فاتن
2009-05-19, 03:11 PM
بســــم الله الرحمــن الرحيــم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليماً .
أما بعد :
أحبتي في الله
أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } الحشر18
{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }الحشر19
إخواني ..أخواتي
لقد دعانا سبحانه لعبادته ، وأمرنا بتوحيده وطاعته . قال عز وجل : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }الذاريات56
نعم ـ أيها الناس ـ : {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ }
لقد جعل الله العبادة مورداً للتكليف ، ومحلاً للأمر والنهي ، وأعطاهم أداة العلم والعمل من القلب والسمع والبصر والجوارح نعمةً منه وتفضلا . فمن استعملها في طاعته سبحانه فقد قام بشكرها وأدى حقها ، ومن استعملها في شهواته المحرمة وأغراضه السيئة ولم يرعَ حَقَّ الله فيها فقد خَسِرَ خسراناً مبيناً ، وحَزِنَ حينما يُسألُ حزناً طويلا .
قال تعالى : {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً }الإسراء36.
أحبتي
لا شك أن أمراض القلب ومعاصي الجوارح إنما تنشأ من جانب النفس ، فالموادُّ الفاسدةُ كُلُّها إليها تنصبُّ ، ثم تنبعث منها إلى القلب وسائر الأعضاء .
ومن أجل هذا استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من شر النفس وما يتولد منها من الأعمال حيث كان يقول في خطبته : ( ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ) فإذا كانت النفس هكذا تقطع على المرء طريقه إلى ربه { إن النفس لأمّارة بالسوء إلا ما رحم بي } فواجبٌ على العقلاء أن يقفوا معها وقفةَ المحاسبة قبل يوم الحساب .
ففي الخبر : ( الكيِّسُ من دان نفسه [ أي جاهدها وحاسبها على تقصيرها ] وعمل لما بعد الموت والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني ) وثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : ( حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا فإنه أهونُ عليكم في الحساب غداً أن تحاسبوا أنفسكم اليوم ، وتزينوا للعرض الأكبر يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية ) .
وقائل هذا الكلام كان أولَ من طبق هذا على نفسه قال أنس رضي الله عنه سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوماً وقد خرجتُ معه حتى دخل حائطاً فسمعته يقول : والجدار بيني وبينه : عمر بن الخطاب أمير المؤمنين بخٍ والله لتتقين الله يا بن الخطاب أو ليعذبنك.
وهكذا يكون المؤمن وبمثل هذه المحاسبة يصل العبد إلى التقوى . قال ميمون بن مهران : ( لا يكون الرجل تقياً حتى يكون أشد محاسبة لنفسه من الشريك لشريكه ) .
وقال الحسن البصري : ( إن المؤمن والله ما تراه إلا يلوم نفسه ما أردت بكلمتي ما أردت بأكلتي ما أردت بحديث نفسي وإن العاجز يمضي قُدُماً ما يعاتب نفسه )
ولقد كان دأبُ أسلافنا رحمهم الله عملٌ بالعلم ومحاسبةٌ للنفس وهضمٌ لها وأخبارهم في هذا أكثر من أن تحصر وأشهر من أن تذكر .
فهذا وكيع بن الجراح رحمه الله الإمام العابد أغلظ له رجل وتكلم عليه فدخل وكيع بيته فمرّغ وجهه ثم خرج إلى الرجل فقال : زد وكيعاً بذنبه فلولاه أي الذنب ما سُلطت عليه .
وهذا الإمام الحافظ عبد الله بن وهب رحمه الله يقول : نذرتُ أني كلما اغتبت إنساناً أن أصومَ يوماً ، فأجهدني ذلك فكنت أغتاب وأصوم فنويت أني كلما اغتبت إنساناً أن أتصدق بدرهم فمن حُبَّ الدراهم تركت الغيبة فرحم الله أولئك الأقوام أين من يشبههم الآن .
أيها الإخوة :
لا يزالُ المرءُ بخيرٍ ما كان له واعظاً من نفسه ، وكانت المحاسبة من هِمَّتِهِ فما أعظمَ شقاءَ الغافلين عن أنفسهم الذين نسوا الله فنسيهم .
إن من ألهته حياتُهُ وشغلته أهؤاؤه وأضاع عُمُرَهُ في المحرمات عادَ أمره إلى الحسرة والندامة وأصبح مفلساً يوم القيامة : {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ }الأنعام31 .
أيُّ حسرة على العبد أعظمُ من أن يكون عمره عليه حُجّة . وأيامه تقوده إلى زيادة الردى والشقوة . أما كان لهذا المسكين من مرور الأيام والسنين عظة وعبرة لقد مرت هذه الفترة وكأنها ساعة أو لحظة ، فاستحق أن يسمعَ التوبيخ على التفريط والإضاعة والتقصير : { أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ}فاطر37
أيها الأحبة:
إنَّ زكاة النفس وطهارتها وفلاحها وسعادتها ، موقوفة على محاسبتها على كل خطوة أو نظرة وعلى كل كلمة أو خطرة فبمحاسبتها يَطَّلعُ على عيوبها ونقائصها فيمكنه السعي في إصلاحها . فينشغل بذلك عن عيوب الآخرين ، ويعالج ما يمكن أن يَشعُرَ به من غرور وعجب وكبر على المسلمين .
قال بعض السلف : ( ما أحسب أحداً تفرّغ لعيب الناس إلا من غفلة غفلها عن نفسه . وقال آخر : ( إذا رأيتم الرجل مُوكلاً بعيوب الناس ناسياً لعيبه فاعلموا أنه قد مُكِرَ به ) ومما أُثر عن الفاروق عمر رضي الله عنه قوله ك ( كفى بالمرء إثماً أن يستبين له من الناس ما يخفى عليه من نفسه ويمقت الناس فيما يأتي ) .
وقيل للربيع بن خثيم رحمه الله : ألا تذكر الناس ؟ فقال : ما أنا عن نفسي براضٍ فأتفرغَ من ذمّها إلى أن أذم الناس إن الناس خافوا الله في ذنوب الناس وأمِنوه على ذنوبهم ) .
( إن من علامات الإنابة : ترك الاستهانة بأهل الغفلة والخوف عليهم مع فتحك باب الرجاء لنفسك فترجو لنفسك الرحمة وتخشى على أهل الغفلة النقمة ولكن ارجُ لهم الرحمة واخش على نفسك النقمة فإن كنت ولا بدَّ مستهيناً بهم ماقتاً لهم نظراً لانكشاف أحوالهم لك ورؤية ما هم عليه فكن لنفسك أشدَّ مقتاً منك لهم ، وكن أرجى لهم لرحمة الله منك لنفسك ) . أهـ هذا ما قاله الإمام ابن القيم رحمه الله .
ومحاسبة النفس نوعان : نوعٌ قبل العمل ونوع بعده .
فأما النوع الأول :
فهو أن يقف عند أولِ همّه وإرادته ولا يبادر بالعمل حتى يتبين له رجحانه على تركه .
قال الحسن رحمه الله : رحم الله عبداً وقفَ عند همّه فإن كان لله مضى وإن كان لغيره تأخر ) .
النوع الثاني :
محاسبة النفس بعد العمل وهو ثلاثة أنواع :
أحدُها : محاسبتها على طاعة قصَّرت فيها من حق الله تعالى فلم توقِفها على الوجه الذي ينبغي من إخلاص ومتابعة ونحوها .
الثاني : أن يحاسب نفسه على كل عمل كان تركه خيراً له من فعله .
الثالث : أن يحاسب نفسه على أمر مباح أو معتاد : لم فعله ؟ وهل أراد الله والدار الآخرة فيكون رابحاً أو أراد به الدنيا .
أيها المسلم :
إياك أن تسئ إلى نفسك فإنها أعزَّ الأنفس عليك والإساءةُ إليها بترك محاسبتها وبمعصيتها لله تعالى .
فما أكرم العبد نفسه بمثل طاعة الله ولا أهانها بمثل معصية الله . ومن جعل شهوته تحت قدميه خاف الشيطان من ظلّه ، ومن عوّد نفسه الخير انقادت له وسهل عليه فعله ، ومن جرأها على المعاصي استهانت بها وألِفها قلبه .
والنفس كالطفل إن تهمله شَبَّ على … حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم .
أيها المسلمون :
إن السعيد حقاً من حاسب نفسه على الدوام ولا سيما في آخر العام ففي مرور الشهور والأعوام وفي تعاقب الليل والنهار عظة وعبرة لأولي الأبصار فالدنيا تطوى من وراء الناس والموت مورد لا بد لهم منه وإنما المرء أيام مجموعة كلما مضى يوم ذهب بعضه ولا يبقى للعامل إلا ما صلح من عمله .
فعجيب حال هذا الغافل : ( يوقن بالموت ثم ينساه ، ويتحقق من الضرر ثم يغشاه ، أيخشى الناس والله أحق أن يخشاه ، يغتر بالصحة وينسى السقم ويفرح بالعافية ولا يتذكر الألم يزهو بأيام الشباب وينسى الهرم اهتمامه بالعلم أكثر من اهتمامه بالعمل يطول عمره ويزداد ذنبه يبيضُّ شعره ويسودُّ قلبه يجمع المال من المتشابه والحرام ، ويسعى بقدميه إلى التفريط والإجرام ، ناسياً نزول الموت وحلول الأجل ، وشدة الكرب وانقطاع العمل حينما يتلجلج اللسان ويبكي الأهل والإخوان ، وهذا المحتضر لا يستطيع الكلام ، قد شخص بصره ، وبدا له عمله فإمَّا يُبشّر بروح وريحان أو جحيم ونيران .
نعم والله لتموتنَّ كما تنامون ، ولتُبعَثُنَّ كما تستيقظون ، فجنة للمطيعين ونار جهنم للعاصين : { أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }فصلت40.
فأين من يتكاسل عن الصلاة ؟ وأين المصّرون على مشاهدة الأفلام والمحرمات ؟ وأين أصحاب الكبائر والموبقات . أما لهم بمن مضى عبرة ، أما علموا أن الموت يأتي بغتة .
قال الحسن رحمه الله : يا معشر الشيوخ : الزرع إذا استوى ما ذا يصنع به ؟ قالوا : يحصد ، قال يا معشر الشباب : كم من زرع قد ادركته الآفات قبل الاستواء . وقرأ رحمه الله ـ قول الله عز وجل : { عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ }ق17
فقال : يا ابن آدم بسطت لك صحيفتك ووكلّ بك ملكان أحدهما عن يمينك والآخر عن شمالك فصاحب اليمين يكتب الحسنات وصاحب الشمال يكتب السيئات ، فاعمل ما شئت ، أقلل أو أكثر ، فإذا مت طويت صحيفتك ، وجعلت في عنقك فتخرج يوم القيامة فيقال لك : {اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً }الإسراء14
ثم قال رحمه الله : عَدَلَ ـ والله ـ من جعلك حسيب نفسك .
ألا فاتقوا الله ـ رحمكم الله ـ وتوبوا إلى الله توبة نصوح ، ما دامت التوبة ممكنة وبابها مفتوح .
جعلني الله وإياكم من التائبين ووفقنا لمحاسبة أنفسنا إنه جواد كريم .
هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم .
منقول
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليماً .
أما بعد :
أحبتي في الله
أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } الحشر18
{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }الحشر19
إخواني ..أخواتي
لقد دعانا سبحانه لعبادته ، وأمرنا بتوحيده وطاعته . قال عز وجل : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }الذاريات56
نعم ـ أيها الناس ـ : {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ }
لقد جعل الله العبادة مورداً للتكليف ، ومحلاً للأمر والنهي ، وأعطاهم أداة العلم والعمل من القلب والسمع والبصر والجوارح نعمةً منه وتفضلا . فمن استعملها في طاعته سبحانه فقد قام بشكرها وأدى حقها ، ومن استعملها في شهواته المحرمة وأغراضه السيئة ولم يرعَ حَقَّ الله فيها فقد خَسِرَ خسراناً مبيناً ، وحَزِنَ حينما يُسألُ حزناً طويلا .
قال تعالى : {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً }الإسراء36.
أحبتي
لا شك أن أمراض القلب ومعاصي الجوارح إنما تنشأ من جانب النفس ، فالموادُّ الفاسدةُ كُلُّها إليها تنصبُّ ، ثم تنبعث منها إلى القلب وسائر الأعضاء .
ومن أجل هذا استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من شر النفس وما يتولد منها من الأعمال حيث كان يقول في خطبته : ( ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ) فإذا كانت النفس هكذا تقطع على المرء طريقه إلى ربه { إن النفس لأمّارة بالسوء إلا ما رحم بي } فواجبٌ على العقلاء أن يقفوا معها وقفةَ المحاسبة قبل يوم الحساب .
ففي الخبر : ( الكيِّسُ من دان نفسه [ أي جاهدها وحاسبها على تقصيرها ] وعمل لما بعد الموت والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني ) وثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : ( حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا فإنه أهونُ عليكم في الحساب غداً أن تحاسبوا أنفسكم اليوم ، وتزينوا للعرض الأكبر يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية ) .
وقائل هذا الكلام كان أولَ من طبق هذا على نفسه قال أنس رضي الله عنه سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوماً وقد خرجتُ معه حتى دخل حائطاً فسمعته يقول : والجدار بيني وبينه : عمر بن الخطاب أمير المؤمنين بخٍ والله لتتقين الله يا بن الخطاب أو ليعذبنك.
وهكذا يكون المؤمن وبمثل هذه المحاسبة يصل العبد إلى التقوى . قال ميمون بن مهران : ( لا يكون الرجل تقياً حتى يكون أشد محاسبة لنفسه من الشريك لشريكه ) .
وقال الحسن البصري : ( إن المؤمن والله ما تراه إلا يلوم نفسه ما أردت بكلمتي ما أردت بأكلتي ما أردت بحديث نفسي وإن العاجز يمضي قُدُماً ما يعاتب نفسه )
ولقد كان دأبُ أسلافنا رحمهم الله عملٌ بالعلم ومحاسبةٌ للنفس وهضمٌ لها وأخبارهم في هذا أكثر من أن تحصر وأشهر من أن تذكر .
فهذا وكيع بن الجراح رحمه الله الإمام العابد أغلظ له رجل وتكلم عليه فدخل وكيع بيته فمرّغ وجهه ثم خرج إلى الرجل فقال : زد وكيعاً بذنبه فلولاه أي الذنب ما سُلطت عليه .
وهذا الإمام الحافظ عبد الله بن وهب رحمه الله يقول : نذرتُ أني كلما اغتبت إنساناً أن أصومَ يوماً ، فأجهدني ذلك فكنت أغتاب وأصوم فنويت أني كلما اغتبت إنساناً أن أتصدق بدرهم فمن حُبَّ الدراهم تركت الغيبة فرحم الله أولئك الأقوام أين من يشبههم الآن .
أيها الإخوة :
لا يزالُ المرءُ بخيرٍ ما كان له واعظاً من نفسه ، وكانت المحاسبة من هِمَّتِهِ فما أعظمَ شقاءَ الغافلين عن أنفسهم الذين نسوا الله فنسيهم .
إن من ألهته حياتُهُ وشغلته أهؤاؤه وأضاع عُمُرَهُ في المحرمات عادَ أمره إلى الحسرة والندامة وأصبح مفلساً يوم القيامة : {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ }الأنعام31 .
أيُّ حسرة على العبد أعظمُ من أن يكون عمره عليه حُجّة . وأيامه تقوده إلى زيادة الردى والشقوة . أما كان لهذا المسكين من مرور الأيام والسنين عظة وعبرة لقد مرت هذه الفترة وكأنها ساعة أو لحظة ، فاستحق أن يسمعَ التوبيخ على التفريط والإضاعة والتقصير : { أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ}فاطر37
أيها الأحبة:
إنَّ زكاة النفس وطهارتها وفلاحها وسعادتها ، موقوفة على محاسبتها على كل خطوة أو نظرة وعلى كل كلمة أو خطرة فبمحاسبتها يَطَّلعُ على عيوبها ونقائصها فيمكنه السعي في إصلاحها . فينشغل بذلك عن عيوب الآخرين ، ويعالج ما يمكن أن يَشعُرَ به من غرور وعجب وكبر على المسلمين .
قال بعض السلف : ( ما أحسب أحداً تفرّغ لعيب الناس إلا من غفلة غفلها عن نفسه . وقال آخر : ( إذا رأيتم الرجل مُوكلاً بعيوب الناس ناسياً لعيبه فاعلموا أنه قد مُكِرَ به ) ومما أُثر عن الفاروق عمر رضي الله عنه قوله ك ( كفى بالمرء إثماً أن يستبين له من الناس ما يخفى عليه من نفسه ويمقت الناس فيما يأتي ) .
وقيل للربيع بن خثيم رحمه الله : ألا تذكر الناس ؟ فقال : ما أنا عن نفسي براضٍ فأتفرغَ من ذمّها إلى أن أذم الناس إن الناس خافوا الله في ذنوب الناس وأمِنوه على ذنوبهم ) .
( إن من علامات الإنابة : ترك الاستهانة بأهل الغفلة والخوف عليهم مع فتحك باب الرجاء لنفسك فترجو لنفسك الرحمة وتخشى على أهل الغفلة النقمة ولكن ارجُ لهم الرحمة واخش على نفسك النقمة فإن كنت ولا بدَّ مستهيناً بهم ماقتاً لهم نظراً لانكشاف أحوالهم لك ورؤية ما هم عليه فكن لنفسك أشدَّ مقتاً منك لهم ، وكن أرجى لهم لرحمة الله منك لنفسك ) . أهـ هذا ما قاله الإمام ابن القيم رحمه الله .
ومحاسبة النفس نوعان : نوعٌ قبل العمل ونوع بعده .
فأما النوع الأول :
فهو أن يقف عند أولِ همّه وإرادته ولا يبادر بالعمل حتى يتبين له رجحانه على تركه .
قال الحسن رحمه الله : رحم الله عبداً وقفَ عند همّه فإن كان لله مضى وإن كان لغيره تأخر ) .
النوع الثاني :
محاسبة النفس بعد العمل وهو ثلاثة أنواع :
أحدُها : محاسبتها على طاعة قصَّرت فيها من حق الله تعالى فلم توقِفها على الوجه الذي ينبغي من إخلاص ومتابعة ونحوها .
الثاني : أن يحاسب نفسه على كل عمل كان تركه خيراً له من فعله .
الثالث : أن يحاسب نفسه على أمر مباح أو معتاد : لم فعله ؟ وهل أراد الله والدار الآخرة فيكون رابحاً أو أراد به الدنيا .
أيها المسلم :
إياك أن تسئ إلى نفسك فإنها أعزَّ الأنفس عليك والإساءةُ إليها بترك محاسبتها وبمعصيتها لله تعالى .
فما أكرم العبد نفسه بمثل طاعة الله ولا أهانها بمثل معصية الله . ومن جعل شهوته تحت قدميه خاف الشيطان من ظلّه ، ومن عوّد نفسه الخير انقادت له وسهل عليه فعله ، ومن جرأها على المعاصي استهانت بها وألِفها قلبه .
والنفس كالطفل إن تهمله شَبَّ على … حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم .
أيها المسلمون :
إن السعيد حقاً من حاسب نفسه على الدوام ولا سيما في آخر العام ففي مرور الشهور والأعوام وفي تعاقب الليل والنهار عظة وعبرة لأولي الأبصار فالدنيا تطوى من وراء الناس والموت مورد لا بد لهم منه وإنما المرء أيام مجموعة كلما مضى يوم ذهب بعضه ولا يبقى للعامل إلا ما صلح من عمله .
فعجيب حال هذا الغافل : ( يوقن بالموت ثم ينساه ، ويتحقق من الضرر ثم يغشاه ، أيخشى الناس والله أحق أن يخشاه ، يغتر بالصحة وينسى السقم ويفرح بالعافية ولا يتذكر الألم يزهو بأيام الشباب وينسى الهرم اهتمامه بالعلم أكثر من اهتمامه بالعمل يطول عمره ويزداد ذنبه يبيضُّ شعره ويسودُّ قلبه يجمع المال من المتشابه والحرام ، ويسعى بقدميه إلى التفريط والإجرام ، ناسياً نزول الموت وحلول الأجل ، وشدة الكرب وانقطاع العمل حينما يتلجلج اللسان ويبكي الأهل والإخوان ، وهذا المحتضر لا يستطيع الكلام ، قد شخص بصره ، وبدا له عمله فإمَّا يُبشّر بروح وريحان أو جحيم ونيران .
نعم والله لتموتنَّ كما تنامون ، ولتُبعَثُنَّ كما تستيقظون ، فجنة للمطيعين ونار جهنم للعاصين : { أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }فصلت40.
فأين من يتكاسل عن الصلاة ؟ وأين المصّرون على مشاهدة الأفلام والمحرمات ؟ وأين أصحاب الكبائر والموبقات . أما لهم بمن مضى عبرة ، أما علموا أن الموت يأتي بغتة .
قال الحسن رحمه الله : يا معشر الشيوخ : الزرع إذا استوى ما ذا يصنع به ؟ قالوا : يحصد ، قال يا معشر الشباب : كم من زرع قد ادركته الآفات قبل الاستواء . وقرأ رحمه الله ـ قول الله عز وجل : { عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ }ق17
فقال : يا ابن آدم بسطت لك صحيفتك ووكلّ بك ملكان أحدهما عن يمينك والآخر عن شمالك فصاحب اليمين يكتب الحسنات وصاحب الشمال يكتب السيئات ، فاعمل ما شئت ، أقلل أو أكثر ، فإذا مت طويت صحيفتك ، وجعلت في عنقك فتخرج يوم القيامة فيقال لك : {اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً }الإسراء14
ثم قال رحمه الله : عَدَلَ ـ والله ـ من جعلك حسيب نفسك .
ألا فاتقوا الله ـ رحمكم الله ـ وتوبوا إلى الله توبة نصوح ، ما دامت التوبة ممكنة وبابها مفتوح .
جعلني الله وإياكم من التائبين ووفقنا لمحاسبة أنفسنا إنه جواد كريم .
هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم .
منقول