سيل الحق المتدفق
2013-08-25, 10:18 PM
كيف بدأت المأساة ؟ ! كانت الشرطة العسكرية قد أطلقت يدها في الشعب المصري وكان شمس بدران ورجاله يجمعون في أيديهم كل السلطات طبعا في ظل الطاغية الأكبر جمال عبد الناصر وبعلمه ورضاه بل وتوجيهاته ولا يقبل عقل أي إنسان أن شمس بدران كان أقوى من جمال عبد الناصر. . شمس بدران كان أحد كلاب الحراسة المخلصين لجمال عبد الناصر. . وبدأ تنفيذ المؤامرة المبيتة . لسحق الإخوان المسلمين وكما قلت لما اكتشف تنظيم للإخوان المسلمين وكان ذلك بمثابة الضوء الأخضر للبدء في المجزرة الهمجية البربرية التي أقيمت ليس فقط للإخوان بل لكل من يريد الطغاة أن يسحقوهم . . وكان السيد نزيلي أحد أبناء قريتي عضوا في التنظيم وذهب رجال الشرطة العسكرية للقبض عليه . . وعندما وصلوا إلى منزل السيد نزيلي للقبض عليه فلم يجدوه . . ووجدوا أخاه عبد الحميد نزيلي وأتركه يروي ما حدث . . يقول عبد الحميد :
" كان ذلك عند غروب الشمس يوم 21 أغسطس سنة 1965 وكنت واقفا أمام منزلنا . . وإذا بثمانية رجال مفتولي العضلات مفتوحي الصدور يلبسون قمصانا على اللحم ! ! . . وبنطلونات ضيقة دخلوا حارتنا ووقفوا أمامي وسألوني عن أخي السيد نزيلي الأخصائي الاجتماعي . . قلت لهم :
_ " تفضلوا . . أنا أخوه " .
وفتحت لهم الباب وأجلستهم في حجرة الضيوف وعملت لهم شايا ثم قلت لهم :
_ " إن أخي في القاهرة . . ولكنه لن يتأخر كثيرا وسوف يحضر بعد قليل " .
فجأة وجدت أثنين منهم وقفا على باب البيت واثنين آخرين اقتحما المنزل وصعدا إلى الدور الثاني حيث زوجة أخي " العروس " التي لم يمض على زفافها إلا تسعة أيام . . فوقفت دهشا وقلقا وقلت لهم :
_ من أنتم ؟ وماذا تريدون ؟
_ فتقدم مني أحدهم شاهرا مسدسه ووضعه في بطني وهددني قائلا :
_ إذا تكلمت سأفرغ المسدس في بطنك ! ! .
قلت لهم :
_ " من حقي إن أعرف من أنتم ؟ ! . . وما1ا تريدون ؟ ! . . " .
فجأة وجدت نفسي ملقى على الأرض . . وقفت بسرعة وجريت إلى صالة البيت . . فلحق بي اثنان منهم شلا حركتي وجراني إلى الخارج فأخذت أصيح : " أنتم لصوص . . ماذا تريدون مني ؟ ! وزاد صراخي . . فخرج الناس من البيوت يستطلعون الخبر . . ازدحم الناس من حولي يسألون في دهشة ولا جواب إلا صراخي : حرامية حرامية ! وبدءوا يسيرون في شارع وسط البلد وتقدم بعض شباب القرية ليخلصوني من أيديهم فأخرج واحد من الرجال الثمانية مسدسه وأطلق الرصاص في الهواء للإرهاب . . واستمروا يجرونني على الأرض والناس يخرجون من بيوتهم وطلقات الرصاص تتوالى . . وعلى بعد أمتار من ورائي كانت زوجة أخي " العروس " يجرونها هي أيضا وصرخات استغاثتها تتوالى . . لقد ظننت في أول الأمر أنهم جاءوا لخطف زوجة أخي . . وحتى هذه اللحظة لا أعرف أنهم من رجال الشرطة العسكرية لأنهم كانوا يرتدون الملابس المدنية ولم يأت معهم خفير من عند العمدة ولا عسكري بوليس من النقطة كما أنهم لم يذهبوا بنا إلى دوار العمدة ولا إلى نقطة الشرطة وإنما اتجهوا بنا ناحية أخرى كانت تنتظر فيها السيارات " .
من هو السيد نزيلي الذي جاءت تقبض عليه الشرطة العسكرية ويحاولون أن يأخذون أخاه وزوجته العروس رهينة حتى يقبضوا عليه ؟ ! .
السيد نزيلي هذا كان أحد " أشبال " دعوة الإخوان المسلمين قبل سنة 1954 وكان سنه لا يتجاوز الخامسة عشرة من عمره إلا بقليل وكبر السيد نزيلي وكبرت معه دعوته وتمكنت من نفسه . . لم ينسها لحظة بل حفظها بين جوانحه وكان رغم الأجهزة البوليسية التي كانت تحمي نظام حكم عبد الناصر والتي كانت جماعة الإخوان المسلمين هدفا رئيسيا من أهدافها . . . كان رغم كل ذلك يعمل لدعوته . . يقيم عليها نفسه . . ويدعوا إليها غيره . . كانت الدعوة الإسلامية . . دعوة الإخوان المسلمين . . المحور الذي تدور حوله حياة السيد نزيلي . . ويعمل على بقائها حية رغم ليل الإرهاب وعندما أراد أن يتزوج السيد نزيلي أختار أختا مسلمة . . من الأخوات المسلمات هي أخت عبد الحميد عبد السميع أحد قادة تنظيم سنة 1965 وأحد أبناء قرية كرداسة المقيمين في القاهرة لقد جاءت الشرطة العسكرية لتقبض عليه لأنه ضمن التنظيم الذي اكتشف في أغسطس سنة 1965 بعد أن كانت عمليات القبض على الإخوان المسلمين قد تمت منذ أواخر يوليو سنة 1965 أي قبل أن يكتشف أي تنظيم للإخوان .
فقد كان النظام الناصري قد قرر توجيه ضربة ثانية سنة 1965 للإخوان لاستئصال شأفتهم حتى لو لم يكن هناك تنظيم . . لقد قال بعض الذين كانوا يشاركون عبد الناصر السلطة في يوم من الأيام أن عملية ضرب الإخوان المسلمين سنة 1965 كانت تغطية للفشل الذي أحاق بعبد الناصر في حرب اليمن وهناك قول آخر أن مذبحة الإخوان سنة 1965 كانت استجابة لطلب السوفييت الذين كانوا تغلغلوا في نظام الحكم وأصبحت لهم سيطرة على مجريات الأمور تماما كما كانت محنة سنة 1954 استجابة لطلب أمريكا التي جعلت تصفية جماعة الإخوان المسلمين أحد المهام التي حملت تبعاتها جمال عبد الناصر وهناك من يقول أن هناك علاقة بين تصفية الإخوان سنة 1965 وبين هزيمة يونيو سنة 1967 لأن كل حرب بين مصر وإسرائيل يسبقها ضرب الإخوان حدث هذا قبل سنة 1956 , وحدث قبل سنة 1967 لأن اليهود قد جربوا قوة الإخوان في حرب فلسطين سنة 1948 وكان جمال عبد الناصرفي سنة 1965 قد وصل إلى ذروة جبروته وأصبحت صورة " فرعون " موسى تتضاءل إلى جواره . . بل كان أكثر شراسة وأكثر خسة في الأساليب التي استخدمها لإذلال شعبه . . كان كالكلب العقور الذي لم ينج من سعاره أحد حتى أقرب الأقربين إليه وأصدق أصدقائه ! ! لقد أصدر جمال عبد الناصر أوامره بالقبض على كل من سبق اعتقاله وأعلن ذلك في موسكو عاصمة الكفر الصراح . . وامتلأت سجون مصر ومعتقلاتها بخيرة أبناء شعب مصر وهم في نفس الوقت الجيل الجديد الذي أنبتته دعوة الإخوان المسلمين في ظل دكتاتورية عبد الناصر . . لم تقف عمليات القبض على الرجال ولكن تجاوزتها إلى النساء والأطفال والشيوخ الضعفاء .
لقد ذهب رجال الشرطة العسكرية ليقبضوا على إخوان قرية كرداسة وكان السيد نزيلي من بينهم فبدئوا بالقبض عليه . . فلما ذهبوا ولم يجدوه بالمنزل أخذوا أخاه وزوجته رهائن . . وكانت تلك بداية المأساة ! ! ويكمل عبد الحميد نزيلي قصة المأساة فيقول : " أيقن أهل القرية أننا مخطوفون أنا وعروسة أخي القاهرية . . فتقدم بعض شباب القرية ليخلصونا من أيديهم . . فحدث اشتباك مع الرجال الخاطفين . . فتكاثر الأهالي على الرجال الثمانية . . واشتركت النساء والأطفال بضربهم بالطوب والحجارة . . فهرب سبعة من الرجال الخاطفين وأصيب الثامن وأغمى عليه وتجمع الناس من حوله . تركت زوجة أخي تعود إلى المنزل وذهبت إلى نقطة شرطة القرية وعملت محضرا قلت فيه : " أن ثمانية رجال هاجموا منزلنا وأرادوا خطف عروسة أخي وخطفي وأطلقوا النار للإرهاب واستطاع الأهالي أن يخلصونا من أيديهم وعندا سمع الشاويش النوبتجي من هذا الكلام طلب من العساكر الإسراع للقبض على الخاطفين فقلت له :
إن واحدا منهم أصابته ضربة من أحد الأهالي ووقع على الأرض متأثرا بجراحه أسرع الشاويش النوبتجي إلى المكان فوجد الرجل مغمى عليه والناس من حوله يتحدثون عن قصة الخطف . . انحنى الشاويش على الرجل المصاب وفتش جيوبه فأخرج من أحدهما بطاقته الشخصية فقرأها وقال لأهالي القرية :
_ خربت يا كرداسة . . مصيبة وحلت عليكم يا أهل كرداسة إن هؤلاء الرجال ليسوا لصوصا أنهم من رجال الشرطة العسكرية ! ! .
وكان الشاويش عبد الحكيم يعرف جيدا أن الشرطة العسكرية هي صاحبة الحول واليد الطولي في هذا الوقت بيدها مقاليد الحكم وهي يد الحاكم الباطشة وسوطه الذي يلهب به ظهور أبناء الشعب . . لقد فقدت وزارة الداخلية كل صلاحيتها حتى أصبح رجال الشرطة ( البوليس ) وحتى رجال المباحث العامة سخرية الشرطة العسكرية وقتئذ ! ! .
أسقط في يد الشاويش عبد الحكيم . . ولكن الأهالي لم يستطيعوا أن يدركوا أبعاد ما قاله شاويش النقطة . . صرخ فيهم الشاويش وأراد أن ينبههم إلى فداحة المصيبة وما يمكن أن يحل بهم ولكن الناس لم يغادروا المكان . . أرسل الشاويش أحد الجنود يطلب سيارة الإسعاف . . وجنديا آخر ليبلغ الحادث إلى مركز إمبابة وبقى هو ومن معه حول الرجل المصاب . . ولم تمض ساعة زمن حتى وصلت مجموعة من العربات المملوءة بالضباط والجنود أصحاب الباريهات الحمراء من رجال الشرطة العسكرية إلى مكان الحادث وكان الأهالي لا يزالون واقفين ولكن بعيدا عن الرجل المصاب . . نادي أحد الضباط على بعض الأهالي ليسمع منهم كيف وقع الحادث . . تشجع ثلاثة شبان من الأهالي وتقدموا إلى حيث الضباط بعد دقائق قليلة انهال الضباط على الشبان الثلاثة باللكمات وكان ذلك بداية الإرهاب الذي وقع على أهالي قرية بأسرها تفرق الناس . . كل ذهب إلى منزله ولكنهم توجسوا خيفة مما يمكن أن يحدث . . وتتابعت سيارات الجيش المحملة بالضباط والجنود .
ولم ينم الناس ليلتهم . . وكانوا يتسمعون من خلف الأبواب المغلقة ويرون من على أسطح المنازل الدبابات . . والمصفحات وهي تزمجر في شوارع القرية وحاراتها . . وحلقت الطائرات في سماء القرية ووصل إلى القرية وزير الداخلية وقتئذ عبد العظيم فهمي. . والفريق علي جمال الدين رئيس غرفة عمليات الجيش . . وشمس بدران ومحافظ الجيزة ومدير الأمن ومأمور المركز . . جاءوا جميعا ليشرفوا على عملية " تأديب " القرية لأن أهلها المسلمين استجابوا لاستغاثة زوجة أحد أبنائهم الكرام الذين عرفوا بالخلق الكريم والسيرة الحسنة فخلصوها من أيدي خاطفيها الذين لم يدخلوا من بابها فعمدة القرية لم يعلم بمجيئهم ولا شيخ البلد ولا أي خفير من الخفراء كما أن ضباط النقطة لم يكن عندهم علم كذلك بطلب القبض على السيد نزيلي بل لقد تبين للسيد نزيلي ومن معه أنه لم يكن هناك إذن بالقبض على أحد وقت القبض عليه ! ! وحوصرت القرية من جميع الجهات وانتشرت المصفحات والدبابات والسيارات في شوارع القرية ودروبها وبدأت الأوامر تذاع من خلال مكبرات الصوت بفرض حظر التجول وسمع الأهالي أصوات الوعيد والتهديد لكل من يخالف الأوامر . . وأحسوا بالهول وقبعوا خلف الأبواب المغلقة ينتظرون ماذا سيأتي به الصباح وبدأت عمليات القبض على عمدة القرية ومشايخ القرية والخفراء وشيخ الخفراء وجميع عائلة العمدة وهي من أكبر عائلات القرية . . ربطوهم جميعا بحبال وساقوهم كالبهائم . . النساء في قمصان النوم نصف عرايا يولولن والأطفال يصرخون والرجال في ذهول يجللهم الذل والعار . . اتجهوا بالجميع إلى نقطة القرية وانهال الزبانية عليهم " بالكرابيج " والعصي بلا رحمة وبلا اعتبار لأي قيمة إنسانية . . مزقوا ثياب الرجال وتركوهم عرايا كما ولدتهم أمهاتهم أمام الزوجات والأطفال ! !
وروى لي جزءا من المأساة يوسف أيوب المكاوي ابن عمدة القرية السابق وأخ العمدة الحالي . . قال : " سمعنا مكبرات الصوت تحذرنا من الخروج أو الدخول . . طلبوا ممن في الداخل ألا يخرجوا ومن الذين في الخارج ألا يدخلوا وألا يغادر أحد مكانه . . قبضوا على أخي العمدة علي أيوب وابن عمي شيخ البلد العجوز السيد حمزة رحمة الله عليه . . وأخي محمود فهمي عضو مجلس النواب السابق وجميع رجال العائلة ونسائها وجميع الأطفال فوق سن 12 سنة . . ساقونا جميعا إلى المدرسة الإعدادية التي اتخذتها الشرطة العسكرية مقر قيادتها لأنها تقع في وسط القرية وحولوها إلى ساحة تعذيب رهيبة . . ربطونا جميعا أسرة العمدة من أيدينا . . مزقوا ثيابنا ووقفنا عرايا . . بكيت حزنا عندما رأيت أخي العمدة أخي محمود عريانين كما ولدتهم أمي . . تمزقت عندما رأيت ابن عمي الشيخ سيد حمزة نائب العمدة والبالغ من العمر أكثر من ستين عاما ليس عليه سروالا ومنهكا من التعذيب ! !
لقد جردوني من ملابسي . . واطرحوني على الأرض ومزقوا جسدي بالسياط سلخوني سلخا . . ووضع الفريق علي جمال الدين – الذي قيل أنه قتل بالسم – إصبعه في عيني . . وبعد هذه الطريحة أوقفونا بعضنا أمام بعض وأمرونا أن يضرب أحدنا الآخر والذي لا يضرب بقوة يمزق بالسياط ثم أمرونا أن يبصق كل منا على وجه الآخر . . . ! ! كان بعضنا يضرب البعض الآخر وكنا نبكي لأن ذلك كان أقسى على النفس من ضربات السياط . . ثم أنهكونا بالأمر بالقيام والجلوس وبعد ذلك أخذونا طابورا كطابور أسرى الحرب وأركبونا عربات مكشوفة وطافوا بنا شوارع القرية الرئيسية وكانوا يضربون النساء والأطفال بالسياط حتى يعلو صراخهم فيكون ذلك أمعن في الإرهاب لأهالي القرية . .
الاستعراض . . الرهيب !
وبعد هذا الاستعراض الرهيب خرجنا في عربات مصفحة من قرية كرداسة واتجهت بنا المصفحات إلى السجن الحربي باستيل عبد الناصر . . النساء يولولن والأطفال يصرخون في رعب والرجال في ذهول . . وصلنا إلى السجن الحربي حيث أقيمت أفظع مذبحة بشرية لخيرة شباب مصر ورجالها والتي لم يحدث لها مثيل في تاريخ الشعب المصري إلا في عهد الرومان أيام الاضطهاد الديني لمسيحي مصر إنني لا أستطيع مهما أسعفتني الذاكرة أن أصف تلك اللحظات الرهيبة المرعبة التي استقبلنا فيها ساحة السجن الحربي . . لقد كان في استقبالنا حمزة البسيوني جلاد مصر . . والعميد سعد زغلول عبد الكريم قائد الشرطة العسكرية ومجموعة من زبانية السجن الحربي أمثال الصاغ رياض إبراهيم وجلال الديب . . و محمد مصطفى الجنزوري وأركان حرب هاني إبراهيم وإحسان العاجاتي وصفوت الروبي الذي رقي إلى رتبة ملازم شرف مكافأة له على ما أزهقه من أرواح . . ومزق من أجساد ! !
ومجموعة من العساكر وعساكر الصف . . نجم مشهور . . علي حافظ . . والمسيحي سمير الذي كان تجسيدا للتعصب الكريه وزغلول شيطان السجن وسامبو . . وعلي الأسود . . والد يزل . . والروبي والنوبي وفتحي النملة . . ورشاد مفراك . . ورشاد فلتس . . ورشاد عبد اللطيف . . وأحمد المنوفي . . ومحمد عبد المعطي . . وكنا نطلق عليه ( الحمار ) والمراكبي . . وعدلي . . وصابر . . وسراج . . وحلمي . . وحسن أبو اليزيد . . وسعيد . . وسيد خليل . . وممدوح ( تمثال الجهل ) ومحمد خاطر . . ومحمد مراد . . وغيرهم . . وهم جميعا مجموعة من الشواذ اختيروا خصيصا للسجن الحربي لأن الواحد منهم كان ذا طبيعة شريرة ونفسية حقودة . . بالإضافة إلى المحاضرات التي كانت تلقى إلى هؤلاء الزبانية في أسلوب التعامل مع الإخوان وأنهم لا قيمة لهم . . ولا دية لأحد منهم . . بل أكثر من ذلك كانت تصرف شهريا مكافأة تعذيب لهؤلاء الزبانية ! !
لقد ساقونا كالبهائم والسياط تنهال على الجميع لا فرق بين طفل صغير أو امرأة حامل أو شيخ ضعيف حتى وصلنا إلى ساحة واسعة فتقدم من كل منا جندي من الزبانية وجردوه مما بقى عليه من الثياب . . وأوقفونا على شكل دائرة وأمرونا أن نسجد على الأرض وانهال كل جندي على ضحيته والنساء يشاهدن هذا المنظر المفجع ويبكين بكاء أخرسا ! ! .
وبعد أن أغرقونا في دمائنا . . وصبغت أجسادنا بالسواد من الضرب أخرجونا لعمل استعراض للأسرى والسبايا أمام الفريق أول محمد فوزي وأمامه أمرونا بالركوع فركعنا ثم أمروا النساء أن تركب كل واحدة على ظهر رجل ولم يستثنوا من ذلك حتى المرأة الحامل التي يعوقها حملها عن تنفيذ هذا الأمر فتوسلت بدموعها لهم ! ! ثم أمروا كل رجل منا يختار لنفسه اسم امرأة ينادونه به . . ثم احضروا مجموعة من الزبانية انهالوا عليه بالضرب وعددا من الكلاب تنهش فيه ويزداد نهشها كلما ازداد الضرب .
في النهاية ألقوا بنا في زنزانات حشرونا فيها حشرا وأغلقوا علينا الأبواب وجاء واحد من الزبانية بعد نصف ساعة وفتح الأبواب وبيده جردل ميكروكروم وبيده فرشة بياض كان يغمس الفرشاة ثم يمسح بها جسد كل منا . . وفي الصباح أخرجونا من الزنزانات . . وحلقوا لكل رجل منا ناحية من شنبه وحاجبا من حاجبيه ثم أعادونا إلى الزنازين وأدخلوا معنا الكلاب لمدة نصف ساعة تنهش فينا . . ثم أخرجوا الكلاب وأخرجونا للتحقيق وعلقونا في الفلكة وأعطونا " طريحة " ثانية وقالوا لنا " هذا غذاؤكم ! ! " وحدث ذلك عند العشاء أيضا . . استمر حالنا على تلك الصورة تسعة وعشرين يوما داخل السجن الحربي . . ولما لم يجدوا علينا أية مسئولية أخرجونا من السجن الحربي وحملتنا العربات عرايا كما ولدتنا أمهاتنا حتى باب القرية ! ! .
وروى لي عبد الرحمن القبلاوي إمام وخطيب مسجد وهو من أبناء القرية قال :
" استبيحت القرية ثلاثة أيام من صبيحة الحادث يوم الأحد حتى ثالث يوم . . فتشت جميع منازل القرية وخربت ومزقوا الفرش وحطموا كل شيء يمكن تحطيمه . . ونهبوا كل ما وصلت إليه أيديهم أفسدوا كل شيء داخل البيوت خلطوا الدقيق بالجبن بالحبوب بروث البهائم . . قبضوا على الآلاف من الرجال والنساء والأطفال فرضوا حراسة على كل شارع وكل حارة وكل درب . . انتشر الجنود في كل مكان . . فرض حظر التجول طول الثلاثة أيام حتى نفذ الماء والطعام . . وجاعت البهائم وعطشت وجف لبن الأمهات ومات الأطفال الرضع ونهبت المحال التجارية وسرقت حلى النساء وأهدرت رجولة الرجال وأقاموا ثلاث ساحات تعذيب داخل القرية . . في المدرسة الإعدادية . . وفي الوحدة المجمعة . . وفي نقطة البوليس ! ! .
يقول مدرس إعدادي بالقرية طلب ألا يذكر اسمه :
" لقد هاجموا الحقول ودمروا وخربوا ما فيها من زرع وقبضوا على من فيها . . أخذوني أنا وأهلي واستولوا على كل ما نملك وقادونا إلى الوحدة المجمعة كانت قطعة من جهنم رأيت رجالا مضروبين حتى اختلطت ملامحهم وآخرين مصلوبين على جذوع النخل بعضهم مغمى عليه من التعذيب والبعض الآخر يجأر ألما وفزعا " . وكانت النتيجة الحتمية لصنوف التعذيب الوحشي الذي وقع على أهالي قريتي هو : الموت . . والجنون . . والصرع ! ! .
مات صلاح رزق عبيد في السجن الحربي ومات أبو سريع جحا ومات محمد أبو السعود في القرية وجن أبو عميرة الصابر وأصيب الكثيرون بالصرع . لقد بقيت جثث الموتى في البيوت لا تجد من يحملها إلى المقابر وعندما سمحوا بدفن محمد عبد العزيز حيدر لم يسمحوا إلا بأربعة يحملون " النعش " وقد ترك بعض المشيعين وهربوا خوفا من التعذيب من رجال الشرطة العسكرية .
ويقول محمد الشامي مدرس اللغة الفرنسية ومن أبناء القرية :
" لقد عاشت القرية ما يقرب من ثلاثة أشهر يسيطر عليها الإرهاب وأغلقت المساجد ومنع الأذان وعطلت الصلاة داخل المساجد . . " .
قال لي كمال الفرماوي :
" لقد سمعت شمس بدران يقول : أنا معي كارت بلانش لتدمير كرداسة وإزالتها من على الخريطة " . وقال أيضا: " سأعطي كرداسة درسا لن تنساه مدى أربعين سنة " ! ! .
كانت كلمة كرداسة داخل السجن الحربي " كاللعنة " تجلب العذاب الرهيب إلى أبنائها . . كان المحققون مع أحمد عبد المجيد وهو من أبناء كرداسة يصرفون له عشرين سوطا عند كل مرة يذكر اسم كرداسة ! ! وأنكرت أنا أنني من كرداسة عندما دخل علي الزنزانة حمزة البسيوني وسأل كل من في الزنزانة عن أسمائهم وأسماء قراهم . . وكان قد قبض علي صباح يوم الأحد وهو ثاني أيام الحادث ولم أكن أعلم ولكن عندما أدخل على بعض الإخوان وعرفوا أنني من كرداسة رووا لي ماذا حدث لأبناء قريتي . . داخل وخارج السجن الحربي وأقنعوني ألا أذكر أنني من كرداسة . . فلما دخل حمزة البسيوني علينا وسألني عن أسمي وعن قريتي قلت له :
أنا ساكن في شبرا ! ! . . وربما أنا الشخص الوحيد الذي لم يصبه أي أذى بسبب قريتي كرداسة ! ! وكلمة أخيرة أختم بها تلك الصفحات عن مأساة كرداسة أن مأساة كرداسة إذا قيست بمأساة الإخوان المسلمين لا تعتبر إلا صورة مخففة . .وإنما الصورة المكثفة والمجسمة لتجبر عبد الناصر وطغيانه تتمثل في مأساة الإخوان المسلمين . . يشهد بذلك جبل المقطم الذي تضم تلاله خيرة شباب الإسلام المجاهدين الصادقين الذين استشهدوا تحت سياط التعذيب ووسائله الجهنمية أمثال الشهداء : محمد عواد . . إسماعيل الفيومي . . رفعت بكر . . محمد عبد العزيز منيب . . ومحمد علي عبد الله وغيرهم . . وغيرهم . . ! ! .
النساء رهائن في السجن الحربي
كانت ذروة المأساة في محنة الإخوان سنة 1965 هي الزج بالمئات من النساء المسلمات في زنزانات السجن الحربي . . وسجن القناطر ومركز الشرطة العسكرية بعابدين واتخاذهن " رهائن " حتى يقبض على الرجال . أو وسائل ضغط وتحطيم لإرادة الرجال حتى يدلوا ويعترفوا بما يريده الطغاة من اعترافات مزيفة يصنعون منها مؤامرة وهمية ليتخذوها سببا في التدمير البشري للشباب المؤمن المجاهد من أبناء الدعوة الإسلامية . . وطلائع البعث الإسلامي في القرن العشرين .
لقد كان رجال الشرطة العسكرية يلقون القبض على الأم التي جاوزت السبعين ,وقد تكون عمياء . . لا تقدر على الحركة . . كما كانوا يقبضون على الحامل التي وضعت حملها من هول ما رأت أو ماتت بحملها . . وكانوا ينتزعون الأمهات من أحضان الصغار وأخذوا " العرائس " في ليالي الزفاف . . وقبضوا على فتيات صغيرات لم تتجاوز أعمارهن الثالثة عشرة . . كما قبضوا على أسر كاملة رجالها ونسائها فتيانها وفتياتها شبابها وشيوخها وكانت أسرة الأستاذ حسن الهضيبي رحمه الله المرشد العام للإخوان المسلمين وأسرة الشهيد سيد قطب على رأس تلك الأسر ..
المصدر مذابح الإخوان في سجون ناصر - جابر رزق .
" كان ذلك عند غروب الشمس يوم 21 أغسطس سنة 1965 وكنت واقفا أمام منزلنا . . وإذا بثمانية رجال مفتولي العضلات مفتوحي الصدور يلبسون قمصانا على اللحم ! ! . . وبنطلونات ضيقة دخلوا حارتنا ووقفوا أمامي وسألوني عن أخي السيد نزيلي الأخصائي الاجتماعي . . قلت لهم :
_ " تفضلوا . . أنا أخوه " .
وفتحت لهم الباب وأجلستهم في حجرة الضيوف وعملت لهم شايا ثم قلت لهم :
_ " إن أخي في القاهرة . . ولكنه لن يتأخر كثيرا وسوف يحضر بعد قليل " .
فجأة وجدت أثنين منهم وقفا على باب البيت واثنين آخرين اقتحما المنزل وصعدا إلى الدور الثاني حيث زوجة أخي " العروس " التي لم يمض على زفافها إلا تسعة أيام . . فوقفت دهشا وقلقا وقلت لهم :
_ من أنتم ؟ وماذا تريدون ؟
_ فتقدم مني أحدهم شاهرا مسدسه ووضعه في بطني وهددني قائلا :
_ إذا تكلمت سأفرغ المسدس في بطنك ! ! .
قلت لهم :
_ " من حقي إن أعرف من أنتم ؟ ! . . وما1ا تريدون ؟ ! . . " .
فجأة وجدت نفسي ملقى على الأرض . . وقفت بسرعة وجريت إلى صالة البيت . . فلحق بي اثنان منهم شلا حركتي وجراني إلى الخارج فأخذت أصيح : " أنتم لصوص . . ماذا تريدون مني ؟ ! وزاد صراخي . . فخرج الناس من البيوت يستطلعون الخبر . . ازدحم الناس من حولي يسألون في دهشة ولا جواب إلا صراخي : حرامية حرامية ! وبدءوا يسيرون في شارع وسط البلد وتقدم بعض شباب القرية ليخلصوني من أيديهم فأخرج واحد من الرجال الثمانية مسدسه وأطلق الرصاص في الهواء للإرهاب . . واستمروا يجرونني على الأرض والناس يخرجون من بيوتهم وطلقات الرصاص تتوالى . . وعلى بعد أمتار من ورائي كانت زوجة أخي " العروس " يجرونها هي أيضا وصرخات استغاثتها تتوالى . . لقد ظننت في أول الأمر أنهم جاءوا لخطف زوجة أخي . . وحتى هذه اللحظة لا أعرف أنهم من رجال الشرطة العسكرية لأنهم كانوا يرتدون الملابس المدنية ولم يأت معهم خفير من عند العمدة ولا عسكري بوليس من النقطة كما أنهم لم يذهبوا بنا إلى دوار العمدة ولا إلى نقطة الشرطة وإنما اتجهوا بنا ناحية أخرى كانت تنتظر فيها السيارات " .
من هو السيد نزيلي الذي جاءت تقبض عليه الشرطة العسكرية ويحاولون أن يأخذون أخاه وزوجته العروس رهينة حتى يقبضوا عليه ؟ ! .
السيد نزيلي هذا كان أحد " أشبال " دعوة الإخوان المسلمين قبل سنة 1954 وكان سنه لا يتجاوز الخامسة عشرة من عمره إلا بقليل وكبر السيد نزيلي وكبرت معه دعوته وتمكنت من نفسه . . لم ينسها لحظة بل حفظها بين جوانحه وكان رغم الأجهزة البوليسية التي كانت تحمي نظام حكم عبد الناصر والتي كانت جماعة الإخوان المسلمين هدفا رئيسيا من أهدافها . . . كان رغم كل ذلك يعمل لدعوته . . يقيم عليها نفسه . . ويدعوا إليها غيره . . كانت الدعوة الإسلامية . . دعوة الإخوان المسلمين . . المحور الذي تدور حوله حياة السيد نزيلي . . ويعمل على بقائها حية رغم ليل الإرهاب وعندما أراد أن يتزوج السيد نزيلي أختار أختا مسلمة . . من الأخوات المسلمات هي أخت عبد الحميد عبد السميع أحد قادة تنظيم سنة 1965 وأحد أبناء قرية كرداسة المقيمين في القاهرة لقد جاءت الشرطة العسكرية لتقبض عليه لأنه ضمن التنظيم الذي اكتشف في أغسطس سنة 1965 بعد أن كانت عمليات القبض على الإخوان المسلمين قد تمت منذ أواخر يوليو سنة 1965 أي قبل أن يكتشف أي تنظيم للإخوان .
فقد كان النظام الناصري قد قرر توجيه ضربة ثانية سنة 1965 للإخوان لاستئصال شأفتهم حتى لو لم يكن هناك تنظيم . . لقد قال بعض الذين كانوا يشاركون عبد الناصر السلطة في يوم من الأيام أن عملية ضرب الإخوان المسلمين سنة 1965 كانت تغطية للفشل الذي أحاق بعبد الناصر في حرب اليمن وهناك قول آخر أن مذبحة الإخوان سنة 1965 كانت استجابة لطلب السوفييت الذين كانوا تغلغلوا في نظام الحكم وأصبحت لهم سيطرة على مجريات الأمور تماما كما كانت محنة سنة 1954 استجابة لطلب أمريكا التي جعلت تصفية جماعة الإخوان المسلمين أحد المهام التي حملت تبعاتها جمال عبد الناصر وهناك من يقول أن هناك علاقة بين تصفية الإخوان سنة 1965 وبين هزيمة يونيو سنة 1967 لأن كل حرب بين مصر وإسرائيل يسبقها ضرب الإخوان حدث هذا قبل سنة 1956 , وحدث قبل سنة 1967 لأن اليهود قد جربوا قوة الإخوان في حرب فلسطين سنة 1948 وكان جمال عبد الناصرفي سنة 1965 قد وصل إلى ذروة جبروته وأصبحت صورة " فرعون " موسى تتضاءل إلى جواره . . بل كان أكثر شراسة وأكثر خسة في الأساليب التي استخدمها لإذلال شعبه . . كان كالكلب العقور الذي لم ينج من سعاره أحد حتى أقرب الأقربين إليه وأصدق أصدقائه ! ! لقد أصدر جمال عبد الناصر أوامره بالقبض على كل من سبق اعتقاله وأعلن ذلك في موسكو عاصمة الكفر الصراح . . وامتلأت سجون مصر ومعتقلاتها بخيرة أبناء شعب مصر وهم في نفس الوقت الجيل الجديد الذي أنبتته دعوة الإخوان المسلمين في ظل دكتاتورية عبد الناصر . . لم تقف عمليات القبض على الرجال ولكن تجاوزتها إلى النساء والأطفال والشيوخ الضعفاء .
لقد ذهب رجال الشرطة العسكرية ليقبضوا على إخوان قرية كرداسة وكان السيد نزيلي من بينهم فبدئوا بالقبض عليه . . فلما ذهبوا ولم يجدوه بالمنزل أخذوا أخاه وزوجته رهائن . . وكانت تلك بداية المأساة ! ! ويكمل عبد الحميد نزيلي قصة المأساة فيقول : " أيقن أهل القرية أننا مخطوفون أنا وعروسة أخي القاهرية . . فتقدم بعض شباب القرية ليخلصونا من أيديهم . . فحدث اشتباك مع الرجال الخاطفين . . فتكاثر الأهالي على الرجال الثمانية . . واشتركت النساء والأطفال بضربهم بالطوب والحجارة . . فهرب سبعة من الرجال الخاطفين وأصيب الثامن وأغمى عليه وتجمع الناس من حوله . تركت زوجة أخي تعود إلى المنزل وذهبت إلى نقطة شرطة القرية وعملت محضرا قلت فيه : " أن ثمانية رجال هاجموا منزلنا وأرادوا خطف عروسة أخي وخطفي وأطلقوا النار للإرهاب واستطاع الأهالي أن يخلصونا من أيديهم وعندا سمع الشاويش النوبتجي من هذا الكلام طلب من العساكر الإسراع للقبض على الخاطفين فقلت له :
إن واحدا منهم أصابته ضربة من أحد الأهالي ووقع على الأرض متأثرا بجراحه أسرع الشاويش النوبتجي إلى المكان فوجد الرجل مغمى عليه والناس من حوله يتحدثون عن قصة الخطف . . انحنى الشاويش على الرجل المصاب وفتش جيوبه فأخرج من أحدهما بطاقته الشخصية فقرأها وقال لأهالي القرية :
_ خربت يا كرداسة . . مصيبة وحلت عليكم يا أهل كرداسة إن هؤلاء الرجال ليسوا لصوصا أنهم من رجال الشرطة العسكرية ! ! .
وكان الشاويش عبد الحكيم يعرف جيدا أن الشرطة العسكرية هي صاحبة الحول واليد الطولي في هذا الوقت بيدها مقاليد الحكم وهي يد الحاكم الباطشة وسوطه الذي يلهب به ظهور أبناء الشعب . . لقد فقدت وزارة الداخلية كل صلاحيتها حتى أصبح رجال الشرطة ( البوليس ) وحتى رجال المباحث العامة سخرية الشرطة العسكرية وقتئذ ! ! .
أسقط في يد الشاويش عبد الحكيم . . ولكن الأهالي لم يستطيعوا أن يدركوا أبعاد ما قاله شاويش النقطة . . صرخ فيهم الشاويش وأراد أن ينبههم إلى فداحة المصيبة وما يمكن أن يحل بهم ولكن الناس لم يغادروا المكان . . أرسل الشاويش أحد الجنود يطلب سيارة الإسعاف . . وجنديا آخر ليبلغ الحادث إلى مركز إمبابة وبقى هو ومن معه حول الرجل المصاب . . ولم تمض ساعة زمن حتى وصلت مجموعة من العربات المملوءة بالضباط والجنود أصحاب الباريهات الحمراء من رجال الشرطة العسكرية إلى مكان الحادث وكان الأهالي لا يزالون واقفين ولكن بعيدا عن الرجل المصاب . . نادي أحد الضباط على بعض الأهالي ليسمع منهم كيف وقع الحادث . . تشجع ثلاثة شبان من الأهالي وتقدموا إلى حيث الضباط بعد دقائق قليلة انهال الضباط على الشبان الثلاثة باللكمات وكان ذلك بداية الإرهاب الذي وقع على أهالي قرية بأسرها تفرق الناس . . كل ذهب إلى منزله ولكنهم توجسوا خيفة مما يمكن أن يحدث . . وتتابعت سيارات الجيش المحملة بالضباط والجنود .
ولم ينم الناس ليلتهم . . وكانوا يتسمعون من خلف الأبواب المغلقة ويرون من على أسطح المنازل الدبابات . . والمصفحات وهي تزمجر في شوارع القرية وحاراتها . . وحلقت الطائرات في سماء القرية ووصل إلى القرية وزير الداخلية وقتئذ عبد العظيم فهمي. . والفريق علي جمال الدين رئيس غرفة عمليات الجيش . . وشمس بدران ومحافظ الجيزة ومدير الأمن ومأمور المركز . . جاءوا جميعا ليشرفوا على عملية " تأديب " القرية لأن أهلها المسلمين استجابوا لاستغاثة زوجة أحد أبنائهم الكرام الذين عرفوا بالخلق الكريم والسيرة الحسنة فخلصوها من أيدي خاطفيها الذين لم يدخلوا من بابها فعمدة القرية لم يعلم بمجيئهم ولا شيخ البلد ولا أي خفير من الخفراء كما أن ضباط النقطة لم يكن عندهم علم كذلك بطلب القبض على السيد نزيلي بل لقد تبين للسيد نزيلي ومن معه أنه لم يكن هناك إذن بالقبض على أحد وقت القبض عليه ! ! وحوصرت القرية من جميع الجهات وانتشرت المصفحات والدبابات والسيارات في شوارع القرية ودروبها وبدأت الأوامر تذاع من خلال مكبرات الصوت بفرض حظر التجول وسمع الأهالي أصوات الوعيد والتهديد لكل من يخالف الأوامر . . وأحسوا بالهول وقبعوا خلف الأبواب المغلقة ينتظرون ماذا سيأتي به الصباح وبدأت عمليات القبض على عمدة القرية ومشايخ القرية والخفراء وشيخ الخفراء وجميع عائلة العمدة وهي من أكبر عائلات القرية . . ربطوهم جميعا بحبال وساقوهم كالبهائم . . النساء في قمصان النوم نصف عرايا يولولن والأطفال يصرخون والرجال في ذهول يجللهم الذل والعار . . اتجهوا بالجميع إلى نقطة القرية وانهال الزبانية عليهم " بالكرابيج " والعصي بلا رحمة وبلا اعتبار لأي قيمة إنسانية . . مزقوا ثياب الرجال وتركوهم عرايا كما ولدتهم أمهاتهم أمام الزوجات والأطفال ! !
وروى لي جزءا من المأساة يوسف أيوب المكاوي ابن عمدة القرية السابق وأخ العمدة الحالي . . قال : " سمعنا مكبرات الصوت تحذرنا من الخروج أو الدخول . . طلبوا ممن في الداخل ألا يخرجوا ومن الذين في الخارج ألا يدخلوا وألا يغادر أحد مكانه . . قبضوا على أخي العمدة علي أيوب وابن عمي شيخ البلد العجوز السيد حمزة رحمة الله عليه . . وأخي محمود فهمي عضو مجلس النواب السابق وجميع رجال العائلة ونسائها وجميع الأطفال فوق سن 12 سنة . . ساقونا جميعا إلى المدرسة الإعدادية التي اتخذتها الشرطة العسكرية مقر قيادتها لأنها تقع في وسط القرية وحولوها إلى ساحة تعذيب رهيبة . . ربطونا جميعا أسرة العمدة من أيدينا . . مزقوا ثيابنا ووقفنا عرايا . . بكيت حزنا عندما رأيت أخي العمدة أخي محمود عريانين كما ولدتهم أمي . . تمزقت عندما رأيت ابن عمي الشيخ سيد حمزة نائب العمدة والبالغ من العمر أكثر من ستين عاما ليس عليه سروالا ومنهكا من التعذيب ! !
لقد جردوني من ملابسي . . واطرحوني على الأرض ومزقوا جسدي بالسياط سلخوني سلخا . . ووضع الفريق علي جمال الدين – الذي قيل أنه قتل بالسم – إصبعه في عيني . . وبعد هذه الطريحة أوقفونا بعضنا أمام بعض وأمرونا أن يضرب أحدنا الآخر والذي لا يضرب بقوة يمزق بالسياط ثم أمرونا أن يبصق كل منا على وجه الآخر . . . ! ! كان بعضنا يضرب البعض الآخر وكنا نبكي لأن ذلك كان أقسى على النفس من ضربات السياط . . ثم أنهكونا بالأمر بالقيام والجلوس وبعد ذلك أخذونا طابورا كطابور أسرى الحرب وأركبونا عربات مكشوفة وطافوا بنا شوارع القرية الرئيسية وكانوا يضربون النساء والأطفال بالسياط حتى يعلو صراخهم فيكون ذلك أمعن في الإرهاب لأهالي القرية . .
الاستعراض . . الرهيب !
وبعد هذا الاستعراض الرهيب خرجنا في عربات مصفحة من قرية كرداسة واتجهت بنا المصفحات إلى السجن الحربي باستيل عبد الناصر . . النساء يولولن والأطفال يصرخون في رعب والرجال في ذهول . . وصلنا إلى السجن الحربي حيث أقيمت أفظع مذبحة بشرية لخيرة شباب مصر ورجالها والتي لم يحدث لها مثيل في تاريخ الشعب المصري إلا في عهد الرومان أيام الاضطهاد الديني لمسيحي مصر إنني لا أستطيع مهما أسعفتني الذاكرة أن أصف تلك اللحظات الرهيبة المرعبة التي استقبلنا فيها ساحة السجن الحربي . . لقد كان في استقبالنا حمزة البسيوني جلاد مصر . . والعميد سعد زغلول عبد الكريم قائد الشرطة العسكرية ومجموعة من زبانية السجن الحربي أمثال الصاغ رياض إبراهيم وجلال الديب . . و محمد مصطفى الجنزوري وأركان حرب هاني إبراهيم وإحسان العاجاتي وصفوت الروبي الذي رقي إلى رتبة ملازم شرف مكافأة له على ما أزهقه من أرواح . . ومزق من أجساد ! !
ومجموعة من العساكر وعساكر الصف . . نجم مشهور . . علي حافظ . . والمسيحي سمير الذي كان تجسيدا للتعصب الكريه وزغلول شيطان السجن وسامبو . . وعلي الأسود . . والد يزل . . والروبي والنوبي وفتحي النملة . . ورشاد مفراك . . ورشاد فلتس . . ورشاد عبد اللطيف . . وأحمد المنوفي . . ومحمد عبد المعطي . . وكنا نطلق عليه ( الحمار ) والمراكبي . . وعدلي . . وصابر . . وسراج . . وحلمي . . وحسن أبو اليزيد . . وسعيد . . وسيد خليل . . وممدوح ( تمثال الجهل ) ومحمد خاطر . . ومحمد مراد . . وغيرهم . . وهم جميعا مجموعة من الشواذ اختيروا خصيصا للسجن الحربي لأن الواحد منهم كان ذا طبيعة شريرة ونفسية حقودة . . بالإضافة إلى المحاضرات التي كانت تلقى إلى هؤلاء الزبانية في أسلوب التعامل مع الإخوان وأنهم لا قيمة لهم . . ولا دية لأحد منهم . . بل أكثر من ذلك كانت تصرف شهريا مكافأة تعذيب لهؤلاء الزبانية ! !
لقد ساقونا كالبهائم والسياط تنهال على الجميع لا فرق بين طفل صغير أو امرأة حامل أو شيخ ضعيف حتى وصلنا إلى ساحة واسعة فتقدم من كل منا جندي من الزبانية وجردوه مما بقى عليه من الثياب . . وأوقفونا على شكل دائرة وأمرونا أن نسجد على الأرض وانهال كل جندي على ضحيته والنساء يشاهدن هذا المنظر المفجع ويبكين بكاء أخرسا ! ! .
وبعد أن أغرقونا في دمائنا . . وصبغت أجسادنا بالسواد من الضرب أخرجونا لعمل استعراض للأسرى والسبايا أمام الفريق أول محمد فوزي وأمامه أمرونا بالركوع فركعنا ثم أمروا النساء أن تركب كل واحدة على ظهر رجل ولم يستثنوا من ذلك حتى المرأة الحامل التي يعوقها حملها عن تنفيذ هذا الأمر فتوسلت بدموعها لهم ! ! ثم أمروا كل رجل منا يختار لنفسه اسم امرأة ينادونه به . . ثم احضروا مجموعة من الزبانية انهالوا عليه بالضرب وعددا من الكلاب تنهش فيه ويزداد نهشها كلما ازداد الضرب .
في النهاية ألقوا بنا في زنزانات حشرونا فيها حشرا وأغلقوا علينا الأبواب وجاء واحد من الزبانية بعد نصف ساعة وفتح الأبواب وبيده جردل ميكروكروم وبيده فرشة بياض كان يغمس الفرشاة ثم يمسح بها جسد كل منا . . وفي الصباح أخرجونا من الزنزانات . . وحلقوا لكل رجل منا ناحية من شنبه وحاجبا من حاجبيه ثم أعادونا إلى الزنازين وأدخلوا معنا الكلاب لمدة نصف ساعة تنهش فينا . . ثم أخرجوا الكلاب وأخرجونا للتحقيق وعلقونا في الفلكة وأعطونا " طريحة " ثانية وقالوا لنا " هذا غذاؤكم ! ! " وحدث ذلك عند العشاء أيضا . . استمر حالنا على تلك الصورة تسعة وعشرين يوما داخل السجن الحربي . . ولما لم يجدوا علينا أية مسئولية أخرجونا من السجن الحربي وحملتنا العربات عرايا كما ولدتنا أمهاتنا حتى باب القرية ! ! .
وروى لي عبد الرحمن القبلاوي إمام وخطيب مسجد وهو من أبناء القرية قال :
" استبيحت القرية ثلاثة أيام من صبيحة الحادث يوم الأحد حتى ثالث يوم . . فتشت جميع منازل القرية وخربت ومزقوا الفرش وحطموا كل شيء يمكن تحطيمه . . ونهبوا كل ما وصلت إليه أيديهم أفسدوا كل شيء داخل البيوت خلطوا الدقيق بالجبن بالحبوب بروث البهائم . . قبضوا على الآلاف من الرجال والنساء والأطفال فرضوا حراسة على كل شارع وكل حارة وكل درب . . انتشر الجنود في كل مكان . . فرض حظر التجول طول الثلاثة أيام حتى نفذ الماء والطعام . . وجاعت البهائم وعطشت وجف لبن الأمهات ومات الأطفال الرضع ونهبت المحال التجارية وسرقت حلى النساء وأهدرت رجولة الرجال وأقاموا ثلاث ساحات تعذيب داخل القرية . . في المدرسة الإعدادية . . وفي الوحدة المجمعة . . وفي نقطة البوليس ! ! .
يقول مدرس إعدادي بالقرية طلب ألا يذكر اسمه :
" لقد هاجموا الحقول ودمروا وخربوا ما فيها من زرع وقبضوا على من فيها . . أخذوني أنا وأهلي واستولوا على كل ما نملك وقادونا إلى الوحدة المجمعة كانت قطعة من جهنم رأيت رجالا مضروبين حتى اختلطت ملامحهم وآخرين مصلوبين على جذوع النخل بعضهم مغمى عليه من التعذيب والبعض الآخر يجأر ألما وفزعا " . وكانت النتيجة الحتمية لصنوف التعذيب الوحشي الذي وقع على أهالي قريتي هو : الموت . . والجنون . . والصرع ! ! .
مات صلاح رزق عبيد في السجن الحربي ومات أبو سريع جحا ومات محمد أبو السعود في القرية وجن أبو عميرة الصابر وأصيب الكثيرون بالصرع . لقد بقيت جثث الموتى في البيوت لا تجد من يحملها إلى المقابر وعندما سمحوا بدفن محمد عبد العزيز حيدر لم يسمحوا إلا بأربعة يحملون " النعش " وقد ترك بعض المشيعين وهربوا خوفا من التعذيب من رجال الشرطة العسكرية .
ويقول محمد الشامي مدرس اللغة الفرنسية ومن أبناء القرية :
" لقد عاشت القرية ما يقرب من ثلاثة أشهر يسيطر عليها الإرهاب وأغلقت المساجد ومنع الأذان وعطلت الصلاة داخل المساجد . . " .
قال لي كمال الفرماوي :
" لقد سمعت شمس بدران يقول : أنا معي كارت بلانش لتدمير كرداسة وإزالتها من على الخريطة " . وقال أيضا: " سأعطي كرداسة درسا لن تنساه مدى أربعين سنة " ! ! .
كانت كلمة كرداسة داخل السجن الحربي " كاللعنة " تجلب العذاب الرهيب إلى أبنائها . . كان المحققون مع أحمد عبد المجيد وهو من أبناء كرداسة يصرفون له عشرين سوطا عند كل مرة يذكر اسم كرداسة ! ! وأنكرت أنا أنني من كرداسة عندما دخل علي الزنزانة حمزة البسيوني وسأل كل من في الزنزانة عن أسمائهم وأسماء قراهم . . وكان قد قبض علي صباح يوم الأحد وهو ثاني أيام الحادث ولم أكن أعلم ولكن عندما أدخل على بعض الإخوان وعرفوا أنني من كرداسة رووا لي ماذا حدث لأبناء قريتي . . داخل وخارج السجن الحربي وأقنعوني ألا أذكر أنني من كرداسة . . فلما دخل حمزة البسيوني علينا وسألني عن أسمي وعن قريتي قلت له :
أنا ساكن في شبرا ! ! . . وربما أنا الشخص الوحيد الذي لم يصبه أي أذى بسبب قريتي كرداسة ! ! وكلمة أخيرة أختم بها تلك الصفحات عن مأساة كرداسة أن مأساة كرداسة إذا قيست بمأساة الإخوان المسلمين لا تعتبر إلا صورة مخففة . .وإنما الصورة المكثفة والمجسمة لتجبر عبد الناصر وطغيانه تتمثل في مأساة الإخوان المسلمين . . يشهد بذلك جبل المقطم الذي تضم تلاله خيرة شباب الإسلام المجاهدين الصادقين الذين استشهدوا تحت سياط التعذيب ووسائله الجهنمية أمثال الشهداء : محمد عواد . . إسماعيل الفيومي . . رفعت بكر . . محمد عبد العزيز منيب . . ومحمد علي عبد الله وغيرهم . . وغيرهم . . ! ! .
النساء رهائن في السجن الحربي
كانت ذروة المأساة في محنة الإخوان سنة 1965 هي الزج بالمئات من النساء المسلمات في زنزانات السجن الحربي . . وسجن القناطر ومركز الشرطة العسكرية بعابدين واتخاذهن " رهائن " حتى يقبض على الرجال . أو وسائل ضغط وتحطيم لإرادة الرجال حتى يدلوا ويعترفوا بما يريده الطغاة من اعترافات مزيفة يصنعون منها مؤامرة وهمية ليتخذوها سببا في التدمير البشري للشباب المؤمن المجاهد من أبناء الدعوة الإسلامية . . وطلائع البعث الإسلامي في القرن العشرين .
لقد كان رجال الشرطة العسكرية يلقون القبض على الأم التي جاوزت السبعين ,وقد تكون عمياء . . لا تقدر على الحركة . . كما كانوا يقبضون على الحامل التي وضعت حملها من هول ما رأت أو ماتت بحملها . . وكانوا ينتزعون الأمهات من أحضان الصغار وأخذوا " العرائس " في ليالي الزفاف . . وقبضوا على فتيات صغيرات لم تتجاوز أعمارهن الثالثة عشرة . . كما قبضوا على أسر كاملة رجالها ونسائها فتيانها وفتياتها شبابها وشيوخها وكانت أسرة الأستاذ حسن الهضيبي رحمه الله المرشد العام للإخوان المسلمين وأسرة الشهيد سيد قطب على رأس تلك الأسر ..
المصدر مذابح الإخوان في سجون ناصر - جابر رزق .