مشاهدة النسخة كاملة : اليهود واليهودية والصهيونية والصهاينة الجزء الأول
ساجدة لله
2010-10-23, 06:45 AM
أ ) اللحظة السنغافورية: نسبة إلى سنغافورة، وهي بلد صغير في آسيا يتسم بأنه بلا تاريخ ولا ذاكرة تاريخية ولا تقاليد حضارية أو منظومات قيمية راسخة، ولذا يمكن ببساطة تجاهلها كلها أو تهميشها حتى يتحول الإنسان إلى وحدة اقتصادية ذات بُعد مادي واحد قادرة على الإنتاج والاستهلاك والبيع والشراء، وتصبح البلد كلها مجموعة من المحلات والسوبر ماركتات والفنادق والمصانع، وينظر الناس إلى أنفسهم لا كبشر وإنما كوحدات إنتاجية استهلاكية. وقد أصبحت سنغافورة حلم كثير من أعضاء النخب الحاكمة في العالم الثالث التي تفهم التنمية في إطار اقتصادي محض. والرؤية السنغافورية هي الرؤية المهيمنة على المنظمات الدولية مثل صندوق النقد والبنك الدولي التي تعطي القروض في هذا الإطار الاقتصادي السنغافوري المحض. وقد اقترح أحد كبار الخبراء في البنك الدولي ذات مرة أن تتخلص الدول الغربية من نفاياتها النووية والعوادم الكيميائية وغيرها من العوادم بإلقائها في البلاد الأفريقية نظير إعطائها بعض المعونات الاقتصادية، وهذه رؤية سنغافورية كاملة ترى البلاد لا باعتبارها فنادق وأسواقاً ومصانع وإنما باعتبارها مقلب نفايات.
والسنغافورية لحظة أمسكت بتلابيب مجتمع بأسره، ولكن اللحظة السنغافورية الواحدية يمكن أن تظهر على هيئة أفراد. ففي الاتحاد السوفيتي ظهرت فكرة أبطال الإنتاج، وهم بشر (مثل ستهانوف) كانوا يكرسون حياتهم كلها لعملية الإنتاج بشكل يفوق حدود طاقة البشر (وقد انتهت حياة ستهانوف بأن أصيب بالعديد من الأمراض، كما ظهر أن كثيراً من بطولاته كانت مجرد أكاذيب إعلانية). كما أن كثيراً من نظريات الإدارة في الولايات المتحدة ذات طابع سنغافوري واحدي كامل، فهي نظريات تدعو إلى إخضاع جميع حركات العامل وسكناته للدراسة حتى يمـكن توظيـفها تماماً في خدمـة الإنتاج لكي يصـبح الجميع أبطال إنتاج. وتقوم الإعلانات التليفزيونية بتحويل الجميع أيضاً إلى أبطال استهلاك. والدعوة إلى السوق الشرق أوسطية في عالمنا العربي الإسلامي هي دعوة لتحويل الإنسان العربي الإسلامي إلى إنسان سنغافوري بحيث تتحول كل بلادنا إلى بوتيكات وسوبرماركتات.
ساجدة لله
2010-10-23, 06:45 AM
ب) اللحظة التايلاندية: نسبة إلى تايلاند، وهي بلد آسيوي أصبح قطاع البغاء فيه من أهم مصادر الدخل القومي وتكوَّن فيه لوبي قوي من ملوك البغاء والمخدرات حتى أصبح من المستحيل الآن تَخيُّل تايلاند بدون هذا القطاع البالغ الأهمية. واللحظة التايلاندية تعبير عن الإنسان الجسماني حيث يتحول الإنسان تماماً إلى أداة للمتعة (في عصر ما بعد الحداثة والاستهلاكية العالمية). وإذا كانت الدعوة إلى تحويل كل البلاد إلى تايلاند مسألة صعبة، إذ يفزع الناس من نزع القداسة تماماً عنهم، إلا أن الحديث عن السياحة وتطوير القطاع السياحي يخبئ عادةً نزعة تايلاندية عميقة يتحاشى الجميع مواجهتها.
جـ) اللحظة النازية (والصهيونية): وهي أهم اللحظات النماذجية وأكثرها مادية، لأنها تعبير مباشر عن الإنسان الطبيعي/المادي، الإنسان كمادة محضة وكقوة إمبريالية مادية كاسحة. فالمجتمع النازي كان يعتبر الإنسان كائناً طبيعياً مرجعيته النهائية هي الطبيعة/المادة ومرجعيته الأخلاقية المادية هي إرادة القوة، ولهذا نظر إلى البشر جميعاً باعتبارهم مادة استعمالية يمكن توظيفها ويقوم الأقوى والأصلح (من الناحية الطبيعية/المادية) بهذه العملية لصالحه. ومن هنا، تم تقسيم البشر، من منظور مادي رشيد، إلى أشخاص نافعين وأشخاص غير نافعين، وتَقرَّر إبادة بعض غير النافعين منهم ممن لا يمكن إصلاحهم وتحويلهم إلى عناصر منتجة، وذلك بعد دراسة علمية تمت من منظور مادي علمي رشيد.
ساجدة لله
2010-10-23, 06:45 AM
ويمكن القول بأن معسكر الاعتقال هو مجتمع واحدي مادي نماذجي تم التحكم في كل شيء داخله، وضمن ذلك البشر، وطُبِّقت عليهم نماذج رياضية صارمة ذات طابع هوبزي وإسبينوزي تم تطهيرها تماماً من ظلال الإله، فلا رحمة فيها ولا تراحم، ولا مجال فيها لأية غائيات أو مرجعيات إنسانية لأن المرجعية الوحيدة هي المنفعة المادية وإرادة القوة. ولذا أُعطي كل إنسان رقماً حتى يمكن إدارة المعسكر بكفاءة شديدة، وتحوَّل الإنسان إلى مادة استعمالية تُولَّد منها الطاقة (عمالة رخيصة) أو سلع (تحويل العظام إلى سماد، والشحوم الإنسانية إلى صابون، والشعر البشري إلى فُرَش... إلخ). وعلى هذا النحو، تم تعظيم الفائدة وتقليل العادم.
وبالمثل، لا تُعتبَر اللحظة الصهيونية انحرافاً عن الفكر العلماني الشامل الإمبريالي، بل تمثل تبلوراً حاداً له. فانطلاقاً من الطبيعة/المادة باعتبارها المرجعية النهائية المادية ومن إرادة القوة وأخلاق الغاب (باعتبارها المرجعية الأخلاقية المادية) نظرت الصهيونية إلى فلسطين باعتبارها أرضاً بلا شعب (أي أنها استبعدت العنصر الإنساني منها) وحوَّلت كل شيء إلى مادة: فأصبحت فلسطين أرضاً تُستغَل، وأصبح الفلسـطينيون أنفسـهم مادة بشـرية تُنقل وتُباد وتُستغَل، وأصبح اليهود أيضاً مادة بشرية يتم تخليص أوربا منها عن طريق نقلها. ولحظة تَبلور النموذج العلماني هي عادةً ـ كما أسلفنا ـ لحظة ترانسفير، حيث يصبح كل شيء قابلاً للاستعمال والنقل.
واللحظات النماذجية الثلاث (السنغافورية والتايلاندية والنازية) ليست منفصلة تماماً، فهي جميعاً لا تعترف إلا بالطبيعة/المادة والواحدية المادية وتحول الإنسـان إلى مـادة نافعة وتنزع عنه القداسـة وتعريه من إنسانيته (بالإنجليزية: دي نيود de nude)، وهو ما نسميه «الإباحية المعرفية» حيث لا حرمات ولا مطلقات، وحيث يُترَك الإنسان عارياً تماماً أمام مؤسسة قوية تدور في إطـار المرجعية المادية الكامـنة والنفعية الداروينية التي تقوم بحوسلته وتوظيفه. فإذا كان العالم مادة، وإذا كانت كل الأمور متساوية، والإنسان مادة لا قداسة لها ليس إلا، ولا توجد سوى مرجعيات أخلاقية مادية، فإن النشاط الجنسي ـ عل سبيل المثال ـ مجرد نشاط مادي، شأنه شأن النشاط الاقتصادي، ومن ثم يمكن النظر للطاقة الجنسية للإنسان باعتبارها طاقة طبيعية/مادية يمكن توظيفها داخل إطار السـوق والمصـنع، أي أن تصبح الطاقة الجنسـية مادة إنتاجية استهلاكية. ومن ثم، يمكن أن تظهر تجارة/صناعة البغاء، وتصبح البغيّ من أدوات الإنتاج، وهي في الماخور (في تايلاند أو في أي مكان) لا تختلف كثيراً عن أبطال الإنتاج في المصانع السـوفيتية أو الأمـريكية ولا عـن اليهـودي أو السـلافي أو المعـوقين في معسكرات الاعتقال، إذ يتحول الجميع إلى مادة استعمالية وطاقة محض. فالإنسان في اللحظة السنغافورية يتحول إلى طاقـة إنتاجية وإلى قدرة شـرائية تصب في عملية الإنتاج والاستهلاك القومي.بينما يتحول، في اللحظة التايلاندية إلى طاقة جنسية تقدم خدماتها للمستهلكين من السياح، فتحسِّن الدخل القومي وتعدِّل ميزان المدفوعات لحساب الوطن. وفي اللحظة النازية والصهيونية، يتحوَّل الإنسان غير النافع (اليهودي كمادة بشرية فائضة) إلى مادة استعمالية تزداد إنتاجيتها في معسكرات الاعتقال والسخرة أو في الدولة الصهيونية أو يتم التخلص منها في معسكرات الإبادة حسب مقتضيات الأمور (الأمر الذي يفيد الاقتصاد الوطني كثيراً).
ساجدة لله
2010-10-23, 06:45 AM
ونحن نعرف تماماً، من خلال معرفتنا بالترشيد الإجرائي أو الأداتي، وأخلاق الصيرورة، أن طبيعة العمل والهدف منه ليست لهما أية أهمية، فالمهم هو كيفية إدارته (الأداء والإجراءات) وكيفية توظيف الطاقة البشرية بأقل التكاليف لتحقيق أعلى عائد. ويبدو أن المجتمع الأمريكي الرشيد يشارك في هذه الرؤية، أو على الأقل قطاعات مهمة فيه، فحينما قُبض على السيدة سيدني بيدل باروز Sydney Biddle Barows (وهي سيدة من أسرة باروز الأرستقراطية العريقة، التي أتى مؤسسها على سفينة الماي فلاور، أول سفينة نقلت المهاجرين الإنجليز إلى الولايات المتحدة)، وحينما وُجِّهت إليها تهمة إدارة حلقة دعارة في نيويورك، انطلقت من رؤية واحدية مادية صارمة ترفض أي تجاوز أو ثنائيات أو غيبيات وبيَّنت بما لا يقبل الشك أن الدعارة عمل استثماري، بيزنس business (وهذا لا يختلف عن خط دفاع أيخمان عن نفسه، وهو أنه موظف حكومي ينفذ ما يَصدُر له من أوامر). وبعد فترة قصيرة من التردد، نفض الناس عنهم أية مرجعيات ميتافيزيقية متخلفة وتقبلوا الروية الواحدية المادية واستطاعوا أن ينظروا إلى سيدة الماي فلاور بشكل موضوعي، وتحولت قصتها من قصة صاحبة ماخور، إلى قصة صاحبة عمل ناجح. وهو ما دفعها إلى نشر سيرتها الذاتية تحت عنوان قصة حياة الماي فلاور مدام، أو حياة سيدني بيدل باروز السرية. وأصبح هذا الكتاب من أهم الكتب المُتداوَلة وحققت المؤلفة أرباحاً خيالية منه (كما هو الحال دائماً مع مثل هذه الكتب في عصر الفضائح والترشيد الإجرائي). وبعد ذلك بعامين، صدر كتاب لنفس السيدة، وكان أكثر إجرائية، فقد كان يُسمَّى آداب الماي فـلاور: قواعد السلوك للراشدين المثقفين Mayflower Manners: Etiquette for Consenting Adults. وعبارة " كونسنتج أدلتس " التي ترد في العنوان هي عبـارة قانونية تشـير إلى أي شـخصين بالغين يمارسان الجنس معاً برضائهما، ولذا فعملهما شأن خاص بهما. وفي هـذا الكتاب قامت المـدام الواحدية المادية الصارمة بتعليم النسـاء كيفية التصرف بلباقة في الفراش، باعتبار أنها راكمت الكثير من المعرفة في مجال تَخصُّصها. وبعد ذلك بعام واحد، قامت نفس السيدة الرائدة في مجالها الموضوعية في أدائها بتدريس مقرر في إحدى المدارس الحرة عن هذا الموضوع. ولا ندري هل ستنتقل إلى المعاهد العليا وأكاديميات البحوث المتخصصة أم لا؟ وهل ستؤسـس تخصصاً أكاديمياً جديداً؟ وعلى كلٍّ تقوم إحدى مؤسسات الرفاه الخيرية (المجانية) في أستراليا، وهي إحدى المؤسسات المدنية الطوعية غير الحكومية داخل المجتمع، بترتيب دورات تدريبية للبغايا حتى يمكنهن تحسين أدائهن في ساعات العمل الشاقة والمضنية. وحينما سُئل أحد مسئولي الدورة عن الحكمة من وراء ذلك، أجاب بحياد شديد رشيد بأن التخصص هو إحدى سمات العصر وأن كثيراً من عاملات الجنس لا يعرفن قواعد الصحة التي يجب مراعاتها ومناهـج الأداء المختلفـة وحقوقـهن وواجباتهن (وهذا هو قمة الترشيد الأداتي).
ساجدة لله
2010-10-23, 06:45 AM
ويُلاحَظ علمنة المصطلحات المستخدمة في وصف عملية تَحوُّل الإنسان المتكامل المركب إلى إنسان طبيعي وظيفي ـ اقتصادي سنغافوري ـ جسماني تايلاندي ـ إمبريالي نازي أو صهيوني. وهذا أمر مُتوَّقع تماماً متسـق مع نفـسه، فاللحـظة العلمانية الشـاملة النماذجية هي لحظة تَشيُّؤ كامل وواحدية مادية، ولذا فإن ما يَصلُح لوصف الأشياء، يَصلُح لوصف الإنسـان، واللغة المحايدة تجعلنا ننسـى إنسـانية الإنسـان. فلم يكـن النازيون يتحدثون مطلـقاً عن "الإبادة" وإنما عن "الحـل النهـائي"، ولم تكن "أفران الغـاز" سـوى "أدشاش" تُستخدَم من أجل الصحة العامة. ولا يتحدث الصهاينة عن فلسطين وإنما عن الأرض التي جاءوا "لزراعتها" (لا لاغتصابها). ولا يتحدث أحد أثناء اللحظة السنغافورية عن توظيف الإنسان وتَسلُّعه وإنما عن "تحسين مستوى المعيشة وزيادة الإنتاج، وتوفير الرفاهية والرخاء لأكبر عدد ممكن"، دون أية إشارة للأبعاد الكلية والنهائية. وتحييد المصطلحات في حالة اللحظة التايلاندية يستحق قدراً من التوقف، فإذا كان تحييد المصطلح في حالة اللحظة النازية مأساوياً، فهو هنا ولا شك كوميدي. إذ يتحول البغاء إلى أهم القطاعات الاقتصادية (كما هو الحال في بعض الدول الآسيوية). ومن ثم، تصبح البغيّ (التي يُقال لها في اللغة التقليدية «بروستيتيوت prostitute») في بداية الأمر مجرد عاملة جنس (بالإنجليزية: سكس وركر Sex worker)، عضو في البروليتاريا الكادحة تقوم بنشاط اقتصادي منتج، ثم تتحول بالتدريج إلى بطلة قومية. وبعد قليل، قد يصبح من واجب الجميع أن يؤدوا واجبهم القومي بتجريد كامل وحياد شديد. (والعياذ بالله).
ولكن ليس بإمكان أحد أن يتحلى بمثل هذه الشجاعة وهذا الحياد (إلا فيما ندر) فالبشر ـ والحمد لله ـ لا يمكنهم نزع القداسة عن ذواتهم تماماً وببساطة.
ساجدة لله
2010-10-23, 06:46 AM
الباب السابع: الثنائية الصلبة والسـيولة الشـاملة وما بعد الحداثة
الواحدية الذاتية والموضوعية والثنائية الصلبة: نمط حلولى مادى عام
العلمانية الشاملة (وحدة الوجود المادية) هي منظومة حلولية كمونية تتبع نفس نمط النماذج الحلولية الكمونية الواحدية المادية. وتصاعد معدلات العلمنة والتحديث هي في جوهرها تصاعد معدلات الحلولية الكمونية، ومن ثم نجد أن متتالية الحلولية الأساسية (واحدية ذاتية ـ واحدية موضوعية ـ ثنائية صلبة تمحى لتهيمن الواحدية الموضوعية المادية ـ الانتقال من الصلابة للسيولة) تتبدى حلقاتها داخل الفكر والمجتمع العلماني. وتبدأ المتتالية بإعلان أن العالم (الإنسان والطبيعة) يحوي داخله ما يكفي لتفسيره وأن هناك كلاً ثابتاً متجاوزاً ذا غرض وغاية، ولكنه رغم أن هذا الكل يتسم بالتجاوز إلا أنه يوجد داخل عالمنا المادي (الحياة الدنيا) في الزمان والمكان. هذا يعني أنه يوجد نقطتا انطلاق للمنظومة التحديثية: الذات والموضوع، أو الإنسان والطبيعة.
1 ـ الواحدية الذاتية: وتنقسم إلى عدة مراحل:
أ ) الواحدية الإنسانية (الهيومانية(:
نقطة الانطلاق الأولى لمشروع التحديث والعلمنة الغربي هي الإيمان بضرورة أن يواجه الإنسان الكون دون وسائط، حراً تماماً من قيود الحضارة والتاريخ والأخلاق، يرفض أية غيبيات أو ثوابت أو مطلقات متجاوزة لعالمه المادي ولحدود عقله. فالإله إما غير موجود، وإن وُجد فهو لا يتدخل في شئون هذه الدنيا، ويتركها للإنسان يسيرها حسب ما يراه. وهو إنسان متمركز تماماً حول ذاته التي لا حدود لها ولا قيود عليها، يرفض كل القيم القَبْلية والتعميمات والتجريد، يعيش حسب قوانينه الخاصة الفريدة النابعة من ذاته. فهو مرجعية ذاته ومقياس كل شيء لا يمكن محاسبته بأية معايير خاصة. والعقل بوسعه من خلال التعامل مع الواقع الطبيعي والتاريخي، ودون أية حاجة إلى وحي إلهي، أن يصل إلى تفسير كلي شامل لهذا العالم وأن يولِّد المنظومات المعرفية والأخلاقية والجمالية اللازمة لأن يسيِّر حياته. وهذا يعود إلى وجود تماثل كامل بين قوانين العقل وقوانين الطبيعة. وعقل الإنسان الرشيد يولِّد لغة رشيدة، يمكنه من خلالها التواصل والحوار ومراكمة المعرفة، ويمكنه أن يدرس التاريخ (ثمرة احتكاك الإنسان بالطبيعة) فيزداد الإنسان وعياً وإدراكاً لما حوله ويزداد تقدُّمه.
كل هذا يعني وجود حقيقة كلية (قصة عظمى) وأن الإنسان هو الذي يدركها ويعيها، فهو إذن الكل الثابت المتجاوز. لكل هذا يعلن الإنسان أنه سيِّد الكون والمخلوقات بلا منازع، ومركز العالم بلا منافس، يتجاوز كل شيء ولا يتجاوزه شيء، لديه نزعة بروميثية فاوستية لأن يبتلع الكون بأسره ويهزمه ويُسخِّره، فهو إنسان إمبريالي كامل، الطبيعة بالنسبة له مجرد مادة استعمالية يهزمها ويُسخِّرها ويحوسلها. انطلاقاً من هذا الافتراض، يحاول هذا الإنسان أن يؤكد جوهره الإنساني (المستقل عن الطبيعة، السابق عليها)، وأن يتجاوز الطبيعة/المادة، بل طبيعته المادية نفسها، بقوة إرادته، وأن يفرض ذاته الإنسانية عليها، باسم إنسانيتنا المشتركة، أي باسم الإنسانية جمعاء (تأليه الإنسان وإنكار الطبيعة والإله). وقد وُلد من رحم هذه الرؤية المشروع التحديثي في مراحله البطولية الأولى، والفكر الإنساني الهيوماني وفكر حركة الاستنارة.
ساجدة لله
2010-10-23, 06:46 AM
ب) الواحدية الإمبريالية والعرْقية:
يتحدث الإنسان الذي يؤكد جوهره الإنساني باسم كل البشر. ولكن في غياب أية مرجعية متجاوزة لذاته الفردية، ينغلق الإنسان على هذه الذات، فيصبح تدريجياً إنساناً فرداً لا يفكر إلا في مصلحته ولذته، ولا يشير إلى الذات الإنسانية وإنما إلى الذات الفردية. حينئذ تصبح الذات الفردية، لا "الإنسانية جمعاء"، هي موضع الحلول، فيؤله الإنسان الفرد نفسه في مواجهة الطبيعة وفي مواجهة الآخرين ويصبح إنساناً إمبريالياً. وحينما يستمد هذا الإنسان الإمبريالي معياريته من ذاته الإمبريالية التي تستبعد الآخرين يصبح إنساناً عنصرياً يحاول أن يستعبد الآخرين ويوظفهم، بل يوظف الطبيعة نفسها لحسابه. وهنا تظهر الثنائية الصلبة، ثنائية الأنا والآخر (تأليه الإنسان الغربي وإنكار الآخرين(.
2 ـ الواحدية الموضوعية المادية:
نقطة الانطلاق الثانية لمشروع التحديث والعلمنة الغربية هي الطبيعة/المادة، التي تصبح هي الأخرى مرجعية ذاتها، وموضع الحلول والكمون، ومركز الكون (اللوجوس)، قوانينها تتجاوز كل شيء ولا يتجاوزها شيء، وهي قوانين لا هدف لها ولا غاية، ولا تمنح الإنسان أية أهمية خاصة، وهو ما يعني أسبقية الطبيعة/المادة على كل شيء، وضمن ذلك الإنسان، كما يعني أن الكل الثابت المتجاوز هو في واقع الأمر الطبيعة/المادة (تأليه الطبيعة وإنكار الإله والإنسان). ومن رحم هذه الرؤية ظهرت الاستنارة المظلمة، التي ترى أن المشروع التحديثي (في إطار العلمانية الشاملة) هو في جوهره مشروع تفكيكي لا يؤدي إلى تأكيد مركزية الإنسان وإنما إلى رده إلى ما هو دونه (الطبيعة/المادة)، وإلغائه تماماً كمقولة مستقلة مركزية في النظام الطبيعي. فإذا كان الإنسان الحديث إنساناً عقلانياً مادياً حقاً كما يزعم، فعليه أن يتبنَّى رؤية علمية مادية موضوعية تجاه ذاته الإنسانية. ولكن المعرفة العلمية المادية معرفة موضوعية تنبع من نموذج الطبيعة/المادة، ولذا فهي ترفض الغائيات الإنسانية والخلقية. والحقيقة العلمية المادية منفصلة تماماً عن القيمة، والعقل (المادي) الذي يقوم بعملية مراكمة المعلومات وتطبيقها أداة تفكيكية لا تحترم الخصوصيات والأسرار ولا تهتم إلا بالتشابه والتجانس والنفع. وهذه المعرفة العلمية المادية (رغم تَجاوُّزها للإنسان وعدم اكتراثها به) ستُطبَّق على الإنسان لترشيده وترشيد حياته ثم لتفكيك العالم وتفكيك الذات الإنسانية.
ساجدة لله
2010-10-23, 06:46 AM
وتنشـأ في إطار هذه المنظومة التحديثية العلمانية الشاملة، ذات نقطتي البدء، ثنائية صلبة وحالة استقطاب شـديد بين نموذجين: النموذج المتمركز حول الذات الإنسانية (المتألهة المطلقة المغلقة) التي تصبح مرجعية ذاتها ومرجعية الكون، والنموذج المتمركز حول الطبيعة/المادة (المتألهة المطلقة المغلقة) التي تصبح بدورها مرجعية ذاتها ومرجعية الكون.
ولإلقاء مزيد من الضوء على عملية الصراع بين النموذجين في مرحلة الثنائية الصلبة (التمركز حول الذات والتمركز حول الموضوع)، سنورد بعض معالم كل نموذج وتجلياته، وسنرمز للتمركز حول الذات بالحرف (أ) والتمركز حول الموضوع بالحرف (ب):
1ـ أ) التمركز حول الذات ووهم انتصار الذات على الموضوع والواحدية الذاتية، الإنسانية الهيومانية والإمبريالية (تأله الإنسان وإنكار الكون).
ب) ذوبان الذات في الطبيعة تدريجياً واختفاؤها وانتصار الموضوع وهيمنة الواحدية الموضوعية المادية (تأليه الكون وتكيف الإنسان مع الطبيعة وإذعانه لها، وإنكار الإنسان).
2ـ أ) مركز الكون كامن في الإنسان، والإنسان مرجعية ذاته.
ب) مركز الكون كامن في الطبيعة، والطبيعة مرجعية كل شيء، وضمن ذلك الإنسان، ولذا يفقد الإنسان مركزيته.
3ـ أ) الإنسان مقياس كل شيء، والإرادة هي إرادة القوة.
ب) القوانين الواحدية المادية تسري على الإنسان سريانها على الطبيعة.
4ـ أ) الطبيعة مادة يُسخِّرها الإنسان لاستعماله (فهي مجرد وسيلة بالنسبة للإنسان).
ب) الإنسان جزء من الطبيعة، ولذا فهو يُسخَّر في خدمة الموضوع، ويتحوَّل الإنسان (الغاية) إلى مجرد موضوع.
5ـ أ) الذاتية الكاملة والاهتمام فقط بالعالم الجواني وبخبايا ذات الإنسان وأبعاده المركبة والمظلمة.
ب) الموضوعية المصمتة والاهتمام فقط بالعالم البراني وبسطح الأشياء وبالسلوك.
6ـ أ) الخصوصية المفرطة ورفض كل التجريدات والتعميمات والإصرار على الشواهد المادية المحسوسة.
ب) العمومية المفرطة وتقبُّل المجردات والكليات اللاإنسانية والإذعان لها.
كما يأخذ الصراع بين النموذجين الأشكال التالية:
7ـ أ) الصدفة وعدم التحكم واختفاء المعيارية.
ب) الضبط الكامل للواقع والتحكم فيه والمعيارية الصارمة.
8ـ أ) الإبهام وعدم التحدد وعدم الفهم والشك الكامل.
ب) الوضوح الكامل والتحدد الموضوعي، والفهم الكامل لعالم الأشياء، واليقينية الكاملة.
9ـ أ) التعددية المفرطة وزيادة المعطيات الحسية.
ب) التنميط وظهور حضارة قطع الغيار.
ولكن رغم الصراع بين الطرفين يظل هناك مركز واحد، إما الإنسان أو الطبيعة/المادة، هو مصدر الوحدة والتماسك، هو الكل الثابت المتجاوز (الإنساني والطبيعي/المادي) الذي يتسم بجميع سمات الكل في النظم الميتافيزيقية.
ساجدة لله
2010-10-23, 06:46 AM
الواحدية الذاتية والموضوعية والثنائية الصلبة فى الحضارة الغربية (عصر التحديث والحداثة)
نمط الواحدية الذاتية والموضوعية والثنائية الصلبة هو النمط السائد في الحضارة الغربية الحديثة منذ عصر النهضة حتى منتصف الخمسينيات تقريباً (حين تبدأ المرحلة السائلة الشاملة). ويتبدى النمط في المفاهيم الفكرية السائدة والتطور التاريخي والواقع الاجتماعي والحضاري اليومي. ولنا أن نلاحظ أن الطبيعة/المادة تتحول إلى المطلق العلماني والتنويعات المختلفة عليه (الحتمية التاريخية ـ حركة التاريخ ـ إرادة الشعب ـ الفولك ـ إرادة القوة ـ عبء الرجل الأبيض ـ الدولة المطلقة ـ السوق/المصنع ـ قوانين العرض والطلب). أما الإنسان فبدلاً من أن يصبح الإنسان الطبيعي/المادي فإنه يصبح الإنسان الاقتصادي أو الإنسان الجسماني أو الإنسان الاشتراكي أو الإنسان القومي. ورغم تغيُّر الأسماء فالمسميات واحدة والنمط واحد: فالإنسان (القومي أو الاشتراكي) يحاول أن يؤكد ذاته بشكل مطلق وينتهي به الأمر أن يُستوعَب في إحدى المطلقلات العلمانية بشكل كامل. وفي هذا المدخل سنحاول أن ندرس تبديات النمط على هذه المستويات الفكرية والتاريخية والاجتماعية وسنرمز للتمركز حول الذات الإنسانية بالحرف (أ) والتمركز حول الموضوع المادي بالحرف (ب(.
1 ـ النزعة الإنسانية والنزعة الطبيعية المعادية للإنسان:
أ ) بدأ تاريخ الفلسفة الغربية الحديثة بالفلسفة الإنسانية الهيومانية التي تتمركز حول الإنسان وتضعه بشكل كامل فوق الطبيعة، باعتبار أن له عقلاً قادراً على توليد معياريته وقيمه وغائيته من داخله يعيش في حالة حرية كاملة وإرادة واعية. فالإنسان، أو الإنسانية جمعاء، هي موضع الحلول ومركز الكون. ثم تحوَّلت هذه الهيومانية تدريجياً إلى فلسفة إنسانية غربية متكبرة متعجرفة تحوسل الطبيعة وتحلم بالتحكم الكامل في الكون. ثم أصبح الإنسان الغربي هو وحده هذا المركز (فالإنسانية جمعاء، مفهوم ميتافيزيقي، ماهيةً وجوهراً، متجاوز لعالم الطبيعة/المادة، والزمان والمكان). ومن ثم، بدلاً من توظيف الطبيعة وتسخيرها للإنسانية جمعاء بدأ الإنسان الغربي في حوسلة بقية البشر والطبيعة باسم حقوقه المطلقة وباسم تفوقه الحضاري. فتحولت الهيومانية إلى إمبريالية كاملة لا تعترف إلا بالقوة والتفوق العرْقي باعتبارها المعايير الوحيدة. وهكذا تدهورت الهيومانية الغربية إلى إمبريالية وعرْقية وعداء صريح للآخر وللإنسان ككل.
ب) كانت الفلسفة الغربية منذ البداية تحوي نموذجاً متمركزاً حول الطبيعة/المادة والإنسان الطبيعي (ماكيافللي ـ هوبز ـ المادية الميكانيكية ـ العدمية ـ التجريبية) ولكنه كان هامشياً. وبالتدريج، تراجع النموذج المتمركز حول الإنسان وتزايد التمركز حول الموضوع وانتهى الأمر بظهور نزعة واحدية مادية معادية للإنسان تطالبه بأن ينفض عن نفسه وهم الكون المتمركز حول الإنسان والوهم الهيوماني القائل بحرية الإنسان وبمقدرته على توليد معياريته وغائياته من داخل ذاته، وتُبيِّن له أن الطريق الوحيد أمامه هو أن يُذعن للقوانين المادية الحتمية المنفصلة عن القيم والغائيات الإنسانية (وهو ما يعني النفي الكامل للحرية) وأن يستمد منها معياريته. ثم سادت النماذج الكمية التكنوقراطية.
ساجدة لله
2010-10-23, 06:46 AM
2 ـ المفهوم الكالفني للإله:
أ ) الإله يُعبِّر عن نفسه في شواهد مادية محسوسة تزيد يقين المؤمن بخلاصه واصطفائه، وهو إله يذوب في الأفراد ويتجسد من خلالهم (انتصار الذات(.
ب) الإله لا يُسبَر له غور، فهو يختار من يشاء ومتى يشاء دون سبب واضح، ولا يكترث بالأفراد، فهو إله متمركز حول ذاته غير الإنسانية (انتصار الموضوع على الذات(.
3 ـ الإنسان البروتستانتي:
أ ) هو فرد مختار يغزو العالم باسـم الإله (فهو تَجسُّد للإله)، واثق من نفسـه ومن مقدرته على الغزو (تمركز حول الذات(.
ب) ولكنه فرد يعيش في حالة عدم أمن وفي خوف كامل مما حوله، فهو غير متأكد من رضاء الإله عنه ومن الخلاص، وهو دائم البحث عن شواهد في العالم المادي تقوم دليلاً على هذا الرضا وهذا الاختيار. والثروة من أهم علامات الاختيار، ولذا فهو يلهث دائماً وراءها لا يكف عن مراكمتها (تمركز حول الموضوع(.
Powered by vBulletin® Version 4.2.0 Copyright © 2024 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved, TranZ by Almuhajir