ملكة الإسلام
2008-11-06, 11:11 PM
6/11/2008
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِي اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ . وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ انْتَجَبَهُ لِوَلَايَتِهِ وَاخْتَصَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَأَكْرَمَهُ بِالنُّبُوَّةِ أَمِيناً عَلَى غَيْبِهِ وَرَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَعَلَيْهِمُ السَّلَامُ [1]
قال تعالى : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (الأعراف:199)
وضع الأمة قبل الرسول :
بُعث نبينا الكريم إلى الناس كافة، بُعث على حين فترة من الرسل خاتماً لهم ناسخاً لشرائعهم ، بعث لكافة الناس؛ الأسود والأبيض العربي والأعجمي والحر والعبد وقد ملئت الأرض من مشرقها إلى مغربها بالخرافات والبدع والقبائح وعبادة الأوثان .
إن مكة المكرمة كانت قلعة للوثنية والشرك ، ومركزاً للعادات والتقاليد الجاهلية التي لا تحمل أي بصيص من النور ، وإن أهلها لا نصيب لهم من الوعي ، فقد انطوت نفوسهم على الجهل والتنكير للقيم والأعراف الإنسانية .
وخير وصف لهذه الحالة ما ذكرته سيدة نساء العالمين عليها السلام بقولها :
(فَرَأَى الْأُمَمَ فِرَقاً فِي أَدْيَانِهَا، عُكَّفاً عَلَى نِيرَانِهَا، عَابِدَةً لِأَوْثَانِهَا، مُنْكِرَةً لِلَّهِ مَعَ عِرْفَانِهَا، فَأَنَارَ اللَّهُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ ظُلَمَهَا، وَكَشَفَ عَنِ الْقُلُوبِ بُهَمَهَا، وَجَلَى عَنِ الْأَبْصَارِ غُمَمَهَا، وَقَامَ فِي النَّاسِ بِالْهِدَايَةِ، وَأَنْقَذَهُمْ مِنَ الْغَوَايَةِ، وَبَصَّرَهُمْ مِنَ الْعَمَايَةِ، وَهَدَاهُمْ إِلَى الدِّينِ الْقَوِيمِ، وَدَعَاهُمْ إِلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيم)[2].
إلى أن قالت : (وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ، مُذْقَةَ الشَّارِبِ، وَنُهْزَةَ الطَّامِعِ، وَقَبْسَةَ الْعَجْلَانِ، وَمَوْطِئَ الْأَقْدَامِ، تَشْرَبُونَ الطَّرْقَ، وَتَقْتَاتُونَ الْوَرَقَ، أَذِلَّةً خَاسِئِينَ، تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِكُمْ، فَأَنْقَذَكُمُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ بَعْدَ اللَّتَيَّا وَالَّتِي)[3].
فقام رسول الله (ص) في ذلك الجو الجاهلي إلى الناس كافة ودعا إلى الإيمان بالله الواحد الخالق الرازق المالك لكل أمر ، بيده النفع والضر ، لم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل ولم يتخذ صاحبة ، ولم يلد ولم يكن له كفواً أحد .
بعثه الله متمماً لمكارم الأخلاق ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) حاثاً على محاسن الصفات آمراً بكل حسن ناهياً عن كل قبيح .
أساليب الدعوة إلى الله :
واستعمل النبي أساليب تبليغية رائعة من أجل تلك الرسالة العظيمة التي تهدف فيما تهدف إليه من تحسين ذلك المجتمع المنحرف والغارق في الجهل وتربية الإنسان بما هو إنسان تربية صالحة زاكية تعتمد على محاسن الأخلاق والصفات .
لهكذا بعث نبينا الأكرم (ص) ولهكذا تحمل كل الأعباء والصعاب من أجل نشر الرسالة العالمية الكريمة .
شروط المبلغ :
نرجع في حديثنا إلى الآية التي ابتدأنا حديثنا بها، في هذه الآية يبيّن القرآن شروط التبليغ وقيادة الناس وإمامتهم بأسلوب جذاب رائع وجيز، وهي في الوقت ذاته تتناسب والآيات المتقدمة التي كانت تشير إلى مسألة تبليغ المشركين أيضا.
ففي الآية إشارة إلى ثلاث من وظائف القادة والمبلغين، فتوجه الخطاب للنّبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم فتقول هناك ثلاث شروط:
الشرط الأول : العفو عن الآخرين:
العفو: قد يأتي بمعنى الزيادة في الشيء أحيانا، كما قد يأتي بمعنى الحدّ الوسط، ويأتي بمعنى قبول العذر والصفح عن المخطئين والمسيئين، ويأتي أحيانا بمعنى استسهال الأمور.
قال الطبرسي : معناه خذ العفو من أخلاق الناس واقبل الميسور منها عن مجاهد والحسن ، ومعناه أنه أمره بالتساهل وترك الاستقصاء في القضاء والاقتضاء ، وهذا يكون في الحقوق الواجبة لله وللناس وفي غيرها وهو في معنى الخبر المرفوع ( أحب الله عبدا سمحا بائعا ومشتريا قاضيا ومقتضيا).
وقيل هو العفو: في قبول العذر من المعتذر ، وترك المؤاخذة بالإساءة، وروي أنه لما نزلت هذه الآية سأل رسول الله صلى الله عليه وآله جبرائيل عن ذلك فقال : لا أدري حتى أسأل العالم .
ثم أتاه فقال يا محمد إن الله يأمرك أن تعفو عمن ظلمك وتعطي من حرمك وتصل من قطعك[4].
وإن وجود هذا الشرط في المبلغ وبالأخص النبي صلى الله عليه وآله من الأمور البديهية فلو كان القائد أو المبلغ شخصا فظا صعبا، فإنّه سيفقد نفوذه في قلوب الناس وسيتفرقون عنه، كما قال القرآن الكريم: { وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ } (آل عمران:159).
الشرط الثاني : أن يدعو إلى كل صفة حميدة :
قال الطبرسي : العرف : ضد النكر ومثله المعروف والعارفة وهو كل خصلة حميدة تعرف صوابها العقول وتطمئن إليها النفوس قال الشاعر:
" لا يذهب العرف بين الله والناس"
فالآية : تأمره بأن يرشد الناس إلى حميد الأفعال التي يرتضيها العقل ويدعو إليها اللّه عزّ وجل قائلة: { وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ }.
وهي تشير إلى أنّ ترك الشدّة لا يعني المجاملة، بل هو أن يقول القائد أو المبلغ الحق، ويدعو الناس إلى الحق ولا يخفي شيئا.[5]
قال الرازي : { وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ } يعني بالمعروف وهو كل ما حسن في العقل فعله أو في الشرع ولم يكن منكرا ولا قبيحا عند العقلاء وقيل بكل خصلة حميدة [6].
الشرط الثالث : الإعراض عن الجاهلين:
وذلك بأن يتحمل الجاهلين، فتقول: { وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ }.
فالقادة والمبلغون يواجهون في مسيرهم أفراداً متعصّبين جهلة يعانون من انحطاط فكري وثقافي وغير متخلقين بالأخلاق الكريمة، فيرشقونهم بالتهم، ويسيئون الظن بهم ويحاربونهم.
فطريق معالجة هذه المعضلة لا يكون بمواجهة المشركين بالمثل، بل الطريق السليم هو التحمل والجلد وعدم الاكتراث بمثل هذه الأمور.
والتجربة خير دليل على أنّ هذا الأسلوب هو الأسلوب الأمثل لمعالجة الجهلة، وإطفاء النائرة، والقضاء على الحسد والتعصب، وما إلى ذلك.[7]
قال الرازي : { وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ } معناه وأعرض عنهم عند قيام الحجة عليهم والإياس من قبولهم ولا تقابلهم بالسفه صيانة لقدرك فإن مجاوبة السفيه تضع عن القدر .
قال جعفر الصادق عليه السلام : وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية [8].
العوامل المساعدة على ثبات الدعوة :
إن نجاح أي دعوة ورسالة من أي شخص مرهون بأمرين :
1- الإيمان بالهدف .
2- الاستقامة والثبات والسعي الدائب لتحقيق ذلك .
فالإيمان هو المحرك الباطني والقوة الخفية التي تجر الإنسان وتدفعه نحو تحقيق هدفه وهو – الإيمان – الذي يسهل على الإنسان الصعاب ، ويدعوه إلى العمل الدؤوب لتحقيق هدفه ، وقد بين القرآن الكريم هذه المسألة (وهي أن رمز السعادة هو : الإيمان بالهدف والثبات في طريقة تحقيقه) في جملة قصيرة إذ قال : {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} (فصلت:30).
أخلاق النبي (ص) في دعوته:
وفيما يلي نستعرض أهم أساليب دعوة النبي الأعظم في نشر رسالته حيث تميزت بأهم الأساليب الرائعة التي تدل على وعيه وإرادته القوية وأخلاقه العظيمة، والتي منها :
1) الحكمة والموعظة الحسنة :
حيث كان البارز في دعوته أسلوب الحكمة والموعظة الحسنة، فقد واجه النبي كثيراً من الجدال والنقاش والتحدي ومع كل ذلك كان يواجه ذلك بحكمة وموعظة حسنة وكان هدفه من ذلك إنقاذ ذلك المجتمع الجاهلي بشتى الطرق والأساليب {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (125) سورة النحل
2) القول الحسن :
كانت دعوة الرسول (ص) مشفوعة بالقول الحسن الذي لا يثير عاطفة ولا يخدش كرامة أحد، وقد أدبه الله تعالى بذلك كما قال هو : ( أدبني ربي فأحسن تأديبي ) ووضع الله له ذلك المنهج حيث قال تعالى : {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } (الإسراء:53).
وقال تعالى : { وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً } (البقرة:83).
إن مما ساعد النبي في نشر دعوته قوله الحسن والمؤدب حيث لم يعهد عن النبي أي قول غير حسن سواءً قبل بعثته أو بعدها ، فكان ذلك عاملاً مساعداً على نجاح دعوته ومدعاة لتآلف قلوب الناس له وحوله .
3) اللين والتسامح :
لقد اعتمد النبي (ص) في نشر دعوته وتبليغه على اللين والتسامح والابتعاد عن أساليب الغلظة والشدة والصرامة كما هو حال بعض من يدعي الإسلام وأحقيته بنشره ، وقد علمه الله تعالى وأرشده إلى هذا الخلق الرفيع، قال تعالى : {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}.
لقد كان النبي (ص) المصداق الحقيقي لسمو الأخلاق ومحاسن الآداب، ولقد كان رسول الأخلاق يدعو إلى اللين والتسامح في المعاملة، وإليك بعض ما قاله :
1- عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عليه السلام قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله : (الْمُؤْمِنُونَ هَيِّنُونَ لَيِّنُونَ كَالْجَمَلِ الْأَنُوفِ إِنِ اسْتَنَخْتَهُ أَنَاخَ).
2- روى أَبُو الْقَاسِمِ الْكُوفِيُّ فِي كِتَابِ الْأَخْلَاقِ، أَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ قَالَ لِبَعْضِ الْمَلَائِكَةِ : عَلِّمْنِي شَيْئاً أَزْدَادُ بِهِ إِيمَاناً فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ لَا تَهْتَمَّ لِغَدٍ وَاعْمَلْ فِي الْيَوْمِ لِغَدٍ ... إِلَى أَنْ قَالَ وَكُنْ سَهْلًا لَيِّناً لِلْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ وَلَا تَسْلُكْ سَبِيلَ الْجَبَّارِ الْعَنِيدِ .
3- روى الطَّبْرِسِيُّ فِي الْمِشْكَاةِ، نَقْلاً مِنَ الْمَحَاسِنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله قَالَ: (رَحِمَ اللَّهُ كُلَّ سَهْلٍ طَلْقٍ).
4- روى الْحَسَنُ بْنُ فَضْلٍ فِي مَكَارِمِ الْأَخْلاقِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: يَا ابْنَ مَسْعُودٍ عَلَيْكَ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ وَكُنْ سَهْلًا لَيِّناً عَفِيفاً مُسْلِماً .. الْخَبَرَ[9].
4) الدفع بالتي هي أحسن :
لقد ركز النبي (ص) في دعوته على الإحسان للآخرين الذين كان يعاني من أذيتهم وقسوتهم عملاً بقوله تعالى : {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (فصلت:34).
ولنا في قصته مع الرجل الذي كان يرمي القاذورات على باب داره مثالاً رائعاً في الإحسان حيث أنه في يومٍ مرضَ ذلك الرجل فلم يجد النبي تلك القاذورات اليومية على بابه وعندما علم النبي (ص) بذلك زاره في مرضه ونتيجة لذلك أسلم ذلك الرجل .
وقد استطاع النبي (ص) بهذا الخلق الرفيع أن ينشر كلمة التوحيد ويغير من طباع الناس ، ويقاوم الأحداث الرهيبة التي أحاطت به .
5) الصبر :
لقد قابل رسول الأخلاق (ص) كل أنواع الأذى بصبر عظيم وثبات هائل ، إيماناً منه بدعوته ، وحرصاً على تبليغ رسالته ، فقد أمره الله تعالى به حيث قال :
- {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ } (الأحقاف:35)
- {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} (يونس:109)
- {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ } (النحل:127)
- {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} (الإنسان:24)
- {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ } (الكهف:28)
- {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} (القلم:48)
فلقد عانى النبي (ص) من قريش أشد ألوان المحن والبلاء إلا أنه لم يحفل بها ، واحتسبها عند الله تعالى ، واستمر على أداء رسالته حتى فتح الله تعالى له الفتح المبين ونصره على أعدائه ، وقد أمره الله تعالى بالاقتداء بأنبيائه أولي العزم الذين صبروا على المحن والشدائد الشاقة التي لاقوها من أممهم كما في الآية الأولى .
6) تحذير الكافرين من عذاب الله :
من أساليب دعوة الرسول (ص) تحذير الكافرين خاصة والناس عامة من عذاب الله تعالى إن لم يستجيبوا له، وكان يتلوا عليهم آيات من القرآن الكريم تنعى كفرهم وضلالهم .
قال تعالى : {وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا} (الفتح:13)
وقال تعالى : { وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا} (النساء:37)
وقال تعالى : {أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا} (النساء:151)
فالكافرون خالدون في نار جهنم لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون فأسلوب الترهيب من عذاب جهنم كان موجوداً لمن لا يؤمن بالله ولا برسوله ، ولم يكن ذلك بالقوة – أي بقوة السلاح – وإنما كان بالتحذير والتنبيه .
7) البشارة بالجنة والنعيم الخالد :
في مقابل تحذير الكافرين من عذاب الله الدائم الخالد كان رسول الأخلاق يبشر المؤمنين به وبرسالته بالفوز بالجنة ، والظفر بخيراتها ونعيمها حيث قال في عدة آيات :
- {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ } (الحـج:14)
- {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} (القمر:54-55)
إلى غير ذلك من الآيات الكريمة التي وعد الله تعالى فيها المتقين من عباده بالفوز بالجنة ، وهذا أسلوب من الأساليب التي استخدمها النبي (ص) في تبليغ رسالته ونشر قيمه وأهدافه .
أخلاق النبي في غزواته :
في حالة الحرب يستعمل الإنسان مختلف الأساليب الأخلاقية وغيرها للتغلب على الطرف الآخر ويطبَّق في الحروب قديماً وحديثاً: الغاية تبرر الوسيلة، فهاهي الدول الكبرى التي ترفع شعار حقوق الإنسان والحيوان والدفاع عنها تستعمل الأسلحة الجرثومية والقنابل العنقودية والمشعة الممنوعة دولياً ، فالحرب لا ترتدع عن إي جريمة يمكن أن تستعملها في القضاء على خصمها .
ولكن رسول الرحمة والإنسانية لا يغير وضعه في الحرب عن حالة السلم بل في الأولى يستعمل الأخلاق والرحمة مع عدوه أو أصحابه أكثر من حالة السلم وقد تأصلت فيه حتى أصبحت سجية لا تتبدل وفيما يلي نضرب بعض الأمثلة :
في واقعة أحد :
واقعة أحد أحدى الغزوات الكبيرة التي خسر المسلمون فيها عسكرياً ولكن انتصروا فيها معنوياً وأدت إلى نتائج حسنة وكبيرة منها ما كشفت للمسلمين أهمية الإرتباط بالله سبحانه وأنه لا يجوز الاعتماد على الجانب المادي والعسكري ومنها أخلاقية النبي في هذه الواقعة التي تمثلت في:
1- صبره صلى الله عليه وآله في هذه الواقعة حيث كسرت رباعيته وسال الدم على كريمته وهو يدعو لهم بالهداية .
2- عفوه عن المثلة بمن قتل في تلك الواقعة من أعدائه .
3- عفوه عن قاتل عمه حمزة سيد الشهداء .
4- ثم عفوه عن بعض أصحابه الذين تركوه في ساعة العسرة، وينبغي لنا هنا أن نقف وقفة لنتجلى هذه العظمة في هذا الرسول الكريم العظيم .
قال تعالى ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران:159)
سبب نزول هذه الآية :
سبب ذلك أن جماعة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله الذين كانوا معه في القتال لمَّا انكسر المسلمون في تلك الواقعة انهزم جملة منهم وذهبوا يمنة ويسرى وبعضهم ما رجع إلا بعد ثلاثة أيام في أحداث سجلها التاريخ وهؤلاء ندموا على تركهم رسول الله صلى الله عليه وآله مع جماعة قليلة فنزلت هذه الآية .
الفظ : هو الجافي القاسي، وغلظ القلب كناية عن عدم رقته ورأفته، والانفضاض التفرق.
وفي الآية التفات عن خطابهم إلى خطاب رسول الله صلى الله عليه وآله ، وأصل المعنى: فقد لان لكم رسولنا برحمة منا، ولذلك أمرناه أن يعفو عنكم ويستغفر لكم ويشاوركم في الأمر وأن يتوكل علينا إذا عزم.
قال السيد صاحب الميزان : ونكتة الالتفات ما تقدم في أول آيات الغزوة أن الكلام فيه شوب عتاب وتوبيخ، ولذلك اشتمل على بعض الأعراض في ما يناسبه من الموارد ومنها هذا المورد الذي يتعرض فيه لبيان حال من أحوالهم لها مساس بالاعتراض على النبي (ص) فإن تحزنهم لقتل من قتل منهم ربما دلهم على المناقشة في فعل النبي (ص)، ورميه بأنه أوردهم مورد القتل والاستيصال، فأعرض الله تعالى عن مخاطبتهم والتفت إلى نبيه صلى الله عليه وآله فخاطبه بقوله: {فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ }.
والكلام متفرع على كلام آخر يدل عليه السياق، والتقدير: وإذا كان حالهم ما تراه من التشبه بالذين كفروا والتحسر على قتلاهم فبرحمة منا لنت لهم وإلا لانفضوا من حولك. والله أعلم. [10]
وقوله: { فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ } إنما سيق ليكون إمضاء لسيرته (ص) فإنه كذلك كان يفعل، وقد شاورهم في أمر القتال قبيل يوم أحد، وفيه إشعار بأنه إنما يفعل ما يؤمر والله سبحانه عن فعله راض.
وقد أمر الله تعالى نبيه (ص) أن يعفو عنهم فلا يرتب على فعالهم أثر المعصية، وأن يستغفر فيسأل الله أن يغفر لهم -وهو تعالى فاعله لا محالة- واللفظ وإن كان مطلقا لا يختص بالمورد غير أنه لا يشمل موارد الحدود الشرعية وما يناظرها وإلا لغا التشريع، على أن تعقيبه بقوله: {وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} لا يخلو عن الإشعار بأن هذين الأمرين إنما هما في ظرف الولاية وتدبير الأمور العامة مما يجري فيه المشاورة معهم.
وقوله: {فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}، وإذا أحبك كان وليا وناصرا لك غير خاذلك، ولذا عقب الآية بهذا المعنى ودعا المؤمنين أيضا إلى التوكل فقال: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} ثم أمرهم بالتوكل بوضع سببه موضعه فقال: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} أي لإيمانهم بالله الذي لا ناصر ولا معين إلا هو.[11]
قال الفخر الرازي : اعلم أن القوم لما انهزموا عن النبي صلى اللّه عليه وسلم يوم أحد ثم عادوا لم يخاطبهم الرسول صلى اللّه عليه وسلم بالتغليط والتشديد، وإنما خاطبهم بالكلام اللين، ثم إنه سبحانه وتعالى لما أرشدهم في الآيات المتقدمة إلى ما ينفعهم في معاشهم ومعادهم، وكان من جملة ذلك أن عفا عنهم، زاد في الفضل والإحسان بأن مدح الرسول صلى اللّه عليه وسلم على عفوه عنهم، وتركه التغليظ عليهم فقال: {فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} ومن أنصف علم أن هذا ترتيب حسن في الكلام. وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى:
اعلم أن لينه صلى اللّه عليه وسلم مع القوم عبارة عن حسن خلقه مع القوم قال تعالى: {وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (الشعراء: 215)
وقال: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ)
وقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم: 4)
وقال: {لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (التوبة: 128)
وقال عليه الصلاة والسلام: (لا حلم أحب إلى اللّه تعالى من حلم إمام ، ورفقه ، ولا جهل أبغض إلى اللّه ، من جهل إمام ، وخُرْقه)
فلما كان عليه الصلاة والسلام إمام العالمين، وجب أن يكون أكثرهم حلما وأحسنهم خلقاً.
ولما دخل عليه عثمان مع صاحبيه ما زاد على أن قال: (لقد ذهبتم فيها عريضة) [12]
وروي عن بعض الصحابة أنه قال: لقد أحسن اللّه إلينا كل الإحسان، كنا مشركين، فلو جاءنا رسول اللّه بهذا الدين جملة، وبالقرآن دفعة لثقلت هذه التكاليف علينا، فما كنا ندخل في الإسلام، ولكنه دعانا إلى كلمة واحدة، فلما قبلناها وعرفنا حلاوة الإيمان، قبلنا ما وراءها كلمة بعد كلمة على سبيل الرفق إلى أن تم الدين وكملت الشريعة. [13]
الخطبة الثانية
في حين أننا نعيش ذكرى مولد النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وأسبوع الوحدة الإسلامية لا تزال الدماء تسيل في الأمة الإسلامية.
ففي العراق الجريح أعلنت الإحصائيات الأخيرة في مارس الماضي 1861 قتيلا وفي فبراير 1645 قتيلا مع وجود الخطة الأمنية الجديدة ولكن ماذا بعد ؟!
وإلى متى يبقى العراق ينزف دماً؟! أما آن للعراقيين ولمن حولهم أن ينتبهوا لمخططات الاحتلال الأمريكي أم أن مصالحهم في عراق مدمر؟! .
وفي أسبوع الوحدة الإسلامية ينبغي على المسلمين كافة أن ينتبهوا لمخططات الاستعمار وأهدافه في زرع الفتنة الطائفية بين الشيعة والسنة في الوقت الذي لا يعلم فيه الاستعمار بهذه الطوائف وأسباب نشوئها واختلافها ، وكل ما يعرفه أن هناك طائفتان يجب التفريق بينهما ليتمكن الاستعمار من بسط نفوذه عليهما، وليستولي على خيراتهما معا، و ليحد من تطور الطائفتين معا.
وأقرب مثال حي هذه الأيام ما يحاوله الاستعمار من منع الجمهورية الإسلامية الإيرانية من التطور النووي السلمي ومحاولة ضربها عسكريا من جهة ومن جهة أخرى تصويرها دولة شيعية ضد دول المنطقة السنية ، هكذا هو الاستعمار وهكذا هي أهدافه .
ولم يكتفِ الاستعمار من محاولة زرع الفتنة الطائفية بين السنة والشيعة فقط، بل بين الشيعة أنفسهم وبين السنة أنفسهم في محاولة لتدمير الأمة الإسلامية تدميرا كاملا والسيطرة عليهم، وأقرب مثال لذلك ما يحدث في الصومال من قتال بين السنة أنفسهم والتي حصدت في أسوأ قتال حدث أكثر من 381 قتيلا وما ذلك إلا لمصلحة الاستعمار .
ونحن نؤكد في مناسبة مولد رسول الأمة الإسلامية بضرورة الوحدة الإسلامية والتمسك بأهداف النبي الرسالية والأخلاقية والإنسانية، وعلى الأمة أن تترابط وتتوحد ضد العدو الأول وهو الاستعمار، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } (آل عمران:103).
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين وأصحابه المنتجبين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
--------------------------------------------------------------------------------
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِي اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ . وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ انْتَجَبَهُ لِوَلَايَتِهِ وَاخْتَصَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَأَكْرَمَهُ بِالنُّبُوَّةِ أَمِيناً عَلَى غَيْبِهِ وَرَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَعَلَيْهِمُ السَّلَامُ [1]
قال تعالى : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (الأعراف:199)
وضع الأمة قبل الرسول :
بُعث نبينا الكريم إلى الناس كافة، بُعث على حين فترة من الرسل خاتماً لهم ناسخاً لشرائعهم ، بعث لكافة الناس؛ الأسود والأبيض العربي والأعجمي والحر والعبد وقد ملئت الأرض من مشرقها إلى مغربها بالخرافات والبدع والقبائح وعبادة الأوثان .
إن مكة المكرمة كانت قلعة للوثنية والشرك ، ومركزاً للعادات والتقاليد الجاهلية التي لا تحمل أي بصيص من النور ، وإن أهلها لا نصيب لهم من الوعي ، فقد انطوت نفوسهم على الجهل والتنكير للقيم والأعراف الإنسانية .
وخير وصف لهذه الحالة ما ذكرته سيدة نساء العالمين عليها السلام بقولها :
(فَرَأَى الْأُمَمَ فِرَقاً فِي أَدْيَانِهَا، عُكَّفاً عَلَى نِيرَانِهَا، عَابِدَةً لِأَوْثَانِهَا، مُنْكِرَةً لِلَّهِ مَعَ عِرْفَانِهَا، فَأَنَارَ اللَّهُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ ظُلَمَهَا، وَكَشَفَ عَنِ الْقُلُوبِ بُهَمَهَا، وَجَلَى عَنِ الْأَبْصَارِ غُمَمَهَا، وَقَامَ فِي النَّاسِ بِالْهِدَايَةِ، وَأَنْقَذَهُمْ مِنَ الْغَوَايَةِ، وَبَصَّرَهُمْ مِنَ الْعَمَايَةِ، وَهَدَاهُمْ إِلَى الدِّينِ الْقَوِيمِ، وَدَعَاهُمْ إِلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيم)[2].
إلى أن قالت : (وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ، مُذْقَةَ الشَّارِبِ، وَنُهْزَةَ الطَّامِعِ، وَقَبْسَةَ الْعَجْلَانِ، وَمَوْطِئَ الْأَقْدَامِ، تَشْرَبُونَ الطَّرْقَ، وَتَقْتَاتُونَ الْوَرَقَ، أَذِلَّةً خَاسِئِينَ، تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِكُمْ، فَأَنْقَذَكُمُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ بَعْدَ اللَّتَيَّا وَالَّتِي)[3].
فقام رسول الله (ص) في ذلك الجو الجاهلي إلى الناس كافة ودعا إلى الإيمان بالله الواحد الخالق الرازق المالك لكل أمر ، بيده النفع والضر ، لم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل ولم يتخذ صاحبة ، ولم يلد ولم يكن له كفواً أحد .
بعثه الله متمماً لمكارم الأخلاق ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) حاثاً على محاسن الصفات آمراً بكل حسن ناهياً عن كل قبيح .
أساليب الدعوة إلى الله :
واستعمل النبي أساليب تبليغية رائعة من أجل تلك الرسالة العظيمة التي تهدف فيما تهدف إليه من تحسين ذلك المجتمع المنحرف والغارق في الجهل وتربية الإنسان بما هو إنسان تربية صالحة زاكية تعتمد على محاسن الأخلاق والصفات .
لهكذا بعث نبينا الأكرم (ص) ولهكذا تحمل كل الأعباء والصعاب من أجل نشر الرسالة العالمية الكريمة .
شروط المبلغ :
نرجع في حديثنا إلى الآية التي ابتدأنا حديثنا بها، في هذه الآية يبيّن القرآن شروط التبليغ وقيادة الناس وإمامتهم بأسلوب جذاب رائع وجيز، وهي في الوقت ذاته تتناسب والآيات المتقدمة التي كانت تشير إلى مسألة تبليغ المشركين أيضا.
ففي الآية إشارة إلى ثلاث من وظائف القادة والمبلغين، فتوجه الخطاب للنّبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم فتقول هناك ثلاث شروط:
الشرط الأول : العفو عن الآخرين:
العفو: قد يأتي بمعنى الزيادة في الشيء أحيانا، كما قد يأتي بمعنى الحدّ الوسط، ويأتي بمعنى قبول العذر والصفح عن المخطئين والمسيئين، ويأتي أحيانا بمعنى استسهال الأمور.
قال الطبرسي : معناه خذ العفو من أخلاق الناس واقبل الميسور منها عن مجاهد والحسن ، ومعناه أنه أمره بالتساهل وترك الاستقصاء في القضاء والاقتضاء ، وهذا يكون في الحقوق الواجبة لله وللناس وفي غيرها وهو في معنى الخبر المرفوع ( أحب الله عبدا سمحا بائعا ومشتريا قاضيا ومقتضيا).
وقيل هو العفو: في قبول العذر من المعتذر ، وترك المؤاخذة بالإساءة، وروي أنه لما نزلت هذه الآية سأل رسول الله صلى الله عليه وآله جبرائيل عن ذلك فقال : لا أدري حتى أسأل العالم .
ثم أتاه فقال يا محمد إن الله يأمرك أن تعفو عمن ظلمك وتعطي من حرمك وتصل من قطعك[4].
وإن وجود هذا الشرط في المبلغ وبالأخص النبي صلى الله عليه وآله من الأمور البديهية فلو كان القائد أو المبلغ شخصا فظا صعبا، فإنّه سيفقد نفوذه في قلوب الناس وسيتفرقون عنه، كما قال القرآن الكريم: { وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ } (آل عمران:159).
الشرط الثاني : أن يدعو إلى كل صفة حميدة :
قال الطبرسي : العرف : ضد النكر ومثله المعروف والعارفة وهو كل خصلة حميدة تعرف صوابها العقول وتطمئن إليها النفوس قال الشاعر:
" لا يذهب العرف بين الله والناس"
فالآية : تأمره بأن يرشد الناس إلى حميد الأفعال التي يرتضيها العقل ويدعو إليها اللّه عزّ وجل قائلة: { وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ }.
وهي تشير إلى أنّ ترك الشدّة لا يعني المجاملة، بل هو أن يقول القائد أو المبلغ الحق، ويدعو الناس إلى الحق ولا يخفي شيئا.[5]
قال الرازي : { وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ } يعني بالمعروف وهو كل ما حسن في العقل فعله أو في الشرع ولم يكن منكرا ولا قبيحا عند العقلاء وقيل بكل خصلة حميدة [6].
الشرط الثالث : الإعراض عن الجاهلين:
وذلك بأن يتحمل الجاهلين، فتقول: { وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ }.
فالقادة والمبلغون يواجهون في مسيرهم أفراداً متعصّبين جهلة يعانون من انحطاط فكري وثقافي وغير متخلقين بالأخلاق الكريمة، فيرشقونهم بالتهم، ويسيئون الظن بهم ويحاربونهم.
فطريق معالجة هذه المعضلة لا يكون بمواجهة المشركين بالمثل، بل الطريق السليم هو التحمل والجلد وعدم الاكتراث بمثل هذه الأمور.
والتجربة خير دليل على أنّ هذا الأسلوب هو الأسلوب الأمثل لمعالجة الجهلة، وإطفاء النائرة، والقضاء على الحسد والتعصب، وما إلى ذلك.[7]
قال الرازي : { وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ } معناه وأعرض عنهم عند قيام الحجة عليهم والإياس من قبولهم ولا تقابلهم بالسفه صيانة لقدرك فإن مجاوبة السفيه تضع عن القدر .
قال جعفر الصادق عليه السلام : وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية [8].
العوامل المساعدة على ثبات الدعوة :
إن نجاح أي دعوة ورسالة من أي شخص مرهون بأمرين :
1- الإيمان بالهدف .
2- الاستقامة والثبات والسعي الدائب لتحقيق ذلك .
فالإيمان هو المحرك الباطني والقوة الخفية التي تجر الإنسان وتدفعه نحو تحقيق هدفه وهو – الإيمان – الذي يسهل على الإنسان الصعاب ، ويدعوه إلى العمل الدؤوب لتحقيق هدفه ، وقد بين القرآن الكريم هذه المسألة (وهي أن رمز السعادة هو : الإيمان بالهدف والثبات في طريقة تحقيقه) في جملة قصيرة إذ قال : {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} (فصلت:30).
أخلاق النبي (ص) في دعوته:
وفيما يلي نستعرض أهم أساليب دعوة النبي الأعظم في نشر رسالته حيث تميزت بأهم الأساليب الرائعة التي تدل على وعيه وإرادته القوية وأخلاقه العظيمة، والتي منها :
1) الحكمة والموعظة الحسنة :
حيث كان البارز في دعوته أسلوب الحكمة والموعظة الحسنة، فقد واجه النبي كثيراً من الجدال والنقاش والتحدي ومع كل ذلك كان يواجه ذلك بحكمة وموعظة حسنة وكان هدفه من ذلك إنقاذ ذلك المجتمع الجاهلي بشتى الطرق والأساليب {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (125) سورة النحل
2) القول الحسن :
كانت دعوة الرسول (ص) مشفوعة بالقول الحسن الذي لا يثير عاطفة ولا يخدش كرامة أحد، وقد أدبه الله تعالى بذلك كما قال هو : ( أدبني ربي فأحسن تأديبي ) ووضع الله له ذلك المنهج حيث قال تعالى : {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } (الإسراء:53).
وقال تعالى : { وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً } (البقرة:83).
إن مما ساعد النبي في نشر دعوته قوله الحسن والمؤدب حيث لم يعهد عن النبي أي قول غير حسن سواءً قبل بعثته أو بعدها ، فكان ذلك عاملاً مساعداً على نجاح دعوته ومدعاة لتآلف قلوب الناس له وحوله .
3) اللين والتسامح :
لقد اعتمد النبي (ص) في نشر دعوته وتبليغه على اللين والتسامح والابتعاد عن أساليب الغلظة والشدة والصرامة كما هو حال بعض من يدعي الإسلام وأحقيته بنشره ، وقد علمه الله تعالى وأرشده إلى هذا الخلق الرفيع، قال تعالى : {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}.
لقد كان النبي (ص) المصداق الحقيقي لسمو الأخلاق ومحاسن الآداب، ولقد كان رسول الأخلاق يدعو إلى اللين والتسامح في المعاملة، وإليك بعض ما قاله :
1- عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عليه السلام قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله : (الْمُؤْمِنُونَ هَيِّنُونَ لَيِّنُونَ كَالْجَمَلِ الْأَنُوفِ إِنِ اسْتَنَخْتَهُ أَنَاخَ).
2- روى أَبُو الْقَاسِمِ الْكُوفِيُّ فِي كِتَابِ الْأَخْلَاقِ، أَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ قَالَ لِبَعْضِ الْمَلَائِكَةِ : عَلِّمْنِي شَيْئاً أَزْدَادُ بِهِ إِيمَاناً فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ لَا تَهْتَمَّ لِغَدٍ وَاعْمَلْ فِي الْيَوْمِ لِغَدٍ ... إِلَى أَنْ قَالَ وَكُنْ سَهْلًا لَيِّناً لِلْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ وَلَا تَسْلُكْ سَبِيلَ الْجَبَّارِ الْعَنِيدِ .
3- روى الطَّبْرِسِيُّ فِي الْمِشْكَاةِ، نَقْلاً مِنَ الْمَحَاسِنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله قَالَ: (رَحِمَ اللَّهُ كُلَّ سَهْلٍ طَلْقٍ).
4- روى الْحَسَنُ بْنُ فَضْلٍ فِي مَكَارِمِ الْأَخْلاقِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: يَا ابْنَ مَسْعُودٍ عَلَيْكَ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ وَكُنْ سَهْلًا لَيِّناً عَفِيفاً مُسْلِماً .. الْخَبَرَ[9].
4) الدفع بالتي هي أحسن :
لقد ركز النبي (ص) في دعوته على الإحسان للآخرين الذين كان يعاني من أذيتهم وقسوتهم عملاً بقوله تعالى : {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (فصلت:34).
ولنا في قصته مع الرجل الذي كان يرمي القاذورات على باب داره مثالاً رائعاً في الإحسان حيث أنه في يومٍ مرضَ ذلك الرجل فلم يجد النبي تلك القاذورات اليومية على بابه وعندما علم النبي (ص) بذلك زاره في مرضه ونتيجة لذلك أسلم ذلك الرجل .
وقد استطاع النبي (ص) بهذا الخلق الرفيع أن ينشر كلمة التوحيد ويغير من طباع الناس ، ويقاوم الأحداث الرهيبة التي أحاطت به .
5) الصبر :
لقد قابل رسول الأخلاق (ص) كل أنواع الأذى بصبر عظيم وثبات هائل ، إيماناً منه بدعوته ، وحرصاً على تبليغ رسالته ، فقد أمره الله تعالى به حيث قال :
- {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ } (الأحقاف:35)
- {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} (يونس:109)
- {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ } (النحل:127)
- {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} (الإنسان:24)
- {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ } (الكهف:28)
- {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} (القلم:48)
فلقد عانى النبي (ص) من قريش أشد ألوان المحن والبلاء إلا أنه لم يحفل بها ، واحتسبها عند الله تعالى ، واستمر على أداء رسالته حتى فتح الله تعالى له الفتح المبين ونصره على أعدائه ، وقد أمره الله تعالى بالاقتداء بأنبيائه أولي العزم الذين صبروا على المحن والشدائد الشاقة التي لاقوها من أممهم كما في الآية الأولى .
6) تحذير الكافرين من عذاب الله :
من أساليب دعوة الرسول (ص) تحذير الكافرين خاصة والناس عامة من عذاب الله تعالى إن لم يستجيبوا له، وكان يتلوا عليهم آيات من القرآن الكريم تنعى كفرهم وضلالهم .
قال تعالى : {وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا} (الفتح:13)
وقال تعالى : { وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا} (النساء:37)
وقال تعالى : {أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا} (النساء:151)
فالكافرون خالدون في نار جهنم لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون فأسلوب الترهيب من عذاب جهنم كان موجوداً لمن لا يؤمن بالله ولا برسوله ، ولم يكن ذلك بالقوة – أي بقوة السلاح – وإنما كان بالتحذير والتنبيه .
7) البشارة بالجنة والنعيم الخالد :
في مقابل تحذير الكافرين من عذاب الله الدائم الخالد كان رسول الأخلاق يبشر المؤمنين به وبرسالته بالفوز بالجنة ، والظفر بخيراتها ونعيمها حيث قال في عدة آيات :
- {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ } (الحـج:14)
- {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} (القمر:54-55)
إلى غير ذلك من الآيات الكريمة التي وعد الله تعالى فيها المتقين من عباده بالفوز بالجنة ، وهذا أسلوب من الأساليب التي استخدمها النبي (ص) في تبليغ رسالته ونشر قيمه وأهدافه .
أخلاق النبي في غزواته :
في حالة الحرب يستعمل الإنسان مختلف الأساليب الأخلاقية وغيرها للتغلب على الطرف الآخر ويطبَّق في الحروب قديماً وحديثاً: الغاية تبرر الوسيلة، فهاهي الدول الكبرى التي ترفع شعار حقوق الإنسان والحيوان والدفاع عنها تستعمل الأسلحة الجرثومية والقنابل العنقودية والمشعة الممنوعة دولياً ، فالحرب لا ترتدع عن إي جريمة يمكن أن تستعملها في القضاء على خصمها .
ولكن رسول الرحمة والإنسانية لا يغير وضعه في الحرب عن حالة السلم بل في الأولى يستعمل الأخلاق والرحمة مع عدوه أو أصحابه أكثر من حالة السلم وقد تأصلت فيه حتى أصبحت سجية لا تتبدل وفيما يلي نضرب بعض الأمثلة :
في واقعة أحد :
واقعة أحد أحدى الغزوات الكبيرة التي خسر المسلمون فيها عسكرياً ولكن انتصروا فيها معنوياً وأدت إلى نتائج حسنة وكبيرة منها ما كشفت للمسلمين أهمية الإرتباط بالله سبحانه وأنه لا يجوز الاعتماد على الجانب المادي والعسكري ومنها أخلاقية النبي في هذه الواقعة التي تمثلت في:
1- صبره صلى الله عليه وآله في هذه الواقعة حيث كسرت رباعيته وسال الدم على كريمته وهو يدعو لهم بالهداية .
2- عفوه عن المثلة بمن قتل في تلك الواقعة من أعدائه .
3- عفوه عن قاتل عمه حمزة سيد الشهداء .
4- ثم عفوه عن بعض أصحابه الذين تركوه في ساعة العسرة، وينبغي لنا هنا أن نقف وقفة لنتجلى هذه العظمة في هذا الرسول الكريم العظيم .
قال تعالى ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران:159)
سبب نزول هذه الآية :
سبب ذلك أن جماعة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله الذين كانوا معه في القتال لمَّا انكسر المسلمون في تلك الواقعة انهزم جملة منهم وذهبوا يمنة ويسرى وبعضهم ما رجع إلا بعد ثلاثة أيام في أحداث سجلها التاريخ وهؤلاء ندموا على تركهم رسول الله صلى الله عليه وآله مع جماعة قليلة فنزلت هذه الآية .
الفظ : هو الجافي القاسي، وغلظ القلب كناية عن عدم رقته ورأفته، والانفضاض التفرق.
وفي الآية التفات عن خطابهم إلى خطاب رسول الله صلى الله عليه وآله ، وأصل المعنى: فقد لان لكم رسولنا برحمة منا، ولذلك أمرناه أن يعفو عنكم ويستغفر لكم ويشاوركم في الأمر وأن يتوكل علينا إذا عزم.
قال السيد صاحب الميزان : ونكتة الالتفات ما تقدم في أول آيات الغزوة أن الكلام فيه شوب عتاب وتوبيخ، ولذلك اشتمل على بعض الأعراض في ما يناسبه من الموارد ومنها هذا المورد الذي يتعرض فيه لبيان حال من أحوالهم لها مساس بالاعتراض على النبي (ص) فإن تحزنهم لقتل من قتل منهم ربما دلهم على المناقشة في فعل النبي (ص)، ورميه بأنه أوردهم مورد القتل والاستيصال، فأعرض الله تعالى عن مخاطبتهم والتفت إلى نبيه صلى الله عليه وآله فخاطبه بقوله: {فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ }.
والكلام متفرع على كلام آخر يدل عليه السياق، والتقدير: وإذا كان حالهم ما تراه من التشبه بالذين كفروا والتحسر على قتلاهم فبرحمة منا لنت لهم وإلا لانفضوا من حولك. والله أعلم. [10]
وقوله: { فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ } إنما سيق ليكون إمضاء لسيرته (ص) فإنه كذلك كان يفعل، وقد شاورهم في أمر القتال قبيل يوم أحد، وفيه إشعار بأنه إنما يفعل ما يؤمر والله سبحانه عن فعله راض.
وقد أمر الله تعالى نبيه (ص) أن يعفو عنهم فلا يرتب على فعالهم أثر المعصية، وأن يستغفر فيسأل الله أن يغفر لهم -وهو تعالى فاعله لا محالة- واللفظ وإن كان مطلقا لا يختص بالمورد غير أنه لا يشمل موارد الحدود الشرعية وما يناظرها وإلا لغا التشريع، على أن تعقيبه بقوله: {وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} لا يخلو عن الإشعار بأن هذين الأمرين إنما هما في ظرف الولاية وتدبير الأمور العامة مما يجري فيه المشاورة معهم.
وقوله: {فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}، وإذا أحبك كان وليا وناصرا لك غير خاذلك، ولذا عقب الآية بهذا المعنى ودعا المؤمنين أيضا إلى التوكل فقال: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} ثم أمرهم بالتوكل بوضع سببه موضعه فقال: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} أي لإيمانهم بالله الذي لا ناصر ولا معين إلا هو.[11]
قال الفخر الرازي : اعلم أن القوم لما انهزموا عن النبي صلى اللّه عليه وسلم يوم أحد ثم عادوا لم يخاطبهم الرسول صلى اللّه عليه وسلم بالتغليط والتشديد، وإنما خاطبهم بالكلام اللين، ثم إنه سبحانه وتعالى لما أرشدهم في الآيات المتقدمة إلى ما ينفعهم في معاشهم ومعادهم، وكان من جملة ذلك أن عفا عنهم، زاد في الفضل والإحسان بأن مدح الرسول صلى اللّه عليه وسلم على عفوه عنهم، وتركه التغليظ عليهم فقال: {فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} ومن أنصف علم أن هذا ترتيب حسن في الكلام. وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى:
اعلم أن لينه صلى اللّه عليه وسلم مع القوم عبارة عن حسن خلقه مع القوم قال تعالى: {وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (الشعراء: 215)
وقال: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ)
وقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم: 4)
وقال: {لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (التوبة: 128)
وقال عليه الصلاة والسلام: (لا حلم أحب إلى اللّه تعالى من حلم إمام ، ورفقه ، ولا جهل أبغض إلى اللّه ، من جهل إمام ، وخُرْقه)
فلما كان عليه الصلاة والسلام إمام العالمين، وجب أن يكون أكثرهم حلما وأحسنهم خلقاً.
ولما دخل عليه عثمان مع صاحبيه ما زاد على أن قال: (لقد ذهبتم فيها عريضة) [12]
وروي عن بعض الصحابة أنه قال: لقد أحسن اللّه إلينا كل الإحسان، كنا مشركين، فلو جاءنا رسول اللّه بهذا الدين جملة، وبالقرآن دفعة لثقلت هذه التكاليف علينا، فما كنا ندخل في الإسلام، ولكنه دعانا إلى كلمة واحدة، فلما قبلناها وعرفنا حلاوة الإيمان، قبلنا ما وراءها كلمة بعد كلمة على سبيل الرفق إلى أن تم الدين وكملت الشريعة. [13]
الخطبة الثانية
في حين أننا نعيش ذكرى مولد النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وأسبوع الوحدة الإسلامية لا تزال الدماء تسيل في الأمة الإسلامية.
ففي العراق الجريح أعلنت الإحصائيات الأخيرة في مارس الماضي 1861 قتيلا وفي فبراير 1645 قتيلا مع وجود الخطة الأمنية الجديدة ولكن ماذا بعد ؟!
وإلى متى يبقى العراق ينزف دماً؟! أما آن للعراقيين ولمن حولهم أن ينتبهوا لمخططات الاحتلال الأمريكي أم أن مصالحهم في عراق مدمر؟! .
وفي أسبوع الوحدة الإسلامية ينبغي على المسلمين كافة أن ينتبهوا لمخططات الاستعمار وأهدافه في زرع الفتنة الطائفية بين الشيعة والسنة في الوقت الذي لا يعلم فيه الاستعمار بهذه الطوائف وأسباب نشوئها واختلافها ، وكل ما يعرفه أن هناك طائفتان يجب التفريق بينهما ليتمكن الاستعمار من بسط نفوذه عليهما، وليستولي على خيراتهما معا، و ليحد من تطور الطائفتين معا.
وأقرب مثال حي هذه الأيام ما يحاوله الاستعمار من منع الجمهورية الإسلامية الإيرانية من التطور النووي السلمي ومحاولة ضربها عسكريا من جهة ومن جهة أخرى تصويرها دولة شيعية ضد دول المنطقة السنية ، هكذا هو الاستعمار وهكذا هي أهدافه .
ولم يكتفِ الاستعمار من محاولة زرع الفتنة الطائفية بين السنة والشيعة فقط، بل بين الشيعة أنفسهم وبين السنة أنفسهم في محاولة لتدمير الأمة الإسلامية تدميرا كاملا والسيطرة عليهم، وأقرب مثال لذلك ما يحدث في الصومال من قتال بين السنة أنفسهم والتي حصدت في أسوأ قتال حدث أكثر من 381 قتيلا وما ذلك إلا لمصلحة الاستعمار .
ونحن نؤكد في مناسبة مولد رسول الأمة الإسلامية بضرورة الوحدة الإسلامية والتمسك بأهداف النبي الرسالية والأخلاقية والإنسانية، وعلى الأمة أن تترابط وتتوحد ضد العدو الأول وهو الاستعمار، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } (آل عمران:103).
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين وأصحابه المنتجبين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
--------------------------------------------------------------------------------