ذو الفقار
2007-10-25, 11:08 PM
العداوة بين المسيحيين
(1) قال الله تبارك و تعالى في الآية السابعة و الثلاثين من سورة مريم ( فأختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم ) .
(2) و قال تبارك و تعالى في الآية الرابعة عشرة من سورة المائدة ( ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظاً مم به فأغرينا بينهم العداوة و البغضاء إلى يوم القيامة و سوف ينبئهم بما كانوا يصنعون ).
التفـسـيـر :
تبين الآية الأولى أن المسيحيين انقسموا أحزاباً . بعض هذه الأحزاب على حق و بعضها الآخر على ضلال .
و تبين الآية الثانية شيئين .
أولهما : أن فريقاً من المسيحيين قد نسي كثيراً من تعاليم دينهم مما كان سبباً في أن أصبح بعضهم لبعض عدواً .
و ثانيها : أن هذه العداوة لن تزول ولكنها ستستمر حتى يرث الله الأرض و من عليها .
تطابق الحقائق :
و لكي ترى مبلغ تطابق هاتين الآيتين و حقائق التاريخ يجب علينا أن نتبع سيرة المسيحية من بدء ظهورها حتى الآن و سنجد حينئذ أن هذا التاريخ يجب علينا أن نتبع سيرة المسيحية من بدء ظهورها حتى الآن و سنجد حينئذ أن هذا التاريخ لم يحد يوماً عن منطوق هاتين الآيتين بل سار على نهجهما و ترسم خطاهما فقد بدأت النصرانية في فلسطين و احتكت أول الأمر باليهودية التي اضطهدت دعاتها فرحل بعضهم إلى الإسكندرية ورحل آخرون إلى روما ؟ و قد أخذت المسيحية تنتشر في الإمبراطورية الرومانية انتشاراً سريعاً و أخذ الأباطرة في بادئ الأمر يضطهدون معتنقيها لأنها بدعوتها إلى عبادة الله كانت تحرم الرق الذي كان عماد النظام الاقتصادي الروماني ن و كذلك كانت تدعو إلى المساواة في مجتمع ساده نظام الطبقات و الإغريق في طلب الثروة و الجاه ، و لكن الاضطهاد لم يزد المسيحيين إلا انتشاراً و قوة حتى أصبح عدد المسيحيين أكثر من الوثنيين فجعلها ( قسطنطين ) دين الدولة الرسمي ، و لما تولى
( ثيودوسيوس ) أخذ يحارب الوثنية فأغلق معابدها و جعل الناس يعمدّون قسراً ، و مع ذلك فلم يلبث المسيحيون أن انقسموا فرقاً اشتد الخلاف بينها اشتداداً صحبه اضطراب في الأمن مما اضطر الأباطرة إلى التدخل بينها و مناصرة بعضها عل البعض الآخر .
انقسموا إلى ثلاثة فرق : الملكانية و النسطورية و اليعاقبة .
و الملكانيون هم اتباع أريوس الذي قال بأن المسيح مخلوق و ليس مولوداً من الأب و لذا لا يساويه في الجوهر .أما النسطوريون و هم أتباع نطور فقد قالوا عن للمسيح طبيعتين إحدهما إلهية و الثانية بشرية ، فهو بالأولى ابن الله و بالثانية ابن مريم ، وإلى ذلك يشير القرآن بقوله ( و قالت اليهود عزير ابن الله و قالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون ) .
و يعني القرآن الكريم بهذا أنهم قلدوا الديانات الوثنية القديمة في هذه العقيدة مثل
( الزردشتية و البراهمية و الهندستانية و البوذية و الرومانية و المصرية ) ، وهب الديانات التي تحوي قصة المخلص المولود من عذراء .
فقد كان المصريين يعتقدون أن ( حوريس ) ولد من الإله الأعظم ( أوزوريس ) و العذراء ( ايزس ) . كما أن الرومان كانوا يعتقدون أن الإله ( جوبيتر) أنجب
( بريسيوس ) من العذراء ( داناي ) و أنجب ( ديونيسيس ) من العذراء ( سيميل ) و أنجب (هرقل ) من العذراء ( ألكمين ) . أما في الهند فقد ولد كيرشنا في كهف بينما كانت أمه العذراء و خطيبها هاربين من غضب الملك .
و قد بلغ من تأثر المسيحية بالديانات المجوسية في هذه العقيدة أن تاريخ ولادة المسيح غير مراراً إلى إن استقر يوم 25 ديسمبر وهو اليوم الذي كان المصريون يحتفلون فيه بمولد مخلصهم (حورس ) ن و هو نفس اليوم الذي كان الفرس يحتفلون فيه بميلاد (متزا) ، كما كان هذا اليوم أحد الأعياد الدينية المماثلة في الدولة الرومانية .
و تخالف الكنيسة الشرقية الكنيسة الغربية في ذلك فتجعل يوم ميلاد المسيح اليوم السابع من يناير .
أما الحزب الثالثة وهو حزب اليعاقبة فيعتقدون أن المسيح هو الله نزل إلى الأرض ، و إلى ذلك يشير القرآن الكريم في سورة المائدة بالآية التاسعة عشرة التي تقول ( لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم ) .
و ليت الأمر اقتصر على هذا الانقسام ، بل أن الخلاف أخذ يزداد اتساعا ًو تعدداً كلما تقدمت الأيام ، ففي القرن الحادي عشر انقسمت الكنيسة إلى فرعين : الكنيسة الغربية و الكنيسة الشرقية ثم أخذ الخلاف يتسع و يتشعب و أخذت الفرق تتوالد فتنشأ منها فرق جديدة و أحزاب جديدة رغماً من الجهود العديدة التي بذلت لتوحيد الكنيسة . أسباب الانقسام :
بنيت المسيحية على دعائم أربع :
1. الإيمان بالله .
2 . الزهد .
3 . الحب و التراحم .
4 . التسامح المطلق و عدم الاعتداء حتى حين يكون دفعاً لشر .
هذه هي المبادئ الربعة التي جاءت بها المسيحية ، فقد جاءت بوحدانية خالصة و إيمان مطلق حتى كان المسيح عليه السلام إذا دعا لمريض بالشفاء قال له بعد أن يبرأ : ( شقاك إيمانك ) . غير أن اختلاط المسيحية بالوثنية أدخل فيها مبدأ تقديس الأشخاص و الأشياء ، فوجد من بين المسيحيين من ينادي بألوهية المسيح ، و أباح الكاثوليك منهم عبادة الأولياء و الصور و يشير القرآن الكريم إلى ذلك في سوري التوبة إذ يقول( اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أرباباً من دون الله و المسيح بن مريم و ما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون ، و ما صكوك الغفران يمنحها البابا للعصاة فتغفر ذنوبهم إلا أثر من آثار هذا التقديس الذي ورثته المسيحية عن الوثنية . و بذلك يكون أول يكون أول ركن من أركان المسيحية قد اختل من أساسه و هو إيمانهم بالله .
أما الزهد في المسيحية فحدث عنه و لا حرج ، فالمسيح إمام المتصوفين إذ كان يفترش الغبراء و يلتحف السماء و يتخذ القمر له مصباحاً ، ومع ذلك كان يقول :
من أغنى مني ؟
لم يكن له مسكن يأوي إليه ، و يظهر ذلك من رده على شخص قال له (: يا سيد أتبك أين تمضي ) فقال له : ( للثعالب أوجرة و لطيور السماء أوكار و أما ابن الإنسان فليس له أين يسند رأسه ) .كما أنه ضرب المثل الأعلى في الصوم فواصل الصوم أربعين يوماً لم يذق فيها طعاماً .
كان يشترط فيمن يتبعه أن يتجرد من الدنيا كتجرده فيترك كل شيء وراءه ، و يظهر ذلك من قوله لأحد من تقدم غليه : ( إن أردت أن تكون كاملاً فأذهب و بع أملاكك فيكون لك كنز في السماء و تعال اتبعني .) .
و أقول عيسى عليه السلام في السلام و في الحث على الزهد كثيرة أهمها ما ورد في صلاة المسيحيين الرئيسة ( خبزنا كفافنا أعطنا كل يوم ) و يحذر الناس من الاكتناز بقوله ( لا تكتنزوا لكم كنوزاً على الأرض حيث يفسد السوس و الصدأ و حيث ينقب السارقون و يسرقون بل اكتنزوا لكم كنوزاً في السماء ). و يحذرهم من المال بقوله ( لا بقدر أحدكم أن يخدم سيدين . لأنه إما أن يبغض الواحد و يحب الآخر أو يلازم الواحد و يحقر الآخر . لا تقدرون أن تخدموا الله والمال لذلك أقول لكم لا تهتموا لحياتكم و بما تشربون و لا لأجسادكم بما تلبسون ) .
و يبغضهم في الغنى بقوله ( الحق أقول لكم أنه يعسر أن يدخل غني ملكوت السموات و أقول لكم إن مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله ).
هذه نظرة المسيحية في الحياة نظرة كلها تصوف و احتقار للمادة و بعد عن النعيم و الترف و تحذر من المال لأنه العدو الأكبر لإنسان .و لكن هذا الركن من أركان المسيحية ما لبث أن انهار هو أيضاً فقد انصرف دعاة المسيحية في الشؤون الدينية و انغمسوا في أعمال السياسة و الحرب و تناسوا أقوال المسيح عليه السلام ( أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله ) فنازعوا الملوك ممالكهم و سيادتهم و تحايلوا على اصطياد المال بكل طريق و ما و ما كانت تحصل عليه من أملاكها الواسعة كان الباباوات يجمعون المال بأساليب شتى كبيع الوظائف الدينية و حل عقود الزواج و بيع صكوك الغفران . يشير القرآن إلى ذلك حيث يقول في سورة التوبة ( يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار و الرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل و يصدون عن سبيل الله ).
و قد أخذ الجزء الأكبر من إيراد الكنيسة يتسرب إلى جيوب الأساقفة ورؤساء الأديرة الذين ألقوا عبء القيام بأعمالهم الدينية على عاتق صغار القسسس نظير أجور بخسة و قد تأثرت الكنيسة بأسرها مساوئ رعاتها حتى أن الأديرة التي نشأت فيما مضى لقمع الشهوة الدنيوية و نشر الهدى و الصلاح قد تحولت إلى بؤرات للفساد و الجهل و انتقل الفساد من رجال الدين على المجتمع بصورة أعم .أما المبدأ الثالث الذي امتازت به دعوة المسيحية و هو الحب و التراحم الذي يتمثل في أعلى درجاته في قول المسيح عليه السلام : ( أحبوا أعداءكم . باركوا لاعنيكم . أحسنوا إلى من أساء إليكم ) فقد تلاشى كذلك نتيجة لتعلقهم بالمادة و تكالبهم عليها و انعدام الصلة بينهم و بين الله . و كذلك نسي المسيحيون ما دعا إليه المسيح عليه السلام من عدم الاعتداء و التسامح المطلق بقوله : ( من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر و من سلبك قميصك فأعط ه رداءك ) .
نسوه لأنهم كلما انغمسوا في المادة باعدت بينهم و بين الله فتعلقوا باللذات و غمرتهم الشهوات و كثرت بينهم الإحن و قادهم التكالب على الدنيا إلى الحروب و الاعتداءات .
العداوة بينهم و ازديادها على ممر الأيام :
اختلف المسيحيون أول ما اختلفوا على شخصية المسيح فنشأت بينهم أحزاب مختلفة لم يقتصر الخلاف بينها على خلاف في النظريات و العقائد و الطقوس بل تعداه إلى فتن دموية قامت بين تلك الطوائف ، و من أمثال تلك الفظائع التي تقشعر منها الأبدان ما ارتكبه الرومان مع أقباط مصر ، فقد كان الرومان على المذهب الملكاني و المصريون معظمهم منن اليعاقبة و عقب استرداد هرقل لمصر من الفرس حاول أن يوفق بين المذهبين فأبى القبط ذلك فلجأ الرومان إلى القوة و كان جزاء من يرفض تغيير عقيدته أن يجلد أو يضرب أو يلقى في السجن حتى يلقى حتفه وكان القساوسة من القبط يقتلون او يشردون . أما بطرقهم بنيامين فقد اختفى و طلبه الرومان فلم يثروا له على أثر . و قد استمر هذا الإرهاب عشر سنين فتن فيها الناس عن عقيدتهم و أخذ الباقون يظهرون غير ما يبطنون تفادياً للعقاب و نستطيع أن نتصور ما كان في قلوب الفريقين من حقد إذا نحن تأملنا قليلاً هذه الحادثة التي يرويها التاريخ فقد ذكر المؤرخون أن الروم حينما اتفقوا مع المسلمين على تسليم حصن بابليون أعطاهم المسلمون مهلة ثلاثة أيام لإخلاء الحصن و كان آخر أيامهم في ذلك اليوم هو يوم عيد الفصح و لكن نكبتهم هذه و حرمة ذلك اليوم لم تمنعهم من إرواء غليلهم و التنكيل بأسرى الأقباط الذين سجنوهم من قبل في الحصن فسحبوهم من سجونهم و ضربوهم بالسياط و قطع الجند أيدهم ؟
فأي فظاعة أشد من هذه الفظاعة و أي قسوة أبلغ من هذه القسوة وهل ذلك باتباع دين نبي كله على الحب و التراحم و التسامح ؟ .
و ليت المر اقتصر على مصر فقط فان أباطرة الدولة الرومانية الشرقية اضطهدوا النسطوريين أيضاً في آسيا الصغرى و الشام و فلسطين مما كان سببا في التجاء علمائهم إلى العراق و فارس .
و تظهر البغضاء الكامنة في قلوب المسيحيين بعضهم لبعض بوضوح ف بأيام الحروب الصليبية فعلى الرغم من وحدة غرضهم و هو القضاء على المسلمين و على الرغم من موجة التحمس الديني إلى سادت أوروبا في ذلك الوقت فان سيرتها من أولها لنهايتها تدل على انعدام الإخلاص و أول مظهر يدل على ذلك هو تغرير إمبراطور القسطنطينية بحملة بطرس الناسك و عمله على التخلص منها لما كانت تتطلبه من تموينات وما كان سيلازم بقاء ثلاثمائة ألف محارب من اختلال في الأمن في عاصمة ملكه فسهل لهم القبور إلى الضفة الأخرى من البسفور فكانوا لقمة سائغة ابتلعها السلجوقيون بدون مشقة إذ أبادوا الحملة عن آخرها . فبما نفسر عمل الإمبراطور الذي أخذ يستغيث بمسيحيي أوربا لإنقاذه من السلاجقة حتى إذا خفوا لنجدته عمل على التخلص منهم فكان من أسباب هلاكهم و الغدر .و من أظهر الأمثلة على انعدام الإخلاص بين المسيحيين بعضهم على بعض قصة الحروب الصليبية الثالثة فقد أدى الخلاف بين ريتشارد قلب السد ملك إنجلترا و بين فيليب أغسطس ملك فرنسا على عودة ملك فرنسا على بلاده و ترك ريتشارد وحيداً ليحارب صلاح الدين و زاد الطين بلة أن فيليب اخذ يدس الدسائس لريتشارد بالاستعانة ببعض ملوك أوربا كما أخذ أخوا ريتشارد في إنجلترا يعمل لاغتصاب العرش منه و كان من جراء ذلك أن حرم ريتشارد ثمن انتصاراته و اضطر على العودة و إلى عقد صلح مع صلا ح الدين .و ليت الأمر اقتصر على هذا فان هذا الفارس الصليبي المغوار الذي أحرز انتصارات عظيمة في الشرق لقي من المسيحيين جزاء سنمار . فبدلاً من أن يحتفلوا به و يكرموه كبطل من أبطالهم قبضوا عليه و سجنوه .
و لقد كانت حركة الإصلاح الديني فيما بين القرن الخامس عشر و السابع عشر أعنف حركة دينية شهدها التاريخ فقد أدت الخلافات الدينية إلى مشاحنات و مطاحنات و اضطهادات كانت أشد ما عرف من نوعها في تاريخ الأديان و لكي نرى مبلغ ما أثاره من عداوة يجب أن نستعرض أهم مظاهرها و هي :
(1) حرب الثلاثين عاماً و قد استمرت من 1618 على 1648 و كان تأثيرها في ألمانيا تأثيراً سيئاً إذ ظلت ميداناً للحرب فريسة للنهب مدة ثلاثين سنة هلك فيها نصف سكانها تقريباً و اندثرت فيها معالم الصناعة و التجارة و الفنون .
(2) اضطهاد هيجونوت فرنسا :
كان بروتستانت فرنسا يدعون الهيجونوت و كانوا أقلية ضئيلة في وسط أغلبية كاثوليكية عظيمة و لذلك كان تاريخهم فيها حافلاً بالاضطهادات و الحروب و المذابح التي من أشهرها ( سان برثلميوا) في 24 أغسطس سنة 1572 غذ بينما كان ( كوليني ) زعيم الهيحونوت و أحد وزراء الملك شارل التاسع في ذلك الوقت ماراً أطلق عليه رجل الرصاص فأصابه إصابة غير قاتلة فعزم الملك على الانتقام فخاف الكاثوليك عاقبة التحقيق و انفضاح أمرهم فبيتوا يوم ( عيد القديس _ ثلميو) مذبحة هائلة ووضعوا علامات على بيوت الهيجونوت و انتقل الخبر من باريس إلى الأقاليم فقلدوها و كانت النتيجة أن قتل من الهيجونوت الفا نفس في باريس و ثمانية آلاف في الأقاليم و حينما تولى رشيليو مقاليد الأمور في فرنسا عمل على إخضاع الهيجوند و كانوا إذ ذاك يقيمون في مدن محصنة فاستلزم إخضاعهم حروباً طويلة الأمد.
(3) محاكم التفتيش :
و هي محاكم لم ير التاريخ لها مثيلاً كان شعارها القسوة التي لا رحمة فيها و الاضطهاد الذي لا هوادة فيه لأعداء الكاثوليك و كانت تستمد سلطتها من البابا مباشرة و لا دخل للحكومات في تصرفاتها اللهم إلا القيام بتنفيذ أحكامها . كانت جسامتها سرية و كانت تتجسس بكل الطرق وتقبض على من تشاء و تعذب المقبوض عليهم بما تراه حتى تكرهم على الاعتراف بإلحاد و حينئذ توقع عليهم عقوبة الإحراق أو السجن المؤبد و مصادرة الأملاك حتى التائبون منهم يسجنون طول حياتهم تطهيراً لهم من جريمة الإلحاد و كانت هذه المحاكم تراقب المطبوعات و تحرق ما لا يتفق منها مع المذهب الكاثوليكي . و يذكر التاريخ هذه المحاكم كأعظم نقطة سوداء في تاريخ المسيحية لما أجرته على الشعوب البريئة من الويلات .
(4) مجلس الدم :
لما كثر في سكان الأرض المنخفضة مذهب كلفن أشتد شارل في معاملتهم و أقام محاكم التفتيش بها فأحرقت عدداً من البروتستانت و لما خلفه ابنه فليب الثاني ملك أسبانيا استمر في سياسة الاضطهاد و أخذت الجنود تتحرش بالأهالي فقامت الثورة و أنقض الناس على الكنائس الكاثوليكية و كسروا ما فيها من تماثيل و صور فما كان من فليب إلا أن أرسل (دوق الفا ) على رأس جيش عظيم من الأسبان لمعاقبة الثور فكون المجلس المعروف بمجلس الدم لكثرة ما اهرقه من الدماء و قد اقترف ( الفا ) من الفظائع ما يندر وجود مثله في التاريخ .
ففي الخمسة و الأربعين سنة التي مرت من هذا القرن حدثت في أوربا وحدها الحروب التالية :
(1) الحرب العالمية الأولى .
(2) الحرب الأسبانية الأهلية .
(3) الحرب اليونانية الإيطالية .
(4) الحرب العالمية الثانية .
(5) الحرب الروسية الفنلندية .
أما الحروب التي حدثت بين المسيحيين في غير أوربا فأهما الحروب التي كانت تنشب من حين لآخر بين جمهوريات أمريكا الجنوبية و أهمها :
(1) الحرب بين البرازيل و الأرجنتين 1851 1852م.
(2) الحرب بين باراجوي و بولفيا 1922 1925م.
(3) الحرب بين باراجواي و البرازيل و أرجواى 1864 1870 م
(4) الحرب بين شيلي من جهة و بين بوليفيا و بيرو1879 1883 م .
(5) الحرب بين بيرو و كولومبيا 1932 1934 م .
(6) الحرب بين جواتمالا من جهة و السلفادور و هندوراس و كوستاركا من جهة أخرى 1906م.
(7) الحرب بين نيكارجوا وهوندوراس 1907م .
كذلك الحرب بين أمريكا و المكسيك 1846م 1848م .
و لو أنك أردت أن تتخذ القرن التاسع مقياساً نقيس به مقدار ما يكنه المسيحيون بعضهم لبعض من عداوة كما دل عليه القرآن الكريم لوجدت فيه من الحروب و الثورات ما يصعب تتبعه و حصره و أبرز حروب هذا القرن الحروب النابليونية التي شملت أوربا كلها من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى شمال أوربا كلها من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب و لو أمك رجعت إلى ما سبقه من القرون لوجدت أن تاريخ معظم المسيحيين مخضب بالدماء لا أثر للسلم أو التسامح فيه ومن حروبهم المشهورة حرب السنين السبع التي امتدت من سنة 1756 إلى سنة 1763 م هي حرب من سلسلة الحروب التي كثرت في القرن الثامن عشر ومما يستحق الإشارة إليه أيضاً من تلك الحروب حرب المائة عام بين إنجلترا و فرنسا التي ابتدأت سنة 1338 ة استمرت مستعرة ما يزيد على قرن من الزمان .
الصدر:
كتاب القرآن و العلم تأليف أحمد محمد سليمان
(1) قال الله تبارك و تعالى في الآية السابعة و الثلاثين من سورة مريم ( فأختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم ) .
(2) و قال تبارك و تعالى في الآية الرابعة عشرة من سورة المائدة ( ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظاً مم به فأغرينا بينهم العداوة و البغضاء إلى يوم القيامة و سوف ينبئهم بما كانوا يصنعون ).
التفـسـيـر :
تبين الآية الأولى أن المسيحيين انقسموا أحزاباً . بعض هذه الأحزاب على حق و بعضها الآخر على ضلال .
و تبين الآية الثانية شيئين .
أولهما : أن فريقاً من المسيحيين قد نسي كثيراً من تعاليم دينهم مما كان سبباً في أن أصبح بعضهم لبعض عدواً .
و ثانيها : أن هذه العداوة لن تزول ولكنها ستستمر حتى يرث الله الأرض و من عليها .
تطابق الحقائق :
و لكي ترى مبلغ تطابق هاتين الآيتين و حقائق التاريخ يجب علينا أن نتبع سيرة المسيحية من بدء ظهورها حتى الآن و سنجد حينئذ أن هذا التاريخ يجب علينا أن نتبع سيرة المسيحية من بدء ظهورها حتى الآن و سنجد حينئذ أن هذا التاريخ لم يحد يوماً عن منطوق هاتين الآيتين بل سار على نهجهما و ترسم خطاهما فقد بدأت النصرانية في فلسطين و احتكت أول الأمر باليهودية التي اضطهدت دعاتها فرحل بعضهم إلى الإسكندرية ورحل آخرون إلى روما ؟ و قد أخذت المسيحية تنتشر في الإمبراطورية الرومانية انتشاراً سريعاً و أخذ الأباطرة في بادئ الأمر يضطهدون معتنقيها لأنها بدعوتها إلى عبادة الله كانت تحرم الرق الذي كان عماد النظام الاقتصادي الروماني ن و كذلك كانت تدعو إلى المساواة في مجتمع ساده نظام الطبقات و الإغريق في طلب الثروة و الجاه ، و لكن الاضطهاد لم يزد المسيحيين إلا انتشاراً و قوة حتى أصبح عدد المسيحيين أكثر من الوثنيين فجعلها ( قسطنطين ) دين الدولة الرسمي ، و لما تولى
( ثيودوسيوس ) أخذ يحارب الوثنية فأغلق معابدها و جعل الناس يعمدّون قسراً ، و مع ذلك فلم يلبث المسيحيون أن انقسموا فرقاً اشتد الخلاف بينها اشتداداً صحبه اضطراب في الأمن مما اضطر الأباطرة إلى التدخل بينها و مناصرة بعضها عل البعض الآخر .
انقسموا إلى ثلاثة فرق : الملكانية و النسطورية و اليعاقبة .
و الملكانيون هم اتباع أريوس الذي قال بأن المسيح مخلوق و ليس مولوداً من الأب و لذا لا يساويه في الجوهر .أما النسطوريون و هم أتباع نطور فقد قالوا عن للمسيح طبيعتين إحدهما إلهية و الثانية بشرية ، فهو بالأولى ابن الله و بالثانية ابن مريم ، وإلى ذلك يشير القرآن بقوله ( و قالت اليهود عزير ابن الله و قالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون ) .
و يعني القرآن الكريم بهذا أنهم قلدوا الديانات الوثنية القديمة في هذه العقيدة مثل
( الزردشتية و البراهمية و الهندستانية و البوذية و الرومانية و المصرية ) ، وهب الديانات التي تحوي قصة المخلص المولود من عذراء .
فقد كان المصريين يعتقدون أن ( حوريس ) ولد من الإله الأعظم ( أوزوريس ) و العذراء ( ايزس ) . كما أن الرومان كانوا يعتقدون أن الإله ( جوبيتر) أنجب
( بريسيوس ) من العذراء ( داناي ) و أنجب ( ديونيسيس ) من العذراء ( سيميل ) و أنجب (هرقل ) من العذراء ( ألكمين ) . أما في الهند فقد ولد كيرشنا في كهف بينما كانت أمه العذراء و خطيبها هاربين من غضب الملك .
و قد بلغ من تأثر المسيحية بالديانات المجوسية في هذه العقيدة أن تاريخ ولادة المسيح غير مراراً إلى إن استقر يوم 25 ديسمبر وهو اليوم الذي كان المصريون يحتفلون فيه بمولد مخلصهم (حورس ) ن و هو نفس اليوم الذي كان الفرس يحتفلون فيه بميلاد (متزا) ، كما كان هذا اليوم أحد الأعياد الدينية المماثلة في الدولة الرومانية .
و تخالف الكنيسة الشرقية الكنيسة الغربية في ذلك فتجعل يوم ميلاد المسيح اليوم السابع من يناير .
أما الحزب الثالثة وهو حزب اليعاقبة فيعتقدون أن المسيح هو الله نزل إلى الأرض ، و إلى ذلك يشير القرآن الكريم في سورة المائدة بالآية التاسعة عشرة التي تقول ( لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم ) .
و ليت الأمر اقتصر على هذا الانقسام ، بل أن الخلاف أخذ يزداد اتساعا ًو تعدداً كلما تقدمت الأيام ، ففي القرن الحادي عشر انقسمت الكنيسة إلى فرعين : الكنيسة الغربية و الكنيسة الشرقية ثم أخذ الخلاف يتسع و يتشعب و أخذت الفرق تتوالد فتنشأ منها فرق جديدة و أحزاب جديدة رغماً من الجهود العديدة التي بذلت لتوحيد الكنيسة . أسباب الانقسام :
بنيت المسيحية على دعائم أربع :
1. الإيمان بالله .
2 . الزهد .
3 . الحب و التراحم .
4 . التسامح المطلق و عدم الاعتداء حتى حين يكون دفعاً لشر .
هذه هي المبادئ الربعة التي جاءت بها المسيحية ، فقد جاءت بوحدانية خالصة و إيمان مطلق حتى كان المسيح عليه السلام إذا دعا لمريض بالشفاء قال له بعد أن يبرأ : ( شقاك إيمانك ) . غير أن اختلاط المسيحية بالوثنية أدخل فيها مبدأ تقديس الأشخاص و الأشياء ، فوجد من بين المسيحيين من ينادي بألوهية المسيح ، و أباح الكاثوليك منهم عبادة الأولياء و الصور و يشير القرآن الكريم إلى ذلك في سوري التوبة إذ يقول( اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أرباباً من دون الله و المسيح بن مريم و ما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون ، و ما صكوك الغفران يمنحها البابا للعصاة فتغفر ذنوبهم إلا أثر من آثار هذا التقديس الذي ورثته المسيحية عن الوثنية . و بذلك يكون أول يكون أول ركن من أركان المسيحية قد اختل من أساسه و هو إيمانهم بالله .
أما الزهد في المسيحية فحدث عنه و لا حرج ، فالمسيح إمام المتصوفين إذ كان يفترش الغبراء و يلتحف السماء و يتخذ القمر له مصباحاً ، ومع ذلك كان يقول :
من أغنى مني ؟
لم يكن له مسكن يأوي إليه ، و يظهر ذلك من رده على شخص قال له (: يا سيد أتبك أين تمضي ) فقال له : ( للثعالب أوجرة و لطيور السماء أوكار و أما ابن الإنسان فليس له أين يسند رأسه ) .كما أنه ضرب المثل الأعلى في الصوم فواصل الصوم أربعين يوماً لم يذق فيها طعاماً .
كان يشترط فيمن يتبعه أن يتجرد من الدنيا كتجرده فيترك كل شيء وراءه ، و يظهر ذلك من قوله لأحد من تقدم غليه : ( إن أردت أن تكون كاملاً فأذهب و بع أملاكك فيكون لك كنز في السماء و تعال اتبعني .) .
و أقول عيسى عليه السلام في السلام و في الحث على الزهد كثيرة أهمها ما ورد في صلاة المسيحيين الرئيسة ( خبزنا كفافنا أعطنا كل يوم ) و يحذر الناس من الاكتناز بقوله ( لا تكتنزوا لكم كنوزاً على الأرض حيث يفسد السوس و الصدأ و حيث ينقب السارقون و يسرقون بل اكتنزوا لكم كنوزاً في السماء ). و يحذرهم من المال بقوله ( لا بقدر أحدكم أن يخدم سيدين . لأنه إما أن يبغض الواحد و يحب الآخر أو يلازم الواحد و يحقر الآخر . لا تقدرون أن تخدموا الله والمال لذلك أقول لكم لا تهتموا لحياتكم و بما تشربون و لا لأجسادكم بما تلبسون ) .
و يبغضهم في الغنى بقوله ( الحق أقول لكم أنه يعسر أن يدخل غني ملكوت السموات و أقول لكم إن مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله ).
هذه نظرة المسيحية في الحياة نظرة كلها تصوف و احتقار للمادة و بعد عن النعيم و الترف و تحذر من المال لأنه العدو الأكبر لإنسان .و لكن هذا الركن من أركان المسيحية ما لبث أن انهار هو أيضاً فقد انصرف دعاة المسيحية في الشؤون الدينية و انغمسوا في أعمال السياسة و الحرب و تناسوا أقوال المسيح عليه السلام ( أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله ) فنازعوا الملوك ممالكهم و سيادتهم و تحايلوا على اصطياد المال بكل طريق و ما و ما كانت تحصل عليه من أملاكها الواسعة كان الباباوات يجمعون المال بأساليب شتى كبيع الوظائف الدينية و حل عقود الزواج و بيع صكوك الغفران . يشير القرآن إلى ذلك حيث يقول في سورة التوبة ( يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار و الرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل و يصدون عن سبيل الله ).
و قد أخذ الجزء الأكبر من إيراد الكنيسة يتسرب إلى جيوب الأساقفة ورؤساء الأديرة الذين ألقوا عبء القيام بأعمالهم الدينية على عاتق صغار القسسس نظير أجور بخسة و قد تأثرت الكنيسة بأسرها مساوئ رعاتها حتى أن الأديرة التي نشأت فيما مضى لقمع الشهوة الدنيوية و نشر الهدى و الصلاح قد تحولت إلى بؤرات للفساد و الجهل و انتقل الفساد من رجال الدين على المجتمع بصورة أعم .أما المبدأ الثالث الذي امتازت به دعوة المسيحية و هو الحب و التراحم الذي يتمثل في أعلى درجاته في قول المسيح عليه السلام : ( أحبوا أعداءكم . باركوا لاعنيكم . أحسنوا إلى من أساء إليكم ) فقد تلاشى كذلك نتيجة لتعلقهم بالمادة و تكالبهم عليها و انعدام الصلة بينهم و بين الله . و كذلك نسي المسيحيون ما دعا إليه المسيح عليه السلام من عدم الاعتداء و التسامح المطلق بقوله : ( من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر و من سلبك قميصك فأعط ه رداءك ) .
نسوه لأنهم كلما انغمسوا في المادة باعدت بينهم و بين الله فتعلقوا باللذات و غمرتهم الشهوات و كثرت بينهم الإحن و قادهم التكالب على الدنيا إلى الحروب و الاعتداءات .
العداوة بينهم و ازديادها على ممر الأيام :
اختلف المسيحيون أول ما اختلفوا على شخصية المسيح فنشأت بينهم أحزاب مختلفة لم يقتصر الخلاف بينها على خلاف في النظريات و العقائد و الطقوس بل تعداه إلى فتن دموية قامت بين تلك الطوائف ، و من أمثال تلك الفظائع التي تقشعر منها الأبدان ما ارتكبه الرومان مع أقباط مصر ، فقد كان الرومان على المذهب الملكاني و المصريون معظمهم منن اليعاقبة و عقب استرداد هرقل لمصر من الفرس حاول أن يوفق بين المذهبين فأبى القبط ذلك فلجأ الرومان إلى القوة و كان جزاء من يرفض تغيير عقيدته أن يجلد أو يضرب أو يلقى في السجن حتى يلقى حتفه وكان القساوسة من القبط يقتلون او يشردون . أما بطرقهم بنيامين فقد اختفى و طلبه الرومان فلم يثروا له على أثر . و قد استمر هذا الإرهاب عشر سنين فتن فيها الناس عن عقيدتهم و أخذ الباقون يظهرون غير ما يبطنون تفادياً للعقاب و نستطيع أن نتصور ما كان في قلوب الفريقين من حقد إذا نحن تأملنا قليلاً هذه الحادثة التي يرويها التاريخ فقد ذكر المؤرخون أن الروم حينما اتفقوا مع المسلمين على تسليم حصن بابليون أعطاهم المسلمون مهلة ثلاثة أيام لإخلاء الحصن و كان آخر أيامهم في ذلك اليوم هو يوم عيد الفصح و لكن نكبتهم هذه و حرمة ذلك اليوم لم تمنعهم من إرواء غليلهم و التنكيل بأسرى الأقباط الذين سجنوهم من قبل في الحصن فسحبوهم من سجونهم و ضربوهم بالسياط و قطع الجند أيدهم ؟
فأي فظاعة أشد من هذه الفظاعة و أي قسوة أبلغ من هذه القسوة وهل ذلك باتباع دين نبي كله على الحب و التراحم و التسامح ؟ .
و ليت المر اقتصر على مصر فقط فان أباطرة الدولة الرومانية الشرقية اضطهدوا النسطوريين أيضاً في آسيا الصغرى و الشام و فلسطين مما كان سببا في التجاء علمائهم إلى العراق و فارس .
و تظهر البغضاء الكامنة في قلوب المسيحيين بعضهم لبعض بوضوح ف بأيام الحروب الصليبية فعلى الرغم من وحدة غرضهم و هو القضاء على المسلمين و على الرغم من موجة التحمس الديني إلى سادت أوروبا في ذلك الوقت فان سيرتها من أولها لنهايتها تدل على انعدام الإخلاص و أول مظهر يدل على ذلك هو تغرير إمبراطور القسطنطينية بحملة بطرس الناسك و عمله على التخلص منها لما كانت تتطلبه من تموينات وما كان سيلازم بقاء ثلاثمائة ألف محارب من اختلال في الأمن في عاصمة ملكه فسهل لهم القبور إلى الضفة الأخرى من البسفور فكانوا لقمة سائغة ابتلعها السلجوقيون بدون مشقة إذ أبادوا الحملة عن آخرها . فبما نفسر عمل الإمبراطور الذي أخذ يستغيث بمسيحيي أوربا لإنقاذه من السلاجقة حتى إذا خفوا لنجدته عمل على التخلص منهم فكان من أسباب هلاكهم و الغدر .و من أظهر الأمثلة على انعدام الإخلاص بين المسيحيين بعضهم على بعض قصة الحروب الصليبية الثالثة فقد أدى الخلاف بين ريتشارد قلب السد ملك إنجلترا و بين فيليب أغسطس ملك فرنسا على عودة ملك فرنسا على بلاده و ترك ريتشارد وحيداً ليحارب صلاح الدين و زاد الطين بلة أن فيليب اخذ يدس الدسائس لريتشارد بالاستعانة ببعض ملوك أوربا كما أخذ أخوا ريتشارد في إنجلترا يعمل لاغتصاب العرش منه و كان من جراء ذلك أن حرم ريتشارد ثمن انتصاراته و اضطر على العودة و إلى عقد صلح مع صلا ح الدين .و ليت الأمر اقتصر على هذا فان هذا الفارس الصليبي المغوار الذي أحرز انتصارات عظيمة في الشرق لقي من المسيحيين جزاء سنمار . فبدلاً من أن يحتفلوا به و يكرموه كبطل من أبطالهم قبضوا عليه و سجنوه .
و لقد كانت حركة الإصلاح الديني فيما بين القرن الخامس عشر و السابع عشر أعنف حركة دينية شهدها التاريخ فقد أدت الخلافات الدينية إلى مشاحنات و مطاحنات و اضطهادات كانت أشد ما عرف من نوعها في تاريخ الأديان و لكي نرى مبلغ ما أثاره من عداوة يجب أن نستعرض أهم مظاهرها و هي :
(1) حرب الثلاثين عاماً و قد استمرت من 1618 على 1648 و كان تأثيرها في ألمانيا تأثيراً سيئاً إذ ظلت ميداناً للحرب فريسة للنهب مدة ثلاثين سنة هلك فيها نصف سكانها تقريباً و اندثرت فيها معالم الصناعة و التجارة و الفنون .
(2) اضطهاد هيجونوت فرنسا :
كان بروتستانت فرنسا يدعون الهيجونوت و كانوا أقلية ضئيلة في وسط أغلبية كاثوليكية عظيمة و لذلك كان تاريخهم فيها حافلاً بالاضطهادات و الحروب و المذابح التي من أشهرها ( سان برثلميوا) في 24 أغسطس سنة 1572 غذ بينما كان ( كوليني ) زعيم الهيحونوت و أحد وزراء الملك شارل التاسع في ذلك الوقت ماراً أطلق عليه رجل الرصاص فأصابه إصابة غير قاتلة فعزم الملك على الانتقام فخاف الكاثوليك عاقبة التحقيق و انفضاح أمرهم فبيتوا يوم ( عيد القديس _ ثلميو) مذبحة هائلة ووضعوا علامات على بيوت الهيجونوت و انتقل الخبر من باريس إلى الأقاليم فقلدوها و كانت النتيجة أن قتل من الهيجونوت الفا نفس في باريس و ثمانية آلاف في الأقاليم و حينما تولى رشيليو مقاليد الأمور في فرنسا عمل على إخضاع الهيجوند و كانوا إذ ذاك يقيمون في مدن محصنة فاستلزم إخضاعهم حروباً طويلة الأمد.
(3) محاكم التفتيش :
و هي محاكم لم ير التاريخ لها مثيلاً كان شعارها القسوة التي لا رحمة فيها و الاضطهاد الذي لا هوادة فيه لأعداء الكاثوليك و كانت تستمد سلطتها من البابا مباشرة و لا دخل للحكومات في تصرفاتها اللهم إلا القيام بتنفيذ أحكامها . كانت جسامتها سرية و كانت تتجسس بكل الطرق وتقبض على من تشاء و تعذب المقبوض عليهم بما تراه حتى تكرهم على الاعتراف بإلحاد و حينئذ توقع عليهم عقوبة الإحراق أو السجن المؤبد و مصادرة الأملاك حتى التائبون منهم يسجنون طول حياتهم تطهيراً لهم من جريمة الإلحاد و كانت هذه المحاكم تراقب المطبوعات و تحرق ما لا يتفق منها مع المذهب الكاثوليكي . و يذكر التاريخ هذه المحاكم كأعظم نقطة سوداء في تاريخ المسيحية لما أجرته على الشعوب البريئة من الويلات .
(4) مجلس الدم :
لما كثر في سكان الأرض المنخفضة مذهب كلفن أشتد شارل في معاملتهم و أقام محاكم التفتيش بها فأحرقت عدداً من البروتستانت و لما خلفه ابنه فليب الثاني ملك أسبانيا استمر في سياسة الاضطهاد و أخذت الجنود تتحرش بالأهالي فقامت الثورة و أنقض الناس على الكنائس الكاثوليكية و كسروا ما فيها من تماثيل و صور فما كان من فليب إلا أن أرسل (دوق الفا ) على رأس جيش عظيم من الأسبان لمعاقبة الثور فكون المجلس المعروف بمجلس الدم لكثرة ما اهرقه من الدماء و قد اقترف ( الفا ) من الفظائع ما يندر وجود مثله في التاريخ .
ففي الخمسة و الأربعين سنة التي مرت من هذا القرن حدثت في أوربا وحدها الحروب التالية :
(1) الحرب العالمية الأولى .
(2) الحرب الأسبانية الأهلية .
(3) الحرب اليونانية الإيطالية .
(4) الحرب العالمية الثانية .
(5) الحرب الروسية الفنلندية .
أما الحروب التي حدثت بين المسيحيين في غير أوربا فأهما الحروب التي كانت تنشب من حين لآخر بين جمهوريات أمريكا الجنوبية و أهمها :
(1) الحرب بين البرازيل و الأرجنتين 1851 1852م.
(2) الحرب بين باراجوي و بولفيا 1922 1925م.
(3) الحرب بين باراجواي و البرازيل و أرجواى 1864 1870 م
(4) الحرب بين شيلي من جهة و بين بوليفيا و بيرو1879 1883 م .
(5) الحرب بين بيرو و كولومبيا 1932 1934 م .
(6) الحرب بين جواتمالا من جهة و السلفادور و هندوراس و كوستاركا من جهة أخرى 1906م.
(7) الحرب بين نيكارجوا وهوندوراس 1907م .
كذلك الحرب بين أمريكا و المكسيك 1846م 1848م .
و لو أنك أردت أن تتخذ القرن التاسع مقياساً نقيس به مقدار ما يكنه المسيحيون بعضهم لبعض من عداوة كما دل عليه القرآن الكريم لوجدت فيه من الحروب و الثورات ما يصعب تتبعه و حصره و أبرز حروب هذا القرن الحروب النابليونية التي شملت أوربا كلها من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى شمال أوربا كلها من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب و لو أمك رجعت إلى ما سبقه من القرون لوجدت أن تاريخ معظم المسيحيين مخضب بالدماء لا أثر للسلم أو التسامح فيه ومن حروبهم المشهورة حرب السنين السبع التي امتدت من سنة 1756 إلى سنة 1763 م هي حرب من سلسلة الحروب التي كثرت في القرن الثامن عشر ومما يستحق الإشارة إليه أيضاً من تلك الحروب حرب المائة عام بين إنجلترا و فرنسا التي ابتدأت سنة 1338 ة استمرت مستعرة ما يزيد على قرن من الزمان .
الصدر:
كتاب القرآن و العلم تأليف أحمد محمد سليمان