سيل الحق المتدفق
2013-02-22, 04:48 PM
الإنسان هو الإنسان: يحتاج إلى التجاوب الشعوري، يحتاج إلى هذا الفرح المقدّس. تلقاه طفلاً لا تعرفه قد خرج من مدرسته بشهادته فيدفعها في وجهك دفعًا لتقرأها، ثم يصيح بك يوم القيامة وأنت في حالٍ غير حاله: "هاؤم اقرؤا كتابيه"..
1- ليس يتجلّد العبد على ربّه.. هذا الشاعر المتمرّد أمل دنقل (ت 1983) وكان ملأ شوارع القاهرة كفرًا وسكرًا وعربدة، حتى قال يثني على الشيطان أبياته الرجيمة:
المجـد للشيطان معبود الـرياح
من قال لا في وجه من قالوا نعم..
هذا المسكين الذي طغى لما: "أن رآه استغنى" تقول عنه زوجته عبلة الرويني في كتابها "الجنوبي" يوم أصيب بالسرطان: "كانت الجراحة الأولى تعني لدينا الرعب الشديد، فهذه هي المرة الأولى التي نقف فيها في مواجهة السرطان.
وأنا أسير بجوار (التروللي) الذي يحمل أمل إلى غرفة العمليات سمعته يتمتم بالشهادة: "أشهد ألا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله"..
ضحكتُ: أمل لقد ضبطتك متلبسًا بالإيمان!
ابتسم في هدوء مردّدًا في همس خافت: "أخشى ألا يؤثر فيّ البنج..".
نسي في كربته معبود الرياح الذي قال: لا، وتمتم ذليلاً لربّه: أن نعم، فالمجد لله..
2- أنا امرؤٌ – إن لم تكن تعلم- كباقي خلق الله، كلما تقدمت بي السن ضعفتْ فيّ الشهوات كلها إلا شهوة الكلام.. وقد رأيتُني في الأربعين من عمري غيري في العشرين والثلاثين، فقد كنت صموتًا تمر بي الساعات لا تفرط مني الكلمة، فأورثني ذلك عُقدًا أضخم من تلك التي في حبل السفينة..
واليوم آثرتُ أن أتكلم –تخفّفاً- ثأرًا من تلك الأيام، بل إني سأتحدث عن نفسي كثيرًا، لأني لا آمن جانب أحد إن تحدثت عنه إلا نفسي هذه التي بين جنبيّ.
عهدتُني شديدَ الخجل جدًا (بين يديَّ كتاب "الخجل" لراي كروزير أكبر متخصص في هذا الموضوع في عصرنا الحاضر، فماذا عساه يجدي هذا الكتاب ومؤلّفه في هذه الطبقات النفسية المتكلسة).
يحملني الخجل كثيرًا على مداراة الناس، والتكلف لما لا أطيق.. ليس أثقل على نفسي من الأطفال، ودع عنك "إميل" جان جاك روسّو، وحديث الكبار الساذج عن براءة الأطفال، كأننا ما كنا أطفالاً، ولا رأينا منهم من هو أشد تلوّثًا من كثير من الراشدين، لذا فإني قلّ أن استملحت طفلاً، فأنا أعاملهم -بمشاعري- معاملة الكبار، فلا أكاد أحب طفلاً لأنه طفل، لكني لا أظلمه أو أسيء معاملته.
وكان دعاني أحد الإخوة –خارج المملكة- إلى بيته، فلما حضرت جلس معنا صبيٌّ له من أكْره من رأيت، قد امتلأ وجهه بالقذارة ووالده الحاني يضمه إليه في رقّة بالغة!
فلما حضر العشاء قلت في خاطري: الآن نرتاح منه، فأجلسه يأكل معنا فَغَثَتْ نفسي وكدت أموت تقزّزًا، ثم إن هذا الكريه رفع رجله وغمسها في صحن القشطة، فابتسم أبوه المغفّل تظرّفًا لصنيعه، فأطرقت خجلاً، وكرهت بعدها هذا الصنف من الطعام وكان من أشهاه إلى نفسي.
وهكذا كم كلفّني الخجل أمثال هذه المدارات ورهق النفس، ومن كان هذا شأنه آذاه الناس من حيث يشعرون ولا يشعرون.
3- في كتاب "درر العقود الفريدة في تراجم الأعيان المفيدة" للمقريزي 3/77، هذا النص الذي وقفت عنده طويلاً، قال المقريزي: "أخبرنا شيخنا المقرئ النحوي شمس الدين محمد بن محمد الغماري رحمه الله قال: أخبرنا شيخنا العلامة أثير الدين أبو حيان النّفزي رحمه الله قال: ألزمني الأمير ناصر الدين محمد بن جَنْكل ابن البابا بالمسير معه بالزيارة للشيخ المُعتقد أحمد البدوي بناحية طنتدى (طنطا)، فوافيناه يوم الجمعة فإذا به رجل طوال، عليه ثوب خوج عالٍ، وعمامة صوف رفيع، والناس تأتيه أفواجًا، فمنهم من يقول: يا سيدي خاطرك مع غنمي، ومنهم من يقول: خاطرك مع بقري، ومنهم من يقول: زرعي، إلى أن حان وقت صلاة الجمعة، فنزلنا معه إلى الجامع بطنتدى، وجلسنا في انتظار الصلاة، فلما فرغ الخطيب من خطبة الجمعة، وأقيمت الصلاة، وقمنا لأداء الصلاة؛ وضع الشيخ أحمد البدوي رأسه في طوقه بعدما قام قائمًا، وكشف عن عورته بحضرة الناس، وبال على ثيابه وعلى حصر المسجد، واستمرّ ورأسه في طوق ثوبه وهو جالس حتى انقضت الصلاة ولم يُصلّ"!
قلت: انظر كيف تحوّل هذا البوّال إلى موروث مقدّس في الذاكرة الشعبية بفعل الخرافة والارتزاق والبعد عن الدين.
فرحم الله الإمام محمد بن عبد الوهاب، نعم لم يكن نبيًّا، لكنه قام بدعوة نبيّ..
4- تُشجيني تصاريف القدر وموافقاته.. كأن يسأل رجل عن قَبر يُحفر: لمن هذا القبر؟ فيدفن فيه.. وكم مرة أحجمت عن قول أو فعل خوف تصاريف القدر هذه وموافقاته، غير أن القدر غالب، ولا رادّ لما كتبه الله.
في مقدمة "عصر نابليون" آخر أجزاء "قصة الحضارة" يتساءل وِل وإيريل ديورانت عن سبب إضافة كتابٍ عن حياة نابليون بعد أن ورد في "الموسوعة البريطانية": "أن ما كتب عن نابليون حتى منتصف القرن العشرين زاد على مئة ألف مجلد"؟
وإن كنتَ قرأت صفحاتٍ من آلاف الكتب هذه؛ فستعرف –لا محالة- أن نابليون قد أمضى آخر حياته أسيرًا في جزيرة "سانت هيلانة".. حتى اقترنت هذه الجزيرة باسمه، فيقال عند الحديث عنها: وهي التي أُسر فيها نابليون وأجبر على العيش فيها من سنة 1815م حتى وفاته عام 1821م. وكانت لنابليون فيها أشجان وآهات وحال محزنة، دوّنها بعض مرافقيه في الجزيرة، ونشرت فيما بعد.
في كتاب "نابليون" لإميل لودفيج –هذا الكتاب من أروع ما كتب عن نابليون- وصف لهذا الفتى الكورسيكي الحالم، جاء في بعضه: "وهذا مع دأبه على تحصيل حرفته بدافع من فقره وعاطفته، وشعوره بأن الخيال يحكم العالم، لكنه بالمدفع يتحقق الخيال..
وهو يدرس المدفع والذخيرة، وهو يدرس في غرفته بقرب المقهى الصاخب كل شيء قابل للحساب، ويدوّن خطبًا بأكملها مما يلقى في برلمان لندن، ويضع رسمًا كروكيّا لأقصى نواحي المعمورة، وفي ختام آخر كراسة نجد في آخر ملاحظة: "سانت هيلانة: جزيرة صغيرة في المحيط الأطلسي ومستعمرة إنجليزية..".
5- رحم الله الأستاذ الكبير أحمد ابن العلامة محمد بن مانع.. كان من خيرة من لقيتُ في مجلس شيخنا العلامة حمد الجاسر رحمه الله.
لم أكن أعرف من يكون أول مرة شاهدته فيها في مجلس الشيخ، رأيته يتصدّر المجلس ويحتفى به فظننته أحد الأعيان، فما هو إلا أن تحدث حتى بهرني بأسلوبه وعلمه وخلقه، فعلمتُ بعدُ من هو.
والشيخ حمد يجلّه، قال لي مرة بعد ثناء عليه: كانت بيني وبين والده أمور وظيفية أفسدت ما بيننا، لكن علاقتي بابنه أحمد لم تتأثر، وهو يزورني لا يقطعني.
إذا تحدث الأستاذ أحمد أسرك بحسن حديثه، وسعة اطلاعه، وبما لديه من اللطائف والغرائب لكثرة أسفاره وتقلبه في الحياة، ولو لم يكن منه؛ إلا أنه كان يرافق والده العلاّمة، وأنه كان من كبار ملازمي مجلس العلامة محمود شاكر أيام عمله في الملحقية الثقافية السعودية في القاهرة (ترجم الأستاذ عبد الرحمن الشبيلي ترجمة يسيرة للأستاذ أحمد في كتاب "أعلام بلا إعلام" ص47).
وهو -رحمه الله- كان يتلطّف بي، ويذكر شيئًا مما أكتب، وقد ندمت على أن علاقتي به لم تمتد إلى أبعد من مجالس الشيخ.
ثم إنه اعتزل الناس في آخر حياته، ولم يكن ممن يحب الكتابة والتأليف، فذهب ذلك العلم والفضل.. وكان مما علق في ذاكرتي من فوائده هاتان اللطيفتان:
أ – قال الشيخ أحمد: سألت الشيخ محمود شاكر عن الحمار الوحشي الوارد ذكره في أشعار العرب، فقال لي: ليس هو هذا الحمارَ المخطّط، وإنما هو حمار أبيض أكبر قليلاً من الحمار الأهلي، وفي نحره سواد، وقد انقرض.
قلت: لعل هذا النص الكاشف يفيد بعض طلبة العلم، فإن الحمار الوحشي مما ورد ذكره في السنة، ولم يعرف بعض كبار أهل العلم من المتأخرين ما المقصود به.
ب – قال الشيخ أحمد: انكسر مركبٌ بأهله قرب قطر، فغرق كلّ من كان في المركب، لم ينج إلا رجل أعمى، وابن صغير له، لما انكسر المركب أمسك الأعمى بابنه، ووضعه فوق كتفه، فكان ابنه يوجهه نحو اليابسة وهو يسبح، حتى قطع خمسة عشر كيلاً، ثم نجا هذا الأعمى وابنه الصبي بعد أن غرق كل من في المركب!
6- انخدعت زمنًا بروجيه جارودي وأمثاله، ثم تبين لي أنهم لم يؤمنوا بالله العظيم, وأنهم إنما آمنوا بالحضارة الإسلامية، وهذا "الإيمان الحضاري" لا ينفعهم إذا وقفوا بين يدي الله تعالى.
قال صلاح عبد الرزاق في كتابه "المفكرون الغربيون المسلمون" 1/115: "يبدو أن غارودي غير ملتزم بأداء الشعائر الإسلامية، لأنني عندما زرته في منزله وحان وقت الصلاة؛ سألته عن اتجاه القبلة فلم يستطع أن يجيبني عنه!
أعتقد أن غارودي قد قبل الإسلام كنظام أخلاقي وروحي، وليس مجموعة من العقائد والأحكام والتعاليم التي على المسلم الإيمان بها والالتزام بممارستها.. ربما يكون غارودي قد أعجب بالحضارة الإسلامية أكثر من الدين التي كانت نتاجًا له".
7- حدثني بعض مشايخي من أهل مصر ممن كان له صلة بالعلامة المحقق محمد أبو الفضل إبراهيم رحمه الله، قال: قال لي أبو الفضل إبراهيم: "حين كنت أعود من عملي في دار الكتب كان يركب معي في المواصلات جاري في الحارة مغني المونولوج المشهور "شكوكو".. وكان كل من رآه يسلّم عليه ويحتفي به، ولا يكاد أحد يسلم عليّ أو يعرفني..
قال: ومرة جاء ساعي البريد يبحث عني ليوصل لي شيئًا معه، فأخذ يدور في الحارة من الصباح إلى قريب الظهر ما عرفني فيها أحد.. حتى دلّه على منزلي صاحب مغسلة الملابس، وضاع كلب "شكوكو" يومًا فخرجت الحارة كلها تبحث عنه"!
قال الشيخ محمد عبد الرحيم بدر الدين في تقديمه لكتاب "ديوان المجموع اللطيف في بني نصيف": "ولقد رأيت بنفسي يوم توفي علم من أعلام الأمة، وجبل من جبال العلم في عصرنا، هو العلامة الدكتور محمد عبد الله دراز.. رأيت نشر نعيّه وخبر وفاته في زاوية متواضعة في ثنايا عمود منزوٍ من صفحة داخلية في بعض الصحف، في حين كانت الصفحة الأولى تختنق بعناوين ضخمة، وصور متعددة، وتعليقات مسهبة حول وفاة راقصة مشهورة..".
8- أَحقٌّ أن السلفية تطامن من العقل، وتُزري بالقدرة، وتحجر على الموهبة؟
وأن الإبداع لا يقاربه قلم الكاتب؛ إلا أن يتمرّد على إسار النص، ويجري في أفانين الغواية، ويكسر حاجز المقدّس..
آحقٌّ أن السلفية تورث صاحبها ذهبًا فاترًا، وأداة خابية، وروحًا بليدة؟
وأن العبقرية إنما تتنزّي من نفس الإنسان، والوهج إنما يلفح في أحرف هجائه، والمعا ني تأتلق بها روعة تراكيبه؛ حين يوصف بكل وصف إلا أن يكون سلفيًا..
أَحقٌّ أن السلفية تأسر محطّ النظر فلا يبرح القرطاس الأصفر، وتطمس مجالي البهاء فلا يعود الجمال ينفذ اِلى مسارب الفؤاد، فهي قَدَر المحرومين.. قدر المحرومين من لذاذات العقول، ومدارج الثقافة، ومطارح الجمال؟
وأن كل أحد إلا أن يكون سلفيًا: له من أيامه بهجة المعرفة، وثراء تراث الإنسان، ومفاتن الفكر، ومهاوي الفتون..
لقد حاولتُ من خلال مشروعي الثقافي –الصغير- أن أفنّد هذا الشغب الصبياني البليد الذي يلصقه أراذل أهل المعرفة بهذه السلفية المباركة، فجعلت قلمي وأيامي –على بساطة تجربتي- وقفًا على هذا المشروع.
أردت أن أثبت أن السلفية تحسن أشياء كثيرة إن هي أرادت، وأنها ليست تطامن من العقل، ولا تورث صاحبها ذهنًا فاترًا، وأنها ليست بقدر المحرومين من لذاذات العقول ومطارح الجمال، وأن الإبداع طوع قلم الكاتب –إن هو استعدّ- دون أن يستطيل على الرّب والدين، ويتهاون بالأصول والمعتقدات..
فذهبت أنشئ التأصيل المعرفي، أرود الثقافة على اتساع مداها، وأحلّل الفكر في جذوره، وأوظف الكلام من مظانّه العالية، كل أولئك ببيان مشرق وضيء ما استطعت، حاولت أن أنقُض عليهم دعاواهم الواهية، وأدفعَ الفرية التي يصمنا بها سقط أهل الفكر حين يردّدون: أن الخطاب السلفي بات خطابًا متربّصاً، ناقدًا لمنجز الآخرين دون أن ينجز..
لم أُحبّ أن يذلني أحد –أنا السلفيّ- إذلالاً معرفيًا..
9- نصرانيّتان:
أ – في رسالة بعث بها الأمير شكيب أرسلان إلى رشيد رضا: "رجل أرمني من وجوه الأرمن وأكابر علاتهم كان منسوبًا للسلطان عبد الحميد، وبعد سقوطه فرّ إلى أوربة.. واسمه: أنطون بك كوشه جي أو غلو، له تأليف على حادثة الأرمن، ذكر أن أصلها سياسة أجنبية، وبرهن بالوثائق، وهو متمسك بدينه ومطّلع عليه، قال لي منذ أيام: إن عقيدة القرآن بالمسيح هي أقدم ما قيل في المسيح، قلت له: وكيف ذلك؟ قال: لأن القرآن منذ 1300 سنة، والأناجيل الموجودة اليوم ليس فيها على التحقيق ما يتجاوز عمر نسخته الأصلية 800 سنة، فإن الأناجيل كانت نحو 40، فاحترقت كلها بحريق مكتبة الإسكندرية، والباقي منها متأخر تاريخ نسخه عن القرآن بقرون، عدا ذلك عقيدة الإسلام في المسيح مطابقة لعقيدة آريوس تقريبًا، باعتبار بنوة المسيح لله مجازية.. قصدت أن أروي لك هذه الرواية لأنها تتعلق بأبحاث "المنار"..".
ب – قال الكاتب والشاعر النصراني أمين نخلة (ت 1976م) في كتابه "في الهواء الطّلْق": كلما قرأتُ القرآن قلتُ لنفسي: ويحكِ انجِ فإنكِ على النصرانية"!
10- كان من فواجعي أني اكتشفتُ زور هذه الأنفس الإنسانية مبكّرًا..
كنا نسكن عام 1400هـ في شارع الخزان في الرياض قريبًا من مبنى التلفزيون، وسمعت من بعض من ألعب معهم في الحارة أنهم يسجّلون حلقات لبرنامج من برامج الأطفال مشهورٍ في تلك الأيام، وأنهم قد حددوا موعدًا –بعد الظهر- لحضور التسجيل في يوم معلوم يحضره من شاء.
كانت سني بين الحادية عشرة والثانية عشرة، ففرحت كثيرًا أن أرى صورتي قد خرجت على الشاشة (في الكبار اليوم من يفرح كثيرًا لهذا!).
ذهبنا أربعة أو خمسة من الأولاد بثياب متسخة لكثرة ما لعبنا بالكرة وتمرغّنا في الإسفلت، ولم أكن أنا وأحد الرفقة نلبس الأحذية، مشينا حفاةً حتى دخلنا المبنى، وتوجهنا إلى أستديو التسجيل، وقصدنا آخر الكراسي؛ لأن حالتنا ما كانت تسرّ..
ورأيت ماما.... مذيعة البرنامج شوهاء عابسة تنهر هذا وتصيح في وجه ذاك، قد أجلست ولدها على كنب مريح بعيدًا عنا يقدم له العصير ونحن رصصنا رصّاً كالغنم، ثم حضر الأستاذ صالح.... مخرج البرنامج فاقترب منا وتأمَّلنا في حزم كأنه ضابط يستعرض كتيبة من الجند، فوقعت عينه على قدمي زميلي، فصرخ في وجهه وقال له: تأتي إلى البرنامج متسخ الثياب حافي القدمين يا قذر، ألا تعلم أن كبار المسؤولين يشاهدون هذا البرنامج، ألا تعلم أن الملك يشاهده.. وتوجّه إليه وطرده شرّ طردة على مرأى منّا ومسمع، فجمدتُ في مكاني ومرّت عليّ لحظات كأنها الدهر كله (هذا في برنامج للأطفال..) إلا أن عينيه تخطتني لحسن الحظّ بعد أن وقفتْ عليّ قليلاً..
ثم إنهم أخبرونا أن هناك أنوارًا مواجهة لنا إذا أضاءت فعلينا أن تصفّق، وكنت أحسب أن الأطفال يصفقون فرحًا من عند أنفسهم.. توارى المخرج خلف الكاميرات والأسلاك، وأخرجت المذيعة من حقيبتها بعض الأدوات وأصلحت من شأن نفسها على عجل وبدأ التصوير، فابتسمت الماما ابتسامة كاد ينشق لها فمها، و المخرج خلف الكواليس يهمس ويوجّه ويشير بيديه في عصبية شديدة،والطفل يخرج للميكرفون في يد المذيعة ينشد أو يجيب عن سؤال، فتبتسم في وجهه، وتنظر إليه في دفء وحنوّ.. فلما أوقفوا البرنامج للراحة عبست المذيعة –والله- وتغيّرت سحنتها لا أدري كيف، وأنا من هذا كله في خوفٍ من أن يقبض عليّ بلا نعل، ودهشةٍ من هذا الذي يحدث إلى أن انتهى البرنامج، فخرجنا مسرعين وصاحبنا المطرود ينتظرنا عند الباب في خِزي وغَيرة، وأحسست وأنا أعود إلى البيت بشيءٍ يتكسّر من نفسي ويهوي في مجاهلها فأكاد أغيب، لكن ما كنت أتبين ما هو في تلك السن المبكرة (قرأت فيما بعد لطاغور: ثمة قَفْرٌ فسيح اسمه القلب، في أعماقه أضعتُ سبيلي).
كان ذلك كله: مقابل أن أرى صورتي لثوانٍ معدودات على شاشة التلفزيون، وقد التصقتُ بالكرسي وتجمّعتُ خوف أن أُرى .. فيا لبهجة الطفولة..
11- في كتاب "الهوامل والشوامل" ــ وهي الأسئلة التي سألها أبو حيان التوحيدي، وأجاب عنها مسكويه –هذا السؤال: "سأل أبو حيان: لِمَ أحبّ الإنسانُ أن يَعرف ما جرى من ذكره بعد قيامه من مجلسه؟".
قلتُ: ثم إن مسكويه أجاب عن سؤال أبي حيان جوابًا يصلح له قول
بعض العلماء: السؤال ذكر، والجواب أُنثى، فما أتى مسكويه بشيء.
وأما أنا فكنتُ إذا ضمّني مجلسٌ مع بعض النخبة تعجّلتُ الانصراف؛ حتى أترك لهم فرصةً للحديث عني!
يا ربّ: أهلكني الناس؛ فساعدني اللهمّ حتى لا أتحنّث لصورتي في محاريب أنفس الآخرين..
منقول من هنا (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=203293)
1- ليس يتجلّد العبد على ربّه.. هذا الشاعر المتمرّد أمل دنقل (ت 1983) وكان ملأ شوارع القاهرة كفرًا وسكرًا وعربدة، حتى قال يثني على الشيطان أبياته الرجيمة:
المجـد للشيطان معبود الـرياح
من قال لا في وجه من قالوا نعم..
هذا المسكين الذي طغى لما: "أن رآه استغنى" تقول عنه زوجته عبلة الرويني في كتابها "الجنوبي" يوم أصيب بالسرطان: "كانت الجراحة الأولى تعني لدينا الرعب الشديد، فهذه هي المرة الأولى التي نقف فيها في مواجهة السرطان.
وأنا أسير بجوار (التروللي) الذي يحمل أمل إلى غرفة العمليات سمعته يتمتم بالشهادة: "أشهد ألا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله"..
ضحكتُ: أمل لقد ضبطتك متلبسًا بالإيمان!
ابتسم في هدوء مردّدًا في همس خافت: "أخشى ألا يؤثر فيّ البنج..".
نسي في كربته معبود الرياح الذي قال: لا، وتمتم ذليلاً لربّه: أن نعم، فالمجد لله..
2- أنا امرؤٌ – إن لم تكن تعلم- كباقي خلق الله، كلما تقدمت بي السن ضعفتْ فيّ الشهوات كلها إلا شهوة الكلام.. وقد رأيتُني في الأربعين من عمري غيري في العشرين والثلاثين، فقد كنت صموتًا تمر بي الساعات لا تفرط مني الكلمة، فأورثني ذلك عُقدًا أضخم من تلك التي في حبل السفينة..
واليوم آثرتُ أن أتكلم –تخفّفاً- ثأرًا من تلك الأيام، بل إني سأتحدث عن نفسي كثيرًا، لأني لا آمن جانب أحد إن تحدثت عنه إلا نفسي هذه التي بين جنبيّ.
عهدتُني شديدَ الخجل جدًا (بين يديَّ كتاب "الخجل" لراي كروزير أكبر متخصص في هذا الموضوع في عصرنا الحاضر، فماذا عساه يجدي هذا الكتاب ومؤلّفه في هذه الطبقات النفسية المتكلسة).
يحملني الخجل كثيرًا على مداراة الناس، والتكلف لما لا أطيق.. ليس أثقل على نفسي من الأطفال، ودع عنك "إميل" جان جاك روسّو، وحديث الكبار الساذج عن براءة الأطفال، كأننا ما كنا أطفالاً، ولا رأينا منهم من هو أشد تلوّثًا من كثير من الراشدين، لذا فإني قلّ أن استملحت طفلاً، فأنا أعاملهم -بمشاعري- معاملة الكبار، فلا أكاد أحب طفلاً لأنه طفل، لكني لا أظلمه أو أسيء معاملته.
وكان دعاني أحد الإخوة –خارج المملكة- إلى بيته، فلما حضرت جلس معنا صبيٌّ له من أكْره من رأيت، قد امتلأ وجهه بالقذارة ووالده الحاني يضمه إليه في رقّة بالغة!
فلما حضر العشاء قلت في خاطري: الآن نرتاح منه، فأجلسه يأكل معنا فَغَثَتْ نفسي وكدت أموت تقزّزًا، ثم إن هذا الكريه رفع رجله وغمسها في صحن القشطة، فابتسم أبوه المغفّل تظرّفًا لصنيعه، فأطرقت خجلاً، وكرهت بعدها هذا الصنف من الطعام وكان من أشهاه إلى نفسي.
وهكذا كم كلفّني الخجل أمثال هذه المدارات ورهق النفس، ومن كان هذا شأنه آذاه الناس من حيث يشعرون ولا يشعرون.
3- في كتاب "درر العقود الفريدة في تراجم الأعيان المفيدة" للمقريزي 3/77، هذا النص الذي وقفت عنده طويلاً، قال المقريزي: "أخبرنا شيخنا المقرئ النحوي شمس الدين محمد بن محمد الغماري رحمه الله قال: أخبرنا شيخنا العلامة أثير الدين أبو حيان النّفزي رحمه الله قال: ألزمني الأمير ناصر الدين محمد بن جَنْكل ابن البابا بالمسير معه بالزيارة للشيخ المُعتقد أحمد البدوي بناحية طنتدى (طنطا)، فوافيناه يوم الجمعة فإذا به رجل طوال، عليه ثوب خوج عالٍ، وعمامة صوف رفيع، والناس تأتيه أفواجًا، فمنهم من يقول: يا سيدي خاطرك مع غنمي، ومنهم من يقول: خاطرك مع بقري، ومنهم من يقول: زرعي، إلى أن حان وقت صلاة الجمعة، فنزلنا معه إلى الجامع بطنتدى، وجلسنا في انتظار الصلاة، فلما فرغ الخطيب من خطبة الجمعة، وأقيمت الصلاة، وقمنا لأداء الصلاة؛ وضع الشيخ أحمد البدوي رأسه في طوقه بعدما قام قائمًا، وكشف عن عورته بحضرة الناس، وبال على ثيابه وعلى حصر المسجد، واستمرّ ورأسه في طوق ثوبه وهو جالس حتى انقضت الصلاة ولم يُصلّ"!
قلت: انظر كيف تحوّل هذا البوّال إلى موروث مقدّس في الذاكرة الشعبية بفعل الخرافة والارتزاق والبعد عن الدين.
فرحم الله الإمام محمد بن عبد الوهاب، نعم لم يكن نبيًّا، لكنه قام بدعوة نبيّ..
4- تُشجيني تصاريف القدر وموافقاته.. كأن يسأل رجل عن قَبر يُحفر: لمن هذا القبر؟ فيدفن فيه.. وكم مرة أحجمت عن قول أو فعل خوف تصاريف القدر هذه وموافقاته، غير أن القدر غالب، ولا رادّ لما كتبه الله.
في مقدمة "عصر نابليون" آخر أجزاء "قصة الحضارة" يتساءل وِل وإيريل ديورانت عن سبب إضافة كتابٍ عن حياة نابليون بعد أن ورد في "الموسوعة البريطانية": "أن ما كتب عن نابليون حتى منتصف القرن العشرين زاد على مئة ألف مجلد"؟
وإن كنتَ قرأت صفحاتٍ من آلاف الكتب هذه؛ فستعرف –لا محالة- أن نابليون قد أمضى آخر حياته أسيرًا في جزيرة "سانت هيلانة".. حتى اقترنت هذه الجزيرة باسمه، فيقال عند الحديث عنها: وهي التي أُسر فيها نابليون وأجبر على العيش فيها من سنة 1815م حتى وفاته عام 1821م. وكانت لنابليون فيها أشجان وآهات وحال محزنة، دوّنها بعض مرافقيه في الجزيرة، ونشرت فيما بعد.
في كتاب "نابليون" لإميل لودفيج –هذا الكتاب من أروع ما كتب عن نابليون- وصف لهذا الفتى الكورسيكي الحالم، جاء في بعضه: "وهذا مع دأبه على تحصيل حرفته بدافع من فقره وعاطفته، وشعوره بأن الخيال يحكم العالم، لكنه بالمدفع يتحقق الخيال..
وهو يدرس المدفع والذخيرة، وهو يدرس في غرفته بقرب المقهى الصاخب كل شيء قابل للحساب، ويدوّن خطبًا بأكملها مما يلقى في برلمان لندن، ويضع رسمًا كروكيّا لأقصى نواحي المعمورة، وفي ختام آخر كراسة نجد في آخر ملاحظة: "سانت هيلانة: جزيرة صغيرة في المحيط الأطلسي ومستعمرة إنجليزية..".
5- رحم الله الأستاذ الكبير أحمد ابن العلامة محمد بن مانع.. كان من خيرة من لقيتُ في مجلس شيخنا العلامة حمد الجاسر رحمه الله.
لم أكن أعرف من يكون أول مرة شاهدته فيها في مجلس الشيخ، رأيته يتصدّر المجلس ويحتفى به فظننته أحد الأعيان، فما هو إلا أن تحدث حتى بهرني بأسلوبه وعلمه وخلقه، فعلمتُ بعدُ من هو.
والشيخ حمد يجلّه، قال لي مرة بعد ثناء عليه: كانت بيني وبين والده أمور وظيفية أفسدت ما بيننا، لكن علاقتي بابنه أحمد لم تتأثر، وهو يزورني لا يقطعني.
إذا تحدث الأستاذ أحمد أسرك بحسن حديثه، وسعة اطلاعه، وبما لديه من اللطائف والغرائب لكثرة أسفاره وتقلبه في الحياة، ولو لم يكن منه؛ إلا أنه كان يرافق والده العلاّمة، وأنه كان من كبار ملازمي مجلس العلامة محمود شاكر أيام عمله في الملحقية الثقافية السعودية في القاهرة (ترجم الأستاذ عبد الرحمن الشبيلي ترجمة يسيرة للأستاذ أحمد في كتاب "أعلام بلا إعلام" ص47).
وهو -رحمه الله- كان يتلطّف بي، ويذكر شيئًا مما أكتب، وقد ندمت على أن علاقتي به لم تمتد إلى أبعد من مجالس الشيخ.
ثم إنه اعتزل الناس في آخر حياته، ولم يكن ممن يحب الكتابة والتأليف، فذهب ذلك العلم والفضل.. وكان مما علق في ذاكرتي من فوائده هاتان اللطيفتان:
أ – قال الشيخ أحمد: سألت الشيخ محمود شاكر عن الحمار الوحشي الوارد ذكره في أشعار العرب، فقال لي: ليس هو هذا الحمارَ المخطّط، وإنما هو حمار أبيض أكبر قليلاً من الحمار الأهلي، وفي نحره سواد، وقد انقرض.
قلت: لعل هذا النص الكاشف يفيد بعض طلبة العلم، فإن الحمار الوحشي مما ورد ذكره في السنة، ولم يعرف بعض كبار أهل العلم من المتأخرين ما المقصود به.
ب – قال الشيخ أحمد: انكسر مركبٌ بأهله قرب قطر، فغرق كلّ من كان في المركب، لم ينج إلا رجل أعمى، وابن صغير له، لما انكسر المركب أمسك الأعمى بابنه، ووضعه فوق كتفه، فكان ابنه يوجهه نحو اليابسة وهو يسبح، حتى قطع خمسة عشر كيلاً، ثم نجا هذا الأعمى وابنه الصبي بعد أن غرق كل من في المركب!
6- انخدعت زمنًا بروجيه جارودي وأمثاله، ثم تبين لي أنهم لم يؤمنوا بالله العظيم, وأنهم إنما آمنوا بالحضارة الإسلامية، وهذا "الإيمان الحضاري" لا ينفعهم إذا وقفوا بين يدي الله تعالى.
قال صلاح عبد الرزاق في كتابه "المفكرون الغربيون المسلمون" 1/115: "يبدو أن غارودي غير ملتزم بأداء الشعائر الإسلامية، لأنني عندما زرته في منزله وحان وقت الصلاة؛ سألته عن اتجاه القبلة فلم يستطع أن يجيبني عنه!
أعتقد أن غارودي قد قبل الإسلام كنظام أخلاقي وروحي، وليس مجموعة من العقائد والأحكام والتعاليم التي على المسلم الإيمان بها والالتزام بممارستها.. ربما يكون غارودي قد أعجب بالحضارة الإسلامية أكثر من الدين التي كانت نتاجًا له".
7- حدثني بعض مشايخي من أهل مصر ممن كان له صلة بالعلامة المحقق محمد أبو الفضل إبراهيم رحمه الله، قال: قال لي أبو الفضل إبراهيم: "حين كنت أعود من عملي في دار الكتب كان يركب معي في المواصلات جاري في الحارة مغني المونولوج المشهور "شكوكو".. وكان كل من رآه يسلّم عليه ويحتفي به، ولا يكاد أحد يسلم عليّ أو يعرفني..
قال: ومرة جاء ساعي البريد يبحث عني ليوصل لي شيئًا معه، فأخذ يدور في الحارة من الصباح إلى قريب الظهر ما عرفني فيها أحد.. حتى دلّه على منزلي صاحب مغسلة الملابس، وضاع كلب "شكوكو" يومًا فخرجت الحارة كلها تبحث عنه"!
قال الشيخ محمد عبد الرحيم بدر الدين في تقديمه لكتاب "ديوان المجموع اللطيف في بني نصيف": "ولقد رأيت بنفسي يوم توفي علم من أعلام الأمة، وجبل من جبال العلم في عصرنا، هو العلامة الدكتور محمد عبد الله دراز.. رأيت نشر نعيّه وخبر وفاته في زاوية متواضعة في ثنايا عمود منزوٍ من صفحة داخلية في بعض الصحف، في حين كانت الصفحة الأولى تختنق بعناوين ضخمة، وصور متعددة، وتعليقات مسهبة حول وفاة راقصة مشهورة..".
8- أَحقٌّ أن السلفية تطامن من العقل، وتُزري بالقدرة، وتحجر على الموهبة؟
وأن الإبداع لا يقاربه قلم الكاتب؛ إلا أن يتمرّد على إسار النص، ويجري في أفانين الغواية، ويكسر حاجز المقدّس..
آحقٌّ أن السلفية تورث صاحبها ذهبًا فاترًا، وأداة خابية، وروحًا بليدة؟
وأن العبقرية إنما تتنزّي من نفس الإنسان، والوهج إنما يلفح في أحرف هجائه، والمعا ني تأتلق بها روعة تراكيبه؛ حين يوصف بكل وصف إلا أن يكون سلفيًا..
أَحقٌّ أن السلفية تأسر محطّ النظر فلا يبرح القرطاس الأصفر، وتطمس مجالي البهاء فلا يعود الجمال ينفذ اِلى مسارب الفؤاد، فهي قَدَر المحرومين.. قدر المحرومين من لذاذات العقول، ومدارج الثقافة، ومطارح الجمال؟
وأن كل أحد إلا أن يكون سلفيًا: له من أيامه بهجة المعرفة، وثراء تراث الإنسان، ومفاتن الفكر، ومهاوي الفتون..
لقد حاولتُ من خلال مشروعي الثقافي –الصغير- أن أفنّد هذا الشغب الصبياني البليد الذي يلصقه أراذل أهل المعرفة بهذه السلفية المباركة، فجعلت قلمي وأيامي –على بساطة تجربتي- وقفًا على هذا المشروع.
أردت أن أثبت أن السلفية تحسن أشياء كثيرة إن هي أرادت، وأنها ليست تطامن من العقل، ولا تورث صاحبها ذهنًا فاترًا، وأنها ليست بقدر المحرومين من لذاذات العقول ومطارح الجمال، وأن الإبداع طوع قلم الكاتب –إن هو استعدّ- دون أن يستطيل على الرّب والدين، ويتهاون بالأصول والمعتقدات..
فذهبت أنشئ التأصيل المعرفي، أرود الثقافة على اتساع مداها، وأحلّل الفكر في جذوره، وأوظف الكلام من مظانّه العالية، كل أولئك ببيان مشرق وضيء ما استطعت، حاولت أن أنقُض عليهم دعاواهم الواهية، وأدفعَ الفرية التي يصمنا بها سقط أهل الفكر حين يردّدون: أن الخطاب السلفي بات خطابًا متربّصاً، ناقدًا لمنجز الآخرين دون أن ينجز..
لم أُحبّ أن يذلني أحد –أنا السلفيّ- إذلالاً معرفيًا..
9- نصرانيّتان:
أ – في رسالة بعث بها الأمير شكيب أرسلان إلى رشيد رضا: "رجل أرمني من وجوه الأرمن وأكابر علاتهم كان منسوبًا للسلطان عبد الحميد، وبعد سقوطه فرّ إلى أوربة.. واسمه: أنطون بك كوشه جي أو غلو، له تأليف على حادثة الأرمن، ذكر أن أصلها سياسة أجنبية، وبرهن بالوثائق، وهو متمسك بدينه ومطّلع عليه، قال لي منذ أيام: إن عقيدة القرآن بالمسيح هي أقدم ما قيل في المسيح، قلت له: وكيف ذلك؟ قال: لأن القرآن منذ 1300 سنة، والأناجيل الموجودة اليوم ليس فيها على التحقيق ما يتجاوز عمر نسخته الأصلية 800 سنة، فإن الأناجيل كانت نحو 40، فاحترقت كلها بحريق مكتبة الإسكندرية، والباقي منها متأخر تاريخ نسخه عن القرآن بقرون، عدا ذلك عقيدة الإسلام في المسيح مطابقة لعقيدة آريوس تقريبًا، باعتبار بنوة المسيح لله مجازية.. قصدت أن أروي لك هذه الرواية لأنها تتعلق بأبحاث "المنار"..".
ب – قال الكاتب والشاعر النصراني أمين نخلة (ت 1976م) في كتابه "في الهواء الطّلْق": كلما قرأتُ القرآن قلتُ لنفسي: ويحكِ انجِ فإنكِ على النصرانية"!
10- كان من فواجعي أني اكتشفتُ زور هذه الأنفس الإنسانية مبكّرًا..
كنا نسكن عام 1400هـ في شارع الخزان في الرياض قريبًا من مبنى التلفزيون، وسمعت من بعض من ألعب معهم في الحارة أنهم يسجّلون حلقات لبرنامج من برامج الأطفال مشهورٍ في تلك الأيام، وأنهم قد حددوا موعدًا –بعد الظهر- لحضور التسجيل في يوم معلوم يحضره من شاء.
كانت سني بين الحادية عشرة والثانية عشرة، ففرحت كثيرًا أن أرى صورتي قد خرجت على الشاشة (في الكبار اليوم من يفرح كثيرًا لهذا!).
ذهبنا أربعة أو خمسة من الأولاد بثياب متسخة لكثرة ما لعبنا بالكرة وتمرغّنا في الإسفلت، ولم أكن أنا وأحد الرفقة نلبس الأحذية، مشينا حفاةً حتى دخلنا المبنى، وتوجهنا إلى أستديو التسجيل، وقصدنا آخر الكراسي؛ لأن حالتنا ما كانت تسرّ..
ورأيت ماما.... مذيعة البرنامج شوهاء عابسة تنهر هذا وتصيح في وجه ذاك، قد أجلست ولدها على كنب مريح بعيدًا عنا يقدم له العصير ونحن رصصنا رصّاً كالغنم، ثم حضر الأستاذ صالح.... مخرج البرنامج فاقترب منا وتأمَّلنا في حزم كأنه ضابط يستعرض كتيبة من الجند، فوقعت عينه على قدمي زميلي، فصرخ في وجهه وقال له: تأتي إلى البرنامج متسخ الثياب حافي القدمين يا قذر، ألا تعلم أن كبار المسؤولين يشاهدون هذا البرنامج، ألا تعلم أن الملك يشاهده.. وتوجّه إليه وطرده شرّ طردة على مرأى منّا ومسمع، فجمدتُ في مكاني ومرّت عليّ لحظات كأنها الدهر كله (هذا في برنامج للأطفال..) إلا أن عينيه تخطتني لحسن الحظّ بعد أن وقفتْ عليّ قليلاً..
ثم إنهم أخبرونا أن هناك أنوارًا مواجهة لنا إذا أضاءت فعلينا أن تصفّق، وكنت أحسب أن الأطفال يصفقون فرحًا من عند أنفسهم.. توارى المخرج خلف الكاميرات والأسلاك، وأخرجت المذيعة من حقيبتها بعض الأدوات وأصلحت من شأن نفسها على عجل وبدأ التصوير، فابتسمت الماما ابتسامة كاد ينشق لها فمها، و المخرج خلف الكواليس يهمس ويوجّه ويشير بيديه في عصبية شديدة،والطفل يخرج للميكرفون في يد المذيعة ينشد أو يجيب عن سؤال، فتبتسم في وجهه، وتنظر إليه في دفء وحنوّ.. فلما أوقفوا البرنامج للراحة عبست المذيعة –والله- وتغيّرت سحنتها لا أدري كيف، وأنا من هذا كله في خوفٍ من أن يقبض عليّ بلا نعل، ودهشةٍ من هذا الذي يحدث إلى أن انتهى البرنامج، فخرجنا مسرعين وصاحبنا المطرود ينتظرنا عند الباب في خِزي وغَيرة، وأحسست وأنا أعود إلى البيت بشيءٍ يتكسّر من نفسي ويهوي في مجاهلها فأكاد أغيب، لكن ما كنت أتبين ما هو في تلك السن المبكرة (قرأت فيما بعد لطاغور: ثمة قَفْرٌ فسيح اسمه القلب، في أعماقه أضعتُ سبيلي).
كان ذلك كله: مقابل أن أرى صورتي لثوانٍ معدودات على شاشة التلفزيون، وقد التصقتُ بالكرسي وتجمّعتُ خوف أن أُرى .. فيا لبهجة الطفولة..
11- في كتاب "الهوامل والشوامل" ــ وهي الأسئلة التي سألها أبو حيان التوحيدي، وأجاب عنها مسكويه –هذا السؤال: "سأل أبو حيان: لِمَ أحبّ الإنسانُ أن يَعرف ما جرى من ذكره بعد قيامه من مجلسه؟".
قلتُ: ثم إن مسكويه أجاب عن سؤال أبي حيان جوابًا يصلح له قول
بعض العلماء: السؤال ذكر، والجواب أُنثى، فما أتى مسكويه بشيء.
وأما أنا فكنتُ إذا ضمّني مجلسٌ مع بعض النخبة تعجّلتُ الانصراف؛ حتى أترك لهم فرصةً للحديث عني!
يا ربّ: أهلكني الناس؛ فساعدني اللهمّ حتى لا أتحنّث لصورتي في محاريب أنفس الآخرين..
منقول من هنا (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=203293)