مشاهدة النسخة كاملة : اليهود واليهودية والصهيونية والصهاينة الجزء الأول
ساجدة لله
2010-10-23, 06:04 AM
ويمكن تلخيص نقط قصور النماذج الاختزالية في دراسة الجماعات اليهودية فيما يلي:
1 ـ النماذج الاختزالية ـ كما أسلفنا ـ نماذج مغلقة، رؤيتها للتاريخ واحدية مُصمَتة وواضحة، فتطوُّر «التاريخ اليهودي» معروف مسبقاً ويتبع نمطاً محدَّداً: عبودية في مصر ـ خروج منها ـ تَغلغُل في كنعان ـ نفي إلى بابل ـ سقوط الهيكل ـ عودة إلى فلسطين في نهاية الأيام. فالعودة النهائية إلى صهيون أمر حتمي ومُتوقَّع في الرؤية المشيحانية، إذ سيأتي الماشيَّح ويقود شعبه إلى صهيون ويُنهي الآلام ويؤسس الفردوس الأرضي فيها ويصل بالتاريخ اليهودي إلى نهايته الفردوسية. والصهيونية هي الوريثة العلمانية لهذه الرؤية الدينية وتتبنَّى النمط نفسه، فبعد السقوط الشتات وآلام المنفى ثم العودة إلى صهيون والجنة. والإبادة النازية هي قمة المآسي تعقُبها العودة والدولة الصهيونية ونهاية التاريخ الفردوسية المُتوقَّعة حين يعود كل اليهود ليهنأوا في أرض أجدادهم وليؤسسوا دولة يهودية تكون منارة لكل الأمم.
2 ـ تسقط النماذج الاختزالية في نوع من السببية الاختزالية البسيطة السهلة، فتصبح كل النتائج لها سبب واحد وهذا ما يجعلها عاجزة عن تقديم تفسير معقول لتنوُّع الواقع. وعلى هذا، تكون المقدرة التفسيرية للنماذج الاختزالية (العلمية والتآمرية) ضعيفة للغاية.
ساجدة لله
2010-10-23, 06:04 AM
أ ) ولنبدأ بالنماذج التآمرية التي ترى أن خصوصية اليهود تكمن في شرهم الأزلي وطبيعتهم الشيطانية التي لا تتغيَّر. ولكن إذا كان اليهود أشراراً متآمرين بطبيعتهم، وإذا كان اليهود والشر صنوين، فكيف نُفسِّر ظهور بعض اليهود الخيرين المعادين للصهيونية (أمثال الحاخام إلمر برجر وأعضاء الناطوري كارتا) المؤمنين بالإله الواحد والمعادين للصهيونية أكثر من عداء معظم العرب لها؟ وكيف نُفسِّر نجاح الجماعة اليهودية في الأندلس (إسبانيا الإسلامية) في الانتماء الكامل للحضارة العربية الإسلامية والتفاعل معها والإسهام فيها؟ بل تذهب كثير من المراجع إلى أنهم قاموا بمسـاعدة الفاتحين الإسـلاميين لشـبه جزيرة أيبريا، تماماً كما فعل اليهود السامريون أثناء الفتح الإسلامي لبيت المقدس. كما يُقال إن يهود العالم العربي ساعدوا العرب أثناء حروب الفرنجة بتسريب الأخبار لهم عن الاستعدادات العسكرية في أوربا وعن الحملات التي كانت تجردها أوربا (وكانت هذه هي أحد الأسباب التي حدت بالوجدان الغربي في العصور الوسطى إلى الربط بين اليهودي والمسلم). وإذا كان انتشار الشر في العالم مرده تأثير اليهود السيء على الشعوب (وهو ما يعني استبعاد احتمال وجود الشر في النفس البشرية، وتلك حقيقة تؤيدها كل الأديان السماوية ولا ينكرها سوى غلاة الحتميين الماديين) فكيف نُفسِّر ظهور الشر في بلاد لا يوجد فيها يهود، فتايلاند عاصمة الإباحية والبغاء في العالم لا يوجد فيها يهود، كما لا يوجد يهود بين الصرب الذي بعثوا أمجاد هتلر وإن كان الضحايا هذه المرة مسلمين؟
ب) تسقط النماذج الاختزالية العلمية المادية في التعميم المُخل فلا ترى المنحنى الخاص للظاهرة وهو ما يضعف مقدرتها التفسـيرية، فهي لا يمكـنها أن تُفسِّر لنا سـبب ظهور الصهيونية في أواخر القرن التاسع عشر وعدم ظهورها، مثلاً، في أواخر القرن الثاني عشر الميلادي بعد حروب الفرنجة (التي يُقال لها «صليبية»)، وهي الحروب التي ارتُكبت المذابح أثناءها ضد تجمعات الجماعات اليهودية في غرب ووسط أوربا واجتثتها من جذورها في بعض الأحيان؟ كما أن النموذج الاختزالي يفشل في أن يفسِّر لنا سبب ظهور الصهيونية في شرق أوربا وليس في غربها، أو حتى في الولايات المتحدة، مع أن عدد يهود الولايات المتحدة مع بداية القرن كان آخذاً في التزايد حتى بلغ عدة ملايين قبيل الحرب العالمية الأولى؟ ولماذا ظلت فاشلة في إحراز أية انتصارات على مستوى الاستيطان في فلسطين أو على مستوى التحرك الدبلوماسي في العالم حتى عام 1917 (عام صدور وعد بلفور)؟
ساجدة لله
2010-10-23, 06:04 AM
جـ) وتفشل النظريات الاختزالية (العلمية المادية) في تفسير لماذا اتخذت مشاكل اليهود الاجتماعية الاقتصادية شكل بنية تاريخية مُحدَّدة تُعرَف باسم «المسألة اليهودية»، وهي بنية قد تشترك في بعض قسماتها وملامحها العامة مع البنَى المماثلة ولكنها تختلف عنها في الملامح الخاصة وفي الحلول المطروحة؟ وتفشل النظريات العلمية في تفسير سبب توطين الإمبرياليين في فلسطين يهوداً وعدم توطينهم أوربيين مسيحيين كما فعلوا في الجزائر أو روديسيا؟ أليست كلها مصالح إمبريالية تخدم المخطط الإمبريالي؟ أوليس المستوطنون هم مجرد «الفائض البشري» الذي كان على أوربا الرأسمالية أن تُصدِّره إلى الشرق (وحينما نتحدث عن «فائض بشري» يجب ألا نفرِّق بين يهودي ومسيحي)؟ كما أن هذه النظريات لا يمكنها أن تفسر تَعيُّن البرنامج الصهيوني وخصوصيته، فالاستعمار الصهيوني ليس استعماراً بالمعنى العام بل هو استعمار استيطاني، كما أنه استعمار استيطاني يختلف عن الأنماط الاستيطانية التقليدية في أنه لا يهدف إلى الاستيطان وحسب بل يهدف إلى الإحلال أيضاً.
3 ـ تُبسِّط النماذج الاختزالية دوافع الآخر. فاليهود ـ حسب الرؤية الاختزالية (العلمية أو التآمرية) ـ دائمو التطلع لصهيون يهاجرون إليها إن سنحت الفرصة. ولكن هذه الأطروحة البسيطة لا تفسِّر أن عدد اليهود خارج فلسطين كانوا أكثر من عددهم داخلها قبل سقوط الهيكل، ولا تفسِّر لمَ لم يهاجر الملايين من اليهود إلى فلسطين بعد أن وقعت في يد الصهاينة وبعد أن فتحت أبوابها للهجرة الاستيطانية، بل وبعد تقديم الرشاوي المالية والعينية لمن يوافق منهم على الاستيطان؟ ولماذا كان من الضروري أن تُوصَد أبواب الولايات المتحدة أمام المهاجرين اليهود السوفييت حتى يضطروا للهجرة إلى إسرائيل؟
ساجدة لله
2010-10-23, 06:09 AM
4 ـ من خصائص النماذج الاختزالية (العلمية أو التآمرية) أنها قابلة للتوظيف ببساطة في أي اتجاه. فعملية الاختزال، كما بيَّنا، هي عملية فصل الحقائق والوقائع عن سياقها الاجتماعي والتاريخي، ومن ثم يمكن فرض أي معنى عليها واستخلاص أية نتائج منها. ومن ثم يمكن استخدامها للتبشير بالحرب أو السلام، وباستمرار الصراع أو ضرورة وقفه، ويمكن المناداة بضرورة الحرب المستمرة ضد الإمبريالية الغربية متمثلة في قاعدتها إسرائيل، ويمكن أيضاً الحديث عن ضرورة التحالف مع الطبقة العاملة اليهودية.
5 ـ تُوظَّف النماذج الاختزالية في بث الهزيمة والرعب في قلب العرب، كما حدث في حكاية جريمة العصر، وكما يحدث في بعض الدراسات العربية التي تجعل همها توثيق قوة العدو دون أن تشير إلى جوانب أخرى، وكما حدث في النظريات التآمرية التي ترى أن اليهود قادرون على كل شيء فهم قوة عجائبية وظاهرة خرافية من المستحيل ضربها وإلحاق الهزيمة بها. ولذا، فإن الصهاينة يروجون النموذج الاختزالي العلمي التآمري إذ أن من صالحهم تضخيم دور اليهود عبر التاريخ والمبالغة في قدرات الدولة الصهيونية في كل المجالات، فهذا يُكسبهم شرعية غير عادية في عالم يؤمن بالنجاح والحلول العملية. ولعل كثيراً من الكتب التي تُنشَر تحت شعار «اعرف عدوك» تهدف إلى بث الرعب في نفوسنا عن طريق توفير بعض المعلومات الصلبة التي تؤكد أن العدو لا يُقهَر (وحجب غيرها من المعلومات). وعندي إحساس عميق بأن المخابرات الإسرائيلية قد ساهمت في نشرها تماماً كما تساهم في نشر البروتوكولات. ويجب أن نتذكر أن كثيراً من الدول الكبرى تبني أسلحة ولا تستخدمها لمجرد أن تبث الرعب في قلب أعدائها. بل إنها أحياناً تلوح بمقدرتها على إنتاج سلاح ما دون أن تفعل لتدعم موقفها التفاوضي. واصطلاح «توازن الرعب» يعني أن توليد الرعب في قلب العدو هو أحد الأهداف الأساسية في الحروب وهي مسألة يُحسَب حسابها. والاختزالية العلمية المادية والتآمرية تنجز هذا بالنسبة للصهاينة دون جهد من جانبهم. وبعد قليل سيكون بوسع المتلقي الموضوعي أن يستخلص بنفسه النتائج، ويرى أن الواقعية تدعو لقبول العدو وأن الرؤية العلمية تؤيد الاستسلام والإذعان له، فهو عدو لا يُقهَر، ومن هو هذا الأحمق (المثالي وغير العلمي) الذي يريد أن يضرب برأسه في الحجر الصلب؟
ساجدة لله
2010-10-23, 06:10 AM
6 ـ لا تفيد النماذج الاختزالية كثيراً في عملية الممارسة إذ أن الممارسة تتطلب نموذجاً تحليلياً أكثر تفصيلاً ودقة وتركيبية يزوِّد الدارس بخريطة يعرف من خلالها كل نتوءات الواقع، وما هو مركزي منها وما هو هامشي، وما الوضع القائم وما الإمكانات الكامنة، ومن العدو ومن الصديق، خريطة يفهم بواسطتها العناصر والانقسامات المختلفة في معسكر العدو ومدى كفاءته ودوافعه ومواطن ضعفه وآلاف التفاصيل الأخرى التي تظل بمنأى عن النموذج الاختزالي.
7 ـ يُبرئ النموذج الاختزالي التآمري الإمبريالية الغربية والدول الغربية من الجرائم التي ارتكبتها وترتكبها ضد الشعب العربي، فهذه الدول (حسب النموذج التآمري) إن هي إلا ضحية التآمر اليهودي الأزلي وهي ليست مسئولة عن غرس الجيب الاستيطاني الصهيوني في المنطقة وتمويله ودعمه وفرضه بقوة السلاح علينا، فالمشروع الصهيوني (حسب النموذج الاختزالي الصهيوني) هو أمر قام به اليهود تعبيراً عن إرادتهم الحرة القومية المستقلة وبجهودهم الذاتية. وعادةً ما تنسب النماذج الاختزالية مقدرات فائقة لليهود ومخططاتهم. وبمعنى آخر، فإن هذه النماذج تقوم بالتهويل من الجزء (الصهيونية) والتهوين من شأن الكل (الإمبريالية).
8 ـ تؤدي النماذج الاختزالية إلى السقوط في رؤية اليهود من منظور عنصري، فجوهر العنصرية هو عملية الاختزال هذه، التي تحوِّل الكل الإنساني المركب إلى عنصر واحد، وهذا ما فعله الصهاينة والمعادون لليهود في إدراكهم اليهود واليهودية.
9 ـ تبنِّي النماذج الاختزالية هو تعبير عن كسل عقلي، ولكن هذا التبني يزيد في الوقت نفسه هذا الكسل إذ يصيب العقل بالشلل حتى نصبح موضوعيين نتلقى تماماً كل ما يأتينا من حقائق صلبة دون تساؤل أو إبداع.
10 ـ أشرنا من قبل إلى أن النموذج الاختزالي يُولِّد تفاؤلاً لا أساس له، ويمكن أن نشير هنا إلى أنه، يمكن أن يولِّد أيضاً في نفس صاحبه اليأس والقنوط إذ أنه قد يُصعِّد التوقعات التي لا تتحقق وقد يُخفي الإمكانات التي يمكن أن تتحقق في المستقبل.
لكل هذا يصبح من الضروري (من الناحية المعرفية والأخلاقية بل والعملية) تبنِّي نماذج أكثر تركيباً من النماذج الاختزالية المادية العلمية أو الغيبية التآمرية.
ونحن نضع «النموذج الاختزالي» مقابل «النموذج المركب»، ونذهب إلى أن الصراع بين النماذج الموضوعية المادية (المتلقية) والنماذج التفسيرية (الاجتهادية) يتبدَّى في نهاية الأمر في الصراع بين النموذج الاختزالي والنموذج المركب. فالبُعد المعرفي(الكلي والنهائي) للنموذج الاختزالي هو الموضوعية المادية، أما البُعد المعرفي للنموذج المركب فهو التفسيرية الاجتهادية.
ساجدة لله
2010-10-23, 06:10 AM
النموذج المركب
«النموذج المركب» (ويمكن أن نطلق عليه أيضاً «النموذج المنفتح» أو «النموذج التعددي» أو «النموذج الفضفاض» أو «نموذج التكامل غير العضوي»). وهو النموذج الذي يحوي عناصر متداخلة مركبة (أهمها الفاعل الإنساني ودوافعه) بحيث يعطي الإنسان صورة مركبة عن الواقع ولا يختزل أياً من عناصره أو مستوياته المتعددة أو تناقضاته أو العوامل المادية والروحية، المحدودة واللامحدودة والمعلومة والمجهولة، التي تعتمل فيه. وهو النموذج الذي لا يمكنه أن يطرح نهاية للأشياء بسبب تركيبيته، فهو نموذج تفسيري اجتهادي منفتح وليس نموذجاً موضوعياً متلقياً مادياً.
والنموذج المركب يدور في إطار المرجعية المتجاوزة. وهو يتسم بالتماسك والوحدة ولكن تماسكه ليس عضوياً أو صلباً، وثمة وحدة في الوجود ولكنها وحدة غير عضوية وغير مصمتة لأن مصدر الوحدة ومركز الكون غير المنظور ليس كامناً أو حالاًّ في العالم (فهو الإله الواحد المفارق المنزَّه في النظم التوحيدية وهو الإنسان المتميِّز عـن الطبيعة في النظم الهيومانية الإنسـانية). والمركز مفارق للعالم لا يتجسد فيه رغم تجليه وتبديه من خلاله، ولذا فإن النموذج المركب لا يسقط في الكمونية الواحدية ويظل محتفظاً دائماً بمسافة بين الخالق والمخلوق وبين الإنسان والطبيعة لا يمكن اختزالها ولا إلغاؤها إذ لا يمكن توحيد قطبي الثنائية. ولكن هذه الثنائية الأولية ليست ثنائيةصلبة (ثنائية غير تكاملية) وإنما ثنائية فضفاضة، فثمة تفاعل بين عنصري الثنائية، فالإله خلق العالم ونفخ فيه من روحه ولم يهجره بل دخل في علاقة معه فهو يرعاه. وقد منح الله الإنسان بعض الصفات الربانية التي تميزه عن الطبيعة ثم استخلفه في الأرض. وهو لم يضعه في الأرض ليكون في علاقة صراع مع الطبيعة أو ليوظفها وإنما استخلفه فيها واستأمنه عليها ليستخدمها ويعمرها، وهو يكتسب مركزيته من عملية الاستخلاف هذه. ولذا، فإن العلاقة بين الإنسان والطبيعة أو بين الإنسان والإله ليست علاقة وحدة وإنما علاقة تكامل.
والإنسان الذي يحوي داخله القبس الإلهي (في المنظومة التوحيدية) أو المتميِّز عن الطبيعة (في المنظومة الإنسانية) قد يشارك في بعض سمات النظام الطبيعي وقد تسري القوانين الطبيعية وقوانين الأشياء على بعض جوانب وجوده (فهو يولد ويأكل ويمشي ويضاجع النساء ويمرض ويموت) ولكنه لا يُردّ في كليته إليها. وقد نعرف هذا الجانب أو ذاك من وجوده، ولكن تظل هناك جوانب (ربانية) مجهولة لا يمكن معرفتها أو إخضاعها للقانون المادي العام الواحد. ولذا، يظل هناك قانونان: واحد للإنسان والآخر للأشياء. وتنبع بعض جوانب فكر الإنسان من واقعه (المادي الطبيعي أو الإنساني)، ولكنه لا يمكن أن يُردَّ في كليته إليه لأن بعض هذا الفكر نابع من ذاته (الربانية الإنسانية غير الطبيعية) المتجاوزة لذاته المادية والطبيعية، أي أن الإنسان جزء يتجزأ من الطبيعة متجاوز لها. ولكل هذا، يشكل الإنسان ثغرة في النظام الطبيعي/المادي، فهو كائن قادر على تجاوز الجوانب الطبيعية/المادية في ذاته وقادر على تجاوز الطبيعة/ المادة ذاتها. وهي مسافة لا يمكن أن تُسد تماماً (مثل المسافة التي تفصل الخالق عن المخلوق)، فالجانب الرباني في الإنسان لصيق تماماً بإنسانيته.
ساجدة لله
2010-10-23, 06:10 AM
ووجود الإنسان كثغرة في النظام الطبيعي هو الذي يؤدي إلى ظهور كل الثنائيات الفضفاضة الأخرى (كل/جزء ـ عام/خـاص ـ ذات/موضـوع ـ سـبب/نتيجة ـ محدود/لا محدود ـ معروف/مجهول ـ ذكر/أنثى ـ سماء/أرض). وكلها ثنائيات لا يمكن القضاء عليها، فهي صدى للثنائية الكبرى الكلية والنهائية (خالق/ مخلوق). ولذا، فإن وجود مسافات داخل النموذج المركب هي من صميم بنيته، ومن ثم فهو غير قابل للانغلاق ولا يمكن إخضاعه للقوانين الواحدية. وكما يتفاعل الإله مع الإنسان تتفاعل وتتكامل الثنائيات كافة لذا فالنماذج المركبة تتسم بالتكامل غير العضوى.
والنماذج المادية تتأرجح بين التماسك العضوي الكامل (الصلابة) والتجانس المطلق (الذي يُفقد الأجزاء شخصيتها واستقلالها وهويتها) والاستمرارية الكاملة من جهة ومن جهـة أخرى عدم التماسك (السيولة) وعدم التجانس (الذي يجعل لها هوية لا يمكن القضاء عليهـا) والانقطاع الكامل. أما نموذج التكامل غير العضـوي، فهو يفترض أن العالم كل متماسك، مُكوَّن من كليات متماسكة، مُكوَّنة بدورها من أجزاء غير مترابطة بشكل صلب وغير متجانسة بشكل كامل، ومع هذا فهي أجزاء متماسكة لكلٍّ شخصيتها ولكنها لا تُفهَم إلا بالعودة إلى الكليات. ولكن الكليات ليست صلبة، ومركزها ومصدر تماسكها يوجد خارجها، ولذا فهي تظل كليات فضفافة تحوي داخلها ثغرات. وهذا يعني أن الأجزاء هامة في أهمية الكل، وأنها لا تُردُّ إلى الكل، فنموذج التكامل غير العضوي يحاول إدراك الخاص دون السقوط في التأيقن، ويدرك العام دون الذوبان في القانـون العام إذ أن لكل ظاهرة منحـناها الخـاص رغم أنها تنضوي تحت نمط عام.
وعدم الالتحام العضوي يسمح بقبول الشخصية المستقلة لكل جزء رغم انتمائه للكل، فالجزء ليس جزءاً عضوياً لا يتجزأ وإنما هو جزء يتجزأ، أي أن انفصال الأجزاء عن الكل ليس انفصالاً كاملاً وإنما هو درجة من الاستقلال النسبي للأجزاء عن الكل وللأجزاء (الواحد عن الآخر). ومع هذا، ثمة افتراض لأسبقية نهائية للكل على الأجزاء (وإلا انتفت فكرة الحقيقة الكلية وفكرة النموذج نفسها). ولذا، لا يذوب الجزء في الكل ولا الكل في الجزء، ولا يذوب العام في الخاص ولا الخاص في العام، والاستمرار والانقطاع لا يُجُبُّ أيٌّ منهما الآخر. ولذا، فبإمكان النموذج أن يتناول الظواهر والعلاقات بكل أشكالها ومستوياتها ويحترم منحناها الخاص ويتناول الكل والجزء والخاص والعام والاستمرارية والانقطاع دون أن يَرُدَّ الواحد إلى الآخر، بل يحاول الوصول إلى النقطة المفصلية حيث يتصل الواحد بالآخر.
ساجدة لله
2010-10-23, 06:10 AM
والنموذج المركب ينكر وجود قوانين تاريخية عامة وحتمية ويرى أن مقدرتها التفسيرية ضعيفة، ويطرح بدلاً من ذلك فكرة الأنماط التاريخية المتشابهة، وليست بالضرورة المتكررة والمتجانسة تماماً، فالتاريخ لا يتطور بنفس المستوى ولا بنفس المعدل ولا بنفس الطريقة من مجتمع لآخر. بل إنه، داخل المجتمع الواحد يوجد من العناصر الخاصة ما يجعل التأني والدراسة المدققة ضروريين لتَفهُّم مسارات التاريخ المختلفة.
والنماذج المركبة لا تدور في إطار الواحدية السببية التي تدور إما في إطار عنصر روحي واحد أو عنصر مادي واحد والتي تستوعب كل شيء في شبكة السببية الصلبة. وبدلاً من ذلك، يظهر مبدأ التعددية السببية، ويحل مبدأ تعددية المؤثرات محل مبدأ أحادية المؤثرات في فهم الطبيعة والإنسان وتفسيرهما والتنظير لهما. ومن ثم يجري النظر إلى الظاهرة في أبعادها المتكاملة دون الاقتصار على بُعد واحد مادي أو روحي، ثم يتم بعد ذلك تحديد أكثر الأبعاد فعالية وتأثيراً دون التقيد بأية مسلمات مسبقة تقول إن أحد الأبعاد (العنصر الاقتصادي أو العنصر الجنسي أو العنصر الروحي على سبيل المثال) أكثر فعالية وتأثيراً من الأبعاد الأخرى. فكل ظاهرة لها منحـناها الخـاص ولا توجد حتميات سـببية مطلقة ولا يوجد شـيء في نهاية الأمر وفي التحـليل الأخير إلا وجه الله، ضمان حرية الإنسـان ووعيه بحريته. ولذا، لابد أن تُدرَس كل ظاهرة حسب المقاييس المناسبة لها، ويُنحَت نموذج خاص لدراستها، فلا تُطبَّق قوانين الأشياء على الإنسان ولا تُطبَّق قوانين الإنسان على الأشياء. هذا لا يعني بطبيعة الحال إسقاط النماذج التفسيرية المادية الخالصة أو الروحية الخالصة، فالأولى لها دورها في تفسير الوجود الطبيعي وتفسير بعض جوانب الوجود الإنساني، تماماً كما أن الثانية لها دورها في تفسير جوانب أخرى لهذا الوجود الإنساني.
والنموذج المركب يُنكر الواحدية السببية ولكنه لا يسقط في العبثية، حيث لا سببية على الإطلاق، وإنما يدور في إطار السببية المركبة التعددية حيث لا تؤدي (أ) حتماً وبشكل آلي إلى (ب) (ولكنها في معظم الأحوال تؤدي إليها)، فهي بسبب عدم تحكمنا في كل الواقع وبسبب عدم معرفتنا بكل عناصره قد تؤدي إلى (ج) (ولكنها بإذن الله تؤدي إلى ب).
ساجدة لله
2010-10-23, 06:10 AM
وتحل النماذج المركبة قضية القيمة، فهي تستطيع التعامل مع المثالي والواقعي، ومع الروحي والمادي، فهي ليست نماذج واحدية بسيطة مادية لا تجيد التعامل إلا مع العالم الواقعي المادي، وليست نماذج روحية بسيطة لا تجيد إلا التعامل مع عالم الروح.
وتأخذ عملية التفسير (أو الاجتهاد) داخل هذا النموذج شكلاً حلزونياً، فالمُفسِّر المجتهد لن يواجه الواقع بقانون عام أو افتراض عام يُفسِّر به الواقع بأسره، وهو لن يقوم بمراكمة المعلومات عن الواقع بلا تمييز، بل سيصوغ نموذجاً تفسيرياً تصورياً من خلال قراءة التاريح ومعرفة الدوافع الإنسانية وقوانين البنية الموضوعية والمتتاليات التفسيرية السابقة، ثم يُختبَر هذا النموذج بالعودة إلى التفاصيل التاريخية والاجتماعية. ولكن عملية الاختبار هذه ستقوم بتعديل النموذج، ومن ثم فإن عملية التفسير عملية حلزونية لا متناهية.
ومثل هذا النموذج لا يطمح إلى الوصول إلى اليقين الكامل والتفسير النهائي والحلول الشاملة والتحكم الإمبريالي الكامل في الطبيعة، وبالتالي فهو لا يسقط في أسفل درجات العبثية والإذعان التام للطبيعة/المادة (تَمركُز حول الذات يؤدي إلى انتصار الموضوع) كما أنه لا يحلق في أقصى درجات الروحية والتجاوز التام لعالم الطبيعة/المادة، وإنما هو نموذج يطرح إمكانية أن المعرفة ممكنة وأن الحقيقة يمكن الوصول إليها، ولكنها معرفة إنسانية وحقيقة غير مطلقة (لأن المعرفة المطلقة تقع خارج نسق التاريخ الإنساني ـ وعند الإله وحده وهو مفارق للمادة وإن كان يُسبِغ عليها المعنى والاتجاه)، فهو نمـوذج يَقنَع بتناول ما يمكن أن يُعرَف وحسـب دون أن يصـاب باليأس بسبب المجهول وما لا يمكنه معرفته، فالمسافات سمة بنيوية فيه. إن النموذج المركب أقرب إلى الصورة المجازية منه إلى القانون، وهي صورة مجازية لا تتشيأ ولا تُشيئ لأن مركز الكون لا يتجسد فتظل هناك مسافة بين الدال والمدلول.
ساجدة لله
2010-10-23, 06:11 AM
ومن هذه النقطة يمكن أن نطرح فكرة النظرية الكبرى الحاكمة (بالإنجليزية: جراند ثيري grand theory). ونحن نذهب إلى أن التخلي عن محاولة الوصول إلى نظرية حاكمة كبرى (رؤية للكون وللأمور المعرفية الكلية والنهائية) أمر غير ممكن. فالواقع قد ينقسم إلى مجموعة من القصص الصغرى (على حد قول أنصار ما بعد الحداثة) ولكن هناك داخل كل قصة ـ مهما بلغت من صغر ـ قصة كبرى، وهذا ما نعبِّر عنه بقولنا "إن ثمة نموذجاً ما كامناً وراء كل الظواهر". وهذا أيضاً ما يُقال له «حتمية الميتافيزيقا». وإن لم يطور الإنسان نظرية كبرى، فإنه سيقع فريسة النظرية الكبرى للآخر وضحية لما يُسمَّى «إمبريالية المقولات»، أي أن يستورد الإنسان المقولات التفسيرية الكبرى من الآخر، ويقصر جهده البحثي والمعرفي على مراكمة المعلومات من خلال المقولات الجاهزة التي اسـتوردها. وداخـل إطار النموذج الفضفاض وفكرة الاجتهاد، سنحاول الوصول إلى نظرية شاملة كاملة، ولكننا نعرف أننا لن نصل إلى اليقين المطلق أو التفسير النهائي، فنظريتنا لن تكون نظرية شاملة كاملة (جراند ثيري) وإنما «ريلاتيفلي جراند ثيري relatively grand theory»، أي "نظرية كبرى وشاملة إلى حدٍّ ما" أو داخل حدود ما هو ممكن إنسانياً. ومثل هذه المحاولة لا يمكن أن تتم في إطار كموني مادي واحدي يرى أن كل القوانين كامنة في المادة؛ إطار يُلغي ثنائية الإنسان والطبيعة ويتأرجح بين الموضوعية الكاملة والذاتية الكاملة.
وكما تُصاغ النماذج عادةً، يمكن أيضاً صياغة النماذج المركبة من خلال عملية تفكيك وتركيب:
1 ـ تُفصَل الوقائع والتفاصيل التي تستخدمها النماذج الاختزالية (العلمية أو التآمرية) عن هذه النماذج أو أي نماذج مسبقة بقدر الإمكان.
2 ـ تُوضَع الوقائع والتفاصيل في سياق إنساني (تاريخي واجتماعي) عريض، أي تتم استعادة البُعد التاريخي والمنظور المقارن (وهو الأمر الذي تحرص على استبعاده الكتابات الصهيونية والمعادية لليهود والكتابات العلمية الاختزالية).
3 ـ تُربَط الأجزاء والتفاصيل والحقائق بالكليات التاريخية والاجتماعية داخل أنماط.
4 ـ تُضَم وقائع ومعلومات كان قد تم استبعادها من منظور النماذج الاختزالية القائمة، ويتم توسيع وتعميق الأنماط.
وبذلك يمكن إظهار عجز النموذج الاختزالي عن تفسير كثير من المتغيرات وعناصر الواقع، كما يمكن البرهنة على مقدرة النموذج المركب على إنجاز ما عجز عنه النموذج الاختزالي، إذ تكتسب الوقائع معنى جديداً ويصبح بالإمكان تفسيرها بطريقة أكثر تركيباً وإنسانية.
واستخدام النماذج المركبة له نتائجه العملية والمعرفية والأخلاقية الكثيرة. وقد بيَّنا مواطن القصور الناجمة عن استخدام النماذج الاختزالية في دراسة الجماعات اليهودية، ويمكننا أن نبيِّن في هذا المدخل النتائج الإيجابية (العلمية والمعرفية والأخلاقية) لاستخدام النماذج المركبة في نفس المجال.
Powered by vBulletin® Version 4.2.0 Copyright © 2024 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved, TranZ by Almuhajir