مشاهدة النسخة كاملة : اليهود واليهودية والصهيونية والصهاينة الجزء الأول
ساجدة لله
2010-10-23, 07:03 AM
ما علاقة نهاية التاريخ وصراع الحضارات وما بعد الحداثة بواقعنا وبالنظام العالمي الجديد؟
إن كل آليات الإغواء التي يستخدمها النظام العالمي الجديد تصب في هدف واحد أو حل نهائي واحد هو ضرورة ضرب الخصوصيات القومية والمرجعيات الأخلاقية حتى يفقد الجميع أية خصوصية وأية منظومة قيمية ليصبحوا آلة إنتاجية استهلاكية، لا تكف عن الإنتاج والاستهلاك دون أية تساؤلات، ومن هنا تظهر نهاية التاريخ كمفهوم أساسي، فالنظام العالمي الجديد لا يشير إلا للحظة الراهنة وحسب، ولا يتحدث إلا عن المستقبل، ولكنه لا يتحدث قط عن الماضي فهو نظام يدَّعي أنه هو نفسه لا ماضي له، وأن كل البشر لا ماضي لهم، وإن كان لهم ماض فهو ليس مهماً فكل شيء جديد طازج مثل صفحة لوك البيضاء (باللاتينية: تابيولا رازا tabula rasa). داخل هذا الإطار، يصبح الإنسان إنساناً طبيعياً أحادي البُعْد لا عمق له ولا ذاكرة ولا قيم، يبدأ دائماً من نقطـة الصفر وينتهي فيها، يعيش في عالم بلا دنس ولا خطيئة ولا حياة، عالم مغسول في الرشد المادي والإجرائي، كل ما فيه يتحرك بشكل هندسي متناسق، معقم من التدافع والجدل.
ولنلاحظ أن ما تَساقَط هنا ليست خصوصية قومية بعينها وإنما مفهوم الخصوصية نفسه، وليس تاريخاً بعينه وإنما فكرة التاريخ نفسها، وليس هوية بعينها وإنما كل الهويات، وليس منظومة قيمية بعينها وإنما فكرة القيمة نفسها، وليس نوعاً بشرياً بعينه وإنما فكرة الإنسان المطلق نفسها، الإنسان ككيان مركب لا يمكن رده إلى ما هو أدنى منه. لقد اختفت المرجعية، أية مرجعية، وظهر عالم لا خصوصيات فيه ولا مركز له. هذا العالم الذي لا مركز له، يسير فيه بشر لا مركز لهم ولا هدف، لا يمكنهم التواصل أو الانتماء لوطن أو أسرة، كل فرد جزيرة منعزلة أو قصة صغيرة، فيظهر إنسان استهلاكي أحادي البُعد يُحدِّد أهدافه كل يوم، ويُغيِّر قيمه بعد إشعار قصير يأتيه من الإعلانات والإعلام، إنسان عالم الاسـتهلاكية العالمية الذي ينتج بكفاءة ويسـتهلك بكفاءة ويُعظِّم لذته بكفاءة حسـب ما يأتيه من إشـارات وأنماط! هذا هو الحل النهائي في عصر التسوية الذي حل محل الحل النهائي لعصر التفاوت، فبدلاً من الإبادة من الخارج، يظهر التفكيك من الداخل.
إن ما بعـد الحداثة، فى واقع الأمر، هي الإطار المعرفي الكـامن وراء النظام العالمي الجديد، فهى رؤية تنكر المركز والمرجعية، وترفض أن تعطى التاريخ أي معنى أو أن تجعل للإنسان أىة قيمة أو مركزية أو إطلاق، وتُسقط كل الأيديولوجيات (عصر ما بعد الأيديولوجيات)، وتنكر التاريخ (عصر نهاية التاريخ)، وتنكر الإنسان (عصر ما بعد الإنسان). فالعالم حسب هذه الرؤية يفتقر إلى المركز، فكل الأمور مادية، وكل الأمور متساوية، وكل الأمور نسبية، فهو عالم في حالة سيولة كاملة (تماماً مثل التناص ####uality حين يحيلك نص إلى نص قبله ونص بعده، فيختفي المعنى وتختفي الحدود والهوية والمسئولية). وكما يقول فريدريك جيمسون، الناقد الأمريكي الماركسي، إن روح ما بعد الحداثة تعبِّر عن روح رأسمالية عصر الشركات متعددة القوميـات حـيث قام رأس المال (هـذا الشيء المجـرد المتحرك الذي لا يكترث بالحدود أو الزمان أو المكان) بإلغـاء كل الخصوصيات، كما ألغى الذات المتماسـكة التى يتحد فيها التاريخ والعمـق والذاتية، وحلت القـيمة التبادلية العامة محل القيمة الأصيلة للأشياء.
ساجدة لله
2010-10-23, 07:03 AM
ونحن نقبل بتحليل جيمسون لفكر ما بعد الحداثة وإن كنا نستبدل بكلمة «رأسمالية» عبارة «علمانية شاملة». والحديث عن القيمة التبادلية العامة التي تُلغي الخصوصيات ليس، فى واقع الأمر، حديثاً عن رأس المال باعتباره شأناً اقتصادياً وإنما عن رأس المال باعتباره آلية ذات بُعد معرفي تؤدي إلى تفكيك وهدم كل ما هو فريد وخاص وعميق ومقدَّس ومحمل بالأسرار، ومن ثم فهي آلية معادية للإنسان لأنها معادية لكلٍّ من التاريخ والحضارة، إذ أن التاريخ والحضارة ـ كما أسلفنا ـ هما مصدر التفرد الإنساني. ورأس المال هنا آلية دفع الإنسـان من عالم الحضارة والتاريخ المركب إلى عالم الطبيعة الأحادي البسـيط، هو آلية سـيادة القانون الطبيعى المادي الواحدي، فهو أهم آليات نزع القداسة عن الإنسان. ولكنه ليس الآلية الوحيـدة، إذ تُوجَد آليات أخرى أعتقد أن من أهمها (فى عصر ما بعد الحداثة) الإباحية وصناعة اللذة المتمثلـة فى هـوليود وأفلامها.
ويمكننا الآن أن نعود مرة أخرى إلى موضوع إلغاء التاريخ وإلغاء الإنسان: الموضوعين الأساسيين في كتابات فوكوياما وهنتنجتون وكُتَّاب ما بعد الحداثة. فمع وصول التاريخ إلى نهايته، ينتهي الصراع وتختفي كل المنحنيات وتنبسط كل النتوءات، ويظهر بشر ذوو بُعد واحد وتختفى الذاتية والعمق والحضارة والإنسان، عالم موت الإنسان بعد أن مات الإله. وهكذا، ورغم اختلاف المنطلقات، تتفق النتائج. والنظام العالمي الجديد، بهذا المعنى، نظام معاد للإنسان ومعاد للتاريخ، وهو عداء نابع من العداء الذي يحس به ذوو الاتجاه الطبيعي/ المادي نحو كل الظواهر المركبة بكل ما تحوي من قداسة أو أسرار، وهو أيضاً نابع من رغبتهم العارمة في فرض الواحدية المادية وفي تسوية الإنسان بما حوله، حتى يذوب في الطبيعة/المادة ويختفي ككيان مركب مستقل.
ومحاولة التسوية هذه تفسر سبب اتصاف خطاب النظام العالمي الجديد بالاعتدال الشديد، بل نجده "ثورياً" أحياناً حين يرفض مركزية الغرب وينادي بالمساواة. ولكن المساواة في هذا السياق هي في واقع الأمر تسوية (وليست مساواة) ورفض لكل الخصوصيات والمركزيات والمطلقات، على أن يصبح الجميع (ومنهم الغرب) مادة استعمالية، ولذا يحلو لي أن أقارن النظام العالمي الجديد بالآلة الضخمة التي تدور بكفاءة فتفرم الجميع، ومنهم أصحابها، رغم أنهم يستفيدون منها ويوظفون العالم من خلالها لصالحهم (فهى تشبه فرانكنشتاين من بعض الوجوه).
وفي وسط هذه السيولة يظل الغرب صلباً، فهو المطلق العلماني الشامل الجديد، النموذج الذي يُحتذى، ولذا فرغم حالة العولمة السائلة الشاملة، يظل الغرب مركز العالم، الأمر الذي يعطيه حقوقاً مطلقة وقدراً من الصلابة. كما أنه في حالة النسبية الشاملة السائلة ومع اختفاء الحقائق المطلقة فإن الغرب بأسلحته وأجهزته الإعلامية يصبح هو مركز العالم الذي لا مركز له. ولكنه مع هذا يظل مختبئاً وراء آليات الإغواء وخطاب السيولة والنسبية والتعددية. وبهذا المعنى، يمكن القول بأن النظام العالمي الجديد هو إمبريالية عصر ما بعد الحداثة، إذ يجد الإنسان نفسه في عالم بلا تاريخ تتفكك فيه علاقة الدال بالمدلول وينزلق فيه الإنسان من الخصوصية الإنسانية والتاريخية إلى عالم الطبيعة/المادة تحيط به إمبريالية شرسة لا تُسمِّي نفسها «إمبريالية» وإنما «النظام العالمي الجديد».
الفردوس الأرضى
حال الدنيا عند نهاية التاريخ، وهو الطوبيا (اليوتوبيا) عند علي عزت بيجوفيتش، وهي لحظة نماذجية وتعبير عن النزوع الجنيني (انظر: «نهاية التاريخ»).
ساجدة لله
2010-10-23, 07:03 AM
الباب التاسع: العلمانية الشاملة: تاريخ موجز وتعريف
العلمانية الشاملة من التحديث والحداثة إلى ما بعد الحداثة: تاريخ
لا يمكن كتابة تاريخ بدون نموذج (في الواقع لا يمكن بدون نموذج كتابة أي شيء، سوى قائمة المشتريات من البقال). ونحن نُميِّز بين المتتالية المثالية المُفترَضة (أي المشروع الإصلاحي والأماني التي يؤمن بها أصحاب رؤية/ نموذج ما) والمتتالية الفعلية المتحققة. والمتتالية المثالية العلمانية التحديثية المُفترَضة تدور في إطار الواحدية المادية، وكان المفروض أن تؤدي حلقاتها إلى نهاية سعيدة: سيطرة الإنسان على الطبيعة وعلى نفسه وتأكيد مركزيته المطلقة في الكون (الاستنارة المضيئة والعقلانية المادية). ولكن هذه المتتالية كانت تحوي داخلها تناقضات النظم الواحدية المادية (تأليه الإنسان وتأليه الطبيعة في الوقت نفسه الذات ـ الإنسانية مقابل الموضوع الطبيعي المادي ـ الكل مقابل الجزء ـ التجاوز مقابل الإذعان والتكيف ـ المعنى والثبات مقابل الحركة التي لا معنى لها). وأثناء عملية التحقق التاريخي، عبَّرت هذه التناقضات تدريجياً عن نفسها، وأدركها الإنسان الغربي ثم حُسمت، في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير، لصالح العنصر الثاني في الثنائية، وبدلاً من انتصار الإنسان، تم تفكيكه ورَدُّه إلى المبدأ المادي الواحد (الاستنارة المظلمة واللاعقلانية المادية). وتم الانتقال من رؤى التحديث (البطولية) إلى واقع الحداثة (العبثي)، ثم استقر المطاف عند عالم ما بعد الحداثة (البرجماتي). ورغم أن التدرج يتم عبر ثلاث حلقات إلا أننا نتحدث في الواقع عن مرحلتين اثنتين: التحديث (والحداثة) مقابل ما بعد الحداثة لأن المرحلة الثانية كانت قصيرة جداً ولم تكن سوى مرحلة انتقالية بين الأولى والثانية. ونحن نرى أن اللحظة الفارقة كانت في الستينيات، ولذا فنحن نحدد عام 1965 باعتباره عام انتهاء المرحلة الأولى وبداية المرحلة الثانية.
والفرق الأساسي بين المرحلتين أن الأولى تتميَّز بوجود مركز واحد أو مركزين متصارعين (الإنسان والطبيعة) ولذا فهي صلبة، أما الثانية فتتميَّز بتعدُّد مفرط في المراكز أو بعدم وجود مركز فهي سائلة. ولنا أن نلاحظ وجود مجموعة من الثنائيات الفرعية (الإنتاج مقابل الاستهلاك ـ المنفعة [البرانية] مقابل اللذة [الجسدية] ـ التحكم والإرجاء مقابل الانفلات والإشباع المباشر ـ التراكم مقابل التبديد والإنفاق ـ الدولة مقابل السوق) وهي ثنائيات تعكس ثنائية الصلب والسائل، فالإنتاج والمنفعة والتحكم والإرجاء والتراكم والدولة تفترض وجود مركز للكون (إنساني أو طبيعي)، أي أنها تعبير عن العقلانية المادية. أما الطرف الثاني (الاستهلاك واللذة والانفلات والإشباع المباشر والتبديد والسوق) فيفترض انعدام الحدود وغياب المركز. ومن ثم تتساوى كل الأشياء وتختفي الثنائية الصلبة لتحل محلها سيولة شاملة، وتختفي المادية القديمة لتحل محلها المادية الجديدة، وتختفي العقلانية المادية لتحل محلها اللاعقلانية المادية.
ساجدة لله
2010-10-23, 07:03 AM
وقد لاحظنا أن العلوم الإنسانية الغربية تتناول الواقع الغربي وكأنه مجموعة ظواهر مستقلة، لها تواريخ مستقلة، كما أنها تخلط بين المشروع الإصلاحي والآمـال من جهـة، والواقع التاريخي المتحقق (البنية التي تحققت) من جهة أخرى. وسنحاول في هذا الدراسـة أن نسـتخدم نموذجاً تحليلياً واحداً لنبيِّن الاستمرار والانقطاع في تاريخ الحضارة الغربية الحديثة، وأن ثمة وحدة فضفاضة وراء كل الظواهر المتنوعة، أي أنها وحدة لا تَجُبُّ التنوع، واسـتمرارية لا تَجُبُّ الانقطاع والتحولات النوعية.
وفي تصوُّرنا أن تقسيم تاريخ الحضارة الغربية الحديثة الذي نقترحه له قيمة تفسيرية تحليلية عالية. ومع هذا يتعيَّن علينا أن نلاحظ ما يلي:
1 ـ نحن ندرك تماماً أن الظواهر التاريخية، بكل تنوعها وتركيبيتها، لا يمكن اختزالها ببساطة إلى مرحلتين. وأن التقسيمات الثنائية بسيطة ومغرية. ورغم أننا قسمنا تاريخ الحضارة الغربية (العلمانية) الحديثة إلى قسمين اثنين: (مرحلة التحديث الصلبة التقشفية ومرحلة ما بعد الحداثة السائلة الفردوسية) فإننا ندرك تماماً أن تقسيماتنا هي إستراتيجية تفسيرية وحسب، وليس لها أي وجود مادي، فهي ليست "إنعكاساً مباشراً" للواقع الموضوعي المادي، وإنما تعبير عن نموذج تفسيري وتحليلي نرى نحن أن له قيمة تفسيرية وتصنيفية، نُخضعه للاختبار، أي أننا نقاوم تَشيُّؤ نموذجنا التفسيري، وندرك أنه لابد أن ينطوي على قدر من تبسيط للواقع.
2 ـ مرحلة التحديث التقشفية يمكن أن تُقسَّم بدورها إلى عدة مراحل:
أ) مرحلة التراكم (الرأسمالي الإمبريالي) الأولى: من عصر الاكتشافات حتى اندلاع الثورة الصناعية والفرنسية ونجاحها مع منتصف القرن التاسع عشر. وقد وصلت هذه المرحلة إلى ذروتها في نهاية القرن، وهي مرحلة التحديث وعصر المادية البطولي، والفلسفة العقلانية المادية والمادية القديمة.
ب) مرحلة التراكم (الرأسمالي الإمبريالي) الثانية: من نهاية القرن التاسع عشر حتى منتصف الستينيات، وهي مرحلة الحداثة العبثية وبداية ظهور اللاعقلانية المادية والمادية الجديدة.
3 ـ مرحلة ما بعد الحداثة الاستهلاكية الفردوسية (البرجماتية) واللاعقلانية المادية والمادية الجديدة، هي مرحلة لا تزال في بدايتها ولم تتحدد ملامحها بعد، وقد درسناها لا في ذاتها وإنما وضعناها مقابل المرحلة الأولى.
4 ـ لابد من التنبيه على أن المرحلة الثانية كامنة تماماً في المرحلة الأولى، فالتقشف العاجل كان يتم باسم الاستهلاك الآجل، والقمع كان يتم باسم اللذة الموعودة والإشباع في المستقبل، أي أن الانفتاح الاستهلاكي كان حتمية كامنة في كل النظم المادية مهما بلغت من تقشف، وثمة حتمية للسيولة الفردوسية بعد مرحلة الصلابة البطولية.
5 ـ تم اختيار عام 1965 لا لأن شيئاً محدداً ملموساً حدث فيه، وإنما لأنه في منتصف الستينيات. ولا يمكن تحديد تاريخ الظواهر الحضارية بالإشارة إلى يوم بعينه أو عام بعينه فهي تتطور بشكل يتجاوز مثل هذا التحديد الدقيق. ومع هذا يظل عام 1965 اختياراً مناسباً في تصورنا، نقطة تَركُّز تقع داخل مُتَصَل طويل.
وفي عرضنا لسمات كلٍّ من المرحلتين (وكذلك المرحلة الانتقالية)، صنفناها إلى مجالات مختلفة، ونحن لا نعطي أولوية سببية لمجال على حساب الآخر، وإنما نرى أن كل المجالات تتفاعل فيما بينها. وغني عن الذكر أن المجالات تتداخل (ومن هنا التكرار أحياناً). وكل مجال ينقسم إلى قسمين: التحديث والحداثة (ويُرمَز له بالحرف أ)، وما بعد الحداثة (ويُرمَز له بالحرف ب).
ساجدة لله
2010-10-23, 07:03 AM
وبإمكان القارئ أن يقرأ هذه الدراسة بطريقتين:
أ) طريقة مقارنة: أن يقرأ القارئ كل ما ورد عن المجال الاقتصادي (على سبيل المثال) فيقرأ الجزأ (أ) ثم الجزء (ب) ثم ينتقل بعد ذلك إلى المجال الذي يليه (وهذه هي الطريقة التي كتبنا بها الدراسة).
ب) طريقة تكاملية: أن يقرأ العنصر (أ) في كل المجالات ثم يقرأ العنصر (ب).
أولاً: المجال الاقتصادي:
أ) الإنتاج والزيادة المطردة للإنتاج هو الهدف النهائي من الوجود في الكون، وما يُحرِّك المُنتِج هو المنفعة، ولذا فلابد من عملية قمع، فلو حرَّكته اللذة لكانت كارثة، والإنسان مُنتِج أكثر من كونه مُستهلكاً، واجبه الإنتاج ومكافأته الاستهلاك، ولذا تسود في بداية هذه المرحلة أخلاقيات العمل البروتستانتية ويظهر الإنسان الاقتصادي في الدول الرأسمالية وهو نفسه الإنسان الاشتراكي (بطل الإنتاج) في الدول الاشتراكية، وكلاهما تتحدد مكانته في المجتمع في إطار مقدار ما يُنتج (لا ما يستهلك). ومن هنا التقشف والتراكم وزيادة الإنتاج والصناعة الثقيلة وبدايات الاقتصاد الرشيد ومرحلة المركنتالية وتوحيد السوق القومية في البداية، ثم الرأسمالية الرشيدة والرأسمالية المالية أو المصرفية في غرب أوربا والولايات المتحدة وظهور مفهوم السوق العالمي (وبداية ظهور ملامح الاستهلاكية والانفتاح وتحدي السوق والجنس للدولة القومية).
ويمكن في هذه المرحلة أن نتحدث عن «المستغلين» و«المستغَلين» وعن عمال يتم اعتصار فائض القيمة منهم، وعن طبقات متوسطة تحقق حزاكاً اجتماعياً أو هبوطاً في السلم الاجتماعي والطبقي.
ومع هذا، لم يكن قد تم تحديث أوربا تماماً حتى عام 1914، فاقتصاديات معظم بلاد أوربا كانت تضم قطاعاً زراعياً كبيراً، وكان معظم السكان إما جزءاً من الاقتصاد الزراعي أو جزءاً من الصناعات الاستهلاكية والتجارة الصغيرة المحلية. وقد حققت الثورة الصناعية خطوات واسعة بعد عام 1890، وساهم التراكم الإمبريالي في الإسراع بعمليات تحديث الغرب، ومع هذا ظل كثير من البنَى الاقتصادية والثقافية القديمة التقليدية قائماً. وقد تمتعت إنجلترا ثم الولايات المتحدة بمركزية في النظام الاقتصادي العالمي.
وقد كان تاريخ شرق أوربا (وبقية العالم) مختلفاً، ولكن الجميع لحق بالركب. فمرت مجتمعات شرق أوربا بمرحلة مركنتالية تقشفية تراكمية مكثفة، وبدلاً من ديكتاتورية البيوريتان جاءت ديكتاتورية البروليتاريا، وبدلاً من الملكيات المطلقة والدول القومية المطلقة جاءت دولة الطبقة العاملة المطلقة التي ركزت السلطة في يدها وقامت بعملية الترشيد والتراكم بسرعة.
ساجدة لله
2010-10-23, 07:04 AM
وبدأت عملية تحديث بقية العالم من خلال جيوش الإمبريالية الغربية ثم ظهرت دول قومية في العالم الثالث تحاول إنجاز عملية التحديث بسرعة (وكانت عملية التحديث تعني في واقع الأمر عملية تغريب) وأن تُحقِّق التراكم وأن تهيمن على سوقها القومية. وفي هذه المرحلة تؤسس الدولة الصهيونية التي تبدأ مرحلة تقشفية تراكمية وتتبنى أشكالاً "اشتراكية" في إدارة الاقتصاد.
ب) الاستهلاك في مرحلة ما بعد الحداثة السائلة هو الهدف النهائي من الوجود في الكون، وما يحرِّك المستهلك هو اللذة لأنه لو حرَّكته المنفعة لكانت كارثة. بل إن الاستهلاك بالنسبة للمستهلك واجب/حق. ولذا، بعد تَحكُّم الرأسمالية في العملية الإنتاجية، انتقل النظام من المنفعة إلى اللذة وأصبح الاستهلاك (لا الإنتاج) هو هدف المجتمع، وأصبحت السعادة هي تَحرُّر الاستهلاك من الحاجات المادية أو الأساسية التي يتطلب الوفاء بها السلع ذات القيمة الاستعمالية. ولم يَعُد هدف المجتمع إشباع الحاجات وإنما تخليقها، ولم تَعُد الحاجة مصدر معاناة تحتاج إلى إشباع وإنما أصبحت على العكس من ذلك شيئاً يُحتَفى به. ولم يَعُد التنافس الأساسي بين المنتجين (كما هو الحال في الرأسمالية الصناعية التنافسية) وإنما بين المستهلكين.
وأصبح الاستهلاك هو المجال الرئيسـي الذي يتم فيه اغتراب الإنسـان، حيث تتحـدد وتُنتَج احتياجات الناس، وتوجَّه الرغبات نحو ما تم تحديده وإنتاجه من قبل. ويتم استيعاب الناس في منظومة متعددة المستويات من الأشياء والعلامات والدلالات، وهو ما يجعل "للثقافة" والإدراك أولوية على القيم المادية.
وأصبح نمط الاستهلاك وإشباع اللذة (وليس ممتلكات الفرد أو إنتاجيته) مؤشِّراً على مكانته في المجتمع، وانتقل تحديد وضع الفرد في المجتمع من السلعة نفسها أو كمية النقود إلى «دلالة السلعة والنقود» التي يمتلكها الفرد. وأصبحت الصورة أو العلامة هي السـلع أو القـيم المادية الرئيسية التي تُقاس بالنسبة لها قيمة كل شيء، أي أن السلع المادية والنقود لم تَعُد أساس السيطرة على المجتمع. كل هذا يجعل التحليل الماركسي الذي أكد أولوية السلع المادية على السلع الثقافية غير ذي موضوع، بل يجعل الماركسية نفسها (كما يقول بورديار) مجرد امتداد للرأسمالية التقليدية ومتواطئة معها وأداة للهيمنة أو الإمبريالية الإدراكية.
ويمكن القول بأن تحديث المجتمعات الغربية قد اكتمل بعد الحرب العالمية الثانية، وتم تهميش أية جيوب زراعية أو شبه زراعية ولم يَعُد القطاع الزراعي ذا أهمية كبيرة.
ساجدة لله
2010-10-23, 07:04 AM
وتشهد هذه الفترة ظهور الفورديزم Fordism، أي تنميط السلع على مستوى ضخم، فتم إنتاج السيارة والمنزل بشكل نمطي على نطاق جماهيري، كما تم تطبيق أساليب تايلور في الإدارة العلمية. وتزايد استخدام الكرديت كارد بدلاً من النقود، وهو ما يساهم في الحركة الاستهلاكية وفي تَضخُّم قطاع الخدمات وقطاع اللذة واتساع السوق المحلي وتَجاوُز الحـدود القـومية، وظهرت السوق العالمية والشركات متعددة الجنسيات عابرة القارات التي لا تحترم السوق المحلي، وظهرت الاستهلاكية العالمية. وقد تَزايَد ما يُسمَّى «الاقتصاد الفقاعي» (بالإنجليزية: بابل إيكونومي bubble economy) أو «الاقتصاد الطفيلي» (بالإنجليزية: دريفاتيف إيكونومي derivative economy) أي اقتصاد المضاربات المبني على التأمينات المصرفية التي لا يقابلها رأسمال حقيقي (تجارة الأموال تقدر بنحو 500 ترليون دولار. [ الترليون يساوى 1000 مليار] وهو ما يعنى أن تجارة الأموال تصل إلى 50 ضعف قيمة تجارة السلع الدولية التى تبلغ قيمتها الإجمالية عام 1997 نحو 10 تريليونات دولارا فقط لاغير. (كل هذا يعنى ابتعاد الاستثمار المالي عن الاستثمار الاقتصادي الحقيقي. ومع هذه الحركة الطائشة للترليونات يتقرر مصير أمم بأكملها ارتفاعا وهبوطا.
وقد تزايد دور الإعلام وقطاع اللذة في تصعيد الاستهلاك. ولا يمكن الحديث عن مستغل ومستغَل، فالمستغل في مكان يصبح مستغَلاً في مكان آخر. فكأن عملية الاستغلال أصبحت بلا بؤرة ولا مركز، وأصبح النموذج دائرياً: نموذج قوي فعال دون فاعل، يدور كالآلة. وكما يقول سيرج لا توش: "لا يمكن الحديث عن الحضارة الغربية الحديثة [أو عن الحداثة الغربية] باعتبارها لحظة زمنية أو رقعة جغرافية، وإنما هي آلة بدأ الإنسان في تشغيلها، ثم استمرت في الدوران بقوة الدفع الذاتية، ثم أخذت تتزايد سرعتها بقوة تفوق طاقة الإنسان. وهي في دورانها تدوس بقوة على الجميع، بما في ذلك الإنسان الغربي نفسه الذي بدأها في الدوران وكان يحاول توظيفها لصالحه". في هذا الإطار (الآلة التي تدور ـ الاقتصاد الطفيلي ـ الإعلام الشرس ـ عالم بلا بؤرة) يشعر الإنسان بالعجز الكامل فيتزايد الحديث عن المؤامرة.
ويُلاحَظ تراجع الهيمنة الاقتصادية للولايات المتحدة وظهور مراكز أخرى في اليابان وجنوب شرق آسيا وألمانيا، وبداية الخصخصة في العالم الثالث، وتَساقُط سياسات الاقتصاد الوطني وتفشي النزعة الاستهلاكية. وتدخل الدولة الصهيونية المرحلة الفردوسية الاستهلاكية.
ساجدة لله
2010-10-23, 07:04 AM
ثانياً: في المجال السياسي والاجتماعي:
أ) نشبت الثورة البورجوازية ضد الإقطاع ثم الثورة البروليتارية ضد الرأسمالية، وانتصرت البورجوازية والطبقات المتوسطة وتَبلور الصراع الطبقي وظهرت القوميات العلمانية (العضوية وغير العضوية) والدولة القومية المركزية المطلقة (مرحلة الملكيات المطلقة ومرحلة الدول الديموقراطية في غرب أوربا والاشتراكية في شرقها) وتم تأكيد أهمية الماضي القومي والهوية القومية.
والدولة القومية هي التي قامت بتحديد الحدود وترشيد الداخل الأوربي وتحديث المؤسسات وعلمنة الرموز وتدجـين الإنسـان الأوربي وتحـويله إلى إنسـان وظيفي حديث ("اسـتعمار عــالم الحياة"، على حد قول هابرماس)، ثم جيشت الجيوش ونهبت العالم فأسست البنية التحتية والفوقية للمجتمعات الغربية من خلال التراكم الإمبريالي (الذي يُقال له «التراكم الرأسمالي»).
ورغم قوة الدولة القومية وشراستها وهيمنة البورجوازية، ظلت هناك جيوب تقليدية (أرستقراطية ـ إثنية ـ دينية) حتى الحرب العالمية الثانية، وكان كثير من أعضاء النخب الحاكمة من أصول أرستقراطية، وكان معظم أوربا يحكمها أسر ملكية. بل تكيفت البورجوازية مع النظام القديم وتلونت الأرستقراطية الصناعية بألوان الأرستقراطية الزراعية.
ويرى أحد المؤرخين أن التحول الحقيقي للغرب تم بعد ما يسميه «حرب الثلاثين عاماً الجديدة» (1914 ـ 1944) إذ تم تحديث وعلمنة كل النظم والمؤسسات والبنَى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وتهميش الأرستقراطيات وكل الجيوب التقليدية المتبقية.
ومع نهاية المرحلة، يبدأ تآكل الدولة القومية من خلال ظهور النزعات الإثنية والكوزموبوليتانية في الوقت نفسـه (ومن خـلال تزايد النزعات الفردية والتوجه الحاد نحو اللذة المتمركزة حول الإشباع الجنسي بالدرجة الأولى). كما بدأت حركيات السوق (التي لا تعرف القيم أو الخصوصيات) تهدد الحدود القومية. ومع هذا يُلاحَظ تصاعد هيمنة البيروقراطية والتكنوقراطية وتزايد تَدخُّل الدولة في كل مناحي الحياة الخاصة. وتنتهي المرحلة بالإبادة النازية والإرهاب الستاليني والمكارثية وهيروشيما وناجازاكي وفيتنام وكمبوديا وتأسيس الدولة الصهيونية في فلسطين، ثم تظهر أسلحة الدمار الكوني والأسلحة الميكروبية (لأول مرة في تاريخ البشرية، ما يخصصه الإنسان من طاقة واعتمادات في تطوير أسلحة الدمار والفتك يفوق ما يخصصه لإنتاج الطعام، على سبيل المثال). ويُلاحَظ تَصاعُد حركات التحرر الوطني في العالم الثالث التي تحـاول القوى الاسـتعمارية قمعها بضراوة. وتقوم الدولة الصهيونية بضرب الشـعب الفلسطيني بيد من حديد، بعز أن طُرد معظم أفراد الشعب الفلسطيني من ديارهم.
ب) مع تصاعد معدلات التدويل في عصر ما بعد الحداثة ضمرت الدولة القومية ومؤسساتها إذ أخذت تزاحمها مؤسسات ومراكز قوى أخرى (نقابات ـ جماعات ضغط ـ شركات ضخمة ـ منظمات غير حكومية)، فالسلطة لم تَعُد مجموعة مؤسسات مركزية يمكن الاستيلاء عليها والتحكم فيها، فهي موزعة بين عدة مؤسسات متغلغلة في المجتمع. ومن أهم التطورات تضخُّم (بل تغوُّل) قطاع صناعات اللذة، وهيمنته على الحياة الخاصة التي تم استيعابها في رقعة الحياة العامة، وتزايد تأثير وسائل الإعلام ومنظومات المعلومات التي تحاصر الإنسان بالصور الأيقونية الجذابة المتغيرة، الخالية من المضمون والمعنى تقريباً، والتي تكاد تشير إلى ذاتها. ولذا فالمجتمع لا تحكمه الدولة وإنما تحكمه منظومات المعلومات والشفرات الجماعية الموحَّدة (كود Code). ومن أهم التطورات الأخرى تزايد الوزن النسبي لكثير من الفئات الهامشية، وضمور الهويات القومية، واختفاء بقايا الأرستقراطية والثقافة الأرستقراطية (1945). وظهور الطبقة المتوسطة الجديدة من المهنيين (كانوا يُشكِّلون 5 ـ 10% من سكان الدول الغربية الصناعية حتى بداية القرن العشرين، ولكن عددهم في الوقت الحاضر يبلغ نحو 20 ـ 25%). وهم أقلية عددية كبيرة يتمتع أعضاؤها بنفوذ قوي يتجاوز نسبتهم العددية، فهم الذين يضعون السياسات والإستراتيجيات، كما أن لهم نفوذاً ثقافياً قوياً، لأنهم يتميَّزون بمقدرتهم على الإنفاق، وهم لهذا أكثر مواكبة لعصر الاستهلاك. ونتيجةً لهذا كله يحل هؤلاء المهنيون محل الأرسـتقراطية القــديمة أو حتـى البـورجــوازية فـي تحديــد قيــم المجتمــع وأسلــوبه في الحــياة. وموقـف هــؤلاء المهنــيين من الطبقـة العاملة مبهم للغاية. ولكـن الطبقــة العاملــة نفســها استُوعبت تماماً في أسلوب الحياة في المجتمعات الغربية ولم تعد أحلامها تختلف عن أحلام أعضاء المجتمع ككل، ففَقَدت أي دور ثـوري لهـا، ومن هنـا الإحـساس بأن الصراع الطبقي تم إلغاؤه.
ساجدة لله
2010-10-23, 07:04 AM
أما على مستوى الواقع فيُلاحَظ تزايد الاستقطاب الطبقي والجيلي في الولايات المتحدة وغيرها من الدول المتقدمة (وخصوصاً ابتداءً من نهاية السبعينيات). كما ظهرت حركات الطلاب والحركات الاجتماعية الجديدة التي تربط دائماً بين الانعتاق والحرية الجنسية، أي أن أحلام الثوريين لا تختلف كثيراً عن الأحلام التي يفبركها بكفاءة عالية قطاع اللذة في المجتمع. وقد أدركت قوى اليسار أن الثورة مستحيلة، وأن الاستيلاء على الحكم مستحيل، في عصر ما بعد الأيديولوجيا وسيادة الفكر التكنوقراطي في عالم السياسة وقوانين الإدارة العلمية، وأنه لو تم الاستيلاء على السلطة فإن هذا لن يحل المشكلة بسبب هيمنة النظم التكنوقراطية ونظم المعلومات والصور الأيقونية المخلّقة على الإنسان من الداخل والخارج. ومع هذا يُلاحَظ اندلاع الحركات الثورية ذات التوجه البيئي، التي تشكل أول انسلاخ حقيقي ذي طابع جماهيري عن منظومة التحديث الغربية، المادية العقلانية. ورغم ضرب حركات التحرر الوطني في العالم الثالث وظهور نخب حاكمة ذات اتجاه تغريبي واضح، وتَآكُل مؤسسات الدولة القومية وتَزايُد الحروب الإثنية والدينية، يُلاحَظ ظهور حركات شعبية ترفض عملية التدويل والتغريب، فعلى سبيل المثال، اندلعت الانتفاضة وهي حركة شاملة للتغيير، خارج المنظومة الغربية. ويبدأ في إسرائيل والولايات المتحدة الحديث عن التسوية السلمية مع العرب، وتبدأ بعض النخب، بما في ذلك النخبة الفلسطينية، في تَقبُّل هذا الخطاب الجديد.
ساجدة لله
2010-10-23, 07:04 AM
ثالثاً: المجال الدولي:
أ) تبدأ هذه المرحلة بالاستعمار الاستيطاني ثم الإمبريالية العالمية (عصر استغلال الموارد الطبيعية والبشرية على المستوى العالمي بشكل مباشر ومن خلال الجيوش النظامية). وتتم هيمنة الاتحاد السوفيتي على الأحزاب الشيوعية وعلى الدول المجاورة باسم الأممية الاشتراكية، كما يتخذ الدفاع عن الاتحاد السوفيتي شعار الدفاع عن مصالح الطبقة العاملة. أما الاستعمار الغربي فيتم تبريره باللجوء إلى شعارات مثل "عبء الرجل الأبيض" و"الرسـالة الحـضارية" و"القدر المحتوم" وتشهـد الفـترة حروباً عـالمية (أي غربية) وأخرى صغيرة في آسيا وأفريقيا. وبدأت تظهر ملامح ما يُسمَّى «جلوباليزيشن globalization» أي «العولمة» أو تحويل العالم إلى وحدات متجانسـة لا تتمـتع بأية خـصوصية (وهو الاتجــاه الذي أدى في نهاية الأمر إلى ظهور النظام العالمي الجديد). ومما سارع بهذا الاتجاه أن الاستعمار الغربي (والأمريكي بخاصة) اكتشف أن المواجهة مع الشعوب أمر مكلف جداً، وأن الحروب الاستعمارية لا تأتي بعائد كبير ولذا قرر التراجع عن الغزو العسكري المباشر والبحث عن أشكال أكثر مراوغة مثل الاستعمار الجديد. وثمة دولة غربية واحدة (إنجلترا حتى نهاية الحرب العالمية الأولى ثم الولايات المتحدة حتى الوقت الحاضر) هي المهيمنة على النظام العالمي وتنتهي الفترة بالحرب الباردة. وتبدأ عملية تصفية الجيوب الاستيطانية، ومع نهاية المرحلة لا يبقى سوى الجيب الاسـتيطاني في فلسـطين، يطل على أفريقيا وقناة السـويـس، والجيب الاسـتيطاني في جنوب أفريقيا في قاعدة القارة.
ب) تشهد هذه المرحلة بداية ظهور النظام العالمي الجديد ويمكن الحديث عن عولمة بعض القضايا مثل الطاقة النووية ـ التلوث البيئ ـ الإيدز ـ البريد الإلكترونى ـ ثورة المعلومات. هذا هو عصر استغلال الموارد الطبيعية والبشرية على المستوى العالمي بدون مواجهات عسكرية، ومن خلال تجنيد النخب المحلية الحاكمة لتنفيذ مخططات الدول الغربية، ومن خلال تَزايُد معدلات التدويل، بحيث يتحول الكون بأسره إلى شيء متجانس يتسم بالواحدية الدولية، لا خصوصيات له ولا ثنائيات ولا تَنوُّع. وبدلاً من استعمار الشعوب، يتم أمركتها وكوكلتها (نسبة إلى الكـوكاكولا) وتحل الكـوكاكولانية بدلاً من الكـولونيالية. ويتم الحـديث عن نهــاية التاريخ ونهاية الأيديولوجيا، لإشاعة الإحساس بأن ثمة نظاماً جديداً قد ظهر مبنياً على العدل وتَبادُل المصالح الاقتصادية. ومع هذا يُلاحَظ على مستوى الواقع أن 20% من سكان الأرض (شعوب الدول المتقدمة) يستهلكون 80% من موارد العالم الطبيعية. وقد تَزايد الاستقطاب على مستوى العالم لصالح الدول الثرية التي تزداد ثراء بينما تزداد الدول الفقيرة فقراً، من خلال عملية التبادل الاقتصادية "العادلة"! كما يُلاحَظ أن معدلات إنتاج الأسلحة (وبيعها) لم ينخفض كثيراً عن ذي قبل.
ولا يستخدم النظام العالمي الجديد الديباجات القديمة مثل عبء الرجل الأبيض وإنما يتحدث عن الدفاع (الانتقائي) عن حقوق الإنسان وحقوق الأقليات وحقوق النساء وربطها بالدفاع عن حقوق الشواذ جنسياً وعن حقوق الحيوانات.
Powered by vBulletin® Version 4.2.0 Copyright © 2024 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved, TranZ by Almuhajir