مشاهدة النسخة كاملة : اليهود واليهودية والصهيونية والصهاينة الجزء الأول
ساجدة لله
2010-10-23, 06:36 AM
ورغم أن مفكري مدرسة فرانكفورت لم يصرحوا بهذا، فيمكن القول بأن الحقيقة الكلية التي يتحدثون عنها هي حقيقة ثابتة، وأن الغاية الإنسانية التي يتحدثون عنها هي غاية نهائية، فكأنهم يعارضون ما هو ثابت ونهائي وكامن ويضعونه مقابل ما هو متغيِّر وآلي وظاهر. ورغم حديثهم الدائم عن المادية والتاريخية، فهم أكثر تركيباً من ذلك. فالكل الاجتماعي الذي يتحدثون عنه والإمكانية الإنسانية الكامنة التي يتعرفون عليها والكل الإنساني الذي لا يمكن فهمه إلا من منظور الغائية الإنسانية الكامنة فيه، هذه كلها ليست مفاهيم علمية مادية وإنما هي مفاهيم فلسفية متجاوزة لعالم الطبيعة/المادة. لكل هذا، يُطلَق على مدرسة فرانكفورت اصطلاح «إنسانية (هيومانية) ميتافيزيقية»، أي أن مقولة الإنسان تصبح مقولة متجاوزة لقوانين الطبيعة/المادة. وانطلاقاً من هذا، فإن مفكري مدرسة فرانكفورت يذهبون إلى أن آلية الخلاص ليست الطبقة العاملة وإنما المثقفون القادرون على التعرف على الإمكانيات الكامنة في الإنسان وعلى رؤية الماضي والحاضر والمستقبل، ثم يضيفون إلى المثقفين "أكثر العناصر تطوراً في الطبقة العاملة" (أي أكثر العناصر اقتراباً من المثقفين؟).
ويظهر التحليل الفلسفي مقابل التحليل العلمي المادي في رؤيتهم لليبرالية وعلاقتها بالفاشية. فالليبرالية، ابنة عصر الاستنارة، تدور حول المصلحة الآنية والعقل الذاتي (الأداتي) ويتم التناسق في المجتمع من خلال اليد الخفية التي لا يتحكم فيها أحد، والتي تتجلى بشكل متبلور في السوق وآليات العرض والطلب والبيع والشراء، أي أن ثمة غياباً كاملاً لأي إدراك للإمكانيات الإنسانية الكامنة وللغائية الإنسانية. ولذا، فإن العلوم الطبيعية والحسابات الكمية الصارمة تسيطر دون اعتبار لما هو إنساني. وحينما يدخل المجتمع الليبرالي مرحلة الأزمة، تحل الدولة محل اليد الخفية وتستمر في إدارة المجتمع بنفس الطريقة دون أي اعتبار لأية غائية إنسانية، ويسيطر العقل الأداتي تماماً. فآليات السوق ليست السبب في تَحوُّل الليبرالية إلى فاشية، ولكن السبب الحقيقي هو هيمنة العلوم الطبيعية والمنطق الكمي. وبهذا المعنى، فإن الفاشية كامنة في الليبرالية وكلاهما كامن في فكر حركة الاستنارة.
ساجدة لله
2010-10-23, 06:36 AM
كل الأمور نسبيــة
«كل الأمور نسبية» ترجمة للعبارة الإنجليزية «أول ثنجز آر ريلاتيف all things are relative» وهي عبارة أساسية في الخطاب العلماني سواء في الشرق أو في الغرب، لا يدرك كثيرون تضميناتها المعرفية والأخلاقية. وهي تعني عدم وجود مطلقات ثابتة أو متجاوزة للعالم الطبيعي المادي (فهي الحياة الدنيا ليس إلا) ومن ثم لا يمكن الوصول إلى أي يقين معرفي، فالحقيقة نسبية. ومع غياب الحقيقة لا يمكن أن يكون هناك حق ولا يمكن التوصل إلى أية قيم أخلاقية فكل القيم الأخلاقية نسبية، وهذا يعني في واقع الأمر غياب المعيارية واختفاء أية إنسانية مشتركة ومن ثم سقوط مفهوم الإنسانية نفسه، إذ كيف يمكن أن يكون هناك مفهوم للإنسان دون أية معيارية معرفية أو أخلاقية؟ وكل هذا يعني نزع القداسة عن الأشياء كافة وتَساوي الإنسان بكل الكائنات وألا تكون له أية مكانة خاصة في الكون، أي أن يصبح الإنسان شيئاً ضمن الأشياء، تسري عليه القوانين الطبيعية/المادية، وتهيمن عليه الواحدية المادية.
فى التحليل الأخير، وفى نهاية الأمر والمطاف، إن هو إلا
«في التحليل الأخير، وفي نهاية الأمر والمطاف، إن هو إلا» ترجمة للعبارة الإنجليزية «إن ذي لاست أناليسيس، إت إز ناثنج بات in the last analysis, it is nothing but» وهي عبارة تَرد في الخطاب العلماني الاشتراكي أو الرأسمالي، وإن كانت أكثر شيوعاً في الخطاب الاشتراكي. وهي تعني أن الظواهر مهما بلغت (ومنها الظواهر الإنسانية) من تركيب وتشابك فيمكن أن تُرَدَّ (في التحليل الأخير وفي نهاية الأمر والمطاف) إلى ما هو دونها. وتستمر عملية الرد حتى نصل إلى المبدأ الواحد: الطبيعة/المادة الذي يحوي داخله مصدر التماسك والحركة للنسق، فيُرَدُّ البناء الفوقي بكل ما فيه من أفكار وطموحات إنسانية وحلم بالتجاوز إلى البناء التحتي المادي أو أيٍّ من المطلقات العلمانية المادية الطبيعية (الخصائص البيولوجية ـ الصفات الوراثية ـ البيئة الاجتماعية ـ شهوة التملك ـ إرادة القوة). قد يختلف مضامين البنية الفوقية وتتنوع ولكن البنية التحتية المادية الواحدية تظل هي الأصل، ومن ثم يمكن القول بأن الإنسان وكل منتجاته الحضارية «إن هو إلا مادة»، وهذه هي نفسها عملية التفكيك.
ورغم أن الخطاب الليبرالي أكثر صقلاً على مستوى القول، إلا أنه على مستوى البنية الفعلية يدور في نفس الإطار، فالمفهوم النفعي للأخلاق ونماذج التنمية التي تصدر عن رؤية اقتصادية محضة وتأكيد الملكية الشخصية وتصوُّر أن آليات السوق (اليد الخفية) هي التي تأتي بالتناسق للمجتمع من تلقاء نفسها هي جميعاً مفاهيم تدل على أن كل ما هو إنساني يُرَدُّ في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير إلى المادة، فكل ما هو إنساني إن هو إلا مادي.
ساجدة لله
2010-10-23, 06:37 AM
الترشيد فى إطار العلمانية الشاملة (العقلانية التكنولوجية أو المادية(
من المفاهيم الأساسية التي استُخدمت لدراسة المجتمعات الحديثة مفهوم الترشيد. وكلمة «يُرشِّد» لها عدة معان:
1 ـ يُسوِّغ أو يُبرِّر، بمعنى: يُفسِّر المرء سلوكه بأسباب معقولة أو مقبولة ولكنها غير صحيحة.
2 ـ ومن المعاني الأخرى المتواترة لكلمة «يُرشِّد»: يُوظِّف الوسائل بأكثر الطرق كفاءة لخدمة أهداف معينة.
وهذان المعنيان للكلمة ينصرفان إلى الوسائل وحسب. ولكن هناك معنيين آخرين يؤكدان أن الترشيد ليس مسألة خاصة بالوسائل وحسب، بل تخص الموضوع أيضاً:
3 ـ يستعيض عن التفسير الغيبي لشيء ما بتفسير طبيعي (مطابق للمبادئ العقلية ولقوانين الطبيعة/المادة(.
4 ـ يجعل الشيء مطابقاً للمبادئ العقلية والمادية.
وقد ميَّز ماكس فيبر بين نوعين من الترشيد:
1 ـ «فيرت راتيونيل wertrationell»، وتُترجَم إلى عبارة «رشيد في علاقته بالقيم» (أو «الترشيد المضموني»)، وهو يعادل (تقريباً) «الترشيد التقليدي» الذي يعني ألا يتعامل المرء مع الواقع بشكل ارتجالي وجزئي وإنما يتعامل معه بشكل منهجي متكامل، ومتسق مع مجموعة من القـيم الأخلاقية المطلقة والتـصورات المرجعية المـسبقة التي يؤمن بها. وعملية بناء الهرم الأكبر والفتح الإسلامي من العمليات التي لا يمكن إنجازها إلا من خلال هذا النوع من الترشيد.
2 ـ «زفيك راتيونيل zweckrationnel»، وتُترجَم إلى عبارة «رشيد في علاقته بالأهداف» (أو «الترشيد الشكلي أو الإجرائي» أو «الترشيد الأداتي»)، وهو الترشيد (المادي) الحديث المتحرر من القيم، والموجَّه نحو أي هدف يحدده الإنسان بالطريقة التي تروق له أو حسبما تمليه رغباته أو مصلحته. والترشيد الشكلي يتعلق بالكفاءة التكنولوجية وتوفير أفضل الوسائل والتقنيات لتحقيق الأهداف (أية أهداف) بأقل تكلفة ممكنة وفي أقصر وقت ممكن، وكلما كانت الوسائل أكثر فعالية كان الفعل أكثر رشداً من الناحية الشكلية أو الإجرائية. فالترشيد التقليدي (المضموني) يتم في إطار المطلق الديني أو الأخلاقي أو الإنساني والمرجعية المتجاوزة، أما الترشيد الحديث (الشكلي) فهو متحرر من القيمة (الدينية والأخلاقية والإنسانية) ويدور في إطار المرجعية المادية الكامنة، فلا علاقة له بأي مطلق. وهو منفصل عن الأهداف والمشاعر والغائيات الإنسانية (خيِّرة كانت أم شريرة(.
ولكن هذا ادعاء أيديولوجي ليس له ما يسانده، فثمة منظومة أيديولوجية (معرفية وأخلاقية) كاملة تتم في إطارها أية عملية من عمليات الترشيد. وفي حالة الترشيد الذي يدَّعي التجرد من القيمة فإنه عادةً ما يفترض الطبيعة/المادة مرجعية نهائية له.
ساجدة لله
2010-10-23, 06:37 AM
ويمكن القول بأن الترشيد المادي يتم في خطوتين:
1 ـ سحب الأشياء من عالم الإنسان ووضعها في عالم مستقل يُسمَّى عالم الأشياء المادية: الاقتصادية ـ السياسية ـ السلع (ترشيد البنية المادية والاجتماعية(.
2 ـ ولكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد إذ يتم سحب الإنسان ذاته من عالم الإنسان ووضعه هو الآخر في عالم الأشياء. ثم يسود منطق الأشياء على كل من الأشياء والإنسان، ويسري قانون طبيعي مادي واحد على الإنسان والطبيعة (ترشيد الإنسان). (وهـذا هو التَشيُّؤ الذي تشـير إليه بعـض الأدبيات الغـربية التي تتناول ظاهرة التحديث، ولكن هذا هو أيضاً من أشكال العلمانية الشاملة(.
ويمكن أن نتناول هذه العملية بشيء من التفصيل ولنبدأ بترشيد المجتمع الإنساني في الإطار المادي. يمكن القول بأن الترشيد المجرد من القيمة هو في واقع الأمر إعادة صياغة للمجتمع ككل عن طريق تفكيكه واستبعاد سائر العناصر المركبة التي تستعصي على القياس (العناصر الإنسانية أو الربانية) التي يتركب منها، وإعادة تركيبه على هدي المعايير العقلية والعلمية الواحدية المادية، ومن ثم يتوافق هذا الواقع الاجتماعي مع القوانين العلمية الواحدية الصارمة ويخضع للاختبارت والإجراءات الكمية وللقياس، فهو يمحو سائر الثنائيات الفضفاضة (التي تفترض وجود أكثر من جوهر وأكثر من قانون) ويستبعد كل الخصوصيات والمنحنيات الخاصة للظاهرة (التي تتحدى القانون العام) ويرفض كل المطلقات (التي تشكل تجاوزاً للقانون المادي الواحد العام وخرقاً له وتشكل عدم استمرار في الكون) وينكر كل المعايير الأخلاقية الثابتة (فهي خارجة عن الظاهرة المادية موضع الدراسة) ويتعامل مع المحدود ومع ما يُقاس (فاللامحدود وغير المقيس لا يمكن تطبيق النماذج الكمية عليه).
ثم يتم الشيء نفسه على مستوى الإنسان الفرد، باطنه وظاهره، فالعقل الإنساني هو الذي يقوم بعملية التفكيك والتركيب إلا أنه عقل مادي مرجعيته هي الطبيعة/المادة. ولذا قد تبدأ عملية الترشيد في إطار الطبيعة/المادة بتأكيد العقل، ولكن مع تَزايُد هيمنة المرجعية الموضوعية المادية واختفاء المرجعية الإنسانية تماماً، يختفي العقل وتظهر مرجعيات مادية عديدة متساوية متصارعة. فكل مجال من مجالات النشاط الإنساني يصبح مرجعية ذاته، له قيمه المستقلة الذاتية ومنطقه الداخلي المتميِّز، ويصعب على المرء تمييز أي مبدأ واحد أو مجموعة من المبادئ ذات المقدرة التوحيدية التي بوسعها تزويد الإنسان برؤية متكاملة. وبالتالي، تَبعُد دوائر النشاط الإنساني بعضها عن بعض، حيث يصبح لكل منها مركزها ومعياريتها ومرجعيتها، فيختفي المركز ويظهر عالم بلا مركز ولا معايير ولا مرجعية. وهنا تستقل قواعد الترشيد عن الإنسان، وتصبح مرجعية ذاتها وتتحول الوسائل إلى غايات، ويتم الترشيد في إطار مجموعة من القيم النسبية المتغيرة لا يُوجَد فيها مطلق، أو تُوجَد فيها مطلقات غير إنسانية (تنويع على الطبيعة/المادة) وبذلك تتحول عملية الترشيد وتفقد أية مرجعية ويصبح الترشـيد هو أن يركز الإنسـان تماماً على الإجراءات (كيف يُنجز هـذا؟) وأن يُسقط الأهداف (لماذا يُنجز هذا؟(.
ساجدة لله
2010-10-23, 06:37 AM
وتنتقل عملية الترشيد المادية من المجتمع وظاهر الإنسان الفرد إلى باطنه، أي تُطبَّق عليه هو الآخر الواحدية المادية فتستبعد أية خصوصية أو تركيبية أو عناصر إنسانية (غير طبيعية/مادية) متميِّزة عن حركة الطبيعة/المادة ولذا تؤدي عملية الترشيد إلى أن يُحيِّد الإنسان نفسه ويُسكت أية تساؤلات أخلاقية تتصل بالخير والشر، وما هو مشروع أو غير مشروع. ونظراً لانشغال الإنسان بالإجراءات فهو لا يُعمل ضميره بل حتى عقله (أي أن عملية الترشيد تؤدي إلى فقدان الإنسان لرشده!(.
إن الترشـيد الإجـرائي يفترض عالماً مادياً تماماً الإنسان فيه مادة سلبية تكاد تكون ميتة، مفعولاً به وليس فاعلاً، (ولذا فنحن نسمي هذا النوع من الترشيد «تدجيناً»)، ونظراً لأن الترشيد ليس له أية غائيات إنسانية فإن الإنسان يدرك بالتدريج أنه أصبح مجرد وسيلة بعد أن كان غاية، وأن عقله عقل أداتي إجرائي، عالم تكون فيه قوانين اللعبة (أو أخلاقيات الصيرورة) أكثر أهمية من نوع اللعبة أو الهدف منها (وهذا النوع من الترشيد هو الذي سيُهيمن على عصر ما بعد الحداثة واختفاء المركز(.
في هذا الإطار أصبحت الطبيعة غير الواعية هي المرجعية والمركز، فانفصلت النزعة التجريبية (التي مركزها المادة) عن النزعة العقلية الإنسانية (التي مركزها الإنسان) إلى أن تحررت تماماً منها، وحقق العلم الغربي انتصاراته الضخمة بسبب حياده وموضوعيته الرهيبة، وانفصاله عن القيم، وهو ما يعني في واقع الأمر تَجاهُل الإنسان وغائياته وقيمه ومثالياته ومطلقاته وتبني مُثُل النفعية الداروينية. ولعل مصطلح «العقلانية التكنولوجية أو المادية» يصف إلى حد ما ما نحاول الإفصاح عنه. وقد طرح العلم نفسه باعتباره القادر على الإتيان بالحلول العلمية الأكيدة لكل المشاكل المادية وغير المادية (وهي غير مادية بشكل ظاهر وحسب، فكل شيء في نهاية الأمر مادي). وادعى العلم أنه مصدر القيمة وأنه القادر على تزويد الإنسان بالرؤية السليمة للأشياء، وأنه سيحقق للإنسان السعادة والخلاص والتحكم الكامل في الطبيعة وتسخيرها لصالحه بل هزيمتها تماماً . ولكن كل هذا لن يتحقق إلا إذا قَبل الإنسان العلم هادياً ومرشداً ودليلاً، وسلم له أمره وتبنى منهجه ومعاييره وقيمه وغائياته وطبَّقه على واقعه بشكل منهجي متكامل وتخلَّى عن أية غائيات إنسانية أو تساؤلات أو محاولات للتجاوز، ومن هنا تم تهميش العقل البشري. وبدلاً من أن يحاول الإنسان تَجاوز ذاته الطبيعية والطبيعة المادية، أصبحت مهمته أن يتبعها، وأن يعيد صياغة الواقع الإنساني حسب قوانين الطبيعة/المادة التي يتلقاها جاهزة من العلم والعلماء. وتم تحييد الإنسان وتدريبه على قبول المبادئ العامة المجردة المتجاوزة للإنسان دون تساؤل، ومن ذلك المبادئ العلمية وغيرها من المجردات، بحيث يخضع العقل تماماً لمنطق الأشياء ويرى أن لكل شيء منطقه ومرجعيته الذاتية التي تتفق مع المرجعية المادية العامة، التي تَجبُّ سائر المرجعيات، ومنها المرجعية الإنسانية نفسها. ولا يمكن للإنسان أن يحقق لنفسه قدراً من الحرية إلا من خلال الخضوع لهذه المرجعية الموضوعية المادية (وهذا ما افترضه إسبينوزا من البداية من خلال عالمه الهندسي المحايد وافترضه من بعده داروين والماركسيون والوضعيون المنطقيون(.
ساجدة لله
2010-10-23, 06:37 AM
ويرى ماكس فيبر أن ثمة عناصر فريدة داخل الحضارة الغربية (غائبة في الحضارات الأخرى) جعلتها تتجه نحو مزيد من الترشيد، وأن هذا الاتجاه هو السمة الأساسية لهذه الحضارة، وما يُميِّزها عن غيرها من الحضارات. ويُعرِّف فيبر عملية الترشيد المادي المستمرة بأنها عملية تنميط وفرض النماذج الكمية والبيروقراطية على الواقع (المادي والإنساني) حتى يمكن توظيفه، وهي عملية ستزداد وتائرها إلى أن يصل الترشيد إلى قمته الشاملة الإمبريالية فتتم السيطرة على كل جوانب الحياة ويتحكم الإنسان في الواقع وفي نفسه، ويتحول المجتمع إلى آلة بشرية ضخمة (ولذا يُعرِّف فيبر الترشيد بأنه تَحوُّل المجتمع بأسره إلى حالة المصنع، وهذه هي لحظة نهاية التاريخ والفردوس الأرضي). وهذه الآلة تجبر الأفراد على أن يشغلوا أماكن محدَّدة لهم ومقررة مسبقاً، ويقوموا بأدوار مرسومة. وهذه البيئة الآلية ستزيد ولا شك الفعالية الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع زيادة كبيرة، ولكنها تهدد الحرية الفردية وتُحوِّل المجتمع إلى «قفص حديدي»، وخصوصاً أن الفرد في المجتمع الحديث هو فرد مفتقد للمعنى، ومن ثم فهو شخصية هشة من الداخل لا تشعر بالأمن ولا بالمقدرة على التجاوز، فهي لا تقف على أرضية صلبة من المعنى. (وقد وردت عبارة «القفص الحديدي» بأشكال أخرى في كتابات جورج لوكاتش وجورج زيميل. كما أن صورة العالم كقفص حديدي صورة متواترة في الأدب الحداثي(
ويرى مفكرو مدرسة فرانكفورت أن تَصاعُد معدلات الترشيد في المجتمع أدى إلى اختفاء الفرد والقيم الثقافية والروحية والعقل النقدي القادر على التجاوز حتى أصبح الإنسان كائناً ذا بُعد واحد (هربرت ماركوز) يرتبط وجوده بالاستهلاك والسلع (فهو إنسان مُتسلِّع مُتشيِّئ). عقله أداتي، ينشغل بالوصف والرصد وإدراك الآليات، عاجز تماماً عن إدراك الأغراض النهائية. أما هوركهايمر وأدورنو، فقد ذهبا في كتابهما ديالكتيك الاستنارة إلى أن الترشيد المتزايد للعلاقات الاجتماعية في العصر الحديث قد أدى إلى تناقص استقلال الفرد وإلى تنميط الحياة. وأدى، في نهاية الأمر إلى الشمولية والعنصرية وإلى الواقع المتمثل في أن الرأسمالية ترجمت مُثُل الاستنارة إلى واقع معسكرات الاعتقال، المنضبط والتي تمت فيها الهيمنة الكاملة على الإنسان.
ويرى أدورنو أن الترشيد كان من المفروض أن يؤدي إلى الحرية والعدالة والسعادة ولكنه أدَّى إلى نتيجتين متناقضتين (انعتاق الإنسان من أسر الضرورة المادية، وتَسلُّعه وتَشيُّئه في الوقت نفسه). بل إن العقل نفسه (أداة الترشيد) تحوَّل إلى قوة غير عقلانية وغير رشيدة تسيطر على كلٍّ من الطبيعة والإنسان، أي أن ترشيد الحياة الاجتماعية أدَّى إلى نفي الحرية تماماً، كما يتبدَّى ذلك في قوى التسلط الرشيدة الحديثة.
ساجدة لله
2010-10-23, 06:37 AM
ويرى هابرماس أن الحضارة الحديثة تتسم بالتركيز الشديد على التكنولوجيا (كأداة للتحكم) بدلاً من التركيز على الهرمنيوطيقا أو التفسير، وتوسيع نطاق التفاهم والتواصل بين الناس. لكل هذا، تم تهميش الاتجاهات التأملية والنقدية والجمالية في النفس البشرية. ولهذا يرى هابرماس أن هذا التركيز الأحادي (الذي هو في جوهره سيادة العقل الأداتي والواحدية الموضوعية المادية) يعني أن الإنسان لا يستخدم كل إمكانياته الإنسانية (النقدية والجمالية... إلخ) في تنظيم المجتمع، ويركز على الترشيد على هدي متطلبات النظم الإدارية الاقتصادية والسياسية التي يُفترض فيها أنها ستزيد تحكمه في الواقع. ويؤدي كل هذا بالطبع إلى ضمور حياة الإنسان ويصبح الترشيد هو «استعمار عالم الحياة»، على حد قول هابرماس.
ومؤخراً أشار المؤلف المسرحي (رئيس جمهورية التشيك) فاكيلاف هافل إلى ما سماه «إسكاتولوجيا اللاشخصي»، وهو اتجاه نحو ظهور القوى اللاشخصية والحكم من خلال آليات ضخمة مثل المشروعات الضخمة والحكومات التي لا وجه لها والتي تفلت من التحكم الإنساني وتشكل تهديداً كبيراً لعالمنا الحديث. ويبيِّن هافل أنه لا يوجد فارق جوهري بين شركات كبيرة مثل شل وآي. بي. إم. والشركات الاشتراكية الكبرى، فكلها آلات ضخمة يتزايد غياب البُعد الإنساني منها. ولذلك، تصبح مسألة طابع الملكية هنا (أي ما إذا كانت فردية أم اجتماعية، رأسمالية أم اشتراكية) إشكالية غير ذات موضوع.
وحينما سُئل هـافل عن الأسـباب التي أدَّت إلى هذا الوضع أجاب قائلاً: "هذا الوضع له علاقة ما بأننا نعيش في أول حضارة ملحدة في التاريخ البشـري. فلم يعـد الناس يحترمون ما يُدعَى القيم الميتافيزيقية العليا، والتي تمثل شيئاً أعلى مرتبة منهم، شيئاً مفعماً بالأسرار. وأنا لا أتحدث هنا بالضرورة عن إله شخصي، إذ أنني أشير إلى أي شيء مطلق ومتجاوز. هذه الاعتبارات الأساسية كانت تمثل دعامة للناس، وأفقاً لهم، ولكنها فُقدت الآن. وتكمن المفارقة، في أننا بفقداننا إياها نفقد سيطرتنا على المدنية، التي أصبحت تسير بدون تحكُّم من جانبنا. فحينما أعلنت الإنسانية أنها حاكم العالم الأعلى، في هذه اللحظة نفسها، بدأ العالم يفقد بُعده الإنساني".
ساجدة لله
2010-10-23, 06:38 AM
الحوسلـــة
نستخدم في هذه الموسوعة اللفظة المنحوتة «حوسل» اختصاراً لعبارة «تحويل الشيء إلى وسيلة» (بالإنجليزية: إنسترومنتاليزيشن instrumentalization). والنحت هو اشتقاق كلمة من كلمتين أو أكثر على أن يكون هناك تناسب في اللفظ والمعنى بين المنحوت له والمنحوت منه. وقد أجازت المجامع اللغوية في الوطن العربي النحت عندما تُلجئ الضرورة إليه، وقد وجدنا أن من الضروري نحت كلمة «حوسلة» لدواعي الإيجاز اللغوي، ذلك لأن عبارة «تحويل كذا إلى وسيلة» عبارة طويلة ولا يمكن توليد مصطلحات منها. و«حوسل» فعل متعدٍ بمعنى «حوَّل الشيء أو الإنسان إلى وسيلة»، ومنها «الحوسلة»، على غرار «بَسْمَلَ» و«بسملة» من «بسم الله الرحمن الرحيم»، و «حَوقَل» و«حَوقَلة» من «لاحول ولا قوة إلا بالله» و«حَمَدل» و«الحمدلة» من «الحمد لله». وفي كتب الفقه الإسلامي أنه يجب ترديد كلمات الأذان كما هي «إلا في الحيعلتين فيُحوقل»، و«الحيلعتان» هما العبارتان «حي على الصلاة» و«حي على الفلاح». ومن الأمثلة الأخرى التي شاعت، اصطلاح «البرمائي» من «البر والماء». وكذلك نقول «تَحوّسَل الشيء» أي «تَحوَّل إلى وسيلة»، وهو مطاوع «حَوسَل»، ومنها «التَحوسُل».
والحوسلة مرتبطة تماماً بالواحدية المادية، والترشيد (الإجرائي) وبالعقل الأداتي والعقلانية المادية والرؤية العلمانية المادية. فالواحدية المادية تَرُدُّ العالم بأسره إلى مبدأ واحد هو الطبيعة/المادة وتراه في إطار المرجعية المادية الكامنة، والترشيد هو إعادة صياغة الواقع في هدي القانون الطبيعي/المادي ثم إدارته انطلاقاً من هذا المبدأ الواحد. والرؤية العلمانية المادية هي أيضاً رؤية تَرُدُّ العالم إلى مبدأ واحد، وترى الإنسان والطبيعة باعتبارهما مجرد مادة استعمالية يمكن توظيفها في أي هدف أو غرض يحدده الإنسان (صاحب القوة) وهذه هي الحوسلة. والحوسلة تصف العلاقة بين المجتمع المضيف والجماعة الوظيفية وبين المواطن والدولة العلمانية المطلقة.
ساجدة لله
2010-10-23, 06:38 AM
التعــاقديــة
نسبة إلى «عقد»، والتعاقدية هي ترجمة لكلمة «كونتراكتواليزيشن contractualization» أي أن تتحول العلاقات بين البشر من علاقات إنسانية تراحمية لا تخضع تماماً لحسابات الربح والخسارة، ولذا تتسم بالإبهام، إلى علاقات تعاقدية مضبوطة، أو خاضعة للتفاوض. وهذا ناجم عن أن العالم بأسره يصبح أشبه بالسوق والمصنع منضبطاً مثلهما تماماً، وخال مثلهما من الخصوصيات والمطلقات. وهيمنة العلاقات التعاقدية الباردة في المجتمع هي عملية «تهويد» للمجتمع.
الجماعة التراحمية العضوية والمجتمع التعاقدى
«الجماعة العضوية التراحمية أو التكافلية» و«المجتمع التعاقدي» مصطلحان من وضع عالم الاجتماع الألماني فردناند تونيس (1855 ـ 1936). وقد وضع كتاباً بعنوان جماينشافت أوند جيسيلشافت Gemeineschaft und Gessellschaft وتُرجمت الكلمة الأولى (جماينشافت) إلى الإنجليزية بكلمة «كوميونتي community»، أي «جماعة»، أما الكلمة الثانية (جيسيلشافت) فُترجمت بكلمة «سوسايتس society» أي «مجتمع» وأحياناً «أسوسيشن association» أي «رابطة». ونحن نترجم الكلمة الأولى إلى العربية بعبارة «الجماعة التراحمية العضوية» أو «الجماعة التكافلية» (ويمكن أن نضيف «المترابطة التقليدية» لزيادة الإيضاح). أما الكلمة الثانية فنترجمها بعبارة «المجتمع التعاقدي» (ويمكن أن نضيف عبارة «الذري الحديث» لزيادة الإيضاح أيضاً).
وكلٌّ من الجماعة العضوية والمجتمع التعاقدي نماذج مثالية ذات قيمة تحليلية لدراسة البناء الاجتماعي، وهي نماذج لا تتحقق بصورة كاملة في الواقع.
وفي مجال مقارنة الجماعة العضوية (أ) بالمجتمع التعاقدي (ب)، يمكننا أن نشير إلى بعض المفاهيم المحورية لكلٍّ منهما، وإن كانت السمة الأساسية للمجتمع التراحمي هي أن الإنساني يسبق الطبيعي، ففي المجتمع التعاقدي فإن الطبيعي يسبق الإنساني.
1ـأ) الكل الاجتماعي موجود قبل الفرد (أسبقية الكل على الجزء).
ب) الفرد موجود قبل الكل الاجتماعي (أسبقية الجزء على الكل(.
2ـأ) الكل الاجتماعي عبارة عن تركيب بسيط وُجد بشكل تلقائي عضوي تاريخي وتتسم عناصره بالتجانس.
ب) الكل الاجتماعي عبارة عن تركيب صناعي مُعقَّد لم يُوجَد بشكل تلقائي وإنما بشكل تعاقدي واع يتكون من وحدات كثيرة وعناصر ليست بالضرورة متجانسة.
3ـأ) يُولَد الفرد فيجد الروابط الاجتماعية العضوية قائمة مستقرة فلا يملك إلا أن يقبلها، فهي ليست ثمرة إرادته وليست نتيجة تعاقد بينه وبين بقية أعضاء المجتمع. فالمجتمع مُعطَى تاريخي عضوي.
ب) الروابط الاجتماعية نتيجة دخول الأفراد في علاقات إرادية تعاقدية (عقد اجتماعي يقررون بموجبه تأسيس المجتمع) ومن ثم يمكنهم رفض العقد في أية لحظة ويمكنهم إخضاع أي شيء للنقاش والتفاوض. فالمجتمع هو إذن عملية تعاقدية آلية.
4ـأ) تقوم مؤسسات الجماعة التراحمية العضوية (التي قامت بشكل تلقائي عضوي) بتشكيل الأفراد وتنشئتهم وترويضهم وفقاً لرؤية تفترض أسبقية الكل العضوي على الجزء.
ب) يتم بناء المؤسسات والمنظمات المختلفة بشكل إرادي واع، وهي مؤسسات تحكمها الرؤية التعاقدية وتقوم بتنشئة الأطفال وترويض الأفراد في ضوء هذه الرؤية.
5ـأ) العلاقات الاجتماعية علاقات مباشرة أولية بين أفراد دون وساطات، وهي علاقات تراحم دافئة تسودها روح التضامن والمشاركة والتعاون التلقائي، وهي تستند إلى الإيمان بمنظومة دينية مشتركة وأعراف اجتماعية.
ب) العلاقات الاجتماعية علاقات غير مباشرة (ثانوية) تتم من خلال وسائط معينة، وهي علاقات تستند إلى علاقات تعاقد قائمة على الحذر والمنفعة الخاصة وإخضاع السلوك لقوة القانون.
6ـأ) من أهم الأمثلة على الجـماعة التراحـمية التكافلية العضوية ما يلي: الأسرة الممتدة ـ العشائر ـ البطون ـ القرى ـ المجتمعات الصغيرة ـ الطرق الصوفية. ويمكن أن نضيف إليها الجماعات الوظيفية حينما تنظر إلى نفسها من الداخل.
ب) أهم مثال على المجتمع التعاقدي هو المجتمعات الحديثة، وخصوصاً في المدن الكبرى، ويمكن أن نضيف إليها الجماعات الوظيفية حينما يَنظُر إليها المجتمع وحينما تَنظُر إلى نفسها من الخارج.
ساجدة لله
2010-10-23, 06:38 AM
وقد طوَّر تونيز هذا المفهوم فقدَّم إطاراً تصنيفياً وتفسـيرياً جيداً لشـكلين من أشـكال الاجتماع الإنساني، ويعود اهتمامه بهما إلى أنهما يصفان عناصر مهمة في كلٍّ من المجتمع التقليدي (الجماعة العضوية) والمجتمع الحديث (المجتمع التعاقدي(.
والتمييز بين الجماعة التراحمية العضوية والمجتمع التعاقدي هو تمييز له جانبان؛ أحدهما معرفي وأخلاقي ينصرف إلى رؤية الإنسان وطريقة إدراك الكون، والآخر سياسي واقتصادي واجتماعي ينصرف إلى طريقة تنظيم المجتمع. والجانبان هما تعبير عن نفس الفكرة الواحدة في مجالين مختلفين. ومن الواضح أن من استخدموا هاتين الفكرتين، كأداة تحليلية، كانوا يفضلون الجماعة المترابطة التي ينتمي إليها المواطن الذي يصبح جزءاً من كل يفقد ذاته فيه بحيث تختفي مصلحته الشخصية الأنانية الضيقة وتحل محلها مصلحة الدولة أو الجماعة، ولا يصبح له وجود خارجها. ونظراً للارتباط العضوي للإنسان بجماعته، وتَطابُق مصلحة الفرد مع مصلحة الجماعة، فإن الجماعة تعبِّر عن جوهر الإنسان بدلاً من أن تشكل اغتراباً عنه. والقانون البشري لا يشكل في هذه الحالة حدوداً على الإنسان أو قيداً، ولا يتعارض مع إدراكه لنفسه، وإنما يعبِّر عن جوهره ويحقق إمكاناته الكامنة، ومن هنا فإن الرابطة بين الإنسان والجماعة رابطة عضوية ورابطة داخلية (جوانية) لا تتناقض فيها الذات والموضوع.
كل هذا يقف ضد المجتمع التعاقدي (الحديث) الذي يتألف من أشخاص أنانيين فرديين (إنسان طبيعي)، لكلٍّ مصلحته الشخصية المحدَّدة التي قد تتفق مع مصلحة المجتمع أو تختلف عنها. وكل فرد يحاول أن يحقق مصلحته ومنفعته هو دون الالتفات إلى الآخرين أو إلى الكل الاجتماعي، ومن ثم فإن المجتمع مبني على التنافس بوصفه قيمة مطلقة. والمجتمع هنا لا يُعبِّر عن جوهر الإنسان وإنما يجابهه باعتباره شيئاً غريباً عنه. ويصبح القانون لنفس السبب قيداً على الإنسان لا وسيلة لتحقيق جوهره. والرابطة بين البشر رابطة تعاقدية خارجية برانية موضوعية. ولذا، فإن انتماء الإنسان إلى مثل هذا المجتمع هو انتماء ذرة منغلقة على نفسها؛ تُجاور الذرات الأخرى ولا تلتحم بها، ومن ثم ينشأ تناقض حاد بين الذات والموضوع. وهذا التمييز بين شكلين من أشكال التنظيم الاجتماعي ورؤية الكون يُعبِّر عن نفسه في التمييز بين فكرين، فكر عصر الاستنارة (القرن الثامن عشر) وفكر معاداة الاستنارة (القرن التاسع عشر). وكلاهما يُعدُّ أساساً للفكر الغربي الحديث رغم تناقضهما.
Powered by vBulletin® Version 4.2.0 Copyright © 2024 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved, TranZ by Almuhajir