pharmacist
2012-07-04, 10:56 AM
الاستشفاء بالقرآن في الطب النفسي المعاصر
أ.د وائل أبو هندي
نحاول في هذا المقال الإجابة على سؤال جريء وخطير لكنه سؤال لازم، هذا السؤال كيف يمكننا الاستفادة من القرآن الكريم في الاستشفاء ضمن ممارسات الطب النفسي مع المسلمين من المرضى؟ هل يكون ذلك بأن نأمر المريض بقراءة القرآن تلاوة فردية أو تلاوة جماعية أو مدارسة مع آخرين وتحريك وعي أو تلاوة داخل الصلاة (مع تحريك الجسم) من أجل زيادة إيمانه فيفيد ذلك في شفائه؟ أو يكون بأن نأمر المريض بالاستماع إلى القرآن بشكل أو بآخر لكي يؤثر القرآن في مرضه فيشفى؟ أو يكون بأن يقرأ المعالج القرآن على المريض ليخرج المرض النفسي من نفسه أو من جسده؟ أم يكون ذلك بالتلاوة على طعام أو شراب ثم نأمر المريض بتناوله؟ أم يكون بأن يتدبر المعالج والمريض ما يتعلق بالحالة وما يلزمها من آيات ومعاني قرآنية يمكنها أن تغير من إدراك المريض وفهمه وبالتالي سلوكه؟ أو بمزيج من بعض ذلك وبعضه؟
وفي محاولة للإجابة نروم في هذا المقال أن نضع النقاط على الحروف فيما يتعلق بالفهم الأمثل في رأينا للكيفية التي يمكننا من خلالها أن نستفيد من الهدي القرآني في علاج الأمراض النفسية من الناحية المعرفية السلوكية طالما كان لدى المريض استعداد للاستفادة والتداوي بهدي القرآن ضمن علاجه.
لقد كان القرآن منذ لحظة نزوله، وحيا موحيا، ومنطلقا لعلوم وفنون وأسس حضارة سادت ما تمسكت به جوهرا وهديا، وسيظل القرآن هو نقطة البدء الصحيحة دائما لمن أراد استعادة السبق والمبادرة لمصلحة هذه الأمة، ومن طبيعة القرآن أن يعطي بمقدار ما نبذل من جهد في الأخذ عنه والبحث فيه، وبمقدار التحضير الجيد للأسئلة التي نطرحها عليه، وهو لا يَخْلَق (لا يبلى) من كثرة الرد، ونحن نرى أنه قد حان الوقت لينفر من بين أبناء أمة الإسلام من يبحث ويدرس ويفحص ويمحص ويميز الغث من السمين في هذا الصدد الذي كثر فيه اللغط، فهذا أولى من الاكتفاء بالفرجة أو مجرد النقد، وبخاصة أننا نعيش في عالم لا يترك سبيلا فيه نفع أو حتى شبهة نفع أو علاج لوجع نفسي أو عضوي إلا وطرقه، وما أكثر أوجاع إنسان هذا الزمان.
ونحن لا نزعم أن القرآن هو الشفاء الوحيد الذي أنزله الله لعباده ليتداووا به، كما قد يظن بعض المتحمسين، كما أننا لا نرى أن كل ما يقال حول العلاج بالقرآن هو صحيح ونافع، أو محض دجل وشعوذة، واسترزاق وغير ذلك مما يقول به معارضو الأمر برمته، ولكن لابدَّ من توضيح الفرقِ بين العلاج بالقرآنِ الكريم على أساسٍ فكريٍّ معرفيٍّ واضح ومن قِبَلِ من يعرف ما هو المرضُ وما أشكاله وأسبابه، وبين من ينسب المرضَ النفسي عامة إلى فعل الجنِّ ويتعامل مع آيات القرآنِ وكأنها تعاويذُ يؤثِّرُ بها في الجن وما إلى ذلك، ويفعل أشياءً ما أنزل الله بها من سلطان ربما يصدقها هو نفسه إن كان سليم النية ويصدقها الآخرون على أنها دلائل على وجود الجني في بدن المريض.
يعتقد كل مسلم ويؤمن إيمانا بأن في القرآن شفاءً، وجذور هذا الاعتقاد لدى المسلم لها دليلان، أحدهما نقلي من القرآن ذاته، والآخر من التجربة العملية، والخبرات التاريخية والمتوارثة، إلا أن المقصود بالشفاء ربما يختلف فيه المسلمون، فهناك من يرى الشفاء القرآني شفاءً لأمراض النفوس (أو أمراض القلوب أو العقول) -وهذا الفهم متفق عليه- لكنه ليس شفاء بالمعنى الدنيوي لأمراض الجسد، وهناك من يراه مفيدا أيضًا في المرض الجسدي لكنه يقصر نفعه على التبرك به كدعاء يدعى به بشرط ألا يمنع المسلم من طلب العلاج والدواء الدنيوي ما استطاع إليه سبيلا، لكن هناك أيضًا من يرى في القرآن شفاءً لأمراض الجسد بمعنى الدواء الذي يغني عن الدواء الدنيوي، وهذا المعنى مختلف عليه، فكثيرون يرونه مخالفا للعقل بل ومخالفا لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الواضح الصريح حيال المرض الجسدي فمن الثابت أنه كان عليه الصلاة والسلام يأمر أصحابه بزيارة طبيب يهودي هو الحارث بن كلدة كان يسمى بطبيب العرب.
واقع الحال هو أن كل المسلمين اليوم يطلب الدواء الدنيوي ما استطاع إليه سبيلا ويجعل الاكتفاء بالقرآن خيارا أخيرا بعد فشل الطب الدنيوي في العلاج، وحقيقة فإننا -على الأقل في المسلمين المعاصرين- لم نر أحدا -إلا ما ندر والله أعلم- يستغني بالقرآن عن العلاج الدنيوي إلا فيما يتعلق بالأمراض النفسية وعلاجها، بل إن من المضحك أن لدينا مقولة شائعة على المنابر هي (أن الأمة المسلمة ليست بحاجة إلى أطباء نفسانيين لأن القرآن يكفيها!؟) صحيحٌ أنَّ قلوبَ المؤمنين تطمئنُّ بذِكْرِ الله عز وجل لكن حقيقة الأمر هي أن هذه المقولة إنما تعكس جهلا عميقا بالأمراض النفسية التي يُستدعى الأطباء النفسانيون لعلاجها، كما أن المفهوم القابع خلف هذه المقولة وهو أن الأمراض النفسية تنتج عن ضعف الإيمان أو قلة التدين هو مفهوم عارٍ تماما من الصحة بل إن من أئمة هذه الأمة المعتبرين من أصيب بأمراض نفسية وعَبَّر عنها ووصفها كأدق ما يكون الوصف، وليس اكتئاب أبي حامد الغزالي الذي وصفه في كتابه المنقذ من الضلال إلا مثالا على ذلك.
وأثر الاستشفاء بالقرآن كما نراه ونفهمه شفاء النفوس (أو شفاء القلوب أو العقول) من خلال أثره في التفكير وفي المشاعر ثم في السلوك، وهو بهذا المعنى يعمل بالطريقة نفسها التي في الطب النفسي ينتهجها العلاج المعرفي السلوكي أي بتغيير الأفكار فالسلوك فالشعور أو الأفكار فالشعور فالسلوك، أي أن الأثر الشفائي للقرآن هو أثر ينتج بعد أن يفهم السامع أو القارئ للقرآن ما يسمع أو يقرأ ثم ينتج عن ذلك إما تغير في المشاعر ثم السلوك بهذا الترتيب أو عكسه أو في كليهما معًا وهكذا يحدث الشفاء ونستطيع بالتالي القول بأن الاستشفاء بالقرآن هو المثل الأعلى للعلاج المعرفي السلوكي الذي يعتبر أكثر مدارس العلاج النفسي نجاحا واجتياحا في العقود الأخيرة بحيث أصبحت -دون كل مدارس العلاج النفسي الأخرى- وحدها تناطح العلاج بالعقاقير لا بل وتفضله في أثرها المستمر بعد التوقف عن العلاج وهو ما لا يستطيع العلاج بالعقاقير الوعد به في أغلب الأحيان.
هذا المعنى المعرفي للاستشفاء بالقرآن يشترط شرطين هما التصديق والفهم في المتلقي لكي يحصل على الشفاء، وهو بالتالي يقْصُرُ الأثر العلاجي للقرآن على أمراض القلوب والنفوس عند من يفهمه ويؤمن به، لكن كثيرين من المسلمين كما قلت يفهمون الشفاء القرآني بشكل مختلف فعندهم أن العلاج القرآني ينفع أيضًا في أمراض الجسد حيث تستخدم الآيات الكريمة للرقية أو للتعوذ وكأن هنا لا يشترط الفهم في المتلقي بل وأحيانا لا يشترط التصديق حين يتكلم بعضهم عن أثر علاجي للقرآن في غير المسلمين، رغم عدم وجود ما يدعم ذلك حتى في القرآن نفسه.
ولكي نفصل في أمر هذا الاختلاف في فهم الاستشفاء بالقرآن دعونا نسترجع الأدلة التي يستند إليها الإنسان المسلم في اعتقاده ذلك، فأما الدليل النقلي من القرآن فيقول الله تبارك وتعالى في سورة الإسراء: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً) (الآية 82) صدق الله العظيم، كما قال تعالى في سورة فصلت: (..... قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ) (الآية 44) صدق الله العظيم، وقد اختلف العلماء في كونه شفاء على قولين: أحدهما: أنه شفاء للقلوب -أي للعقول- بزوال الجهل عنها وإزالة الريب، ولكشف غطاء القلب من مرض الجهل لفهم المعجزات والأمور الدالة على الله -تعالى- والقول الثاني: شفاء من الأمراض الظاهرة بالرقى والتعوذ ونحوه،... وفي هذا القول الثاني خلط يبدو فيه عدم التمييز بين الاستخدام الحرفي العيني والاستخدام المجازي للمصطلحات في القرآن الكريم.
وحقيقة فإن أمر الخلاف عجيب لأن النص القرآني ذاته يدعم القول الأول فحين تحدث القرآن عن الشفاء بالمعنى المادي أو العيني جعل الشفاء بعسل النحل لكل الناس الذين يتناولونه سواء أكانوا مؤمنين أو غير مؤمنين فيقول الله تبارك وتعالى ".... يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ....." أي لكل الناس والفوائد الجسدية والقوة الشفائية المادية لعسل النحل معروفة، لكن القرآن حين يتحدث عن الشفاء القرآني فإنه يجعله شفاء وهدى ورحمة للمؤمنين دون غيرهم فيقول سبحانه وتعالى "..... قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ" (يونس:57) صدق الله العظيم.
وأما إذا أردنا تأمل الدليل المستمد من التجارب الإنسانية والخبرات التاريخية والمتوارثة والذي هو ثاني ما يستند إليه المسلم في اعتقاده بأن في القرآن شفاءً للقلوب والعقول فإننا نجد الخبرات الشخصية والنصوص التاريخية المتوارثة أكثر جدا مما نجد التجربة أو الدراسة العملية، فلا أحد تقريبا كتب لنا عن تجربة علمية قصد بها التجريب لهذا الأمر غالبا لأنهم لم يفكروا في إثبات ما يؤمنون به، ولذلك فإننا لا نجد ما نستطيع اعتباره تجربة أو دراسة علمية تثبت مثلا فائدة قراءة القرآن أو آية معينة أو مجموعة آيات مباركة في إحداث الأثر الفلاني في الشخص المسلم، وهذا هو المنهج أو التفكير العلمي المطلوب للدراسة العلمية الحديثة ولا يسمحُ إلا بمثل هذا النوع من الدراسات، وتأخذُ الدراسةُ وضعها وأهميتها كلما كانت نتائجها قابلةً للتكرار.
ما نزال إذن في أحسن الأحوال في أول الطريق لإثبات دور القرآن في العلاج النفسي المعرفي السلوكي بطريقة علمية حديثة ولعل أول ما نشر علميا عن العلاج السلوكي المعرفي بمحتوى ديني كانت الدراسة التي أجرتها بروست في الولايات المتحد الأمريكية، ونشرت في عام 1992، وكانت دراسة قارنت فيها بين عينتين من المرضى المكتئبين المتدينين المسيحيين إحداهما خضعت لعلاج سلوكي معرفي تقليدي، والأخرى لعلاج سلوكي معرفي بمحتوى ديني، وكانت النتيجة إيجابية بالنسبة للمجموعة الثانية، وبعدها أجريت دراسة أخرى مماثلة على عينة من المرضى المسلمين في ماليزيا، أجراها أزهر ونشرها في عام 1994، وتلا ذلك دراسات أخرى في هذا الاتجاه، ويعتبر ما بات يعرف بالعلاج المعرفي السلوكي الديني Religious Cognitive Behavioral Therapy أحد الاتجاهات الحديثة نسبيا في العلاج النفسي ، وتقوم فلسفته على استخدام الأفكار والنصوص الدينية المعتبرة عند المريض بحسب اعتقاده في تصحيح الأفكار المرضية المغلوطة المساهمة في حصول المرض، والجدير بالذكر أن الأبحاث في هذا الميدان ما زالت أنشط أخذا عن التوراة والإنجيل وغيرهما ، بينما ما تزال في البدايات بالنسبة للقرآن.
وفكرة العلاج النفسي المعرفي الجوهرية تقوم على أساس أن معاناة المريض سببها مجموعة من الأفكار الخاطئة غير المنطقية، ويعتبرها المريض من المسلمات دون مناقشة، بل ودون وعي بها غالبا، ويكون دور المعالج هو الكشف عن هذه الأفكار وتبصير المريض بها وتصحيحها من خلال جلسات العلاج المعرفي، ونحن كأطباء نفسانيين كلما حاولنا تطبيق المعطيات الغربية في هذا النوع من العلاج فإننا نشعر بعدم جدواه وبأنه غير مناسب لمجتمعنا وربما يعود السبب إلى أن محتوى العلاج المعرفي الغربي يقوم على نظرة مختلفة عن نظرتنا كمجتمع للكون والحياة، فليست هناك غيبيات ولا قيم نبيلة في العلاج المعرفي الغربي وهذا ما لا يتوافق معنا كأمَّةٍ ولا مجتمع ولا في حتى "أغلب الأحوال" كأفراد ؛
كذلك فإن وجود الله في الضمير والوعي يشيع نوعا من الاطمئنان الوجودي والنفسي بما يمنح مقاومة أكبر ضد عوارض المحن..... واستدعاء معنى وجود الله سبحانه إلى الوعي بالذكر هو تجديد لاستعادة المعنى والجدوى والسند والدعم والمدد اللانهائي، ومن الآيات التي تشير لذلك المعنى وتصلح مدخلا للعلاج: قوله تعالى: (الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (الحج:35)، وقوله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد:28) صدق الله العظيم.
وربما تكون الغاية الأسمى وهي تحويل المعرفة بالقرآن وهديه ومعانيه وأهدافه إلى خلق ثابت ومستقر بما يعني ضبط وترشيد وتصحيح السلوكيات الخاطئة ليكون عمل الإنسان متسقا مع خط القرآن وخطته... ربما تكون هذه الغاية من استخدام الهدي القرآني غاية الواعظ والمعني بالأخلاق، والقدوة في هذا هو النبي الخاتم -صلى الله عليه وسلم- الذي كان خلقه.... القرآن، لكن ما يهدف إليه المعالج النفساني هو أمر آخر أمرٌ يتعلق بالجزئيات أكثر مما يتعلق بالكليات يتعلق بعمليات القياس والتفكير وبما يخص شئون الحياة الدنيا أكثر مما يتعلق بالآخرة، ومن أجل ذلك ما يزال البحث مطلوبا لاستخراج المفاهيم الصحيحة، وتحديد النصوص التي تؤكدها، وبرمجتها في خطط وتقنيات علاجية معرفية، ومطلوبٌ كذلك استخدام الصور والتراكيب النفسية القرآنية الإيجابية منها وكذلك السلبية؛
ونحن نزعم أن دراسة الآيات التي تتناول هذه التراكيب يمكن أن يمثل إضافة جديدة لمحاولات تصور وتشخيص خلل اضطراب النفس والشخصية، كما يمكن أن يمثل أداة رائعة تساعد في تبسيط مفاهيم الصحة والمرض النفسي للعامة، والوعي جزء من الوقاية والعلاج، ونرجو ألا يكون الوقت قد فات قبل أن ننتبه كأطباء نفسانيين ومختصين بعلم النفس ونبدأ في العناية والبحث في حقل ما يدلنا عليه القرآن، بل ويدل العالم كله في مجالات الفهم والتطوير والاستثمار لما في الإنسان والكون والحياة من إمكانات، فلا نستمر غافلين عن القدرة الهائلة على التعديل المعرفي والسلوكي في القرآن الكريم.
أ.د وائل أبو هندي
نحاول في هذا المقال الإجابة على سؤال جريء وخطير لكنه سؤال لازم، هذا السؤال كيف يمكننا الاستفادة من القرآن الكريم في الاستشفاء ضمن ممارسات الطب النفسي مع المسلمين من المرضى؟ هل يكون ذلك بأن نأمر المريض بقراءة القرآن تلاوة فردية أو تلاوة جماعية أو مدارسة مع آخرين وتحريك وعي أو تلاوة داخل الصلاة (مع تحريك الجسم) من أجل زيادة إيمانه فيفيد ذلك في شفائه؟ أو يكون بأن نأمر المريض بالاستماع إلى القرآن بشكل أو بآخر لكي يؤثر القرآن في مرضه فيشفى؟ أو يكون بأن يقرأ المعالج القرآن على المريض ليخرج المرض النفسي من نفسه أو من جسده؟ أم يكون ذلك بالتلاوة على طعام أو شراب ثم نأمر المريض بتناوله؟ أم يكون بأن يتدبر المعالج والمريض ما يتعلق بالحالة وما يلزمها من آيات ومعاني قرآنية يمكنها أن تغير من إدراك المريض وفهمه وبالتالي سلوكه؟ أو بمزيج من بعض ذلك وبعضه؟
وفي محاولة للإجابة نروم في هذا المقال أن نضع النقاط على الحروف فيما يتعلق بالفهم الأمثل في رأينا للكيفية التي يمكننا من خلالها أن نستفيد من الهدي القرآني في علاج الأمراض النفسية من الناحية المعرفية السلوكية طالما كان لدى المريض استعداد للاستفادة والتداوي بهدي القرآن ضمن علاجه.
لقد كان القرآن منذ لحظة نزوله، وحيا موحيا، ومنطلقا لعلوم وفنون وأسس حضارة سادت ما تمسكت به جوهرا وهديا، وسيظل القرآن هو نقطة البدء الصحيحة دائما لمن أراد استعادة السبق والمبادرة لمصلحة هذه الأمة، ومن طبيعة القرآن أن يعطي بمقدار ما نبذل من جهد في الأخذ عنه والبحث فيه، وبمقدار التحضير الجيد للأسئلة التي نطرحها عليه، وهو لا يَخْلَق (لا يبلى) من كثرة الرد، ونحن نرى أنه قد حان الوقت لينفر من بين أبناء أمة الإسلام من يبحث ويدرس ويفحص ويمحص ويميز الغث من السمين في هذا الصدد الذي كثر فيه اللغط، فهذا أولى من الاكتفاء بالفرجة أو مجرد النقد، وبخاصة أننا نعيش في عالم لا يترك سبيلا فيه نفع أو حتى شبهة نفع أو علاج لوجع نفسي أو عضوي إلا وطرقه، وما أكثر أوجاع إنسان هذا الزمان.
ونحن لا نزعم أن القرآن هو الشفاء الوحيد الذي أنزله الله لعباده ليتداووا به، كما قد يظن بعض المتحمسين، كما أننا لا نرى أن كل ما يقال حول العلاج بالقرآن هو صحيح ونافع، أو محض دجل وشعوذة، واسترزاق وغير ذلك مما يقول به معارضو الأمر برمته، ولكن لابدَّ من توضيح الفرقِ بين العلاج بالقرآنِ الكريم على أساسٍ فكريٍّ معرفيٍّ واضح ومن قِبَلِ من يعرف ما هو المرضُ وما أشكاله وأسبابه، وبين من ينسب المرضَ النفسي عامة إلى فعل الجنِّ ويتعامل مع آيات القرآنِ وكأنها تعاويذُ يؤثِّرُ بها في الجن وما إلى ذلك، ويفعل أشياءً ما أنزل الله بها من سلطان ربما يصدقها هو نفسه إن كان سليم النية ويصدقها الآخرون على أنها دلائل على وجود الجني في بدن المريض.
يعتقد كل مسلم ويؤمن إيمانا بأن في القرآن شفاءً، وجذور هذا الاعتقاد لدى المسلم لها دليلان، أحدهما نقلي من القرآن ذاته، والآخر من التجربة العملية، والخبرات التاريخية والمتوارثة، إلا أن المقصود بالشفاء ربما يختلف فيه المسلمون، فهناك من يرى الشفاء القرآني شفاءً لأمراض النفوس (أو أمراض القلوب أو العقول) -وهذا الفهم متفق عليه- لكنه ليس شفاء بالمعنى الدنيوي لأمراض الجسد، وهناك من يراه مفيدا أيضًا في المرض الجسدي لكنه يقصر نفعه على التبرك به كدعاء يدعى به بشرط ألا يمنع المسلم من طلب العلاج والدواء الدنيوي ما استطاع إليه سبيلا، لكن هناك أيضًا من يرى في القرآن شفاءً لأمراض الجسد بمعنى الدواء الذي يغني عن الدواء الدنيوي، وهذا المعنى مختلف عليه، فكثيرون يرونه مخالفا للعقل بل ومخالفا لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الواضح الصريح حيال المرض الجسدي فمن الثابت أنه كان عليه الصلاة والسلام يأمر أصحابه بزيارة طبيب يهودي هو الحارث بن كلدة كان يسمى بطبيب العرب.
واقع الحال هو أن كل المسلمين اليوم يطلب الدواء الدنيوي ما استطاع إليه سبيلا ويجعل الاكتفاء بالقرآن خيارا أخيرا بعد فشل الطب الدنيوي في العلاج، وحقيقة فإننا -على الأقل في المسلمين المعاصرين- لم نر أحدا -إلا ما ندر والله أعلم- يستغني بالقرآن عن العلاج الدنيوي إلا فيما يتعلق بالأمراض النفسية وعلاجها، بل إن من المضحك أن لدينا مقولة شائعة على المنابر هي (أن الأمة المسلمة ليست بحاجة إلى أطباء نفسانيين لأن القرآن يكفيها!؟) صحيحٌ أنَّ قلوبَ المؤمنين تطمئنُّ بذِكْرِ الله عز وجل لكن حقيقة الأمر هي أن هذه المقولة إنما تعكس جهلا عميقا بالأمراض النفسية التي يُستدعى الأطباء النفسانيون لعلاجها، كما أن المفهوم القابع خلف هذه المقولة وهو أن الأمراض النفسية تنتج عن ضعف الإيمان أو قلة التدين هو مفهوم عارٍ تماما من الصحة بل إن من أئمة هذه الأمة المعتبرين من أصيب بأمراض نفسية وعَبَّر عنها ووصفها كأدق ما يكون الوصف، وليس اكتئاب أبي حامد الغزالي الذي وصفه في كتابه المنقذ من الضلال إلا مثالا على ذلك.
وأثر الاستشفاء بالقرآن كما نراه ونفهمه شفاء النفوس (أو شفاء القلوب أو العقول) من خلال أثره في التفكير وفي المشاعر ثم في السلوك، وهو بهذا المعنى يعمل بالطريقة نفسها التي في الطب النفسي ينتهجها العلاج المعرفي السلوكي أي بتغيير الأفكار فالسلوك فالشعور أو الأفكار فالشعور فالسلوك، أي أن الأثر الشفائي للقرآن هو أثر ينتج بعد أن يفهم السامع أو القارئ للقرآن ما يسمع أو يقرأ ثم ينتج عن ذلك إما تغير في المشاعر ثم السلوك بهذا الترتيب أو عكسه أو في كليهما معًا وهكذا يحدث الشفاء ونستطيع بالتالي القول بأن الاستشفاء بالقرآن هو المثل الأعلى للعلاج المعرفي السلوكي الذي يعتبر أكثر مدارس العلاج النفسي نجاحا واجتياحا في العقود الأخيرة بحيث أصبحت -دون كل مدارس العلاج النفسي الأخرى- وحدها تناطح العلاج بالعقاقير لا بل وتفضله في أثرها المستمر بعد التوقف عن العلاج وهو ما لا يستطيع العلاج بالعقاقير الوعد به في أغلب الأحيان.
هذا المعنى المعرفي للاستشفاء بالقرآن يشترط شرطين هما التصديق والفهم في المتلقي لكي يحصل على الشفاء، وهو بالتالي يقْصُرُ الأثر العلاجي للقرآن على أمراض القلوب والنفوس عند من يفهمه ويؤمن به، لكن كثيرين من المسلمين كما قلت يفهمون الشفاء القرآني بشكل مختلف فعندهم أن العلاج القرآني ينفع أيضًا في أمراض الجسد حيث تستخدم الآيات الكريمة للرقية أو للتعوذ وكأن هنا لا يشترط الفهم في المتلقي بل وأحيانا لا يشترط التصديق حين يتكلم بعضهم عن أثر علاجي للقرآن في غير المسلمين، رغم عدم وجود ما يدعم ذلك حتى في القرآن نفسه.
ولكي نفصل في أمر هذا الاختلاف في فهم الاستشفاء بالقرآن دعونا نسترجع الأدلة التي يستند إليها الإنسان المسلم في اعتقاده ذلك، فأما الدليل النقلي من القرآن فيقول الله تبارك وتعالى في سورة الإسراء: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً) (الآية 82) صدق الله العظيم، كما قال تعالى في سورة فصلت: (..... قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ) (الآية 44) صدق الله العظيم، وقد اختلف العلماء في كونه شفاء على قولين: أحدهما: أنه شفاء للقلوب -أي للعقول- بزوال الجهل عنها وإزالة الريب، ولكشف غطاء القلب من مرض الجهل لفهم المعجزات والأمور الدالة على الله -تعالى- والقول الثاني: شفاء من الأمراض الظاهرة بالرقى والتعوذ ونحوه،... وفي هذا القول الثاني خلط يبدو فيه عدم التمييز بين الاستخدام الحرفي العيني والاستخدام المجازي للمصطلحات في القرآن الكريم.
وحقيقة فإن أمر الخلاف عجيب لأن النص القرآني ذاته يدعم القول الأول فحين تحدث القرآن عن الشفاء بالمعنى المادي أو العيني جعل الشفاء بعسل النحل لكل الناس الذين يتناولونه سواء أكانوا مؤمنين أو غير مؤمنين فيقول الله تبارك وتعالى ".... يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ....." أي لكل الناس والفوائد الجسدية والقوة الشفائية المادية لعسل النحل معروفة، لكن القرآن حين يتحدث عن الشفاء القرآني فإنه يجعله شفاء وهدى ورحمة للمؤمنين دون غيرهم فيقول سبحانه وتعالى "..... قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ" (يونس:57) صدق الله العظيم.
وأما إذا أردنا تأمل الدليل المستمد من التجارب الإنسانية والخبرات التاريخية والمتوارثة والذي هو ثاني ما يستند إليه المسلم في اعتقاده بأن في القرآن شفاءً للقلوب والعقول فإننا نجد الخبرات الشخصية والنصوص التاريخية المتوارثة أكثر جدا مما نجد التجربة أو الدراسة العملية، فلا أحد تقريبا كتب لنا عن تجربة علمية قصد بها التجريب لهذا الأمر غالبا لأنهم لم يفكروا في إثبات ما يؤمنون به، ولذلك فإننا لا نجد ما نستطيع اعتباره تجربة أو دراسة علمية تثبت مثلا فائدة قراءة القرآن أو آية معينة أو مجموعة آيات مباركة في إحداث الأثر الفلاني في الشخص المسلم، وهذا هو المنهج أو التفكير العلمي المطلوب للدراسة العلمية الحديثة ولا يسمحُ إلا بمثل هذا النوع من الدراسات، وتأخذُ الدراسةُ وضعها وأهميتها كلما كانت نتائجها قابلةً للتكرار.
ما نزال إذن في أحسن الأحوال في أول الطريق لإثبات دور القرآن في العلاج النفسي المعرفي السلوكي بطريقة علمية حديثة ولعل أول ما نشر علميا عن العلاج السلوكي المعرفي بمحتوى ديني كانت الدراسة التي أجرتها بروست في الولايات المتحد الأمريكية، ونشرت في عام 1992، وكانت دراسة قارنت فيها بين عينتين من المرضى المكتئبين المتدينين المسيحيين إحداهما خضعت لعلاج سلوكي معرفي تقليدي، والأخرى لعلاج سلوكي معرفي بمحتوى ديني، وكانت النتيجة إيجابية بالنسبة للمجموعة الثانية، وبعدها أجريت دراسة أخرى مماثلة على عينة من المرضى المسلمين في ماليزيا، أجراها أزهر ونشرها في عام 1994، وتلا ذلك دراسات أخرى في هذا الاتجاه، ويعتبر ما بات يعرف بالعلاج المعرفي السلوكي الديني Religious Cognitive Behavioral Therapy أحد الاتجاهات الحديثة نسبيا في العلاج النفسي ، وتقوم فلسفته على استخدام الأفكار والنصوص الدينية المعتبرة عند المريض بحسب اعتقاده في تصحيح الأفكار المرضية المغلوطة المساهمة في حصول المرض، والجدير بالذكر أن الأبحاث في هذا الميدان ما زالت أنشط أخذا عن التوراة والإنجيل وغيرهما ، بينما ما تزال في البدايات بالنسبة للقرآن.
وفكرة العلاج النفسي المعرفي الجوهرية تقوم على أساس أن معاناة المريض سببها مجموعة من الأفكار الخاطئة غير المنطقية، ويعتبرها المريض من المسلمات دون مناقشة، بل ودون وعي بها غالبا، ويكون دور المعالج هو الكشف عن هذه الأفكار وتبصير المريض بها وتصحيحها من خلال جلسات العلاج المعرفي، ونحن كأطباء نفسانيين كلما حاولنا تطبيق المعطيات الغربية في هذا النوع من العلاج فإننا نشعر بعدم جدواه وبأنه غير مناسب لمجتمعنا وربما يعود السبب إلى أن محتوى العلاج المعرفي الغربي يقوم على نظرة مختلفة عن نظرتنا كمجتمع للكون والحياة، فليست هناك غيبيات ولا قيم نبيلة في العلاج المعرفي الغربي وهذا ما لا يتوافق معنا كأمَّةٍ ولا مجتمع ولا في حتى "أغلب الأحوال" كأفراد ؛
كذلك فإن وجود الله في الضمير والوعي يشيع نوعا من الاطمئنان الوجودي والنفسي بما يمنح مقاومة أكبر ضد عوارض المحن..... واستدعاء معنى وجود الله سبحانه إلى الوعي بالذكر هو تجديد لاستعادة المعنى والجدوى والسند والدعم والمدد اللانهائي، ومن الآيات التي تشير لذلك المعنى وتصلح مدخلا للعلاج: قوله تعالى: (الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (الحج:35)، وقوله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد:28) صدق الله العظيم.
وربما تكون الغاية الأسمى وهي تحويل المعرفة بالقرآن وهديه ومعانيه وأهدافه إلى خلق ثابت ومستقر بما يعني ضبط وترشيد وتصحيح السلوكيات الخاطئة ليكون عمل الإنسان متسقا مع خط القرآن وخطته... ربما تكون هذه الغاية من استخدام الهدي القرآني غاية الواعظ والمعني بالأخلاق، والقدوة في هذا هو النبي الخاتم -صلى الله عليه وسلم- الذي كان خلقه.... القرآن، لكن ما يهدف إليه المعالج النفساني هو أمر آخر أمرٌ يتعلق بالجزئيات أكثر مما يتعلق بالكليات يتعلق بعمليات القياس والتفكير وبما يخص شئون الحياة الدنيا أكثر مما يتعلق بالآخرة، ومن أجل ذلك ما يزال البحث مطلوبا لاستخراج المفاهيم الصحيحة، وتحديد النصوص التي تؤكدها، وبرمجتها في خطط وتقنيات علاجية معرفية، ومطلوبٌ كذلك استخدام الصور والتراكيب النفسية القرآنية الإيجابية منها وكذلك السلبية؛
ونحن نزعم أن دراسة الآيات التي تتناول هذه التراكيب يمكن أن يمثل إضافة جديدة لمحاولات تصور وتشخيص خلل اضطراب النفس والشخصية، كما يمكن أن يمثل أداة رائعة تساعد في تبسيط مفاهيم الصحة والمرض النفسي للعامة، والوعي جزء من الوقاية والعلاج، ونرجو ألا يكون الوقت قد فات قبل أن ننتبه كأطباء نفسانيين ومختصين بعلم النفس ونبدأ في العناية والبحث في حقل ما يدلنا عليه القرآن، بل ويدل العالم كله في مجالات الفهم والتطوير والاستثمار لما في الإنسان والكون والحياة من إمكانات، فلا نستمر غافلين عن القدرة الهائلة على التعديل المعرفي والسلوكي في القرآن الكريم.