ريــــــــــــــم الــــــــــــحـــربــــــــــي
2011-06-13, 04:18 PM
ضعف الإيمان وأثره الخطير في دنو همة المسلم
مسلم بن محمد اليوسف
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله -تعالى- من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا ِِإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[سورة آل عمران: 102)].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[سورة النساء: 1)].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[سورة الأحزاب: 70، 71)].
أما بعد:
فإن خير الكلام كلام الله تعال ى، وخير الهدى هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وإن شر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فهذا مبحث مبسط بينت فيه ضعف الإيمان وأثره الخطير في دنو همة المسلم في ضوء القرآن الكريم أتمنى على طلاب العلم وطلاب الهمة الاستفادة منه. والله الموفق..
الإيمان بالنسبة للفرد، والمجتمع صمام الأمان الذي يقي من المهالك، والمخاطر، وإذا خلت الحياة من الإيمان؛ فقد خلت من كل معاني الخير، والفضيلة، والإنسانية، وحلت بها كل دواعي الشر، والفساد؛ والشقاء، فالفرد بغير إيمان إنسانُ ليس له قيمة؛ ولا جذور، إنسان قلق، منهزم، حائر، دنيء الهمة؛ لا يعرف حقيقة نفسه، ولا سر وجوده.
والمجتمع بغير إيمان مجتمع غابة، وإن لمعت فيه بوارق الحضارة، مجتمع منكس الموازين، الحياة؛ والبقاء فيه للأشد؛ والأقوى، لا للأفضل؛ أو الأنقى، مجتمع لا يلتفت إلى المعالي؛ ولا يطلبها؛ لأن غايات أهله لا تتجاوز شهوات البطون؛ والفروج، فكان دنو الهمة لهم رمزاً وصفة، وكما هو معلوم، فإن الإيمان له أثره الواضح الذي لا يُنكر في إعلاء الهمم، وإصلاح الأفراد، والمجتمعات، وليس غير الإيمان يملك أن يغير النفس البشرية تغييراً تاماً، ويُنشئ الإنسانَ، ويجعله خلقاً آخر يمتاز بكل الصفات الحميدة التي تقوده إلى هدفه؛ ومبتغاه.
فالإيمان جذوة تتقدُ في قلب صاحبها، فتقوده إلى كل خير، وتنأى به عن كل شر، فإذا ما ضعُف الإيمان، أو فُقد. فإن صاحبه لن يبال بالكرامات، ولن يسعى للمعالي.
ومن المعلوم يقيناً أن الإيمان حين يتغلل في النفوس، وتخالط بشاشته القلوب يكون أول سلاح يتسلح به الإنسان في مواجهة الحياة، فالإيمان هو المنبع الوحيد للطاقة الإنسانية، فهو الدافع العظيم للمسلم للعمل، و البذل؛ و الرقي إلى معالي الأمور.
إنّ ضعف الإيمان من أهم صفات أصحاب الهمم الدنيئة؛ لأن صاحب الهمة الدنيئة لا يحرص على تقوية إيمانه؛ وزكاة قلبه، ولا يهتم بنفسه، فيقوم عليها بعبودية المجاهدة، والمحاسبة، للتطلع إلى عاليات الأمور في الدنيا، والآخرة.
يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (إنّ الإِيمانَ لَيَخْلَقُ في جَوْفِ أحدِكُمْ كما يَخْلَقُ الثَّوْبُ فاسْأَلُوا اللهَ - تعالى -أن يُجَدِّدَ الإِيمانَ في قُلُوبِكُمْ)[1].
فها هو الرسول –صلى الله عليه وسلم- يُبين لنا أن الإيمان في القلب إنما يزيد؛ وينقص، ويقوى لحظة، ويتغير لحظة أخرى، وصاحب الهمة العالية يسعى دائماً إلى أن يبقى الإيمان قوياً؛ وحياً ينبض في قلبه. أما من دنت همته، فنراه يطفئ شعلة الإيمان في قلبه، حتى يصبح قلبه خاوياً فارغاً خرباً كالبيت الخرب؛ لأنه قد خلا من ذلك الإيمان الذي يصفه صاحب تفسير المنار بقوله: "إن الإيمان نورٌ، نور في القلب، ونور في الجوارح، نور يكشف حقائق الأشياء، والقيم؛ والأحداث؛ وما بينهما من ارتباطات؛ ونسب؛ وأبعاد، فالمؤمن ينظر بهذا النور، نور الله، فيرى الحقائق، ويتعامل معها، ولا يتخبط في طريقه، ولا يتعثر في خطواته"[2].
إن ضعف الإيمان من أهم أسباب دنو الهمة، وأعظمها، ففاقد الإيمان فاقد للهمة العالية، وحينما يُعرض الإنسان عن الإيمان، أو يضعُف إيمانه، فإنه لا شك تضعف همته، وتسوء سريرته، ويَنكبُ على المعاصي، ويُعرض عن الله - تعالى -.
وإن علو همتنا لا تظهر إلا حينما يقوى إيماننا بالله، ويبلغ في نفوسنا مداه، ويشرف على قلوبنا بناه، وتحط في أعماقنا مجراه، وحيث ضعف الإيمان دنت همة المرء، وانحطت عزيمته، فارتباط الإيمان بالهمة ارتباط وثيق؛ و لذلك قال - تعالى -: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى)[3].
فالإعراض عن الله هو ضعف الإيمان، فالإيمان مع معصية الخالق، كالشمس المكسوفة؛ أو كالسراج إذا غطيته بصفحة[4]، فهو موجود، ولكن هذا الوعاء يمنع نوره من الظهور، لذلك يكون هذا الإنسان البعيد عن ذكر الله - تعالى- دنيء الهمة، لا يبحث إلا عن سفاسف الأمور.
قال أبي السعود في تفسير هذه الآية: "إن من أعرض عن ذكر الله -عز وجل- في الدنيا، فإن الله -تعالى- ضيق عليه حياته؛ وذلك؛ لأن مجامع همته، و مطامح نظره مقصورة على أعراض الدنيا، وهو متهالك على ازديادها، وخائف من انتقاصها، بخلاف المؤمن الطالب للآخرة مع أنه قد يضيق الله بشؤم الكفر، ويوسع ببركة الإيمان"[5].
يقول ابن الجوزي -رحمه الله-: "يجب أن تكون همة المؤمن متعلقة بالآخرة، فكل ما في الدنيا يُحركه إلى ذكر الآخرة، و كل من شغله شيء، فهمته شغله، والمؤمن إذا رأى ظلمة ذكر ظلمة القبر، وإن رأى الناس ذكر الناس في القبور"[6].
فمن جعل الآخرة همه، كما قال ابن الجوزي: فقد فاز الفوز العظيم، ولا يكون إلا أصحاب الإيمان القوي الذي قادهم إيمانهم هذا إلى علو الهمة، وطلب الآخرة بدلاً من الدنيا.
ترك الطاعات، وفعل المعاصي:
لما طغى على الإنسان حب الدنيا، وفعل المعاصي أصبح قلبه متعلقاً بها، وغلب عليه نسيان الآخرة، بدأ ينسى ذلك الرابط الذي يربطه بخالقه جل وعلا، فبدأ يبعد رويداً عن تلك الطاعات، والأجواء الإيمانية التي كانت بينه، وبين ربه -عز وجل-.
وللأسف يجد الإنسان نفسه أمام تنازل تلو تنازل، فاليوم يترك طاعة، وغداً يترك طاعة أخرى، حتى يصل إلى مرحلة من قسوة القلب، وضعف الإيمان.
قال - تعالى -: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ)[7] وقد دلت الآية على أن طول البعد عن الطاعات هو مدعاة لضعف الإيمان في القلب.
يقول السعدي -رحمه الله- في تفسيره هذه الآية: "أي: ولا يكونوا كالذين أنزل الله عليهم الكتاب الموجب لخشوع القلب، و الانقياد التام، ثم لم يدوموا، و لا ثبتوا، بل طال عليهم الزمان، و استمرت بهم الغفلة، فاضمحل إيمانهم، وزال إيقانهم، فالقلوب تحتاج في كل وقت إلى أن تذكر بما أنزله الله، وتناطق بالحكمة، ولا ينبغي الغفلة عن ذلك، فإن ذلك سبب لقسوة القلب وجود العين"[8].
إن الذنوب، والمعاصي رأس الفتنة، ومحرك الشر، وقائدة لدنو الهمة، ومما يُبين ذلك قوله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ)[9].
فهؤلاء الذين هزموا، وفروا قد ضعفوا، وتولوا بسبب معصية ارتكبوها، فظلت نفوسهم مزعزعة بسببها، فدخل عليهم الشيطان من ذلك المنفذ، واستذلهم فذلوا وسقطوا، وفي هذا تصوير لحالة النفس البشرية حين ترتكب الخطيئة، فتفقد ثقتها في قوتها، ويضعف ارتباطها بالله، ويختل توازنها، وتماسكها، وتصبح عرضة للوساوس، والهواجس، وقد يسأل سائل لم جاء الحديث عن الربا، والفواحش، أو ظلم النفس وسط الحديث عن غزوة أحد؟.
وما العلاقة بين ذلك كله؟.
وأقول: إن الله أراد أن يبين أنه لا يُضر مع المعصية أيَّاً كان نوعها، ربا أم غيرها من الفواحش، فالذنوب، و المعاصي تعيق النصر، و تمنعه، و القرآن يوجهنا هذه التوجيهات في سياق المعركة الحربية، ليرشدنا إلى خاصية من خصائص العقيدة، و هي خاصية الوحدة، و الشمول، و أن هذا الجمع بين الأعداء، و الاستعداد للمعركة الحربية، و بين تطهير النفوس، و القلوب كل من مقومات النصر، وضروراته"[10].
فانظر كيف كانت المعصية سبباً لضعف همتهم؛ و دنوها، يقول ابن كثير - رحمه الله -: "أي: تولوا بسبب ذنوبهم السابقة، كما قال بعض السلف: إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، و إن من جزاء السيئة السيئة بعدها"[11].
إن كل معصية ذكرها الله -عز وجل- في كتابه، و النبي –صلى الله عليه وسلم- في سنته سببها ضعف الإيمان، و تُظهر نظرة القرآن الكريم لظاهرة ضعف الإيمان على أنها سبب في دنو همة العبد، و جعله من العصاة.
يقول السعدي -رحمه الله-: "الطائفة الأخرى الذين قد أهمتهم أنفسهم، فليس لهم هم في غيرها، لنفاقهم؛ أو ضعف إيمانهم، فلهذا لم يصبهم من النعاس ما أصاب غيرهم " يقولون هل لنا من الأمر من شيء " و هذا استفهام إنكاري، أي: ما لنا من الأمر أي: النصر؛ و الظهور شيء، فأساءوا الظن بربهم، و بدينه؛ و نبيه، وظنوا أن الله لا يتم أمر رسوله، و أن هذه الهزيمة هي الفيصلة، و القاضية على دين الله،.... فيخبر - تعالى -عن حال الذين انهزموا يوم " أحد " و ما الذي أوجب لهم الفرار، و أنه من تسويل الشيطان، و أنه تسلط عليهم ببعض ذنوبهم. فهم الذين أدخلوه على أنفسهم، و مكنوه بما فعلوا من المعاصي، لأنها مركبه؛ و مدخله، فلو اعتصموا بطاعة ربهم لما كان له عليهم من سلطان"[12].
فضعف الإيمان في قلب المؤمن يؤدي به لا محالة إلى دنو همته في الأمور كلها، فتموت نفسه، وينطفئ نور عقله، و يكون فريسة للشيطان، و محلاً للانحطاط، وعدم الكمال.
يقول - تعالى -: (إِنَّ المُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلا قَلِيلاً)[13].
فكل من ضعف إيمانه دنت همته، و الدليل في هذه الآية لقيامهم إلى الصلاة بكسل.
قال القرطبي -رحمه الله- في تفسير هذه الآية: "أي يصلون مراءاةً، و هم متكاسلون متثاقلون، لا يرجون ثواباً، و لا يعتقدون على تركها عقاباً"[14].
ويقول السعدي - رحمه الله -: "ومن صفاتهم أنهم إذا قاموا إلى الصلاة التي هي أكبر الطاعات العملية قاموا كسالى متثاقلين لها، متبرمين من فعلها، و الكسل لا يكون إلا من، فقد الرغبة من قلوبهم، فلولا أن قلوبهم فارغة من الرغبة إلى الله، و إلى ما عنده، أو عادمة للإيمان، لم يصدر منهم الكسل"[15].
فهذه الآية تدل على أن من ترك الطاعات بسبب ضعف الإيمان في قلبه كان نتيجة ذلك الكسل، والعجز، وما ذاك إلا بسبب دنو الهمة، وكل من دنت همته، يصبح أداء الطاعات، والعبادات صعباً عليه، و تثقل عليه فعلها.
يقول البقاعي - رحمه الله -: "متقاعيسين متثاقلين عادة، لا ينفكون عنها، بحيث يعرف ذلك منهم كل من تأملهم؛ لأنهم يرون أنه تعب من غير رأي، فالداعي إلى تركها هو الراحة"[16].
ومما يبن لنا أن ضعف الإيمان من الأسباب الركيزة، لدنو الهمة قوله - تعالى -: (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَليَبْكُوا كَثِيراً جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقعُدُوا مَعَ الخَالِفِينَ * وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ * وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ * وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آَمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ * رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ* لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[17].
فقد ذم الله -تعالى- ضعاف الإيمان في هذه الآيات، وهم المنافقين الذين تخلفوا عن صحبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة تبوك، وفرحوا بقعودهم، وكرهوا أن يجاهدوا معه بأموالهم، وأنفسهم في سبيل الله، وقال بعضهم لبعض إغراءاً لهم بالثبات على المنكر، وتثبيطاً لعزائم المؤمنين: لا تخرجوا إلى الجهاد في الحر، فأمر الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- بأن يقول لهم: إن نار جهنم التي سيصيرون إليها هي أشد حراً من قيظ الصحراء الذي فروا منه، ولو أنهم كانوا يدركون، ويعقلون لما تخلفوا وقعدوا، ولما فرحوا بقعودهم"[18].
فانظر كيف كان ذلك التقاعس عن الجهاد في سبيل الله، وما ذلك إلا لضعف الإيمان بالله -تعالى- الذي هو أصل علو همة العبد.
قال الشيخ محمد أبو زهرة في تفسير قوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)[19]: "نداء إلى الذين آمنوا يشير بهذا النداء إلى أن الجهاد في سبيل الله - تعالى -ثمرة الإيمان، والتقاعس عن القتال يكون من ضعف الإيمان، أو مرض القلوب"[20].
ويقول السعدي - رحمه الله -: "يقول -تعالى- مبينا تبجح المنافقين بتخلفهم، وعدم مبالاتهم بذلك، الدال على عدم الإيمان، و اختيار الكفر على الإيمان، (فَرِحَ المُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ) وهذا قدر زائد على مجرد التخلف، فإن هذا تخلف محرم، وزيادة رضا بفعل المعصية، وتبجح به، (وَ كَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) وهذا بخلاف المؤمنين الذين إذا تخلفوا ولو لعذر - حزنوا على تخلفهم، وتأسفوا غاية الأسف، ويحبون أن يجاهدوا بأموالهم، وأنفسهم في سبيل الله، لما في قلوبهم من الإيمان"[21].
هؤلاء الذين ضعف إيمانهم، فأدركتهم ثقلة الأرض، ثقلة الحرص على الراحة، والشح بالنفقة، فأصابهم ضعف الهمة، وهزال النخوة، وخواء القلب من الإيمان.
إن هؤلاء لهم نموذج لضعف الهمة، وطراوة الإرادة، وكثيرون هم الذين يُشفقون من المتاعب، وينفرون من الجهد، ويؤثرون الراحة الرخيصة على الكدح الكريم، ويفضلون السلامة الذليلة على الخطر العزيز.
وهم يتساقطون إعياء خلف الصفوة الجادة الزاحفة العارفة بتكاليف الدعوات، و لكن هذه الصفوف تظل في طريقها المملوء بالعقبات، والأشواك؛ لأنها تدرك بفطرتها أن كفاح العقبات، و الأشواك فطرة في الإنسان، و أنه ألذ، وأجمل من القعود، والتخلف، والراحة البليدة التي لا تليق بأصحاب الهمم العالية"[22].
فلو قوي إيمان العبد لتبع خطى النبي -صلى الله عليه وسلم- خطوة خطوة، ولجعلته همته أكثر الناس انقياداً وراء رسول الأمة -صلى الله عليه وسلم-، ونجد من خلال الآيات السابقة أن طاعة الله، ورسوله لا تكون إلا من أصحاب الهمم العالية، والإيمان العميق، فهؤلاء الذين تخلفوا، وعصوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما فعلوا ذلك إلا بعد أن فتر الإيمان في قلوبهم، فتلاشت همتهم، فأصبح همهم كيف يريحون الأجساد، والأبدان الفانية دون النظر إلى الراحة الحقيقة، وهي الراحة التي تكون عند لقاء الله - عز وجل - يوم القيامة.
يقول سيد طنطاوي: "وإنما فرحوا بهذا القعود، وكرهوا الجهاد؛ لأنهم قوم خلت قلوبهم من الإيمان بالله، واليوم الآخر، وهبطت نفوسهم عن الارتفاع إلى معالي الأمور، وآثروا الدنيا، وشهواتها الزائلة على الآخرة، و نعيمها الباقي، وكان ذلك بسبب ضعف إيمانهم، وسوء نيتهم"[23].
ويقول ابن القيم -رحمه الله-: "فلما تركوا الإيمان بالله، و بلقائه، وارتابوا بما لا ريب فيه، و لم يريدوا الخروج في طاعة الله، و لم يستعدوا له، و لا أخذوا أهبة ذلك، كره الله انبعاث من هذا شأنه"[24].
إن حقيقة الإيمان الذي نقصده، و الذي يُعلي الهمم لابد أن يكون بنفس الصفات التي حددها الله رب العالمين، ورسم معالمها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فالإيمان في حقيقته عمل نفسي يبلغ أغوار النفس، ويحيط بجوانبها كلها من إدراك، وإرادة؛ ووجدان، فالإيمان المطلوب الذي يُعلي الهمة ليس مجرد شعار يُرفع، أو دعوة تُدعى، إنه أسلوب حياة متكامل للفرد، و الأمة، إنه ضياء ثاقب ينفذ إلى الفكر، و الإرادة والهمة في دنيا الفرد، و يحوله من إنسان لا يحمل مبادئ إلى إنسان ذو رسالة، وهدف، يفكر في معالي الأمور، فإذا ضعف هذا الإيمان في نفس المسلم جعله مخلوقاً لا يعبئ بشيء، دنيء الهمة لا يلتفت لمعالي الأمور؛ و أشرافها، و ما ذاك إلا لضعف الإيمان في قلبه، فالإنسان بدون الإيمان كالشمس المحجوبة؛ لأنه سيعيش بدونه حياة التعاسة، و الشقاء؛ فيصبح تافه رخيص؛ لأن أهدافه لا تتجاوز شهوة بطنه؛ و فرجه، فهو كما قال - تعالى -: (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ)[25].
يقول البغوي في تفسير هذه الآية: "ليس لهم همة إلا بطونهم، و فروجهم، وهم لاهون ساهون عما في غد، قيل: المؤمن في الدنيا يتزود، و المنافق يتزين، والكافر يتمتع"[26].
إن ضعف الإيمان من أهم الأسباب لدنو الهمة، ففاقد الإيمان فاقد للهمة العالية، و حال ضعيف الإيمان كالفراش الذي يُلقي نفسه في النار، و من عصى الله - تعالى -كان ضعيف الإيمان، فحاله كحال الفراش، فهو يُلقي نفسه في نار جهنم، بعصيانه أوامر الله - تعالى -.
فلا إيمان بلا أداء للطاعات، قال - تعالى -: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لله وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)[27].
ومعنى ذلك أن الله أمرنا بطاعته، و طاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، و المراد أن الإيمان الذي دعاكم الرسول - صلى الله عليه وسلم - إليه، و رغبتم فيه لا يتم حصوله إلا بالتزام الطاعة، فاحذوا الخروج عنها.
يقول السعدي - رحمه الله - في تفسير هذه الآية: "فإن الإيمان يدعو إلى طاعة الله، ورسوله كما أن من لم يطع الله، و رسوله، فليس بمؤمن"[28].
وقد حذر الله -تعالى- المؤمنين من كل شيء سيعمل على تثبيط هممهم، ويجعلهم يبتعدون عن فعل الطاعات التي تقربهم منه جل و علا، حتى، و إن كانوا الأبناء، والأزواج.
يقول - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[29] أي يحملهم إياكم على ترك الطاعة، فاحذروهم إن أبعدوكم عن الله، و أداء الطاعات.
يقول الجزائري في تفسير هذه الآية: "أي من بعض أزواجكم، و بعض أولادكم عدواً أي يشغلونكم عن طاعة الله، أو ينازعونكم في أمر الدين، أو الدنيا، فاحذروهم: أي أن تطيعوهم في التخلف عن فعل الخير"[30].
فانظر كيف أن الابتعاد عن الطاعات دليل على ضعف الإيمان، و ضعف الإيمان يقود المرء إلى دنو الهمة، و البعد عن معالي الأمور.
نجد أن ارتكاب المعاصي، و ترك الطاعات إنما يولد في القلب وحشة، و يجعل في النفس ظلمة، فنور القلب هو الإيمان؛ و الطاعة، فإذا غفل القلب عنها أصبح مظلماً تائهاً عن الطريق؛ و الصواب، و نجد همته اتجهت إلى إشباع رغبات النفس، وسارت وراء خطوات الشيطان، فإذا أصر على ارتكاب المعاصي صار من حزب الشيطان، فصار مسلوب الهمة، مسلوب الإرادة يفعل ما يأمره به هواه، و نفسه الأمارة بالسوء، فكان من أبرز صفات هذا المرء دنو الهمة الذي قاده، و أوصله إلى الانحطاط في الدنيا، و الآخرة.
إن قضية الإيمان هي القضية الأولى، و الأساسية لهذه الأمة، فإذا تأخرت مسيرة الإصلاح، أو سارت في غير طريقها، و ضعفت همم المسلمين، فمرد ذلك إلى انحرافهم عن فهم الإيمان الحقيقي الذي يدفعهم للرقي؛ و الكمال، و لا سبيل إلى إصلاح حال المسلمين إلا بالإيمان الذي يعلو بالهمم، فللأسف؛ فإن كثيراً من البلاد الإسلامية لا تضع الإيمان ضمن وسائل الرقي ببلادها، و النهوض بأبنائها، بل تجعل أكبر همها، و مبلغ علمها في الرقي الصناعي؛ و الحربي، و الفني... و غير ذلك، ولا تلتفت إلى الإيمان كأعظم وسيلة للرقي، و التقدم؛ و علو الهمة.
يقول -تعالى- مبيناً أن ضعف الإيمان يقود الإنسان لدنو الهمة، و طلب سفاسف الأمور: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)[31].
قال أسعد حومد: "لما رجع النبي -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون بعد معركة أحد. قال أناس من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من أين أصابنا هذا؛ وقد؛ وعدنا الله -تعالى- النصر؟. فأنزل الله -تعالى- هذه الآية، وفيها يقول للمؤمنين: إنه صدقكم ما وعدكم به من نصر، فكنتم تقتلونهم قتلاً ذريعاً بإذن الله، و سلطكم عليهم، حتى إذا أصابكم الضعف؛ و الفشل، و عصيتم أمر الرسول، و تنازعتم في الأمر، "وهو ما وقع للرماة الذين أمرهم الرسول أن يلزموا مواقعهم، فتخلوا عنها"، وكان الله قد أراكم الظفر، وهو ما تحبونه، فكان منكم من يريد الدنيا، و يطمع في المغنم، حين رأوا هزيمة المشركين، فتركوا مواقعهم على الجبل، و منكم من كان يريد الآخرة في قتاله المشركين لا يلتفت إلى المغنم، فثبت مكانه، و قاتل الله المشركين عليكم، و جعل لهم الغلبة عليكم ليختبركم، و يمتحن ثباتكم على الإيمان، و قد غفر الله لكم ذلك الفعل، و هو عصيان أمر الرسول، والهرب من المعركة، و محا أثره من نفوسكم، حينما أظهرتم الندم، و رجعتم إلى الله، حتى صرتم، و كأنكم لم تفشلوا"[32].
قال سيد طنطاوي: "لتمييز قوي الإيمان من ضعيفه، و ليبين لكم العابد المخلص من غيره"[33].
إن تلك الهزيمة النكراء في أحد للمسلمين كانت تجسد لنا ضعف الإيمان، وكيف أنه إذا شابه شائبة من إرادة الدنيا حلت الهزيمة؛ و الخسارة، فبسبب ضعف الإيمان في أولئك الرماة كانت الهزيمة.
و نلحظ في تفسير القرآن، وصف من ثبتوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بـ (المؤمنين) رغم أن الذين انهزموا مؤمنين، و ما ذاك إلا إشارة إلى شرط النصر الذي قدره الله في كتابه، و هو الإيمان الخالص.
وأما الذين انهزموا، و قادهم ضعف إيمانهم للالتفات إلى سفاسف الأمور، وهي الدنيا؛ و الغنائم، فلما كان الإيمان المشوب بالضعف حصل التخلف؛ و الهزيمة، و النصر لا يكون إلا للمؤمنين الخلص، كما قال - تعالى -: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)[34].
إن المقصود بالمؤمنين ليس مجرد التسمية لهم بالإيمان، أو ذكر جنسهم، و أنهم من أهل الإيمان، و إنما المقصود هنا المؤمنين الخُلص الذين حققوا الإيمان تحقيقاً، وجردوه لله تجريداً، فهم الذين ارتفعت همتهم بالإيمان، فجعل الله لهم حقاً عليه أن ينصرهم، أما مجرد حصول الإيمان، و التسمي به، فلا يتناوله هذا الوعد.
إن ضعف الإيمان بالله يجعل الحياة خالية من المعاني السامية، و القيم الإنسانية النبيلة، فيجعل الإنسان ضعيفاً عاجزاً عن العمل لا يتطلع إلى الرقي؛ و الكمال، ويفقد الإنسان الشعور برسالته الكبيرة في الحياة كخليفة الله في الأرض، فتضيع منه الرؤية الواضحة لأهدافه الكبيرة في الحياة، و هي عبادة الله - تعالى -؛ والتقرب إليه، ومجاهدة النفس في سبيل بلوغ الكمال الإنساني الذي تتحقق له به السعادة في الدنيا، والآخرة[35].
ولذلك كان من أهداف الإسلام التربوية تقوية هذا الإيمان الذي يقود إلى الجد؛ والعمل؛ والبذل، والتغلب على أهوائه التي لا خير فيها، وكبح جماع شهواته التي تقوده إلى ضعف هذا الإيمان، فيرفض بإصرار، و حزم كل وساوس الشياطين، وتسويلاتهم، و ينتصر بعزيمة، و همة على كل إغراءاتهم، و حتى تكون إرادته هي صاحبة السلطة الفعالة في كيانه.
أثر ضعف الإيمان على الأمة:
إن المسلمين اليوم، فقدوا الرغبة في العمل؛ و العطاء، و تسرب إليهم الوهن، و الضعف، و دنو الهمة لضعف إيمانهم، فالقوة الإيمانية التي دفعت إسلامهم نحو الرقي؛ و البناء، لم تعد تملك الوقود اللازم الذي يتمثل في صفاء الروح، و وضوح الهدف؛ و الفكرة، و بذلك أصبح المسلمين عاجزين عن أداء رسالتهم الحقيقية؛ لأن مَن يفقد تلك القوة الدافعة للعمل سيبقى ثابتاً في مكانه يدور حول نفسه.
و قد بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - حال الأمة حين تفقد تلك القوة الإيمانية، قال - صلى الله عليه وسلم -: (يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا)، فَقَالَ قَائِلٌ: وَ مِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟. قَالَ: ((بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزَعَنَّ اللهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمْ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَ لَيَقْذِفَنَّ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ))، فَقَالَ: قَائِلٌ يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا الوَهْنُ؟. قَالَ: ((حُبُّ الدُّنْيَا، وَكَرَاهِيَةُ المَوْتِ))[36].
إن هذا الحديث يُقدم لنا تفسيراً واضحاً، للأزمة التي تمر بها الأمة الإسلامية في هذا العصر، مع ما لديها من كثرة في العدد، و وفرة في الوسائل.
إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصف الأمة بالغثائية، وهي تعني: فقدان الإيمان، والمنهج؛ لأن السيل المتدافع ليس له هدف يسير إليه، و هو في سيره يحمل ركاماً من الأشياء التي ليس لها أية أهمية في نظر الإنسان، و ما تلك الغثائية إلا بسبب حب الدنيا، و كراهة الموت، و بعدنا عن الإيمان.
إن ضعف الإيمان أصل الأسباب التي جعلت هذا الضعف، و دنو الهمة عند الأمة، فدب العجز، و الكسل في أفرادها، و مما يبين لنا أن الإيمان يقوي العزم عند المؤمن، و يزيل أثر الغثائية، و الوهن؛ و الشعور بالضعف قوله - تعالى -: (الذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ)[37].
عندما بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - خبر عزم أبي سفيان على الرجوع بجيشه إلى المدينة، أو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قدر في نفسه الشريفة هذا الرجوع، نهض بكل جد؛ و حماس؛ و همة، و أمر مناديه باستدعاء أولئك الذين شاركوا في قتال العدو في معركة أحد، دعا منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هؤلاء للخروج لتتبع العدو، و لإظهار قوة المسلمين، و إعلام المشركين بأن ما أصاب المسلمين يوم أحد لم يضعفهم، و لم يوهن عزيمتهم، و أن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من القوة ما يمكنه من ملاحقتهم، إن الأعداء، أعداء الإسلام، و أعداء الدعوة إليه، و أعداء دعاته لا يفهمون غير لغة القوة؛ لأن الضلال بلغ بهم مبلغاً حملهم على عداوة المسلمين لعقيدتهم لا شيء آخر، (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ العَزِيزِ الحَمِيدِ). فلا ينفع معهم إلا القوة، و إظهار القوة، و إرهابهم بالقوة، و هذا ما فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعلى هذا، فيجب على الأمة الإسلامية أن تبذل كل ما تستطيع لإعداد القوة بأنواعها:قوة الإيمان في نفوس المسلمين عموماً، و قوة العلم، و قوة العدد من الدعاة، و الأنصار، و قوة النظام؛ و التنظيم، و قوة العزيمة؛ و الهمة، و قوة الصبر على المكارة، لنصل لأعلى الدرجات في الدنيا؛ والآخرة، و نحقق الرسالة التي نحملها.
[1] المستدرك على الصحيحين للحكام ، كتاب الإيمان حديث رقم (5) 1/45).
[2] تفسير المنار لمحمد رشيد رضا (1/1326).
[3] سورة طة ، الآية 124).
[4] أي: وعاء متوسط الحجم.
[5] انظر: تفسير أبي السعود 6/48، تفسير معالم التنزيل للبغوي ص 829، تفسير القرآن العظيم لابن كثير 3/169 .
[6] صيد الخاطر لابن الجوزي ص 428 .
[7] سورة الحديد ، الآية 16 .
[8] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للسعدي ص: 990-991).
[9] سورة آل عمران ، الآية 155.
[10] انظر: في ظلال القرآن لسيد قطب 1/497، بتصرف يسير .
[11] تفسير القرآن العظيم لابن كثير 1/555، تفسير القاسمي 4/269، تفسير القرطبي 2/217 .
[12] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للسعدي ص: 162-163
[13] سورة النساء ، الآية 142 .
[14] الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 3/289).
[15] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للسعدي ص: 229).
[16] نظم الدرر 2/339).
[17] سورة التوبة ، الآية 81-88.
[18] انظر: أيسر التفاسير لأسعد عوامة ، ج 1/317، زاد المسير ، ج 3/478).
[19] سورة التوبة ، الآية 123).
[20] زهرة التفاسير لمحمد أبو زهرة ، ج 1/3486).
[21] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للسعدي ، ص (395-396).
[22] انظر: أيسر التفاسير لأسعد حوامدة ، ج1/317، زاد المسير ، ج 3/478).
[23] التفسير الوسيط لسيد طنطاوي ، ج1/2012).
[24] التفسير القيم لابن القيم ، ص 294).
[25] سورة محمد ، الآية 12).
[26] معالم التنزيل للبغوي ص 1196).
[27] سورة الأنفال ، الآية 1).
[28] تفسير الكريم الرحمن في تفسير كلام الرحمن للسعدي ص 357، معالم التنزيل للبغوي ص 511، المحرر الوجيز لابن عطية ص 778).
[29] سورة التغابن ، الآية 14).
[30] أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير، لأبي بكر الجزائري 2/1375).
[31] سورة آل عمران ، الآية 152 .
[32] انظر: أيسر التفاسير لأسعد حومد ، ج1/445).
[33] التفسير الوسيط لسيد طنطاوي ، ج1/768).
[34] سورة الروم ، الآية 47).
[35] انظر: القرآن وعلم النفس لمحمد عثمان نجاتي ، ص 277 ).
[36] أخرجه أبو داود في كتاب الملاحم ، باب في تداعي الأمم على الإسلام حديث (4297) ص 1536، وأبو نعيم في حلية الأولياء ، ج1/182 ، و صححه الألباني في صحيح الجامع برقم (8183) ، ج2/201 ).
[37] سورة آل عمران ، الآية 173)
مسلم بن محمد اليوسف
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله -تعالى- من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا ِِإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[سورة آل عمران: 102)].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[سورة النساء: 1)].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[سورة الأحزاب: 70، 71)].
أما بعد:
فإن خير الكلام كلام الله تعال ى، وخير الهدى هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وإن شر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فهذا مبحث مبسط بينت فيه ضعف الإيمان وأثره الخطير في دنو همة المسلم في ضوء القرآن الكريم أتمنى على طلاب العلم وطلاب الهمة الاستفادة منه. والله الموفق..
الإيمان بالنسبة للفرد، والمجتمع صمام الأمان الذي يقي من المهالك، والمخاطر، وإذا خلت الحياة من الإيمان؛ فقد خلت من كل معاني الخير، والفضيلة، والإنسانية، وحلت بها كل دواعي الشر، والفساد؛ والشقاء، فالفرد بغير إيمان إنسانُ ليس له قيمة؛ ولا جذور، إنسان قلق، منهزم، حائر، دنيء الهمة؛ لا يعرف حقيقة نفسه، ولا سر وجوده.
والمجتمع بغير إيمان مجتمع غابة، وإن لمعت فيه بوارق الحضارة، مجتمع منكس الموازين، الحياة؛ والبقاء فيه للأشد؛ والأقوى، لا للأفضل؛ أو الأنقى، مجتمع لا يلتفت إلى المعالي؛ ولا يطلبها؛ لأن غايات أهله لا تتجاوز شهوات البطون؛ والفروج، فكان دنو الهمة لهم رمزاً وصفة، وكما هو معلوم، فإن الإيمان له أثره الواضح الذي لا يُنكر في إعلاء الهمم، وإصلاح الأفراد، والمجتمعات، وليس غير الإيمان يملك أن يغير النفس البشرية تغييراً تاماً، ويُنشئ الإنسانَ، ويجعله خلقاً آخر يمتاز بكل الصفات الحميدة التي تقوده إلى هدفه؛ ومبتغاه.
فالإيمان جذوة تتقدُ في قلب صاحبها، فتقوده إلى كل خير، وتنأى به عن كل شر، فإذا ما ضعُف الإيمان، أو فُقد. فإن صاحبه لن يبال بالكرامات، ولن يسعى للمعالي.
ومن المعلوم يقيناً أن الإيمان حين يتغلل في النفوس، وتخالط بشاشته القلوب يكون أول سلاح يتسلح به الإنسان في مواجهة الحياة، فالإيمان هو المنبع الوحيد للطاقة الإنسانية، فهو الدافع العظيم للمسلم للعمل، و البذل؛ و الرقي إلى معالي الأمور.
إنّ ضعف الإيمان من أهم صفات أصحاب الهمم الدنيئة؛ لأن صاحب الهمة الدنيئة لا يحرص على تقوية إيمانه؛ وزكاة قلبه، ولا يهتم بنفسه، فيقوم عليها بعبودية المجاهدة، والمحاسبة، للتطلع إلى عاليات الأمور في الدنيا، والآخرة.
يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (إنّ الإِيمانَ لَيَخْلَقُ في جَوْفِ أحدِكُمْ كما يَخْلَقُ الثَّوْبُ فاسْأَلُوا اللهَ - تعالى -أن يُجَدِّدَ الإِيمانَ في قُلُوبِكُمْ)[1].
فها هو الرسول –صلى الله عليه وسلم- يُبين لنا أن الإيمان في القلب إنما يزيد؛ وينقص، ويقوى لحظة، ويتغير لحظة أخرى، وصاحب الهمة العالية يسعى دائماً إلى أن يبقى الإيمان قوياً؛ وحياً ينبض في قلبه. أما من دنت همته، فنراه يطفئ شعلة الإيمان في قلبه، حتى يصبح قلبه خاوياً فارغاً خرباً كالبيت الخرب؛ لأنه قد خلا من ذلك الإيمان الذي يصفه صاحب تفسير المنار بقوله: "إن الإيمان نورٌ، نور في القلب، ونور في الجوارح، نور يكشف حقائق الأشياء، والقيم؛ والأحداث؛ وما بينهما من ارتباطات؛ ونسب؛ وأبعاد، فالمؤمن ينظر بهذا النور، نور الله، فيرى الحقائق، ويتعامل معها، ولا يتخبط في طريقه، ولا يتعثر في خطواته"[2].
إن ضعف الإيمان من أهم أسباب دنو الهمة، وأعظمها، ففاقد الإيمان فاقد للهمة العالية، وحينما يُعرض الإنسان عن الإيمان، أو يضعُف إيمانه، فإنه لا شك تضعف همته، وتسوء سريرته، ويَنكبُ على المعاصي، ويُعرض عن الله - تعالى -.
وإن علو همتنا لا تظهر إلا حينما يقوى إيماننا بالله، ويبلغ في نفوسنا مداه، ويشرف على قلوبنا بناه، وتحط في أعماقنا مجراه، وحيث ضعف الإيمان دنت همة المرء، وانحطت عزيمته، فارتباط الإيمان بالهمة ارتباط وثيق؛ و لذلك قال - تعالى -: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى)[3].
فالإعراض عن الله هو ضعف الإيمان، فالإيمان مع معصية الخالق، كالشمس المكسوفة؛ أو كالسراج إذا غطيته بصفحة[4]، فهو موجود، ولكن هذا الوعاء يمنع نوره من الظهور، لذلك يكون هذا الإنسان البعيد عن ذكر الله - تعالى- دنيء الهمة، لا يبحث إلا عن سفاسف الأمور.
قال أبي السعود في تفسير هذه الآية: "إن من أعرض عن ذكر الله -عز وجل- في الدنيا، فإن الله -تعالى- ضيق عليه حياته؛ وذلك؛ لأن مجامع همته، و مطامح نظره مقصورة على أعراض الدنيا، وهو متهالك على ازديادها، وخائف من انتقاصها، بخلاف المؤمن الطالب للآخرة مع أنه قد يضيق الله بشؤم الكفر، ويوسع ببركة الإيمان"[5].
يقول ابن الجوزي -رحمه الله-: "يجب أن تكون همة المؤمن متعلقة بالآخرة، فكل ما في الدنيا يُحركه إلى ذكر الآخرة، و كل من شغله شيء، فهمته شغله، والمؤمن إذا رأى ظلمة ذكر ظلمة القبر، وإن رأى الناس ذكر الناس في القبور"[6].
فمن جعل الآخرة همه، كما قال ابن الجوزي: فقد فاز الفوز العظيم، ولا يكون إلا أصحاب الإيمان القوي الذي قادهم إيمانهم هذا إلى علو الهمة، وطلب الآخرة بدلاً من الدنيا.
ترك الطاعات، وفعل المعاصي:
لما طغى على الإنسان حب الدنيا، وفعل المعاصي أصبح قلبه متعلقاً بها، وغلب عليه نسيان الآخرة، بدأ ينسى ذلك الرابط الذي يربطه بخالقه جل وعلا، فبدأ يبعد رويداً عن تلك الطاعات، والأجواء الإيمانية التي كانت بينه، وبين ربه -عز وجل-.
وللأسف يجد الإنسان نفسه أمام تنازل تلو تنازل، فاليوم يترك طاعة، وغداً يترك طاعة أخرى، حتى يصل إلى مرحلة من قسوة القلب، وضعف الإيمان.
قال - تعالى -: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ)[7] وقد دلت الآية على أن طول البعد عن الطاعات هو مدعاة لضعف الإيمان في القلب.
يقول السعدي -رحمه الله- في تفسيره هذه الآية: "أي: ولا يكونوا كالذين أنزل الله عليهم الكتاب الموجب لخشوع القلب، و الانقياد التام، ثم لم يدوموا، و لا ثبتوا، بل طال عليهم الزمان، و استمرت بهم الغفلة، فاضمحل إيمانهم، وزال إيقانهم، فالقلوب تحتاج في كل وقت إلى أن تذكر بما أنزله الله، وتناطق بالحكمة، ولا ينبغي الغفلة عن ذلك، فإن ذلك سبب لقسوة القلب وجود العين"[8].
إن الذنوب، والمعاصي رأس الفتنة، ومحرك الشر، وقائدة لدنو الهمة، ومما يُبين ذلك قوله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ)[9].
فهؤلاء الذين هزموا، وفروا قد ضعفوا، وتولوا بسبب معصية ارتكبوها، فظلت نفوسهم مزعزعة بسببها، فدخل عليهم الشيطان من ذلك المنفذ، واستذلهم فذلوا وسقطوا، وفي هذا تصوير لحالة النفس البشرية حين ترتكب الخطيئة، فتفقد ثقتها في قوتها، ويضعف ارتباطها بالله، ويختل توازنها، وتماسكها، وتصبح عرضة للوساوس، والهواجس، وقد يسأل سائل لم جاء الحديث عن الربا، والفواحش، أو ظلم النفس وسط الحديث عن غزوة أحد؟.
وما العلاقة بين ذلك كله؟.
وأقول: إن الله أراد أن يبين أنه لا يُضر مع المعصية أيَّاً كان نوعها، ربا أم غيرها من الفواحش، فالذنوب، و المعاصي تعيق النصر، و تمنعه، و القرآن يوجهنا هذه التوجيهات في سياق المعركة الحربية، ليرشدنا إلى خاصية من خصائص العقيدة، و هي خاصية الوحدة، و الشمول، و أن هذا الجمع بين الأعداء، و الاستعداد للمعركة الحربية، و بين تطهير النفوس، و القلوب كل من مقومات النصر، وضروراته"[10].
فانظر كيف كانت المعصية سبباً لضعف همتهم؛ و دنوها، يقول ابن كثير - رحمه الله -: "أي: تولوا بسبب ذنوبهم السابقة، كما قال بعض السلف: إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، و إن من جزاء السيئة السيئة بعدها"[11].
إن كل معصية ذكرها الله -عز وجل- في كتابه، و النبي –صلى الله عليه وسلم- في سنته سببها ضعف الإيمان، و تُظهر نظرة القرآن الكريم لظاهرة ضعف الإيمان على أنها سبب في دنو همة العبد، و جعله من العصاة.
يقول السعدي -رحمه الله-: "الطائفة الأخرى الذين قد أهمتهم أنفسهم، فليس لهم هم في غيرها، لنفاقهم؛ أو ضعف إيمانهم، فلهذا لم يصبهم من النعاس ما أصاب غيرهم " يقولون هل لنا من الأمر من شيء " و هذا استفهام إنكاري، أي: ما لنا من الأمر أي: النصر؛ و الظهور شيء، فأساءوا الظن بربهم، و بدينه؛ و نبيه، وظنوا أن الله لا يتم أمر رسوله، و أن هذه الهزيمة هي الفيصلة، و القاضية على دين الله،.... فيخبر - تعالى -عن حال الذين انهزموا يوم " أحد " و ما الذي أوجب لهم الفرار، و أنه من تسويل الشيطان، و أنه تسلط عليهم ببعض ذنوبهم. فهم الذين أدخلوه على أنفسهم، و مكنوه بما فعلوا من المعاصي، لأنها مركبه؛ و مدخله، فلو اعتصموا بطاعة ربهم لما كان له عليهم من سلطان"[12].
فضعف الإيمان في قلب المؤمن يؤدي به لا محالة إلى دنو همته في الأمور كلها، فتموت نفسه، وينطفئ نور عقله، و يكون فريسة للشيطان، و محلاً للانحطاط، وعدم الكمال.
يقول - تعالى -: (إِنَّ المُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلا قَلِيلاً)[13].
فكل من ضعف إيمانه دنت همته، و الدليل في هذه الآية لقيامهم إلى الصلاة بكسل.
قال القرطبي -رحمه الله- في تفسير هذه الآية: "أي يصلون مراءاةً، و هم متكاسلون متثاقلون، لا يرجون ثواباً، و لا يعتقدون على تركها عقاباً"[14].
ويقول السعدي - رحمه الله -: "ومن صفاتهم أنهم إذا قاموا إلى الصلاة التي هي أكبر الطاعات العملية قاموا كسالى متثاقلين لها، متبرمين من فعلها، و الكسل لا يكون إلا من، فقد الرغبة من قلوبهم، فلولا أن قلوبهم فارغة من الرغبة إلى الله، و إلى ما عنده، أو عادمة للإيمان، لم يصدر منهم الكسل"[15].
فهذه الآية تدل على أن من ترك الطاعات بسبب ضعف الإيمان في قلبه كان نتيجة ذلك الكسل، والعجز، وما ذاك إلا بسبب دنو الهمة، وكل من دنت همته، يصبح أداء الطاعات، والعبادات صعباً عليه، و تثقل عليه فعلها.
يقول البقاعي - رحمه الله -: "متقاعيسين متثاقلين عادة، لا ينفكون عنها، بحيث يعرف ذلك منهم كل من تأملهم؛ لأنهم يرون أنه تعب من غير رأي، فالداعي إلى تركها هو الراحة"[16].
ومما يبن لنا أن ضعف الإيمان من الأسباب الركيزة، لدنو الهمة قوله - تعالى -: (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَليَبْكُوا كَثِيراً جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقعُدُوا مَعَ الخَالِفِينَ * وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ * وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ * وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آَمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ * رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ* لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[17].
فقد ذم الله -تعالى- ضعاف الإيمان في هذه الآيات، وهم المنافقين الذين تخلفوا عن صحبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة تبوك، وفرحوا بقعودهم، وكرهوا أن يجاهدوا معه بأموالهم، وأنفسهم في سبيل الله، وقال بعضهم لبعض إغراءاً لهم بالثبات على المنكر، وتثبيطاً لعزائم المؤمنين: لا تخرجوا إلى الجهاد في الحر، فأمر الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- بأن يقول لهم: إن نار جهنم التي سيصيرون إليها هي أشد حراً من قيظ الصحراء الذي فروا منه، ولو أنهم كانوا يدركون، ويعقلون لما تخلفوا وقعدوا، ولما فرحوا بقعودهم"[18].
فانظر كيف كان ذلك التقاعس عن الجهاد في سبيل الله، وما ذلك إلا لضعف الإيمان بالله -تعالى- الذي هو أصل علو همة العبد.
قال الشيخ محمد أبو زهرة في تفسير قوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)[19]: "نداء إلى الذين آمنوا يشير بهذا النداء إلى أن الجهاد في سبيل الله - تعالى -ثمرة الإيمان، والتقاعس عن القتال يكون من ضعف الإيمان، أو مرض القلوب"[20].
ويقول السعدي - رحمه الله -: "يقول -تعالى- مبينا تبجح المنافقين بتخلفهم، وعدم مبالاتهم بذلك، الدال على عدم الإيمان، و اختيار الكفر على الإيمان، (فَرِحَ المُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ) وهذا قدر زائد على مجرد التخلف، فإن هذا تخلف محرم، وزيادة رضا بفعل المعصية، وتبجح به، (وَ كَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) وهذا بخلاف المؤمنين الذين إذا تخلفوا ولو لعذر - حزنوا على تخلفهم، وتأسفوا غاية الأسف، ويحبون أن يجاهدوا بأموالهم، وأنفسهم في سبيل الله، لما في قلوبهم من الإيمان"[21].
هؤلاء الذين ضعف إيمانهم، فأدركتهم ثقلة الأرض، ثقلة الحرص على الراحة، والشح بالنفقة، فأصابهم ضعف الهمة، وهزال النخوة، وخواء القلب من الإيمان.
إن هؤلاء لهم نموذج لضعف الهمة، وطراوة الإرادة، وكثيرون هم الذين يُشفقون من المتاعب، وينفرون من الجهد، ويؤثرون الراحة الرخيصة على الكدح الكريم، ويفضلون السلامة الذليلة على الخطر العزيز.
وهم يتساقطون إعياء خلف الصفوة الجادة الزاحفة العارفة بتكاليف الدعوات، و لكن هذه الصفوف تظل في طريقها المملوء بالعقبات، والأشواك؛ لأنها تدرك بفطرتها أن كفاح العقبات، و الأشواك فطرة في الإنسان، و أنه ألذ، وأجمل من القعود، والتخلف، والراحة البليدة التي لا تليق بأصحاب الهمم العالية"[22].
فلو قوي إيمان العبد لتبع خطى النبي -صلى الله عليه وسلم- خطوة خطوة، ولجعلته همته أكثر الناس انقياداً وراء رسول الأمة -صلى الله عليه وسلم-، ونجد من خلال الآيات السابقة أن طاعة الله، ورسوله لا تكون إلا من أصحاب الهمم العالية، والإيمان العميق، فهؤلاء الذين تخلفوا، وعصوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما فعلوا ذلك إلا بعد أن فتر الإيمان في قلوبهم، فتلاشت همتهم، فأصبح همهم كيف يريحون الأجساد، والأبدان الفانية دون النظر إلى الراحة الحقيقة، وهي الراحة التي تكون عند لقاء الله - عز وجل - يوم القيامة.
يقول سيد طنطاوي: "وإنما فرحوا بهذا القعود، وكرهوا الجهاد؛ لأنهم قوم خلت قلوبهم من الإيمان بالله، واليوم الآخر، وهبطت نفوسهم عن الارتفاع إلى معالي الأمور، وآثروا الدنيا، وشهواتها الزائلة على الآخرة، و نعيمها الباقي، وكان ذلك بسبب ضعف إيمانهم، وسوء نيتهم"[23].
ويقول ابن القيم -رحمه الله-: "فلما تركوا الإيمان بالله، و بلقائه، وارتابوا بما لا ريب فيه، و لم يريدوا الخروج في طاعة الله، و لم يستعدوا له، و لا أخذوا أهبة ذلك، كره الله انبعاث من هذا شأنه"[24].
إن حقيقة الإيمان الذي نقصده، و الذي يُعلي الهمم لابد أن يكون بنفس الصفات التي حددها الله رب العالمين، ورسم معالمها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فالإيمان في حقيقته عمل نفسي يبلغ أغوار النفس، ويحيط بجوانبها كلها من إدراك، وإرادة؛ ووجدان، فالإيمان المطلوب الذي يُعلي الهمة ليس مجرد شعار يُرفع، أو دعوة تُدعى، إنه أسلوب حياة متكامل للفرد، و الأمة، إنه ضياء ثاقب ينفذ إلى الفكر، و الإرادة والهمة في دنيا الفرد، و يحوله من إنسان لا يحمل مبادئ إلى إنسان ذو رسالة، وهدف، يفكر في معالي الأمور، فإذا ضعف هذا الإيمان في نفس المسلم جعله مخلوقاً لا يعبئ بشيء، دنيء الهمة لا يلتفت لمعالي الأمور؛ و أشرافها، و ما ذاك إلا لضعف الإيمان في قلبه، فالإنسان بدون الإيمان كالشمس المحجوبة؛ لأنه سيعيش بدونه حياة التعاسة، و الشقاء؛ فيصبح تافه رخيص؛ لأن أهدافه لا تتجاوز شهوة بطنه؛ و فرجه، فهو كما قال - تعالى -: (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ)[25].
يقول البغوي في تفسير هذه الآية: "ليس لهم همة إلا بطونهم، و فروجهم، وهم لاهون ساهون عما في غد، قيل: المؤمن في الدنيا يتزود، و المنافق يتزين، والكافر يتمتع"[26].
إن ضعف الإيمان من أهم الأسباب لدنو الهمة، ففاقد الإيمان فاقد للهمة العالية، و حال ضعيف الإيمان كالفراش الذي يُلقي نفسه في النار، و من عصى الله - تعالى -كان ضعيف الإيمان، فحاله كحال الفراش، فهو يُلقي نفسه في نار جهنم، بعصيانه أوامر الله - تعالى -.
فلا إيمان بلا أداء للطاعات، قال - تعالى -: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لله وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)[27].
ومعنى ذلك أن الله أمرنا بطاعته، و طاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، و المراد أن الإيمان الذي دعاكم الرسول - صلى الله عليه وسلم - إليه، و رغبتم فيه لا يتم حصوله إلا بالتزام الطاعة، فاحذوا الخروج عنها.
يقول السعدي - رحمه الله - في تفسير هذه الآية: "فإن الإيمان يدعو إلى طاعة الله، ورسوله كما أن من لم يطع الله، و رسوله، فليس بمؤمن"[28].
وقد حذر الله -تعالى- المؤمنين من كل شيء سيعمل على تثبيط هممهم، ويجعلهم يبتعدون عن فعل الطاعات التي تقربهم منه جل و علا، حتى، و إن كانوا الأبناء، والأزواج.
يقول - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[29] أي يحملهم إياكم على ترك الطاعة، فاحذروهم إن أبعدوكم عن الله، و أداء الطاعات.
يقول الجزائري في تفسير هذه الآية: "أي من بعض أزواجكم، و بعض أولادكم عدواً أي يشغلونكم عن طاعة الله، أو ينازعونكم في أمر الدين، أو الدنيا، فاحذروهم: أي أن تطيعوهم في التخلف عن فعل الخير"[30].
فانظر كيف أن الابتعاد عن الطاعات دليل على ضعف الإيمان، و ضعف الإيمان يقود المرء إلى دنو الهمة، و البعد عن معالي الأمور.
نجد أن ارتكاب المعاصي، و ترك الطاعات إنما يولد في القلب وحشة، و يجعل في النفس ظلمة، فنور القلب هو الإيمان؛ و الطاعة، فإذا غفل القلب عنها أصبح مظلماً تائهاً عن الطريق؛ و الصواب، و نجد همته اتجهت إلى إشباع رغبات النفس، وسارت وراء خطوات الشيطان، فإذا أصر على ارتكاب المعاصي صار من حزب الشيطان، فصار مسلوب الهمة، مسلوب الإرادة يفعل ما يأمره به هواه، و نفسه الأمارة بالسوء، فكان من أبرز صفات هذا المرء دنو الهمة الذي قاده، و أوصله إلى الانحطاط في الدنيا، و الآخرة.
إن قضية الإيمان هي القضية الأولى، و الأساسية لهذه الأمة، فإذا تأخرت مسيرة الإصلاح، أو سارت في غير طريقها، و ضعفت همم المسلمين، فمرد ذلك إلى انحرافهم عن فهم الإيمان الحقيقي الذي يدفعهم للرقي؛ و الكمال، و لا سبيل إلى إصلاح حال المسلمين إلا بالإيمان الذي يعلو بالهمم، فللأسف؛ فإن كثيراً من البلاد الإسلامية لا تضع الإيمان ضمن وسائل الرقي ببلادها، و النهوض بأبنائها، بل تجعل أكبر همها، و مبلغ علمها في الرقي الصناعي؛ و الحربي، و الفني... و غير ذلك، ولا تلتفت إلى الإيمان كأعظم وسيلة للرقي، و التقدم؛ و علو الهمة.
يقول -تعالى- مبيناً أن ضعف الإيمان يقود الإنسان لدنو الهمة، و طلب سفاسف الأمور: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)[31].
قال أسعد حومد: "لما رجع النبي -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون بعد معركة أحد. قال أناس من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من أين أصابنا هذا؛ وقد؛ وعدنا الله -تعالى- النصر؟. فأنزل الله -تعالى- هذه الآية، وفيها يقول للمؤمنين: إنه صدقكم ما وعدكم به من نصر، فكنتم تقتلونهم قتلاً ذريعاً بإذن الله، و سلطكم عليهم، حتى إذا أصابكم الضعف؛ و الفشل، و عصيتم أمر الرسول، و تنازعتم في الأمر، "وهو ما وقع للرماة الذين أمرهم الرسول أن يلزموا مواقعهم، فتخلوا عنها"، وكان الله قد أراكم الظفر، وهو ما تحبونه، فكان منكم من يريد الدنيا، و يطمع في المغنم، حين رأوا هزيمة المشركين، فتركوا مواقعهم على الجبل، و منكم من كان يريد الآخرة في قتاله المشركين لا يلتفت إلى المغنم، فثبت مكانه، و قاتل الله المشركين عليكم، و جعل لهم الغلبة عليكم ليختبركم، و يمتحن ثباتكم على الإيمان، و قد غفر الله لكم ذلك الفعل، و هو عصيان أمر الرسول، والهرب من المعركة، و محا أثره من نفوسكم، حينما أظهرتم الندم، و رجعتم إلى الله، حتى صرتم، و كأنكم لم تفشلوا"[32].
قال سيد طنطاوي: "لتمييز قوي الإيمان من ضعيفه، و ليبين لكم العابد المخلص من غيره"[33].
إن تلك الهزيمة النكراء في أحد للمسلمين كانت تجسد لنا ضعف الإيمان، وكيف أنه إذا شابه شائبة من إرادة الدنيا حلت الهزيمة؛ و الخسارة، فبسبب ضعف الإيمان في أولئك الرماة كانت الهزيمة.
و نلحظ في تفسير القرآن، وصف من ثبتوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بـ (المؤمنين) رغم أن الذين انهزموا مؤمنين، و ما ذاك إلا إشارة إلى شرط النصر الذي قدره الله في كتابه، و هو الإيمان الخالص.
وأما الذين انهزموا، و قادهم ضعف إيمانهم للالتفات إلى سفاسف الأمور، وهي الدنيا؛ و الغنائم، فلما كان الإيمان المشوب بالضعف حصل التخلف؛ و الهزيمة، و النصر لا يكون إلا للمؤمنين الخلص، كما قال - تعالى -: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)[34].
إن المقصود بالمؤمنين ليس مجرد التسمية لهم بالإيمان، أو ذكر جنسهم، و أنهم من أهل الإيمان، و إنما المقصود هنا المؤمنين الخُلص الذين حققوا الإيمان تحقيقاً، وجردوه لله تجريداً، فهم الذين ارتفعت همتهم بالإيمان، فجعل الله لهم حقاً عليه أن ينصرهم، أما مجرد حصول الإيمان، و التسمي به، فلا يتناوله هذا الوعد.
إن ضعف الإيمان بالله يجعل الحياة خالية من المعاني السامية، و القيم الإنسانية النبيلة، فيجعل الإنسان ضعيفاً عاجزاً عن العمل لا يتطلع إلى الرقي؛ و الكمال، ويفقد الإنسان الشعور برسالته الكبيرة في الحياة كخليفة الله في الأرض، فتضيع منه الرؤية الواضحة لأهدافه الكبيرة في الحياة، و هي عبادة الله - تعالى -؛ والتقرب إليه، ومجاهدة النفس في سبيل بلوغ الكمال الإنساني الذي تتحقق له به السعادة في الدنيا، والآخرة[35].
ولذلك كان من أهداف الإسلام التربوية تقوية هذا الإيمان الذي يقود إلى الجد؛ والعمل؛ والبذل، والتغلب على أهوائه التي لا خير فيها، وكبح جماع شهواته التي تقوده إلى ضعف هذا الإيمان، فيرفض بإصرار، و حزم كل وساوس الشياطين، وتسويلاتهم، و ينتصر بعزيمة، و همة على كل إغراءاتهم، و حتى تكون إرادته هي صاحبة السلطة الفعالة في كيانه.
أثر ضعف الإيمان على الأمة:
إن المسلمين اليوم، فقدوا الرغبة في العمل؛ و العطاء، و تسرب إليهم الوهن، و الضعف، و دنو الهمة لضعف إيمانهم، فالقوة الإيمانية التي دفعت إسلامهم نحو الرقي؛ و البناء، لم تعد تملك الوقود اللازم الذي يتمثل في صفاء الروح، و وضوح الهدف؛ و الفكرة، و بذلك أصبح المسلمين عاجزين عن أداء رسالتهم الحقيقية؛ لأن مَن يفقد تلك القوة الدافعة للعمل سيبقى ثابتاً في مكانه يدور حول نفسه.
و قد بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - حال الأمة حين تفقد تلك القوة الإيمانية، قال - صلى الله عليه وسلم -: (يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا)، فَقَالَ قَائِلٌ: وَ مِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟. قَالَ: ((بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزَعَنَّ اللهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمْ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَ لَيَقْذِفَنَّ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ))، فَقَالَ: قَائِلٌ يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا الوَهْنُ؟. قَالَ: ((حُبُّ الدُّنْيَا، وَكَرَاهِيَةُ المَوْتِ))[36].
إن هذا الحديث يُقدم لنا تفسيراً واضحاً، للأزمة التي تمر بها الأمة الإسلامية في هذا العصر، مع ما لديها من كثرة في العدد، و وفرة في الوسائل.
إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصف الأمة بالغثائية، وهي تعني: فقدان الإيمان، والمنهج؛ لأن السيل المتدافع ليس له هدف يسير إليه، و هو في سيره يحمل ركاماً من الأشياء التي ليس لها أية أهمية في نظر الإنسان، و ما تلك الغثائية إلا بسبب حب الدنيا، و كراهة الموت، و بعدنا عن الإيمان.
إن ضعف الإيمان أصل الأسباب التي جعلت هذا الضعف، و دنو الهمة عند الأمة، فدب العجز، و الكسل في أفرادها، و مما يبين لنا أن الإيمان يقوي العزم عند المؤمن، و يزيل أثر الغثائية، و الوهن؛ و الشعور بالضعف قوله - تعالى -: (الذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ)[37].
عندما بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - خبر عزم أبي سفيان على الرجوع بجيشه إلى المدينة، أو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قدر في نفسه الشريفة هذا الرجوع، نهض بكل جد؛ و حماس؛ و همة، و أمر مناديه باستدعاء أولئك الذين شاركوا في قتال العدو في معركة أحد، دعا منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هؤلاء للخروج لتتبع العدو، و لإظهار قوة المسلمين، و إعلام المشركين بأن ما أصاب المسلمين يوم أحد لم يضعفهم، و لم يوهن عزيمتهم، و أن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من القوة ما يمكنه من ملاحقتهم، إن الأعداء، أعداء الإسلام، و أعداء الدعوة إليه، و أعداء دعاته لا يفهمون غير لغة القوة؛ لأن الضلال بلغ بهم مبلغاً حملهم على عداوة المسلمين لعقيدتهم لا شيء آخر، (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ العَزِيزِ الحَمِيدِ). فلا ينفع معهم إلا القوة، و إظهار القوة، و إرهابهم بالقوة، و هذا ما فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعلى هذا، فيجب على الأمة الإسلامية أن تبذل كل ما تستطيع لإعداد القوة بأنواعها:قوة الإيمان في نفوس المسلمين عموماً، و قوة العلم، و قوة العدد من الدعاة، و الأنصار، و قوة النظام؛ و التنظيم، و قوة العزيمة؛ و الهمة، و قوة الصبر على المكارة، لنصل لأعلى الدرجات في الدنيا؛ والآخرة، و نحقق الرسالة التي نحملها.
[1] المستدرك على الصحيحين للحكام ، كتاب الإيمان حديث رقم (5) 1/45).
[2] تفسير المنار لمحمد رشيد رضا (1/1326).
[3] سورة طة ، الآية 124).
[4] أي: وعاء متوسط الحجم.
[5] انظر: تفسير أبي السعود 6/48، تفسير معالم التنزيل للبغوي ص 829، تفسير القرآن العظيم لابن كثير 3/169 .
[6] صيد الخاطر لابن الجوزي ص 428 .
[7] سورة الحديد ، الآية 16 .
[8] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للسعدي ص: 990-991).
[9] سورة آل عمران ، الآية 155.
[10] انظر: في ظلال القرآن لسيد قطب 1/497، بتصرف يسير .
[11] تفسير القرآن العظيم لابن كثير 1/555، تفسير القاسمي 4/269، تفسير القرطبي 2/217 .
[12] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للسعدي ص: 162-163
[13] سورة النساء ، الآية 142 .
[14] الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 3/289).
[15] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للسعدي ص: 229).
[16] نظم الدرر 2/339).
[17] سورة التوبة ، الآية 81-88.
[18] انظر: أيسر التفاسير لأسعد عوامة ، ج 1/317، زاد المسير ، ج 3/478).
[19] سورة التوبة ، الآية 123).
[20] زهرة التفاسير لمحمد أبو زهرة ، ج 1/3486).
[21] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للسعدي ، ص (395-396).
[22] انظر: أيسر التفاسير لأسعد حوامدة ، ج1/317، زاد المسير ، ج 3/478).
[23] التفسير الوسيط لسيد طنطاوي ، ج1/2012).
[24] التفسير القيم لابن القيم ، ص 294).
[25] سورة محمد ، الآية 12).
[26] معالم التنزيل للبغوي ص 1196).
[27] سورة الأنفال ، الآية 1).
[28] تفسير الكريم الرحمن في تفسير كلام الرحمن للسعدي ص 357، معالم التنزيل للبغوي ص 511، المحرر الوجيز لابن عطية ص 778).
[29] سورة التغابن ، الآية 14).
[30] أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير، لأبي بكر الجزائري 2/1375).
[31] سورة آل عمران ، الآية 152 .
[32] انظر: أيسر التفاسير لأسعد حومد ، ج1/445).
[33] التفسير الوسيط لسيد طنطاوي ، ج1/768).
[34] سورة الروم ، الآية 47).
[35] انظر: القرآن وعلم النفس لمحمد عثمان نجاتي ، ص 277 ).
[36] أخرجه أبو داود في كتاب الملاحم ، باب في تداعي الأمم على الإسلام حديث (4297) ص 1536، وأبو نعيم في حلية الأولياء ، ج1/182 ، و صححه الألباني في صحيح الجامع برقم (8183) ، ج2/201 ).
[37] سورة آل عمران ، الآية 173)