قطر الندى
2008-05-01, 10:11 AM
قصة النبي داود عليه السلام
قال الله تعالى في كتابه الكريم : «يا داوود انا جعلناك خليفة في الارض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ان الذين يضلون عن سبيل الله ...»(1) .
من هو داود ؟
نبي الله داود عليه السلام احد كبار انبياء بني اسرائيل ، وقد كان حاكما لدولة كبيرة ، وقد ورد ذكر مقامه العالي في عدة آيات من القرآن الكريم.
داود عليه السلام الذي منحه الله قدرة واسعة ، حتى ان الجبال والطيور كانت مسخرة له ، ويسبحن معه حيث يقول تعالى : «انا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والاشراق * والطير محشورة كل له اواب»(2) .
من نعم الله عز وجل على داود ان سخر له بكل مجاميع الطيور كي تسبح الله معه ، وكذلك الجبال مسخرة لداود ومطيعة لاوامره وتسبح معه البارئ عز وجل ، وتعود اليه «كل له اواب» اي كلها تعود الى داود بعدما ترتحل من اماكنها .
اراد الله عز وجل ان يواسي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عندما آذاه المشركون
1ـ ص : 26.
2ـ ص : 18ـ 19.
وعبدة الاصنام في مكة والمدينة ، فضرب له الامثال وقال عز وجل : «اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داوود ذا الايد انه اواب»(1) .
فداود مع هذه القدرة العظيمة التي منحها اياه رب العالمين ، لم يسلم من تجريح الآخرين ، وفي هذا الكلام مواساة لخواطر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ان هذه المسالة لم تنحصر بك يا رسول الله فقط ، وانما شاركك فيها كبار الانبياء عليهم السلام ايضا .
وروي انه لما مات النبي طالوت ، وكان اسمه «شاول» ايضا ، ملك داود على بني يهوذا ، وكان لداود نسوة قد ولدن منه اولادا .
واجتمعت بنو اسرائيل من الاسباط على تمليك داود فملكوه بعد سبع سنين ملكها على بني يهوذا خاصة ، وهي بيت المقدس ، وبنى بها منزلا ، وتزوج النساء ، فولد له بعد ان ملك اولاد كثيرين ، وعز ملكه ، واعظمته بنو اسرائيل ، وكان سليمان افضل ولده ، واصبح نبيا بعد ابيه .
وكان داود عليه السلام شجاعا وقاتل في معارك كثيرة وحروب قوية منها : قتاله مع الحنفاء فهزمهم ، وقاتل اهل مؤاب وهزمهم ، وقاتل اد دازار ملك سوبا فهزمه ، واخذ له الف مركب وسبعة آلاف من الخيل .
وعندما اجتمع اهل الشام ودمشق ليقتلوا داود ، فقتل منهم ـ اثنين وعشرين الفا ، واستحوذ على الارض ، فكان اهل الشام جميعا عبيدا له .(2)
اما من حيث قدرته السياسية ، فقد كانت حكومته قوية ، ومستعدة دائما لمواجهة الاعداء بكل قوة واقتدار ، حتى قيل ان الآلاف من جنده كانت تقف على اهبة الاستعداد من المساء حتى الصباح في اطراف محراب عبادته .
1ـ ص : 17.
2ـ تاريخ اليعقوبي : ج1 ص51.
ومن حيث قدرته الاخلاقية والمعنوية والعبادية ، فانه كان يقوم معظم الليل في عبادة الله ، ويصوم نصف ايام السنة .
واما من حيث النعم الالهية ، فقد انعم الله عليه بالكثير من النعم الظاهرية والباطنية .
وخلاصة القول : ان داود عليه السلام كان رجلا ذا قوة وقدرة في الحروب والعبادات والعلم والمعرفة والسياسة ، وكان ايضا صاحب نعمة كبيرة .
قضاء النبي داود عليه السلام :
كان داود عليه السلام ذا علم واسع ومهارة فائقة في امر القضاء ، واراد الله سبحانه وتعالى ان يمتحنه ، فارسل له شخصين تسورا عليه جدار محرابه ليحتكما عنده ، كما ذكرت لنا الآيات المباركة من سورة «ص» من آية 21ـ 25 ، حيث قال تعالى : «وهل اتاك نبأ الخصم اذ تسوروا المحراب ، ... الخ»(1) .
وذلك عندما كان داود عليه السلام في محرابه ، وكان محاطا باعداد كبيرة من الجند والحرس ، فاذا برجلان تسورا جدران المحراب ودخلا عليه من دون استئذان ومن دون علم مسبق ووقفا امامه فجاة ، ففزع داود عند رؤيتهما ، وظن انهم يكنون له السوء .
الا انهما عمدا بسرعة الى تطييب نفسه واسكان روعه وقالا له : لا تخف نحن متخاصمان تجاوز احدنا على الآخر ، فاحكم بيننا وارشدنا الى الطريق الصحيح .
وطرح احدهما المشكلة فورا على داود عليه السلام وقال : هذا اخي ، يمتلك
1ـ ص : 21ـ 25.
(99) نعجة ، وانا لا امتلك الا نعجة واحدة ، وانه يصر علي ان اعطيه نعجتي ليضمها الى بقية نعاجه ، وقد شدد علي القول واغلظ .
وهنا وبسرعة التفت داود عليه السلام الى المدعي وقبل ان يستمع كلام الآخر واصدر الحكم وقال :
من البديهي انه ظلمك بطلبه ضم نعجتك الى نعاجه . وبعد اصدار الحكم خرج المتخاصمان وغادرا المكان بدون كلام واعتراض .
وبعد خروجهما غرق داود عليه السلام في التفكير ، رغم انه كان يعتقد انه قضى بالعدل بين المتخاصمين ، فلو كان الطرف الثاني مخالفا لادعاءات الطرف الاول ، لكان قد اعترض عليه ، اذن فسكوته هو خير دليل على ان القضية هي كما طرحها المدعي .
ولكن آداب مجلس القضاء تفرض على داود ان يتريث في اصدار الحكم ولا يتعجل ، وكان عليه ان يسال من الطرف الثاني ايضا ثم يحكم بينهما ، فلذا ندم كثيرا على عمله هذا ، وظن انما فتنه الباري عز وجل بهذه الحادثة . «وظن داود انما فتناه» .
وهنا ادركته طبيعته ، حيث انه اواب ، رجع الى ربه طالبا منه العفو والمغفرة وخر راكعا وساجدا تائبا الى الله العزيز الحكيم .
وبعد ذلك شمله الله سبحانه وتعالى بلطفه ورحمته وعفا عنه زلته من حيث ترك العمل بالاولى ، وان له منزلة رفيعة عند الله ، كما توضحه الآية المباركة :
«فغفرنا له ذلك وان له عندنا لزلفى وحسن مآب»(1) .
كانت هذه الحادثة من جملة الحوادث التي امتحن الله عز وجل بها انبيائه
1ـ ص : 25.
ورسله ، في الواقع مثل هذه الابتلاءات والامتحانات لا تقلل شيئا من شأن ومقام الانبياء والرسل ، بل تزيدهم ايمانا واعتقادا بالله تعالى .
وفي نفس الوقت هي دروس وعبر وتجارب لنا جميعا نستفيد منها ونعتبر بها ، من اجل سعادتنا وسعادة الامة في الدنيا والآخرة ، فاعتبروا يا اولي الابصار .. .
ملاحظات :
مع كل الاسف نرى ان اعداء الله من المنافقين والمخالفين من جهة ، والجهلة من جهة اخرى ، بالاضافة الى مؤلفي القصص الخيالية الذين يكتبون دائما قصص عجيبة وكاذبة من اجل المصالح المادية والسياسية ، قد لعبت اياديهم الخائنة والنفوس الحقودة على الاسلام والمسلمين ، والتي ذكرت في كتب الانجيل والتوراة والزبور المحرفة ، القصص العجيبة والغريبة في حق الانبياء العظام .
ولو طرحت مثل هذه القصص على شخص لا يمتلك سوى القليل من العقل والادراك ، لأعترف بان قصص التوراة المحرفة حاليا ، ماهي الا خرافات ، وان اعداء الدين واعداء الانبياء هم الذين صاغوا مثل هذه الخرافات ، وعلى هذا قررنا عدم ذكر مثل هذه القصص والحكايات الباطلة والضعيفة سندا .
وقد وردت جملة من الاحاديث عن الائمة الاطهار عليهم السلام ، في تكذيب وبشدة تلك القصص الخرافية والقبيحة الواردة في التوراة ، ونذكر منها ماورد في قصة النبي داود عليه السلام :
روي عن الامام امير المؤمنين عليه السلام يقول فيما روي عن قصة داود عليه السلام والمراة الجميلة ، او قصة زواجه مع زوجة «اوريا» ، وغير ذلك .
قال عليه السلام فيه : «لو اوتي برجل يزعم ان داود تزوج امراة اوريا الا جلدته حدين ، حدا للنبوة وحدا للاسلام»(1) .
وقد ذكرت قصة داود عليه السلام والطائر في مجلس المأمون وبحضور الامام الرضا عليه السلام ، وعندما سمع الامام عليه السلام الكلام ، ضرب على جبهته وقال : «انا لله وانا اليه راجعون ، لقد نسبتم نبيا من انبياء الله الى التهاون بصلاته حتى خرج في اثر الطير ، ثم بالفاحشة ، ثم بالقتل» .
فسئل الامام الرضا عليه السلام : يا ابن رسول الله ، ما كانت خطيئة النبي داود عليه السلام ؟
فقال : «ويحك ان داود عليه السلام انما ظن انه ما خلق الله خلقا هو اعلم منه ، فبعث الله عز وجل اليه الملكين فتسورا المحراب ، ـ وتخاصما عنده ـ فعجل داود على المدعى عليه فقال : «لقد ظلمك بسؤال نعجتك الى نعاجه» ولم يسأل المدعي البينة على ذلك ، ولم يقل للمدعي عليه : ما تقول ؟ فكان هذا خطيئة رسم الحكم ، لا ماذهبتم اليه ، الا تسمع الله عز وجل يقول : «يا داود انا جعلناك خليفة في الارض فاحكم بين الناس بالحق» .
فقال : يابن رسول الله فما قصته مع اوريال ؟
قال الرضا عليه السلام : «ان المراة في ايام داود كانت اذا مات بعلها او قتل لا تتزوج بعده ابدا ، فاول من اباح الله عز وجل له ان يتزوج بامراة قتل بعلها داود عليه السلام ، فتزوج بامراة اوريا لما قتل وانقضت عدتها ، فذلك الذي شق على الناس من قتل اوريا»(2) .
يستفاد من هذا الحديث ، ان داود عليه السلام نفذ ما جاء في الرسالة الالهية ، الا ان اعداء الله والجهلة ، حرفوا الكلام عن مواضعه .
1ـ مجمع البيان في آيات البحث ، عنه الامثل تفسير سورة ص .
2ـ عيون الاخبار ، ما نقله نور الثقلين : ج4 ص445.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 229
فهل يمكن ان ينتخب البارئ عز وجل شخصا ينظر الى شرف المؤمنين والمقربين منه بعين خؤونة ، ويلوث يده بدم الابرياء ، خليفة له في الارض ، ويمنحه حكم القضاء المطلق ؟!
هذا وقد استخدمت التوراة عبارات يجل القلم عن ذكرها ، لهذا نصرف النظر عنها .
وروي ان داود عليه السلام لما تزوج بامراة اوريا بعد وفاة زوجها ، ولدت له سليمان عليه السلام واصبح نبيا بعد ابيه .
هذا ايضا دليل آخر على صحة زواج داود عليه السلام من امراة اوريا ، وكما امره الله تعالى بذلك ، لان الانبياء يولدون من ارحام طاهرة مطهرة ، وكلهم معصومون ومنزهون عن السهو والخطا .(1)
الصفات العشرة
1ـ الله سبحانه وتعالى يأمر نبي الاسلام محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، رغم مكانته العالية بان يتخذ من داود اسوة له في تحمل الصبر ، وذلك في قوله تعالى : «اصبر على ما يقولون واذكر ...»(2) .
2ـ القرآن وصف داود عليه السلام بالعبد ، وفي الحقيقة ان اهم خصوصية لداود هي : عبوديته لله ، قال تعالى «عبدنا داود» ونقرا شبيه هذا المعنى بشأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مسألة المعراج «سبحان الذي اسرى بعبده ...»(3) .
3ـ امتلاكه للقدرة والقوة ، في طاعة الباري عز وجل والاحتراز عن
1ـ راجع كتاب تنزيه الانبياء عليهم السلام للشريف المرتضى .
2ـ ص : 17.
3ـ الاسراء : 1.
ارتكاب المعاصي وحسن تدبيره لشؤون مملكته ، في قوله تعالى : «ذا اليد» وجاءت ايضا بشأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم «هو الذي ايدك بنصره وبالمؤمنين»(1) .
4ـ وصفه بالاواب ، ونفي رجوعه المتكرر والمستمر الى الله سبحانه وتعالى ، قال تعالى : «انه اواب» .
5ـ تسخير الجبال معه لتسبح في الصباح والمساء ، وهذا الامر يعد من مفاخره ، قال تعالى : «انا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والاشراق» .
6ـ مناجاة الطيور وتسبيحها الله مع داود ، وهذه من النعم التي انعمها الله على داود ، قال تعالى : «والطير محشورة» .
فكل الطيور والجبال مسخرة لداود ومطيعة لاوامره ، وتسبح معه ، حتى الحديد الانه الله له يعمل وينسج منه الدروع ، «... والنا له الحديد»(2) .
7ـ استمرار الجبال والطيور في التسبيح مع داود ، وفي كل مرة يسبح فيها تعود الجبال والطيور وتسبح معه ، وعلى هذا قال تعالى : «كل له اواب» تسبح الله عز وجل وتعود اليه .
واحتمال آخر هو : ان كل ذرات العالم تعود اليه ومطيعة لاوامره تعالى .
8ـ اعطاه الله الملك والحكومة التي احكمت اسسها ، اضافة الى وضع كل الوسائل المادية والمعنوية التي يحتاجها لنيل اهدافه تحت تصرفه ، قال تعالى : «وشددنا ملكه» اي ثبتنا واحكمنا مملكته ، بحيث كان الاعداء يحسبون لمملكته الف حساب .
9ـ منحه ثروة مهمة اخرى ، وهي العلم والمعرفة التي تفوق الحد الطبيعي ، والتي هي منبع خير كثير ومصدر كل بركة واحسان اينما كانت ، قال تعالى :
1ـ الانفال : 62.
2ـ سبأ : 10.
«وآتيناه الحكمة» الحكمة التي يقول بشانها القرآن المجيد : «ومن يؤت الحكمة فقد اوتي خيرا كثيرا»(1) ، وتعني العلم والمعرفة وحسن التدبير في امور البلاد ومقام النبوة والحكومة .
10ـ واخيرا فقد من الله عليه بمنطق قوي وحديث مؤثر ونافذ ، وقدرة كبيرة على القضاء والتحكيم بصورة حازمة وعادلة ، قال تعالى : «وفصل الخطاب» .
وقد استخدمت عبارة «فصل الخطاب» لانه كلمة الخطاب تعني اقوال طرفي النزاع ، اما «فصل» فانها تعني القطع والفصل ، وتعني هذه العبارة : قضاء بالعدل ، والمنطق القوي والتفكر العميق وسموه .
حقا ان اسس اي حكومة لا يمكن ان تصبح محكمة وقوية ومنتصرة بدون هذه الصفات : العلم ، والمنطق ، وتقوى الله ، والقدرة على ضبط النفس ، ونيل مقام العبودية لله تعالى ... .
وروي ان معنى «داود» انه داوى جرحه بود وقيل : داوى وده بالطاعة حتى قيل عبد .
وعن ابي جعفر عليه السلام قال : ان الله تبارك وتعالى لم يبعث الانبياء ملوكا في الارض الا اربعة بعد نوح : ذو القرنين واسمه عياش ، وداود ، وسليمان ، ويوسف عليهم السلام .(2)
وعنه عليه السلام قال : اوحى الله تعالى الى داود عليه السلام انك نعم العبد لولا انك تأكل من بيت المال ولا تعمل بيدك شيئا .(3)
قال : فبكى داود عليه السلام فاوحى الله تعالى الى الحديد ان لن لعبدي داود ،
1ـ البقرة : 269.
2ـ 3ـ قصص الانبياء للجزائري : ص378 و383.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 232
فالان الله له الحديد ، فكان يعمل كل يوم درعا فيبيعها بالف درهم ، فعمل ثلثمائة وستين درعا ، فباعها بثلثمائة وستين الفا ، واستغنى عن بيت المال .(1)
حزقيل وداود عليهما السلام :
روي ان داود عليه السلام خرج ذات يوم يقرأ الزبور ، وكان اذا قرأ الزبور لا يبقى جبل ولا حجر ولا طائر ولا سبع الا جاوبه ، فما زال يمر حتى انتهى الى جبل ، فاذا على الجبل نبي عابد يقال له «حزقيل» ، فلما سمع دوي الجبال واصوات السباع والطير علم انه داود عليه السلام .
فقال داود : يا حزقيل اتأذن لي فاصعد اليك ؟ قال : لا ، فبكى داود عليه السلام ، فاوحى الله جل جلاله اليه :
يا حزقيل لا تعير داود وسلني العافية ، فقام حزقيل فاخذ بيد داود فرفعه اليه .
فقال داود : يا حزقيل هل هممت بخطيئة قط ؟ قال : لا ، قال : فهل دخلك العجب مما انت فيه من عبادة الله عز وجل ؟ قال : لا ، قال : فهل ركنت الى الدنيا فاحببت ان تأخذ من شهوتها ولذتها ؟ قال : بلى ربما عرض بقلبي ، قال : فماذا تصنع اذا كان ذلك ؟ قال : ادخل هذا الشعب فاعتبر بما فيه .
قال : فدخل داود النبي عليه السلام الشعب ، فاذا سرير من حديد عليه جمجمة بالية ، وعظام فانية ، واذا لوح من حديد فيه كتابة فقرأها داود عليه السلام فاذا هي :
انا اروي سلم(2) ، ملكت الف سنة ، وبنيت الف مدينة ، وافتضضت الف بكر ، فكان آخر امري ان صار التراب فراشي ، والحجارة وسادتي ، والديدان
1ـ قصص الانبياء للجزائري : ص378 و383.
2ـ وفي نسخة : اروى شلم .
والحيات جيراني ، فمن رآني فلا يغتر بالدنيا .(1)
ما اوحى الله تعالى الى داود عليه السلام :
ان الله تبارك وتعالى اوحى الى داود عليه السلام قال : مالي اراك وحدانا ؟ قال : هجرت الناس وهجروني فيك . قال : فمالي اراك ساكتا ؟ قال : خشيتك اسكتتني .
قال : فمالي اراك نصبا ؟(2) قال : حبك انصبني .
قال : فمالي اراك فقيرا وقد اعطيتك ؟ قال : القيام بحقك افقرني . قال : فمالي اراك متذللا ؟ قال عظيم جلالك الذي لا يوصف ذللني ، وحق ذلك لك يا سيدي .
قال الله جل جلاله : فابشر بالفضل مني ، فلك ما تحب يوم تلقاني ، خالط الناس وخالقهم باخلاقهم ، وزايلهم(3) في اعمالهم تنل ما تريد مني يوم القيامة .(4)
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : اوحى الله عز وجل الى داود عليه السلام :
يا داود كما لا تضيق الشمس على من جلس فيها ، كذلك لا تضيق رحمتي على من دخل فيها .
وكما لا تضر الطيرة من لا يتطير منها ، كذلك لا ينجو من الفتنة المتطيرون .
وكما ان اقرب الناس مني يوم القيامة المتواضعون ، كذلك ابعد الناس مني يوم القيامة المتكبرون .(5)
1ـ البحار : ج14 ص25.
2ـ معناه : مالي اراك مجدا مجتهدا في العبادة متعبا نفسك فيها .
3ـ اي فارقهم في اعمالهم الرديئة وافعالهم الرذيلة .
4ـ الامالي للصدوق ص 118 .
5ـ نفس المصدر .
وروي عن الصادق عليه السلام قال : اوحى الله عز وجل الى داود عليه السلام : ان العبد من عبادي ليأتيني بالحسنة فابيحه جنتي ، قال : فقال داود عليه السلام : يا رب وما تلك الحسنة ؟ قال : يُدخل على عبدي المؤمن سرورا ولو بتمرة .
قال : فقال داود عليه السلام حق لمن عرفك ان لا يقطع رجاءه منك .
روي عن ابن منبه قال : قرأت في زبور داود عليه السلام اسطرا منها ما حفظت ومنها ما نسيت ، فما حفظت قوله :
يا داود اسمع مني ما اقول والحق اقول : من اتاني وهو يحبني ادخلته الجنة .
يا داود اسمع مني ما اقول والحق اقول : من اتاني وهو مستحيي من المعاصي التي عصاني بها غفرتها له ، او انسيتها حافظيه .
يا داود اسمع مني ما اقول والحق اقول : من اتاني بحسنة واحدة ادخلته الجنة .
يا داود اسمع مني ما اقول والحق اقول : من اتاني بحسنة واحدة ادخلته الجنة ، قال داود : يا رب وما هذه الحسنة ؟ قال : من فرج عن عبد مسلم ، فقال داود : الهي لذلك لا ينبغي لمن عرفك ان يقطع رجاءه منك .
وان الله اوحى الى داود عليه السلام قال : ان العباد تحابوا بالالسن ، وتباغضوا بالقلوب ، واظهروا العمل للدنيا ، وابطنوا الغش والدغل(1) .
يا داود : اذكرني في ايام سرائك حتى استجيب لك في ايام ضرائك(2) .
يا داود : احبني وحببني الى خلقي ، قال : يا رب نعم انا احبك فكيف
1ـ البحار : ج14 ص37.
2ـ البحار : ج14 ص37.
احببك الى خلقك ؟ قال : اذكر ايادي عندهم فانك اذا ذكرت ذلك لهم احبوني .(1)
يا داود : كما ان اقرب الناس من الله المتواضعون ، كذلك ابعد الناس عن الله المتكبرون(2) .
يا داود : بشر المذنبين ، وانذر الصديقين .
قال : كيف ابشر المذنبين وانذر الصديقين ؟ قال : يا داود بشر المذنبين اني اقبل التوبة واعفو عن الذنب ، وانذر الصديقين ان لا يعجبوا باعمالهم ، فانه ليس عبد انصبه للحساب الا هلك(3) .
يا داود : من احب حبيبا صدق قوله ، ومن آنس بحبيب قبل قوله ورضي فعله ، ومن وثق بحبيب اعتمد عليه ، ومن اشتاق الى حبيب جد في السير اليه .
يا داود ذكري للذاكرين ، وجنتي للمطيعين ، وزيارتي للمشتاقين ، وانا خاصة للمطيعين(4) .
يا داود قل لفلان الجبار : اني لم ابعثك لتجمع الدنيا على الدنيا ، ولكن لترد عني دعوة المظلوم وتنصره ، فاني آليت على نفسي ان انصره وانتصر له ممن ظُلم بحضرته ولم ينصره(5) .
يا داود : اشكرني حق شكري ، قال : الهي كيف اشكرك حق شكرك وشكري اياك نعمة منك ؟ فقال : الآن شكرتني حق شكري .
وكان ايضا فيما اوحى الله عز وجل الى داود عليه السلام قال :
يا داود : من انقطع الي كفيته ، ومن سألني اعطيته ، ومن دعاني اجبته ،
1ـ قصص الانبياء .
2ـ 3ـ الكافي : ج2 ص123.
4ـ ارشاد القلوب : ج1 ص73.
5ـ نفس المصدر
قال الله تعالى في كتابه الكريم : «يا داوود انا جعلناك خليفة في الارض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ان الذين يضلون عن سبيل الله ...»(1) .
من هو داود ؟
نبي الله داود عليه السلام احد كبار انبياء بني اسرائيل ، وقد كان حاكما لدولة كبيرة ، وقد ورد ذكر مقامه العالي في عدة آيات من القرآن الكريم.
داود عليه السلام الذي منحه الله قدرة واسعة ، حتى ان الجبال والطيور كانت مسخرة له ، ويسبحن معه حيث يقول تعالى : «انا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والاشراق * والطير محشورة كل له اواب»(2) .
من نعم الله عز وجل على داود ان سخر له بكل مجاميع الطيور كي تسبح الله معه ، وكذلك الجبال مسخرة لداود ومطيعة لاوامره وتسبح معه البارئ عز وجل ، وتعود اليه «كل له اواب» اي كلها تعود الى داود بعدما ترتحل من اماكنها .
اراد الله عز وجل ان يواسي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عندما آذاه المشركون
1ـ ص : 26.
2ـ ص : 18ـ 19.
وعبدة الاصنام في مكة والمدينة ، فضرب له الامثال وقال عز وجل : «اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داوود ذا الايد انه اواب»(1) .
فداود مع هذه القدرة العظيمة التي منحها اياه رب العالمين ، لم يسلم من تجريح الآخرين ، وفي هذا الكلام مواساة لخواطر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ان هذه المسالة لم تنحصر بك يا رسول الله فقط ، وانما شاركك فيها كبار الانبياء عليهم السلام ايضا .
وروي انه لما مات النبي طالوت ، وكان اسمه «شاول» ايضا ، ملك داود على بني يهوذا ، وكان لداود نسوة قد ولدن منه اولادا .
واجتمعت بنو اسرائيل من الاسباط على تمليك داود فملكوه بعد سبع سنين ملكها على بني يهوذا خاصة ، وهي بيت المقدس ، وبنى بها منزلا ، وتزوج النساء ، فولد له بعد ان ملك اولاد كثيرين ، وعز ملكه ، واعظمته بنو اسرائيل ، وكان سليمان افضل ولده ، واصبح نبيا بعد ابيه .
وكان داود عليه السلام شجاعا وقاتل في معارك كثيرة وحروب قوية منها : قتاله مع الحنفاء فهزمهم ، وقاتل اهل مؤاب وهزمهم ، وقاتل اد دازار ملك سوبا فهزمه ، واخذ له الف مركب وسبعة آلاف من الخيل .
وعندما اجتمع اهل الشام ودمشق ليقتلوا داود ، فقتل منهم ـ اثنين وعشرين الفا ، واستحوذ على الارض ، فكان اهل الشام جميعا عبيدا له .(2)
اما من حيث قدرته السياسية ، فقد كانت حكومته قوية ، ومستعدة دائما لمواجهة الاعداء بكل قوة واقتدار ، حتى قيل ان الآلاف من جنده كانت تقف على اهبة الاستعداد من المساء حتى الصباح في اطراف محراب عبادته .
1ـ ص : 17.
2ـ تاريخ اليعقوبي : ج1 ص51.
ومن حيث قدرته الاخلاقية والمعنوية والعبادية ، فانه كان يقوم معظم الليل في عبادة الله ، ويصوم نصف ايام السنة .
واما من حيث النعم الالهية ، فقد انعم الله عليه بالكثير من النعم الظاهرية والباطنية .
وخلاصة القول : ان داود عليه السلام كان رجلا ذا قوة وقدرة في الحروب والعبادات والعلم والمعرفة والسياسة ، وكان ايضا صاحب نعمة كبيرة .
قضاء النبي داود عليه السلام :
كان داود عليه السلام ذا علم واسع ومهارة فائقة في امر القضاء ، واراد الله سبحانه وتعالى ان يمتحنه ، فارسل له شخصين تسورا عليه جدار محرابه ليحتكما عنده ، كما ذكرت لنا الآيات المباركة من سورة «ص» من آية 21ـ 25 ، حيث قال تعالى : «وهل اتاك نبأ الخصم اذ تسوروا المحراب ، ... الخ»(1) .
وذلك عندما كان داود عليه السلام في محرابه ، وكان محاطا باعداد كبيرة من الجند والحرس ، فاذا برجلان تسورا جدران المحراب ودخلا عليه من دون استئذان ومن دون علم مسبق ووقفا امامه فجاة ، ففزع داود عند رؤيتهما ، وظن انهم يكنون له السوء .
الا انهما عمدا بسرعة الى تطييب نفسه واسكان روعه وقالا له : لا تخف نحن متخاصمان تجاوز احدنا على الآخر ، فاحكم بيننا وارشدنا الى الطريق الصحيح .
وطرح احدهما المشكلة فورا على داود عليه السلام وقال : هذا اخي ، يمتلك
1ـ ص : 21ـ 25.
(99) نعجة ، وانا لا امتلك الا نعجة واحدة ، وانه يصر علي ان اعطيه نعجتي ليضمها الى بقية نعاجه ، وقد شدد علي القول واغلظ .
وهنا وبسرعة التفت داود عليه السلام الى المدعي وقبل ان يستمع كلام الآخر واصدر الحكم وقال :
من البديهي انه ظلمك بطلبه ضم نعجتك الى نعاجه . وبعد اصدار الحكم خرج المتخاصمان وغادرا المكان بدون كلام واعتراض .
وبعد خروجهما غرق داود عليه السلام في التفكير ، رغم انه كان يعتقد انه قضى بالعدل بين المتخاصمين ، فلو كان الطرف الثاني مخالفا لادعاءات الطرف الاول ، لكان قد اعترض عليه ، اذن فسكوته هو خير دليل على ان القضية هي كما طرحها المدعي .
ولكن آداب مجلس القضاء تفرض على داود ان يتريث في اصدار الحكم ولا يتعجل ، وكان عليه ان يسال من الطرف الثاني ايضا ثم يحكم بينهما ، فلذا ندم كثيرا على عمله هذا ، وظن انما فتنه الباري عز وجل بهذه الحادثة . «وظن داود انما فتناه» .
وهنا ادركته طبيعته ، حيث انه اواب ، رجع الى ربه طالبا منه العفو والمغفرة وخر راكعا وساجدا تائبا الى الله العزيز الحكيم .
وبعد ذلك شمله الله سبحانه وتعالى بلطفه ورحمته وعفا عنه زلته من حيث ترك العمل بالاولى ، وان له منزلة رفيعة عند الله ، كما توضحه الآية المباركة :
«فغفرنا له ذلك وان له عندنا لزلفى وحسن مآب»(1) .
كانت هذه الحادثة من جملة الحوادث التي امتحن الله عز وجل بها انبيائه
1ـ ص : 25.
ورسله ، في الواقع مثل هذه الابتلاءات والامتحانات لا تقلل شيئا من شأن ومقام الانبياء والرسل ، بل تزيدهم ايمانا واعتقادا بالله تعالى .
وفي نفس الوقت هي دروس وعبر وتجارب لنا جميعا نستفيد منها ونعتبر بها ، من اجل سعادتنا وسعادة الامة في الدنيا والآخرة ، فاعتبروا يا اولي الابصار .. .
ملاحظات :
مع كل الاسف نرى ان اعداء الله من المنافقين والمخالفين من جهة ، والجهلة من جهة اخرى ، بالاضافة الى مؤلفي القصص الخيالية الذين يكتبون دائما قصص عجيبة وكاذبة من اجل المصالح المادية والسياسية ، قد لعبت اياديهم الخائنة والنفوس الحقودة على الاسلام والمسلمين ، والتي ذكرت في كتب الانجيل والتوراة والزبور المحرفة ، القصص العجيبة والغريبة في حق الانبياء العظام .
ولو طرحت مثل هذه القصص على شخص لا يمتلك سوى القليل من العقل والادراك ، لأعترف بان قصص التوراة المحرفة حاليا ، ماهي الا خرافات ، وان اعداء الدين واعداء الانبياء هم الذين صاغوا مثل هذه الخرافات ، وعلى هذا قررنا عدم ذكر مثل هذه القصص والحكايات الباطلة والضعيفة سندا .
وقد وردت جملة من الاحاديث عن الائمة الاطهار عليهم السلام ، في تكذيب وبشدة تلك القصص الخرافية والقبيحة الواردة في التوراة ، ونذكر منها ماورد في قصة النبي داود عليه السلام :
روي عن الامام امير المؤمنين عليه السلام يقول فيما روي عن قصة داود عليه السلام والمراة الجميلة ، او قصة زواجه مع زوجة «اوريا» ، وغير ذلك .
قال عليه السلام فيه : «لو اوتي برجل يزعم ان داود تزوج امراة اوريا الا جلدته حدين ، حدا للنبوة وحدا للاسلام»(1) .
وقد ذكرت قصة داود عليه السلام والطائر في مجلس المأمون وبحضور الامام الرضا عليه السلام ، وعندما سمع الامام عليه السلام الكلام ، ضرب على جبهته وقال : «انا لله وانا اليه راجعون ، لقد نسبتم نبيا من انبياء الله الى التهاون بصلاته حتى خرج في اثر الطير ، ثم بالفاحشة ، ثم بالقتل» .
فسئل الامام الرضا عليه السلام : يا ابن رسول الله ، ما كانت خطيئة النبي داود عليه السلام ؟
فقال : «ويحك ان داود عليه السلام انما ظن انه ما خلق الله خلقا هو اعلم منه ، فبعث الله عز وجل اليه الملكين فتسورا المحراب ، ـ وتخاصما عنده ـ فعجل داود على المدعى عليه فقال : «لقد ظلمك بسؤال نعجتك الى نعاجه» ولم يسأل المدعي البينة على ذلك ، ولم يقل للمدعي عليه : ما تقول ؟ فكان هذا خطيئة رسم الحكم ، لا ماذهبتم اليه ، الا تسمع الله عز وجل يقول : «يا داود انا جعلناك خليفة في الارض فاحكم بين الناس بالحق» .
فقال : يابن رسول الله فما قصته مع اوريال ؟
قال الرضا عليه السلام : «ان المراة في ايام داود كانت اذا مات بعلها او قتل لا تتزوج بعده ابدا ، فاول من اباح الله عز وجل له ان يتزوج بامراة قتل بعلها داود عليه السلام ، فتزوج بامراة اوريا لما قتل وانقضت عدتها ، فذلك الذي شق على الناس من قتل اوريا»(2) .
يستفاد من هذا الحديث ، ان داود عليه السلام نفذ ما جاء في الرسالة الالهية ، الا ان اعداء الله والجهلة ، حرفوا الكلام عن مواضعه .
1ـ مجمع البيان في آيات البحث ، عنه الامثل تفسير سورة ص .
2ـ عيون الاخبار ، ما نقله نور الثقلين : ج4 ص445.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 229
فهل يمكن ان ينتخب البارئ عز وجل شخصا ينظر الى شرف المؤمنين والمقربين منه بعين خؤونة ، ويلوث يده بدم الابرياء ، خليفة له في الارض ، ويمنحه حكم القضاء المطلق ؟!
هذا وقد استخدمت التوراة عبارات يجل القلم عن ذكرها ، لهذا نصرف النظر عنها .
وروي ان داود عليه السلام لما تزوج بامراة اوريا بعد وفاة زوجها ، ولدت له سليمان عليه السلام واصبح نبيا بعد ابيه .
هذا ايضا دليل آخر على صحة زواج داود عليه السلام من امراة اوريا ، وكما امره الله تعالى بذلك ، لان الانبياء يولدون من ارحام طاهرة مطهرة ، وكلهم معصومون ومنزهون عن السهو والخطا .(1)
الصفات العشرة
1ـ الله سبحانه وتعالى يأمر نبي الاسلام محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، رغم مكانته العالية بان يتخذ من داود اسوة له في تحمل الصبر ، وذلك في قوله تعالى : «اصبر على ما يقولون واذكر ...»(2) .
2ـ القرآن وصف داود عليه السلام بالعبد ، وفي الحقيقة ان اهم خصوصية لداود هي : عبوديته لله ، قال تعالى «عبدنا داود» ونقرا شبيه هذا المعنى بشأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مسألة المعراج «سبحان الذي اسرى بعبده ...»(3) .
3ـ امتلاكه للقدرة والقوة ، في طاعة الباري عز وجل والاحتراز عن
1ـ راجع كتاب تنزيه الانبياء عليهم السلام للشريف المرتضى .
2ـ ص : 17.
3ـ الاسراء : 1.
ارتكاب المعاصي وحسن تدبيره لشؤون مملكته ، في قوله تعالى : «ذا اليد» وجاءت ايضا بشأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم «هو الذي ايدك بنصره وبالمؤمنين»(1) .
4ـ وصفه بالاواب ، ونفي رجوعه المتكرر والمستمر الى الله سبحانه وتعالى ، قال تعالى : «انه اواب» .
5ـ تسخير الجبال معه لتسبح في الصباح والمساء ، وهذا الامر يعد من مفاخره ، قال تعالى : «انا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والاشراق» .
6ـ مناجاة الطيور وتسبيحها الله مع داود ، وهذه من النعم التي انعمها الله على داود ، قال تعالى : «والطير محشورة» .
فكل الطيور والجبال مسخرة لداود ومطيعة لاوامره ، وتسبح معه ، حتى الحديد الانه الله له يعمل وينسج منه الدروع ، «... والنا له الحديد»(2) .
7ـ استمرار الجبال والطيور في التسبيح مع داود ، وفي كل مرة يسبح فيها تعود الجبال والطيور وتسبح معه ، وعلى هذا قال تعالى : «كل له اواب» تسبح الله عز وجل وتعود اليه .
واحتمال آخر هو : ان كل ذرات العالم تعود اليه ومطيعة لاوامره تعالى .
8ـ اعطاه الله الملك والحكومة التي احكمت اسسها ، اضافة الى وضع كل الوسائل المادية والمعنوية التي يحتاجها لنيل اهدافه تحت تصرفه ، قال تعالى : «وشددنا ملكه» اي ثبتنا واحكمنا مملكته ، بحيث كان الاعداء يحسبون لمملكته الف حساب .
9ـ منحه ثروة مهمة اخرى ، وهي العلم والمعرفة التي تفوق الحد الطبيعي ، والتي هي منبع خير كثير ومصدر كل بركة واحسان اينما كانت ، قال تعالى :
1ـ الانفال : 62.
2ـ سبأ : 10.
«وآتيناه الحكمة» الحكمة التي يقول بشانها القرآن المجيد : «ومن يؤت الحكمة فقد اوتي خيرا كثيرا»(1) ، وتعني العلم والمعرفة وحسن التدبير في امور البلاد ومقام النبوة والحكومة .
10ـ واخيرا فقد من الله عليه بمنطق قوي وحديث مؤثر ونافذ ، وقدرة كبيرة على القضاء والتحكيم بصورة حازمة وعادلة ، قال تعالى : «وفصل الخطاب» .
وقد استخدمت عبارة «فصل الخطاب» لانه كلمة الخطاب تعني اقوال طرفي النزاع ، اما «فصل» فانها تعني القطع والفصل ، وتعني هذه العبارة : قضاء بالعدل ، والمنطق القوي والتفكر العميق وسموه .
حقا ان اسس اي حكومة لا يمكن ان تصبح محكمة وقوية ومنتصرة بدون هذه الصفات : العلم ، والمنطق ، وتقوى الله ، والقدرة على ضبط النفس ، ونيل مقام العبودية لله تعالى ... .
وروي ان معنى «داود» انه داوى جرحه بود وقيل : داوى وده بالطاعة حتى قيل عبد .
وعن ابي جعفر عليه السلام قال : ان الله تبارك وتعالى لم يبعث الانبياء ملوكا في الارض الا اربعة بعد نوح : ذو القرنين واسمه عياش ، وداود ، وسليمان ، ويوسف عليهم السلام .(2)
وعنه عليه السلام قال : اوحى الله تعالى الى داود عليه السلام انك نعم العبد لولا انك تأكل من بيت المال ولا تعمل بيدك شيئا .(3)
قال : فبكى داود عليه السلام فاوحى الله تعالى الى الحديد ان لن لعبدي داود ،
1ـ البقرة : 269.
2ـ 3ـ قصص الانبياء للجزائري : ص378 و383.
حكم ومواعظ من حياة الانبياء ـ الجزء الثاني 232
فالان الله له الحديد ، فكان يعمل كل يوم درعا فيبيعها بالف درهم ، فعمل ثلثمائة وستين درعا ، فباعها بثلثمائة وستين الفا ، واستغنى عن بيت المال .(1)
حزقيل وداود عليهما السلام :
روي ان داود عليه السلام خرج ذات يوم يقرأ الزبور ، وكان اذا قرأ الزبور لا يبقى جبل ولا حجر ولا طائر ولا سبع الا جاوبه ، فما زال يمر حتى انتهى الى جبل ، فاذا على الجبل نبي عابد يقال له «حزقيل» ، فلما سمع دوي الجبال واصوات السباع والطير علم انه داود عليه السلام .
فقال داود : يا حزقيل اتأذن لي فاصعد اليك ؟ قال : لا ، فبكى داود عليه السلام ، فاوحى الله جل جلاله اليه :
يا حزقيل لا تعير داود وسلني العافية ، فقام حزقيل فاخذ بيد داود فرفعه اليه .
فقال داود : يا حزقيل هل هممت بخطيئة قط ؟ قال : لا ، قال : فهل دخلك العجب مما انت فيه من عبادة الله عز وجل ؟ قال : لا ، قال : فهل ركنت الى الدنيا فاحببت ان تأخذ من شهوتها ولذتها ؟ قال : بلى ربما عرض بقلبي ، قال : فماذا تصنع اذا كان ذلك ؟ قال : ادخل هذا الشعب فاعتبر بما فيه .
قال : فدخل داود النبي عليه السلام الشعب ، فاذا سرير من حديد عليه جمجمة بالية ، وعظام فانية ، واذا لوح من حديد فيه كتابة فقرأها داود عليه السلام فاذا هي :
انا اروي سلم(2) ، ملكت الف سنة ، وبنيت الف مدينة ، وافتضضت الف بكر ، فكان آخر امري ان صار التراب فراشي ، والحجارة وسادتي ، والديدان
1ـ قصص الانبياء للجزائري : ص378 و383.
2ـ وفي نسخة : اروى شلم .
والحيات جيراني ، فمن رآني فلا يغتر بالدنيا .(1)
ما اوحى الله تعالى الى داود عليه السلام :
ان الله تبارك وتعالى اوحى الى داود عليه السلام قال : مالي اراك وحدانا ؟ قال : هجرت الناس وهجروني فيك . قال : فمالي اراك ساكتا ؟ قال : خشيتك اسكتتني .
قال : فمالي اراك نصبا ؟(2) قال : حبك انصبني .
قال : فمالي اراك فقيرا وقد اعطيتك ؟ قال : القيام بحقك افقرني . قال : فمالي اراك متذللا ؟ قال عظيم جلالك الذي لا يوصف ذللني ، وحق ذلك لك يا سيدي .
قال الله جل جلاله : فابشر بالفضل مني ، فلك ما تحب يوم تلقاني ، خالط الناس وخالقهم باخلاقهم ، وزايلهم(3) في اعمالهم تنل ما تريد مني يوم القيامة .(4)
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : اوحى الله عز وجل الى داود عليه السلام :
يا داود كما لا تضيق الشمس على من جلس فيها ، كذلك لا تضيق رحمتي على من دخل فيها .
وكما لا تضر الطيرة من لا يتطير منها ، كذلك لا ينجو من الفتنة المتطيرون .
وكما ان اقرب الناس مني يوم القيامة المتواضعون ، كذلك ابعد الناس مني يوم القيامة المتكبرون .(5)
1ـ البحار : ج14 ص25.
2ـ معناه : مالي اراك مجدا مجتهدا في العبادة متعبا نفسك فيها .
3ـ اي فارقهم في اعمالهم الرديئة وافعالهم الرذيلة .
4ـ الامالي للصدوق ص 118 .
5ـ نفس المصدر .
وروي عن الصادق عليه السلام قال : اوحى الله عز وجل الى داود عليه السلام : ان العبد من عبادي ليأتيني بالحسنة فابيحه جنتي ، قال : فقال داود عليه السلام : يا رب وما تلك الحسنة ؟ قال : يُدخل على عبدي المؤمن سرورا ولو بتمرة .
قال : فقال داود عليه السلام حق لمن عرفك ان لا يقطع رجاءه منك .
روي عن ابن منبه قال : قرأت في زبور داود عليه السلام اسطرا منها ما حفظت ومنها ما نسيت ، فما حفظت قوله :
يا داود اسمع مني ما اقول والحق اقول : من اتاني وهو يحبني ادخلته الجنة .
يا داود اسمع مني ما اقول والحق اقول : من اتاني وهو مستحيي من المعاصي التي عصاني بها غفرتها له ، او انسيتها حافظيه .
يا داود اسمع مني ما اقول والحق اقول : من اتاني بحسنة واحدة ادخلته الجنة .
يا داود اسمع مني ما اقول والحق اقول : من اتاني بحسنة واحدة ادخلته الجنة ، قال داود : يا رب وما هذه الحسنة ؟ قال : من فرج عن عبد مسلم ، فقال داود : الهي لذلك لا ينبغي لمن عرفك ان يقطع رجاءه منك .
وان الله اوحى الى داود عليه السلام قال : ان العباد تحابوا بالالسن ، وتباغضوا بالقلوب ، واظهروا العمل للدنيا ، وابطنوا الغش والدغل(1) .
يا داود : اذكرني في ايام سرائك حتى استجيب لك في ايام ضرائك(2) .
يا داود : احبني وحببني الى خلقي ، قال : يا رب نعم انا احبك فكيف
1ـ البحار : ج14 ص37.
2ـ البحار : ج14 ص37.
احببك الى خلقك ؟ قال : اذكر ايادي عندهم فانك اذا ذكرت ذلك لهم احبوني .(1)
يا داود : كما ان اقرب الناس من الله المتواضعون ، كذلك ابعد الناس عن الله المتكبرون(2) .
يا داود : بشر المذنبين ، وانذر الصديقين .
قال : كيف ابشر المذنبين وانذر الصديقين ؟ قال : يا داود بشر المذنبين اني اقبل التوبة واعفو عن الذنب ، وانذر الصديقين ان لا يعجبوا باعمالهم ، فانه ليس عبد انصبه للحساب الا هلك(3) .
يا داود : من احب حبيبا صدق قوله ، ومن آنس بحبيب قبل قوله ورضي فعله ، ومن وثق بحبيب اعتمد عليه ، ومن اشتاق الى حبيب جد في السير اليه .
يا داود ذكري للذاكرين ، وجنتي للمطيعين ، وزيارتي للمشتاقين ، وانا خاصة للمطيعين(4) .
يا داود قل لفلان الجبار : اني لم ابعثك لتجمع الدنيا على الدنيا ، ولكن لترد عني دعوة المظلوم وتنصره ، فاني آليت على نفسي ان انصره وانتصر له ممن ظُلم بحضرته ولم ينصره(5) .
يا داود : اشكرني حق شكري ، قال : الهي كيف اشكرك حق شكرك وشكري اياك نعمة منك ؟ فقال : الآن شكرتني حق شكري .
وكان ايضا فيما اوحى الله عز وجل الى داود عليه السلام قال :
يا داود : من انقطع الي كفيته ، ومن سألني اعطيته ، ومن دعاني اجبته ،
1ـ قصص الانبياء .
2ـ 3ـ الكافي : ج2 ص123.
4ـ ارشاد القلوب : ج1 ص73.
5ـ نفس المصدر