما فعل ذلك في مهاجمته لمدينة وبذة وشنترين على التوالي، مما اتاح لملوك وأمراء الأسبان التحالف فيما بينهم ومواجهة الموحدين وهم في مركز قوة.
ولو اعتمد أسلوب الكر والفر بالجيوش الصغيرة ذات القوة والحركة السريعة لجعل الأسبان يضطرون إلى مدافعة كل فريق عن مملكته وإمارته وإلى مواجهة الموحدين متفرقين مع حالة الضعف تؤدي إلى انهزام النصارى.
9- استطاع النصارى أن يوحدوا صفوفهم وجهودهم ضد الموحدين ويتخذوا موقفاً عدائياً واحداً منهم هذه أهم الأسباب التي منعت خليفة الموحدين من ضم الأندلس للمغرب ومن ثم الانطلاق لتوحيد العالم الاسلامي تحت لوائهم ونفوذهم وسلطتهم لقد كان يوسف بن عبدالمؤمن يتطلع إلى توحيد العالم الإسلامي كله وقد عبر عن تلك الرغبة بوضوح شاعر الموحدين أبو العباس ابن عبدالسلام الجراوي في بعض أشعاره في قوله يمدح خليفة الموحدين يوسف بن عبدالمؤمن:
ستملك أرض مصر والعراقا
ويجري نحوك الأمم استباقا
إلا أن قدرته ومواهبه كانت محدودة ولم يتيح الفرصة لظهور قادة عظام من الذين يستطيعون أن ينظموا ويقودوا الجيوش الضخمة بعكس يوسف بن تاشفين الذي أبدع في صقل قادته ودفعهم نحو المعالي، فعرفوا كيف ينزلون الهزائم بالاسبان.
وعلى أي حال فأبو يعقوب يوسف كان دائماً رجلاً مريضاً وفي تتبعنا لتاريخه نجده يصاب بالمرض المرة بعد المرة، حتى لقد ظل مرة سنة كاملة مريضاً طريح الفراش، ولهذا يذهب بعض المؤرخين الى انه مات اثر مرض اصابه أثناء الحصار.
توفي أبو يعقوب يوسف بن عبدالمؤمن في السابعة والأربعين من عمره وكان رجلاً شهماً بذل أقصى جهده في بناء الدولة وهو يعد من كبار الخلفاء ـوالسلاطين في تاريخ المغرب الإسلامي.
يتبع
أبو يوسف يعقوب المنصور
أولاً اسمه وشيء من سيرته:
هو أبو يوسف يعقوب بن أبي يعقوب يوسف بن أبي محمد عبدالمؤمن بن علي، القيسي الكومي صاحب بلاد المغرب - كان صافي السمرة جداً، إلى الطول ماهو، جميل الوجه أفْوَهَ أعيْنَ شديد الكحل ضخم الأعضاء جهوري الصوت جزل الألفاظ، من أصدق الناس لهجة وأحسنهم حديثاً وأكثرهم إصابة بالظن، مجربا للأمور ولي وزارة أبيه، فبحث عن الأحوال بحثاً شافياً وطالع مقاصد العمال والولاة وغيرهم مطالعة أفادته معرفة جزئيات الأمور ولما مات والده اجتمع رأي أشياخ الموحدين وبني عبدالمؤمن على تقديمه فبايعوه وعقدوا له الولاية ودعوه أمير المؤمنين كأبيه وجده ولقبوه بالمنصور، فقام بالأمر أحسن قيام، وهو الذي أظهر أبهة الملك ورفع راية الجهاد ونصب ميزان العدل وبسط احكام الناس على حقيقة الشرع ونظر في أمور الدين والورع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأقام الحدود حتى في أهله وعشيرته الأقربين كما أقامها في سائر الناس أجمعين، فاستقامت الأحوال في أيامه وعظمت الفتوحات.
ولما مات أبوه كان معه في الصحبة، فباشر تدبير المملكة من هناك، وأول مارتب قواعد بلاد الأندلس، فأصلح شأنها وقرر المقاتلين في مراكزها ومهد مصالحها في مدة شهرين
أ- اصلاحاته في منهج دولة الموحدين:
صرح زمن حكمه بعدم صحة الاعتقاد بعصمة بن تومرت وجالس الصلحاء والمحدثين ومال إلى الظاهر، وأعرض عن كتب المالكية، وأحرق مالا يحصى من كتب الفروع.
قال عبدالواحد بن علي: كنت بفاس فشهدت الأحمال يؤتى بها، فتحرق، وتهدّد على الاشتغال بالفروع، وأمر الحفاظ بجمع كتاب في الصلاة من "الكتب الخمسة" ، و "الموطأ" ، ومسند ابن أبي شيبة ومسند البزار وسنن الدّرا قطني وسنن البيهقي وكان يملي ذلك بنفسه على كبار دولته وحفظ ذلك خلق، فكان لمن يحفظه عطاء وخلعة .
وكان لايحب التعمق في آراء الفقهاء البعيدة عن الدليل، قال مرّة لعبدالواحد بن علي: (أنا انظر في هذه الآراء التي أحدثت في الدين، أرأيت المسألة فيها أقوال، ففي أيّها الحقُّ؟ وأيها يجب أن يأخذ به المقلد؟ فافتتحت أبين له، فقطع كلامي، وقال: ليس إلاّ هذا، وأشار إلى المصحف، أو هذا، وأشار إلى "سنن" أبي داود، أو هذا، وأشار إلى السيف قلت: والذي ينبغي للحاكم أن يوسع دائرة المذاهب، والاطلاع مادمت على أصول أهل السنة والجماعة وهذا مافعله السلطان الكبير والقائد الفذ نور الدين محمود زنكي حيث ترك مذاهب أهل السنة والجماعة تنشط في دعوتها ودعّم مدارس المالكية والحنابلة والشافعية مع كونه حنفياً واهتم بالمحدثين ووفر لهم مايحتاجون من أجل تبليغ رسالتهم وكذلك القرّاء والحفاظ وبذلك الفعل الجميل استطاع ان يجند أهل السنة والجماعة ضد الرافضة وضد النصارى وواصل السير بعد وفاته تلميذه المخلص صلاح الدين وتحققت الانتصارات الكبرى والفتوحات العظمى.
إن هذا التضييق الذي فعله أبو يوسف يعقوب الناصر وبعض حكام الموحدين جعل أسباب تفجر الثورات الداخلية متواجداً.
لقد نظر الموحدون الى الذين خالفوهم في ميدان العقائد والمبادئ نظرة معادية اتسمت بالحقد والكراهية، على انهم من غير أهل الإيمان فعاملوهم بقسوة بالغة، مما أثار لدى بعض العلماء والفقهاء موجة من الذعر والخوف ولعل أوضح مثال على هذه الحالة ماجاء على لسان الوهراني بعد سقوط دولة المرابطين بقوله: (لما تعذرت مآربي واضطربت مغاربي، ألقيت حبلي على غاربي، وجعلت من مذهبات الشعر بضاعتي من اخلاق الأدب رضاعتي).
وعبر الوهراني عن كرهه الشديد للموحدين من خلال جواب على سؤال حول رأيه في عبدالمؤمن بن علي الموحدي وأولاده وسيرته ببلاده فقال: (مؤيد من السماء خواض للدماء مسلط على من فوق الماء حكم سيفه في المعمم واعمله في رقاب الأمم.. ولو أن للعلم لساناً والورقة إنساناً لتألمت وتظلمت.. ولكن السكوت على هذا الحال أرجح ومسالمة الأفاعي أنجح".
وهذا أبو الوليد محمد بن عبدالله القرطبي، الذي يصف المقري أحواله في كتاب نفح الطيب بقوله: (وخرج من الفتنة بعد ما علا ذكره في قرطبة وأقام بالاسكندرية خوفاً من بني عبدالمؤمن بن علي ثم قال كأني والله بمراكبهم قد وصلت إلى الاسكندرية خوفاً من بني عبدالمؤمن بن علي ثم قال كأني والله بمراكبهم قد وصلت إلى الاسكندرية ثم سافر إلى مصر، وأقام بها مدة ثم قال فوالله مامصر والاسكندرية بمتباعدين، ثم سافر إلى الصعيد وحدّث بقوص بالموطأ ثم قال، ويصلون الى هذه البلاد ولايحجون ما أنا إلا هربت منه اليه، ثم دخل اليمن رآها قال: هذه أرض لا يتركها بنو عبدالمؤمن فتوجه إلى الهند، حيث ادركته منيته بها سنة 551هـ وقيل باليمن".
ولله درّ الإمام مالك في نصحه لأبي جعفر المنصور العباسي عندما أراد أبو جعفر أن يحمل الناس على الموطأ:
قال أبو مصعب: سمعت مالكاً يقول: دخلت على أبي جعفر بالغداة حين وقعت الشمس بالأرض، وقد نزل عن شماله إلى بساط، وإذا بصبي يَخْرج ثم يَرجع، فقال: أبو جعفر:- أتدري من هذا؟ قال: لا، قال: هو والله ابني وإنما يفزع من شيبتك، وحقيق أنت بكل خير، وخليق بكل إكرام، يقول مالك: وقد كان أدناني، وألصق ركبته بركبتي، فلم يزل يسألني حتى أتاه المؤذن بالظهر، فقال لي: أنت أعلم الناس، فقلت: لا والله يا أمير المؤمنين، فقال: بلى ولكنك تكتم ذلك، ولئن بقيت لأكتبن كتابك بماء الذهب، ثم أعلِّقه في الكعبة، وأحمل الناس عليه. فقلت: يا أمير المؤمنين لاتفعل، فإن في كتابي حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وقول الصحابة، وقول التابعين، ورأياً هو إجماع أهل المدينة لم أخرج عنهم، غير أني لا أرى أن يعلق في الكعبة.
وفي رواية: يا أمير المؤمنين إنّ أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) تفرقوا في البلاد، فأفتى كلّ في مصره بما رآه "فلم يزل يُؤخذ عنهم كابراً عن كابر إلى يومنا هذا، فإن ذهبت تولَّهم عمَّا يعرفون إلى مالا يعرفون رأوا ذلك كفراً، فأقِرَّ كل أهل بلد على مافيها من العلم، وخذ هذا العلم لنفسك.
لقد كان عصر أبي يوسف يعقوب الناصر من أفضل عصور دولة الموحدين ولايمنع ذلك أن نعلق على بعض الأخطاء التي حدثت في فترته وإن كان الرجل استطاع أن يصلح بعض الانحرافات العقدية عن الموحدين مثل زعمهم العصمة لابن تومرت وينكر على من قدم كتبه على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ذكر الذهبي أن أبا يوسف يعقوب المنصور سأل الفقيه أبا بكر بن هاني الجياني ماقرأت؟ قال: تواليف الإمام - يعني ابن تومرت -، قال: فزوروني، وقال ماهكذا يقول الطالب! حكمك أن تقول: قرأت كتاب الله، وقرأت من السُّنة، ثم بعد ذلك قل ماشئت.
وكان مجلسه عامراً بالعلماء وأهل الخير والصلاح يقول تاج الدين ابن حموّية: دخلت مراكش في أيام يعقوب، فلقد كانت الدنيا بسيادته مجملة، يقصد لفضله ولعدله ولبذله وحسن معتقده، فأعذب موردي، وأنجح مقصدي، وكانت مجالسه مزينة بحضور العلماء والفضلاء، تفتح بالتلاوة ثم الحديث، ثم يدعو هو، وكان يجيد حفظ القرآن، ويحفظ الحديث، ويتكلم في الفقه، ويناظر، وينسبونه إلى مذهب الظاهر. وكان فصيحاً، مهيباً، حسن الصورة، تامَّ الخلافة، لايُرى منه اكفهرارٌ، ولا عن مجالسه إعراض، بزيِّ الزهاد والعلماء، وعليه جلالة الملوك، صنف في العبادات، وله "فتاوٍ" ، وبلغني أن السودان قدّموا له فيلاً فوصلهم، وردّه، وقال: لانريد أن نكون أصحاب الفيل وكان يجمع الزكاة ويفرقها بنفسه، وعمل مكتباً للأيتام، فيه نحو ألف صبيٍّ، وعشرة معلمون. حكى لي بعض عُماله: أنه فرق في عيد نيَّفا وسبعين ألف شاة.
وكان يهتم بطلاب العلم الذين يأتون من الآفاق وقال ذات مرة: يا معشر الموحدين، أنتم قبائل، فمن نابه أمرٌ، فزع إلى قبيلته، وهؤلاء - يعني طلبة العلم - لا قبيل لهم إلا أنا، فعظموا عند الموحدين.
وكان يجمع الأيتام في العام، فيأمر للصبي بدينار وثوب ورغيف ورمانة واهتم بالمرضى وبنى لهم مارستان وغرس فيه من جميع الأشجار، وزخرفه وأجرى فيه المياه، ورتب له كل يوم ثلاثين ديناراً للأدوية، وكان يعود المرضى في الجمعة.
يتبــع
ولم تكن للفلاسفة عنده مكانة وأحرق كتبهم واهتم بالطبِّ والهندسة.
وحارب الخمر في ملكه وتوعّد عليها فعدمت.
قال عنه ابن كثير: (كان ديناً حسن السيرة صحيح السريرة، وكان مالكي المذهب، ثم صار ظاهرياً حزميا ثم مال إلى مذهب الشافعي واستقضى في بعض بلاده منهم قضاة، وكانت مدة ملكه خمس عشرة سنة، وكان كثير الجهاد رحمه الله، وكان يؤم الناس في الصلوات الخمس، وكان قريباً إلى المرأة والضعيف رحمه الله).
وقال عنه ابن العماد: (ذكياً شجاعاً مقداماً محباً للعلوم كثير الجهاد ميمون التقية ظاهري المذهب معادياً لكتب الفقه أباد منها شيئاً كثيراً بالحريق وحمل الناس على التشاغل بالأثر)
وربما كان فعل أبي يوسف بن يعقوب المنصور في حرقه لكتب الفروع انما كان من أجل مؤلفات ابن تومرت والتي أخذ كثير من الموحدين بما فيها دون سواها، ولا استبعد أن يكون هذا العمل من قبل أبي يوسف يعقوب المنصور انما كان من أجل مؤلفات ابن تومرت لكنه لم يستطيع أن يفردها دون غيرها حتى لايثير الناس.
إن هذا السلطان طلب من أبي العباس أحمد بن ابراهيم بن مطرف المري - أحد المقربين إليه أن يشهد له بين يدي الله عزوجل بأنه لايقول بالعصمة
يعني عصمة ابن تومرت ولم يكتف المنصور بهذا بل أنه حاول ارجاع الناس الى الكتاب والسنة واستئصال ونبذ تعاليم ابن تومرت التي توغلت في قلوب بعض الناس في المغرب والأندلس.
ولقد استخف السلطان يعقوب بن يوسف بمن بالغوا في تعظيم ابن تومرت وتقديسه، والعمل بما قال به، أودعا إليه "لأنه لايرى شيئاً من هذا كله وكان لايرى رأيهم في ابن تومرت..).
ولعل هذا الشعور هو الذي دفعه إلى أن يؤثر في الطلبة الذين جاؤا من أنحاء بلاد المغرب والأندلس لطلب العلم في حاضرة الدولة على شيوخ الموحدين الذي تأصل حب ابن تومرت وما دعا إليه في نفوسهم فلما بلغه حسد شيوخ الموحدين لهؤلاء الطلبة على مكانتهم عنده وتقريبه لهم خاطبهم قائلاً: ".. يا معشر الموحدين أنتم قبائل فمن نابه منكم أمر فزع إلى قبيلته وهؤلاء - يعني الطلبة - لاقبيل لهم إلا أنا فمهما نابهم أمر فأنا ملجؤهم وإليَّ فزعهم وإليَّ ينتسبون".
إن الخليفة الثالث للموحدين عمل على محو الباطل من دعوة بن تومرت وسعى لتقويضه بعد نصف قرن من انتشار تعاليم بن تومرت، وهي مدة قصيرة في عمر الدعوات، لئن ماتحمله دعوة بن تومرت من جنوح في بعض أفكارها جعلت أقرب الناس منها يسعون لتقويضها (إن الله لايصلح عمل المفسدين..) (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض…)
إن المنصور الموحدي لم يعلن صراحة بطلان مادعا إليه بن تومرت، لأن الكثير من الناس ببلاد المغرب الأقصى، لا سيما العامة وشيوخ الموحدين، وزعماء القبائل، قد تعلقوا بدعوة ابن تومرت، واقتنعوا بصحة ما قال به أو دعا إليه، فلو واجههم المنصور بالنقد الصريح أو العمل الجاد للقضاء على دعوة ابن تومرت لنشأ عن ذلك رد فعل خطير من قبل اولئك القوم قد لايستطيع رده أو التصدي له، وهذا بلا شك جعله يكتفي ببيان موقفه منها دون اتخاذ أي خطوات عملية ضدها ولكن وبالرغم من قلة ماقام به المنصور من جهد، أو عمل مضاد لدعوة ابن تومرت، إلا أن عمله هذا كانت له نتائج ايجابية وطيبة، حيث أنه بهذا الاجراء كسر ذلك السياج الذي أحيطت به دعوة ابن تومرت، مما دعى الكثير من الموحدين لاسيما المنصفين منهم إلى التمعن في حقيقة دعوة ابن تومرت ودراستها بموضوعية وانصاف، فبانت لهم حقيقتها وما تحمله من جنوح في تفكيرها مما دفعهم إلى الأخذ بالتحلل من تعاليمها شيئاً فشيئاً.
ثانياً: سياسة أبي يوسف يعقوب المنصور في الحروب:
تعتبر السنوات الخمس عشرة التي حكمها أبو يوسف يعقوب المنصور، ثالث الخلفاء الموحدين، العصر الذهبي للدولة الموحدية والذروة التي وصل إليها التطور السياسي في المغرب نحو التوحيد واقامة الدولة الكبرى الموحدية.
ولقد كان ذلك العصر الذهبي قصيراً، لايتناسب مع دولة ضخمة مترامية الأطراف غزيرة الثروة والموارد مثل دولة الموحدين، فان خلفاء الموحدين حكموا بلاداً تضاهي ماحكمه العباسيون في أوج قوتهم، وكانت تحت أمرتهم حشود من الجند القوي القادر على كسب المعارك لم تتيسر للكثير من الدول في التاريخ الاسلامي، فقد كانت جيوش الموحدين تعج بحشود من أبناء القبائل المغربية من المصامدة أولاً، ثم من بقية الصنهاجيين والزناتيين ممن اجتذبتهم الدولة الموحدية بقوتها وهيبتها، ثم اضيفت إلى هؤلاء حشود من العرب الهلاليين الذين انضووا تحت لواء الدولة الكبيرة، ولم يخل الأمر من قوات اندلسية ذات قدرة ومهارة.
رغم هذه القوات كانت القوة العسكرية الموحدية دائماً مفككة، تنقصها القيادة الحازمة التي تقبض على الجيش قبضة محكمة، وتوجه الاعمال وفق خطة واحدة مرسومة، وكان أبو يوسف يعقوب المنصور من زعماء الموحدين القلائل الذين استطاعوا قيادة جيوشهم قيادة سليمة حكيمة، وكان الرجل في نفسه كذلك رجلا حازماً موهوباً في شئون الادارة والقيادة العسكرية، وكان شديد الايمان فانتقل ايمانه الى رجاله وكسبت جيوش الموحدين في أيامه قوة ضاربة كبرى.
أ- الصراع مع بني غانية المرابطين:
استطاع بنو غانية أن يقودوا ثورة في المغرب الأوسط ضد الخليفة أبي يعقوب يوسف المنصور واستطاعوا أن يحتلوا مدينة باجيه بأربعة آلاف من الطوارق الملثمين بسبب ضعف حامية الموحدين هناك وكان من سوء حظ دولة الموحدين أن ابتليت بمشكلة بني غانية التي لم تقدرها الدولة حق تقديرها وأصبحت في النهاية من أسباب سقوط الدولة.
كان زكريا بن يحيى بن غانيه قد تولى بعض الأعمال في قرطبة في عهد الخليفة المرابطي علي بن يوسف بن تاشفين ثم تولى اخاه ابن غانيه حكم جزر البليار وهي الجزر الشرقية منذ عام 541هـ / 1146م وظل يحكمها حتى سقطت دولة المرابطين وعندما بسط الموحدين سلطانهم على الأندلس ظل بني غانية لايخضعون لسيطرتهم وظل عدم خضوعهم حتى موت محمد بن مرادنش عام 567هـ /1171م) وبسط الموحدون سيطرتهم على بلنسية ومرسية وشاطبة وبلاد الساحل الشرقي وكان على حكم جزر البليار في ذلك الوقت محمد بن اسحاق بن محمد بن غانية وقد كان يريد الدخول في طاعة الموحدين لكن اخوته عزلوه ورفضوا ذلك وولوا بدلا منه أخاه علي بن اسحاق الذي بادر بإعلان الثورة على الموحدين وخاض ضدهم معركة طويلة الزمن.
ويرجع أصل بني غانيه إلى قبيلة مسوفة الصنهاجية وعرفوا ببني غانيه على اسم أمهم وأمثال هذه التسميات كانت معروفة عند المرابطين.
يتبــع ان شــاء اللــه
Powered by vBulletin® Version 4.2.0 Copyright © 2024 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved, TranZ by Almuhajir