إدريسي
2008-08-25, 06:28 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
دراسة تحليلية دقيقة في إبطال عقيدة التثليث عقليا، ونقض الأدلة النقلية المعتمد عليها في إثباتها .. ودفع شبهات النصارى عن وجودها في المصادر الإسلامية.
ملاحظة: أثناء القراءة .. الذي يقصده الشيخ عبد الرحمن الجزيري رحمه الله بــ"المؤلف" في كلامه، هو القس مؤلف كتاب "ميزان الحق" الذي يهاجم فيه الإسلام.
يقول الشيخ رحمه الله:
قال مؤلف البراهين العقلية في صحيفة رقم 131 ما نصه:
"والآن لنرجع إلى تعليم الثالوث الأقدس وهو موضح في عدد 3-6 من القانون الأثناسيوسي كما يلي:
(3) الإيمان الجامع هو أن نعبد إلها واحدا في ثالوث وثالوثا في وحدانية.
(4) لا نخلط الأقانيم ولا نفصل الجوهر.
(5) فإن للآب أقنوما على حدة وللإبن أقنوما آخر وللروح القدس أقنوما آخر.
(5) ولكن لاهوت الآب والإبن والروح القدس كله واحد والمجد متساو والجلال أبدي معا."اهـ.
وقد فسر الكاتب هذا القانون فقال ما نصه:
"والمعنى أنهم يعبدون إلها واحدا بالنسبة لجوهره في ثالوث بالنسبة لأقانيمه وثالوثا من الأقانيم في وحدانية الجوهر ولا نخلط الأقانيم لأن كلا منهم قائم بذاته ولا نفصل الجوهر لأنه كله واحد"اهـ.
ولكن المؤلف لم يوضح الموضوع على الوجه الاكمل وإنني سأوضحه لك إيضاحا تاما بعد أن اطلعت على كثير من من آراء شراحهم المعول عليها عندهم وإليك البيان :
يقولون أن الله تعالى عما يقولون علوا كبيرا مركب من ثلاثة أقانيم كل أقنوم متميز عن الآخر بوجوده الخاص وهو ذات لا صفة وهو مع ذلك لا يقال له جوهر بل الجوهر اسم لمجموع الثلاثة .. وإذا قلت لهم إذا كان الاقنوم ذاتا لا صفة فلماذا لا يطلق عليه جوهر؟! .. اجابوا بأنهم لا يعرفون حقيقة الأقنوم فلا يمكنهم أن يعبروا عنه بعبارة ما .. وإذا قلت لهم إن عدم معرفة الاقنوم تستلزم حتما عدم معرفة الإله المركب من الثلاثة فلا يصح أن يطلق عليه جوهرا .. قالوا إن ذلك فوق العقل فلا يناقشون فيه .. ويعبر بعضهم عن الاقنوم بأنه الاصل الموجود في كل واحد من الثلاثة بطريق التساوي .. وعلى كل حال فهم مجمعون على أن كل اقنوم متميز عن صاحبه بوجوده الخاص وأن كل واحد من الاقانيم الثلاثة له اوصاف تميزه عن الآخر فأحدها يقال له الأقنوم الأول وهو اقنوم الآب ويعتبر أصل الأقانيم .. يليه الأقنوم الثاني وهو اقنوم الإبن ويقولون أن الأقنوم الثاني صدر عن الاقنوم الأول وكيفية صدوره عن الأقنوم الاول أن للأول وهو أقنوم الآب عقلا وتفكيرا ففكر الآب في لاهوته (ذاته الإلهية) وعقلها فتولد من ذلك التفكير أقنوم الإبن وذلك الأقنوم مماثل لأقنوم الآب تماما وطبيعتهما واحدة كالصورة التي تنبطح في المرآة فتكون مماثلة لأصلها من جميع الوجوه فالأقنوم الثاني هو كالاقنوم الاول من جميع الوجوه إلا أن له وجودا خاصا به ويسميه بعضهم "صورة عقل الأقنوم الأول" لأنه تولد من تفكيره فكان صورة لعقله .. كما بينت لك .. ويسمونه أيضا "كلمة الأقنوم الأول" لأن التفكير يعبر عنه بالكلام ويسمونه أيضا ابنا لأن الإبن يصدر عن الأب وفيه بعض الشبه أما هذا فإنه مثل الآب من جميع الوجوه فهو احق بتسميته ابنا من الأبناء الشرعيين .. أما الأقنوم الثالث فقد صدر عن الآب والإبن معا بفعل الإرادة والمحبة لا بفعل العقل فالإله الممتزج من الآب والإبن وهما الاقنوم الأول والثاني أحب ذاته فتولد من هيجان الحب أقنوم ثالث ويعبر عن ذلك بعضهم بالإنبثاق فيقول انبثق من هيجان الإرادة ذلك الأقنوم الثالث وهو مساو في طبيعته للآخرين ويسمونه الروح القدس .. فالإله مركب من ثلاثة اقانيم كل واحد منها كصاحبه من جميع الوجوه ومع ذلك فكل واحد منهما ممتاز عن الآخر فالكل واحد لأنه مركب من ثلاث طبائع متجانسة متحدة وكل واحد منها هو الكل فيقال لأقنوم الآب أنه إله ولما كان مساويا في طبيعته لأقنوم الإبن كان أقنوم الإبن موجودا فيه ومثل ذلك يقال في باقيها .. وإنما اختص الروح القدس بهذا الإسم مع أنهم يقولون أن الآب روح والإبن روح لأنهم يعتبرون للأقانيم ثلاث مراتب مرتبة الآب وهي العليا ويليها مرتبة الإبن ويليها مرتبة الروح القدس فسمى الأول أبا وسمى الثاني ابنا ولم يبق إلا الثالث فلم يبق له اسم يناسب مرتبته فسموه بالإسم العام ويمثلون لذلك بآدم وقابيل وحواء فإن آدم أب وقابيل ابن وليس من المناسب أن تكون حواء بنت آدم فسموها حواء .. ورغما من أنهم يطلقون على هذه الثلاثة (أقانيم) بمعنى حقائق وجودية لكل واحد منها وجود خاص تمتاز به عن صاحبتها فإنهم يسمون أقنوم الإبن بالعلم والعقل ويسمون أقنوم الروح القدس بالإرادة والمحبة فالله مركب من ثلاثة أمور متميزة وهو مع ذلك واحد .. ثم يقولون أن اقنوم الإبن قد اتحد مع دم مريم فتجسد وظهر في جسد المسيح فالمسيح من حيث كونه أقنوما روحيا إله كامل ومن حيث كونه جسدا بشريا إنسان كامل ويطلقون على الأول (لاهوتا) وعلى الثاني (ناسوتا) .. هذا هو الذي يقولونه في الإله ذكرته لك بالإيضاح التام ولا أظن أن عقلا في الوجود يرضيه هذا القول أو يعبد إلها بهذا المعنى .. ولهذا قد اضطر مؤلف ميزان الحق أن يقول في صحيفة 204 ما نصه:
"وقد يعترض بعضهم بأن هذه العقيدة المسيحية متناقضة وبما أن اعتراضهم خطأ ظاهر نجيب أن التثليث ليس خطأ بل هو سر عجيب ويجب أن ننتظر أسرارا كثيرة في الكتب المقدسة (خصوصا) ما يتعلق بجوهر الله إذ لو خلت حقيقة الله من الأسرار لأدركتها العقول البشرية كما تدرك سائر الأشياء المحدودة وهذا محال..." إلى آخر ما قال .. وهذه العبارة تناقض ما تقدم له صريحا لأنه حكم بأن الله مركب من أقانيم وحكم بأنه يشبه خلقه من حيث كونه روحا ومثل لتركيبه بتركيب الإنسان ولكنه مع ذلك يقول هنا إنه سر ينبغي أن لا تجول فيه العقول .. ومن المضحك أنه يقول في صحيفة 249:
"إن رفض إخواننا المسلمين لعقيدة الثالوث هو بالتالي رفض للاهوت المسيح فكلما اجتهد المسلمون في البحث عن الله زادوا بعدا في المعرفة عنه وعليه نجد في مصر اليوم حديثا حل محل مثل شائع كل ما خطر ببالك فهو هالك والله بخلاف ذلك فبذلك ترى الإسلام يؤول إلى العدم معرفة الله "اهـ.
والمضحك في هذه العبارة أنه أراد أن يقول أن رفض عقيدة الثالوث رفض لوجود الإله في زعمه هو لأنه يعتقد أن الإله يجب أن يكون مركبا من ثلاثة .. أحد الثلاثة لاهوت المسيح وهو اقنوم الإبن الذي سبقت الإشارة إليه ورفض لاهوت المسيح مصيبة عنده .. فظن أن المسلمين يقعون في تلك المصيبة التي هي نكران أقنوم المسيح ولاهوته ونسي أن المسلمين يؤمنون برفض لاهوت المسيح إيمانا جازما طبعا ويشهدون أنه عبد الله ورسوله وأنه بشر كسائر المخلوقات لم يمتز عن غيره إلا بالرسالة التي ميز الله بها يعض عباده الذين اصطفاهم لرسالته .. هذه هي عقيدة المسلمين في المسيح .. على أن القسيس يريد أن يقول أن المسلمين يقررون أن معرفة ذات الإله غير ممكنة لأنها من الأسرار التي لا تحيط بها العقول فكذلك المسيحيون يقولون أن ذات الإله سر من الاسرار لكنه لم يحسن التعبير..
وتتلخص عبارات المبشرين في هذا الموضوع في أمور ثلاثة أحدها أن الله تعالى عما يقولون مركب من ثلاثة اقانيم متميزة .. كل واحد منها مغاير لصاحبه ولكنه مساو له في معنى الألوهية ومع ذلك فهو إله واحد وكل واحد له خاصة لا يشترك معه فيها اقنوم آخر وهذه الأقانيم الثلاثة وحدة متماسكة غير قابلة للإنفصال أزلا .. ولو فرض (وهذا الفرض مستحيل) أنه انفصل احد الأقانيم لا يكون إلها بالرغم من كونه مساويا لصاحبه من جميع الوجوه فذاتهم واحدة ومجدهم واحد وصفاتهم واحدة ومشيئتهم واحدة وهكذا في كل الصفات الإلهية وكل ذلك صرح به مؤلف ميزان الحق في صحيفة 240 .. ثانيا قرروا أن هذه النظرية فوق العقل فلا يمكن إدراكها .. على أنهم يمثلون لها بأمثلة يقولون أنها أمثلة تقريبية ومن ذلك حكمة يحيى بن معاذ التي ذكرها ميزان الحق وهي من عرف نفسه عرف ربه .. فكما أن الإنسان مركب من ثلاثة أشياء جسم ونفس وروح فكذلك الإله مركب من ثلاثة اقانيم كما بيناه آنفا .. ثالثا .. ومع ذلك فإنهم يقولون أن لهذا نظيرا عند المسلمين وهو أنهم يقولون أن ذات الله لا تعرف ولا تحيط بها العقول على انه احتج أيضا في صحيفة رقم 242 بأن المسلمين يقولون بتعدد صفات الإله فالتعدد عندهم لا ينافي وحدته وكذلك تعدد الأقانيم لا يبطل وحدة الجوهر ..وهذه هي المسائل الثلاث التي قررها المبشرون وعمدتهم في بيانها ميزان الحق فاستمع لردها واحدة واحدة:
أما المسألة الأولى فقد قلنا لك آنفا إن القول بتركيب ذات الإله من ثلاثة أقانيم على الكيفية التي وردت في العقيدة المسيحية لا يرضي بها احد من خلق الله لأن وقوعها مستحيل ولا يمكن لعاقل أن يقول أن معتقدها موحد ومنزه لإلهه ومن المدهش أن عقيدة كهذه تتملك نفوس عدد عظيم من الناس تحت تأثير انها فوق العقل وما دام قد اتى بها كتاب مقدس فينبغي الإذعان لها حتى ولو كانت بديهية العقل تقتضي بطلانها مع أن الأديان ما جاءت إلا بما ينطبق على العقول السليمة فهي تبرهن جميعها للناس على وجود إله واحد وتقيم له الأدلة على تنزيهه .. ومحال أن يأتي رسول يدعو الناس إلى إله واحد ثم يقول لهم إن هذا الواحد مركب من ثلاثة حقائق متماثلة متميزة متحدة ومع ذلك هو واحد ولو جاء رسول للناس بهذه النظرية وقال لهم إن التناقض الظاهر لكم فوق عقولكم لما آمن به أحد ولفضلوا عبادة الأوثان التي لا تعقيد فيها أو عبادة آلهة متحدة على هذه العقيدة المعقدة التي تصادم الحس وتخالف بديهية العقل .. وغريب أنهم يقولون أن الثلاثة حقائق وجودية قائمة بنفس الصفات وأنها متميزة ومعدودة .. غاية ما هناك أنها متماثلة فهل رايت أو سمعت أن المثلين يمكن اتحادهما بحيث يصير أحدهما عين الآخر؟!.. مثلا زيد وعمرو التوءمان المشتركان في الإنسانية والوجود وجميع الصفات ما عدا الوجود الخاص الذي يميز أحدهما عن الآخر فهل يقبل العقل ان زيدا وعمرو قد اتحدا وصار أحدهما الآخر؟! كلا إن ذلك محال بالبداهة فإذا وجد من الناس من ينكر البديهي قيل له إنها لا يمكن اتحادهما إلا بعد زوال شخصية زيد وشخصية عمرو فإذا زالت شخصيتهما لا بد ان تحل بعد زوالها شخصية اخرى وحينئذ فلا يكونان متحدين وإذا انعدمت شخصية احدهما ولم تنعدم الأخرى لا يتاتى الإتحاد بين الموجود والمعدوم .. ولنفرض سريرين مركبين من مادة مساوية للاخرى من جميع الوجوه ولكن لكل منها وجود خاص يميزه عن الآخر بحيث يشار إلى كل منهما على حدة ثم ألصق احد السريرين بالآخر مع بقاء شخصية كل سرير على حالها فهل ذلك الإلصاق يغير شخصيتهما أو يظل كل واحد منها باق على وجوده الخاص لاشك في بقاء السريرين على حالهما فإذا أريد إعدام شخصيتهما لا بد من إزالة تركيبهما أولا وعمل سرير آخر من مجموع خشبهما وعند ذلك تحدث هيئة أخرى يتكون منها سرير جديد غير السريرين اللذين انعدمت شخصيتهما ذلك هو الذي اتفق عليه العقلاء في كل زمان ومكان .. نعم قالوا يصح أن يطلق الإتحاد على انتقال شيئ من حالة إلى حالة أخرى كانتقال المسمار والخيط من حالتهما بالتركيب والجمع بينهما إلى حالة الحصير فإن أراد الإله مركب من ثلاثة أجزاء كل جزء لا يوجد فيه الكل كالحصير المركبة من الأجزاء الثلاثة يكون ذلك القول ممكن الوقوع في الخارج وإن كانت ذات الإله تعالى وتقدس منزهة عن التركيب من اجزاء لأن الكل لا يتحقق بدون أجزائه طبعا فإن الحصير لا توجد إلا إذا وجد أولا المسمار والخيط وحينئذ يكون الكل محتاجا إلى أجزائه فالإله المركب محتاج إلى أجزائه التي يتركب منها مع أن الإله يجب أن يكون غنيا عن كل ما سواه فلو احتاج في وجوده إلى شيئ ما لكان حادثا لا يصلح أن يفيد العالم بالوجود .. وكيف يمكنه أن يعطي العالم الوجود وهو مثلهم محتاج؟! ولا يصح أن يقال أن أجزاء الشيئ عينه فاحتياجه إليها احتياج لنفسه لانه لو صح ذلك لصح إطلاق اسم الحصير على الخيط والمسمار قبل تركيبهما وذلك باطل بالبداهة وايضا لو كان الأمر مركبا من اجزاء لكان كل جزء من اجزائه مقدما عليه في الوجود بالضرورة لأن الجزء مقدم على الكل عند جميع العقلاء ولو كان الجزء مقدما لكانت مرتبته في الالوهية مقدمة فكان هو أحق بأن يكون إلها من الكل فالتركيب في ذات الإله محال قطعا على أي حال ولكن التركيب من أجزاء كل جزء منها غير الكل ممكن الوقوع في الخارج في غير ذات الإله .. أما التركيب بمعنى الإتحاد الحقيقي وهو ان يجتمع ثلاثة جواهر متميزة لكل واحد منها وجود خاص يمتاز به عن صاحبه بحيث يكون أحدهما أولا لثان وثالث وأن كل واحد منهما يصدق عليه الكل لتماثلهم في الحقيقة فذلك مستحيل الوقوع بالنسبة للإله وللمخلوقات ومن يمكنه أن يتصور أن زيدا وعمرا قد اتحدا مع بقاء شخصية كل منهما فإنه يمكنه ان يتصور اتحاد الاقانيم الثلاثة مع بقاء شخصية كل واحد منهم .. ومع هذا كله فلنسلم جدلا بانه يمكن ان يقع في الوجود اتحاد ثلاثة جواهر متماثلة اتحادا حقيقيا بحيث يصير أحدهم عين الآخر ولكننا نسأل المبشرين ما هو غرضهم من اتحاد الأقانيم في الأزل في الذات والصفات الذي ذكره ميزان الحق في صحيفة رقم 240 فإن كانوا يريدون به أنهم متساوون في الرتبة أيضا وهو الذي يظهر من كلامه فإن ظاهر نصوص الإنجيل تنافيه .. أما اولا .. فلأنه نقل في نفس تلك الصحيفة عن الكتاب المقدس ما نصه:
"لكل اقنوم وصف أحسن وصف في الكتاب المقدس بهذه الألقاب الأول الآب والخالق والثاني ابن الله والفادي والثالث المقدس والمعزي "اهـ .
وذلك ظاهر في أن الآب له مرتبة أعلى من مرتبة الإبن وهو ما يعطيه ظاهر قول المسيح أيضا ((أبي اعظم مني)) والتاويل الذي ذكره المؤلف في الصحيفة المذكورة لهذه الجملة من انه يريد أنه أعظم منه من حيث ناسوته غير ظاهر لان المراد بالناسوت هو الجسم البشري بقطع النظر عما يتعلق به من المعاني الروحية وتفضيل الإله على الجسم ليس من مقاصد العقلاء فضلا عن الأنبياء فضلا عن الآلهة لانه لا يخفى عن أحد أن الإله افضل من الاجسام فما هي الفائدة من إخبار المسيح بذلك وهل من المناسب أن يقول المرء أن الله افضل من أجسام عباده فلا بد أن يكون الغرض تفضيل أقنوم الآب على اقنوم الإبن .. وأما الثاني .. فلأنهم إذا قالوا أنه لا تفاضل بين أقنوم الآب والإبن فلايكون لتسمية أقنوم الآب ابا والثاني ابنا معنى لأن مرتبتهما واحدة فلماذا جعل الأول أبا؟! وكذلك لا يكون لتسمية "الإبن كلمة الاب" معنى وأيضا فلا يكون لتسمية "صورة عقل الآب" معنى وذلك هو أساس شرح عقيدة الثالوث عندهم فذلك دليل على أن مرتبة الآب أعلى من مرتبة الإبن .. وذلك يستدعي أن يكون الأقنوم الثاني أثرا للأقنوم الأول فيكون ممكنا والذي يطلع على كتبهم يرى أنهم يجمعون على أن الآب ينبوع الإبن وأن الإبن صادر عن تفكير الآب في ذاته فيكون أثرا له حتما فكيف يكون مركبا منه مع أن البداهة تجزم بأن المركب من الممكن ممكن؟! .. سلمنا أنهم متساوون في كل شيئ أزلا افليس أحدهما أثرا للآخر كما يحاول المؤلف ذلك في العبارة التي نقلتها عنه ولكننا نقول له إذا وجد ثلاثة حقائق قائمة بنفسها مجردة عن المادة ازلا كل واحد منهم تقتضي ذاته الوجود فلا معنى لهذا إلا وجود ثلاثة آلهة كاملة لأن الذي ذاته تقتضي الوجود يكون إلها كاملا من جميع الوجوه ومتى وجد آلهة ثلاثة كان من طبيعة كل منهم التفرد بالسلطان المطلق لأن ضعف السلطان نقص وذلك يفضي إلى التنازع حتما فيختل نظام العالم ويتنازع الآلهة (قل لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) ومن السخرية أن يقال أن الآلهة الثلاثة قد اتحدوا وصاروا إلها واحدا بل من السخرية أن يقال إن الثلاثة لهم مشيئة واحدة وقدرة واحدة وسلطان كل واحد منهم ازلي إذ من البديهي الذي لا يرتاب فيه احد أن الإله يجب أن يكون كاملا من جميع الوجوه فيجب ان يكون كل أقنوم من الأقانيم متصفا بصفات كاملة فينبغي ان تكون مشيئة كل واحد منهما كاملة وقدرته كاملة وسلطانه كامل ومتى ثبت أن هذه الصفات يجب تكون كاملة فإنه يستحيل اتحادهما كما يستحيل اتحاد الذوات وذلك لأن معنى الإتحاد فناء احدى الصفات في الأخرى بحيث تصير إحداهما عين الأخرى وبديهي أن التي تفنى في غيرها لا تكون كاملة فإذا فرضنا أن قدرة كل أقنوم منهم كاملة ولكن فنيت اثنتان وهما قدرة الإبن وقدرة الروح القدس في قدرة الآب فلا نشك في أن يكون الفاني ناقصا ويلزم من ذلك أن يكون نفس الأقنوم ناقصا أيضا فإن المتصف بالناقص ناقص وذلك بديهي فقوله أن لهم مشيئة واحدة وقدرة واحدة ...إلخ لا معنى له .. لعلك تقول أنه يريد من اتحادهم في الصفات أنهم يعملون بالإتفاق فكل منهم له قدرة كاملة مثلا ولكنهم يوجهون معا إلى الأثر الذي يريدون إيجاده أو يتفقون على أن قدرة أحدهم تعمل وحدها والجواب أن هذا واضح الفساد .. أما الأول فلأن القدرتين إذا تعلقتا معا بإيجاد شخص مثلا والمفروض أن إحداهما كافية فيه كان إيجاده بإحداهما فقط أما الأخرى فتكون ملغاة لا عمل لها ألا ترى أنك إذا وضعت قدرا فيه ماء على نار حامية حتى وصل الماء إلى نهاية درجة الغليان ثم سلطت عليه نارا أخرى مثلها فإنها لا تزيد في غليانه شيئا لأنه قد وصل إلى نهايته فكذلك القدرة التامة إذا تعلقت بشيئ كان أثرا لها وحدها فتكون الثانية ملغاة لا عمل لها فإن قلت إنها أحدثت فيه أثرا مماثلا لأثر القدرة الأخرى بأن أوجدته الأولى ثم أوجدته الثانية كان الخلل أشد ظهورا فإنه لا معنى لإيجاد الموجود وإذا قلت أن القدرتين تعاونتا على إيجاده كان معنى ذلك أن كلا منهما لا يكفي في إيجاده فتكون القدرتان في هذه الحالة ناقصتين ويكون المتصف بهما إلهين ناقصين وأما الثاني فلأنه إذا عملت قدرة أحدهما وتعطلت قدرة الثاني كان المعطل ناقصا بالبداهة والمفروض أنه كامل فالنتيجة الطبيعية لذلك أنه يستحيل اتحاد قدرة الأقانيم كما يستحيل اتحاد ذواتهم وبذلك يتضح جليا أن القول بوجود ثلاثة أقانيم مجردة عن المادة ممتازة عن بعضها متحدة في الذات والصفات وأن مجموع الثلاثة إله واحد قول هراء كما قال الأستاذ الأبوصيري مخاطبا لهم بقوله:
"إن قولا أطلقتموه على الله تعالى شأنه لقول هراء"
لعلك تقول أن بطلان عقيدة الثالوث لا تخفى على أحد من خلق الله ولهذا نقل المؤرخون أنها لم يوجد لها اثر في الأمم الماضية من لدن آدم إلى موسى عليه السلام اللهم إلا عند بعض فلاسفة الوثنية .. والمسيحيون أنفسهم يشعورون بذلك التناقض ولكنهم يعتذرون عنه بأنه فوق العقل وخارج عن دائرة البحث والتفكير وإذا كان كذلك فلسنا في حاجة إلى كل هذه الأدلة .. والجواب أنني وإن كنت أوافق حقا على أن هذه العقيدة واضحة البطلان وأنني على رأي صاحب الملل والنحل الذي يقول "لولا أننا نرى بأعيننا أناس يقررون هذه العقيدة ويدينون بها ما صدقنا أن العقول البشرية تقبل عقيدة كهذه" .. ولكنني أردت أن أتمشى مع المبشرين خاصة صاحب ميزان الحق الذي يحسبه كثير من المبشرين عمدتهم .. فإن حضرته لم يتواضع تواضه كثير منهم ولم يقف عند حد أن هذه العقيدة غير معقولة حقا ويعتذر بأنه ليس كل غير معقول يجب رفضه بل حاول ان يبرهن عليها وأن يمثل بما يقربها إلى العقول ويجعلها جارية على سنن المنطق .. هذا من جهة ومن جهة أخرى فإنه قد فهم خطأ فيما يقوله المسلمون من أن ذات الإله لا يمكن إدراكها فأردت أن أفهمه أن المسلمين لا يقبلون إلا ما كان منطقيا على العقل وذلك نموذج من أدلة المسلمين على توحيد الإله سبحانه ..وإذ قد عرفت الرد على نظرية المؤلف .. الأولى في القول بوجود ثلاثة أقانيم مجردة كل واحد منها متصف بصفات الكمال ثم اتحدوا في الذات والصفات وصاروا إلها واحدا وعرفت أن ذلك مستحيل بداهة فاستمع لرد ما مثل به في إمكان ذلك وعدم استحالته .. إنه قد يأتي بمثال لا يسع من يتأمله إلا أن يضحك بملئ فيه فقد زعم أن الإنسان مخلوق على مثال الله وهو مركب من ثلاثة أشياء متميزة إلا أنه واحد فزيد مثلا مركب من جسم وروح ونفس فإذا أراد أن يتكلم عن جسمه فإنه يصح ان يقول "أنا" بمعنى أنه هو هو ومتحد معه وإذا أراد أن يتكلم عن روحه فإنه كذلك يقول "أنا" بمعنى أنه هو روحه ومتحد معها وإذا اراد أن يتكلم عن نفسه فإنه يقول "أنا" ومع ذلك فإن نفسه ممتازة عن جسمه وممتازة عن روحه ويلاحظ أن المؤلف لم يقل انها متميزة بالفعل بل قال (يكاد يتميز أحدها عن الآخر) فيصح حينئذ أن يكون كل واحد من الثلاثة هو زيد فالنفس زيد والجسم زيد والروح زيد ومع كون الثلاثة ممتازة فلم يكن فيها إلا شخص واحد وهو زيد فحينئذ يمكن أن يكون الثلاثة واحدا أو الواحد ثلاثة هكذا يقرر القسيس ويقرر مع هذا أنه إذا انفصل كل واحد عن الآخرين كانا موجودين فيه .. نظير الإله المركب من الأقانيم تماما .. ولكن هل مثل هذا القول يصدر عن تفكير صحيح وهل يؤمن المبشرون حقا بصحة هذا الكلام فلننظر .. لا ريب في أن الإنسان مركب من أجزاء مادية محسة ومتصف بصفات مشاهدة ايضا وإلى جانب هذا يتعلق به امور معنوية فأما الأمور المادية فهي الخلايا المركب منها الجسم الإنساني المكونة من العناصر المختلفة كالفوسفور والأوكسجين والأيدورجين والآزوت .. والخلية هي عبارة عن كتلة صغيرة ذات شكل معين ويمكن تمثيلها باللبنة (الطوبة) ويتركب كل عضو من اعضاء ثانوية تسمى بالأنسجة وتنقسم إلى انسجة مختلفة نسيج عظمي ونسيج غضروفي ونسيج عضلي ونسيج طلائي وهو الجلد الذي يغطي هذه الأنسجة .. كالحائط المبنية من الطوب أولا ثم تغطى بالجص والبياض كما هو مبين في موضعه .. فإذا شئت أن تقتصر قلت أن الجسم الإنساني هو ذلك المحس المشاهد المركب من اللحم والدم والعظم والعروق والأعصاب والأعضاء الباطنة والظاهرة التي يمدها المخ بواسطة النخاع الشوكي ويعمل القلب في توزيع الدم .. هذه هي الأجزاء المادية التي يتركب منها جسم الإنسان وأما غير ذلك من الأمور المعنوية فلم يقل أحد من العقلاء أنها جزء من اجزاء جسم الإنسان أو أنها هي عين جسم الإنسان إنما الذي يقول إن هناك أمورا معنوية قائمة بالإنسان كالروح المجردة عن المادة عند من يقول بها من المفكرين فإنما يقولون أنها متعلقة بالإنسان تعلقا معنويا كتعلق العاشق بمعشوقته ولم يقل أحد منهم أنها جزء من أجزاء الجسم أو أنها متحدة مع الجسم ثم أنها إذا انفصلت عن الجسم الإنساني لا يكون موجودا فيها ولا تكون موجودة فيه حتما لأنها مجردة عن المادة وهو مادي فكيف يعقل أن تكون هي عينه ومتحدة به وكيف يتحد المادي بالمجرد .. ألا ترى معي أن كبوة المبشرين في تمثيلهم أشد من كبوتهم في تقرير قاعدة الثالوث .. ويعجبني مؤلف الادلة العقلية فهو وإن كان قد مثل تمثيلا كهذا ولكن قال أن هذا التمثيل لا يفيد وهو لا يفيد حقا لأن اتحاد ثلاثة حقائق مجردة (غير مادية) ببعضها قد يكون لهم فيها شبه وجه لتماثلها في الماهية أما اتحاد متباينين مادي ومجرد فهو خارج من طوق العقل الإنساني بالمرة ولكن يظهر أن المبشرين يتكلمون كلام من لا يبالي بالمحالات العقلية فهم يجوزون اتحاد المجرد بالمادي كما سيأتي في الكلام على اتحاد أقنوم الإبن بدم مريم .. على أن هناك أمرا آخر خفي على مؤلف ميزان الحق فقد ضرب المثل وهو غافل لاه لم يتفطن إلى ما عساه أن يسال عنه وإلا فماذا يكون حاله إذا قال له قائل ليس في الوجود إلا أن الإنسان مركب من مادة وغير مادة فأما المادة فهي الجسم وأما غير المادة فهي الروح وما هي النفس الثالثة التي تكاد تتميز عن هذين الأمرين هل هي مادة اخرى أو هي مجردة عن المادة في شكل آخر أم ماذا هي؟ وبديهي أنه لا يستطيع أن يجيب عن هذا مطلقا لأن الإنسان حقا إما هو مادي صرف على رأي من يقول ليس هناك سوى الجسم الإنساني وإما هو مادة وروح مجردة على رأي من يقول بذلك من فلاسفة اليونان وبعض فلاسفة المسلمين وهذا حصر عقلي .. أما أن هناك شيئا آخر غير الجسم وغير الروح يسمى بالنفس فلا .. لأنه لا بد أن يكون داخلا في هذين الأمرين فالنفس إما أن يكون مدلولها مجردا عن المادة وهي الروح وإما أن يكون مدلولها ماديا وهو جزء من الجسم فإنها تطلق على الدم وتطلق على مجموع الشهوة والغضب .. فما تخيله الدكتور من ان هناك شيئا آخر غير الجسم وغير الروح خطا ظاهر يدل على أن الرجل لا قدم له في الفلسفة التي يجب على من يكتب في هذا المقام أن يكون له قدم راسخ فيها لأن الذي يزعم أنه وصل إلى ان الإله اقانيم ثلاثة مجتمعة وزعم أن هذه الأقانيم ارواح وأنها قد اتحدت لا يصح له ان يجهل الإنسان المشاهد .. لعلك تقول ان القس لم يصرح بالروح المجردة عن المادة وإنما هو يريد أن يقول أن الإنسان مركب من حقيقة طبيعية وهي الحيوانية والناطقية ويطلق على هذه الحقيقة روحا ومركب من جسم وهو ظاهر ومركب من شخصية وهي وجوده الخاص ويسميها نفسا فالإنسان مركب من هذه الثلاثة وهي وإن كانت متميزة إلا أنها موجودة في شخص واحد وكل واحد منها متحقق فيه الآخران فالجسم متحقق فيه الحيوانية والناطقية والوجود الخاص والحيوانية والناطقية متحقق فيها الجسم والوجود الخاص متحقق فيه كل منها وبذلك يسلم تمثيله من هذه المشاكل .. والجواب أن الدكتور لا يريد ذلك لأنه صرح بأن الإنسان على مثال الإله باعتبار عقله وروحه وهم لا يقولون أن روح الإله مادية فالروح عندهم هي مجردة عن المادة كالإله .. على ان الحيوانية والناطقية لم يطلق عليهما احد اسم روح وعلى فرض أنه يريد ذلك فإنه لا يكون له فيه دليل مطلقا لا حقيقي ولا تقريبي لأن الحيوانية والناطقية امورا عتبارية والشخصية صفة لأنها عبارة عن الوجود الخاص فليس هناك جواهر متماثلة تكاد تتميز عن بعضها وإنما هو الجسم المكون من الخلايا وما يتعلق به من الصفات الخاصة أو المشتركة .. ومع ذلك فلنسلم جدلا أن الإنسان مركب من جسم وروح ونفس وكل واحد من الثلاثة (يكاد يتميز عن صاحبه) ولكن كيف يمكننا ان نحكم بأن هذه الثلاثة شيئ واحد من غير أن نلاحظ أن الجسم مركب من هذه الثلاثة وأن التركيب حدثت منه هيئة هي التي نحكم عليها بأنها واحدة بقطع النظر عن الأجزاء وهل يصح أن يحكم الإنسان بأن الجسم شيئ واحد مع ملاحظة العروق والأعصاب وغيرها من أجزاء الجسم لا ريب في أننا إذا نظرنا إلى هذه الأجزاء لا يسعنا إلا ان نحكم بتعدد الجسم وذلك بديهي لا نزاع فيه .. فإذا قال أن هذه الأشياء جزئيات لا اجزاء فالنفس والروح والجسم ثلاثة اشخاص متميزة كما هو صريح كلامه كزيد وعمرو وبكر قلنا ان اتحاد هذه الثلاثة بحيث يصير أحدها عين الآخر محال وهل إذا انفصلت الروح عن الجسم يصح أن يقال ان الجسم باق فيها وأنها هي عينه؟! إن ذلك واضح البطلان .. هذا نقض ما قرروه في عقيدة الثالوث وما ضربوه لها من مثال وبقي نقض قولهم أن ذلك وإن كان في ظاهره متناقض ولكن في الحقيقة هو ليس بخطأ لأن ذلك فوق العقل وله نذير عند المسلمين .. هذا الذي يقولون جهل واضح بالكتب الكلامية التي ألفها علماء المسلمين ولو انهم كلفوا أنفسهم مؤنة البحث بل مؤنة سؤال أهل الذكر لعرفوا أن الدين الإسلامي أساسه النظر والبرهان العقلي الصحيح وأن علماء الكلام لم يتركوا شيئا من الشبه التي قد ترد على الأدلة العقلية إلا أوردوها من تلقاء أنفسهم وأجابوا عنها بما لا سبيل إلى نقضه على اي حال .. والقاعدة العامة عند المسلمين هي أن كل شيئ يمكن للعقول السليمة إدراكه على وجه صحيح فإنه يجب تطبيق قضايا الدين وأحكامه عليه وأنهم لا يكتفون في عقائدهم إلا بالأدلة العقلية والنظر الصحيح فإذا قرر كتاب الله الكريم عقيدة من العقائد في ظاهرها شيئ من الشبه ببعض خلقه فإنه يجب عدم الأخذ بظاهرها وتنزيه الله تعالى تنزيها تاما عن مماثلته للحوادث وذلك القدر متفق عليه عند علماء المسلمين .. أما ما لا يمكن للعقول البشرية السليمة جميعها أن تدركه فذلك هو الذي يقول الدين الإسلامي عنه أنه اشتغال بما يضيع الوقت ويضلل العقل بدون جدوى وذلك كالبحث عن حقائق الأشياء وماهيتها سواءا كانت مادية ام مجردة لأن الإنسان لا يمكنه إلا أن يعرف أجزاء المركبات بتحليلها إلى أجزائها كتحليل الهواء ومعرفة أجزائه فإذا انتهى إلى جزء لا يمكنه تحليله فإن العقل يقف عنده ولا يعرف حقيقته وذلك القدر تشترك فيه كل عقول البشر السليمة وإذا كان العقل الإنساني يعجز عن إدراك حقيقة المجرد عن المادة فلا يمكنه أن يدرك حقيقة ذات الإله سبحانه وماهيته على ما هي عليه من باب أولى .. أما ما وراء ذلك فإنهم مكلفون بإدراكه فعليهم أن ينظرو ويفكروا في الأدلة التي تثبت وجود خالقهم وعليهم أن يدركوا ان ذلك الخالق واجب الوجود بمعنى أن وجوده من ذاته فلم يحتج إلى غيره وأنه واحد من جميع الوجوه فليست ذاته مركبة من اجزاء لا مادية ولا مجردة وقد تقدم الدليل القاطع على بطلان تركيب ذاته وكما انه يستحيل أن تتركب ذاته من أجزاء فكذلك يستحيل ان يكون معه إله آخر لأن الإله الواجب الوجود يجب أن يكون تام القدرة والسلطان فلو وجد إلهان لكان ذلك نقصا طبيعيا فيهما سواء اتفقا ام اختلفا لأنهما إن اتفقا فإن قدرة أحدهما وسلطانه ينقصان بقدر ما اثرت فيه القدرة الاخرى وذلك نقص في الإله وإن اختلفا فقهر أحدهما صاحبه لم يكونا إلهين بل يكونا كرجلين يتناضلان فغلب أحدهما صاحبه وكذلك إن عجزا عن قهر بعضهما فإن العجز نقص في الإله فيستحيل عقلا أن يوجد إلهان .. وكذلك عليهم أن ينزهوا الله سبحانه عن كل ما لا يليق به فيجب عليهم أن يؤمنوا بأنه تعالى ليس كمثله شيئ فهو مخالف لخلقه فليس بمادة من المواد وليس له جسم ولا يحل في غيره من المواد لأن المواد محدودة .. فإذا حل فيها كحلول الماء في الكوز او حلول الماء في العود الأخضر كان محدودا .. ولا يتحد مع غيره بأن يصير أحد المثلين عين الآخر .. لأن المسلمين يؤمنون قبل كل شيئ بأن الله الواحد من جميع الوجوه هو خالق الموجودات جميعا وكل من عداه فمستمد منه الوجود فكيف يعقل ان يتحد القديم الأزلي بغيره ممن خلق بأن يصير هو هو لا شك في أن ذلك يترتب عليه أن يكون القديم حادثا وذلك بديهي البطلان .. وكذلك عليهم ان يؤمنوا بأنه تعالى متصف بكل صفات الكمال ومنزه عن كل صفات النقص فهو تام القدرة والإراة فلا يعجزه شيئ في الأرض ولا في السماء ولا يكرهه أحد على فعل شيئ من الأشياء لأن ذلك نقص ينافي عظمة الإله تعالى وكذلك تام العلم فلا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ((ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير)) وقد ظن مؤلف ميزان الحق أن قول المسلمين بتعدد صفات الله تعالى مع كونهم يوحدون الله تعالى حجة على قوله أن التثليث لا ينافي الوحدة .. فقد قال في صحيفة رقم 242 ما نصه:
"يؤكد بعض إخواننا المسلمين أن التوحيد مخالف للتثليث لكن الحقيقة هي (حيث أن العقيدتين معلنتين في كلام الله) لا يمكن أن يكون بينهما تناقض لأن التوحيد لا ينفي كل نوع من أنواع التعدد مثال ذلك من المعلوم أن الله متعدد الصفات يقال رحيم حكيم قادر عادل إلخ .. حتى وصفه المسلمون بأنه مجمع الصفات الحسنة جامع صفات الكمال لكن تعدد الصفات لا يبطل وحدة الذات ومثل ذلك تعدد الاقانيم لا يبطل وحدة الجوهر الإلهي "اهـ.
وقد كان يكفي أن نسوق هذه العبارة للدلالة على سقوط هذه النظرية سقوطا بينا بأن البداهة تقضي بالفرق بين تعدد ذوات حقيقية تتحد مع بعضها اتحادا حقيقيا مع بقاء شخصيتها وبين تعدد صفات تتعلق بذات واحدة ولكننا نؤكد للمؤلف كل التأكيد أن تعدد الجواهر المتميزة عن بعضها بخاصة من الخواص يستلزم عدم اتحادها حتما لما قدمنا من الأدلة فلم يبق له مفر عن القول بوجود آلهة ثلاثة إذا كان يريد ان يجري على سنن العقل والمنطق لانه هو الذي يقع .. ثم يجاء بالدليل على بطلانه .. أما اتحاد الذوات فلا يمكن وقوعه في الوجود اصلا فهو باطل من أول الأمر فمن قال أن هذه العقيدة تنافي التوحيد فإنه قال حقا يؤيده البرهان بلا خفاء أما تعدد الصفات فإنه لا ينافي وحدة الذات فإن الإنسان الواحد مثلا يتصف بالكرم والشجاعة والعلم والقدرة ومع ذلك هو هو لم يتغير لأن هذه الصفات أمور معنوية قائمة به وتابعة له وقد يكون متصفا بصفات مشاهدة كالبياض والسواد ونحوهما وهي إن كانت غيره حتما بحيث إذا لاحظها العقل وحدها يمكنه الحكم عليها ولكنها تابعة له في الإشارة الحسية فإذا أشير إلى الإنسان كانت الإشارة إلى صفاته المحسة تبعا على أن بعض المسلمين يقولون أن ذات الإله واحدة من جميع الجهات وأن صفاته هي عين ذاته وإنما وصف الإله سبحانه في كتابه الكريم بالصفات المتعددة من القدرة والإرادة والعلم والحياة والسمع والبصر والكلام ليرشد العقول البشرية إلى الآثار المترتبة على تلك الصفات فخلق السماوات والأرض وما فيها من عجائب هو اثر لذاته وحدها وإن كان المعروف لهم أن المقدور أثر للقدرة وكذلك المعلومات سواء كانت قريبة أو بعيدة صغيرة او كبيرة دقيقة أو جليلة فهي منكشفة لذاته بدون شيئ آخر ولكن لما كان المعلوم أثرا لصفة العلم وصف الله نفسه بالعلم وهكذا وبالجملة فكل ما تحسبه العقول البشرية السليمة كمالا لله تعالى فيجب ان يوصف الله تعالى به باعتبار الآثار المترتبة عليه بقطع النظر عن كون هذه الآثار مترتبة على أمر زائد على الذات أو مترتبة على نفس الذات .. فقول المؤلف أن تعدد الصفات عند المسلمين كتعدد الأقانيم ليس بصحيح على اي حال لأننا إذا جرينا على رأي من يقول أن ذات الله تعالى واحدة من جميع الوجوه وهي وحدها كافية في ترتب آثار الصفات عليها فالأمر ظاهر وإذا جرينا على رأي من يقول إن هناك صفات حقيقية زائدة على ذاته تعالى فإنه لا يلزم من تعدد الصفات تعدد الذات قطعا .. ومن هذا يتضح لك أن المسلمين قد أطلقوا للعقل العنان في التكلم في صفات الله سبحانه وتعالى وأنهم لم يذروا شيئا من الكلام في ذات الله وصفاته إلا وقد عرضوه على محك النظر وبحثوا فيه من جميع جهاته فما أمكن للعقل أن يصل إليه من نتيجة مسلمة فهو ما يجب اعتقاده وما عجزت عنه العقول البشرية ولم تجد للغوص فيه مجالا وقفوا عنده وكلهم مجمعون على تنزيه الإله سبحانه وتعالى عن كل ما لا يليق به فإن تنزيه الإله لا يرتاب فيه العقل ولا يخفى عليه شيئ منه بل هو ضروري عند كل عاقل يعبد إلها كاملا إذ لا يليق بالعاقل أن يتخذ إلها معبودا ناقصا في أي جهة من جهاته لأن المعبود الناقص سواء كان إنسان أو حجرا أو شمسا أو قمرا أو حيوانا أو غير ذلك ليس أحق بالعبادة من الإنسان الذي يعبده في الواقع ونفس الأمر فعار عليه أن يتخذ إلها مثله أو دونه ومن يفعل ذلك فقد برهن على جهة نقص ظاهر فيه وضعف شديد مستول على نفسه .. ولما كان تنزه الإله هوالأصل الذي ترجع إليه مباحث المسلمين في ذات الله وصفاته كانت كل أدلتهم على ما ذهبوا إليه ترمي إلى هذه الغاية فإذا وصل الدليل بواحد إلى ما فيه شائبة عدم تنزيه الإله عما لا يليق بعظمته وجلاله أجمع الكل على نبذ ما دل الدليل عليه من عدم التنزيه .. ومن الغريب أن المؤلف نقل في المقدمة شيئا من بعض التنزيهات التي يذكرها المتكلمون في كتبهم بنصها تقريبا فقد ذكر في صحيفة رقم 13 ما نصه:
"أن عقل الإنسان القاصر المحدود لا يستطيع إدراك الخالق الأزلي الذي لا يتغير أو إدراك ذاته العالية لتي لا تحدها بداءة ولا نهاية..."
إلى ان قال:
"لا جدال في أن الإنسان يستطيع ان يعرف بعض الأمور عن الله من غير طريق الوحي وذلك من معاينة أحوال الخلق ومشاهدة أحوال ذاته فهو يعرف أن الله موجود وأنه متعال عن جميع خليقة يديه مما على الأرض أو في السماء وأن حكمته تعالى غير مدركة على أن المرء لا يستطيع أن يعرف الله بدون وحي كما يعرف الصديق صديقه والولد أمه ..."
أجل قد يعلم أن الله حكيم وأن رحمته فوق كل أعماله إلى آخر ما ذكره في صحيفة رقم 14 .. وهذا الكلام الذي نقله صحيح في ذاته لأن عقل الإنسان لا يستطيع ان يدرك حقيقة ذات الله التي لا يمكن للعقول البشرية أن تدركها ولكنه يستطيع ان يدرك أن الله موجود أزلي منزه عن التركيب من أجزاء مادية او مجردة ومنزه عن الإتحاد بغيره بحيث يصير أحدهما عين الآخر ومنزه عن الحلول في غيره كل ذلك داخل في دائرة المعقول الذي لا يعجز المعقول عن إدراكه فواجب عليه أن يؤمن به حقا وأن يصدقه تصديقا جازما لا شك فيه ولا ريب وإلا كان عابد الإله ناقص فهو مستو مع من يعبد الوثن ومن يعبد البشر والبقر .. فلو كان المؤلف ممن يتبع سنن المنطق في قوله لكانت مقدمته هذه احسن زاجر له عن القول بالأقانيم واتحادهم فإن العقول البشرية السليمة تذعن بأن ذلك نقص في ذات الإله لأنه يستلزم التركيب في ذاته تعالى كما يستلزم تعدد الآلهة قطعا مهما تستر بستار وحدة اللاهوت بعد اتحادهم فإن ذلك الستار شفاف لا يحجب العقل عن الإيمان بأن الشخصيات المتعددة المتميزة عن بعضها بخاصة الوجود لا يمكن أن تكون واحدة مهما اختلط بعضها ببعض.
يتبع
دراسة تحليلية دقيقة في إبطال عقيدة التثليث عقليا، ونقض الأدلة النقلية المعتمد عليها في إثباتها .. ودفع شبهات النصارى عن وجودها في المصادر الإسلامية.
ملاحظة: أثناء القراءة .. الذي يقصده الشيخ عبد الرحمن الجزيري رحمه الله بــ"المؤلف" في كلامه، هو القس مؤلف كتاب "ميزان الحق" الذي يهاجم فيه الإسلام.
يقول الشيخ رحمه الله:
قال مؤلف البراهين العقلية في صحيفة رقم 131 ما نصه:
"والآن لنرجع إلى تعليم الثالوث الأقدس وهو موضح في عدد 3-6 من القانون الأثناسيوسي كما يلي:
(3) الإيمان الجامع هو أن نعبد إلها واحدا في ثالوث وثالوثا في وحدانية.
(4) لا نخلط الأقانيم ولا نفصل الجوهر.
(5) فإن للآب أقنوما على حدة وللإبن أقنوما آخر وللروح القدس أقنوما آخر.
(5) ولكن لاهوت الآب والإبن والروح القدس كله واحد والمجد متساو والجلال أبدي معا."اهـ.
وقد فسر الكاتب هذا القانون فقال ما نصه:
"والمعنى أنهم يعبدون إلها واحدا بالنسبة لجوهره في ثالوث بالنسبة لأقانيمه وثالوثا من الأقانيم في وحدانية الجوهر ولا نخلط الأقانيم لأن كلا منهم قائم بذاته ولا نفصل الجوهر لأنه كله واحد"اهـ.
ولكن المؤلف لم يوضح الموضوع على الوجه الاكمل وإنني سأوضحه لك إيضاحا تاما بعد أن اطلعت على كثير من من آراء شراحهم المعول عليها عندهم وإليك البيان :
يقولون أن الله تعالى عما يقولون علوا كبيرا مركب من ثلاثة أقانيم كل أقنوم متميز عن الآخر بوجوده الخاص وهو ذات لا صفة وهو مع ذلك لا يقال له جوهر بل الجوهر اسم لمجموع الثلاثة .. وإذا قلت لهم إذا كان الاقنوم ذاتا لا صفة فلماذا لا يطلق عليه جوهر؟! .. اجابوا بأنهم لا يعرفون حقيقة الأقنوم فلا يمكنهم أن يعبروا عنه بعبارة ما .. وإذا قلت لهم إن عدم معرفة الاقنوم تستلزم حتما عدم معرفة الإله المركب من الثلاثة فلا يصح أن يطلق عليه جوهرا .. قالوا إن ذلك فوق العقل فلا يناقشون فيه .. ويعبر بعضهم عن الاقنوم بأنه الاصل الموجود في كل واحد من الثلاثة بطريق التساوي .. وعلى كل حال فهم مجمعون على أن كل اقنوم متميز عن صاحبه بوجوده الخاص وأن كل واحد من الاقانيم الثلاثة له اوصاف تميزه عن الآخر فأحدها يقال له الأقنوم الأول وهو اقنوم الآب ويعتبر أصل الأقانيم .. يليه الأقنوم الثاني وهو اقنوم الإبن ويقولون أن الأقنوم الثاني صدر عن الاقنوم الأول وكيفية صدوره عن الأقنوم الاول أن للأول وهو أقنوم الآب عقلا وتفكيرا ففكر الآب في لاهوته (ذاته الإلهية) وعقلها فتولد من ذلك التفكير أقنوم الإبن وذلك الأقنوم مماثل لأقنوم الآب تماما وطبيعتهما واحدة كالصورة التي تنبطح في المرآة فتكون مماثلة لأصلها من جميع الوجوه فالأقنوم الثاني هو كالاقنوم الاول من جميع الوجوه إلا أن له وجودا خاصا به ويسميه بعضهم "صورة عقل الأقنوم الأول" لأنه تولد من تفكيره فكان صورة لعقله .. كما بينت لك .. ويسمونه أيضا "كلمة الأقنوم الأول" لأن التفكير يعبر عنه بالكلام ويسمونه أيضا ابنا لأن الإبن يصدر عن الأب وفيه بعض الشبه أما هذا فإنه مثل الآب من جميع الوجوه فهو احق بتسميته ابنا من الأبناء الشرعيين .. أما الأقنوم الثالث فقد صدر عن الآب والإبن معا بفعل الإرادة والمحبة لا بفعل العقل فالإله الممتزج من الآب والإبن وهما الاقنوم الأول والثاني أحب ذاته فتولد من هيجان الحب أقنوم ثالث ويعبر عن ذلك بعضهم بالإنبثاق فيقول انبثق من هيجان الإرادة ذلك الأقنوم الثالث وهو مساو في طبيعته للآخرين ويسمونه الروح القدس .. فالإله مركب من ثلاثة اقانيم كل واحد منها كصاحبه من جميع الوجوه ومع ذلك فكل واحد منهما ممتاز عن الآخر فالكل واحد لأنه مركب من ثلاث طبائع متجانسة متحدة وكل واحد منها هو الكل فيقال لأقنوم الآب أنه إله ولما كان مساويا في طبيعته لأقنوم الإبن كان أقنوم الإبن موجودا فيه ومثل ذلك يقال في باقيها .. وإنما اختص الروح القدس بهذا الإسم مع أنهم يقولون أن الآب روح والإبن روح لأنهم يعتبرون للأقانيم ثلاث مراتب مرتبة الآب وهي العليا ويليها مرتبة الإبن ويليها مرتبة الروح القدس فسمى الأول أبا وسمى الثاني ابنا ولم يبق إلا الثالث فلم يبق له اسم يناسب مرتبته فسموه بالإسم العام ويمثلون لذلك بآدم وقابيل وحواء فإن آدم أب وقابيل ابن وليس من المناسب أن تكون حواء بنت آدم فسموها حواء .. ورغما من أنهم يطلقون على هذه الثلاثة (أقانيم) بمعنى حقائق وجودية لكل واحد منها وجود خاص تمتاز به عن صاحبتها فإنهم يسمون أقنوم الإبن بالعلم والعقل ويسمون أقنوم الروح القدس بالإرادة والمحبة فالله مركب من ثلاثة أمور متميزة وهو مع ذلك واحد .. ثم يقولون أن اقنوم الإبن قد اتحد مع دم مريم فتجسد وظهر في جسد المسيح فالمسيح من حيث كونه أقنوما روحيا إله كامل ومن حيث كونه جسدا بشريا إنسان كامل ويطلقون على الأول (لاهوتا) وعلى الثاني (ناسوتا) .. هذا هو الذي يقولونه في الإله ذكرته لك بالإيضاح التام ولا أظن أن عقلا في الوجود يرضيه هذا القول أو يعبد إلها بهذا المعنى .. ولهذا قد اضطر مؤلف ميزان الحق أن يقول في صحيفة 204 ما نصه:
"وقد يعترض بعضهم بأن هذه العقيدة المسيحية متناقضة وبما أن اعتراضهم خطأ ظاهر نجيب أن التثليث ليس خطأ بل هو سر عجيب ويجب أن ننتظر أسرارا كثيرة في الكتب المقدسة (خصوصا) ما يتعلق بجوهر الله إذ لو خلت حقيقة الله من الأسرار لأدركتها العقول البشرية كما تدرك سائر الأشياء المحدودة وهذا محال..." إلى آخر ما قال .. وهذه العبارة تناقض ما تقدم له صريحا لأنه حكم بأن الله مركب من أقانيم وحكم بأنه يشبه خلقه من حيث كونه روحا ومثل لتركيبه بتركيب الإنسان ولكنه مع ذلك يقول هنا إنه سر ينبغي أن لا تجول فيه العقول .. ومن المضحك أنه يقول في صحيفة 249:
"إن رفض إخواننا المسلمين لعقيدة الثالوث هو بالتالي رفض للاهوت المسيح فكلما اجتهد المسلمون في البحث عن الله زادوا بعدا في المعرفة عنه وعليه نجد في مصر اليوم حديثا حل محل مثل شائع كل ما خطر ببالك فهو هالك والله بخلاف ذلك فبذلك ترى الإسلام يؤول إلى العدم معرفة الله "اهـ.
والمضحك في هذه العبارة أنه أراد أن يقول أن رفض عقيدة الثالوث رفض لوجود الإله في زعمه هو لأنه يعتقد أن الإله يجب أن يكون مركبا من ثلاثة .. أحد الثلاثة لاهوت المسيح وهو اقنوم الإبن الذي سبقت الإشارة إليه ورفض لاهوت المسيح مصيبة عنده .. فظن أن المسلمين يقعون في تلك المصيبة التي هي نكران أقنوم المسيح ولاهوته ونسي أن المسلمين يؤمنون برفض لاهوت المسيح إيمانا جازما طبعا ويشهدون أنه عبد الله ورسوله وأنه بشر كسائر المخلوقات لم يمتز عن غيره إلا بالرسالة التي ميز الله بها يعض عباده الذين اصطفاهم لرسالته .. هذه هي عقيدة المسلمين في المسيح .. على أن القسيس يريد أن يقول أن المسلمين يقررون أن معرفة ذات الإله غير ممكنة لأنها من الأسرار التي لا تحيط بها العقول فكذلك المسيحيون يقولون أن ذات الإله سر من الاسرار لكنه لم يحسن التعبير..
وتتلخص عبارات المبشرين في هذا الموضوع في أمور ثلاثة أحدها أن الله تعالى عما يقولون مركب من ثلاثة اقانيم متميزة .. كل واحد منها مغاير لصاحبه ولكنه مساو له في معنى الألوهية ومع ذلك فهو إله واحد وكل واحد له خاصة لا يشترك معه فيها اقنوم آخر وهذه الأقانيم الثلاثة وحدة متماسكة غير قابلة للإنفصال أزلا .. ولو فرض (وهذا الفرض مستحيل) أنه انفصل احد الأقانيم لا يكون إلها بالرغم من كونه مساويا لصاحبه من جميع الوجوه فذاتهم واحدة ومجدهم واحد وصفاتهم واحدة ومشيئتهم واحدة وهكذا في كل الصفات الإلهية وكل ذلك صرح به مؤلف ميزان الحق في صحيفة 240 .. ثانيا قرروا أن هذه النظرية فوق العقل فلا يمكن إدراكها .. على أنهم يمثلون لها بأمثلة يقولون أنها أمثلة تقريبية ومن ذلك حكمة يحيى بن معاذ التي ذكرها ميزان الحق وهي من عرف نفسه عرف ربه .. فكما أن الإنسان مركب من ثلاثة أشياء جسم ونفس وروح فكذلك الإله مركب من ثلاثة اقانيم كما بيناه آنفا .. ثالثا .. ومع ذلك فإنهم يقولون أن لهذا نظيرا عند المسلمين وهو أنهم يقولون أن ذات الله لا تعرف ولا تحيط بها العقول على انه احتج أيضا في صحيفة رقم 242 بأن المسلمين يقولون بتعدد صفات الإله فالتعدد عندهم لا ينافي وحدته وكذلك تعدد الأقانيم لا يبطل وحدة الجوهر ..وهذه هي المسائل الثلاث التي قررها المبشرون وعمدتهم في بيانها ميزان الحق فاستمع لردها واحدة واحدة:
أما المسألة الأولى فقد قلنا لك آنفا إن القول بتركيب ذات الإله من ثلاثة أقانيم على الكيفية التي وردت في العقيدة المسيحية لا يرضي بها احد من خلق الله لأن وقوعها مستحيل ولا يمكن لعاقل أن يقول أن معتقدها موحد ومنزه لإلهه ومن المدهش أن عقيدة كهذه تتملك نفوس عدد عظيم من الناس تحت تأثير انها فوق العقل وما دام قد اتى بها كتاب مقدس فينبغي الإذعان لها حتى ولو كانت بديهية العقل تقتضي بطلانها مع أن الأديان ما جاءت إلا بما ينطبق على العقول السليمة فهي تبرهن جميعها للناس على وجود إله واحد وتقيم له الأدلة على تنزيهه .. ومحال أن يأتي رسول يدعو الناس إلى إله واحد ثم يقول لهم إن هذا الواحد مركب من ثلاثة حقائق متماثلة متميزة متحدة ومع ذلك هو واحد ولو جاء رسول للناس بهذه النظرية وقال لهم إن التناقض الظاهر لكم فوق عقولكم لما آمن به أحد ولفضلوا عبادة الأوثان التي لا تعقيد فيها أو عبادة آلهة متحدة على هذه العقيدة المعقدة التي تصادم الحس وتخالف بديهية العقل .. وغريب أنهم يقولون أن الثلاثة حقائق وجودية قائمة بنفس الصفات وأنها متميزة ومعدودة .. غاية ما هناك أنها متماثلة فهل رايت أو سمعت أن المثلين يمكن اتحادهما بحيث يصير أحدهما عين الآخر؟!.. مثلا زيد وعمرو التوءمان المشتركان في الإنسانية والوجود وجميع الصفات ما عدا الوجود الخاص الذي يميز أحدهما عن الآخر فهل يقبل العقل ان زيدا وعمرو قد اتحدا وصار أحدهما الآخر؟! كلا إن ذلك محال بالبداهة فإذا وجد من الناس من ينكر البديهي قيل له إنها لا يمكن اتحادهما إلا بعد زوال شخصية زيد وشخصية عمرو فإذا زالت شخصيتهما لا بد ان تحل بعد زوالها شخصية اخرى وحينئذ فلا يكونان متحدين وإذا انعدمت شخصية احدهما ولم تنعدم الأخرى لا يتاتى الإتحاد بين الموجود والمعدوم .. ولنفرض سريرين مركبين من مادة مساوية للاخرى من جميع الوجوه ولكن لكل منها وجود خاص يميزه عن الآخر بحيث يشار إلى كل منهما على حدة ثم ألصق احد السريرين بالآخر مع بقاء شخصية كل سرير على حالها فهل ذلك الإلصاق يغير شخصيتهما أو يظل كل واحد منها باق على وجوده الخاص لاشك في بقاء السريرين على حالهما فإذا أريد إعدام شخصيتهما لا بد من إزالة تركيبهما أولا وعمل سرير آخر من مجموع خشبهما وعند ذلك تحدث هيئة أخرى يتكون منها سرير جديد غير السريرين اللذين انعدمت شخصيتهما ذلك هو الذي اتفق عليه العقلاء في كل زمان ومكان .. نعم قالوا يصح أن يطلق الإتحاد على انتقال شيئ من حالة إلى حالة أخرى كانتقال المسمار والخيط من حالتهما بالتركيب والجمع بينهما إلى حالة الحصير فإن أراد الإله مركب من ثلاثة أجزاء كل جزء لا يوجد فيه الكل كالحصير المركبة من الأجزاء الثلاثة يكون ذلك القول ممكن الوقوع في الخارج وإن كانت ذات الإله تعالى وتقدس منزهة عن التركيب من اجزاء لأن الكل لا يتحقق بدون أجزائه طبعا فإن الحصير لا توجد إلا إذا وجد أولا المسمار والخيط وحينئذ يكون الكل محتاجا إلى أجزائه فالإله المركب محتاج إلى أجزائه التي يتركب منها مع أن الإله يجب أن يكون غنيا عن كل ما سواه فلو احتاج في وجوده إلى شيئ ما لكان حادثا لا يصلح أن يفيد العالم بالوجود .. وكيف يمكنه أن يعطي العالم الوجود وهو مثلهم محتاج؟! ولا يصح أن يقال أن أجزاء الشيئ عينه فاحتياجه إليها احتياج لنفسه لانه لو صح ذلك لصح إطلاق اسم الحصير على الخيط والمسمار قبل تركيبهما وذلك باطل بالبداهة وايضا لو كان الأمر مركبا من اجزاء لكان كل جزء من اجزائه مقدما عليه في الوجود بالضرورة لأن الجزء مقدم على الكل عند جميع العقلاء ولو كان الجزء مقدما لكانت مرتبته في الالوهية مقدمة فكان هو أحق بأن يكون إلها من الكل فالتركيب في ذات الإله محال قطعا على أي حال ولكن التركيب من أجزاء كل جزء منها غير الكل ممكن الوقوع في الخارج في غير ذات الإله .. أما التركيب بمعنى الإتحاد الحقيقي وهو ان يجتمع ثلاثة جواهر متميزة لكل واحد منها وجود خاص يمتاز به عن صاحبه بحيث يكون أحدهما أولا لثان وثالث وأن كل واحد منهما يصدق عليه الكل لتماثلهم في الحقيقة فذلك مستحيل الوقوع بالنسبة للإله وللمخلوقات ومن يمكنه أن يتصور أن زيدا وعمرا قد اتحدا مع بقاء شخصية كل منهما فإنه يمكنه ان يتصور اتحاد الاقانيم الثلاثة مع بقاء شخصية كل واحد منهم .. ومع هذا كله فلنسلم جدلا بانه يمكن ان يقع في الوجود اتحاد ثلاثة جواهر متماثلة اتحادا حقيقيا بحيث يصير أحدهم عين الآخر ولكننا نسأل المبشرين ما هو غرضهم من اتحاد الأقانيم في الأزل في الذات والصفات الذي ذكره ميزان الحق في صحيفة رقم 240 فإن كانوا يريدون به أنهم متساوون في الرتبة أيضا وهو الذي يظهر من كلامه فإن ظاهر نصوص الإنجيل تنافيه .. أما اولا .. فلأنه نقل في نفس تلك الصحيفة عن الكتاب المقدس ما نصه:
"لكل اقنوم وصف أحسن وصف في الكتاب المقدس بهذه الألقاب الأول الآب والخالق والثاني ابن الله والفادي والثالث المقدس والمعزي "اهـ .
وذلك ظاهر في أن الآب له مرتبة أعلى من مرتبة الإبن وهو ما يعطيه ظاهر قول المسيح أيضا ((أبي اعظم مني)) والتاويل الذي ذكره المؤلف في الصحيفة المذكورة لهذه الجملة من انه يريد أنه أعظم منه من حيث ناسوته غير ظاهر لان المراد بالناسوت هو الجسم البشري بقطع النظر عما يتعلق به من المعاني الروحية وتفضيل الإله على الجسم ليس من مقاصد العقلاء فضلا عن الأنبياء فضلا عن الآلهة لانه لا يخفى عن أحد أن الإله افضل من الاجسام فما هي الفائدة من إخبار المسيح بذلك وهل من المناسب أن يقول المرء أن الله افضل من أجسام عباده فلا بد أن يكون الغرض تفضيل أقنوم الآب على اقنوم الإبن .. وأما الثاني .. فلأنهم إذا قالوا أنه لا تفاضل بين أقنوم الآب والإبن فلايكون لتسمية أقنوم الآب ابا والثاني ابنا معنى لأن مرتبتهما واحدة فلماذا جعل الأول أبا؟! وكذلك لا يكون لتسمية "الإبن كلمة الاب" معنى وأيضا فلا يكون لتسمية "صورة عقل الآب" معنى وذلك هو أساس شرح عقيدة الثالوث عندهم فذلك دليل على أن مرتبة الآب أعلى من مرتبة الإبن .. وذلك يستدعي أن يكون الأقنوم الثاني أثرا للأقنوم الأول فيكون ممكنا والذي يطلع على كتبهم يرى أنهم يجمعون على أن الآب ينبوع الإبن وأن الإبن صادر عن تفكير الآب في ذاته فيكون أثرا له حتما فكيف يكون مركبا منه مع أن البداهة تجزم بأن المركب من الممكن ممكن؟! .. سلمنا أنهم متساوون في كل شيئ أزلا افليس أحدهما أثرا للآخر كما يحاول المؤلف ذلك في العبارة التي نقلتها عنه ولكننا نقول له إذا وجد ثلاثة حقائق قائمة بنفسها مجردة عن المادة ازلا كل واحد منهم تقتضي ذاته الوجود فلا معنى لهذا إلا وجود ثلاثة آلهة كاملة لأن الذي ذاته تقتضي الوجود يكون إلها كاملا من جميع الوجوه ومتى وجد آلهة ثلاثة كان من طبيعة كل منهم التفرد بالسلطان المطلق لأن ضعف السلطان نقص وذلك يفضي إلى التنازع حتما فيختل نظام العالم ويتنازع الآلهة (قل لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) ومن السخرية أن يقال أن الآلهة الثلاثة قد اتحدوا وصاروا إلها واحدا بل من السخرية أن يقال إن الثلاثة لهم مشيئة واحدة وقدرة واحدة وسلطان كل واحد منهم ازلي إذ من البديهي الذي لا يرتاب فيه احد أن الإله يجب أن يكون كاملا من جميع الوجوه فيجب ان يكون كل أقنوم من الأقانيم متصفا بصفات كاملة فينبغي ان تكون مشيئة كل واحد منهما كاملة وقدرته كاملة وسلطانه كامل ومتى ثبت أن هذه الصفات يجب تكون كاملة فإنه يستحيل اتحادهما كما يستحيل اتحاد الذوات وذلك لأن معنى الإتحاد فناء احدى الصفات في الأخرى بحيث تصير إحداهما عين الأخرى وبديهي أن التي تفنى في غيرها لا تكون كاملة فإذا فرضنا أن قدرة كل أقنوم منهم كاملة ولكن فنيت اثنتان وهما قدرة الإبن وقدرة الروح القدس في قدرة الآب فلا نشك في أن يكون الفاني ناقصا ويلزم من ذلك أن يكون نفس الأقنوم ناقصا أيضا فإن المتصف بالناقص ناقص وذلك بديهي فقوله أن لهم مشيئة واحدة وقدرة واحدة ...إلخ لا معنى له .. لعلك تقول أنه يريد من اتحادهم في الصفات أنهم يعملون بالإتفاق فكل منهم له قدرة كاملة مثلا ولكنهم يوجهون معا إلى الأثر الذي يريدون إيجاده أو يتفقون على أن قدرة أحدهم تعمل وحدها والجواب أن هذا واضح الفساد .. أما الأول فلأن القدرتين إذا تعلقتا معا بإيجاد شخص مثلا والمفروض أن إحداهما كافية فيه كان إيجاده بإحداهما فقط أما الأخرى فتكون ملغاة لا عمل لها ألا ترى أنك إذا وضعت قدرا فيه ماء على نار حامية حتى وصل الماء إلى نهاية درجة الغليان ثم سلطت عليه نارا أخرى مثلها فإنها لا تزيد في غليانه شيئا لأنه قد وصل إلى نهايته فكذلك القدرة التامة إذا تعلقت بشيئ كان أثرا لها وحدها فتكون الثانية ملغاة لا عمل لها فإن قلت إنها أحدثت فيه أثرا مماثلا لأثر القدرة الأخرى بأن أوجدته الأولى ثم أوجدته الثانية كان الخلل أشد ظهورا فإنه لا معنى لإيجاد الموجود وإذا قلت أن القدرتين تعاونتا على إيجاده كان معنى ذلك أن كلا منهما لا يكفي في إيجاده فتكون القدرتان في هذه الحالة ناقصتين ويكون المتصف بهما إلهين ناقصين وأما الثاني فلأنه إذا عملت قدرة أحدهما وتعطلت قدرة الثاني كان المعطل ناقصا بالبداهة والمفروض أنه كامل فالنتيجة الطبيعية لذلك أنه يستحيل اتحاد قدرة الأقانيم كما يستحيل اتحاد ذواتهم وبذلك يتضح جليا أن القول بوجود ثلاثة أقانيم مجردة عن المادة ممتازة عن بعضها متحدة في الذات والصفات وأن مجموع الثلاثة إله واحد قول هراء كما قال الأستاذ الأبوصيري مخاطبا لهم بقوله:
"إن قولا أطلقتموه على الله تعالى شأنه لقول هراء"
لعلك تقول أن بطلان عقيدة الثالوث لا تخفى على أحد من خلق الله ولهذا نقل المؤرخون أنها لم يوجد لها اثر في الأمم الماضية من لدن آدم إلى موسى عليه السلام اللهم إلا عند بعض فلاسفة الوثنية .. والمسيحيون أنفسهم يشعورون بذلك التناقض ولكنهم يعتذرون عنه بأنه فوق العقل وخارج عن دائرة البحث والتفكير وإذا كان كذلك فلسنا في حاجة إلى كل هذه الأدلة .. والجواب أنني وإن كنت أوافق حقا على أن هذه العقيدة واضحة البطلان وأنني على رأي صاحب الملل والنحل الذي يقول "لولا أننا نرى بأعيننا أناس يقررون هذه العقيدة ويدينون بها ما صدقنا أن العقول البشرية تقبل عقيدة كهذه" .. ولكنني أردت أن أتمشى مع المبشرين خاصة صاحب ميزان الحق الذي يحسبه كثير من المبشرين عمدتهم .. فإن حضرته لم يتواضع تواضه كثير منهم ولم يقف عند حد أن هذه العقيدة غير معقولة حقا ويعتذر بأنه ليس كل غير معقول يجب رفضه بل حاول ان يبرهن عليها وأن يمثل بما يقربها إلى العقول ويجعلها جارية على سنن المنطق .. هذا من جهة ومن جهة أخرى فإنه قد فهم خطأ فيما يقوله المسلمون من أن ذات الإله لا يمكن إدراكها فأردت أن أفهمه أن المسلمين لا يقبلون إلا ما كان منطقيا على العقل وذلك نموذج من أدلة المسلمين على توحيد الإله سبحانه ..وإذ قد عرفت الرد على نظرية المؤلف .. الأولى في القول بوجود ثلاثة أقانيم مجردة كل واحد منها متصف بصفات الكمال ثم اتحدوا في الذات والصفات وصاروا إلها واحدا وعرفت أن ذلك مستحيل بداهة فاستمع لرد ما مثل به في إمكان ذلك وعدم استحالته .. إنه قد يأتي بمثال لا يسع من يتأمله إلا أن يضحك بملئ فيه فقد زعم أن الإنسان مخلوق على مثال الله وهو مركب من ثلاثة أشياء متميزة إلا أنه واحد فزيد مثلا مركب من جسم وروح ونفس فإذا أراد أن يتكلم عن جسمه فإنه يصح ان يقول "أنا" بمعنى أنه هو هو ومتحد معه وإذا أراد أن يتكلم عن روحه فإنه كذلك يقول "أنا" بمعنى أنه هو روحه ومتحد معها وإذا اراد أن يتكلم عن نفسه فإنه يقول "أنا" ومع ذلك فإن نفسه ممتازة عن جسمه وممتازة عن روحه ويلاحظ أن المؤلف لم يقل انها متميزة بالفعل بل قال (يكاد يتميز أحدها عن الآخر) فيصح حينئذ أن يكون كل واحد من الثلاثة هو زيد فالنفس زيد والجسم زيد والروح زيد ومع كون الثلاثة ممتازة فلم يكن فيها إلا شخص واحد وهو زيد فحينئذ يمكن أن يكون الثلاثة واحدا أو الواحد ثلاثة هكذا يقرر القسيس ويقرر مع هذا أنه إذا انفصل كل واحد عن الآخرين كانا موجودين فيه .. نظير الإله المركب من الأقانيم تماما .. ولكن هل مثل هذا القول يصدر عن تفكير صحيح وهل يؤمن المبشرون حقا بصحة هذا الكلام فلننظر .. لا ريب في أن الإنسان مركب من أجزاء مادية محسة ومتصف بصفات مشاهدة ايضا وإلى جانب هذا يتعلق به امور معنوية فأما الأمور المادية فهي الخلايا المركب منها الجسم الإنساني المكونة من العناصر المختلفة كالفوسفور والأوكسجين والأيدورجين والآزوت .. والخلية هي عبارة عن كتلة صغيرة ذات شكل معين ويمكن تمثيلها باللبنة (الطوبة) ويتركب كل عضو من اعضاء ثانوية تسمى بالأنسجة وتنقسم إلى انسجة مختلفة نسيج عظمي ونسيج غضروفي ونسيج عضلي ونسيج طلائي وهو الجلد الذي يغطي هذه الأنسجة .. كالحائط المبنية من الطوب أولا ثم تغطى بالجص والبياض كما هو مبين في موضعه .. فإذا شئت أن تقتصر قلت أن الجسم الإنساني هو ذلك المحس المشاهد المركب من اللحم والدم والعظم والعروق والأعصاب والأعضاء الباطنة والظاهرة التي يمدها المخ بواسطة النخاع الشوكي ويعمل القلب في توزيع الدم .. هذه هي الأجزاء المادية التي يتركب منها جسم الإنسان وأما غير ذلك من الأمور المعنوية فلم يقل أحد من العقلاء أنها جزء من اجزاء جسم الإنسان أو أنها هي عين جسم الإنسان إنما الذي يقول إن هناك أمورا معنوية قائمة بالإنسان كالروح المجردة عن المادة عند من يقول بها من المفكرين فإنما يقولون أنها متعلقة بالإنسان تعلقا معنويا كتعلق العاشق بمعشوقته ولم يقل أحد منهم أنها جزء من أجزاء الجسم أو أنها متحدة مع الجسم ثم أنها إذا انفصلت عن الجسم الإنساني لا يكون موجودا فيها ولا تكون موجودة فيه حتما لأنها مجردة عن المادة وهو مادي فكيف يعقل أن تكون هي عينه ومتحدة به وكيف يتحد المادي بالمجرد .. ألا ترى معي أن كبوة المبشرين في تمثيلهم أشد من كبوتهم في تقرير قاعدة الثالوث .. ويعجبني مؤلف الادلة العقلية فهو وإن كان قد مثل تمثيلا كهذا ولكن قال أن هذا التمثيل لا يفيد وهو لا يفيد حقا لأن اتحاد ثلاثة حقائق مجردة (غير مادية) ببعضها قد يكون لهم فيها شبه وجه لتماثلها في الماهية أما اتحاد متباينين مادي ومجرد فهو خارج من طوق العقل الإنساني بالمرة ولكن يظهر أن المبشرين يتكلمون كلام من لا يبالي بالمحالات العقلية فهم يجوزون اتحاد المجرد بالمادي كما سيأتي في الكلام على اتحاد أقنوم الإبن بدم مريم .. على أن هناك أمرا آخر خفي على مؤلف ميزان الحق فقد ضرب المثل وهو غافل لاه لم يتفطن إلى ما عساه أن يسال عنه وإلا فماذا يكون حاله إذا قال له قائل ليس في الوجود إلا أن الإنسان مركب من مادة وغير مادة فأما المادة فهي الجسم وأما غير المادة فهي الروح وما هي النفس الثالثة التي تكاد تتميز عن هذين الأمرين هل هي مادة اخرى أو هي مجردة عن المادة في شكل آخر أم ماذا هي؟ وبديهي أنه لا يستطيع أن يجيب عن هذا مطلقا لأن الإنسان حقا إما هو مادي صرف على رأي من يقول ليس هناك سوى الجسم الإنساني وإما هو مادة وروح مجردة على رأي من يقول بذلك من فلاسفة اليونان وبعض فلاسفة المسلمين وهذا حصر عقلي .. أما أن هناك شيئا آخر غير الجسم وغير الروح يسمى بالنفس فلا .. لأنه لا بد أن يكون داخلا في هذين الأمرين فالنفس إما أن يكون مدلولها مجردا عن المادة وهي الروح وإما أن يكون مدلولها ماديا وهو جزء من الجسم فإنها تطلق على الدم وتطلق على مجموع الشهوة والغضب .. فما تخيله الدكتور من ان هناك شيئا آخر غير الجسم وغير الروح خطا ظاهر يدل على أن الرجل لا قدم له في الفلسفة التي يجب على من يكتب في هذا المقام أن يكون له قدم راسخ فيها لأن الذي يزعم أنه وصل إلى ان الإله اقانيم ثلاثة مجتمعة وزعم أن هذه الأقانيم ارواح وأنها قد اتحدت لا يصح له ان يجهل الإنسان المشاهد .. لعلك تقول ان القس لم يصرح بالروح المجردة عن المادة وإنما هو يريد أن يقول أن الإنسان مركب من حقيقة طبيعية وهي الحيوانية والناطقية ويطلق على هذه الحقيقة روحا ومركب من جسم وهو ظاهر ومركب من شخصية وهي وجوده الخاص ويسميها نفسا فالإنسان مركب من هذه الثلاثة وهي وإن كانت متميزة إلا أنها موجودة في شخص واحد وكل واحد منها متحقق فيه الآخران فالجسم متحقق فيه الحيوانية والناطقية والوجود الخاص والحيوانية والناطقية متحقق فيها الجسم والوجود الخاص متحقق فيه كل منها وبذلك يسلم تمثيله من هذه المشاكل .. والجواب أن الدكتور لا يريد ذلك لأنه صرح بأن الإنسان على مثال الإله باعتبار عقله وروحه وهم لا يقولون أن روح الإله مادية فالروح عندهم هي مجردة عن المادة كالإله .. على ان الحيوانية والناطقية لم يطلق عليهما احد اسم روح وعلى فرض أنه يريد ذلك فإنه لا يكون له فيه دليل مطلقا لا حقيقي ولا تقريبي لأن الحيوانية والناطقية امورا عتبارية والشخصية صفة لأنها عبارة عن الوجود الخاص فليس هناك جواهر متماثلة تكاد تتميز عن بعضها وإنما هو الجسم المكون من الخلايا وما يتعلق به من الصفات الخاصة أو المشتركة .. ومع ذلك فلنسلم جدلا أن الإنسان مركب من جسم وروح ونفس وكل واحد من الثلاثة (يكاد يتميز عن صاحبه) ولكن كيف يمكننا ان نحكم بأن هذه الثلاثة شيئ واحد من غير أن نلاحظ أن الجسم مركب من هذه الثلاثة وأن التركيب حدثت منه هيئة هي التي نحكم عليها بأنها واحدة بقطع النظر عن الأجزاء وهل يصح أن يحكم الإنسان بأن الجسم شيئ واحد مع ملاحظة العروق والأعصاب وغيرها من أجزاء الجسم لا ريب في أننا إذا نظرنا إلى هذه الأجزاء لا يسعنا إلا ان نحكم بتعدد الجسم وذلك بديهي لا نزاع فيه .. فإذا قال أن هذه الأشياء جزئيات لا اجزاء فالنفس والروح والجسم ثلاثة اشخاص متميزة كما هو صريح كلامه كزيد وعمرو وبكر قلنا ان اتحاد هذه الثلاثة بحيث يصير أحدها عين الآخر محال وهل إذا انفصلت الروح عن الجسم يصح أن يقال ان الجسم باق فيها وأنها هي عينه؟! إن ذلك واضح البطلان .. هذا نقض ما قرروه في عقيدة الثالوث وما ضربوه لها من مثال وبقي نقض قولهم أن ذلك وإن كان في ظاهره متناقض ولكن في الحقيقة هو ليس بخطأ لأن ذلك فوق العقل وله نذير عند المسلمين .. هذا الذي يقولون جهل واضح بالكتب الكلامية التي ألفها علماء المسلمين ولو انهم كلفوا أنفسهم مؤنة البحث بل مؤنة سؤال أهل الذكر لعرفوا أن الدين الإسلامي أساسه النظر والبرهان العقلي الصحيح وأن علماء الكلام لم يتركوا شيئا من الشبه التي قد ترد على الأدلة العقلية إلا أوردوها من تلقاء أنفسهم وأجابوا عنها بما لا سبيل إلى نقضه على اي حال .. والقاعدة العامة عند المسلمين هي أن كل شيئ يمكن للعقول السليمة إدراكه على وجه صحيح فإنه يجب تطبيق قضايا الدين وأحكامه عليه وأنهم لا يكتفون في عقائدهم إلا بالأدلة العقلية والنظر الصحيح فإذا قرر كتاب الله الكريم عقيدة من العقائد في ظاهرها شيئ من الشبه ببعض خلقه فإنه يجب عدم الأخذ بظاهرها وتنزيه الله تعالى تنزيها تاما عن مماثلته للحوادث وذلك القدر متفق عليه عند علماء المسلمين .. أما ما لا يمكن للعقول البشرية السليمة جميعها أن تدركه فذلك هو الذي يقول الدين الإسلامي عنه أنه اشتغال بما يضيع الوقت ويضلل العقل بدون جدوى وذلك كالبحث عن حقائق الأشياء وماهيتها سواءا كانت مادية ام مجردة لأن الإنسان لا يمكنه إلا أن يعرف أجزاء المركبات بتحليلها إلى أجزائها كتحليل الهواء ومعرفة أجزائه فإذا انتهى إلى جزء لا يمكنه تحليله فإن العقل يقف عنده ولا يعرف حقيقته وذلك القدر تشترك فيه كل عقول البشر السليمة وإذا كان العقل الإنساني يعجز عن إدراك حقيقة المجرد عن المادة فلا يمكنه أن يدرك حقيقة ذات الإله سبحانه وماهيته على ما هي عليه من باب أولى .. أما ما وراء ذلك فإنهم مكلفون بإدراكه فعليهم أن ينظرو ويفكروا في الأدلة التي تثبت وجود خالقهم وعليهم أن يدركوا ان ذلك الخالق واجب الوجود بمعنى أن وجوده من ذاته فلم يحتج إلى غيره وأنه واحد من جميع الوجوه فليست ذاته مركبة من اجزاء لا مادية ولا مجردة وقد تقدم الدليل القاطع على بطلان تركيب ذاته وكما انه يستحيل أن تتركب ذاته من أجزاء فكذلك يستحيل ان يكون معه إله آخر لأن الإله الواجب الوجود يجب أن يكون تام القدرة والسلطان فلو وجد إلهان لكان ذلك نقصا طبيعيا فيهما سواء اتفقا ام اختلفا لأنهما إن اتفقا فإن قدرة أحدهما وسلطانه ينقصان بقدر ما اثرت فيه القدرة الاخرى وذلك نقص في الإله وإن اختلفا فقهر أحدهما صاحبه لم يكونا إلهين بل يكونا كرجلين يتناضلان فغلب أحدهما صاحبه وكذلك إن عجزا عن قهر بعضهما فإن العجز نقص في الإله فيستحيل عقلا أن يوجد إلهان .. وكذلك عليهم أن ينزهوا الله سبحانه عن كل ما لا يليق به فيجب عليهم أن يؤمنوا بأنه تعالى ليس كمثله شيئ فهو مخالف لخلقه فليس بمادة من المواد وليس له جسم ولا يحل في غيره من المواد لأن المواد محدودة .. فإذا حل فيها كحلول الماء في الكوز او حلول الماء في العود الأخضر كان محدودا .. ولا يتحد مع غيره بأن يصير أحد المثلين عين الآخر .. لأن المسلمين يؤمنون قبل كل شيئ بأن الله الواحد من جميع الوجوه هو خالق الموجودات جميعا وكل من عداه فمستمد منه الوجود فكيف يعقل ان يتحد القديم الأزلي بغيره ممن خلق بأن يصير هو هو لا شك في أن ذلك يترتب عليه أن يكون القديم حادثا وذلك بديهي البطلان .. وكذلك عليهم ان يؤمنوا بأنه تعالى متصف بكل صفات الكمال ومنزه عن كل صفات النقص فهو تام القدرة والإراة فلا يعجزه شيئ في الأرض ولا في السماء ولا يكرهه أحد على فعل شيئ من الأشياء لأن ذلك نقص ينافي عظمة الإله تعالى وكذلك تام العلم فلا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ((ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير)) وقد ظن مؤلف ميزان الحق أن قول المسلمين بتعدد صفات الله تعالى مع كونهم يوحدون الله تعالى حجة على قوله أن التثليث لا ينافي الوحدة .. فقد قال في صحيفة رقم 242 ما نصه:
"يؤكد بعض إخواننا المسلمين أن التوحيد مخالف للتثليث لكن الحقيقة هي (حيث أن العقيدتين معلنتين في كلام الله) لا يمكن أن يكون بينهما تناقض لأن التوحيد لا ينفي كل نوع من أنواع التعدد مثال ذلك من المعلوم أن الله متعدد الصفات يقال رحيم حكيم قادر عادل إلخ .. حتى وصفه المسلمون بأنه مجمع الصفات الحسنة جامع صفات الكمال لكن تعدد الصفات لا يبطل وحدة الذات ومثل ذلك تعدد الاقانيم لا يبطل وحدة الجوهر الإلهي "اهـ.
وقد كان يكفي أن نسوق هذه العبارة للدلالة على سقوط هذه النظرية سقوطا بينا بأن البداهة تقضي بالفرق بين تعدد ذوات حقيقية تتحد مع بعضها اتحادا حقيقيا مع بقاء شخصيتها وبين تعدد صفات تتعلق بذات واحدة ولكننا نؤكد للمؤلف كل التأكيد أن تعدد الجواهر المتميزة عن بعضها بخاصة من الخواص يستلزم عدم اتحادها حتما لما قدمنا من الأدلة فلم يبق له مفر عن القول بوجود آلهة ثلاثة إذا كان يريد ان يجري على سنن العقل والمنطق لانه هو الذي يقع .. ثم يجاء بالدليل على بطلانه .. أما اتحاد الذوات فلا يمكن وقوعه في الوجود اصلا فهو باطل من أول الأمر فمن قال أن هذه العقيدة تنافي التوحيد فإنه قال حقا يؤيده البرهان بلا خفاء أما تعدد الصفات فإنه لا ينافي وحدة الذات فإن الإنسان الواحد مثلا يتصف بالكرم والشجاعة والعلم والقدرة ومع ذلك هو هو لم يتغير لأن هذه الصفات أمور معنوية قائمة به وتابعة له وقد يكون متصفا بصفات مشاهدة كالبياض والسواد ونحوهما وهي إن كانت غيره حتما بحيث إذا لاحظها العقل وحدها يمكنه الحكم عليها ولكنها تابعة له في الإشارة الحسية فإذا أشير إلى الإنسان كانت الإشارة إلى صفاته المحسة تبعا على أن بعض المسلمين يقولون أن ذات الإله واحدة من جميع الجهات وأن صفاته هي عين ذاته وإنما وصف الإله سبحانه في كتابه الكريم بالصفات المتعددة من القدرة والإرادة والعلم والحياة والسمع والبصر والكلام ليرشد العقول البشرية إلى الآثار المترتبة على تلك الصفات فخلق السماوات والأرض وما فيها من عجائب هو اثر لذاته وحدها وإن كان المعروف لهم أن المقدور أثر للقدرة وكذلك المعلومات سواء كانت قريبة أو بعيدة صغيرة او كبيرة دقيقة أو جليلة فهي منكشفة لذاته بدون شيئ آخر ولكن لما كان المعلوم أثرا لصفة العلم وصف الله نفسه بالعلم وهكذا وبالجملة فكل ما تحسبه العقول البشرية السليمة كمالا لله تعالى فيجب ان يوصف الله تعالى به باعتبار الآثار المترتبة عليه بقطع النظر عن كون هذه الآثار مترتبة على أمر زائد على الذات أو مترتبة على نفس الذات .. فقول المؤلف أن تعدد الصفات عند المسلمين كتعدد الأقانيم ليس بصحيح على اي حال لأننا إذا جرينا على رأي من يقول أن ذات الله تعالى واحدة من جميع الوجوه وهي وحدها كافية في ترتب آثار الصفات عليها فالأمر ظاهر وإذا جرينا على رأي من يقول إن هناك صفات حقيقية زائدة على ذاته تعالى فإنه لا يلزم من تعدد الصفات تعدد الذات قطعا .. ومن هذا يتضح لك أن المسلمين قد أطلقوا للعقل العنان في التكلم في صفات الله سبحانه وتعالى وأنهم لم يذروا شيئا من الكلام في ذات الله وصفاته إلا وقد عرضوه على محك النظر وبحثوا فيه من جميع جهاته فما أمكن للعقل أن يصل إليه من نتيجة مسلمة فهو ما يجب اعتقاده وما عجزت عنه العقول البشرية ولم تجد للغوص فيه مجالا وقفوا عنده وكلهم مجمعون على تنزيه الإله سبحانه وتعالى عن كل ما لا يليق به فإن تنزيه الإله لا يرتاب فيه العقل ولا يخفى عليه شيئ منه بل هو ضروري عند كل عاقل يعبد إلها كاملا إذ لا يليق بالعاقل أن يتخذ إلها معبودا ناقصا في أي جهة من جهاته لأن المعبود الناقص سواء كان إنسان أو حجرا أو شمسا أو قمرا أو حيوانا أو غير ذلك ليس أحق بالعبادة من الإنسان الذي يعبده في الواقع ونفس الأمر فعار عليه أن يتخذ إلها مثله أو دونه ومن يفعل ذلك فقد برهن على جهة نقص ظاهر فيه وضعف شديد مستول على نفسه .. ولما كان تنزه الإله هوالأصل الذي ترجع إليه مباحث المسلمين في ذات الله وصفاته كانت كل أدلتهم على ما ذهبوا إليه ترمي إلى هذه الغاية فإذا وصل الدليل بواحد إلى ما فيه شائبة عدم تنزيه الإله عما لا يليق بعظمته وجلاله أجمع الكل على نبذ ما دل الدليل عليه من عدم التنزيه .. ومن الغريب أن المؤلف نقل في المقدمة شيئا من بعض التنزيهات التي يذكرها المتكلمون في كتبهم بنصها تقريبا فقد ذكر في صحيفة رقم 13 ما نصه:
"أن عقل الإنسان القاصر المحدود لا يستطيع إدراك الخالق الأزلي الذي لا يتغير أو إدراك ذاته العالية لتي لا تحدها بداءة ولا نهاية..."
إلى ان قال:
"لا جدال في أن الإنسان يستطيع ان يعرف بعض الأمور عن الله من غير طريق الوحي وذلك من معاينة أحوال الخلق ومشاهدة أحوال ذاته فهو يعرف أن الله موجود وأنه متعال عن جميع خليقة يديه مما على الأرض أو في السماء وأن حكمته تعالى غير مدركة على أن المرء لا يستطيع أن يعرف الله بدون وحي كما يعرف الصديق صديقه والولد أمه ..."
أجل قد يعلم أن الله حكيم وأن رحمته فوق كل أعماله إلى آخر ما ذكره في صحيفة رقم 14 .. وهذا الكلام الذي نقله صحيح في ذاته لأن عقل الإنسان لا يستطيع ان يدرك حقيقة ذات الله التي لا يمكن للعقول البشرية أن تدركها ولكنه يستطيع ان يدرك أن الله موجود أزلي منزه عن التركيب من أجزاء مادية او مجردة ومنزه عن الإتحاد بغيره بحيث يصير أحدهما عين الآخر ومنزه عن الحلول في غيره كل ذلك داخل في دائرة المعقول الذي لا يعجز المعقول عن إدراكه فواجب عليه أن يؤمن به حقا وأن يصدقه تصديقا جازما لا شك فيه ولا ريب وإلا كان عابد الإله ناقص فهو مستو مع من يعبد الوثن ومن يعبد البشر والبقر .. فلو كان المؤلف ممن يتبع سنن المنطق في قوله لكانت مقدمته هذه احسن زاجر له عن القول بالأقانيم واتحادهم فإن العقول البشرية السليمة تذعن بأن ذلك نقص في ذات الإله لأنه يستلزم التركيب في ذاته تعالى كما يستلزم تعدد الآلهة قطعا مهما تستر بستار وحدة اللاهوت بعد اتحادهم فإن ذلك الستار شفاف لا يحجب العقل عن الإيمان بأن الشخصيات المتعددة المتميزة عن بعضها بخاصة الوجود لا يمكن أن تكون واحدة مهما اختلط بعضها ببعض.
يتبع