ابوالسعودمحمود
2011-08-05, 06:29 PM
جدالهم في قضية الكتاب المنزل من عند الله
من كتاب :
صِرَاعُ مَعَ المَلاحِدَة حتى العظم
تأليف
عبد الرحمن حسن حبنّكة الميدان
وجادل الكافرون في القرآن ، فأنكروا نسبته إلى الله ، واتهموا الرسول بافترائه على الله ، ولم يكن لهم من حجة إلا الرفض ، وادعاء أنه أساطير الأولين ، اكتتبها الرسول عن الكتب السابقة ، أو هو من قبيل السحر ، وليس شيء من ذلك بحجة مقبولة عند العقلاء .
من الطبيعي أن الكافرين ليس لهم ما يقولونه عن القرآن بعد أن كذبوا به إلا أنه أساطير الأولين ، أو أن الرسول وضعه من عنده وافتراه على ربه ، وأن يتهموا قوة تأثيره على العقول والنفوس بأنها من قبيل السحر ، وقد ذكر الله مقالاتهم هذه في عدة مواضع من القرآن ، منها قول الله تعالى في سورة (الفرقان/25 مصحف/42 نزول):
{وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ إِفْكٌ ٱفْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَآءُوا ظُلْماً وَزُوراً * وَقَالُوۤاْ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ ٱكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * قُلْ أَنزَلَهُ ٱلَّذِي يَعْلَمُ ٱلسِّرَّ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً }.
ومنها قول الله تعالى في سورة (سبأ/34 مصحف/58 نزول):
{وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُواْ مَا هَـٰذَا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُكُمْ وَقَالُواْ مَا هَـٰذَآ إِلاَّ إِفْكٌ مُّفْتَرًى وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ}
ومنها قول الله تعالى في سورة (الأحقاف/46 مصحف/66 نزول):
{وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَينَاتٍ قَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلْحَق لَمَّا جَآءَهُمْ هَـٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ * أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ قُلْ إِنِ ٱفْتَرَيْتُهُ فَلاَ تَمْلِكُونَ لِي مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَىٰ بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ}.
وهكذا كان جدلهم حول القرآن متردداً بين ثلاث حجج باطلة ، هي في حقيقتها دعاوَى وليست بحجج .
الأولى : ادعاؤهم أن الرسول قد افتراه ، وهو ادعاء مرفوض لما فيه من ظلم وزور ، والواقع القرآني يكذبه ، وذلك أن إعجاز القرآن دليل كافٍ على أنه ليس عملاً إنسانياً ، وإنما هو تنزيل من عند الله ، وقد تحدّى الله الإنس والجن أن يأتوا بمثله فما استطاعوا ، وبذلك سقط ادعاء افترائه على الله .
الثانية : ادعاؤهم أنه أساطير الأولين اكتتبها الرسول عن الكتب السابقة ، وهذا ادعاء مرفوض بداهة بشهادة واقع حال الرسول المعروف في تاريخ حياته ، وبشهادة الواقع القرآني العربي المعجز بعربيته ، والمعجز بكل مضامينه .
وقد أطلق المشركون إشاعات زعموا فهيا أن محمداً يتلقى القرآن عن رجل أعجمي كان في مكة له علم بكتب أهل الكتاب ، فرد الله عليهم بقوله في سورة (النحل/16 مصحف/70 نزول):
{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ ٱلَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ}
إن البديهة تقضي برفض ادعائهم الذي يحمل تكذيب نفسه بنفسه ، إن هذا القرآن كلام عربي معجز ببيانه العربي وأساليبه العربية ، فكيف يزعمون أنه يعلمه إياه رجل أعجمي ، وهم العرب بفصاحتهم وبلاغتهم لا يستطيعون أن يأتوا بمثل سورة منه .
الثالثة : ادعاؤهم أن القرآن هو من قبيل السحر ، أي : إن قوة تأثيره على القلوب والنفوس مستمدة من قوة سحرية ، وهذا ادعاء يمثل الهروب من وجه الحقيقة الناصعة ، ذات التأثير المستمر .
وليس من شأن مثل هذه الدعوى أن يكون لها نصيب من الثبات حينما تستمر قوة تأثير القرآن . إن السحر وفق مفاهيم مدعيه عمل عارض يخدع ولا حقيقة له ، وواقع القرآن حقيقة مستمرة باقية ، لذلك فليس من شأن مثل هذه الدعوى الباطلة أن تنفع في جدال نظري ، ما دامت ساقطة سقوطاً ذاتياً بشهادة الواقع .
والكافرون الذين كفروا بالقرآن لم يكفروا به إلا تعنتاً وعناداً ، وما كانت تنقصهم الأدلة التي يرون فيها أن هذا القرآن من عند الله ، والمتعنت لا سبيل إلى إقناعه ، وهذا ما كشفه الله من حالهم في سورة (الأنعام/6 مصحف/55 نزول):
{وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ}
فهم يفرون من التصديق به إلى باطل جدلي لا أساس له من علم ولا من عقل ، لأن واقع حال القرآن يكذب ما فروا إليه ، فهو حق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .
إنهم ما داموا مصرين مكابرين فإنهم لن يؤمنوا ولو رأوا كل آية ، ويفرّون إلى إطلاق الأباطيل الجدلية ، وهذا ما بيَّنه الله بقوله في سورة (الأنعام/6 مصحف/55 نزول):
{وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِيۤ آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّىٰ إِذَا جَآءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ}
وبعد أنواع ذات مراحل من جدال الذين كفروا حول القرآن ، وسقوط أدلتهم وحججهم ودعاويهم الباطلة ، لم يكن من فريق منهم إلا الإصرار على موقف الجحود والإنكار ، فوقفوا أخيراً منه موقف المتعنت ، فأعلنوا رفضهم الإيمان به ، رغم كل البراهين التي اقترنت بالقرآن والدالة على أنه كلام الله حقاً ، وقد بين الله موقفهم هذا بقوله في سورة (سبأ/34 مصحف/58 نزول):
{وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَن نُّؤْمِنَ بِهَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ وَلاَ بِٱلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ ٱلظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ ٱلْقَوْلَ يَقُولُ ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ لِلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ لِلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُوۤاْ أَنَحْنُ صَدَدنَاكُمْ عَنِ ٱلْهُدَىٰ بَعْدَ إِذْ جَآءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ * وَقَالَ ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ لِلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ بَلْ مَكْرُ ٱلْلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نَّكْفُرَ بِٱللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً وَأَسَرُّواْ ٱلنَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ ٱْلَعَذَابَ وَجَعَلْنَا ٱلأَغْلاَلَ فِيۤ أَعْنَاقِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }
فهؤلاء الذين كفروا قد انتهوا بعد الجدال الطويل حول القرآن ، ودمغهم بالحجج القواطع إلى الإصرار على عدم الإيمان ، فقالوا : {لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه}، فانتقلوا من الكفر بالقرآن إلى الكفر بالذي سبقه من الكتب الربانية .
وموقف الرسالة تجاه هذا الإصرار المتعنت هو موقف المعرف الذي يتحول من موقف المجابهة بالجدال إلى موقف الإعراض ، مع بيان عاقبة الإنكار بغير حق ، وبيان مصير المنكرين أتباعاً ومتبوعين ، وإثارة مشاعر الخوف من هذا المصير الوخيم ، وهذا هو الموقف الذي لا سبيل سواه .
ومن البديع في النص القرآني هذه النقلة التي نقلهم بها إلى مشهد من مشاهد يوم الدين ، إذ يتجادل الكافرون يومئذٍ ، فيلقي الأتباع مسؤولية التضليل على قادتهم في الحياة الدنيا ، ويتبرأ القادة منهم ، ويجعلونهم مسؤولين عن أنفسهم وعن جرائمهم ، والصورة الجدلية تكون بينهم على الوجه التالي:
المستضعفون : لولا أنتم لكنا مؤمنين .
المستكبرون : أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين؟!
المستضعفون : (بل مكرُ الليلِ والنهارِ) أي : مكرم لنا في الليل والنهار (إذْ) كنتم (تأمرونَنَا أن نَكفُر باللهِ ونَجعل له أنداداً) هو الذي جعَلَنا نكفر .
الحكم العادل : يحمِّل كلا الفريقين المسؤولية على مقدار كسبه ، ويجازي كل واحد بعمله ، وتجعل الأغلال في أعناق الذين كفروا .
من كتاب :
صِرَاعُ مَعَ المَلاحِدَة حتى العظم
تأليف
عبد الرحمن حسن حبنّكة الميدان
وجادل الكافرون في القرآن ، فأنكروا نسبته إلى الله ، واتهموا الرسول بافترائه على الله ، ولم يكن لهم من حجة إلا الرفض ، وادعاء أنه أساطير الأولين ، اكتتبها الرسول عن الكتب السابقة ، أو هو من قبيل السحر ، وليس شيء من ذلك بحجة مقبولة عند العقلاء .
من الطبيعي أن الكافرين ليس لهم ما يقولونه عن القرآن بعد أن كذبوا به إلا أنه أساطير الأولين ، أو أن الرسول وضعه من عنده وافتراه على ربه ، وأن يتهموا قوة تأثيره على العقول والنفوس بأنها من قبيل السحر ، وقد ذكر الله مقالاتهم هذه في عدة مواضع من القرآن ، منها قول الله تعالى في سورة (الفرقان/25 مصحف/42 نزول):
{وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ إِفْكٌ ٱفْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَآءُوا ظُلْماً وَزُوراً * وَقَالُوۤاْ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ ٱكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * قُلْ أَنزَلَهُ ٱلَّذِي يَعْلَمُ ٱلسِّرَّ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً }.
ومنها قول الله تعالى في سورة (سبأ/34 مصحف/58 نزول):
{وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُواْ مَا هَـٰذَا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُكُمْ وَقَالُواْ مَا هَـٰذَآ إِلاَّ إِفْكٌ مُّفْتَرًى وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ}
ومنها قول الله تعالى في سورة (الأحقاف/46 مصحف/66 نزول):
{وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَينَاتٍ قَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلْحَق لَمَّا جَآءَهُمْ هَـٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ * أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ قُلْ إِنِ ٱفْتَرَيْتُهُ فَلاَ تَمْلِكُونَ لِي مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَىٰ بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ}.
وهكذا كان جدلهم حول القرآن متردداً بين ثلاث حجج باطلة ، هي في حقيقتها دعاوَى وليست بحجج .
الأولى : ادعاؤهم أن الرسول قد افتراه ، وهو ادعاء مرفوض لما فيه من ظلم وزور ، والواقع القرآني يكذبه ، وذلك أن إعجاز القرآن دليل كافٍ على أنه ليس عملاً إنسانياً ، وإنما هو تنزيل من عند الله ، وقد تحدّى الله الإنس والجن أن يأتوا بمثله فما استطاعوا ، وبذلك سقط ادعاء افترائه على الله .
الثانية : ادعاؤهم أنه أساطير الأولين اكتتبها الرسول عن الكتب السابقة ، وهذا ادعاء مرفوض بداهة بشهادة واقع حال الرسول المعروف في تاريخ حياته ، وبشهادة الواقع القرآني العربي المعجز بعربيته ، والمعجز بكل مضامينه .
وقد أطلق المشركون إشاعات زعموا فهيا أن محمداً يتلقى القرآن عن رجل أعجمي كان في مكة له علم بكتب أهل الكتاب ، فرد الله عليهم بقوله في سورة (النحل/16 مصحف/70 نزول):
{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ ٱلَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ}
إن البديهة تقضي برفض ادعائهم الذي يحمل تكذيب نفسه بنفسه ، إن هذا القرآن كلام عربي معجز ببيانه العربي وأساليبه العربية ، فكيف يزعمون أنه يعلمه إياه رجل أعجمي ، وهم العرب بفصاحتهم وبلاغتهم لا يستطيعون أن يأتوا بمثل سورة منه .
الثالثة : ادعاؤهم أن القرآن هو من قبيل السحر ، أي : إن قوة تأثيره على القلوب والنفوس مستمدة من قوة سحرية ، وهذا ادعاء يمثل الهروب من وجه الحقيقة الناصعة ، ذات التأثير المستمر .
وليس من شأن مثل هذه الدعوى أن يكون لها نصيب من الثبات حينما تستمر قوة تأثير القرآن . إن السحر وفق مفاهيم مدعيه عمل عارض يخدع ولا حقيقة له ، وواقع القرآن حقيقة مستمرة باقية ، لذلك فليس من شأن مثل هذه الدعوى الباطلة أن تنفع في جدال نظري ، ما دامت ساقطة سقوطاً ذاتياً بشهادة الواقع .
والكافرون الذين كفروا بالقرآن لم يكفروا به إلا تعنتاً وعناداً ، وما كانت تنقصهم الأدلة التي يرون فيها أن هذا القرآن من عند الله ، والمتعنت لا سبيل إلى إقناعه ، وهذا ما كشفه الله من حالهم في سورة (الأنعام/6 مصحف/55 نزول):
{وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ}
فهم يفرون من التصديق به إلى باطل جدلي لا أساس له من علم ولا من عقل ، لأن واقع حال القرآن يكذب ما فروا إليه ، فهو حق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .
إنهم ما داموا مصرين مكابرين فإنهم لن يؤمنوا ولو رأوا كل آية ، ويفرّون إلى إطلاق الأباطيل الجدلية ، وهذا ما بيَّنه الله بقوله في سورة (الأنعام/6 مصحف/55 نزول):
{وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِيۤ آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّىٰ إِذَا جَآءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ}
وبعد أنواع ذات مراحل من جدال الذين كفروا حول القرآن ، وسقوط أدلتهم وحججهم ودعاويهم الباطلة ، لم يكن من فريق منهم إلا الإصرار على موقف الجحود والإنكار ، فوقفوا أخيراً منه موقف المتعنت ، فأعلنوا رفضهم الإيمان به ، رغم كل البراهين التي اقترنت بالقرآن والدالة على أنه كلام الله حقاً ، وقد بين الله موقفهم هذا بقوله في سورة (سبأ/34 مصحف/58 نزول):
{وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَن نُّؤْمِنَ بِهَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ وَلاَ بِٱلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ ٱلظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ ٱلْقَوْلَ يَقُولُ ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ لِلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ لِلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُوۤاْ أَنَحْنُ صَدَدنَاكُمْ عَنِ ٱلْهُدَىٰ بَعْدَ إِذْ جَآءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ * وَقَالَ ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ لِلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ بَلْ مَكْرُ ٱلْلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نَّكْفُرَ بِٱللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً وَأَسَرُّواْ ٱلنَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ ٱْلَعَذَابَ وَجَعَلْنَا ٱلأَغْلاَلَ فِيۤ أَعْنَاقِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }
فهؤلاء الذين كفروا قد انتهوا بعد الجدال الطويل حول القرآن ، ودمغهم بالحجج القواطع إلى الإصرار على عدم الإيمان ، فقالوا : {لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه}، فانتقلوا من الكفر بالقرآن إلى الكفر بالذي سبقه من الكتب الربانية .
وموقف الرسالة تجاه هذا الإصرار المتعنت هو موقف المعرف الذي يتحول من موقف المجابهة بالجدال إلى موقف الإعراض ، مع بيان عاقبة الإنكار بغير حق ، وبيان مصير المنكرين أتباعاً ومتبوعين ، وإثارة مشاعر الخوف من هذا المصير الوخيم ، وهذا هو الموقف الذي لا سبيل سواه .
ومن البديع في النص القرآني هذه النقلة التي نقلهم بها إلى مشهد من مشاهد يوم الدين ، إذ يتجادل الكافرون يومئذٍ ، فيلقي الأتباع مسؤولية التضليل على قادتهم في الحياة الدنيا ، ويتبرأ القادة منهم ، ويجعلونهم مسؤولين عن أنفسهم وعن جرائمهم ، والصورة الجدلية تكون بينهم على الوجه التالي:
المستضعفون : لولا أنتم لكنا مؤمنين .
المستكبرون : أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين؟!
المستضعفون : (بل مكرُ الليلِ والنهارِ) أي : مكرم لنا في الليل والنهار (إذْ) كنتم (تأمرونَنَا أن نَكفُر باللهِ ونَجعل له أنداداً) هو الذي جعَلَنا نكفر .
الحكم العادل : يحمِّل كلا الفريقين المسؤولية على مقدار كسبه ، ويجازي كل واحد بعمله ، وتجعل الأغلال في أعناق الذين كفروا .