حنين جذع
2008-11-07, 08:26 AM
باب صلاة الكسوف
الشرح الممتع على زاد المستقنع - المجلد الخامس
- لابن عثيمين - رحمه الله
قوله: «باب صلاة الكسوف» العلماء يعبرون بكتاب، وباب، وفصل، ولكل واحد منها اصطلاح.
فإذا كان الكلام جنساً واحداً عبروا بكتاب.
وإذا كان الكلام نوعاً من جنس عبروا بباب.
وإذا كانت مسائل من باب واحد عبروا بفصل.
فإذا كان الموضوع الطهارة، والصلاة...، يعبر بكتاب الطهارة، وكتاب الصلاة، وكتاب الزكاة، وكتاب الصيام، وكتاب الحج لأن كل واحد جنس.
وإذا كان الموضوع باب الوضوء، أو باب الغسل، أو باب التيمم، أو باب الحيض، أو باب إزالة النجاسة، فهذا يعبر عنه بباب؛ لأن الجنس واحد وهو الطهارة، والنوع مختلف لأن هذا وضوء، وهذا غسل، وهذا حيض، وهذه نجاسة.
وإذا كان نوع الموضوع واحداً لكنه مسائل مختلفة، فيعبر بالفصل.
فمثلاً: الغسل تحته مسائل مختلفة يقال:
فصل: موجبات الغسل، ثم يقال: فصل: وصفة الغسل، فصل: والأغسال المستحبة... وهكذا، هذا هو المعروف من اصطلاح العلماء.
وهنا قال: باب صلاة الكسوف، ولم يقل: كتاب صلاة الكسوف؛ لأن هذا نوع من الصلاة، فالصلاة جنس، وهذا نوع.
وقوله: «صلاة الكسوف» من باب إضافة الشيء إلى سببه، أي باب الصلاة التي سببها الكسوف.
والكسوف والخسوف بمعنى واحد، يقال: كسفت الشمس، وخسفت، وكسف القمر وخسف.
وقال بعضهم: الكسوف للشمس، والخسوف للقمر، ولعل هذا إذا اجتمعت الكلمتان فقيل: كسوف وخسوف، أما إذا انفردت كل واحدة عن الأخرى فهما بمعنى واحد، ولهذا نظائر في اللغة العربية.
والكسوف عرّفه الفقهاء بقولهم: ذهاب ضوء أحد النيرين أو بعضه.
والحقيقة أنه لا يذهب، وإنما ينحجب، ولهذا نقول: التعبير الدقيق للكسوف: «انحجاب ضوء أحد النيرين» ، أي: الشمس أو القمر «بسبب غير معتاد» .
فسبب كسوف الشمس أن القمر يحول بينها وبين الأرض فيحجبها عن الأرض، إما كلها أو بعضها، لكن لا يمكن أن يحجب القمرُ الشمسَ عن جميع الأرض؛ لأنه أصغر منها، حتى لو كسفها عن بقعة على قدر مساحة القمر لم يحجبها عن البقعة الأخرى؛ لأنها أرفع منه بكثير، ولذلك لا يمكن أن يكون الكسوف كلياً في الشمس في جميع أقطار الدنيا أبداً، إنما يكون في موضع معين، مساحته بقدر مساحة القمر.
وإذا قلنا بهذا القول المحقق المتيقن: إنَّ سبب كسوف الشمس هو حيلولة القمر بينها وبين الأرض تبيّن أنه لا يمكن الكسوف في اليوم السابع أو الثامن أو التاسع أو العاشر لبعد القمر عن الشمس في هذه الأيام، إنما يقرب منها في آخر الشهر.
ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: لا يمكن أن تكسف الشمس إلا في التاسع والعشرين أو الثلاثين أو آخر الثامن والعشرين؛ لأنه هو الذي يمكن أن يكون القمر فيه قريباً من الشمس فيحول بينها وبين الأرض.
كذلك القمر سبب كسوفه حيلولة الأرض بينه وبين الشمس؛ لأن القمر يستمد نوره من الشمس كالمرآة أمام القنديل.
فالمرآة أمام القنديل يكون فيها إضاءة نور، لكن لو أطفأت القنديل أصبحت ظلمة، ولهذا سمى الله القمر نوراً، فقال عزّ وجل: {{تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا *}} [الفرقان] ، وقال تعالى: {{وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا *}} [نوح] ، وعلى هذا التقدير الواقعي لا يمكن أن يكسف القمر في الليلة العاشرة، أو الثامنة، أو التاسعة، أو الحادية عشرة، أو السابعة عشرة، أو العشرين، أو الخامسة والعشرين، أو السابعة والعشرين، فلا يمكن أن يكسف إلا في ليالي الإبدار أي: الرابعة عشرة، والخامسة عشرة؛ لأنها هي الليالي التي يمكن أن تحول الأرض بينه وبين الشمس؛ لأنه في جهة والشمس في جهة، فهو في جهة الشرق، والشمس في جهة الغرب فيمكن أن تحول الأرض بينهما وحينئذٍ ينكسف القمر، قال تعالى: {{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً *}} [الإسراء] .
فالشمس منيرة مبصرة بنفسها، وآية الليل القمر ممحو ليس فيه نور.
إذاً هذا هو سبب كسوف الشمس والقمر، وبه نعرف أنه لا يصح التعبير بقولنا: ذهاب ضوء الشمس.
لكن يمكن أن يصح التعبير في هذا بالنسبة للقمر؛ لأنه إذا حالت الأرض بينه وبين الشمس ذهب نوره؛ لأن أصله جرم مظلم امّحى النور الذي فيه.
ويمكن أن نوجه كلام الفقهاء ـ رحمهم الله ـ بأنه ذهاب ضوء أحد النيرين، باعتبار الرؤية، أي: رؤية الناس؛ لأن الناس لا يرون الحاجز بين جرم الشمس أو جرم القمر وهم في الأرض، بخلاف ما لو انحجب ضوؤهما بغمام أو سحاب، فهو معروف.
هذا السبب الذي ذكرته هو السبب الحسي.
لكن هناك سبب شرعي لا يعلم إلا عن طريق الوحي، ويجهله أكثر الفلكيين ومن سار على منهاجهم.
والسبب الشرعي هو تخويف الله لعباده، كما ثبت ذلك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، وإنما يخوف الله بهما عباده» [(170)]؛ ولهذا أمرنا بالصلاة والدعاء والذكر وغير ذلك كما سيأتي إن شاء الله.
فهذا السبب الشرعي هو الذي يفيد العباد؛ ليرجعوا إلى الله، أما السبب الحسي فليس ذا فائدة كبيرة، ولهذا لم يبينه النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولو كان فيه فائدة كبيرة للناس لبيّنه عن طريق الوحي؛ لأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ يعلم سبب الكسوف الحسي، ولكن لا حاجة لنا به، ومثل هذه الأمور الحسية يكل الله أمر معرفتها إلى الناس، وإلى تجاربهم حتى يدركوا ما أودع الله في هذا الكون من الآيات الباهرة بأنفسهم.
أما الأسباب الشرعية، أو الأمور الشرعية التي لا يمكن أن تدركها العقول ولا الحواس، فهي التي يبيّنها الله للعباد.
فإن قال قائل: كيف يجتمع السبب الحسي والشرعي، ويكون الحسي معلوماً معروفاً للناس قبل أن يقع، والشرعي معلوم بطريق الوحي، فكيف يمكن أن نجمع بينهما؟
فالجواب: أن لا تنافي بينهما؛ لأن الأمور العظيمة كالخسف بالأرض، والزلازل، والصواعق، وشبهها التي يحس الناس بضررها، وأنها عقوبة، لها أسباب طبيعية، يقدرها الله حتى تكون المسببات، وتكون الحكمة من ذلك هي تخويف العباد، فالزلازل لها أسباب، والصواعق لها أسباب، والبراكين لها أسباب، والعواصف لها أسباب، لكن يقدر الله هذه الأسباب من أجل استقامة الناس على دين الله. قال تعالى: {{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ *}} [الروم] ، ولكن تضيق قلوب كثير من الناس عن الجمع بين السبب الحسي والسبب الشرعي، وأكثر الناس أصحاب ظواهر لا يعتبرون إلا بالشيء الظاهر، ولهذا تجد الكسوف والخسوف لما علم الناس أسبابهما الحسية ضعف أمرهما في قلوب الناس حتى كأنه صار أمراً عادياً، ونحن نذكر قبل أن نعلم بهذه الأمور أنه إذا حصل الكسوف رعب الناس رعباً شديداً، وصاروا يبكون بكاءً شديداً، ويذهبون إلى المساجد خائفين مذعورين، كما وقع ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام لما كسفت الشمس أول مرة في عهده وكان ذلك بعد أن ارتفعت بمقدار رمح بعد طلوعها وأظلمت الدنيا، ففزع الناس، وفزع النبي عليه الصلاة والسلام فزعاً عظيماً حتى إنه أدرك بردائه[(171)]، أي: من شدة فزعه قام بالإزار قاصداً المسجد حتى تبعوه بالرداء، فارتدى به، وجعل يجره، أي: لم يستقر ليوازن الرداء من شدة فزعه، وأمر أن ينادى الصلاة جامعة[(172)]؛ من أجل أن يجتمع الناس كلهم. فاجتمعت الأمة من رجال ونساء، وصلى بهم النبي عليه الصلاة والسلام صلاة لا نظير لها؛ لأنها لآية لا نظير لها.
آية شرعية لآية كونية، أطال فيها إطالة عظيمة، حتى إن بعض الصحابة ـ مع نشاطهم وقوتهم ورغبتهم في الخير ـ تعبوا تعباً شديداً من طول قيامه عليه الصلاة والسلام، وركع ركوعاً طويلاً، وكذلك السجود، فصلى صلاة عظيمة، والناس يبكون يفزعون إلى الله، وعرضت على النبي عليه الصلاة والسلام الجنة والنار في هذا المقام، يقول: «فلم أرَ يوماً قط أفظع من هذا اليوم» [(173)]؛ حيث عرضت النار عليه حتى صارت قريبة فتنحى عنها، أي: رجع القهقهرى خوفاً من لفحها[(174)]، سبحان الله! فالأمر عظيم! أمر الكسوف ليس بالأمر الهين، كما يتصوره الناس اليوم، وكما يصوره أعداء المسلمين حتى تبقى قلوب المسلمين كالحجارة، أو أشد قسوة والعياذ بالله.
يكسف القمر أو الشمس والناس في دنياهم، فالأغاني تسمع، وكل شيء على ما هو عليه لا تجد إلا الشباب المقبل على دين الله أو بعض الشيوخ والعجائز، وإلا فالناس سادرون لاهون، ولهذا لا يتعظ الناس بهذا الكسوف لا بالشمس ولا بالقمر مع أنه أمر هام، ويجب الاهتمام به.
مسألة: هل من الأفضل أن يخبر الناس به قبل أن يقع؟
الجواب: لا شك أن إتيانه بغتة أشد وقعاً في النفوس، وإذا تحدث الناس عنه قبل وقوعه، وتروضت النفوس له، واستعدت له صار كأنه أمر طبيعي، كأنها صلاة عيد يجتمع الناس لها.
ولهذا لا تجد في الإخبار به فائدة إطلاقاً بل هو إلى المضرة أقرب منه إلى الفائدة.
ولو قال قائل: ألا نخبر الناس ليستعدوا لهذا الشيء؟
فالجواب: نقول: لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، بل إذا وقع ورأيناه بأعيننا فحينئذٍ نفعل ما أمرنا به.
مسألة: إذا قال الفلكيون: إنه سيقع كسوف أو خسوف فلا نصلي حتى نراه رؤية عادية؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا رأيتم ذلك فصلوا» [(175)]، أما إذا منّ الله علينا بأن صار لا يرى في بلدنا إلا بمكبر أو نظارات فلا نصلي.
تُسَنُّ جَمَاعَةً، وَفُرَادَى ..........
قوله: «تسن جماعة، وفرادى» ، صلاة الكسوف مشروعة بالسنة والإجماع، وقال بعض العلماء: إنها مشروعة بالكتاب أيضاً، واستنبطها من قوله تعالى: {{وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لاَ تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ}} [فصلت: 37] ، وقال: إن الناس لا يسجدون للشمس ولا للقمر وهما على مجراهما الطبيعي العادي، وإنما يسجدون لهما إذا حصل منهما هذا الكسوف خوفاً منهما، فأمر الله ـ عز وجل ـ أن يكون السجود له.
وهذا الاستنباط وإن كان له شيءٌ من الوجاهة، لكن لولا ثبوت السنة لم نعتمد عليه.
وأفادنا المؤلف ـ رحمه الله ـ بقوله: «تسن» أن صلاة الكسوف سنة ليست فرض عين، ولا فرض كفاية، وأن الناس لو تركوها لم يأثموا؛ لأن السنة عند الفقهاء هي: ما أثيب فاعله، ولم يعاقب تاركه.
وقد جزم المؤلف ـ رحمه الله ـ بهذا، وهو المشهور عند العلماء.
وقال بعض أهل العلم: إنها واجبة؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا رأيتم ذلك فصلوا» .
قال ابن القيم في كتاب «الصلاة» : وهو قول قوي[(176)]، أي: القول بالوجوب، وصدق ـ رحمه الله ـ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر بها وخرج فزعاً، وقال: إنها تخويف، وخطب خطبة عظيمة، وعُرضت عليه الجنة والنار، وكل هذه القرائن العظيمة تشعر بوجوبها؛ لأنها قرائن عظيمة، ولو قلنا: إنها ليست بواجبة، وإن الناس مع وجود الكسوف إذا تركوها مع هذا الأمر من النبي عليه الصلاة والسلام والتأكيد فلا إثم عليهم لكان في هذا شيء من النظر، كيف يكون تخويفاً ثم لا نبالي وكأنه أمر عادي؟ أين الخوف؟
التخويف يستدعي خوفاً، والخوف يستدعي امتثالاً لأمر النبي عليه الصلاة والسلام.
واستدل الذين قالوا بأنها سنة بما يلي:
1 ـ الحديث المشهور في قصة الذي جاء يسأل عن الإسلام؛ وذكر له النبي صلّى الله عليه وسلّم الصلوات الخمس، قال: «هل عليَّ غيرها؟»، قال: «لا إلا أن تطوع» [(177)].
2 ـ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بعث معاذاً إلى اليمن في آخر حياته في السنة العاشرة، وقال: «أخبرهم بأن الله فرض عليهم خمس صلوات» [(178)]، ولم يذكر سواها.
قالوا: هذان الحديثان، وأمثالهما يدلان على أن الأمر بالصلاة في الكسوف للاستحباب، وليس للوجوب.
والذين قالوا بالوجوب قالوا: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم ذكر الصلوات الخمس؛ لأنها اليومية التي تتكرر في كل زمان وفي كل مكان، أما صلاة الكسوف، وتحية المسجد على القول بالوجوب، وما أشبه ذلك، فإنها تجب بأسبابها، وما وجب بسبب فإنه ليس كالواجب المطلق.
قالوا: ولهذا لو نذر الإنسان أن يصلي ركعتين لوجب عليه أن يصلي مع أنها ليست من الصلوات الخمس، لكن وجبت بسبب نذره، فما وجب بسبب ليس كالذي يجب مطلقاً.
وهذا القول قوي جداً، ولا أرى أنه يسوغ أن يرى الناس كسوف الشمس أو القمر ثم لا يبالون به، كل في تجارته، كل في لهوه، كل في مزرعته، فهذا شيء يخشى أن تنزل بسببه العقوبة التي أنذرنا الله إياها بهذا الكسوف.
فالقول بالوجوب أقوى من القول بالاستحباب.
وإذا قلنا بالوجوب؛ الظاهر أنه على الكفاية.
وقوله: «جماعة وفرادى» ، أي: تسن جماعة، وتسن فرادى.
أي: أن الجماعة ليست شرطاً لها، بل يسن للناس في البيوت أن يصلوها.
ودليل ذلك: عموم قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا رأيتم ذلك فصلوا» [(179)]، فهذا عام، ولم يقل النبي صلّى الله عليه وسلّم: فصلوا في مساجدكم، مثلاً، فدل ذلك على أنه يؤمر بها حتى الفرد، ولكن لا شك أن اجتماع الناس أولى، بل الأفضل أن يصلوها في الجوامع؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام صلاها في مسجد واحد ودعا الناس إليها، ولأن الكثرة في الغالب تكون أدعى للخشوع وحضور القلب، ولأنها ـ أي: الكثرة ـ أقرب إلى إجابة الدعاء.
فهي تسن في المساجد والبيوت، لكن الأفضل في المساجد، وفي الجوامع أفضل.
إِذَا كَسَفَ أَحَدُ النَّيِّرين رَكْعَتَيْنِ يَقْرَأُ فِي الأُْولَى جَهْراً ..........
وقوله: «إذا كسف أحد النيرين» ، «إذا» : ظرف متعلقة بـ «تسن» أي: تسن إذا كسف أحد النيرين وهما: الشمس والقمر.
قوله: «ركعتين يقرأ في الأولى جهراً...» ، بيَّن المؤلف ـ رحمه الله ـ في هذه الجملة صفة صلاة الكسوف، وأنها تصلى ركعتين بلا زيادة، لكن هاتين الركعتين كل واحدة فيها ركوعان.
وقوله: «ركعتين» منصوب على الحالية، وهذا من المواضع التي تأتي فيها الحال جامدة مؤولة بالمشتق، أي: تسنّ حال كونها ركعتين.
وقوله: «يقرأ في الأولى جهراً» أطلق قوله: «جهراً» ولم يقل: في الليل، فدل هذا على أن السنّة في صلاة الكسوف الجهر سواء في الليل أو في النهار، وهو كذلك لحديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جهر في صلاة الخسوف بقراءته» [(180)]، وهي مبنية أيضاً على القاعدة التي سبقت لنا: (أن الصلاة الجهرية في النهار إنما تكون فيما يجتمع الناس عليه).
بَعْدَ الْفَاتِحَةِ سُورةً طَوِيلَةً، ثُمَّ يَرْكَعُ طَوِيلاً ثُمَّ يَرْفَعُ،............
قوله: «بعد الفاتحة سورة طويلة» لم يعيّن، سورة البقرة، أو آل عمران، أو النساء، فالمهم أن تكون سورة طويلة؛ لأن الذي جاء في الحديث أنها طويلة[(181)] أي: يختار أطول ما يكون، وقد سبق أن بعض الصحابة كان يسقط مغشياً عليه من طول القيام[(182)].
قوله: «ثم يركع طويلاً» أي: من غير تقدير، المهم أن يكون طويلاً.
وقال بعض العلماء: يكون بقدر نصف قراءته أي: الركوع يكون نصف القيام، ولكن الصحيح: أنه بدون تقدير، فيطيل بقدر الإمكان.
فإن قال قائل: طول القيام فهمنا ما يفعل فيه وهو القراءة، لكن إذا أطال الركوع فماذا يصنع؟
فالجواب: يكرر التسبيح «سبحان ربي العظيم»، «سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي»، «سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم»، «سبحان الله وبحمده عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته»، لعموم قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أما الركوع فعظموا فيه الرب» [(183)]، فكل ما حصل من تعظيم في الركوع فهذا هو المشروع.
قوله: «ثم يرفع» ، أي: ثم يرفع رأسه من الركوع.
وَيُسَمِّعُ، وَيُحَمِّدُ، ثُمَّ يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ وَسُورَةً طَوِيلَةً دُونَ الأُْولى، ثُمَّ يَرْكَعُ فَيُطِيلُ وَهُوَ دُونَ الأَوَّلِ، ثُمَّ يَرْفَعُ،.........
قوله: «ويسمع» ، أي: يقول: سمع الله لمن حمده.
قوله: «ويحمد» ، أي: يقول: ربنا ولك الحمد، بعد أن يعتدل كسائر الصلوات.
قوله: «ثم يقرأ الفاتحة وسورة طويلة دون الأولى» ، ومن هنا جاءت الغرابة في هذه الصلاة؛ لأن غيرها من الصلوات لا تقرأ الفاتحة بعد الركوع، بل الذي بعد الركوع هو السجود، أما هذه الصلاة فيقرأ الفاتحة، وسورة طويلة.
لكن هل هي دون الأولى بكثير أو بقليل؟
الجواب: جاء في الحديث «دون الأولى» [(184)]، فينظر إلى هذا الدون.
والظاهر: أنه ليس دونها بكثير، لكنه دون يتميّز به القيام الأول عن القيام الثاني.
قوله: «ثم يركع فيطيل، وهو دون الأول» ، ونقول هنا في قوله: «دون الأول» كما قلنا في القراءة.
قوله: «ثم يرفع» أي: ويسمع ويحمد.
وظاهر كلام المؤلف: أنه في الرفع الذي يليه السجود لا يطيل القيام، بل يكون كالصلاة العادية، ولكن هذا الظاهر فيه نظر، والصحيح: أنه يطيل هذا القيام بحيث يكون قريباً من الركوع؛ لأن هذه عادة النبي صلّى الله عليه وسلّم في صلاته، قال البراء بن عازب ـ رضي الله عنه ـ: «رمقت صلاة النبي عليه الصلاة والسلام فرأيت قيامه، وقعوده، وركوعه، وسجوده قريباً من السواء» [(185)]، والمراد بقيامه هنا قيامه بعد الركوع؛ لأن قيام القراءة أطول بكثير من الركوع، ولأجل تناسب الصلاة.
ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ، ثُمَّ يُصَلِّي الثَّانِيَةَ كَالأُْولَى لَكِنْ دُونَهَا فِي كُلِّ مَا يَفْعَلُ ثُمَّ يَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ،...........
قوله: «ثم يسجد سجدتين طويلتين» ، أي: بقدر الركوع.
وظاهر كلامه: أنه لا يطيل الجلوس بينهما؛ لأنه لو أراد إطالة الجلوس بينهما لنبّه عليه، فكونه يقول: «يسجد سجدتين» ويسكت عن الجلوس بينهما، كأنه يقول: والجلوس بينهما معروف، وأنه جلوسٌ لا إطالة فيه.
والصواب: أنه يطيل الجلوس بقدر السجود.
قوله: «ثم يصلي الثانية كالأولى، لكن دونها في كل ما يفعل» أي: من القراءة والركوع، والقيام بعده، والسجود، فالثانية تكون دون الأولى.
ولكن هل معناه أن القيام الأول في الثانية كالقيام الثاني في الأولى، والقيام الثاني في الثانية دون ذلك، أو معناه: أن كل ركعة وركوع دون الذي قبله؟
الجواب: أن السنّة ليس فيها ما يدل لهذا ولا لهذا. فليس لدينا دليل واضح في هذه المسألة، فيحتمل أن القيام الأول في الثانية كالقيام الثاني في الأولى، وهو إذا جعل القيام الثاني في الثانية دون القيام الأول صارت الركعة الثانية دون الأولى.
لكن الذي يظهر ـ والله أعلم ـ أن كل قيام وركوع وسجود دون الذي قبله.
ونضرب لهذا مثلاً: قرأ في القيام الأول من الأولى مائة آية، وفي الثاني ثمانين آية، وفي القيام الأول من الركعة الثانية هل يقرأ ثمانين آية، وفي القيام الثاني ستين آية، أو يقرأ في القيام الأول في الركعة الثانية ستين آية، وفي القيام الثاني أربعين آية؟
الجواب: هذا هو محل التردد والاحتمال، والذي يظهر الثاني، أي: أنه يجعل قراءته في القيام الأول من الركعة الثانية دون قراءته في القيام الثاني من الركعة الأولى؛ لتكون الصلاة بالتنزل كل ركعة دون التي قبلها.
وفي هذا من الحكمة مراعاة حال المصلي؛ لأن المصلي أول ما يدخل في الصلاة يكون عنده نشاط وقوة، ثم مع الاستمرار يضعف؛ فلهذا روعيت حاله، فكان القيام الأول أطول، ثم الثاني، ثم الثالث، ثم الرابع.
قوله: «ثم يتشهد ويسلم» ، أي: كغيرها من الصلوات، وبهذا انتهت هذه الصلاة.
وهذه الصفة اتفق عليها البخاري ومسلم[(186)]، أي: أنه يصلي ركعتين، في كل ركعة ركوعان وسجودان صح ذلك عن عائشة وغيرها عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولكن تكون الصلاة طويلة.
وظاهر كلامه: أنه لا يشرع لها خطبة؛ لأنه لم يذكرها، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة.
وقال بعض العلماء: بل يشرع بعدها خطبتان؛ لأنها صلاة رهبة فشرع لها خطبتان كالاستسقاء، ولكن هذا قياس غير صحيح؛ لأن الاستسقاء ليس فيه إلا خطبة واحدة، إلا على قول بعض العلماء الذي قال: إنها كصلاة العيد، وسيأتي إن شاء الله، ولا يصح قياسها على صلاة العيدين؛ لأن صلاة العيدين صلاة فرح وسرور.
وقال بعض العلماء: يسنّ لها خطبة واحدة، وهذا مذهب الشافعي، وهو الصحيح.
وذلك لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما انتهى من صلاة الكسوف «قام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، ثم وعظ الناس» [(187)]. وهذه الصفات صفات الخطبة.
وقولهم: إن هذه موعظة؛ لأنها عارضة. نقول: نعم، لو وقع الكسوف في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم مرة أخرى، ولم يخطب لقلنا: إنها ليست بسنة، لكنه لم يقع إلا مرة واحدة، وجاء بعدها هذه الخطبة العظيمة التي خطبها وهو قائم، وحمد الله وأثنى عليه، وقال: أما بعد، ثم إن هذه المناسبة للخطبة مناسبة قوية من أجل تذكير الناس وترقيق قلوبهم، وتنبيههم على هذا الحدث الجلل العظيم.
فَإِنْ تَجَلَّى الكُسُوفُ فِيهَا أَتَمَّهَا خَفِيفَةً ............
قوله: «فإن تجلى الكسوف فيها» أي: كسوف الشمس، أو القمر؛ لأنَّ الكسوف عند الإطلاق يشمل الشمس والقمر، أما إذا اقترنا فالكسوف للشمس والخسوف للقمر.
وقوله: «فيها» أي: في الصلاة.
ويعلم التجلي بالرؤية، فإن كان في النهار فالأمر واضح، وإن كان في الليل فكذلك، وإن كان تحت السقف فبالخبر.
قوله: «أتمها خفيفة» ، ظاهر كلامه: حتى لو كانت خفة الركعة الثانية بالنسبة للأولى بعيدة جداً؛ فمثلاً: الركعة الأولى استغرقت نصف ساعة، والثانية إذا أتمها خفيفة تستغرق خمس دقائق.
فظاهر كلامه: أن الأمر يكون كذلك، وحينئذٍ تكون الصلاة وكأنها صلاة جذماء مقطوعة بعض الأعضاء.
وحجتهم في هذا:
1 ـ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «صلوا حتى ينكشف ما بكم» [(188)]، و«حتى» للغاية.
وهذا الحديث كما يمنع ابتداء الصلاة مرة أخرى يمنع أيضاً الاستمرار فيها واستدامتها.
2 ـ أن السبب الذي من أجله شرعت الصلاة قد زال.
مسائل:
الأولى: لو حصل كسوف ثم تلبدت السماء بالغيوم فهل نعمل بقول علماء الفلك بالنسبة لوقت التجلي؟
الجواب: نعمل بقولهم؛ لأنه ثبت بالتجارب أن قولهم منضبط.
الثانية: إذا لم يعلم بالكسوف إلا بعد زواله فلا يقضى؛ لأننا ذكرنا قاعدة مفيدة، وهي (أن كل عبادة مقرونة بسبب إذا زال السبب زالت مشروعيتها) . فالكسوف مثلاً إذا تجلت الشمس، أو تجلى القمر، فإنها لا تعاد؛ لأنها مطلوبة لسبب وقد زال.
ويعبر الفقهاء ـ رحمهم الله ـ عن هذه القاعدة بقولهم: (سنة فات محلها).
الثالثة: إذا شرع في صلاة الكسوف قبل دخول وقت الفريضة ثم دخل وقت الفريضة، فماذا يفعل؟
الجواب: إن ضاق وقت الفريضة وجب عليه التخفيف؛ ليصليها في الوقت، وإن اتسع الوقت فيستمر في صلاة الكسوف.
وَإِنْ غَابَت الشَّمْسُ كَاسِفَةً،..........
قوله: «وإن غابت الشمس كاسفة» ، إذا غابت الشمس كاسفة، فإنه لا يصلى؛ لأنها لما غابت ذهب سلطانها، وكونها كاسفة أو غير كاسفة بالنسبة لنا حين غابت لا يؤثر شيئاً، فلما زال سلطانها سقطت المطالبة بالصلاة لكسوفها.
مسائل:
الأولى: إذا كسفت في آخر النهار، فلا يصلى الكسوف بناء على أنها سنّة، وأن ذوات الأسباب لا تفعل في وقت النهي وهذا هو المذهب.
ولكن الصحيح في هذه المسألة: أنه يصلى للكسوف بعد العصر، أي: لو كسفت الشمس بعد العصر فإننا نصلي؛ لعموم قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا رأيتم ذلك فصلوا» [(189)]، فيشمل كل وقت.
فإن قال قائل: عموم قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا صلاة بعد العصر» [(190)] يشمل كل صلاة، فعندنا الآن عمومان، وهما: عموم النهي عن كل صلاة في زمن معين وهو العصر مثلاً، وعموم الأمر بصلاة الكسوف في كل وقت، ومثل هذا يسمى العام والخاص من وجه، فأيهما نقدم عموم النهي أو عموم الأمر؟ إذا قلنا: نقدم عموم الأمر، قيل: بل عموم النهي؛ لأنه أحوط، لأنك تقع في معصية.
وذكر شيخ الإسلام قاعدة قال: (إذا كان أحد العمومين مخصصاً، فإن عمومه يضعف) . أي: إذا دخله التخصيص صار ضعيفاً، فيقدم عليه العام الذي لم يخصص؛ لأن عمومه محفوظ، وعموم الأول الذي دخله التخصيص غير محفوظ، وهذا الذي قاله صحيح.
بل إن بعض العلماء ـ رحمهم الله ـ قال: إن العام إذا خصّص صارت دلالتُهُ على العموم ذاتَ احتمال، فأي فرد من أفراد العموم يستطيع الخصم أن يقول: يحتمل أنه غير مراد، كما خصّص في هذه المسألة التي وقع فيها التخصيص.
لكن الراجح: أن العام إذا خصص يبقى عاماً إلا في المسألة التي خصّص فيها فقط.
فحديث الأمر بالصلاة عند رؤية الكسوف لم يخصّص، وحديث الصلاة بعد العصر مخصّص بقول النبي عليه الصلاة والسلام: «إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم، فإنها لكما نافلة» [(191)].
فإن الرسول صلّى الله عليه وسلّم ذكر هذا للرجلين اللذين تخلفا عن صلاة الفجر، ولا صلاة بعد صلاة الفجر.
كذلك أيضاً مخصّص بركعتي الطواف، فإن الإنسان إذا طاف ولو بعد العصر يسنّ أن يصلي ركعتين.
ومخصّص بقضاء الفريضة إذا نسيها، فمن نام عن صلاة أو نسيها، وذكرها ولو بعد العصر فإنه يصليها.
فعموم النهي إذاً مخصّص بعدة مخصّصات، فيكون عمومه ضعيفاً، ويقدم حديث الأمر، ومن ثمَّ صار القول الراجح في هذه المسألة: أن كل صلاة لها سبب تصلى حيث وجد سببها، ولو في أوقات النهي، وهي الرواية الثانية عن الإمام أحمد.
الثانية: إذا شرع في صلاة الكسوف بعد العصر ثم غابت كاسفة فإنه يتمها خفيفة؛ لأنها إذا غابت فهي كما لو تجلى.
الثالثة: إذا طلعت الشمس كاسفة فعلى المذهب لا يصلى إلا إذا ارتفعت قيد رمح، فإن تجلى قبل أن ترتفع قيد رمح سقطت، وعلى القول الصحيح تصلى مباشرة، فإذا تجلى قبل زوال وقت النهي أتمها خفيفة.
الرابعة: لو لم نعلم بكسوفها إلا حين غروبها فلا نصلي، ونعلل: بأن سلطانها قد ذهب، فنحن الآن في الليل لا في النهار، وهي آية النهار.
أَوْ طَلَعَتْ والقَمَرُ خَاسِفٌ، أَوْ كَانَتْ آيَةٌ غَيْرَ الزَّلْزَلَةِ لَمْ يُصَلِّ.
قوله: «أو طلعت والقمر خاسف» ، هل يمكن أن تطلع والقمر خاسف؟
الجواب: يمكن، ففي نصف الشهر: يكون القمر في الغرب، والشمس في الشرق فربما يكسف بعدما تطلع الشمس، وهذا شيء قد وقع.
فإذا طلعت والقمر خاسف فإنه لا يصلي؛ لأنه ذهب سلطانه فإن سلطان القمر الليل، كما لو غابت الشمس، وهي كاسفة.
مسألة: لو طلع الفجر وخسف القمر قبل طلوع الشمس هل يصلى؟
الجواب: قد نقول: إن مفهوم قوله: «أو طلعت والقمر خاسف» إنها تصلى، ولكن المشهور من المذهب أنها لا تصلى بعد طلوع الفجر إذا خسف القمر؛ لأنه وقت نهي.
والصحيح: أنها تصلى إن كان القمر لولا الكسوف لأضاء، أما إن كان النهار قد انتشر، ولم يبق إلا القليل على طلوعٍ الشمس فهنا قد ذهب سلطانه، والناس لا ينتفعون به، سواء كان كاسفاً أو مبدراً.
قوله: «أو كانت آية غير الزلزلة لم يصل» ، أي: إذا وُجدت آية تخويف كالصواعق، والرياح الشديدة، وبياض الليل، وسواد النهار، والحمم، وغير ذلك فإنه لا تصلى صلاة الكسوف إلا الزلزلة، فإنه إذا زلزلت الأرض فإنهم يصلون صلاة الكسوف حتى تتوقف. والمراد بالزلزلة: الزلزلة الدائمة.
وهذه المسألة اختلف فيها العلماء على أقوال ثلاثة:
القول الأول: ما مشى عليه المؤلف أنه لا يصلى لأي آية تخويف إلا الزلزلة.
وحجة هؤلاء أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كانت توجد في عهده الرياح العواصف، والأمطار الكثيرة، وغير ذلك مما يكون مخيفاً ولم يصل، وأما الزلزلة فدليلهم في ذلك أنه روي عن عبد الله بن عباس[(192)]، وعلي بن أبي طالب[(193)] ـ رضي الله عنهم ـ: أنهما كانا يصليان للزلزلة، فتكون حجة الصلاة في الزلزلة هي فعل الصحابة.
القول الثاني: أنه لا يصلى إلا للشمس والقمر؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «فإذا رأيتموهما فصلوا» ، ولا يصلى لغيرهما من آيات التخويف.
وما يروى عن ابن عباس أو علي فإنه ـ إن صح ـ اجتهاد في مقابلة ما ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم من ترك الصلاة للأشياء المُخيفة.
القول الثالث: يصلى لكل آية تخويف.
واستدلوا بما يلي:
1 ـ عموم العلة وهي قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إنهما آيتان من آيات الله يخوِّف الله بهما عباده» ، قالوا: فكل آية يكون فيها التخويف، فإنه يصلى لها.
2 ـ أن الكربة التي تحصل في بعض الآيات أشد من الكربة التي تحصل في الكسوف.
3 ـ أن ما يروى عن ابن عباس وعلي[(194)] ـ رضي الله عنهم ـ يدل على أنه لا يقتصر في ذلك على الكسوف وأن كل شيء فيه التخويف فإنه يصلى له.
4 ـ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة» [(195)]، أي: إذا كربه وأهمه؛ وإن كان الحديث ضعيفاً لكنه مقتضى قوله تعالى: {{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ}} [البقرة: 45] .
وأما ما ذكر من أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كانت توجد في عهده العواصف، وقواصف الرعد، فإن هذا لا يدل على ما قلنا؛ لأنه قد تكون هذه رياحاً معتادة، والشيء المعتاد لا يخوِّفُ وإن كان شديداً، فمثلاً في أيام الصيف اعتاد الناس أن الرياح تهب بشدة وتكثر، ولا يعدُّون هذا شيئاً مخيفاً.
صحيح أنه أحياناً قد توجد صواعق عظيمة متتابعة تخيف الناس، فهل الصواعق التي وقعت في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم كهذه؟ لا يستطيع أحد أن يثبت أن هناك صواعق في عهد النبي عليه الصلاة والسلام خرجت عن المعتاد، لكن لو وجدت صواعق عظيمة متتابعة، فإن الناس لا شك سيخافون، وفي هذه الحال يفزعون إلى ربهم ـ عز وجل ـ بالصلاة.
وهذا الأخير هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ، له قوة عظيمة. وهذا هو الراجح.
مسألة: فعلى القول بأنه يصلى لكل آية تخويف، فهل ذلك على سبيل الوجوب كالكسوف؟
الجواب: مقتضى القياس أن ذلك واجب، ولكن لا أظن أن ذلك يكون على سبيل الوجوب.
وَإِنْ أَتَى فِي كُلِّ رَكْعَةٍ بِثَلاَثِ رُكُوعَاتٍ، أَوْ أَرْبَعٍ، أَوْ خَمْسٍ جَازَ.
قوله: «وإن أتى» ، أي: المصلي.
قوله: «في كل ركعة بثلاث ركوعات أو أربع أو خمس جاز» ، لأنه ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام: «أنه صلى ثلاث ركوعات في ركعة واحدة»، أخرجه مسلم[(196)]، لكن هذه الرواية شاذة، ووجه شذوذها: أنها مخالفة لما اتفق عليه البخاري ومسلم من أن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «صلى صلاة الكسوف في كل ركعة ركوعان فقط» [(197)]، ومن المعلوم بالاتفاق أن الكسوف لم يقع في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم ولم يصلِّ له إلا مرة واحدة فقط.
وعلى هذا فالمحفوظ أنه صلّى في كل ركعة ركوعين، وما زاد على ذلك فهو شاذ؛ لأن الثقة مخالف فيها لمن هو أرجح.
ولكن ثبت عن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ: «أنه صلّى في كل ركعة أربع ركوعات» [(198)]، وعلى هذا فيكون من سنّة الخلفاء الراشدين، وهذا ينبني على طول زمن الكسوف، فإذا علمنا أن زمن الكسوف سيطول فلا حرج من أن نصلي ثلاث ركوعات في كل ركعة، أو أربع ركوعات، كما قال المؤلف، أو خمس ركوعات؛ لأن كل ذلك ورد عن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ وهو يرجع إلى زمن الكسوف إن طال زيدت الركوعات، وإن قصر فالاقتصار على ركوعين أولى.
وإن اقتصر على ركوعين وأطال الصلاة إذا علم أن الكسوف سيطول فهو أولى وأفضل، والكلام في الجواز، أما الأفضل فلا شك أن الأفضل ما جاء عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو أنه يصلي ركوعين في كل ركعة.
مسائل:
الأولى: ما بعد الركوع الأول هل هو ركن أو لا؟
يقول العلماء: إنه سنّة وليس ركناً، وبناء على ذلك لو صلاها كما تصلى صلاة النافلة، في كل ركعة ركوع فلا بأس؛ لأن ما زاد على الركوع الأول سنة.
الثانية: هل تدرك الركعة بالركوع الثاني؟
الجواب: لا تدرك به الركعة، وإنما تدرك الركعة بالركوع الأول، فعلى هذا لو دخل مسبوق مع الإِمام بعد أن رفع رأسه من الركوع الأول فإن هذه الركعة تعتبر قد فاتته فيقضيها.
وقال بعض العلماء: إنه يعتد بها؛ لأنها ركوع.
وفصل آخرون فقالوا: يعتد بها إن أتى الإمام بثلاث ركوعات؛ لأنه إذا أدرك الركوع الثاني وهي ثلاث ركوعات فقد أدرك معظم الركعة فيكون كمن أدركها كلها.
والقول الصحيح الأول، لأن الركوع الأول هو الركن.
الثالثة: لو انتهت الصلاة والكسوف باق، فهل تعاد الصلاة أو لا؟ وإذا قلنا بالإعادة فهل تعاد كسائر النوافل، أو كصلاة الكسوف؟
والجواب: في هذا ثلاثة أقوال للعلماء:
القول الأول: أنها لا تعاد.
القول الثاني: أنها تعاد على صفتها.
القول الثالث: أنها تعاد على صفة النوافل الأخرى، أي: ركعتين.
فمن نظر لقول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «فصلوا حتى ينكشف ما بكم» قال: إن المشروع أن تصلى كسائر النوافل؛ لأن الصلاة الأولى انقضت وامتثل بها الأمر.
ومن نظر إلى قوله: «فصلوا وادعوا..» [(199)]، قال: إن الصلاة حصلت فيبقى الدعاء. وعمل الناس على أنها لا تعاد، وأنا لم يترجح عندي شيء لكني أفعل الثاني، وهو: عدم الإعادة.
الرابعة: يسن النداء لصلاة الكسوف، ويقال: «الصلاة جامعة» مرتين أو ثلاثاً. بحيث يعلم أو يغلب على ظنه أن الناس قد سمعوا.
وإذا قلنا بهذا فإنه يختلف بين الليل والنهار، ففي الليل قد يكون الناس نائمين يحتاجون لتكرار النداء، وفي النهار لا سيما مع هدوء الأصوات يمكن أن يكفيهم النداء مرتين أو ثلاثاً.
ولا ينادى لغيرها من الصلوات بهذه الصيغة؛ لأن الصلوات الخمس ينادى لها بالأذان.
وقال بعض العلماء؛ وهو المذهب: إنه ينادى للاستسقاء، والعيدين «الصلاة جامعة».
لكن هذا القول ليس بصحيح، ولا يصح قياسهما على الكسوف؛ لوجهين:
الوجه الأول: أن الكسوف يقع بغتة، خصوصاً في الزمن الأول لما كان الناس لا يدرون عنه إلا إذا وقع.
الوجه الثاني: أن الاستسقاء والعيدين لم يكن النبي صلّى الله عليه وسلّم ينادي لهما؛ وكل شيء وجد سببه في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم ولم يفعله ففعله بدعة؛ لأنه ليس هناك مانع يمنع الرسول صلّى الله عليه وسلّم من النداء، ولو كان هذا السبب يشرع له النداء لأمر المنادي أن ينادي لها.
فالصواب: أن العيدين والاستسقاء لا ينادى لهما.
مسألة: تميزت صلاة الكسوف عن بقية الصلوات بأمور هي:
1 ـ زيادة ركوع في كل ركعة على الركوع الأول.
2 ـ أن فيها بعد الركوع قراءة.
3 ـ تطويل القراءة فيها والركوع والسجود.
4 ـ الجهر فيها بالقراءة ليلاً أو نهاراً.
5 ـ يشرع إذا انتهت الصلاة، ولم يتجل الكسوف: الذكر والاستغفار والتكبير والعتق. وهذا فرق خارج عن نفس الصلاة لكنه فرق صحيح.
---------------------------------------
[170] أخرجه البخاري (1048)؛ ومسلم (911).
[171] أخرجه مسلم (906) عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما.
[172] أخرجه البخاري (1045)، ومسلم (910) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
[173] أخرجه البخاري (1052)؛ ومسلم (907) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
[174] أخرجه مسلم (904) عن جابر رضي الله عنه.
[175] أخرجه البخاري (1058)؛ ومسلم (901) عن عائشة رضي الله عنها.
[176] ص(15).
[177] أخرجه البخاري (2678)؛ ومسلم (11) عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه.
[178] سبق تخريجه ص(9).
[179] سبق تخريجه ص(180).
[180] أخرجه البخاري (1065)؛ ومسلم (901) (5).
[181] سبق تخريجه ص(180).
[182] كما في حديث جابر، وقد سبق تخريجه.
[183] سبق تخريجه (3/87).
[184] سبق تخريجه من حديث عائشة ص(180).
[185] سبق تخريجه ص(180).
[186] سبق تخريجه ص(180).
[187] أخرجه البخاري (1053)؛ ومسلم (905) عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما.
[188] أخرجه البخاري (1060)؛ ومسلم (915) عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
[189] سبق تخريجه ص(180).
[190] سبق تخريجه (4/111).
[191] سبق تخريجه (2/80).
[192] أثر ابن عباس رضي الله عنهما:«أنه صلّى في الزلزلة بالبصرة، فأطال القنوت، ثم ركع، ثم رفع رأسه، فأطال القنوت، ثم ركع، ثم رفع رأسه فأطال القنوت، ثم ركع، فسجد، ثم صلّى الثانية كذلك فصارت صلاته ست ركعات وأربع سجدات، وقال: هكذا صلاة الآيات».
أخرجه عبد الرزاق (4929)؛ وابن أبي شيبة (2/472)؛ والبيهقي (3/343) وقال: «هو عن ابن عباس ثابت».
[193] أخرجه البيهقي (3/343).
[194] سبق تخريجه ص(194).
[195] أخرجه الإمام أحمد (5/388)؛ وأبو داود (1319).
[196] (904) (10) عن جابر رضي الله عنه.
[197] سبق تخريجه ص(180).
[198] أخرجه الإمام أحمد (1/143)؛ والبيهقي (3/330).
[199] سبق تخريجه ص(189). ]
الشرح الممتع على زاد المستقنع - المجلد الخامس
- لابن عثيمين - رحمه الله
قوله: «باب صلاة الكسوف» العلماء يعبرون بكتاب، وباب، وفصل، ولكل واحد منها اصطلاح.
فإذا كان الكلام جنساً واحداً عبروا بكتاب.
وإذا كان الكلام نوعاً من جنس عبروا بباب.
وإذا كانت مسائل من باب واحد عبروا بفصل.
فإذا كان الموضوع الطهارة، والصلاة...، يعبر بكتاب الطهارة، وكتاب الصلاة، وكتاب الزكاة، وكتاب الصيام، وكتاب الحج لأن كل واحد جنس.
وإذا كان الموضوع باب الوضوء، أو باب الغسل، أو باب التيمم، أو باب الحيض، أو باب إزالة النجاسة، فهذا يعبر عنه بباب؛ لأن الجنس واحد وهو الطهارة، والنوع مختلف لأن هذا وضوء، وهذا غسل، وهذا حيض، وهذه نجاسة.
وإذا كان نوع الموضوع واحداً لكنه مسائل مختلفة، فيعبر بالفصل.
فمثلاً: الغسل تحته مسائل مختلفة يقال:
فصل: موجبات الغسل، ثم يقال: فصل: وصفة الغسل، فصل: والأغسال المستحبة... وهكذا، هذا هو المعروف من اصطلاح العلماء.
وهنا قال: باب صلاة الكسوف، ولم يقل: كتاب صلاة الكسوف؛ لأن هذا نوع من الصلاة، فالصلاة جنس، وهذا نوع.
وقوله: «صلاة الكسوف» من باب إضافة الشيء إلى سببه، أي باب الصلاة التي سببها الكسوف.
والكسوف والخسوف بمعنى واحد، يقال: كسفت الشمس، وخسفت، وكسف القمر وخسف.
وقال بعضهم: الكسوف للشمس، والخسوف للقمر، ولعل هذا إذا اجتمعت الكلمتان فقيل: كسوف وخسوف، أما إذا انفردت كل واحدة عن الأخرى فهما بمعنى واحد، ولهذا نظائر في اللغة العربية.
والكسوف عرّفه الفقهاء بقولهم: ذهاب ضوء أحد النيرين أو بعضه.
والحقيقة أنه لا يذهب، وإنما ينحجب، ولهذا نقول: التعبير الدقيق للكسوف: «انحجاب ضوء أحد النيرين» ، أي: الشمس أو القمر «بسبب غير معتاد» .
فسبب كسوف الشمس أن القمر يحول بينها وبين الأرض فيحجبها عن الأرض، إما كلها أو بعضها، لكن لا يمكن أن يحجب القمرُ الشمسَ عن جميع الأرض؛ لأنه أصغر منها، حتى لو كسفها عن بقعة على قدر مساحة القمر لم يحجبها عن البقعة الأخرى؛ لأنها أرفع منه بكثير، ولذلك لا يمكن أن يكون الكسوف كلياً في الشمس في جميع أقطار الدنيا أبداً، إنما يكون في موضع معين، مساحته بقدر مساحة القمر.
وإذا قلنا بهذا القول المحقق المتيقن: إنَّ سبب كسوف الشمس هو حيلولة القمر بينها وبين الأرض تبيّن أنه لا يمكن الكسوف في اليوم السابع أو الثامن أو التاسع أو العاشر لبعد القمر عن الشمس في هذه الأيام، إنما يقرب منها في آخر الشهر.
ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: لا يمكن أن تكسف الشمس إلا في التاسع والعشرين أو الثلاثين أو آخر الثامن والعشرين؛ لأنه هو الذي يمكن أن يكون القمر فيه قريباً من الشمس فيحول بينها وبين الأرض.
كذلك القمر سبب كسوفه حيلولة الأرض بينه وبين الشمس؛ لأن القمر يستمد نوره من الشمس كالمرآة أمام القنديل.
فالمرآة أمام القنديل يكون فيها إضاءة نور، لكن لو أطفأت القنديل أصبحت ظلمة، ولهذا سمى الله القمر نوراً، فقال عزّ وجل: {{تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا *}} [الفرقان] ، وقال تعالى: {{وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا *}} [نوح] ، وعلى هذا التقدير الواقعي لا يمكن أن يكسف القمر في الليلة العاشرة، أو الثامنة، أو التاسعة، أو الحادية عشرة، أو السابعة عشرة، أو العشرين، أو الخامسة والعشرين، أو السابعة والعشرين، فلا يمكن أن يكسف إلا في ليالي الإبدار أي: الرابعة عشرة، والخامسة عشرة؛ لأنها هي الليالي التي يمكن أن تحول الأرض بينه وبين الشمس؛ لأنه في جهة والشمس في جهة، فهو في جهة الشرق، والشمس في جهة الغرب فيمكن أن تحول الأرض بينهما وحينئذٍ ينكسف القمر، قال تعالى: {{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً *}} [الإسراء] .
فالشمس منيرة مبصرة بنفسها، وآية الليل القمر ممحو ليس فيه نور.
إذاً هذا هو سبب كسوف الشمس والقمر، وبه نعرف أنه لا يصح التعبير بقولنا: ذهاب ضوء الشمس.
لكن يمكن أن يصح التعبير في هذا بالنسبة للقمر؛ لأنه إذا حالت الأرض بينه وبين الشمس ذهب نوره؛ لأن أصله جرم مظلم امّحى النور الذي فيه.
ويمكن أن نوجه كلام الفقهاء ـ رحمهم الله ـ بأنه ذهاب ضوء أحد النيرين، باعتبار الرؤية، أي: رؤية الناس؛ لأن الناس لا يرون الحاجز بين جرم الشمس أو جرم القمر وهم في الأرض، بخلاف ما لو انحجب ضوؤهما بغمام أو سحاب، فهو معروف.
هذا السبب الذي ذكرته هو السبب الحسي.
لكن هناك سبب شرعي لا يعلم إلا عن طريق الوحي، ويجهله أكثر الفلكيين ومن سار على منهاجهم.
والسبب الشرعي هو تخويف الله لعباده، كما ثبت ذلك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، وإنما يخوف الله بهما عباده» [(170)]؛ ولهذا أمرنا بالصلاة والدعاء والذكر وغير ذلك كما سيأتي إن شاء الله.
فهذا السبب الشرعي هو الذي يفيد العباد؛ ليرجعوا إلى الله، أما السبب الحسي فليس ذا فائدة كبيرة، ولهذا لم يبينه النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولو كان فيه فائدة كبيرة للناس لبيّنه عن طريق الوحي؛ لأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ يعلم سبب الكسوف الحسي، ولكن لا حاجة لنا به، ومثل هذه الأمور الحسية يكل الله أمر معرفتها إلى الناس، وإلى تجاربهم حتى يدركوا ما أودع الله في هذا الكون من الآيات الباهرة بأنفسهم.
أما الأسباب الشرعية، أو الأمور الشرعية التي لا يمكن أن تدركها العقول ولا الحواس، فهي التي يبيّنها الله للعباد.
فإن قال قائل: كيف يجتمع السبب الحسي والشرعي، ويكون الحسي معلوماً معروفاً للناس قبل أن يقع، والشرعي معلوم بطريق الوحي، فكيف يمكن أن نجمع بينهما؟
فالجواب: أن لا تنافي بينهما؛ لأن الأمور العظيمة كالخسف بالأرض، والزلازل، والصواعق، وشبهها التي يحس الناس بضررها، وأنها عقوبة، لها أسباب طبيعية، يقدرها الله حتى تكون المسببات، وتكون الحكمة من ذلك هي تخويف العباد، فالزلازل لها أسباب، والصواعق لها أسباب، والبراكين لها أسباب، والعواصف لها أسباب، لكن يقدر الله هذه الأسباب من أجل استقامة الناس على دين الله. قال تعالى: {{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ *}} [الروم] ، ولكن تضيق قلوب كثير من الناس عن الجمع بين السبب الحسي والسبب الشرعي، وأكثر الناس أصحاب ظواهر لا يعتبرون إلا بالشيء الظاهر، ولهذا تجد الكسوف والخسوف لما علم الناس أسبابهما الحسية ضعف أمرهما في قلوب الناس حتى كأنه صار أمراً عادياً، ونحن نذكر قبل أن نعلم بهذه الأمور أنه إذا حصل الكسوف رعب الناس رعباً شديداً، وصاروا يبكون بكاءً شديداً، ويذهبون إلى المساجد خائفين مذعورين، كما وقع ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام لما كسفت الشمس أول مرة في عهده وكان ذلك بعد أن ارتفعت بمقدار رمح بعد طلوعها وأظلمت الدنيا، ففزع الناس، وفزع النبي عليه الصلاة والسلام فزعاً عظيماً حتى إنه أدرك بردائه[(171)]، أي: من شدة فزعه قام بالإزار قاصداً المسجد حتى تبعوه بالرداء، فارتدى به، وجعل يجره، أي: لم يستقر ليوازن الرداء من شدة فزعه، وأمر أن ينادى الصلاة جامعة[(172)]؛ من أجل أن يجتمع الناس كلهم. فاجتمعت الأمة من رجال ونساء، وصلى بهم النبي عليه الصلاة والسلام صلاة لا نظير لها؛ لأنها لآية لا نظير لها.
آية شرعية لآية كونية، أطال فيها إطالة عظيمة، حتى إن بعض الصحابة ـ مع نشاطهم وقوتهم ورغبتهم في الخير ـ تعبوا تعباً شديداً من طول قيامه عليه الصلاة والسلام، وركع ركوعاً طويلاً، وكذلك السجود، فصلى صلاة عظيمة، والناس يبكون يفزعون إلى الله، وعرضت على النبي عليه الصلاة والسلام الجنة والنار في هذا المقام، يقول: «فلم أرَ يوماً قط أفظع من هذا اليوم» [(173)]؛ حيث عرضت النار عليه حتى صارت قريبة فتنحى عنها، أي: رجع القهقهرى خوفاً من لفحها[(174)]، سبحان الله! فالأمر عظيم! أمر الكسوف ليس بالأمر الهين، كما يتصوره الناس اليوم، وكما يصوره أعداء المسلمين حتى تبقى قلوب المسلمين كالحجارة، أو أشد قسوة والعياذ بالله.
يكسف القمر أو الشمس والناس في دنياهم، فالأغاني تسمع، وكل شيء على ما هو عليه لا تجد إلا الشباب المقبل على دين الله أو بعض الشيوخ والعجائز، وإلا فالناس سادرون لاهون، ولهذا لا يتعظ الناس بهذا الكسوف لا بالشمس ولا بالقمر مع أنه أمر هام، ويجب الاهتمام به.
مسألة: هل من الأفضل أن يخبر الناس به قبل أن يقع؟
الجواب: لا شك أن إتيانه بغتة أشد وقعاً في النفوس، وإذا تحدث الناس عنه قبل وقوعه، وتروضت النفوس له، واستعدت له صار كأنه أمر طبيعي، كأنها صلاة عيد يجتمع الناس لها.
ولهذا لا تجد في الإخبار به فائدة إطلاقاً بل هو إلى المضرة أقرب منه إلى الفائدة.
ولو قال قائل: ألا نخبر الناس ليستعدوا لهذا الشيء؟
فالجواب: نقول: لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، بل إذا وقع ورأيناه بأعيننا فحينئذٍ نفعل ما أمرنا به.
مسألة: إذا قال الفلكيون: إنه سيقع كسوف أو خسوف فلا نصلي حتى نراه رؤية عادية؛ لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا رأيتم ذلك فصلوا» [(175)]، أما إذا منّ الله علينا بأن صار لا يرى في بلدنا إلا بمكبر أو نظارات فلا نصلي.
تُسَنُّ جَمَاعَةً، وَفُرَادَى ..........
قوله: «تسن جماعة، وفرادى» ، صلاة الكسوف مشروعة بالسنة والإجماع، وقال بعض العلماء: إنها مشروعة بالكتاب أيضاً، واستنبطها من قوله تعالى: {{وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لاَ تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ}} [فصلت: 37] ، وقال: إن الناس لا يسجدون للشمس ولا للقمر وهما على مجراهما الطبيعي العادي، وإنما يسجدون لهما إذا حصل منهما هذا الكسوف خوفاً منهما، فأمر الله ـ عز وجل ـ أن يكون السجود له.
وهذا الاستنباط وإن كان له شيءٌ من الوجاهة، لكن لولا ثبوت السنة لم نعتمد عليه.
وأفادنا المؤلف ـ رحمه الله ـ بقوله: «تسن» أن صلاة الكسوف سنة ليست فرض عين، ولا فرض كفاية، وأن الناس لو تركوها لم يأثموا؛ لأن السنة عند الفقهاء هي: ما أثيب فاعله، ولم يعاقب تاركه.
وقد جزم المؤلف ـ رحمه الله ـ بهذا، وهو المشهور عند العلماء.
وقال بعض أهل العلم: إنها واجبة؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا رأيتم ذلك فصلوا» .
قال ابن القيم في كتاب «الصلاة» : وهو قول قوي[(176)]، أي: القول بالوجوب، وصدق ـ رحمه الله ـ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر بها وخرج فزعاً، وقال: إنها تخويف، وخطب خطبة عظيمة، وعُرضت عليه الجنة والنار، وكل هذه القرائن العظيمة تشعر بوجوبها؛ لأنها قرائن عظيمة، ولو قلنا: إنها ليست بواجبة، وإن الناس مع وجود الكسوف إذا تركوها مع هذا الأمر من النبي عليه الصلاة والسلام والتأكيد فلا إثم عليهم لكان في هذا شيء من النظر، كيف يكون تخويفاً ثم لا نبالي وكأنه أمر عادي؟ أين الخوف؟
التخويف يستدعي خوفاً، والخوف يستدعي امتثالاً لأمر النبي عليه الصلاة والسلام.
واستدل الذين قالوا بأنها سنة بما يلي:
1 ـ الحديث المشهور في قصة الذي جاء يسأل عن الإسلام؛ وذكر له النبي صلّى الله عليه وسلّم الصلوات الخمس، قال: «هل عليَّ غيرها؟»، قال: «لا إلا أن تطوع» [(177)].
2 ـ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بعث معاذاً إلى اليمن في آخر حياته في السنة العاشرة، وقال: «أخبرهم بأن الله فرض عليهم خمس صلوات» [(178)]، ولم يذكر سواها.
قالوا: هذان الحديثان، وأمثالهما يدلان على أن الأمر بالصلاة في الكسوف للاستحباب، وليس للوجوب.
والذين قالوا بالوجوب قالوا: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم ذكر الصلوات الخمس؛ لأنها اليومية التي تتكرر في كل زمان وفي كل مكان، أما صلاة الكسوف، وتحية المسجد على القول بالوجوب، وما أشبه ذلك، فإنها تجب بأسبابها، وما وجب بسبب فإنه ليس كالواجب المطلق.
قالوا: ولهذا لو نذر الإنسان أن يصلي ركعتين لوجب عليه أن يصلي مع أنها ليست من الصلوات الخمس، لكن وجبت بسبب نذره، فما وجب بسبب ليس كالذي يجب مطلقاً.
وهذا القول قوي جداً، ولا أرى أنه يسوغ أن يرى الناس كسوف الشمس أو القمر ثم لا يبالون به، كل في تجارته، كل في لهوه، كل في مزرعته، فهذا شيء يخشى أن تنزل بسببه العقوبة التي أنذرنا الله إياها بهذا الكسوف.
فالقول بالوجوب أقوى من القول بالاستحباب.
وإذا قلنا بالوجوب؛ الظاهر أنه على الكفاية.
وقوله: «جماعة وفرادى» ، أي: تسن جماعة، وتسن فرادى.
أي: أن الجماعة ليست شرطاً لها، بل يسن للناس في البيوت أن يصلوها.
ودليل ذلك: عموم قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا رأيتم ذلك فصلوا» [(179)]، فهذا عام، ولم يقل النبي صلّى الله عليه وسلّم: فصلوا في مساجدكم، مثلاً، فدل ذلك على أنه يؤمر بها حتى الفرد، ولكن لا شك أن اجتماع الناس أولى، بل الأفضل أن يصلوها في الجوامع؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام صلاها في مسجد واحد ودعا الناس إليها، ولأن الكثرة في الغالب تكون أدعى للخشوع وحضور القلب، ولأنها ـ أي: الكثرة ـ أقرب إلى إجابة الدعاء.
فهي تسن في المساجد والبيوت، لكن الأفضل في المساجد، وفي الجوامع أفضل.
إِذَا كَسَفَ أَحَدُ النَّيِّرين رَكْعَتَيْنِ يَقْرَأُ فِي الأُْولَى جَهْراً ..........
وقوله: «إذا كسف أحد النيرين» ، «إذا» : ظرف متعلقة بـ «تسن» أي: تسن إذا كسف أحد النيرين وهما: الشمس والقمر.
قوله: «ركعتين يقرأ في الأولى جهراً...» ، بيَّن المؤلف ـ رحمه الله ـ في هذه الجملة صفة صلاة الكسوف، وأنها تصلى ركعتين بلا زيادة، لكن هاتين الركعتين كل واحدة فيها ركوعان.
وقوله: «ركعتين» منصوب على الحالية، وهذا من المواضع التي تأتي فيها الحال جامدة مؤولة بالمشتق، أي: تسنّ حال كونها ركعتين.
وقوله: «يقرأ في الأولى جهراً» أطلق قوله: «جهراً» ولم يقل: في الليل، فدل هذا على أن السنّة في صلاة الكسوف الجهر سواء في الليل أو في النهار، وهو كذلك لحديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جهر في صلاة الخسوف بقراءته» [(180)]، وهي مبنية أيضاً على القاعدة التي سبقت لنا: (أن الصلاة الجهرية في النهار إنما تكون فيما يجتمع الناس عليه).
بَعْدَ الْفَاتِحَةِ سُورةً طَوِيلَةً، ثُمَّ يَرْكَعُ طَوِيلاً ثُمَّ يَرْفَعُ،............
قوله: «بعد الفاتحة سورة طويلة» لم يعيّن، سورة البقرة، أو آل عمران، أو النساء، فالمهم أن تكون سورة طويلة؛ لأن الذي جاء في الحديث أنها طويلة[(181)] أي: يختار أطول ما يكون، وقد سبق أن بعض الصحابة كان يسقط مغشياً عليه من طول القيام[(182)].
قوله: «ثم يركع طويلاً» أي: من غير تقدير، المهم أن يكون طويلاً.
وقال بعض العلماء: يكون بقدر نصف قراءته أي: الركوع يكون نصف القيام، ولكن الصحيح: أنه بدون تقدير، فيطيل بقدر الإمكان.
فإن قال قائل: طول القيام فهمنا ما يفعل فيه وهو القراءة، لكن إذا أطال الركوع فماذا يصنع؟
فالجواب: يكرر التسبيح «سبحان ربي العظيم»، «سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي»، «سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم»، «سبحان الله وبحمده عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته»، لعموم قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أما الركوع فعظموا فيه الرب» [(183)]، فكل ما حصل من تعظيم في الركوع فهذا هو المشروع.
قوله: «ثم يرفع» ، أي: ثم يرفع رأسه من الركوع.
وَيُسَمِّعُ، وَيُحَمِّدُ، ثُمَّ يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ وَسُورَةً طَوِيلَةً دُونَ الأُْولى، ثُمَّ يَرْكَعُ فَيُطِيلُ وَهُوَ دُونَ الأَوَّلِ، ثُمَّ يَرْفَعُ،.........
قوله: «ويسمع» ، أي: يقول: سمع الله لمن حمده.
قوله: «ويحمد» ، أي: يقول: ربنا ولك الحمد، بعد أن يعتدل كسائر الصلوات.
قوله: «ثم يقرأ الفاتحة وسورة طويلة دون الأولى» ، ومن هنا جاءت الغرابة في هذه الصلاة؛ لأن غيرها من الصلوات لا تقرأ الفاتحة بعد الركوع، بل الذي بعد الركوع هو السجود، أما هذه الصلاة فيقرأ الفاتحة، وسورة طويلة.
لكن هل هي دون الأولى بكثير أو بقليل؟
الجواب: جاء في الحديث «دون الأولى» [(184)]، فينظر إلى هذا الدون.
والظاهر: أنه ليس دونها بكثير، لكنه دون يتميّز به القيام الأول عن القيام الثاني.
قوله: «ثم يركع فيطيل، وهو دون الأول» ، ونقول هنا في قوله: «دون الأول» كما قلنا في القراءة.
قوله: «ثم يرفع» أي: ويسمع ويحمد.
وظاهر كلام المؤلف: أنه في الرفع الذي يليه السجود لا يطيل القيام، بل يكون كالصلاة العادية، ولكن هذا الظاهر فيه نظر، والصحيح: أنه يطيل هذا القيام بحيث يكون قريباً من الركوع؛ لأن هذه عادة النبي صلّى الله عليه وسلّم في صلاته، قال البراء بن عازب ـ رضي الله عنه ـ: «رمقت صلاة النبي عليه الصلاة والسلام فرأيت قيامه، وقعوده، وركوعه، وسجوده قريباً من السواء» [(185)]، والمراد بقيامه هنا قيامه بعد الركوع؛ لأن قيام القراءة أطول بكثير من الركوع، ولأجل تناسب الصلاة.
ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ، ثُمَّ يُصَلِّي الثَّانِيَةَ كَالأُْولَى لَكِنْ دُونَهَا فِي كُلِّ مَا يَفْعَلُ ثُمَّ يَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ،...........
قوله: «ثم يسجد سجدتين طويلتين» ، أي: بقدر الركوع.
وظاهر كلامه: أنه لا يطيل الجلوس بينهما؛ لأنه لو أراد إطالة الجلوس بينهما لنبّه عليه، فكونه يقول: «يسجد سجدتين» ويسكت عن الجلوس بينهما، كأنه يقول: والجلوس بينهما معروف، وأنه جلوسٌ لا إطالة فيه.
والصواب: أنه يطيل الجلوس بقدر السجود.
قوله: «ثم يصلي الثانية كالأولى، لكن دونها في كل ما يفعل» أي: من القراءة والركوع، والقيام بعده، والسجود، فالثانية تكون دون الأولى.
ولكن هل معناه أن القيام الأول في الثانية كالقيام الثاني في الأولى، والقيام الثاني في الثانية دون ذلك، أو معناه: أن كل ركعة وركوع دون الذي قبله؟
الجواب: أن السنّة ليس فيها ما يدل لهذا ولا لهذا. فليس لدينا دليل واضح في هذه المسألة، فيحتمل أن القيام الأول في الثانية كالقيام الثاني في الأولى، وهو إذا جعل القيام الثاني في الثانية دون القيام الأول صارت الركعة الثانية دون الأولى.
لكن الذي يظهر ـ والله أعلم ـ أن كل قيام وركوع وسجود دون الذي قبله.
ونضرب لهذا مثلاً: قرأ في القيام الأول من الأولى مائة آية، وفي الثاني ثمانين آية، وفي القيام الأول من الركعة الثانية هل يقرأ ثمانين آية، وفي القيام الثاني ستين آية، أو يقرأ في القيام الأول في الركعة الثانية ستين آية، وفي القيام الثاني أربعين آية؟
الجواب: هذا هو محل التردد والاحتمال، والذي يظهر الثاني، أي: أنه يجعل قراءته في القيام الأول من الركعة الثانية دون قراءته في القيام الثاني من الركعة الأولى؛ لتكون الصلاة بالتنزل كل ركعة دون التي قبلها.
وفي هذا من الحكمة مراعاة حال المصلي؛ لأن المصلي أول ما يدخل في الصلاة يكون عنده نشاط وقوة، ثم مع الاستمرار يضعف؛ فلهذا روعيت حاله، فكان القيام الأول أطول، ثم الثاني، ثم الثالث، ثم الرابع.
قوله: «ثم يتشهد ويسلم» ، أي: كغيرها من الصلوات، وبهذا انتهت هذه الصلاة.
وهذه الصفة اتفق عليها البخاري ومسلم[(186)]، أي: أنه يصلي ركعتين، في كل ركعة ركوعان وسجودان صح ذلك عن عائشة وغيرها عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولكن تكون الصلاة طويلة.
وظاهر كلامه: أنه لا يشرع لها خطبة؛ لأنه لم يذكرها، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة.
وقال بعض العلماء: بل يشرع بعدها خطبتان؛ لأنها صلاة رهبة فشرع لها خطبتان كالاستسقاء، ولكن هذا قياس غير صحيح؛ لأن الاستسقاء ليس فيه إلا خطبة واحدة، إلا على قول بعض العلماء الذي قال: إنها كصلاة العيد، وسيأتي إن شاء الله، ولا يصح قياسها على صلاة العيدين؛ لأن صلاة العيدين صلاة فرح وسرور.
وقال بعض العلماء: يسنّ لها خطبة واحدة، وهذا مذهب الشافعي، وهو الصحيح.
وذلك لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما انتهى من صلاة الكسوف «قام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، ثم وعظ الناس» [(187)]. وهذه الصفات صفات الخطبة.
وقولهم: إن هذه موعظة؛ لأنها عارضة. نقول: نعم، لو وقع الكسوف في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم مرة أخرى، ولم يخطب لقلنا: إنها ليست بسنة، لكنه لم يقع إلا مرة واحدة، وجاء بعدها هذه الخطبة العظيمة التي خطبها وهو قائم، وحمد الله وأثنى عليه، وقال: أما بعد، ثم إن هذه المناسبة للخطبة مناسبة قوية من أجل تذكير الناس وترقيق قلوبهم، وتنبيههم على هذا الحدث الجلل العظيم.
فَإِنْ تَجَلَّى الكُسُوفُ فِيهَا أَتَمَّهَا خَفِيفَةً ............
قوله: «فإن تجلى الكسوف فيها» أي: كسوف الشمس، أو القمر؛ لأنَّ الكسوف عند الإطلاق يشمل الشمس والقمر، أما إذا اقترنا فالكسوف للشمس والخسوف للقمر.
وقوله: «فيها» أي: في الصلاة.
ويعلم التجلي بالرؤية، فإن كان في النهار فالأمر واضح، وإن كان في الليل فكذلك، وإن كان تحت السقف فبالخبر.
قوله: «أتمها خفيفة» ، ظاهر كلامه: حتى لو كانت خفة الركعة الثانية بالنسبة للأولى بعيدة جداً؛ فمثلاً: الركعة الأولى استغرقت نصف ساعة، والثانية إذا أتمها خفيفة تستغرق خمس دقائق.
فظاهر كلامه: أن الأمر يكون كذلك، وحينئذٍ تكون الصلاة وكأنها صلاة جذماء مقطوعة بعض الأعضاء.
وحجتهم في هذا:
1 ـ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «صلوا حتى ينكشف ما بكم» [(188)]، و«حتى» للغاية.
وهذا الحديث كما يمنع ابتداء الصلاة مرة أخرى يمنع أيضاً الاستمرار فيها واستدامتها.
2 ـ أن السبب الذي من أجله شرعت الصلاة قد زال.
مسائل:
الأولى: لو حصل كسوف ثم تلبدت السماء بالغيوم فهل نعمل بقول علماء الفلك بالنسبة لوقت التجلي؟
الجواب: نعمل بقولهم؛ لأنه ثبت بالتجارب أن قولهم منضبط.
الثانية: إذا لم يعلم بالكسوف إلا بعد زواله فلا يقضى؛ لأننا ذكرنا قاعدة مفيدة، وهي (أن كل عبادة مقرونة بسبب إذا زال السبب زالت مشروعيتها) . فالكسوف مثلاً إذا تجلت الشمس، أو تجلى القمر، فإنها لا تعاد؛ لأنها مطلوبة لسبب وقد زال.
ويعبر الفقهاء ـ رحمهم الله ـ عن هذه القاعدة بقولهم: (سنة فات محلها).
الثالثة: إذا شرع في صلاة الكسوف قبل دخول وقت الفريضة ثم دخل وقت الفريضة، فماذا يفعل؟
الجواب: إن ضاق وقت الفريضة وجب عليه التخفيف؛ ليصليها في الوقت، وإن اتسع الوقت فيستمر في صلاة الكسوف.
وَإِنْ غَابَت الشَّمْسُ كَاسِفَةً،..........
قوله: «وإن غابت الشمس كاسفة» ، إذا غابت الشمس كاسفة، فإنه لا يصلى؛ لأنها لما غابت ذهب سلطانها، وكونها كاسفة أو غير كاسفة بالنسبة لنا حين غابت لا يؤثر شيئاً، فلما زال سلطانها سقطت المطالبة بالصلاة لكسوفها.
مسائل:
الأولى: إذا كسفت في آخر النهار، فلا يصلى الكسوف بناء على أنها سنّة، وأن ذوات الأسباب لا تفعل في وقت النهي وهذا هو المذهب.
ولكن الصحيح في هذه المسألة: أنه يصلى للكسوف بعد العصر، أي: لو كسفت الشمس بعد العصر فإننا نصلي؛ لعموم قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا رأيتم ذلك فصلوا» [(189)]، فيشمل كل وقت.
فإن قال قائل: عموم قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا صلاة بعد العصر» [(190)] يشمل كل صلاة، فعندنا الآن عمومان، وهما: عموم النهي عن كل صلاة في زمن معين وهو العصر مثلاً، وعموم الأمر بصلاة الكسوف في كل وقت، ومثل هذا يسمى العام والخاص من وجه، فأيهما نقدم عموم النهي أو عموم الأمر؟ إذا قلنا: نقدم عموم الأمر، قيل: بل عموم النهي؛ لأنه أحوط، لأنك تقع في معصية.
وذكر شيخ الإسلام قاعدة قال: (إذا كان أحد العمومين مخصصاً، فإن عمومه يضعف) . أي: إذا دخله التخصيص صار ضعيفاً، فيقدم عليه العام الذي لم يخصص؛ لأن عمومه محفوظ، وعموم الأول الذي دخله التخصيص غير محفوظ، وهذا الذي قاله صحيح.
بل إن بعض العلماء ـ رحمهم الله ـ قال: إن العام إذا خصّص صارت دلالتُهُ على العموم ذاتَ احتمال، فأي فرد من أفراد العموم يستطيع الخصم أن يقول: يحتمل أنه غير مراد، كما خصّص في هذه المسألة التي وقع فيها التخصيص.
لكن الراجح: أن العام إذا خصص يبقى عاماً إلا في المسألة التي خصّص فيها فقط.
فحديث الأمر بالصلاة عند رؤية الكسوف لم يخصّص، وحديث الصلاة بعد العصر مخصّص بقول النبي عليه الصلاة والسلام: «إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم، فإنها لكما نافلة» [(191)].
فإن الرسول صلّى الله عليه وسلّم ذكر هذا للرجلين اللذين تخلفا عن صلاة الفجر، ولا صلاة بعد صلاة الفجر.
كذلك أيضاً مخصّص بركعتي الطواف، فإن الإنسان إذا طاف ولو بعد العصر يسنّ أن يصلي ركعتين.
ومخصّص بقضاء الفريضة إذا نسيها، فمن نام عن صلاة أو نسيها، وذكرها ولو بعد العصر فإنه يصليها.
فعموم النهي إذاً مخصّص بعدة مخصّصات، فيكون عمومه ضعيفاً، ويقدم حديث الأمر، ومن ثمَّ صار القول الراجح في هذه المسألة: أن كل صلاة لها سبب تصلى حيث وجد سببها، ولو في أوقات النهي، وهي الرواية الثانية عن الإمام أحمد.
الثانية: إذا شرع في صلاة الكسوف بعد العصر ثم غابت كاسفة فإنه يتمها خفيفة؛ لأنها إذا غابت فهي كما لو تجلى.
الثالثة: إذا طلعت الشمس كاسفة فعلى المذهب لا يصلى إلا إذا ارتفعت قيد رمح، فإن تجلى قبل أن ترتفع قيد رمح سقطت، وعلى القول الصحيح تصلى مباشرة، فإذا تجلى قبل زوال وقت النهي أتمها خفيفة.
الرابعة: لو لم نعلم بكسوفها إلا حين غروبها فلا نصلي، ونعلل: بأن سلطانها قد ذهب، فنحن الآن في الليل لا في النهار، وهي آية النهار.
أَوْ طَلَعَتْ والقَمَرُ خَاسِفٌ، أَوْ كَانَتْ آيَةٌ غَيْرَ الزَّلْزَلَةِ لَمْ يُصَلِّ.
قوله: «أو طلعت والقمر خاسف» ، هل يمكن أن تطلع والقمر خاسف؟
الجواب: يمكن، ففي نصف الشهر: يكون القمر في الغرب، والشمس في الشرق فربما يكسف بعدما تطلع الشمس، وهذا شيء قد وقع.
فإذا طلعت والقمر خاسف فإنه لا يصلي؛ لأنه ذهب سلطانه فإن سلطان القمر الليل، كما لو غابت الشمس، وهي كاسفة.
مسألة: لو طلع الفجر وخسف القمر قبل طلوع الشمس هل يصلى؟
الجواب: قد نقول: إن مفهوم قوله: «أو طلعت والقمر خاسف» إنها تصلى، ولكن المشهور من المذهب أنها لا تصلى بعد طلوع الفجر إذا خسف القمر؛ لأنه وقت نهي.
والصحيح: أنها تصلى إن كان القمر لولا الكسوف لأضاء، أما إن كان النهار قد انتشر، ولم يبق إلا القليل على طلوعٍ الشمس فهنا قد ذهب سلطانه، والناس لا ينتفعون به، سواء كان كاسفاً أو مبدراً.
قوله: «أو كانت آية غير الزلزلة لم يصل» ، أي: إذا وُجدت آية تخويف كالصواعق، والرياح الشديدة، وبياض الليل، وسواد النهار، والحمم، وغير ذلك فإنه لا تصلى صلاة الكسوف إلا الزلزلة، فإنه إذا زلزلت الأرض فإنهم يصلون صلاة الكسوف حتى تتوقف. والمراد بالزلزلة: الزلزلة الدائمة.
وهذه المسألة اختلف فيها العلماء على أقوال ثلاثة:
القول الأول: ما مشى عليه المؤلف أنه لا يصلى لأي آية تخويف إلا الزلزلة.
وحجة هؤلاء أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كانت توجد في عهده الرياح العواصف، والأمطار الكثيرة، وغير ذلك مما يكون مخيفاً ولم يصل، وأما الزلزلة فدليلهم في ذلك أنه روي عن عبد الله بن عباس[(192)]، وعلي بن أبي طالب[(193)] ـ رضي الله عنهم ـ: أنهما كانا يصليان للزلزلة، فتكون حجة الصلاة في الزلزلة هي فعل الصحابة.
القول الثاني: أنه لا يصلى إلا للشمس والقمر؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «فإذا رأيتموهما فصلوا» ، ولا يصلى لغيرهما من آيات التخويف.
وما يروى عن ابن عباس أو علي فإنه ـ إن صح ـ اجتهاد في مقابلة ما ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم من ترك الصلاة للأشياء المُخيفة.
القول الثالث: يصلى لكل آية تخويف.
واستدلوا بما يلي:
1 ـ عموم العلة وهي قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إنهما آيتان من آيات الله يخوِّف الله بهما عباده» ، قالوا: فكل آية يكون فيها التخويف، فإنه يصلى لها.
2 ـ أن الكربة التي تحصل في بعض الآيات أشد من الكربة التي تحصل في الكسوف.
3 ـ أن ما يروى عن ابن عباس وعلي[(194)] ـ رضي الله عنهم ـ يدل على أنه لا يقتصر في ذلك على الكسوف وأن كل شيء فيه التخويف فإنه يصلى له.
4 ـ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة» [(195)]، أي: إذا كربه وأهمه؛ وإن كان الحديث ضعيفاً لكنه مقتضى قوله تعالى: {{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ}} [البقرة: 45] .
وأما ما ذكر من أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كانت توجد في عهده العواصف، وقواصف الرعد، فإن هذا لا يدل على ما قلنا؛ لأنه قد تكون هذه رياحاً معتادة، والشيء المعتاد لا يخوِّفُ وإن كان شديداً، فمثلاً في أيام الصيف اعتاد الناس أن الرياح تهب بشدة وتكثر، ولا يعدُّون هذا شيئاً مخيفاً.
صحيح أنه أحياناً قد توجد صواعق عظيمة متتابعة تخيف الناس، فهل الصواعق التي وقعت في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم كهذه؟ لا يستطيع أحد أن يثبت أن هناك صواعق في عهد النبي عليه الصلاة والسلام خرجت عن المعتاد، لكن لو وجدت صواعق عظيمة متتابعة، فإن الناس لا شك سيخافون، وفي هذه الحال يفزعون إلى ربهم ـ عز وجل ـ بالصلاة.
وهذا الأخير هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ، له قوة عظيمة. وهذا هو الراجح.
مسألة: فعلى القول بأنه يصلى لكل آية تخويف، فهل ذلك على سبيل الوجوب كالكسوف؟
الجواب: مقتضى القياس أن ذلك واجب، ولكن لا أظن أن ذلك يكون على سبيل الوجوب.
وَإِنْ أَتَى فِي كُلِّ رَكْعَةٍ بِثَلاَثِ رُكُوعَاتٍ، أَوْ أَرْبَعٍ، أَوْ خَمْسٍ جَازَ.
قوله: «وإن أتى» ، أي: المصلي.
قوله: «في كل ركعة بثلاث ركوعات أو أربع أو خمس جاز» ، لأنه ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام: «أنه صلى ثلاث ركوعات في ركعة واحدة»، أخرجه مسلم[(196)]، لكن هذه الرواية شاذة، ووجه شذوذها: أنها مخالفة لما اتفق عليه البخاري ومسلم من أن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «صلى صلاة الكسوف في كل ركعة ركوعان فقط» [(197)]، ومن المعلوم بالاتفاق أن الكسوف لم يقع في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم ولم يصلِّ له إلا مرة واحدة فقط.
وعلى هذا فالمحفوظ أنه صلّى في كل ركعة ركوعين، وما زاد على ذلك فهو شاذ؛ لأن الثقة مخالف فيها لمن هو أرجح.
ولكن ثبت عن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ: «أنه صلّى في كل ركعة أربع ركوعات» [(198)]، وعلى هذا فيكون من سنّة الخلفاء الراشدين، وهذا ينبني على طول زمن الكسوف، فإذا علمنا أن زمن الكسوف سيطول فلا حرج من أن نصلي ثلاث ركوعات في كل ركعة، أو أربع ركوعات، كما قال المؤلف، أو خمس ركوعات؛ لأن كل ذلك ورد عن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ وهو يرجع إلى زمن الكسوف إن طال زيدت الركوعات، وإن قصر فالاقتصار على ركوعين أولى.
وإن اقتصر على ركوعين وأطال الصلاة إذا علم أن الكسوف سيطول فهو أولى وأفضل، والكلام في الجواز، أما الأفضل فلا شك أن الأفضل ما جاء عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو أنه يصلي ركوعين في كل ركعة.
مسائل:
الأولى: ما بعد الركوع الأول هل هو ركن أو لا؟
يقول العلماء: إنه سنّة وليس ركناً، وبناء على ذلك لو صلاها كما تصلى صلاة النافلة، في كل ركعة ركوع فلا بأس؛ لأن ما زاد على الركوع الأول سنة.
الثانية: هل تدرك الركعة بالركوع الثاني؟
الجواب: لا تدرك به الركعة، وإنما تدرك الركعة بالركوع الأول، فعلى هذا لو دخل مسبوق مع الإِمام بعد أن رفع رأسه من الركوع الأول فإن هذه الركعة تعتبر قد فاتته فيقضيها.
وقال بعض العلماء: إنه يعتد بها؛ لأنها ركوع.
وفصل آخرون فقالوا: يعتد بها إن أتى الإمام بثلاث ركوعات؛ لأنه إذا أدرك الركوع الثاني وهي ثلاث ركوعات فقد أدرك معظم الركعة فيكون كمن أدركها كلها.
والقول الصحيح الأول، لأن الركوع الأول هو الركن.
الثالثة: لو انتهت الصلاة والكسوف باق، فهل تعاد الصلاة أو لا؟ وإذا قلنا بالإعادة فهل تعاد كسائر النوافل، أو كصلاة الكسوف؟
والجواب: في هذا ثلاثة أقوال للعلماء:
القول الأول: أنها لا تعاد.
القول الثاني: أنها تعاد على صفتها.
القول الثالث: أنها تعاد على صفة النوافل الأخرى، أي: ركعتين.
فمن نظر لقول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «فصلوا حتى ينكشف ما بكم» قال: إن المشروع أن تصلى كسائر النوافل؛ لأن الصلاة الأولى انقضت وامتثل بها الأمر.
ومن نظر إلى قوله: «فصلوا وادعوا..» [(199)]، قال: إن الصلاة حصلت فيبقى الدعاء. وعمل الناس على أنها لا تعاد، وأنا لم يترجح عندي شيء لكني أفعل الثاني، وهو: عدم الإعادة.
الرابعة: يسن النداء لصلاة الكسوف، ويقال: «الصلاة جامعة» مرتين أو ثلاثاً. بحيث يعلم أو يغلب على ظنه أن الناس قد سمعوا.
وإذا قلنا بهذا فإنه يختلف بين الليل والنهار، ففي الليل قد يكون الناس نائمين يحتاجون لتكرار النداء، وفي النهار لا سيما مع هدوء الأصوات يمكن أن يكفيهم النداء مرتين أو ثلاثاً.
ولا ينادى لغيرها من الصلوات بهذه الصيغة؛ لأن الصلوات الخمس ينادى لها بالأذان.
وقال بعض العلماء؛ وهو المذهب: إنه ينادى للاستسقاء، والعيدين «الصلاة جامعة».
لكن هذا القول ليس بصحيح، ولا يصح قياسهما على الكسوف؛ لوجهين:
الوجه الأول: أن الكسوف يقع بغتة، خصوصاً في الزمن الأول لما كان الناس لا يدرون عنه إلا إذا وقع.
الوجه الثاني: أن الاستسقاء والعيدين لم يكن النبي صلّى الله عليه وسلّم ينادي لهما؛ وكل شيء وجد سببه في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم ولم يفعله ففعله بدعة؛ لأنه ليس هناك مانع يمنع الرسول صلّى الله عليه وسلّم من النداء، ولو كان هذا السبب يشرع له النداء لأمر المنادي أن ينادي لها.
فالصواب: أن العيدين والاستسقاء لا ينادى لهما.
مسألة: تميزت صلاة الكسوف عن بقية الصلوات بأمور هي:
1 ـ زيادة ركوع في كل ركعة على الركوع الأول.
2 ـ أن فيها بعد الركوع قراءة.
3 ـ تطويل القراءة فيها والركوع والسجود.
4 ـ الجهر فيها بالقراءة ليلاً أو نهاراً.
5 ـ يشرع إذا انتهت الصلاة، ولم يتجل الكسوف: الذكر والاستغفار والتكبير والعتق. وهذا فرق خارج عن نفس الصلاة لكنه فرق صحيح.
---------------------------------------
[170] أخرجه البخاري (1048)؛ ومسلم (911).
[171] أخرجه مسلم (906) عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما.
[172] أخرجه البخاري (1045)، ومسلم (910) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
[173] أخرجه البخاري (1052)؛ ومسلم (907) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
[174] أخرجه مسلم (904) عن جابر رضي الله عنه.
[175] أخرجه البخاري (1058)؛ ومسلم (901) عن عائشة رضي الله عنها.
[176] ص(15).
[177] أخرجه البخاري (2678)؛ ومسلم (11) عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه.
[178] سبق تخريجه ص(9).
[179] سبق تخريجه ص(180).
[180] أخرجه البخاري (1065)؛ ومسلم (901) (5).
[181] سبق تخريجه ص(180).
[182] كما في حديث جابر، وقد سبق تخريجه.
[183] سبق تخريجه (3/87).
[184] سبق تخريجه من حديث عائشة ص(180).
[185] سبق تخريجه ص(180).
[186] سبق تخريجه ص(180).
[187] أخرجه البخاري (1053)؛ ومسلم (905) عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما.
[188] أخرجه البخاري (1060)؛ ومسلم (915) عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
[189] سبق تخريجه ص(180).
[190] سبق تخريجه (4/111).
[191] سبق تخريجه (2/80).
[192] أثر ابن عباس رضي الله عنهما:«أنه صلّى في الزلزلة بالبصرة، فأطال القنوت، ثم ركع، ثم رفع رأسه، فأطال القنوت، ثم ركع، ثم رفع رأسه فأطال القنوت، ثم ركع، فسجد، ثم صلّى الثانية كذلك فصارت صلاته ست ركعات وأربع سجدات، وقال: هكذا صلاة الآيات».
أخرجه عبد الرزاق (4929)؛ وابن أبي شيبة (2/472)؛ والبيهقي (3/343) وقال: «هو عن ابن عباس ثابت».
[193] أخرجه البيهقي (3/343).
[194] سبق تخريجه ص(194).
[195] أخرجه الإمام أحمد (5/388)؛ وأبو داود (1319).
[196] (904) (10) عن جابر رضي الله عنه.
[197] سبق تخريجه ص(180).
[198] أخرجه الإمام أحمد (1/143)؛ والبيهقي (3/330).
[199] سبق تخريجه ص(189). ]