مشاهدة النسخة كاملة : اليهود واليهودية والصهيونية والصهاينة الجزء الأول
ساجدة لله
2010-10-23, 05:04 AM
حدود الموسوعة
الحديث عن إنجازات الموسوعة أمر سنتركه للمفكرين والنقاد والقراء. ومع هذا، قد يكون من المفيد أن نشير إلى ما تحاول الموسوعة إنجازه وما لم تحاوله، حتى يستطيع القارئ تحديد مستوى توقعاته منها وحتى تمكن محاكمتها من هذا المنظور وداخل الحدود التي وضعتها لنفسها.
1 ـ الموسوعة ليست موسوعة معلوماتية، ومن ثم فهي لا تهدف إلى حشد أكبر قدر ممكن من المعلومات. ورغم أنها تقدِّم قدراً كبيراً من المعلومات يفوق أحياناً ما يُقدَّم في الموسوعات المعلوماتية، إلا أن كم المعلومات ليس همها الأساسي، كما أنها لا تزعم أنها ستقدِّم للقارئ " آخر ما تم التوصل إليه " في حقل الدراسات التي تُعنَى باليهودية والصهيونية والجماعات اليهودية مع أن مؤلفها قد استفاد بكل ما أتيح له من دراسات، ومن ذلك أحدثها.
كما أنها لا تحاول أن تقدِّم عرضاً تاريخياً للظواهر التي تناولتها، رغم تأكيدها البُعد التاريخي، ورغم رفضها أن تُنزَع الظواهر من سياقها التاريخي. وهي لا تزعم لنفسها الشمول. فعلى سبيل المثال لم تضم الموسوعة كل الأعلام اليهود، وإنما حاولت تقديم أهمهم مع التركيز على الجوانب النماذجية من حياتهم. كما أن بعض الشخصيات الهامشية (من منظور النماذج السائدة) تم التركيز عليها بسبب أهميتها النماذجية. وحينما تعاملنا مع النظام السياسي الإسرائيلي، لم نقم بتغطيته تغطية شاملة بكل عناصرة، بل ركزنا وحسب على بعض الموضوعات الأساسية.
2 ـ الموسوعة، قبل كل شيء، دعوة إلى إعادة التفكير في طرق التفكير حتى نُحسِّن من أدائنا التنظيري والتفسيري الذي يجعلنا ندرك الواقع بشكل أكثر تركيباً دون الاستنامة للمقولات الاختزالية العامة الجاهزة. وتطرح الموسوعة فكرة النماذج التحليلية باعتبارها طريقة أكثر كفاءة من الطرق الأخرى في عملية رصد الواقع ودراسته وفي تنظيم المعلومات وتصنيفها وفي كيفية استخلاص النتائج والتعميمات منها، أي أن الموسوعة لا ترفض المعلومات ولا تبدأ من العدم (فهذا مستحيل) وإنما ترى ضرورة البحث عن المعلومات والتعامل معها شريطة عدم الاستسلام لها وتَوهُّم أن المعلومات هي المعرفة. ولو لم تكن المعلومات أساسية لاكتفى المؤلف منطقياً بالمجلد الأول الذي يوضح فيه نماذجه التحليلية.
ساجدة لله
2010-10-23, 05:04 AM
3 ـ حين تناولت الموسوعة الدولة الصهيونية تعاملت مع الأنماط المتكرة والثوابت الإستراتيجية وحسب وركزت على البُعد الصهيوني للظواهر الإسرائيلية وعلى تلك الظواهر الإسرائيلية التي استقرت نوعاً ما وأصبـحت ذات طابع بنيوي مثل «عنـصرية المجتمع الإسرائيلي» باعتباره مجتمعاً استيطانياً إحلالياً، ووظيفية الدولة الصهيونية.
4 ـ لا تكتفي الموسوعة بتقديم شرح منهج محدَّد (دراسة الواقع من خلال نماذج تفسيرية) وإنما تحاول أن تُقدِّم دراسة حالة: اليهود واليهودية والصهيونية وبعض جوانب التجمُّع الصهيوني. في هذا الإطار حاولت الموسوعة أن تقدم تاريخاً عاماً للعقيدة اليهودية والحركة الصهيونية ودراسـة متكاملة على مسـتوى عالمي (زماني ومكاني) يضم الصين والهند وغرب أوربا وشـرقها، قبل عصر النهضة وبعدها؛ وهي دراسة تبرز التنوع وعدم التجانس بين الجماعات اليهودية.
5 ـ تحـاول الموسـوعة أن تقدم الظواهر اليهـودية من خلال مجموعة من النماذج والسياقات (التاريخية ـ الاجتماعية ـ الاقتصادية ـ الدينية) المختلفة التي تساهم في تعريف المفاهيم والمصطلحات السائدة تعريفاً أكثر تفسيرية وتبرز جوانبها الإشكالية وتبتعد بذلك عن الواحدية السببية التي تُفسِّر كل الظواهر في إطار سبب واحد (مادي عادةً). واعتراضنا على المادية ليس بسبب ماديتها، فهناك من الظواهر ما لا يمكن تفسيره إلا من خلال نماذج مادية، وإنما بسبب زعمها الشمولية التفسيرية التي تؤدي إلى الاختزالية والواحدية. فعلى سبيل المثال، حينما تتعرض الموسوعة لظاهرة مثل يهود الاتحاد السوفيتي فإنها تفعل ذلك من خلال عدة مداخل عن تاريخ اليهود وتَوزُّعهم الوظيفي وأعدادهم وأسباب هجرتهم وانتماءاتهم السياسية والفكرية والدينية في كلٍّ من روسيا القيصرية وروسيا السوفيتية والمشاكل المادية والمعنوية التي قابلوها. كما توجد عدة مداخل أخرى عن أنواع يهود الاتحاد السوفيتي (القراءون ـ الكرمشاك ـ الجورجيون ـ يهود اليديشية ـ يهود الجبال ـ يهود بخارى.. إلخ). وتضم الموسوعة أيضاً مداخل عن موقف ماركس وإنجلز والبلاشفة من المسألة اليهودية، وعلاقة اليهود بالفكر الاشتراكي، وتطور الرأسمالية الغربية، وتطور العلمانية.
6 ـ تقوم الموسوعة باستخدام النماذج التحليلية. والنماذج هي ثمرة عملية تجريد بحيث يمكن النظر للظاهرة في علاقتها بظواهر أخرى مماثلة. وهذه قضية في غاية الأهمية في حالة دراسة اليهود، إذ يمكن من خلال النماذج التحليلية الخروج بالظواهر اليهودية من جيتو التفرُّد (الصهيوني المعادي لليهود واليهودية) بحيث يتم ربطها بظواهر مماثلة. فاشتغال اليهود بالتجارة في الحضارة الغربية يتم ربطه باشتغال الصينيين بالتجارة في جنوب شرق آسيا، وظاهرة اليهود المتخفين (المارانو) في شبه جزيرة أيبريا يتم ربطها بظاهرة المسلمين المتخفين (الموريسكيين). ونحن بذلك لا نَسقُط في أية عنصرية تفسيرية أو فعلية، كما أننا نبيِّن بذلك أن اليهود بشر وأن مفهوم الإنسانية المشتركة مفهوم له مقدرة تفسيرية.
ساجدة لله
2010-10-23, 05:04 AM
7 ـ طوَّرت الموسوعة مفهوم الجماعات الوظيفية باعتبارها مفهوماً تحليلياً مركباً، كما بيَّنت أهمية الدور الوظيفي للجماعات اليهودية وإدراك الجماعات اليهودية باعتبارها وظيفة تُؤدَّى ودوراً يُلعَب داخل مجتمع الأغلبية. ومن خلال هذا المفهوم، أمكن لنا أن ندرك الاستمرارية بين المفهوم الغربي لليهود باعتبارهم جماعات وظيفية وبين الرؤية الغربية للدولة الصهيونية باعتبارها دولة وظيفية (قاعدة للاستعمار الغربي وحليفاً إستراتيجياً له). وأبرز لنا هذا المفهـوم التحـليلي الأهـمية التاريخـية لتجربة أعضـاء الجـماعات اليهودية في بولندا في إطار الإقطاع الاستيطاني.
8 ـ طوَّرت الموسوعة نموذج الرؤية العلمانية الإمبريالية الشاملة كنموذج تفسيري شامل، وبيَّنت العلاقة بين العلمنة الشاملة والإمبريالية وأثر كل هذا على الجماعات الوظيفية في الغرب والعالم.
9 ـ طوَّرت الموسوعة نموذج الحلولية الكمونية الواحديةكنموذج تفسيري. وفي ضوء هذا، أعدنا كتابة تاريخ اليهودية وتاريخ أعضاء الجماعات اليهودية وبيَّنا الأهمية المحورية لظهور القبَّالاه (باعتبارها نسقاً غنوصياً حلولياً كمونياً متطرفاً).
10 ـ أبرزت الموسوعة التمييز البديهي بين اليهود واليهودية، أي التمييز بين المثالي والمعياري من جهة، والفعلي والمتحقق من جهة أخرى؛ بين أحلام البشر وأشواقهم من جهة، وأدائهم وواقعهم من جهة أخرى.
11 ـ تميِّز الموسوعة بين التاريخ المقدَّس الذي ورد في العهد القديم والتاريخ الزمني الذي يعيش في إطاره أعضاء الجماعات اليهودية. وانطلاقاً من هذا، بيَّنا أنه لا يوجد تاريخ يهودي عام وعالمي مستقل عن تواريخ البشر. ومن ثم، حاولت الموسوعة أن تُعيد كتابة تواريخ أعضاء الجماعات اليهودية بطريقة أكثر تركيبية وتفسيرية، ومن ثم أكثر إنسانية عما كُتب من تواريخ اختزالية. وحاولنا أن نُبيِّن أنه لا يوجد تاريخ ليهود مصر بمعزل عن تاريخ مصر، ولا تاريخ ليهود بابل بمعزل عن تاريخ بابل، ولا تاريخ ليهود الولايات المتحدة بمعزل عن تاريخ بلدهم.
ساجدة لله
2010-10-23, 05:04 AM
12 ـ تُبيِّن الموسوعة أنه لا يوجد تاريخ للصهيونية مستقل عن تاريخ الحضارة الغربية الحديثة، ولا تاريخ للصهيونية غير اليهودية منفصل عن تاريخ الصهيونية بين اليهود، ولا تاريخ للصهيونية منفصل عن تاريخ العداء لليهود، ولا تاريخ للفكر اليهودي الغربي بمعزل عن تاريخ الفكر الغربي. ورغم إدراكنا للوحدة النهائية، إلا أننا طوَّرنا مفهوماً للوحدة الفضفاضة لا يَجُبُّ استقلالية كل ظاهرة عن الأخرى.
13 ـ حاولت الموسوعة ضبط المستوى التعميمي والتخصيصي، فقامت بتأكيد البُعد الإنساني العام في الظواهر اليهودية، ذلك البُعد الذي تحرص الدراسات الصهيونية والمعادية لليهودية على إخفائه، وحاولت أن تبتعد عن الأيقنة وتأكيد الخصوصية والتفرُّد (الذي تحرص الدراسات الصهيونية والمعادية لليهودية على إبرازه). ولكنها، في الوقت نفسه، لم تسقط في التعميم الذي يُفقد الظاهرة ملامحها وقسماتها ومنحناها الخاص. وقد بيَّنا أن هذا الخطاب التحليلي السائد في تلك الدراسات التي تُعنَى باليهود واليهودية والصهيونية يتأرجح بين التعميم الشديد والتخصيص الشديد. فالإبادة النازية لليهود إن هي إلا تعبير عن نمط متكرر عام هو العداء الأزلي لليهود من قبَل الأغيار. ويمكن أيضاً المغالاة في التخصيص، فيُقال إن الإبادة النازية لليهود إن هي إلا جريمة ألمانية خالصة ضد اليهود وحدهم. وذهبنا في هذا إلى أن الإبادة النازية لحظة نماذجية فريدة ولكنها تعبير عن نمط عام هو استخدام الإبادة (بصورة عامة) من قبَل التشكيل الإمبريالي الغربي كآلية إمبريالية لإعادة صياغة العالم ونقل الفائض السكاني الغربي خارج القارة الأوربية وإحلاله محل العناصر البشرية التي تتم إبادتها. ولذا فإن إبادة اليهود على يد النازيين تشبه إبادة سكان أمريكا الأصليين على يد المستوطنين البيض ولا تختلف كثيراً عن المشروع الصهيوني الذي كان يهدف إلى نقل الفائض السـكاني اليهودي خارج القارة الأوربية وتوطينه في فلسـطين ليحل محل الفلسـطينيين الذين يتم طردهم وإبادتهم أحياناً. ومع هذا، فالإبادة النازية لها خصوصيتها إذ أنها عملية الإبادة الوحيدة التي تمت داخل أوربا وليس خارجها، على عكس عمليات الإبادة الأخرى. كما أنها تمت بمنهجية صارمة لم تتسم بها عمليات الإبادة الأخرى.
14 ـ من خلال نموذج الحلولية، تحاول الموسوعة أن تطرح أساساً جديداً لعلم مقارنة الأديان يبتعد عن الرصد البراني للشعائر والعقائد ويحاول أن يصل للنماذج الكامنة التي تبين الاختلاف حين يُظَن الاتفاق، والاتفاق حين يُظَن الاختلاف. ففي ضوء نموذج الحلولية الكمونية أمكن إعادة تحديد علاقة اليهودية بالمسيحية، كما أمكن إعادة تعريف العلاقة بين المسيحية واليهودية والإسلام بحيث يتضح التقارب بين المسيحية والإسلام (والتباعد بين الإسلام واليهودية) على عكس ما هو مُتصوَر في كثير من الدراسات. وتحاول الموسوعة تفسير ظاهرة الإصلاح الديني (وما صاحبها من حركات صوفية متطرفة) باعتبارها تعبيراً عن تزايد معدلات الحلولية الكمونية ومن ثم تصاعد معدلات العلمنة. وبهذه الطريقة، أمكن الربط بين البروتستانتية والإنسانية الهيومانية رغم تعارضهما الظاهر.
ساجدة لله
2010-10-23, 05:04 AM
15 ـ ارتبط بهذا تطوير مصطلحات جديدة تعبِّر عن مفاهيم جديدة. فبدلاً من «الصهيونية العالمية» نتحدث عن «الصهيونيتين (التوطينية والاستيطانية)» و«العلمانيتين (الجزئية والشاملة)». ويُلاحَظ أن المصطلحات المُستخدَمة في حقل الدراسات التي تُعنَى باليهود واليهودية والصهيونية تُجسِّد التحيزات الصهيونية والغربية، ولذا فقد تم إحلال مصطلحات أكثر حياداً محلها؛ فتم مثلاً استبعاد مصطلح مثل «الشعب اليهودي» الذي يفترض أن اليهود يشكلون وحدة عرقية ودينية وحضارية متكاملة (الأمر الذي يتنافى مع الواقع) ليحلّ محله مصطلح «الجماعات اليهودية»، وبدلاً من كلمة «الشتات» استُخدمت العبارة المحايدة «أنحاء العالم»، وبدلاً من «التاريخ اليهودي» تشير الموسوعة إلى «تواريخ الجماعات اليهودية». والمصطلحات البديلة ليست أكثر حياداً وحسب وإنما أكثر دقة وتفسيرية.
16 ـ حاولت الموسوعة أن توضح أن المؤشرات لا تشير بالضرورة إلى ما هو مُتَعارَف عليه في الأوساط العلمية. فهجرة يهودي إلى إسرائيل ليست بالضرورة تعبيراً عن انتمائه الصهيوني، وبناء معبد يهودي لا يعني بالضرورة تزايد معدلات التمسك بالعقيدة اليهودية.
17 ـ والعناصر السابقة، رغم أنها مرتبطة أساساً بحقل الدراسات الخاصة باليهود واليهودية، إلا أن تعميمها على حقول معرفية أخرى أمر ممكن، فقضية النماذج الاختزالية في مقابل النماذج المركبة يواجهها كل الدارسين في حقل الدراسات الإنسانية.
18ـ من خلال نموذج الحلولية، حاولت الموسوعة أن تُلقي أضواء جديدة على تاريخ العلمنة والعلمانية الشاملة وعلى تَطوُّر الحضارة الغربية الحديثة (من التحديث والحداثة إلى ما بعد الحداثة) ودور الترشيد (في الإطار المادي). وطرحت الموسوعة فكرة التراكم الإمبريالي بدلاً من التراكم الرأسمالي.
19ـ تحاول الموسوعة أن تبيِّن علاقة مفهوم الحلولية بمقولة التجاوز والإنسانية المشتركة (باعتبار الإنسان مقولة متجاوزة للطبيعـة/المــادة رغـم أنهـا تتبــدى من خــلالها، وباعـتبار ثنـائية الإنسان والطبيعة صـدى لثنائية الخـالق والمخـلوق وتعبير عن نموذج التوحيد). كما تحاول أن تبيِّن الدلالات المعرفية والإمكانات البحثية لهذه العلاقة.
ساجدة لله
2010-10-23, 05:05 AM
20ـ تحاول الموسوعة أن تشـرح مفهـوم المسـافة (الحـيز الإنســاني) التـي تفصل الخالق عن المخلوق (والدال عن المدلول، والكل عن الجزء، والمطلق عن النسبي، والنموذجي عن الواقع). وأن تطرح حلاًّ لمشكلة القيمة في العلوم الاجتماعية؛ فالقيمة الأخلاقية معيارية ومثالية يحتكم إليها الفاعل الإنساني ولكنها لا تتجسد بالضرورة في الواقع، ومن ثم فهي لا تخضع للبحث الإمبريقي رغم تبدِّيها في سلوك الناس وطموحاتهم وأشواقهم.
21 ـ حاولت الموسوعة أن تطرح طرقاً جديدة للتعريف وإعادة التعريف: «التعريف من خلال دراسة الحقل الدلالي لمجموعة من المصطلحات المتداخلة المتشابكة» و«التعريف من خلال التفكيك وإعادة التركيب في ضوء الثوابت البنيوية والمسلمات الكامنة».
22 ـ بل تحاول الموسـوعة توسيع نطاق علم الاجتماع من خلال ربطه بمسـتويات جديدة من الوعي والنشـاط الإنساني، بحيث لا يُستبعَد المجهول ويبقى المعلوم، ولا يُستبعَد المعرفي (الكلي والنهائي) ويبقى السياسي والاقتصادي والملموس، ولا يُستبعَد الإنساني المركب ويبقى المادي الواحدي.
23 ـ تحاول الموسوعة أن تستعيد الفاعل الإنساني وتركيبيته، وأحد العناصر الأساسية هنا هو الإنسانية المشتركة (كبديل لمفهوم الطبيعة البشرية الجامد والإنسانية الواحدة). وتقترح الموسوعة إمكانية توليد معيارية من هذه الإنسانية المشتركة وتذهب إلى أن رفض العلوم الإنسانية الغربية لمفهوم الإنسانية المشتركة والثوابت الإنسانية العالمية أدَّى بها إلى السقوط في النسبية والسيولة والعمومية وأخيراً العدمية.
24 ـ تطرح هذه الموسوعة نفسها كمحاولة أولية لإعادة تأسيس أحد حقول الدراسة (دراسة اليهود واليهودية والصهيونية) انطلاقاً من رؤية عربية إسلامية. ونحن نذهب إلى أنه يمكن محاكاتها أو الاستفادة منها في محاولة تأسيس علوم إنسانية عربية بشكل منهجي. والموسوعة، كشكل من أشكال التأليف، تحاول تغطية المصطلحات والمفاهيم والأعلام في تخصص ما. وتحاول الموسوعة (في جانبها التفكيكي) أن تقوم بتفكيك المفاهيم السائدة، وهي في أغلب الأحيان مفاهيم غربية، ثم تحاول بعد ذلك (في جانبها التأسيسي) تأسيس نماذج تحليلية تتفرع عنها مفاهيم ومصطلحات نابعة من التجربة العربية والإسلامية، ومن زاوية رؤيتنا.
ساجدة لله
2010-10-23, 05:05 AM
25 ـ يمكن القول بأن الموسوعة ككل هي موسوعة كتبها مؤلف يشعر أن الحداثة الغربية( التي تدور في إطار العقلانية واللاعقلانية المادية والعلمانية الشاملة) قد أدخلت الجنس البشري بأسره في طريق مسدود. وتطرح الموسوعة أسئلة معرفية (كلية ونهائية): ماذا يحدث للإنسان في عالم بدون إله؟ وماذا يحدث للإنسان في عالم نسبي لا توجد فيه ثوابت ولا مطلقات ولا قيم عالمية؟ وماذا يحدث للإنسان في عالم توجد فيه حقائق بلا حقيقة ولا حق؟ وما هو مصير الإنسان في عالم انفصل فيه العلم عن القيمة وعن الغائية الإنسانية؟. واليهودي الذي تم تهجيره إلى إسرائيل تحت مظلة الإمبريالية الغربية وتم تحويله إلى شخصية داروينية شرسة حتى يتسنى توظيفه في خدمتها، والذي تتم إبادته في ألمانيا النازية بطريقة منهجية، وتم دمجه في الحضارة الاستهلاكية حتى لم يبق من ماضيه وهويته سوى القشور وتم قمعه وترشيده من الداخل والخارج: أليس هذا اليهودي مثلاً صارخاً لما يحدث للإنسان في عصر الحداثة والعقلانية واللاعقلانية المادية؟ ومن هنا، فإن الموسوعة تطالب بالبحث عن حداثة جديدة لا تنتهي إلى موت الإنسان والطبيعة بعد أن أعلنت بصلف وخيلاء موت الإله.
26ـ ومع أن الموسـوعة حاولت إنجاز الكثير، إلا أن ما تقدمه هو أساساً برنامج بحثي وطرح لأسـئلة وإثارة لإشكاليات، أي أنها ورقة عمل بشأن الموضوعات التي تناولتها أكثر من كونها إجابات محدَّدة. وقد حاولنا أن نُحدِّد بعض معالم الإجابات وأن نوضح المنهج الذي استخدمناه في الوصول إلى هذه الإجابات. ومع هذا، تظل الموسوعة في نهاية الأمر جدول عمل، أي اجتهاداً أولياً.
وبقية مداخل هذا المجلد هو محاولة توضيح الإطار النظري الذي تنطلق منه الموسوعة فيتناول الجزء الأول الأساس الفلسفي، فنتناول المفردات الأساسية التي نستخدمها انطلاقاً من نموذجنا التحليلي، وما نسميه «إشكالية الإنساني والطبيعي والموضوعي والذاتي». أما الجزء الثاني فيتناول النموذج كأداة تحليلية. وتتناول بقية الأجزاء (الثاني والثالث والرابع) النماذج الأساسية الثلاثة المستخدمة في الموسوعة: الحلولية ـ العلمانية الشاملة ـ الجماعات الوظيفية. وبقية مجلدات الموسوعة هي محاولة لتطبيق هذا الإطار النظري على حالة محددة هي حالة اليهود واليهودية والصهيونية وإسرائيل.
ساجدة لله
2010-10-23, 05:05 AM
الباب الثانى: مفـردات
المرجعية النهائية، المتجاوزة والكامنة
كلمة «مرجع» من «رجع» بمعنى «عاد». يُقال «رجع فلان من سفره» أي «عاد منه»، و«المرجع» هو «محل الرجوع» وهو «الأصل». وفي التنزيل العزيز "إلى الله مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون" (المائدة 105 ) . ومن هنا كلمة «مرجعية» التي تعني الفكرة الجوهرية التي تشكل أساس كل الأفكار في نموذج معين والركيزة النهائية الثابتة له التي لا يمكن أن تقوم رؤية العالم دونها (فهي ميتافيزيقا النموذج). والمبدأ الواحد الذي تُردّ إليه كل الأشياء وتُنسَب إليه ولا يُردّ هو أو يُنسَب إليها. ومن هنا، يمكن القول بأن المرجعية هي المطلق المكتفي بذاته الذي يتجاوز كل الأفراد والأشياء والظواهر وهو الذي يمنح العالم تماسكه ونظامه ومعناه ويحدد حلاله وحرامه. وعادةً ما نتحدث عن المرجعية النهائية باعتبار أنها أعلى مستويات التجريد، تتجاوز كل شيء ولا يتجاوزها شيء. ويمكننا الحديث عن مرجعيتين: مرجعية نهائية متجاوزة ومرجعية نهائية كامنة.
1 ـ المرجعية النهائية المتجاوزة:
المرجعية النهائية يمكن أن تكون نقطة خارج عالم الطبيعة متجاوزة لها وهي ما نسميها «المرجعية المتجاوزة» (للطبيعة والتاريخ والإنسان). هذه النقطة المرجعية المتجاوزة، في النظم التوحيدية، هي الإله الواحد المنزَّه عن الطبيعية والتاريخ، الذي يحركهما ولا يحل فيهما ولا يمكن أن يُردَّ إليهما. ووجوده هو ضمان أن المسافة التي تفصل الإنسان عن الطبيعة لن تُختَزل ولن تُلغى. فالإنسان قد خلقه الله ونفخ فيه من روحه وكرَّمه واستأمنه على العالم واستخلفه فيه، أي أن الإنسان أصبح في مركز الكون بعد أن حمل عبء الأمانة والاستخلاف. كل هذا يعني أن الإنسان يحوي داخله بشكل مطلق الرغبة في التجاوز ورفض الذوبان في الطبيعة، ولذا فهو يظل مقولة مستقلة داخل النظام الطبيعي. كما أنه يعني أن إنسانية الإنسان وجوهره الإنساني مرتبط تمام الارتباط بالعنصر الرباني فيه. ومع هذا فبإمكان النظم الإنسانية الهيومانية (التي لا تعترف بالضرورة بوجود الإله) أن تجعل الإنسان مركز الكون المستقل القادر على تجاوزه ومن ثم تصبح له أسبقية على الطبيعة/المادة.
ساجدة لله
2010-10-23, 05:05 AM
2 ـ المرجعية النهائية الكامنة:
يمكن أن تكون المرجعية النهائية كامنة في العالم (الطبيعة أو الإنسان)، ومن هنا تسميتنا لها بالمرجعية الكامنة. وفي إطار المرجعية الكامنة، يُنْظر للعالم باعتبار أنه يحوي داخله ما يكفي لتفسيره دون حاجة إلى اللجوء إلى أي شيء خارج النظام الطبيعي. ولذا، لابد أن تسيطر الواحدية (المادية)، وإن ظهرت ثنائيات فهي مؤقتة يتم محوها في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير، ففي إطار المرجعية الكامنة لا يوجد سوى جوهر واحد في الكون، مادة واحدة يتكون منها كل شيء، وضمن ذلك المركز الكامن نفسه (ومن هنا إشارتنا أحياناً إلى «المرجعية النهائية الكامنة» باعتبارها «المرجعية الكامنة المادية» أو «المرجعية الواحدية المادية»). ونحن نذهب إلى أن كل النظم المادية تدور في إطار المرجعية الكامنة، ومن هنا إشـارتنا إلى المادية باعتبارها وحدة الوجود المادية.
وفي إطار المرجعية المادية الكامنة، فإن الإنسان كائن طبيعي وليس مقولة مستقلة داخل النظام الطبيعي، وإنما هو مُستوعَب تماماً فيه، ويسقط تماماً في قبضة الصيرورة، فتسقط المرجعية الإنسانية وتصبح الطبيعة/المادة هي المرجعية الوحيدة النهائية.
ويذهب دعاة المرجعية المادية الكامنة إلى أن رغبة الإنسان في التجاوز رغبة غير طبيعية، ومن ثم غير إنسانية (باعتبار أن الطبيعي والإنساني مترادفان)، وإلى أن الأجدر بالإنسان أن يذوب في الكل الطبيعي بحيث يظهر الإنسان الطبيعي. وبهذا المعنى، فإن المرجعية الكمونية المادية تشكل هجوماً على الإنسان ككيان حر مستقل عن الطبيعة/المادة وعلى مركزيته في الكون.
وقد وُصفت الوثنية بأنها محاولة إنزال الآلهة من السماء إلى الأرض (وإدخالها في نطاق المرجعية المادية الكامنة) بحيث تخضع لقوانين الأرض الطبيعية/المادية، ومن ثم يخضع الإنسان هو الآخر لهذه القوانين، إذ كيف يمكنه تجاوزها إذا كانت الآلهة نفسها خاضعة لها؛ مستوعَبة تماماً في الواحدية المادية الكونية؟ (والنزعة الوثنية لا تختلف في هذا عن النزعات العلمانية المادية الطبيعية التي ترجع كل شيء إلى الطبيعة/المادة وتنكر أي إمكانية للتجاوز الإنساني). أما الديانات التوحيدية، فهي نوع من محاولة الصعود بالإنسان إلى الإله في السماء (وإدخاله في نطاق المرجعية المتجاوزة). فالإنسان، بما فيه من رغبة في التجاوز، له قانون خاص ووجود مستقل عن المادة وعن الطبيعة. ومن ثم تُطرح أمام الإنسان إمكانية أن يعبِّر عما بداخله من طاقات غير مادية (ربانية إن شئت)، وأن يتجاوز قوانين الطبيعة والمادة ويحقق القانون الإلهي (أو الجوهر الإنساني) المختلف عن القانون المادي الطبيعي.
الرد (رد إلى)
«ردَّ الشيء» أي «حوَّله من صفة إلى صفة»، و«ردَّ الشيء إلى الشيء» «أرجعه إليه». والرد في اصطلاح الفلاسفة إرجاع الشيء إلى ما نتصور أنه عناصر أساسية وتخليته من العناصر الغريبة عنه. كأن نقول "رد المذهب إلى نقاطه الأساسية". وفي إطار المرجعية المادية الكامنة يتم رد كل الظواهر إلى المركز الكامن في الكون وهو الطبيعة/المادة وهو ما يؤدي إلى هيمنة الواحدية المادية، على عكس المرجعية المتجاوزة إذ لا يمكن رد الإنسان في كليته إلى شيء كامن في الكون، فهو يحوي داخله النزعة الربانية. وأية عملية تفسيرية تحليلية تتضمن عملية رد، إذ تُردَّ التفاصيل الكثيرة الظاهرة إلى الوحدة الكامنة غير الظاهرة.
ساجدة لله
2010-10-23, 05:05 AM
المسافة والحدود والحيز الإنسانى
«المسافة» هي «البُعْد» وهي أيضاً «المساحة»، وقد تُستخدَم في الزمان فيُقال «مسافة يوم أو شهر». والمسافة مرتبطة تمام الارتباط بفكرة الحدود. والحد في اللغة يعني «المنع والفصل بين الشيئين»، و«منتهى كل شيء» هو «حده» (المعنى الأنطولوجي). والحد هو أيضاً تأديب المذنب كقولنا: «طُبِّقَ عليه الحد»، و«حدود الله تعالى» هي الأشياء التي بيَّن حرامها وحلالها (المعنى الأخلاقي). و«الحد» هو «التعريف الكامل» أو «تحليل تام لمفهوم اللفظ المراد تعريفه»، و«حد الشيء» هو «الوصف المحيط بمعناه المميَّز له عن غيره» (المعنى الدلالي). وأخيراً «حدّ الشيء» هو مصدر تميُّزه وهويته (المعنى النفسي). فكأن الحدود مرتبطة كل الارتباط بوجود الشيء وبمضمونه الأخلاقي وبإمكانية معرفته ودلالته وهويته.
ونحن نذهب في هذه الموسوعة إلى أن المنظومات المعرفية التي تدور في إطار المرجعية المتجاوزة (مثل العقائد التوحيدية) نظم تحتفظ بالحدود الفاصلة بين الخالق العلي المتجاوز ومخلوقاته، فهو مركز النموذج المفارق والمتجاوز له. ولذا، تظل المسافة والحدود قائمة بين الخالق والمخلوق لا يمكن اختزالها مهما كانت درجة اقتراب المؤمن من الإله. ومن هـنا، لا يمكن في الإطار التوحيدي أن "يصل" المتصـوف إلى الالتصاق بالإله أو الاتحاد به، فثمة مسافة جوهرية ثابتة. ولذا، فإن رسول الله نفسه (صلى الله عليه وسلم) لم "يصل"، بل ظل قاب قوسين أو أدنى في أقصى حالات الاقتراب. وهذا ما سماه أحد الفقهاء «البينية»، أي وجود حيز "بين" الخالق والمخلوق.
ووجود الحدود بين الخالق والمخلوق يعني أن المخلوق له حدوده لا يتجاوزها، ولكنها تعني أيضاً أنه له حيزه الإنساني المستقل، ولذا يظل الإنسان صاحب هوية محددة وجوهر مستقل، ومن ثم فهو كائن حر مسئول.
والمسافة بين الخالق والمخلوق يمكن أن تصبح ثغرة أو هوة إن ابتعد المخلوق عن خالقه وانعزل عنه ونسي خصائصه الإنسانية (المرتبطة بأصله الرباني) التي تميزه عن بقية الكائنات. ولكن إن حاول الإنسان التفاعل مع الإله وتذكَّر أصوله وأبعاده الربانية التي تميزه عن الكائنات الطبيعية، فإن المسافة تتحول إلى مجال للتفاعل ويصبح الإنسان نفسه كائناً مُستخلَفاً في الأرض يشغل المركز، وذلك بسبب القبس الإلهي داخله وبسبب تفاعله مع الخالق.
أما في المنظومات التي تدور في إطار المرجعية الكامنة (مثل النظم الحلولية)، يحاول المخلوق، أي الإنسان، أن يضيِّق المسافة بينه وبين الخالق تدريجياً إلى أن يصل إلى الإله ويلتصق به ثم يتوحد معه، وبذا يصل إلى مرحلة وحدة الوجود حين يصبح المركز كامناً في الإنسان وفي كل المخلوقات وفي العالم المادي، إذ تُلغى المسافة بين الخالق ومخلوقاته ويختفي الحيز الإنساني ويصبح الخالق ومخلوقاته واحداً، ويُردُّ الكون بأسره إلى مبدأ واحد فتُلغى المسافات وتُسد الثغرات، ويصبح الكون كياناً عضوياً صلباً (أو ذرياً مفتتاً) تسوده الواحدية المادية. وهنا يصبح الإنسان جزءاً لا يتجزأ من الطبيعة/المادة ليس له ما يميِّزه عن بقية الكائنات، وتضيع الحدود بين الخير والشر وبين الدال والمدلول.
Powered by vBulletin® Version 4.2.0 Copyright © 2024 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved, TranZ by Almuhajir