أَسد الإسلام
2011-11-12, 12:10 PM
الشّيخ محمّد الغزالي ينسف بنيان القبوريين من قواعده
يقول الشّيخ – طيّب الله ثراه -:
" وقد رأينا كيف أنّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أرسل علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ ، وأمره أن يسوي بالأرض كل قبر وأن يهدم كل صنم. فجعل الأضرحة العالية والأصنام المنصوبة سواء في الضلالة. وقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في البيان عن سفاهة القدامى وفي التحذير من متابعتهم : ( لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ألا لا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن هذا ). وكان يرفع الخمرة عن وجهه في مرض الموت ويكرر هذا المعنى. وكأنه توجس شرًّا مما يقع به فدعا الله: ( اللهم لا تجعل قبري من بعدي وثنًا يعبد ).
ومع كثرة الدلائل التي انتصبت في الإسلام دون الوقوع في هذا المحظور، فقد أقبل المسلمون على بناء المساجد فوق قبور الصالحين. وتنافسوا في تشييد الأضرحة، حتى أصبحت تبنى على أسماء لا مسميات لها، بل قد بنيت على ألواح الخشب وجثث الحيوانات. ومع ذلك فهي مزارات مشهورة معمورة، تقصد لتفريج الكرب، وشفاء المرضى، وتهوين الصّعاب!. وأحبّ ألا أثير فتنة عمياء بهدم هذه الأضرحة. فإنّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ امتنع عن هدم الكعبة وإعادة بنائها على قواعد إبراهيم لأنّ العرب كانوا حديثي عهد بشرك. وجماهير العامة الآن ينبغي أن تساق سوقًا رفيقًا إلى حقائق الإسلام، حتى تنصرف ـ في هدوء ـ عن التوجه إلى هذه الأضرحة وشدّ الرّحال إلى ما بها من جثث. وإخلاص المعلم وأسلوبه في الدعوة، عليهما معول كبير في تمحيص العقيدة ممّا علق بها من شوائب وعلل. وقد تكون لدى بعضهم شبه في معنى التوسل. فلنفهم أولئك القاصرين أنّ التوسل في دين الله، إنما هو بالإيمان الحق والعمل الصالح، وقد جاء في السنة: ( اللهم إني أسألك بأنك أنت الله الذي لا إله إلا هو، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد ). فهذا توسل بالإيمان بذات الله . وجاء ـ كذلك ـ توسّل بالعمل الصالح في حديث الثلاثة الذين آواهم الغار. وجاء توسل بمعنى دعاء المرء لأخيه بظهر الغيب. ودعاء المسلم للمسلم مطلوب على أية حال. ولا نعرف في كتاب الله ولا في سنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ توسلاً بالأشخاص مهما علت منزلتهم - سواء أكانوا أحياء أو أمواتًا - على هذا النحو الذي أطبق عليه العامة وحسبوه من صميم الدين، ودافعوا عنه بحرارة وعنف ضد المنكرين والمستغربين.
حول توحيد العامّة جاءتني رسالة كريمة الأسلوب، حسنة الجدال، من طالب أديب يذكر فيها حجج القائلين بالوسيلة وفسرها على النحو الآتي:
1- جمهور الناس عصاة، والله إنّما يتقبّل من المتّقين. فلو ذهب الإنسان إلى ربه وهو موقر بالسيّئات، لم يجب له سؤالاً، ولم يسق له فضلاً. ومن ثم فعلى الإنسان أن يبحث عن وساطة مقبولة، كولي صالح مثلاً.
2- لا يسوغ القول بأنّ هذا شرك، لأنّ النية هي الحكم على الأعمال، والمتوسّلون لم ينووا شركًا أو يروضوا به.
3- الصّحابة والفقهاء والأئمّة جميعًا كانوا يتوسّلون إلى الله بالأنبياء والأولياء. وقد توسّل عمر بالعباس عمّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
4- يتساءل الكاتب عن قول الله فى جدار الغلامين اليتيمين (وكان أبوهما صالحا). أليس في ذلك ما يفيد أنّ بركة الأموات تتعدّى إلى الأحياء؟ وفي قوله لنبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( ولو أنّهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله...) . أليس في الآية ما ينصّ على التوسل؟.
وجاءتنا رسالة من أزهري يقول: إنّ أحد العلماء الرّسميين يقول: إنّ التوسل بأصحاب القبور واجب، فإنّ لصاحب القبر تأثيرًا أقوى من تأثير الحيّ، ولا حرج في ذلك ما دام المتوسّل يعتقد أنّ الله هو الفاعل. ويقول: إنّ الآيات التي استشهدنا بها على نفي هذه المزاعم نزلت في المشركين خاصّة، وأنّ الرسول
أمر الأعمى أن يتوسّل به إلى الله، فردّ الله عليه بصره...إلخ.
هذه هي جملة الشّبه التي تعلّق بها طائفة من النّاس وبنوا عليها مسالك طائشة، عكرت رونق التوحيد الخالص، وردّت كثيرًا من المسلمين إلى جاهلية طامسة مهلكة. ونحن نغالب السآمة التي تعترينا كلما خضنا في هذا الحديث، أو سطرنا فيه حرفًا. فإنّ الجدل فيه طال مع وضوح الحق واستبانة النهج، ولم يبق إلا أن يحمل الناس حملاً. وإليك البيان الحاسم لما سبق سرده من شبهات:
فأما أنّ العاصي ليس له اللجوء إلى الله مباشرة، وأنّه أولى به أن يستصحب أحد المقربين قبل مناجاة رب العالمين، فكلام لا أصل له في الإسلام قط. إن إبليس دعا ربه مباشرة وأجيب..!! (قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون * قال فإنك من المنظرين * إلى يوم الوقت المعلوم). والمشركون دعوا الله مباشرة وأجيبوا: ( دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين * فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق ). فهل عصاة المسلمين يحرمون من حق أخذه إبليس وجنوده؟ إنّ أيّ مسلم يقع فى خطأ، فعليه أن يجأر بالدعاء إلى الله على عجل، من غير توسيط نبيّ، ولا وليّ، ولا إنسان، ولا شيطان. (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ).
ثمّ إنّ الرّجل إذا كان بحالة لا يقبل منه دعاء معها، فلن يقبل فيه دعاء غيره له، ولو كان الداعي سيد الأنبياء. ألا ترى كيف رفض استغفار الرّسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعبد الله بن أبي؟ فأما المسلم المعتاد، فله - بل عليه - أن يدعو الله، ولا ينظر في هذا الضرب من العبادة إلى مخلوق أبدًا... وصحيح أنّ إجابة الدعاء تقتضي الإخلاص والتقوى. ولكن ما صلة ذلك بما نحن فيه؟ أتظنّ أنّ الرجل إذا فقد الحرارة والصّدق والتقى يذهب إلى ميت أو حي ليجد لديه العوض عما فقده، هذا زعم باطل، وليس فى دين الله ما يؤيده، بل إنّ دين الله ضدّه.
والقول بأنّ العمل لا ينظر إليه، وإنما تعتبر النية المصاحبة له، غير صحيح، فالعمل المقبول- دينًا - يجب أن تتوافر فيه أولاً: النية الصالحة، وثانيًا: الصّورة المشروعة. وفقدان العمل لأحد هذين الركنين يبطله. فالعمل المتفق ظاهرة مع الشّرع إذا كان صاحبه مرائيًا أو منافقًا يحبط أجره. والقصد الصّالح إذا لم يجر في طريقه الذي رسمه الدين فلا قيمة له ولا يلتفت إليه، والتشريعات الوضعية لا تكترث بحسن النية عند ارتكاب محظور، وترى أن الجهل بالقانون لا يمنع من تطبيق القانون، وذلك سدًّا للاحتيال وحماية للحقيقة. فهل يكون دين الله أنزل من هذه التشريعات؟. ولماذا نستحي من وصف القبوريين بالشرك؟، مع أنّ الرّسول وصف المرائين به فقال: ( الرياء شرك ). إن واجب العالم المسلم أن يرمق هذه التوسلات النابية باستنكار، ويبذل جهده في تعليم ذويها طريق الحق، لا أن يفرغ وسعه في التمحل والاعتذار! ولست ممن يحب تكفير الناس بأوهى الأسباب، ولكن حرام أن ندع الجهل يفتك بالعقائد ونحن شهود. أي جريمة يرتكبها الطبيب إذا طمأن المريض ومنع عنه الدواء، وأوهمه أنه سليم معافى؟ إن ذلك لا يجوز.
أمّا القول بأنّ الصحابة كانوا يتوسلون إلى الله بأشخاص الأحياء أو الأموات فمنكر قبيح. وما يروي من شعر منسوب إلى الإمام الشافعي فمنحول لا أصل له. وقد ذكرنا - نحن- أنّ دعاء الإنسان لنفسه ولغيره مطلوب. وقد جاء ذلك في القرآن على لسان النبيين والصالحين. فمن دعاء إبراهيم: (ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب) ومن أدعية نوح: (رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات) . (والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان). وقد أمرنا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يدعو بعضنا لبعض بظهر الغيب. ومن هذا القبيل، وفي حدود تلك الدائرة من استعطاف العبيد لله، وتواصيهم باسترحامه واستغاثته، طلب عمر من العباس أن يدعو الله للمسلمين، فدعا العباس، وكان المسلمون حوله يؤمّنون. بَيَّنَ الزبير بن بكار في الأنساب صفة ما دعا به العباس فقال: إنّ العباس لما استسقى به عمر قال: "اللهم، لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولا يكشف إلا بتوبة، وقد توجّه بي القوم إليك بمكاني من نبيك، وهذه أيدينا بالذنوب، ونواصينا إليك بالتوبة، فاسقنا الغيث". وليس ذلك مقصورًا على أن يدعو من نتوسّم فيهم الصلاح لمن نظنّ بهم التقصير فهذا خطأ، بل الأمر أعم. وقد طلب رسول الله من عمر أن يدعو له. وأمر الرسول عليه الصلاة والسلام جمهور الأمة أن يدعوا له. أولسنا نصلي عليه كما أمر الله؟ فما صلة ذلك بالتوسل على هذا النحو المجنون الذي سقط فيه العامة، وجاراهم عليه الكسالى والمرتزقة والقاصرون من أدعياء العلم؟.
ولست أدرى ما علاقة التوسّل بالآية الكريمة: (وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما). إنّ الآية تفيد أنّ صلاح الآباء يمتدّ نفعه إلى الذرية، كما أنّ فسادهم ينتقل خطره إليها. (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله)، فالصّالحون بعد موتهم قد يظهر في أعقابهم أثر من بركة استقامتهم. ونقول: "قد " لأنّ للوراثة قوانين سنّها رب الوجود الأعلى ولا تعرف بالضبط اتجاهاتها. وقد كان إبراهيم من نسل رجل كافر، وكان لنوح ابن عنيد الضلال. والله يقول في ذرية نوح وإبراهيم: ( ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين ) ومن المنتسبين إلى الأسرة النبوية في هذا العصر من أساءوا إلى الإسلام والعروبة أشنع الإساءة. فإذا كان السائل يقصد أن هؤلاء هم أصنام العصر الحديث الذين يتوسل بهم المتوسّلون، فقد كفرنا بهم وآمنا بالله وحده. إنّ الحسين لم يدفع عن نفسه وهو حي، فكيف يدفع عن غيره وهو ميت؟.
وقوله تعالى: ( ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك) ليس تصريحًا ولا تلميحًا إلى جواز التوسل. والآية ناطقة بأنّ المجيء للظفر باستغفار الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وذلك بداهة فى أثناء الحياة لا بعد الموت. وللصّوفية شطحات في هذا الموضع إن صدقوا فيها فهي أحوال توقف عليهم وليس لدين الله بها شأن. ومصادر التشريع معروفة. ولم نعرف من مصادر التشريع أن فلانًا الصالح رأى في منامه كذا وكذا، أو أن فلانًا المجذوب خيل إليه في أثناء زيارته للروضة النبوية كيت كيت. ولقد كان ابن عمر - لما فاض قلبه من حبّ الرّسول - صلى الله عليه وسلم - يتصرف تصرفات خاصة، فكان في سفره ينزل حيث نزل الرسول، ويقعد حيث قضى حاجته ولو لم تكن له حاجة. واعتبر العلماء هذا كلّه عاطفة لابن عمر وحده لا يلزم بها أحد، ولا توصف بأنها شرع. فإذا كان بعض الناس يحكي أمورًا عن مجيئه للرّسول في قبره، وأنّه سلم فسمع الرد ثم حظي بتقبيل اليد! فهو بين حالتين: إما أن يكون كاذبًا فلا قيمة لكلامه. وإما أن يكون مجذوبًا تخيل فخال ولا قيمة لكلامه كذلك... ونحن لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لهذه الحكايات.
أمّا ذلك الذي يوجب التوسل ويرى أنّ تأثير الميّت أقوى من الحي فهو رجل مخبول! وزعمه بانتفاء الشرك ما دام الاعتقاد أن الفاعل هو الله كلام فارغ. وقد أبنا أن المشركين القدماء كانوا يعرفون أنّ الفاعل هو الله. وأنّ توسّلهم كان من باب ( ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ). وأنّ ندمهم يوم القيامة إنّما هو على تسويتهم المخلوق بالخالق: (تالله إن كنا لفي ضلال مبين * إذ نسوّيكم برب العالمين)، وهناك عشرات الآيات تؤكد هذا المعنى.
سيقول بعض النّاس: إنّ القدماء كانوا يعبدون. أما عوام اليوم فهم يدعون ويسألون فقط، وشتان بين عباده الجاهلين وتوسل المحدثين بأولياء الله. ونقول: هذه مغالطة ، فالسؤال والدعاء - بنص القرآن والسنة - عبادة محضة: (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين). وفي الحديث " الدعاء مخ العبادة ". فلماذا نتوجّه إلى البشر بما هو من خصائص الألوهية؟ وإذا وقع الجهال فى تلك الخطايا بغباوتهم، فلماذا لا نسارع إلى إنقاذهم منها، بدل تزوير الفتاوى؟.
وقد تذكر فى هذا المجال قصّة الأعمى الذي توسل إلى الله بنبيه - صلى الله عليه وسلم - ليرد إليه بصره. ومع أن القياس - مع الفارق لو صحت القصة - فهذا الأعمى دعا الله، وأولئك الحمقى يدعون غيره. إلا أن القصة نفسها ليست من قسم الحديث الصحيح. والاحتجاج بالآثار الضعيفة في العقائد والأحكام لا يقبل من صاحبه. ومثل هذه الرواية قد تروج عند الوعظ بفضائل الأعمال.
وآيات القرآن ينظر فيها إلى عموم اللفظ لا إلى خصوص السبب. وقد حرّم الله الشرك على العرب فهو على غيرهم حرام. فالقول بأن الآيات نزلت في أهل الجاهلية وحدهم جهالة لا نأبه لقائلها، ولا نقيم لها اعتبارًا. رزقنا الله صدق التوحيد، وأحيانا وأماتنا عليه.
جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " الشرك أخفى من دبيب الذر على الصفا فى الليلة الظلماء، وأدناه أن تحب على شيء من الجور، وأن تبغض على شيء من العدل، وهل الدين إلا الحب والبغض؟. ثم تلا: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم). يعني أنّ إخلاص التوحيد يقتضي محبّة العدل وكراهية الظلم. فإذا أحب الإنسان جائرًا وكره عادلاً فقد أشرك، فإذا كان حسّ الإسلام مرهفًا إلى هذا الحد في تمحيص القلوب ونقد اتجاهاتها الخاطئة، فكيف نسوغ أن نأتي إلى رجل يجأر بالدعاء لغير الله، ويخاف ويرجو غير الله، ثم نقول له: لا بأس عليك؟. إنّ موقف العالم المسلم في هذه القضية ليس موقف المحامي الذي يدافع عن المجرم فيقف ساعة أو أكثر ليزيف التهمة ويؤول القانون!! بل موقف الذائد عن معالم الإسلام. فإذا كان لا يعاقب المتهم لأنه جاهل - يقولون - فليعلمه دين الله، ولا يتركه نهبًا للشيطان ".
(عقيدة المسلم: ص80-89).
يقول الشّيخ – طيّب الله ثراه -:
" وقد رأينا كيف أنّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أرسل علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ ، وأمره أن يسوي بالأرض كل قبر وأن يهدم كل صنم. فجعل الأضرحة العالية والأصنام المنصوبة سواء في الضلالة. وقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في البيان عن سفاهة القدامى وفي التحذير من متابعتهم : ( لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ألا لا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن هذا ). وكان يرفع الخمرة عن وجهه في مرض الموت ويكرر هذا المعنى. وكأنه توجس شرًّا مما يقع به فدعا الله: ( اللهم لا تجعل قبري من بعدي وثنًا يعبد ).
ومع كثرة الدلائل التي انتصبت في الإسلام دون الوقوع في هذا المحظور، فقد أقبل المسلمون على بناء المساجد فوق قبور الصالحين. وتنافسوا في تشييد الأضرحة، حتى أصبحت تبنى على أسماء لا مسميات لها، بل قد بنيت على ألواح الخشب وجثث الحيوانات. ومع ذلك فهي مزارات مشهورة معمورة، تقصد لتفريج الكرب، وشفاء المرضى، وتهوين الصّعاب!. وأحبّ ألا أثير فتنة عمياء بهدم هذه الأضرحة. فإنّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ امتنع عن هدم الكعبة وإعادة بنائها على قواعد إبراهيم لأنّ العرب كانوا حديثي عهد بشرك. وجماهير العامة الآن ينبغي أن تساق سوقًا رفيقًا إلى حقائق الإسلام، حتى تنصرف ـ في هدوء ـ عن التوجه إلى هذه الأضرحة وشدّ الرّحال إلى ما بها من جثث. وإخلاص المعلم وأسلوبه في الدعوة، عليهما معول كبير في تمحيص العقيدة ممّا علق بها من شوائب وعلل. وقد تكون لدى بعضهم شبه في معنى التوسل. فلنفهم أولئك القاصرين أنّ التوسل في دين الله، إنما هو بالإيمان الحق والعمل الصالح، وقد جاء في السنة: ( اللهم إني أسألك بأنك أنت الله الذي لا إله إلا هو، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد ). فهذا توسل بالإيمان بذات الله . وجاء ـ كذلك ـ توسّل بالعمل الصالح في حديث الثلاثة الذين آواهم الغار. وجاء توسل بمعنى دعاء المرء لأخيه بظهر الغيب. ودعاء المسلم للمسلم مطلوب على أية حال. ولا نعرف في كتاب الله ولا في سنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ توسلاً بالأشخاص مهما علت منزلتهم - سواء أكانوا أحياء أو أمواتًا - على هذا النحو الذي أطبق عليه العامة وحسبوه من صميم الدين، ودافعوا عنه بحرارة وعنف ضد المنكرين والمستغربين.
حول توحيد العامّة جاءتني رسالة كريمة الأسلوب، حسنة الجدال، من طالب أديب يذكر فيها حجج القائلين بالوسيلة وفسرها على النحو الآتي:
1- جمهور الناس عصاة، والله إنّما يتقبّل من المتّقين. فلو ذهب الإنسان إلى ربه وهو موقر بالسيّئات، لم يجب له سؤالاً، ولم يسق له فضلاً. ومن ثم فعلى الإنسان أن يبحث عن وساطة مقبولة، كولي صالح مثلاً.
2- لا يسوغ القول بأنّ هذا شرك، لأنّ النية هي الحكم على الأعمال، والمتوسّلون لم ينووا شركًا أو يروضوا به.
3- الصّحابة والفقهاء والأئمّة جميعًا كانوا يتوسّلون إلى الله بالأنبياء والأولياء. وقد توسّل عمر بالعباس عمّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
4- يتساءل الكاتب عن قول الله فى جدار الغلامين اليتيمين (وكان أبوهما صالحا). أليس في ذلك ما يفيد أنّ بركة الأموات تتعدّى إلى الأحياء؟ وفي قوله لنبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( ولو أنّهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله...) . أليس في الآية ما ينصّ على التوسل؟.
وجاءتنا رسالة من أزهري يقول: إنّ أحد العلماء الرّسميين يقول: إنّ التوسل بأصحاب القبور واجب، فإنّ لصاحب القبر تأثيرًا أقوى من تأثير الحيّ، ولا حرج في ذلك ما دام المتوسّل يعتقد أنّ الله هو الفاعل. ويقول: إنّ الآيات التي استشهدنا بها على نفي هذه المزاعم نزلت في المشركين خاصّة، وأنّ الرسول
أمر الأعمى أن يتوسّل به إلى الله، فردّ الله عليه بصره...إلخ.
هذه هي جملة الشّبه التي تعلّق بها طائفة من النّاس وبنوا عليها مسالك طائشة، عكرت رونق التوحيد الخالص، وردّت كثيرًا من المسلمين إلى جاهلية طامسة مهلكة. ونحن نغالب السآمة التي تعترينا كلما خضنا في هذا الحديث، أو سطرنا فيه حرفًا. فإنّ الجدل فيه طال مع وضوح الحق واستبانة النهج، ولم يبق إلا أن يحمل الناس حملاً. وإليك البيان الحاسم لما سبق سرده من شبهات:
فأما أنّ العاصي ليس له اللجوء إلى الله مباشرة، وأنّه أولى به أن يستصحب أحد المقربين قبل مناجاة رب العالمين، فكلام لا أصل له في الإسلام قط. إن إبليس دعا ربه مباشرة وأجيب..!! (قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون * قال فإنك من المنظرين * إلى يوم الوقت المعلوم). والمشركون دعوا الله مباشرة وأجيبوا: ( دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين * فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق ). فهل عصاة المسلمين يحرمون من حق أخذه إبليس وجنوده؟ إنّ أيّ مسلم يقع فى خطأ، فعليه أن يجأر بالدعاء إلى الله على عجل، من غير توسيط نبيّ، ولا وليّ، ولا إنسان، ولا شيطان. (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ).
ثمّ إنّ الرّجل إذا كان بحالة لا يقبل منه دعاء معها، فلن يقبل فيه دعاء غيره له، ولو كان الداعي سيد الأنبياء. ألا ترى كيف رفض استغفار الرّسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعبد الله بن أبي؟ فأما المسلم المعتاد، فله - بل عليه - أن يدعو الله، ولا ينظر في هذا الضرب من العبادة إلى مخلوق أبدًا... وصحيح أنّ إجابة الدعاء تقتضي الإخلاص والتقوى. ولكن ما صلة ذلك بما نحن فيه؟ أتظنّ أنّ الرجل إذا فقد الحرارة والصّدق والتقى يذهب إلى ميت أو حي ليجد لديه العوض عما فقده، هذا زعم باطل، وليس فى دين الله ما يؤيده، بل إنّ دين الله ضدّه.
والقول بأنّ العمل لا ينظر إليه، وإنما تعتبر النية المصاحبة له، غير صحيح، فالعمل المقبول- دينًا - يجب أن تتوافر فيه أولاً: النية الصالحة، وثانيًا: الصّورة المشروعة. وفقدان العمل لأحد هذين الركنين يبطله. فالعمل المتفق ظاهرة مع الشّرع إذا كان صاحبه مرائيًا أو منافقًا يحبط أجره. والقصد الصّالح إذا لم يجر في طريقه الذي رسمه الدين فلا قيمة له ولا يلتفت إليه، والتشريعات الوضعية لا تكترث بحسن النية عند ارتكاب محظور، وترى أن الجهل بالقانون لا يمنع من تطبيق القانون، وذلك سدًّا للاحتيال وحماية للحقيقة. فهل يكون دين الله أنزل من هذه التشريعات؟. ولماذا نستحي من وصف القبوريين بالشرك؟، مع أنّ الرّسول وصف المرائين به فقال: ( الرياء شرك ). إن واجب العالم المسلم أن يرمق هذه التوسلات النابية باستنكار، ويبذل جهده في تعليم ذويها طريق الحق، لا أن يفرغ وسعه في التمحل والاعتذار! ولست ممن يحب تكفير الناس بأوهى الأسباب، ولكن حرام أن ندع الجهل يفتك بالعقائد ونحن شهود. أي جريمة يرتكبها الطبيب إذا طمأن المريض ومنع عنه الدواء، وأوهمه أنه سليم معافى؟ إن ذلك لا يجوز.
أمّا القول بأنّ الصحابة كانوا يتوسلون إلى الله بأشخاص الأحياء أو الأموات فمنكر قبيح. وما يروي من شعر منسوب إلى الإمام الشافعي فمنحول لا أصل له. وقد ذكرنا - نحن- أنّ دعاء الإنسان لنفسه ولغيره مطلوب. وقد جاء ذلك في القرآن على لسان النبيين والصالحين. فمن دعاء إبراهيم: (ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب) ومن أدعية نوح: (رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات) . (والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان). وقد أمرنا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يدعو بعضنا لبعض بظهر الغيب. ومن هذا القبيل، وفي حدود تلك الدائرة من استعطاف العبيد لله، وتواصيهم باسترحامه واستغاثته، طلب عمر من العباس أن يدعو الله للمسلمين، فدعا العباس، وكان المسلمون حوله يؤمّنون. بَيَّنَ الزبير بن بكار في الأنساب صفة ما دعا به العباس فقال: إنّ العباس لما استسقى به عمر قال: "اللهم، لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولا يكشف إلا بتوبة، وقد توجّه بي القوم إليك بمكاني من نبيك، وهذه أيدينا بالذنوب، ونواصينا إليك بالتوبة، فاسقنا الغيث". وليس ذلك مقصورًا على أن يدعو من نتوسّم فيهم الصلاح لمن نظنّ بهم التقصير فهذا خطأ، بل الأمر أعم. وقد طلب رسول الله من عمر أن يدعو له. وأمر الرسول عليه الصلاة والسلام جمهور الأمة أن يدعوا له. أولسنا نصلي عليه كما أمر الله؟ فما صلة ذلك بالتوسل على هذا النحو المجنون الذي سقط فيه العامة، وجاراهم عليه الكسالى والمرتزقة والقاصرون من أدعياء العلم؟.
ولست أدرى ما علاقة التوسّل بالآية الكريمة: (وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما). إنّ الآية تفيد أنّ صلاح الآباء يمتدّ نفعه إلى الذرية، كما أنّ فسادهم ينتقل خطره إليها. (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله)، فالصّالحون بعد موتهم قد يظهر في أعقابهم أثر من بركة استقامتهم. ونقول: "قد " لأنّ للوراثة قوانين سنّها رب الوجود الأعلى ولا تعرف بالضبط اتجاهاتها. وقد كان إبراهيم من نسل رجل كافر، وكان لنوح ابن عنيد الضلال. والله يقول في ذرية نوح وإبراهيم: ( ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين ) ومن المنتسبين إلى الأسرة النبوية في هذا العصر من أساءوا إلى الإسلام والعروبة أشنع الإساءة. فإذا كان السائل يقصد أن هؤلاء هم أصنام العصر الحديث الذين يتوسل بهم المتوسّلون، فقد كفرنا بهم وآمنا بالله وحده. إنّ الحسين لم يدفع عن نفسه وهو حي، فكيف يدفع عن غيره وهو ميت؟.
وقوله تعالى: ( ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك) ليس تصريحًا ولا تلميحًا إلى جواز التوسل. والآية ناطقة بأنّ المجيء للظفر باستغفار الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وذلك بداهة فى أثناء الحياة لا بعد الموت. وللصّوفية شطحات في هذا الموضع إن صدقوا فيها فهي أحوال توقف عليهم وليس لدين الله بها شأن. ومصادر التشريع معروفة. ولم نعرف من مصادر التشريع أن فلانًا الصالح رأى في منامه كذا وكذا، أو أن فلانًا المجذوب خيل إليه في أثناء زيارته للروضة النبوية كيت كيت. ولقد كان ابن عمر - لما فاض قلبه من حبّ الرّسول - صلى الله عليه وسلم - يتصرف تصرفات خاصة، فكان في سفره ينزل حيث نزل الرسول، ويقعد حيث قضى حاجته ولو لم تكن له حاجة. واعتبر العلماء هذا كلّه عاطفة لابن عمر وحده لا يلزم بها أحد، ولا توصف بأنها شرع. فإذا كان بعض الناس يحكي أمورًا عن مجيئه للرّسول في قبره، وأنّه سلم فسمع الرد ثم حظي بتقبيل اليد! فهو بين حالتين: إما أن يكون كاذبًا فلا قيمة لكلامه. وإما أن يكون مجذوبًا تخيل فخال ولا قيمة لكلامه كذلك... ونحن لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لهذه الحكايات.
أمّا ذلك الذي يوجب التوسل ويرى أنّ تأثير الميّت أقوى من الحي فهو رجل مخبول! وزعمه بانتفاء الشرك ما دام الاعتقاد أن الفاعل هو الله كلام فارغ. وقد أبنا أن المشركين القدماء كانوا يعرفون أنّ الفاعل هو الله. وأنّ توسّلهم كان من باب ( ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ). وأنّ ندمهم يوم القيامة إنّما هو على تسويتهم المخلوق بالخالق: (تالله إن كنا لفي ضلال مبين * إذ نسوّيكم برب العالمين)، وهناك عشرات الآيات تؤكد هذا المعنى.
سيقول بعض النّاس: إنّ القدماء كانوا يعبدون. أما عوام اليوم فهم يدعون ويسألون فقط، وشتان بين عباده الجاهلين وتوسل المحدثين بأولياء الله. ونقول: هذه مغالطة ، فالسؤال والدعاء - بنص القرآن والسنة - عبادة محضة: (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين). وفي الحديث " الدعاء مخ العبادة ". فلماذا نتوجّه إلى البشر بما هو من خصائص الألوهية؟ وإذا وقع الجهال فى تلك الخطايا بغباوتهم، فلماذا لا نسارع إلى إنقاذهم منها، بدل تزوير الفتاوى؟.
وقد تذكر فى هذا المجال قصّة الأعمى الذي توسل إلى الله بنبيه - صلى الله عليه وسلم - ليرد إليه بصره. ومع أن القياس - مع الفارق لو صحت القصة - فهذا الأعمى دعا الله، وأولئك الحمقى يدعون غيره. إلا أن القصة نفسها ليست من قسم الحديث الصحيح. والاحتجاج بالآثار الضعيفة في العقائد والأحكام لا يقبل من صاحبه. ومثل هذه الرواية قد تروج عند الوعظ بفضائل الأعمال.
وآيات القرآن ينظر فيها إلى عموم اللفظ لا إلى خصوص السبب. وقد حرّم الله الشرك على العرب فهو على غيرهم حرام. فالقول بأن الآيات نزلت في أهل الجاهلية وحدهم جهالة لا نأبه لقائلها، ولا نقيم لها اعتبارًا. رزقنا الله صدق التوحيد، وأحيانا وأماتنا عليه.
جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " الشرك أخفى من دبيب الذر على الصفا فى الليلة الظلماء، وأدناه أن تحب على شيء من الجور، وأن تبغض على شيء من العدل، وهل الدين إلا الحب والبغض؟. ثم تلا: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم). يعني أنّ إخلاص التوحيد يقتضي محبّة العدل وكراهية الظلم. فإذا أحب الإنسان جائرًا وكره عادلاً فقد أشرك، فإذا كان حسّ الإسلام مرهفًا إلى هذا الحد في تمحيص القلوب ونقد اتجاهاتها الخاطئة، فكيف نسوغ أن نأتي إلى رجل يجأر بالدعاء لغير الله، ويخاف ويرجو غير الله، ثم نقول له: لا بأس عليك؟. إنّ موقف العالم المسلم في هذه القضية ليس موقف المحامي الذي يدافع عن المجرم فيقف ساعة أو أكثر ليزيف التهمة ويؤول القانون!! بل موقف الذائد عن معالم الإسلام. فإذا كان لا يعاقب المتهم لأنه جاهل - يقولون - فليعلمه دين الله، ولا يتركه نهبًا للشيطان ".
(عقيدة المسلم: ص80-89).