سيل الحق المتدفق
2013-09-13, 11:27 PM
بتأمل الاعتراضات على مشهد قذف الجن بالشهب عند مجمل الملحدين بالغيب وجدته انحصر في ثلاث او اربع نقاط كبرى
الكم الغيبي الكبير في الرجم بالشهب لحد الخيالية
استشكال معرفة الجن بهذا المشهد من الغيب و الكفر بالله في نفس الوقت
و مشابهة هذا المشهد الغيبي في مجمله بمشاهد الغيب البراهمية
و شخصنة صورة الاله ككل نتيجة اجمالية لكل هذا المشهد…
فالنقطة الأولى باختصار الجواب عليها ان نفس العلم بشقيه التجريبي و البرهاني سائر في طريق اثبات عوالم محايثة لعالمنا ليس فيما يبعد عنا بآلاف السنين الضوئية بل في ما نراه و نلمسه يوميا ..و كل مرة تخرج علينا تقارير علمية تصف ما يحدث في أبعادها بما هو اكثر ايغالا في الدهشة و الاستغراب و بالخصوص اكثر ايغالا في الغيبية في جنس تحولات المادة نفسها و سلوكها …و هي و ان كانت لا زالت في طور الفرضيات في مجملها..لكن الحجة فيها و الشاهد منها هو اقرارهم بالامكان و انه لا يستحيل…أما اثباثه من عدمه فهذا شيء آخر..
و ايضا الاجابة بالتساؤل عن وظيفة هذا المعطى الغيبي و ثمرته و لماذا اخبرنا الله به؟؟ و ان ذلك لمنع عادات جاهلية من اقدم العادات الجاهلية في البشر و المنتشرة الآن بقدر مهول في اكثر المجتمعات عصرنة و مادية ..ظاهرة التنجيم التي قال النبي صلى الله عليه و سلم ان امته لن تتركها و يشبه انه فداه امي و ابي يعني امة الدعوة …و ان كان لا يمنع ان امة الرحمة ايضا لها خصوصية
و مما يجمع بعض تفاصيل الرد على مثل هذه الاعتراضات هو تأمل اصل مهم
في حكمة التكليف و القدر حول ظواهر الوجود و ادراك الحكمة المبثوثة فيه و كيف ان عتاة الملاحدة كهايدغر و هوسرل ممن رد على الله أمره ..حين حاولوا الاستقلال بادراك هذه الحكمة انتهوا باقرار ضرورة اتباث موجود اعلى من كل الوجود…هو الوحيد القادر على الاستقلال بادراكها كلها…و الفخ الذي يسقط فيه كل من يحاول التحكم في صاحب هذه الحكمة بالحكم على أفعاله انه يقع في فخ جهله و ذلك يتم كثيرا عن طريق الغفلة..فحين المحاولة للاملاء على الله ما يجب ان يفعل فقط بسبب جهلنا لسبب فعل من أفعاله…نركز على نقطة نحسبها حاسمة و نغفل عن اننا عممنا الحكم على جميع النقاط ما نعلمها و ما لانعلمها…و دائما ما ننتهي و قد أفلت منا خيط من خيوط الأحجية و نحسب أننا أمسكنا بها جميعا..و كله ناتج من عدم التسليم مسبقا باجلال و احترام لحكمة المدرك لكل شيئ….فيقال للمعترض أنك
قد غفلت عن نقاط أو خيوط
أولها…أنك حكمت على حركة الشياطين دون ان يكون عندك علم عنها و قستها على الانسان اأو بالأحرى قستها على ما تربينا عليه جميعا من حركة الشياطين و الكائنات الفضائية حين تتبعها الأجرام او الصواريخ في الرسوم المتحركة اليابانية …و لكي أكون صادقا انا ايضا مضى لي زمن كنت اتصور حركتها بنفس الكيفية
ثانيها انك غفلت عن ان الشياطين ايضا مخلوقات داخلة في عامة القوانين التي تتحكم بكل الوجود المخلوق…فحركتها بالتالي يجب ان تكون محسوبة و مقدرة ضمن النسيج الزمكاني بحيث تخضع هي كذلك كالأجرام لحسابات التوافق و الحتمية و الاحتمالية..فكل شيء بقدر…و وجود الامكانية لاصابة نجم جامد لكائن متحرك….
..دون ان يمنع ذلك ان يكون ظاهرا لنا ان الشياطين تحتفظ بخياراتها في الحركة مع تغدد الاحتمالات …كم هي الاحتمالات اللامتناهية التي تفترضها للحركة الفيزياء الكمية داخل الاطار المحدد و المقنن و الصارم الانتظام ذو الاحتمالات المتناهية و المحددة بدقة الذي تفترضه فيزياء النسبية؟؟؟؟
و الثالثة أن الأشبه من الأيات و ما صح من أقوال النبي صلى الله عليه و سلم و اقوال صحابته ان الرجم هو كرجم الحجارة و ان استهداف الشهب للشياطين لم يكن بان توجه الشهب اليها كما توجه الصواريخ الذاتية التوجيه بل كان بتكثيف الرجم ..كما لو كنت مهندس الأهرام مثلا و حاولت منع اللصوص من سرقة الكنوز…فستزيد من كثافة الرجم بالسهام في الممرات لمنع التسللات مع بقاء الاحتمال للص ككائن متحرك ان ينجح في تفاديها و ان كان احتمالا ضئيلا و كما يغلب احتمال ان تصيبه الرجوم… وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ دُحُورًا….و لهذا كان من تعرض للأمر قديما يصفه بشبيه ما نعرفه اليوم بالجدار الناري في الحاسوب مثلا فهو قد يمنع الاختراقات الا انه لا يلزم ان يمنعها كلها …و لهذا يتبين عدم وجاهة من اعترض بالاصطدامات التاريخية الخلابة على سطح المشتري …لأن القرآن ما نفى ان يكون لها وظائف أخرى و غايات أخرى في منظومة الخلق غير حفظ السماء..انما نفى فقط ما نحتاج ان نعرف بطلانه من خرافة كونها دليلا على أقدار الناس فيبقى الانسان عبدا لمخلوقات مثله او ادنى منه…أما ما لانحتاج معرفته فلم يتعرض له باتباث او نفي تشريعي….بل تركه كطعم للجانب الانساني المتعطش للمعرفة كفخ لغروره العلمي ليدرك عظمة خالقه و ينطق بلسان حاله و جهله : سبحانك لا علم لنا الا ما علمتنا انك أنت العليم الحكيم…
تعجبني كلمة لهيراكليتس الملجأ الأخير لهايدغر و ابوه الروحي يقول فيها: شيئ واحد يستحق ان يقال عنه انه المعرفة….معرفة الذكاء الذي يحكم كل الأشياء…من خلال كل الأشياء..
و هذا ينبه على اصل بعض الغلط عند المتعصبين و المتطرفين من تيار التنويريين و خاصة التجريبيين- بخلاف كبار علماء الأنوار-استبطانهم لضرورة انكار الخالق- او على الأقل الاعراض عن بيناته- للتقدم في المجال العلمي.. و احتكارهم- للوصول الى ذلك- مصطلح العلمية فقط لمنهجهم..نازعين العلمية و بالتالي النفعية عن كافة المناهج العلمية الأخرى التي تختلف عن مناهجهم..و كأنهم هم آلهة العلم و من خلقه….و العلم أوسع منهم..فالعلم هو كل ما صح دليله و أورث القدر الممكت من اليقين أيا كان المنهج المتبع..حسيا او عقليا اونقليا او حدسيا..الخ..فهل نبطل علم التاريخ كله لعدم قدرتنا على تجربة الدليل النقلي لتوحيد ألمانيا على يد بسمارك بالمجاهير و انابيب المختبرات؟؟؟و فوق ذلك الجزم بعدم نفعيته؟؟؟و فوق ذلك الجزم بأنها خرافة؟؟؟؟ أم نبطل علم الاجتماع كله لشبه استحالة تكرار الاحصاءات و جمع البيانات و الاستقراء بشكل يعطي نتائج بنفس الدقة كل مرة؟؟؟…وفوق ذلك الجزم بعدم نفعيته؟؟؟..و فوق ذلك الجزم بأنها خرافة؟؟؟و هكذا في مسألتنا..فقد بينا أن دليلها نقلي صحيح يفيد اليقين في مجال العلوم النقلية…و بينا امكانية وجود نظير له في العالم المشهود و خلوه من التناقض..و بينا كيف ان الشرع حدد بنفسه نفعه الاجتماعي من كونه ينفع في اجتثاث أصل اللجوء الى المشعوذين من المخلوقات بدل اللجوء الى الخالق و التحرر من خرافات البشر باعطاء معطى غيبي صحيح من عنده من ان الشهب هذه كسائر المخلوقات لها وظائف معينة و من بين الوظائف ما ينقض اصل الخرافة الضارة.و هو ضرب الشياطين و منعها من التنصت و بالتالي عدم امكانية صدق المنجمين وان صدفوا… .و الناس في عالم الغيب و الشهادة و قياس الشاهد على الغائب على طرفي نقيض…من يمد أدلة الشاهد من القياسات الشمولية و التمثيلية الى عالم الغيب فينتج له انكار عالم الغيب او على اقل تقدير يغمط الحق الموجود فيه و يعرض عنه و ان كان لازما للعلم الذي يفرح به لزوم الغيب للشهادة…و منهم من يمد أدلة الغيب من قياسات الأولى الى عالم الشهادة فينكر عالم الشهادة او على أقل تقدير ينكر ما صح عند علماء العلوم الطبيعية مما اكتشفوه من سنن الخلق و تراتبيته و دقته ما هو لازم لتفعيل ما فرحوا به من العلم و انزاله الى عالم الشهادة و عالم الناس و تعبيدهم لربهم…
و قد يعترض الملحد بالغيب بقوله : و من الذي سينقل الخبر، فإذا كنت تقصد الكتب السماوية الإبراهيمية فأنا لا أعترف بالحاجة اليها، أما إذا كنت تقصد العقل الذي أعطانا إياه فاتفق معك تماما إذ يمكننا من خلال التفكر في خلقه معرفة عظمته و لاحاجة لمن يتوسط لنا في هذه المعرفة، فقد وهب كلا منا رسولا هو العقل
و هذا يرد عليه ان ان كان الأمر كذلك لم يكن من سبيل لتمام الحجة عليك بالغرض من رواء خلقك و ذلك من وجوه :
أولها ان دلالة الخلق على الله انما هي دلالة على وجوده ثم حكمته و عدله ..ثم بعد ذلك التأمل في عظمة الخلق و حسن ترتيبه و العناية المبثوثة فيه يدلك أن هذا الحكيم لم يخلقك عبثا و انما أرادك انت أيضا لهدف و غاية و الا لم يكن حكيما و كان عابثا ..الى هنا تنتهي الرسالة التي يمكن أن يستشفها العقل من ظواهر الوجود بدلالة قاطعة يقينية…أما ما يريد منا هذا البدع الحكيم من وراء خلقنا و ما الذي يأمرنا به و ما الذي ينهانا عنه فهذا لا تجد في التأمل في هذه الظواهر ما يدلك عليه دلالة قاطعة للنزاع..فلا يبقى الا اخباره لنا بذلك…او ما يسميه البعض دلالة الاتصال ..و ان لم يتم هذا الاتصال و تبيين المطلوب منك فلك كامل الحجة في الرد عليه ان سألك لم لم تفعل الغاية من خلقي اياك…(سواء قلت ان الغاية هي عبادته او ان تكون صالحا او ان تكون علميا في أفكارك او ان تعمر الأرض او او او)فلك كامل الحق و كل الحجة في الامتناع عن فعل ما يريده من خلقك لانسداد طرق معرفته عليك كما بين كانط و سائر العقلاء الباحثين في حدود العقل…
ثانيها : أن القدر الموجود وراء ذلك من المغيبات التامة عنك كوصف جزاء الفاعل من النعيم او العذاب و الذي هو ضروري معرفته حتى تتشوق النفس و الارادة لعمل المأمور و ترهب و تتجنب عمل المنهي عنه لا يستطيع تبينه العقل من خلال التأمل في الظواهر …
ثالثها: ان لم يكن من اخبار فلن تقوم حجة لا عليك و لا على غيرك من وجوده و علوه عليك و أمره…اذ أن البرهان على مراد الله منك سيكون منحصرا فقط في البرهان الذهني أي الداخلي .. و ما لم يكن دليل من خارج الذهن يدل دلالة يقينية على المراد فستبقى المسألة فقط محصورة في البرهان الذهني و معروف ان هذا لا يفيد الا امكان الوقوع …أما وجوب الوقوع فلا بد من دليل يدل على وقوع هذا الامكان من خارج الذهن اي من الواقع نفسه…أي وقوع هذا الاتصال..فيلزم وقوع الاتصال واقعا لتتم الحجة وجوبا على مراد الخالق من ما خلقه…و يتضح هذا بتأمل مسألة وجود ساكن للكون غير البشر..فان الدلائل البرهانية عليه و ان دلت على امكانه حسب ما صاغها فرانك دريك في نظريته المشهورة الا أنها لا تدل على وجوب وقوعه الا ان تم التأكد من وقوع اتصال بهم اما قبل ذلك فلا…فتبقى الحجة غير تامة…و لهذا فقد كان من الحنيفيين أيام الفترة من يخر للأرض بعد تعبه وارهاقه في البحث في الديانات المنقطعة اتصالها بالخالق لتحريفها بحثا عن صحة اتصال أي منها اتصالا يقينيا دونما جدوى ..يخر للأرض ساجدا و يقول اللهم إني لو أعلم أحب الوجوه إليك عبدتك به ولكني لا أعلم…و مع ذلك فلم يحكم عليهم النبي صلى الله عليه و سلم بالكفر لتعذر استكمال الحجة عليهم و لو كان العقل وحده كافيا لما كان لهم عذر… وهذا يقودنا الى الوجه الرابع:
أن عقول بني آدم فيما غيب عليهم مختلفة أشد الاختلاف….فان تتبعت اختلاف المليين من جميع الملل ممن حاولوا الاعراض عن الوحي و الاعتماد على العقل وحده لوجدتهم في هذا مختلفين أشد الاختلاف و كلهم يدعي العقل و تحكيمه…دع عنك الفلاسفة و الكهنة و الشامانيين و العباد من مختلف الأجناس ممن لم يعرفوا ملة صحيحة و لم يتصلوا بدين منقول صحيح..فسنجد اختلافهم في الغيبيات او ما يسمى بالالهيات أشد و أكثر من اختلاف الملييين المعرضين و كلهم او جلهم تجدهم من كبار العقلانيين حتى وصل منهم من انكر العقل نفسه بالعقل …فأي عقل من هذه العقول نحكم؟؟؟و بأيها تستقيم الحجة؟؟؟ و لا تجد لهم في الالهيات ما عدا وجود الله حكمته قولان متفقان؟؟؟ فاذن ان كان العقل هو وحده كافيا شافيا وحجة في معرفة مراد الخالق منك ف 99% من البشر معذب اذن لا محالة اذ كل واحد منا و ما يفترضه عقله من هذا الهدف ..و الأدهى أنه ان كان حجة فسنعذب ظلما ..اذ أنه ان كان ما يريده منك خلاف ما افترضته انت و ما افترضته انا و ما فترضه ناصر و أحمد و جون و لي و وووولكل منا افتراضه فسيحق له تمام الحق لتعذيبنا جميعا و هو لا شك معذبنا جميعا دون ان تكون لنا أية حجة…لأنه سيقول لك : قد أعطيتك العقل و هو وحده كاف ليبين لك مرادي منك…فتكون قد وقعت صديقي في شر من ما هربت منه…هربت مما تقوله اختلاف الأديان و عدم قيام الحجة منها لكثرتها ووجود التحريف فيها..فوقعت في ما هو أشد منه اذ أن اختلافات العقول المجردة في الغيبيات هو أكثر اختلافا و أقل اتفاقا..مع عدم امكانية تعيين الصحيح منها كما يمكن تعيين الصحيح من الأديان…. و ما ذلك الا لما سبق من أن المسألة ان لم يتبث دليل واقعي خارج الذهن بها يمكن التأكد من صحته واقعا و التأكد من صحة نقلها ..فتبقى منحصرة في الذهن و يكثر عليها الاختلاف لأن الطريق الى معرفة مقدماتها مسدودة دون هذا الدليل الخرجي المتصل …وهذا ما قلنا انه تنبه له عقلاء الناس كالعظيم كانت في تناوله للعقل الخالص و حدوده…فلا يبقى الا ان يصح دليل اتصال خارجي و يصح لمن عايشه بالمباشرة و يصح لمن لم يعايشه بالنقل…و هي طريقة عقلانية أيضا…
و هنا الاشارة الى مسألة مهمة في العقلية اللادينية…أن من تأمل هذه المسألة جيدا و كيف أن البحث عن هذا الاتصال ضروري لمعرفة ما يحتاج اليه من علم الغيب الذي لا يستقيم عالم الشهادة الا به..علم ان الموقف اللاديني الجازم ببطلان كل الأديان موقف لا عقلاني بالمرة…اذ أن هذه المقدمة الضرورية التي بيناها تستلزم ان يبحث الانسان عن اي قناة صحيحة و يستفرغ الجهد في البحث عنها ولو أمضى حياته كلها في السعي فحص القنوات الممكنة..اذ من يدريه ان لا يعثر عليها في آخر لحظة من لحظات حياته؟؟ و ان لم يجدها في الأديان التي بين يديه فلا يعني ان غيره لم يجدها بله ان يجزم بأن لا امكانية في الواقع لايجادها…فان مات و لم يجد كانت له حجة انه قد استفرغ وسعه في البحث…أما ان يجزم بعدم وجود اي قناة صحيحة للاتصال…بمعرفة ديانيتين او ثلاث فقط و حتى دون المعرفة المتمكنة فيها…فهو دليل على ضعف النفس العلمي و استسهال الدعة و الراحة …و في هذه الجزئية يكون اللاديني اشد تناقضا من الملحد اذ الملحد لا يبحث لأن أصلا لا يوجد عنده دافع للبحث …و ان كان الملحد في باقي الجزئيات اكثر ضلالا و تناقضا من اللاديني بكثير اذ بانكاره لأصل الوجود يلزمه انكار الوجود برمته بما فيه دليل الانكار نفسه..
و غالبا ما يفرق الملحد بالغيب هنا بين المقامين فيقول: أن فيزياء الكم و غيرها من العلوم الطبيعية فتقوم على التجربة و الاستقراء و تبقى صحيحة ما لم يظهر ما ينقض صحتها فلاشيء نهائي ومسلط على الرؤوس كما تعلم بعكس المصادر التي تتحدث عنها
فقد يرد عليه المومن بالغيب بقوله:
لكلام كان عن التصديق بجنس مصدر الخبر لا بمصدر خبر معين في حد ذاته…أي ان اللكلام كان عن وجوب الايمان بامكانية وجود مصدر خبر موثوق..و هل انه ان افترضنا انك استطعت التأكد من موثوقية مصدر الخبر و اخبر هذا المصدر بشيء مغيب على عقلك لا يستطيع ادراك مقدماته…فهل ستصدقه ام لا؟؟؟ و كان ذلك لبيان انه لا يجوز لك الطعن في الخبر بمجرد قولك : أنه غير علمي..أي لا يخضع للتجربة و الملاحظة…لأنه المفترض أصلا انه خارج عن هذه الوسائل العقلانية لأن مقدماته ما زالت بعيدة عنك…و الطريقة الوحيدة للطعن فيه بدل ذلك هي الطعن في موثوقية المصدر لا في عدم خضوع الخبر للتجربة…أي الفصل بين المنهج العقلاني لدراسة النقل و المنهج العقلاني لدراسة الظواهر الطبيعية ..و ان تأملت في الطعن هر لك من يخلط بين المنهجين في نقده…فضربت مثالا بفيزياء الكم لبيان اننا نصدق بامكانية..أكرر بامكانية …بامكانية…وجود أشياء يفترضها غير معصومين بناءا على بناء منطقي غير معصوم من الزلل…فكيف لا نصدق بامكانية خبر آت من معصوم …فان قلت ان الأولى تبقى صحيحة الى ان يتبين تناقضها …قلنا لك كذل و الثانية كذلك تبقى صحيحة الى ان يظهر تناقضها و لكن في بناءها المنطقي الذي قبلناها به..أي صحة نقل الخبر الى المعصوم…لا لمجرد اننا لا نعلم دليلا حسيا على الخبر..لأن المفترض أصلا ان الخبر غيبي لا حسي…و قد يأتي تأويله و يصبح حسيا و بالتالي تدخل مقدماته تحت قدرتنا العلمية و قد لا يأني…
.أما أن النتائج لا شيء فيها نهائي بخلاف الأخرى فهذا أيضا تلبيس و خلط مشهور…اذ ان النتائج العلمية او النقلية فيها الأمران معا…أي في كلاهما نتائج نهائية يجب العمل بمقتضاها و مسلطة على الرؤوس و فيها نتائج لا نهائية و ليس فيها أي تسليط على الرؤوس….فمثلا نأخذ أبسط النتائج العلمية كقولنا ان النار محرقة…هذه نتيجة علمية بسيطة جدا…و لك ان تعتقد في نفسك أن النار ليس محرقة بذاتها -و صدقني هناك كثير من الناس ممن كانوا يدعون العقل كانوا يعتقدون ذلك-فأنت حر في ذلك و لا احد سيكرهك على اعتقاد انها محرقة..كما انك حر في اعتقاد عدم امكانية الضرب بالنيازك للشياطين أو معطى نقلي آخر…الا أنك ان تجاوزت مجرد الاعتقاد الى الدعوة اليه و منه الى العمل بمقتضاه…من اشعال النار في دور الناس و في الساحات العامة و في غيرها بدعوى أنها لا تحرق و ليس من طبعها الا و سلط عليك سيف على رأسك كما يسلط عليك سيف على رأسك ان تجاوزت اعتقادك بعدم رجم الشياطين و ذهبت للاستعانة بهم و استخدامهم في اذاية الناس…و هكذا قس عليها كل المعطيات الأخرى
هذا في جنس عالم الغيب الذي قد ترتاده الشكوك و لا يجب خلط هذا المقام بالحديث عن وجود الخالق…فوجود الخالق تابث بكل الوسائل المتاحة للعلم ..فكل المخلوقات و الظواهر الطبيعية دلائل حسية عليه و يمكن اعادة اختبارها و تكريرها بل هي تتكرر بلا توقف بل حياتك كلها ان صح القول مرور بنفس التجارب مرة بعد مرة كأنك محصر بمختبر كبير لا مفر لك منه و لهذا لا يمكن انكاره الا جحودا ان تحققت النظر فيقر به بنفس الكيفية الأعرابي الراعي و العالم المتفلسف الراقي… و لن تجد موجودا آخر تدل عليه ككل الظواهر الطبيعية بهذه الكثرة حتى وجودك أنت…و أما الكلام عن مغيباته التي لا نصل اليها من ماهيته و كيفيته و صفاته و أمره و نهيه ووعده ووعيده…و الفرق في هذا و للله المثل الأعلى…مثل الكلام في الجاذبية…فالدلائل على وجودها من الظواهر الحسية كثيرة و لكن معرفة ماهيتها و كيفيتها فهذا من المغيب الذي لا نعرفه بعد لبعد مقدماته عنا..و هذا هو عينه اعطاء ما لله لله و ما لقيصر لقيصر…فنحن نجزم ان ما لقيصر العقل التجريبي و البرهاني هو معرفة وجود المؤثر و حكمته و عدله..و اما ما لله من الصفات و النعوت و الأمر و النهي و الوعيد و كافة ما غيب عنا مقدماته فنقول أنه لله و ليس لقيصر العقل..فهو فقط القادر على اخبارنا بما غيبه عنا..و لقيصر العقل النقلي دون التجريبي او البرهاني فقط القدرة على التحقق من صحة الاتصال بهذا النقل…و هذا التفريق بين ما لله لله و ما لقيصر لقيصر هو ما بينه حجة الاسلام من خلال استقراءه لأدلة الكتاب و السنة في قوله ان العقل يبقى قائدا حتى ينيخ بالانسان في رحاب وجود الله بعدها يعزل العقل عن القيادة و يبقى وراء الوحي الصحيح في ما وراء وجود الله من المغيبات…و هذا المبدأ من اعطاء ما لله لله و ما لقيصر لقيصر هو سبب تقدم العلوم الطبيعية بعد الثورة التي أحدثها ديكارتحين أخذها من الامام الغزالي و عمقها كانط فوصلت العلوم الطبيعية الى ما وصلت اليه من الرقي من عدم الخلط بين مناهج العلوم.. و بينا هذان العظيمان ان من ادعى ان العقل وحده كاف في ادراك و اقامة الحجة حتى في الغيبيات و هو رسول الله الينا في الغيبيات كما في الطبيعيات فهو الذي يخلط و يخربط و لا يعطي ما لله لله و ما لقيصر لقيصر و يعيد التطور العلمي الانساني الى ظلمات العصور الوسطى .
الكم الغيبي الكبير في الرجم بالشهب لحد الخيالية
استشكال معرفة الجن بهذا المشهد من الغيب و الكفر بالله في نفس الوقت
و مشابهة هذا المشهد الغيبي في مجمله بمشاهد الغيب البراهمية
و شخصنة صورة الاله ككل نتيجة اجمالية لكل هذا المشهد…
فالنقطة الأولى باختصار الجواب عليها ان نفس العلم بشقيه التجريبي و البرهاني سائر في طريق اثبات عوالم محايثة لعالمنا ليس فيما يبعد عنا بآلاف السنين الضوئية بل في ما نراه و نلمسه يوميا ..و كل مرة تخرج علينا تقارير علمية تصف ما يحدث في أبعادها بما هو اكثر ايغالا في الدهشة و الاستغراب و بالخصوص اكثر ايغالا في الغيبية في جنس تحولات المادة نفسها و سلوكها …و هي و ان كانت لا زالت في طور الفرضيات في مجملها..لكن الحجة فيها و الشاهد منها هو اقرارهم بالامكان و انه لا يستحيل…أما اثباثه من عدمه فهذا شيء آخر..
و ايضا الاجابة بالتساؤل عن وظيفة هذا المعطى الغيبي و ثمرته و لماذا اخبرنا الله به؟؟ و ان ذلك لمنع عادات جاهلية من اقدم العادات الجاهلية في البشر و المنتشرة الآن بقدر مهول في اكثر المجتمعات عصرنة و مادية ..ظاهرة التنجيم التي قال النبي صلى الله عليه و سلم ان امته لن تتركها و يشبه انه فداه امي و ابي يعني امة الدعوة …و ان كان لا يمنع ان امة الرحمة ايضا لها خصوصية
و مما يجمع بعض تفاصيل الرد على مثل هذه الاعتراضات هو تأمل اصل مهم
في حكمة التكليف و القدر حول ظواهر الوجود و ادراك الحكمة المبثوثة فيه و كيف ان عتاة الملاحدة كهايدغر و هوسرل ممن رد على الله أمره ..حين حاولوا الاستقلال بادراك هذه الحكمة انتهوا باقرار ضرورة اتباث موجود اعلى من كل الوجود…هو الوحيد القادر على الاستقلال بادراكها كلها…و الفخ الذي يسقط فيه كل من يحاول التحكم في صاحب هذه الحكمة بالحكم على أفعاله انه يقع في فخ جهله و ذلك يتم كثيرا عن طريق الغفلة..فحين المحاولة للاملاء على الله ما يجب ان يفعل فقط بسبب جهلنا لسبب فعل من أفعاله…نركز على نقطة نحسبها حاسمة و نغفل عن اننا عممنا الحكم على جميع النقاط ما نعلمها و ما لانعلمها…و دائما ما ننتهي و قد أفلت منا خيط من خيوط الأحجية و نحسب أننا أمسكنا بها جميعا..و كله ناتج من عدم التسليم مسبقا باجلال و احترام لحكمة المدرك لكل شيئ….فيقال للمعترض أنك
قد غفلت عن نقاط أو خيوط
أولها…أنك حكمت على حركة الشياطين دون ان يكون عندك علم عنها و قستها على الانسان اأو بالأحرى قستها على ما تربينا عليه جميعا من حركة الشياطين و الكائنات الفضائية حين تتبعها الأجرام او الصواريخ في الرسوم المتحركة اليابانية …و لكي أكون صادقا انا ايضا مضى لي زمن كنت اتصور حركتها بنفس الكيفية
ثانيها انك غفلت عن ان الشياطين ايضا مخلوقات داخلة في عامة القوانين التي تتحكم بكل الوجود المخلوق…فحركتها بالتالي يجب ان تكون محسوبة و مقدرة ضمن النسيج الزمكاني بحيث تخضع هي كذلك كالأجرام لحسابات التوافق و الحتمية و الاحتمالية..فكل شيء بقدر…و وجود الامكانية لاصابة نجم جامد لكائن متحرك….
..دون ان يمنع ذلك ان يكون ظاهرا لنا ان الشياطين تحتفظ بخياراتها في الحركة مع تغدد الاحتمالات …كم هي الاحتمالات اللامتناهية التي تفترضها للحركة الفيزياء الكمية داخل الاطار المحدد و المقنن و الصارم الانتظام ذو الاحتمالات المتناهية و المحددة بدقة الذي تفترضه فيزياء النسبية؟؟؟؟
و الثالثة أن الأشبه من الأيات و ما صح من أقوال النبي صلى الله عليه و سلم و اقوال صحابته ان الرجم هو كرجم الحجارة و ان استهداف الشهب للشياطين لم يكن بان توجه الشهب اليها كما توجه الصواريخ الذاتية التوجيه بل كان بتكثيف الرجم ..كما لو كنت مهندس الأهرام مثلا و حاولت منع اللصوص من سرقة الكنوز…فستزيد من كثافة الرجم بالسهام في الممرات لمنع التسللات مع بقاء الاحتمال للص ككائن متحرك ان ينجح في تفاديها و ان كان احتمالا ضئيلا و كما يغلب احتمال ان تصيبه الرجوم… وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ دُحُورًا….و لهذا كان من تعرض للأمر قديما يصفه بشبيه ما نعرفه اليوم بالجدار الناري في الحاسوب مثلا فهو قد يمنع الاختراقات الا انه لا يلزم ان يمنعها كلها …و لهذا يتبين عدم وجاهة من اعترض بالاصطدامات التاريخية الخلابة على سطح المشتري …لأن القرآن ما نفى ان يكون لها وظائف أخرى و غايات أخرى في منظومة الخلق غير حفظ السماء..انما نفى فقط ما نحتاج ان نعرف بطلانه من خرافة كونها دليلا على أقدار الناس فيبقى الانسان عبدا لمخلوقات مثله او ادنى منه…أما ما لانحتاج معرفته فلم يتعرض له باتباث او نفي تشريعي….بل تركه كطعم للجانب الانساني المتعطش للمعرفة كفخ لغروره العلمي ليدرك عظمة خالقه و ينطق بلسان حاله و جهله : سبحانك لا علم لنا الا ما علمتنا انك أنت العليم الحكيم…
تعجبني كلمة لهيراكليتس الملجأ الأخير لهايدغر و ابوه الروحي يقول فيها: شيئ واحد يستحق ان يقال عنه انه المعرفة….معرفة الذكاء الذي يحكم كل الأشياء…من خلال كل الأشياء..
و هذا ينبه على اصل بعض الغلط عند المتعصبين و المتطرفين من تيار التنويريين و خاصة التجريبيين- بخلاف كبار علماء الأنوار-استبطانهم لضرورة انكار الخالق- او على الأقل الاعراض عن بيناته- للتقدم في المجال العلمي.. و احتكارهم- للوصول الى ذلك- مصطلح العلمية فقط لمنهجهم..نازعين العلمية و بالتالي النفعية عن كافة المناهج العلمية الأخرى التي تختلف عن مناهجهم..و كأنهم هم آلهة العلم و من خلقه….و العلم أوسع منهم..فالعلم هو كل ما صح دليله و أورث القدر الممكت من اليقين أيا كان المنهج المتبع..حسيا او عقليا اونقليا او حدسيا..الخ..فهل نبطل علم التاريخ كله لعدم قدرتنا على تجربة الدليل النقلي لتوحيد ألمانيا على يد بسمارك بالمجاهير و انابيب المختبرات؟؟؟و فوق ذلك الجزم بعدم نفعيته؟؟؟و فوق ذلك الجزم بأنها خرافة؟؟؟؟ أم نبطل علم الاجتماع كله لشبه استحالة تكرار الاحصاءات و جمع البيانات و الاستقراء بشكل يعطي نتائج بنفس الدقة كل مرة؟؟؟…وفوق ذلك الجزم بعدم نفعيته؟؟؟..و فوق ذلك الجزم بأنها خرافة؟؟؟و هكذا في مسألتنا..فقد بينا أن دليلها نقلي صحيح يفيد اليقين في مجال العلوم النقلية…و بينا امكانية وجود نظير له في العالم المشهود و خلوه من التناقض..و بينا كيف ان الشرع حدد بنفسه نفعه الاجتماعي من كونه ينفع في اجتثاث أصل اللجوء الى المشعوذين من المخلوقات بدل اللجوء الى الخالق و التحرر من خرافات البشر باعطاء معطى غيبي صحيح من عنده من ان الشهب هذه كسائر المخلوقات لها وظائف معينة و من بين الوظائف ما ينقض اصل الخرافة الضارة.و هو ضرب الشياطين و منعها من التنصت و بالتالي عدم امكانية صدق المنجمين وان صدفوا… .و الناس في عالم الغيب و الشهادة و قياس الشاهد على الغائب على طرفي نقيض…من يمد أدلة الشاهد من القياسات الشمولية و التمثيلية الى عالم الغيب فينتج له انكار عالم الغيب او على اقل تقدير يغمط الحق الموجود فيه و يعرض عنه و ان كان لازما للعلم الذي يفرح به لزوم الغيب للشهادة…و منهم من يمد أدلة الغيب من قياسات الأولى الى عالم الشهادة فينكر عالم الشهادة او على أقل تقدير ينكر ما صح عند علماء العلوم الطبيعية مما اكتشفوه من سنن الخلق و تراتبيته و دقته ما هو لازم لتفعيل ما فرحوا به من العلم و انزاله الى عالم الشهادة و عالم الناس و تعبيدهم لربهم…
و قد يعترض الملحد بالغيب بقوله : و من الذي سينقل الخبر، فإذا كنت تقصد الكتب السماوية الإبراهيمية فأنا لا أعترف بالحاجة اليها، أما إذا كنت تقصد العقل الذي أعطانا إياه فاتفق معك تماما إذ يمكننا من خلال التفكر في خلقه معرفة عظمته و لاحاجة لمن يتوسط لنا في هذه المعرفة، فقد وهب كلا منا رسولا هو العقل
و هذا يرد عليه ان ان كان الأمر كذلك لم يكن من سبيل لتمام الحجة عليك بالغرض من رواء خلقك و ذلك من وجوه :
أولها ان دلالة الخلق على الله انما هي دلالة على وجوده ثم حكمته و عدله ..ثم بعد ذلك التأمل في عظمة الخلق و حسن ترتيبه و العناية المبثوثة فيه يدلك أن هذا الحكيم لم يخلقك عبثا و انما أرادك انت أيضا لهدف و غاية و الا لم يكن حكيما و كان عابثا ..الى هنا تنتهي الرسالة التي يمكن أن يستشفها العقل من ظواهر الوجود بدلالة قاطعة يقينية…أما ما يريد منا هذا البدع الحكيم من وراء خلقنا و ما الذي يأمرنا به و ما الذي ينهانا عنه فهذا لا تجد في التأمل في هذه الظواهر ما يدلك عليه دلالة قاطعة للنزاع..فلا يبقى الا اخباره لنا بذلك…او ما يسميه البعض دلالة الاتصال ..و ان لم يتم هذا الاتصال و تبيين المطلوب منك فلك كامل الحجة في الرد عليه ان سألك لم لم تفعل الغاية من خلقي اياك…(سواء قلت ان الغاية هي عبادته او ان تكون صالحا او ان تكون علميا في أفكارك او ان تعمر الأرض او او او)فلك كامل الحق و كل الحجة في الامتناع عن فعل ما يريده من خلقك لانسداد طرق معرفته عليك كما بين كانط و سائر العقلاء الباحثين في حدود العقل…
ثانيها : أن القدر الموجود وراء ذلك من المغيبات التامة عنك كوصف جزاء الفاعل من النعيم او العذاب و الذي هو ضروري معرفته حتى تتشوق النفس و الارادة لعمل المأمور و ترهب و تتجنب عمل المنهي عنه لا يستطيع تبينه العقل من خلال التأمل في الظواهر …
ثالثها: ان لم يكن من اخبار فلن تقوم حجة لا عليك و لا على غيرك من وجوده و علوه عليك و أمره…اذ أن البرهان على مراد الله منك سيكون منحصرا فقط في البرهان الذهني أي الداخلي .. و ما لم يكن دليل من خارج الذهن يدل دلالة يقينية على المراد فستبقى المسألة فقط محصورة في البرهان الذهني و معروف ان هذا لا يفيد الا امكان الوقوع …أما وجوب الوقوع فلا بد من دليل يدل على وقوع هذا الامكان من خارج الذهن اي من الواقع نفسه…أي وقوع هذا الاتصال..فيلزم وقوع الاتصال واقعا لتتم الحجة وجوبا على مراد الخالق من ما خلقه…و يتضح هذا بتأمل مسألة وجود ساكن للكون غير البشر..فان الدلائل البرهانية عليه و ان دلت على امكانه حسب ما صاغها فرانك دريك في نظريته المشهورة الا أنها لا تدل على وجوب وقوعه الا ان تم التأكد من وقوع اتصال بهم اما قبل ذلك فلا…فتبقى الحجة غير تامة…و لهذا فقد كان من الحنيفيين أيام الفترة من يخر للأرض بعد تعبه وارهاقه في البحث في الديانات المنقطعة اتصالها بالخالق لتحريفها بحثا عن صحة اتصال أي منها اتصالا يقينيا دونما جدوى ..يخر للأرض ساجدا و يقول اللهم إني لو أعلم أحب الوجوه إليك عبدتك به ولكني لا أعلم…و مع ذلك فلم يحكم عليهم النبي صلى الله عليه و سلم بالكفر لتعذر استكمال الحجة عليهم و لو كان العقل وحده كافيا لما كان لهم عذر… وهذا يقودنا الى الوجه الرابع:
أن عقول بني آدم فيما غيب عليهم مختلفة أشد الاختلاف….فان تتبعت اختلاف المليين من جميع الملل ممن حاولوا الاعراض عن الوحي و الاعتماد على العقل وحده لوجدتهم في هذا مختلفين أشد الاختلاف و كلهم يدعي العقل و تحكيمه…دع عنك الفلاسفة و الكهنة و الشامانيين و العباد من مختلف الأجناس ممن لم يعرفوا ملة صحيحة و لم يتصلوا بدين منقول صحيح..فسنجد اختلافهم في الغيبيات او ما يسمى بالالهيات أشد و أكثر من اختلاف الملييين المعرضين و كلهم او جلهم تجدهم من كبار العقلانيين حتى وصل منهم من انكر العقل نفسه بالعقل …فأي عقل من هذه العقول نحكم؟؟؟و بأيها تستقيم الحجة؟؟؟ و لا تجد لهم في الالهيات ما عدا وجود الله حكمته قولان متفقان؟؟؟ فاذن ان كان العقل هو وحده كافيا شافيا وحجة في معرفة مراد الخالق منك ف 99% من البشر معذب اذن لا محالة اذ كل واحد منا و ما يفترضه عقله من هذا الهدف ..و الأدهى أنه ان كان حجة فسنعذب ظلما ..اذ أنه ان كان ما يريده منك خلاف ما افترضته انت و ما افترضته انا و ما فترضه ناصر و أحمد و جون و لي و وووولكل منا افتراضه فسيحق له تمام الحق لتعذيبنا جميعا و هو لا شك معذبنا جميعا دون ان تكون لنا أية حجة…لأنه سيقول لك : قد أعطيتك العقل و هو وحده كاف ليبين لك مرادي منك…فتكون قد وقعت صديقي في شر من ما هربت منه…هربت مما تقوله اختلاف الأديان و عدم قيام الحجة منها لكثرتها ووجود التحريف فيها..فوقعت في ما هو أشد منه اذ أن اختلافات العقول المجردة في الغيبيات هو أكثر اختلافا و أقل اتفاقا..مع عدم امكانية تعيين الصحيح منها كما يمكن تعيين الصحيح من الأديان…. و ما ذلك الا لما سبق من أن المسألة ان لم يتبث دليل واقعي خارج الذهن بها يمكن التأكد من صحته واقعا و التأكد من صحة نقلها ..فتبقى منحصرة في الذهن و يكثر عليها الاختلاف لأن الطريق الى معرفة مقدماتها مسدودة دون هذا الدليل الخرجي المتصل …وهذا ما قلنا انه تنبه له عقلاء الناس كالعظيم كانت في تناوله للعقل الخالص و حدوده…فلا يبقى الا ان يصح دليل اتصال خارجي و يصح لمن عايشه بالمباشرة و يصح لمن لم يعايشه بالنقل…و هي طريقة عقلانية أيضا…
و هنا الاشارة الى مسألة مهمة في العقلية اللادينية…أن من تأمل هذه المسألة جيدا و كيف أن البحث عن هذا الاتصال ضروري لمعرفة ما يحتاج اليه من علم الغيب الذي لا يستقيم عالم الشهادة الا به..علم ان الموقف اللاديني الجازم ببطلان كل الأديان موقف لا عقلاني بالمرة…اذ أن هذه المقدمة الضرورية التي بيناها تستلزم ان يبحث الانسان عن اي قناة صحيحة و يستفرغ الجهد في البحث عنها ولو أمضى حياته كلها في السعي فحص القنوات الممكنة..اذ من يدريه ان لا يعثر عليها في آخر لحظة من لحظات حياته؟؟ و ان لم يجدها في الأديان التي بين يديه فلا يعني ان غيره لم يجدها بله ان يجزم بأن لا امكانية في الواقع لايجادها…فان مات و لم يجد كانت له حجة انه قد استفرغ وسعه في البحث…أما ان يجزم بعدم وجود اي قناة صحيحة للاتصال…بمعرفة ديانيتين او ثلاث فقط و حتى دون المعرفة المتمكنة فيها…فهو دليل على ضعف النفس العلمي و استسهال الدعة و الراحة …و في هذه الجزئية يكون اللاديني اشد تناقضا من الملحد اذ الملحد لا يبحث لأن أصلا لا يوجد عنده دافع للبحث …و ان كان الملحد في باقي الجزئيات اكثر ضلالا و تناقضا من اللاديني بكثير اذ بانكاره لأصل الوجود يلزمه انكار الوجود برمته بما فيه دليل الانكار نفسه..
و غالبا ما يفرق الملحد بالغيب هنا بين المقامين فيقول: أن فيزياء الكم و غيرها من العلوم الطبيعية فتقوم على التجربة و الاستقراء و تبقى صحيحة ما لم يظهر ما ينقض صحتها فلاشيء نهائي ومسلط على الرؤوس كما تعلم بعكس المصادر التي تتحدث عنها
فقد يرد عليه المومن بالغيب بقوله:
لكلام كان عن التصديق بجنس مصدر الخبر لا بمصدر خبر معين في حد ذاته…أي ان اللكلام كان عن وجوب الايمان بامكانية وجود مصدر خبر موثوق..و هل انه ان افترضنا انك استطعت التأكد من موثوقية مصدر الخبر و اخبر هذا المصدر بشيء مغيب على عقلك لا يستطيع ادراك مقدماته…فهل ستصدقه ام لا؟؟؟ و كان ذلك لبيان انه لا يجوز لك الطعن في الخبر بمجرد قولك : أنه غير علمي..أي لا يخضع للتجربة و الملاحظة…لأنه المفترض أصلا انه خارج عن هذه الوسائل العقلانية لأن مقدماته ما زالت بعيدة عنك…و الطريقة الوحيدة للطعن فيه بدل ذلك هي الطعن في موثوقية المصدر لا في عدم خضوع الخبر للتجربة…أي الفصل بين المنهج العقلاني لدراسة النقل و المنهج العقلاني لدراسة الظواهر الطبيعية ..و ان تأملت في الطعن هر لك من يخلط بين المنهجين في نقده…فضربت مثالا بفيزياء الكم لبيان اننا نصدق بامكانية..أكرر بامكانية …بامكانية…وجود أشياء يفترضها غير معصومين بناءا على بناء منطقي غير معصوم من الزلل…فكيف لا نصدق بامكانية خبر آت من معصوم …فان قلت ان الأولى تبقى صحيحة الى ان يتبين تناقضها …قلنا لك كذل و الثانية كذلك تبقى صحيحة الى ان يظهر تناقضها و لكن في بناءها المنطقي الذي قبلناها به..أي صحة نقل الخبر الى المعصوم…لا لمجرد اننا لا نعلم دليلا حسيا على الخبر..لأن المفترض أصلا ان الخبر غيبي لا حسي…و قد يأتي تأويله و يصبح حسيا و بالتالي تدخل مقدماته تحت قدرتنا العلمية و قد لا يأني…
.أما أن النتائج لا شيء فيها نهائي بخلاف الأخرى فهذا أيضا تلبيس و خلط مشهور…اذ ان النتائج العلمية او النقلية فيها الأمران معا…أي في كلاهما نتائج نهائية يجب العمل بمقتضاها و مسلطة على الرؤوس و فيها نتائج لا نهائية و ليس فيها أي تسليط على الرؤوس….فمثلا نأخذ أبسط النتائج العلمية كقولنا ان النار محرقة…هذه نتيجة علمية بسيطة جدا…و لك ان تعتقد في نفسك أن النار ليس محرقة بذاتها -و صدقني هناك كثير من الناس ممن كانوا يدعون العقل كانوا يعتقدون ذلك-فأنت حر في ذلك و لا احد سيكرهك على اعتقاد انها محرقة..كما انك حر في اعتقاد عدم امكانية الضرب بالنيازك للشياطين أو معطى نقلي آخر…الا أنك ان تجاوزت مجرد الاعتقاد الى الدعوة اليه و منه الى العمل بمقتضاه…من اشعال النار في دور الناس و في الساحات العامة و في غيرها بدعوى أنها لا تحرق و ليس من طبعها الا و سلط عليك سيف على رأسك كما يسلط عليك سيف على رأسك ان تجاوزت اعتقادك بعدم رجم الشياطين و ذهبت للاستعانة بهم و استخدامهم في اذاية الناس…و هكذا قس عليها كل المعطيات الأخرى
هذا في جنس عالم الغيب الذي قد ترتاده الشكوك و لا يجب خلط هذا المقام بالحديث عن وجود الخالق…فوجود الخالق تابث بكل الوسائل المتاحة للعلم ..فكل المخلوقات و الظواهر الطبيعية دلائل حسية عليه و يمكن اعادة اختبارها و تكريرها بل هي تتكرر بلا توقف بل حياتك كلها ان صح القول مرور بنفس التجارب مرة بعد مرة كأنك محصر بمختبر كبير لا مفر لك منه و لهذا لا يمكن انكاره الا جحودا ان تحققت النظر فيقر به بنفس الكيفية الأعرابي الراعي و العالم المتفلسف الراقي… و لن تجد موجودا آخر تدل عليه ككل الظواهر الطبيعية بهذه الكثرة حتى وجودك أنت…و أما الكلام عن مغيباته التي لا نصل اليها من ماهيته و كيفيته و صفاته و أمره و نهيه ووعده ووعيده…و الفرق في هذا و للله المثل الأعلى…مثل الكلام في الجاذبية…فالدلائل على وجودها من الظواهر الحسية كثيرة و لكن معرفة ماهيتها و كيفيتها فهذا من المغيب الذي لا نعرفه بعد لبعد مقدماته عنا..و هذا هو عينه اعطاء ما لله لله و ما لقيصر لقيصر…فنحن نجزم ان ما لقيصر العقل التجريبي و البرهاني هو معرفة وجود المؤثر و حكمته و عدله..و اما ما لله من الصفات و النعوت و الأمر و النهي و الوعيد و كافة ما غيب عنا مقدماته فنقول أنه لله و ليس لقيصر العقل..فهو فقط القادر على اخبارنا بما غيبه عنا..و لقيصر العقل النقلي دون التجريبي او البرهاني فقط القدرة على التحقق من صحة الاتصال بهذا النقل…و هذا التفريق بين ما لله لله و ما لقيصر لقيصر هو ما بينه حجة الاسلام من خلال استقراءه لأدلة الكتاب و السنة في قوله ان العقل يبقى قائدا حتى ينيخ بالانسان في رحاب وجود الله بعدها يعزل العقل عن القيادة و يبقى وراء الوحي الصحيح في ما وراء وجود الله من المغيبات…و هذا المبدأ من اعطاء ما لله لله و ما لقيصر لقيصر هو سبب تقدم العلوم الطبيعية بعد الثورة التي أحدثها ديكارتحين أخذها من الامام الغزالي و عمقها كانط فوصلت العلوم الطبيعية الى ما وصلت اليه من الرقي من عدم الخلط بين مناهج العلوم.. و بينا هذان العظيمان ان من ادعى ان العقل وحده كاف في ادراك و اقامة الحجة حتى في الغيبيات و هو رسول الله الينا في الغيبيات كما في الطبيعيات فهو الذي يخلط و يخربط و لا يعطي ما لله لله و ما لقيصر لقيصر و يعيد التطور العلمي الانساني الى ظلمات العصور الوسطى .