ركن الدين
2009-08-22, 03:28 AM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اولا كل عام انتم بخير بمناسبة حلول شهر رمضان جعلنا الله واياكم من عتقائه وجميع المسلمين الهم آمين
وبعد عنوان اليوم اداب المحدث من كتاب الموقظة للإمام الحافظ شمس الدين الذهبي
آداب المحدث
تصحيحُ النيَّةِ من طالب العلم متعيَّن ، فمن طَلَب الحديثَ للمكاثرة
أو المفاخرة ، أو ليَروِيَ ، أو لِيتناوَلَ الوظائفَ ، أو ليُثْنى عليه وعلى معرفتِه
فقد خَسِر . وإنْ طلَبَه لله ، وللعمل به ، وللقُربةِ بكثرة الصلاة على نبيـه
:salla: ، ولنفعِ الناس ، فقد فاز . وإن كانت النيَّةُ ممزوجةُ بالأمرينِ فالحكمُ
للغالب .
وإن كان طَلَبَه لفَرْطِ المحبةِ فيه ، مع قطع النظر عن الأجْرِ وعن بني
آدم ، فهذا كثيراً ماً : يَعتبري طلبةَ العُلُوم ، فلعلَّ النيَّةَ أن يَرزُقَها اللهُ بعدُ .
وأيضاً فمن طَلَب العلم للآخِرة كَسَاهُ العِلمُ خَشْيَةً لله ، واستَكانَ وتواضَعَ ،
ومن طلبه للدنيا تكبَّرَ وتجبَّر ، وازدَرَى بالمسلمين العامَّة ، وكان عاقبةُ
أمرِه إلى سِفَالٍ وحَقَارة .
فليحتسِب المحدَّثُ بحديثهِ ، رجاءَ الدخولِ في قوله :salla: : (( نَضَّر الله
امرءاً سَمِعَ مقالتي فوعاها ، ثم أدَّاها إلى من لم يَسمعها )) .
ولْيَبْذُلْ نفسَه للطلبةِ الأخيار ، لا سيما إذا تَفرَّد ، ولْيَمْتَنَعْ مع الهَرَمِ
وتغيَّرِ الذهن ، ولْيَعْهَدَ إلى أهله وإخوانه حالَ صحته : أنكم متى رأيتموني
تغيَّرتُ ، فامنَعُوني من الرواية .
فمن تَغيَّرَ بسُوءِ حفظٍ وله أحاديثُ معدودة ، قد أَتقَنَ روايتَها ، فلا
بأس بتحديِثه بها زمنَ تغيُّره .
ولا بأس بأن يُجيزَ مروياَّ تِه حالَ تغيُّره ، فإنَّ أصولَه مضبوطةُ ما
تغيَّرتْ ، وهو فَقَدَ وَعْيَ ما أجاز . فإن اختَلَط وخَرِفَ امتُنِعَ من أخْذِ
الإجازةِ منه .
ومن الأدب أن لا يُحدَّثَ مع وجودِ من هو أَولَى منه لِسِنهِّ وإتقانِه .
بل يَدُلَّهم على المُهِمّ ، فالدَّينُ النصيحة .
فإنْ دَلَّهم على مُعَمَّرٍ عامِيٍ ، وعَلِمَ قُصورَهم في إقامِة مرويَّاتِ العاميِّ ، نَصَحهم ودَلَّهم على عارفٍ يَسمعون بقراءتهِ ، أو حَضَر مع العاميِّ ورَوَى بنُزولٍ ، جَمْعاً بين الفوائد .
ورُوي أنَّ مالكاً رحمه الله كان يَغتسِلُ للتحديث ، ويَتبخَّرُ ،
ويتطيَّبُ ، ويَلبَسُ ثيابَه الحسنة ، ويَلزمُ الوَقارَ والسَّكينة ، ويَزْبُرُ من يَرفعُ صوتَه ، ويُرَتِّلُ الحديث .
وقد تَسمَّح الناسُ في هذه الأعصار بالإسراع المذموم ، الذي يَخفَى
معه بعضُ الألفاظ . والسماعُ هكذا لا مِيزةَ له على الإجازةِ ، بل الإجازةُ
صِدْقّ ، وقولُك : سَمِعتُ أو قرأتُ هذا الجزءَ كلَه ـ مع التَّمْتَمَةِ ودَمْجِ
بعض الكلمات ـ كَذِبُ .
وقد قال النَّسائيُّ في عِدَّةِ أماكنَ من (( صحيحه )) : وذَكَرَ كلمةً
معناها كذا وكذا .
وكان الحُفَّاظُ يَعقِدون مجالسَ للإملاء ، وهذا قد عُدِمَ اليوم ،
والسماع بالإملاء يكون مُحقَّقاً ببيانِ الألفاظِ للمُسمِع والسامع .
ولْيجتنِبْ روايةَ المشكلات ، مما لا تحملُه قلوبُ العامَّة ، فإن رَوَى
ذلك فليكن في مجالس خاصة . وَيَحرُمُ عليه روايةُ الموضوع ، وروايةُ
المطروح ، إلا أن يُبيّنَه للناسِ ليَحذّرُوه .
الثقة :
تُشتَرَطُ العدالةُ في الراوي كالشاهد ، ويمتازُ الثقةُ بالضبطِ والإتقان ،
فإن انضاف إلى ذلك المعرفةُ والإكثارُ ، فهو حافظ .
والحُفَّاظُ طبقات :
1ـ في ذِرْوَتِها أبو هريرة رضي الله عنه .
2ـ وفي التابعين كابنِ المسيَّب .
3ـ وفي صِغارِهم كالزُّهريِّ
4ـ وفي أتباعِهم كسفيان ، وشعبة ، ومالك .
5ـ ثم ابنِ المبارك ، ويحيى بنِ سعيد ، ووكيع ، وابنِ مهدي .
6ـ ثم كأصحابِ هؤلاء ، كابن المَدِيني ، وابنِ مَعِين ، وأحمد ، وإسحاق ،
وخَلْق .
7ـ ثم البخاريِّ ، وأبي زُرْعَة ، وأبي حاتم ، وأبي داود ، ومُسْلِم .
8ـ ثم النَّسائيِّ ، وموسى بنِ هارون ، وصالحِ جَزَرَة ، وابنِ خُزَيمة .
9ـ ثم ابنِ الشَّرْقي . وممن يُوصَفُ بالحفظ والإتقانِ جماعةُ من الصحابة
والتابعين .
10ـ ثم عُبَيدِ الله بنِ عمر ، وابنِ عَوْن ، ومِسْعَر .
11ـ ثم زائدة ، والليثِ ، وحمَّادِ بن زيد .
12ـ ثم يزيدُ بنِ هارون ، وأبو أسامة ، وابنُ وهب .
13ـ ثم أبو خيثمة ، وأبو بكر بن أبي شيبة ، وابن نُمَير ، وأحمد بن صالح .
14ـ ثم عَبَّاسٌ الدُّوْرِي ، وابنُ وارَهْ ، والترمذيُّ ، وأحمدُ بن أبي خَيْثَمة ،
وعبدُ الله بن أحمد
15ـ ثم ابنُ صاعِد ، وابن زياد النيسابوري ، وابنُ جَوْصَا ، وابنُ الأَخْرَم .
16ـ ثم أبو بكر الإسماعيلي ، وابنُ عَدِيّ ، وأبو أحمد الحاكم .
17ـ ثم ابنُ منده ، ونحوُه .
18ـ ثم الَبرْقَانيُّ ، وأبو حازم العَبْدَوِي .
19ـ ثم البيهقيُّ ، وابنُ عبد البَرّ .
20ـ ثم الحُمَيدي ، وابنُ طَاهِر .
21ـ ثم السِّلَفِيّ ، وابن السَّمْعاني .
22ـ ثم عبدالقادر ، والحازمي .
23ـ ثم الحافظ الضياء ، وابنُ سيد الناس خطيبُ تونس .
24ـ ثم حفيدُه حافظ وقتِه أبو الفتح .
وممن تقدَّم من الحفاظِ في الطبقةِ الثالثة : عَدَدٌ من الصحابةِ وخلقٌ من
التابعين وتابعيهم ، وهلُمَّ جراً إلى اليوم .
1ـ فمثلُ يحيى القطان ، يقال فيه : إمامُ ، وحُجَّة ، وثَبْت ، وجِهْبِذ ،
وثِقَةُ ثِقَة .
2ـ ثم ثقةُ حافظ .
3ـ ثم ثقةُ مُتقن .
4ـ ثم ثقةُ عارف ، وحافظُ صدوق ، ونحوُ ذلك .
فهؤلاء الحُفَّاظُ الثقات ، إذا انفرد الرجلُ منهم من التابعين ، فحديثهُ
صحيح . وإن كان من الأتباعِ قيل : صحيح غريب . وإن كان من
أصحاب الأتباع قيل : غريبُ فَرْد .
ويَنْدُرُ تفرُّدهم ، فتجدُ الإمامَ منهم عندهَ مِئتا ألف حديث ، لا يكادُ
ينفرد بحديثينِ ثلاثة .
ومن كان بعدَهم فأين ما يَنفرِدُ به ، ما علمتهُ ، وقد يوُجَد .
ثم نَنْتَقِلُ إلى اليَقِظ الثقةِ المتوسِطِ المعرفةِ والطلب ، فهو الذي يُطلَقُ
عليه أنه ثقة ، وهم جُمهورُ رجالِ (( الصحيحين )) فتابِعِيُّهم ، إذا انفَرَد
بالمَتْن خُرَّج حديثهُ ذلك في ( الصحاح ) .
وقد يَتوقَّفُ كثيرُ من النُّقاَّد في إطلاق ( الغرابة ) مع ( الصحة ) ،
في حديثِ أتباعِ الثقات . وقد يُوجَدُ بعضُ ذلك في ( الصحاح ) دون
بعض .
وقد يُسمِّي جماعةٌ من الحفاظ الحديثَ الذي ينفرد به مثلُ هُشَيْم ،
وحفصِ بنِ غِياثٍ : منكراً
فإن كان المنفرد من طبقة مشيخة الأئمة ، أطلقوا النكارةَ على ما
انفرد مثلُ عثمان بن أبي شيبة ، وأبي سَلَمة التَّبُوْذَكِي ، وقالوا : هذا منكر.
فإن رَوَى أحاديثَ من الأفراد المنكرة ، غَمَزُوه وليَّنوا حديثَه ، وتوقفوا
في توثيقه ، فإن رَجَع عنها وامَتَنع من روايتها ، وجَوَّز على نفسِه الوَهَمَ ،
فهو خيرُ له وأرجَحُ لعدالته ، وليس من حَدِّ الثقةِ : أنَّهُ لا يَغلَطُ ولا يُخطِئ ،
فمن الذي يَسلمُ من ذلك غيرُ المعصومِ الذي لا يُقَرُّ على خطأ .
فصل
الثقة : من وثَّقَه كثيرٌ ولم يُضعَّف . ودُونَه : من لم يُوثق ولا ضُعِّف .
فإن حُرِّج حديثُ هذا في (( الصحيحين )) ، فهو مُوَثَّق بذلك ، وإن
صَحَّح له مثلُ الترمذيِّ وابنِ خزيمة فجيِّدُ أيضاً ، وإن صَحَّحَ له
كالدارقطنيِّ والحاكم ، فأقلُّ أحوالهِ : حُسْنُ حديثه .
وقد اشتَهَر عند طوائف من المتأخرين ، إطلاقُ اسم ( الثقة ) على
من لم يُجْرَح ، مع ارتفاع الجهالةِ عنه . وهذا يُسمَّى : مستوراً ، ويُسمىَّ :
محلهُّ الصدق ، ويقال فيه : شيخ .
وقولهم : ( مجهول ) ، لا يلزمُ منه جهالةُ عينِه ، فإن جُهِلَ عينُه
وحالُه ، فأَولَى أن لا يَحتجُّوا به .
وإن كان المنفردُ عنه من كبارِ الأثبات ، فأقوى لحاله ، ويَحتَجُّ بمثلِه
جماعةٌ كالَّنسائي وابنِ حِباَّن .
ويَنْبُوعُ معرفةِ ( الثقات ) : تاريخُ البخاريِّ ، وابنِ أبي حاتم ، وابنِ
حِبَّان ، وكتابُ (( تهذيب الكمال )) .
فصل
من أَخرَج له الشيخان على قسمين :
أحدُهما : ما احتَجَّا به في الأصول . وثانيهما : من خرَّجا له متابعةً
وشَهادَةً واعتباراً .
فمن احتَجَّا به أو أحدُهما ، ولم يُوثَّق ، ولا غُمِزَ ، فهو ثقة ، حديُثُه
قوي .
ومن احتَجَّا به أو أحدُهما ، وتُكلِّم فيه :
فتارةً يكون الكلامُ فيه تعنُّتاً ، والجمهورُ على توثيقِه ، فهذا حديثُهُ
قويّ أيضاً .
وتارةً يكون الكلامُ في تليينِهِ وحِفظِهِ له اعتبار . فهذا حديثهُ لا يَنحطُّ
عن مرتبة الحسَن ، التي قد نُسمِّيها : من أدنى درجات ( الصحيح )
فما في (( الكتابين )) بحمد الله رجلٌ احتَجَّ به البخاريُّ أو مسلمٌ
في الأصولِ ، ورواياتُه ضعيفة ، بل حَسَنةٌ أو صحيحة .
ومن خَرَّجَ له البخاريُّ أو مسلمٌ في الشواهد والمتابَعات ، ففيهم من
في حِفظِه شيء ، وفي توثيِقه تردُّد . فكلُّ من خُرِّجَ له في ((الصحيحين )) ،
فقد قَفَزَ القَنْطَرة ، فلا مَعْدِلَ عنه إلا ببرهانٍ بَيِّن .
نعم ، الصحيحُ مراتب ، والثقاتُ طَبَقات ، فليس مَنْ وُثِّق مطلقاً
كمن تُكلِّمَ فيه ، وليس من تُكلِّم في سُوءِ حفظِه واجتهادِه في الطَّلَب ،
كمن ضعَّفوه ولا من ضعَّفوه ورَوَوْا له كمن تركوه ، ولا من تركوه
كمن اتَّهموه وكذَّبوه .
فالترجيحُ يَدخُلُ عند تعارُضِ الروايات . وحَصْرُ الثقاتِ في مصنَّفٍ
كالمتعذِّر . وضَبْطُ عَدَدِ المجهولين مستحيل .
فأمَّا من ضُعِّفَ أو قيل فيه أدنى شيء ، فهذا قد ألَّفتُ فيه مختصراً
سمَّيتُه بـ (( المغني )) ، وبَسَطتُ فيه مؤلَّفاً سَمَّيتُه بـ ((الميزان )) .
فصل
ومن الثقات الذين لم يُخْرَجْ لهم في (( الصحيحين )) خَلْقٌ ، منهم :
من صَحَّح لهم الترمذيُّ وابنُ خزيمة ثم : من رَوَى لهم النسائي وابنُ حِبَّان
وغيرُهما ، ثم : ـ مَنْ ـ لم يُضَعِّفْهم أحد واحتَجَّ هؤلاء المصنِّفون بروايتهم .
وقد قيل في بعضهم : فلانٌ ثقة ، فلان صدوق ، فلان لا بأس به ،
فلان ليس به بأس ، فلان محلُّه الصدق ، فلان شيخ ، فلان مستور ، فلان
رَوَى عنه شعبة ، أو : مالك ، أو : يحيى ، وأمثالُ ذلك . كـ: فُلانٌ حسَنُ
الحديث ، فلانٌ صالحُ الحديث ، فلانٌ صدوقٌ إن شاء الله .
فهذه العبارات كلُّها جيَّدة ، ليسَتْ مُضعِّفةً لحالِ الشيخ ، نعم ولا
مُرَقِّيةً لحديِثه إلى درجة الصِّحَّةِ الكاملةِ المتفَقِ عليها ، لكنْ كثيرٌ ممن ذكرنا
مُتَجَاذَبٌ بين الاحتجاجِ به وعَدَمِه .
وقد قيل في جَمَاعاتٍ : ليس بالقويِّ ، واحتُجَّ به . وهذا النَّسائيُّ
قد قال في عِدَّةٍ : ليس بالقويّ ، ويُخرِجُ لهم في (( كتابه )) ، قال : قولُنا :
( ليس بالقوي ) ليس بجَرْحٍ مُفْسِد .
والكلامُ في الرُّواة يَحتاجُ إلى وَرَعٍ تامّ ، وبَراءةٍ من الهوى والمَيْل ،
وخِبرةٍ كاملةٍ بالحديثِ وعِلَلِه ، ورجالِه .
ثم نحن نفتَقِرُ إلى تحرير عباراتِ التعديلِ والجرح وما بين ذلك ، من
العباراتِ المُتَجَاذَبَة .
ثم أهَمُّ من ذلك أن نَعلمَ بالا ستقراءِ التامِّ : عُرْفَ ذلك الإمامِ
الجِهْبِذ ، واصطلاحَه ، ومقاصِدَه ، بعباراتِه الكثيرة .
أما قولُ البخاري : ( سكتوا عنه ) ، فظاهِرُها أنهم ما تعرَّضوا له
بجَرْح ولا تعديل ، وعَلِمنا مقصدَه بها بالا ستقراء : أنها بمعنى تركوه .
وكذا عادَتُه إذا قال : ( فيه نظر ) ، بمعنى أنه متَّهم ، أو ليس بثقة . فهو
عنده أسْوَأُ حالاً من ( الضعيف ) .
وبالا ستقراءِ إذا قال أبو حاتم : ( ليس بالقوي ) ، يُريد بها : أنَّ
هذا الشيخ لم يَبلُغ درَجَة القويِّ الثَّبْت . والبخاريُّ قد يُطلقُ على الشيخ :
( ليس بالقوي ) ، ويريد أنه ضعيف .
ومن ثَمَّ قيل : تجبُ حكايةُ الجرح والتعديل ، فمنهم من نَفَسُهُ حادٌّ في
الجَرْح ، ومنهم من هو معتدِل ،ومنهم من هو متساهل .
فالحادُّ فيهم : يحيى بنُ سعيد ، وابنُ معين ، وأبو حاتم ، وابنُ خِراش ،
وغيرُهم .
والمعتدلُ فيهم : أحمد بن حنبل ، والبخاري ، وأبو زُرْعَة .
والمتساهلُ كالترمذيِّ ، والحاكم ، والدارقطنيِّ في بعض الأوقات .
وقد يكون نَفَسُ الإمام ـ فيما وافَقَ مذهبَه ، أو في حالِ شيخِه ـ
ألطفَ منه فيما كان بخلاف ذلك . والعِصمةُ للأنبياءِ والصديقين وحُكَّام
القِسْط .
ولكنَّ هذا الدين مؤيَّد محفوظ من الله تعالى ، لم يَجتمع علماؤه
على ضلالة ، لا عَمْداً ولا خطأ ، فلا يَجتمِعُ اثنانِ على توثيقِ ضعيف ،
ولا على تضعيفِ ثقة ، وإنما يقعُ اختلافُهم في مراتبِ القُوَّةِ أو مراتبِ
الضعف . والحَاكمُ منهم يَتكلَّمُ بحسبِ اجتهادِهِ وقُوَّةِ مَعارِفِه ، فإن قُدِّرَ
خطؤه في نقده ، فله أجرٌ واحد ، والله الموفق .
وهذا فيما إذا تكلَّموا في نقدِ شيخٍ وَرَدَ شيءٌ في حِفظَه وغَلَطِه ،
فإن كان كلامُهم فيه من جهةِ معتَقَدِه ، فهو على مراتب :
فمنهم : من بِدْعَتُه غليظة .
ومنهم : من بِدْعَتُه دون ذلك .
ومنهم : الداعي إلى بدعتِه .
ومنهم : الكافُّ ، وما بينَ ذلك .
فمتى جَمَع الغِلَظَ والدعوةَ تُجُنِّبَ الأخذُ عنه .
ومتى جِمِع الخِفَّةَ والكفَّ أَخذوا عنه وقَبِلُوه .
فالغِلَظُ كغُلاةِ الخوارج ، والجهميةِ ، والرافضةِ .
والخِفَّةُ كالتشيُّع والإِرجاء .
وأمَّا من استَحلَّ الكذبَ نَصْراً لِرَأْيِه كالخطَّابيَّة فبالأولى رَدُّ حديثهِ .
قال شيخنا ابنُ وَهْب : العقائدُ أَوجبَتْ تكفيرَ البعضِ للبعض ، أو
التبديعَ ، وأَوجبَتْ العَصَبِيَّةَ ، ونشأ من ذلك الطعنُ بالتكفيرِ والتبديع ،
وهو كثير في الطبقة المتوسِّطةِ من المتقدمين .
والذي تَقرَّرَ عندنا : أنه لا تُعتَبرُ المذاهبُ في الرواية ، ولا نُكفِّرُ أهلَ
القِبلة ، إلا بإنكارِ مُتواترٍ من الشريعة ، فإذا اعتَبَرْنَا ذلك ، وانضمَّ إليه
الورَعُ والضبطُ والتقوى فقد حَصَل مُعْتمَدُ الرواية . وهذا مذهبُ
الشافعي رضي الله عنه ، حيث يقول : أَقبَلُ شهادةَ أهلِ الأهواءِ إلا
الخَطَّابيَّةَ من الرَّوَافِض .
قال شيخنا : وهل تُقبَلُ روايةُ المبتدِع فيما يؤيِّدُ به مذهبَه ؟ فمن
رأى رَدَّ الشهادةِ بالتُّهْمَة ،لم يَقبَل . ومن كان داعيةً مُتَجاهِراً ببدعتِه ،
فليُترَك إهانةً له ، وإخماداً لمذهبِه ، اللهم إلا أن يكون عنده أثَرٌ تفرَّدَ به ،
فنُقدَّمُ سَمَاعَهُ منه .
ينبغي أن تُتَفَقَّدَ حالَ الجارح مع من تَكلَّم فيه ، باعتبار الأهواء فإن لاح
لك انحرافُ الجارح ووجدتَ توثيقَ المجروح من جهةٍ أخرى ، فلا تَحفِلْ
بالمنحرِف وبغَمْزِه المبهَم ، وإن لم تجد توثيقَ المغموز فتأَنَّ وترفَّقْ .
قال شيخُنا ابنُ وَهْب رحمه الله : ومن ذلك : الاختلافُ الواقعُ بين
المتصوِّفة وأهلِ العلمِ الظاهرِ ، فقد وَقَع بينهم تنافُرٌ أوجَبَ كلامَ بعضِهم
في بعض .
وهذه غَمْرَةٌ لا يَخلُصُ منها إلا العالمُ الوَافي بشواهد الشريعة .
ولا أَحْصُرُ ذلك في العلم بالفروع ، فإنَّ كثيراً من أحوال المُحِقِّينَ من
الصوفية ، لا يَفِي بتمييزِ حَقِّه من باطِلِه عِلمُ الفروع ، بل لا بُدَّ من معرفةِ
القواعدِ الأصولية ، والتمييزِ بين الواجبِ والجائز ، والمستحيلِ عقلاً
والمستحيلِ عادَةً .
وهو مقامٌ خَطِر ، إذ القادِحُ في مُحِقَّ الصُّوفية ، داخلٌ في حديث
(( من عادَى لي وَلِيّاً فقد بارَزَني بالمُحارَبة )) . والتارِكُ لإنكارِ الباطلِ مما
سَمِعَه من بعضِهم تاركٌ للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
ومن ذلك : الكلامُ بسبب الجهل بمراتب العلوم ، فيُحتاجُ إليه في
المتأخرين أكثَرُ ، فقد انتَشَرَتْ علومٌ للأوائل ، وفيها حَقٌّ كالحسابِ
والهندسةِ والطِّبٌ ، وباطلّ كالقولِ في الطبيعيَّاتِ وكثيرٍ من الإلهيَّاتِ
وأحكامِ النجوم .
فيَحتاجُ القادحُ أن يكون مُميِّزاً بين الحقِّ والباطل ، فلا يُكفِّرَ من
ليس بكافر ، أو يَقبلَ رواية الكافر .
ومنه : الخَلَلُ الواقعُ بسببِ عَدَمِ الوَرَعِ والأَْخْذِ بالتوهُّم والقرائنِ
التي قد تَتخلَّفُ ، قال :salla: : (( الظَّنُّ أكذَبُ الحديث )) فلا بد من العلم
والتقوى في الجَرْح ، فلصُعُوبةِ اجتماع هذه الشرائط المزكِّين ، عَظُمَ خَطَرُ
الجَرْح والتعديل .
هذا والله اعلى واعلم
اعذروني للإطاله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اولا كل عام انتم بخير بمناسبة حلول شهر رمضان جعلنا الله واياكم من عتقائه وجميع المسلمين الهم آمين
وبعد عنوان اليوم اداب المحدث من كتاب الموقظة للإمام الحافظ شمس الدين الذهبي
آداب المحدث
تصحيحُ النيَّةِ من طالب العلم متعيَّن ، فمن طَلَب الحديثَ للمكاثرة
أو المفاخرة ، أو ليَروِيَ ، أو لِيتناوَلَ الوظائفَ ، أو ليُثْنى عليه وعلى معرفتِه
فقد خَسِر . وإنْ طلَبَه لله ، وللعمل به ، وللقُربةِ بكثرة الصلاة على نبيـه
:salla: ، ولنفعِ الناس ، فقد فاز . وإن كانت النيَّةُ ممزوجةُ بالأمرينِ فالحكمُ
للغالب .
وإن كان طَلَبَه لفَرْطِ المحبةِ فيه ، مع قطع النظر عن الأجْرِ وعن بني
آدم ، فهذا كثيراً ماً : يَعتبري طلبةَ العُلُوم ، فلعلَّ النيَّةَ أن يَرزُقَها اللهُ بعدُ .
وأيضاً فمن طَلَب العلم للآخِرة كَسَاهُ العِلمُ خَشْيَةً لله ، واستَكانَ وتواضَعَ ،
ومن طلبه للدنيا تكبَّرَ وتجبَّر ، وازدَرَى بالمسلمين العامَّة ، وكان عاقبةُ
أمرِه إلى سِفَالٍ وحَقَارة .
فليحتسِب المحدَّثُ بحديثهِ ، رجاءَ الدخولِ في قوله :salla: : (( نَضَّر الله
امرءاً سَمِعَ مقالتي فوعاها ، ثم أدَّاها إلى من لم يَسمعها )) .
ولْيَبْذُلْ نفسَه للطلبةِ الأخيار ، لا سيما إذا تَفرَّد ، ولْيَمْتَنَعْ مع الهَرَمِ
وتغيَّرِ الذهن ، ولْيَعْهَدَ إلى أهله وإخوانه حالَ صحته : أنكم متى رأيتموني
تغيَّرتُ ، فامنَعُوني من الرواية .
فمن تَغيَّرَ بسُوءِ حفظٍ وله أحاديثُ معدودة ، قد أَتقَنَ روايتَها ، فلا
بأس بتحديِثه بها زمنَ تغيُّره .
ولا بأس بأن يُجيزَ مروياَّ تِه حالَ تغيُّره ، فإنَّ أصولَه مضبوطةُ ما
تغيَّرتْ ، وهو فَقَدَ وَعْيَ ما أجاز . فإن اختَلَط وخَرِفَ امتُنِعَ من أخْذِ
الإجازةِ منه .
ومن الأدب أن لا يُحدَّثَ مع وجودِ من هو أَولَى منه لِسِنهِّ وإتقانِه .
بل يَدُلَّهم على المُهِمّ ، فالدَّينُ النصيحة .
فإنْ دَلَّهم على مُعَمَّرٍ عامِيٍ ، وعَلِمَ قُصورَهم في إقامِة مرويَّاتِ العاميِّ ، نَصَحهم ودَلَّهم على عارفٍ يَسمعون بقراءتهِ ، أو حَضَر مع العاميِّ ورَوَى بنُزولٍ ، جَمْعاً بين الفوائد .
ورُوي أنَّ مالكاً رحمه الله كان يَغتسِلُ للتحديث ، ويَتبخَّرُ ،
ويتطيَّبُ ، ويَلبَسُ ثيابَه الحسنة ، ويَلزمُ الوَقارَ والسَّكينة ، ويَزْبُرُ من يَرفعُ صوتَه ، ويُرَتِّلُ الحديث .
وقد تَسمَّح الناسُ في هذه الأعصار بالإسراع المذموم ، الذي يَخفَى
معه بعضُ الألفاظ . والسماعُ هكذا لا مِيزةَ له على الإجازةِ ، بل الإجازةُ
صِدْقّ ، وقولُك : سَمِعتُ أو قرأتُ هذا الجزءَ كلَه ـ مع التَّمْتَمَةِ ودَمْجِ
بعض الكلمات ـ كَذِبُ .
وقد قال النَّسائيُّ في عِدَّةِ أماكنَ من (( صحيحه )) : وذَكَرَ كلمةً
معناها كذا وكذا .
وكان الحُفَّاظُ يَعقِدون مجالسَ للإملاء ، وهذا قد عُدِمَ اليوم ،
والسماع بالإملاء يكون مُحقَّقاً ببيانِ الألفاظِ للمُسمِع والسامع .
ولْيجتنِبْ روايةَ المشكلات ، مما لا تحملُه قلوبُ العامَّة ، فإن رَوَى
ذلك فليكن في مجالس خاصة . وَيَحرُمُ عليه روايةُ الموضوع ، وروايةُ
المطروح ، إلا أن يُبيّنَه للناسِ ليَحذّرُوه .
الثقة :
تُشتَرَطُ العدالةُ في الراوي كالشاهد ، ويمتازُ الثقةُ بالضبطِ والإتقان ،
فإن انضاف إلى ذلك المعرفةُ والإكثارُ ، فهو حافظ .
والحُفَّاظُ طبقات :
1ـ في ذِرْوَتِها أبو هريرة رضي الله عنه .
2ـ وفي التابعين كابنِ المسيَّب .
3ـ وفي صِغارِهم كالزُّهريِّ
4ـ وفي أتباعِهم كسفيان ، وشعبة ، ومالك .
5ـ ثم ابنِ المبارك ، ويحيى بنِ سعيد ، ووكيع ، وابنِ مهدي .
6ـ ثم كأصحابِ هؤلاء ، كابن المَدِيني ، وابنِ مَعِين ، وأحمد ، وإسحاق ،
وخَلْق .
7ـ ثم البخاريِّ ، وأبي زُرْعَة ، وأبي حاتم ، وأبي داود ، ومُسْلِم .
8ـ ثم النَّسائيِّ ، وموسى بنِ هارون ، وصالحِ جَزَرَة ، وابنِ خُزَيمة .
9ـ ثم ابنِ الشَّرْقي . وممن يُوصَفُ بالحفظ والإتقانِ جماعةُ من الصحابة
والتابعين .
10ـ ثم عُبَيدِ الله بنِ عمر ، وابنِ عَوْن ، ومِسْعَر .
11ـ ثم زائدة ، والليثِ ، وحمَّادِ بن زيد .
12ـ ثم يزيدُ بنِ هارون ، وأبو أسامة ، وابنُ وهب .
13ـ ثم أبو خيثمة ، وأبو بكر بن أبي شيبة ، وابن نُمَير ، وأحمد بن صالح .
14ـ ثم عَبَّاسٌ الدُّوْرِي ، وابنُ وارَهْ ، والترمذيُّ ، وأحمدُ بن أبي خَيْثَمة ،
وعبدُ الله بن أحمد
15ـ ثم ابنُ صاعِد ، وابن زياد النيسابوري ، وابنُ جَوْصَا ، وابنُ الأَخْرَم .
16ـ ثم أبو بكر الإسماعيلي ، وابنُ عَدِيّ ، وأبو أحمد الحاكم .
17ـ ثم ابنُ منده ، ونحوُه .
18ـ ثم الَبرْقَانيُّ ، وأبو حازم العَبْدَوِي .
19ـ ثم البيهقيُّ ، وابنُ عبد البَرّ .
20ـ ثم الحُمَيدي ، وابنُ طَاهِر .
21ـ ثم السِّلَفِيّ ، وابن السَّمْعاني .
22ـ ثم عبدالقادر ، والحازمي .
23ـ ثم الحافظ الضياء ، وابنُ سيد الناس خطيبُ تونس .
24ـ ثم حفيدُه حافظ وقتِه أبو الفتح .
وممن تقدَّم من الحفاظِ في الطبقةِ الثالثة : عَدَدٌ من الصحابةِ وخلقٌ من
التابعين وتابعيهم ، وهلُمَّ جراً إلى اليوم .
1ـ فمثلُ يحيى القطان ، يقال فيه : إمامُ ، وحُجَّة ، وثَبْت ، وجِهْبِذ ،
وثِقَةُ ثِقَة .
2ـ ثم ثقةُ حافظ .
3ـ ثم ثقةُ مُتقن .
4ـ ثم ثقةُ عارف ، وحافظُ صدوق ، ونحوُ ذلك .
فهؤلاء الحُفَّاظُ الثقات ، إذا انفرد الرجلُ منهم من التابعين ، فحديثهُ
صحيح . وإن كان من الأتباعِ قيل : صحيح غريب . وإن كان من
أصحاب الأتباع قيل : غريبُ فَرْد .
ويَنْدُرُ تفرُّدهم ، فتجدُ الإمامَ منهم عندهَ مِئتا ألف حديث ، لا يكادُ
ينفرد بحديثينِ ثلاثة .
ومن كان بعدَهم فأين ما يَنفرِدُ به ، ما علمتهُ ، وقد يوُجَد .
ثم نَنْتَقِلُ إلى اليَقِظ الثقةِ المتوسِطِ المعرفةِ والطلب ، فهو الذي يُطلَقُ
عليه أنه ثقة ، وهم جُمهورُ رجالِ (( الصحيحين )) فتابِعِيُّهم ، إذا انفَرَد
بالمَتْن خُرَّج حديثهُ ذلك في ( الصحاح ) .
وقد يَتوقَّفُ كثيرُ من النُّقاَّد في إطلاق ( الغرابة ) مع ( الصحة ) ،
في حديثِ أتباعِ الثقات . وقد يُوجَدُ بعضُ ذلك في ( الصحاح ) دون
بعض .
وقد يُسمِّي جماعةٌ من الحفاظ الحديثَ الذي ينفرد به مثلُ هُشَيْم ،
وحفصِ بنِ غِياثٍ : منكراً
فإن كان المنفرد من طبقة مشيخة الأئمة ، أطلقوا النكارةَ على ما
انفرد مثلُ عثمان بن أبي شيبة ، وأبي سَلَمة التَّبُوْذَكِي ، وقالوا : هذا منكر.
فإن رَوَى أحاديثَ من الأفراد المنكرة ، غَمَزُوه وليَّنوا حديثَه ، وتوقفوا
في توثيقه ، فإن رَجَع عنها وامَتَنع من روايتها ، وجَوَّز على نفسِه الوَهَمَ ،
فهو خيرُ له وأرجَحُ لعدالته ، وليس من حَدِّ الثقةِ : أنَّهُ لا يَغلَطُ ولا يُخطِئ ،
فمن الذي يَسلمُ من ذلك غيرُ المعصومِ الذي لا يُقَرُّ على خطأ .
فصل
الثقة : من وثَّقَه كثيرٌ ولم يُضعَّف . ودُونَه : من لم يُوثق ولا ضُعِّف .
فإن حُرِّج حديثُ هذا في (( الصحيحين )) ، فهو مُوَثَّق بذلك ، وإن
صَحَّح له مثلُ الترمذيِّ وابنِ خزيمة فجيِّدُ أيضاً ، وإن صَحَّحَ له
كالدارقطنيِّ والحاكم ، فأقلُّ أحوالهِ : حُسْنُ حديثه .
وقد اشتَهَر عند طوائف من المتأخرين ، إطلاقُ اسم ( الثقة ) على
من لم يُجْرَح ، مع ارتفاع الجهالةِ عنه . وهذا يُسمَّى : مستوراً ، ويُسمىَّ :
محلهُّ الصدق ، ويقال فيه : شيخ .
وقولهم : ( مجهول ) ، لا يلزمُ منه جهالةُ عينِه ، فإن جُهِلَ عينُه
وحالُه ، فأَولَى أن لا يَحتجُّوا به .
وإن كان المنفردُ عنه من كبارِ الأثبات ، فأقوى لحاله ، ويَحتَجُّ بمثلِه
جماعةٌ كالَّنسائي وابنِ حِباَّن .
ويَنْبُوعُ معرفةِ ( الثقات ) : تاريخُ البخاريِّ ، وابنِ أبي حاتم ، وابنِ
حِبَّان ، وكتابُ (( تهذيب الكمال )) .
فصل
من أَخرَج له الشيخان على قسمين :
أحدُهما : ما احتَجَّا به في الأصول . وثانيهما : من خرَّجا له متابعةً
وشَهادَةً واعتباراً .
فمن احتَجَّا به أو أحدُهما ، ولم يُوثَّق ، ولا غُمِزَ ، فهو ثقة ، حديُثُه
قوي .
ومن احتَجَّا به أو أحدُهما ، وتُكلِّم فيه :
فتارةً يكون الكلامُ فيه تعنُّتاً ، والجمهورُ على توثيقِه ، فهذا حديثُهُ
قويّ أيضاً .
وتارةً يكون الكلامُ في تليينِهِ وحِفظِهِ له اعتبار . فهذا حديثهُ لا يَنحطُّ
عن مرتبة الحسَن ، التي قد نُسمِّيها : من أدنى درجات ( الصحيح )
فما في (( الكتابين )) بحمد الله رجلٌ احتَجَّ به البخاريُّ أو مسلمٌ
في الأصولِ ، ورواياتُه ضعيفة ، بل حَسَنةٌ أو صحيحة .
ومن خَرَّجَ له البخاريُّ أو مسلمٌ في الشواهد والمتابَعات ، ففيهم من
في حِفظِه شيء ، وفي توثيِقه تردُّد . فكلُّ من خُرِّجَ له في ((الصحيحين )) ،
فقد قَفَزَ القَنْطَرة ، فلا مَعْدِلَ عنه إلا ببرهانٍ بَيِّن .
نعم ، الصحيحُ مراتب ، والثقاتُ طَبَقات ، فليس مَنْ وُثِّق مطلقاً
كمن تُكلِّمَ فيه ، وليس من تُكلِّم في سُوءِ حفظِه واجتهادِه في الطَّلَب ،
كمن ضعَّفوه ولا من ضعَّفوه ورَوَوْا له كمن تركوه ، ولا من تركوه
كمن اتَّهموه وكذَّبوه .
فالترجيحُ يَدخُلُ عند تعارُضِ الروايات . وحَصْرُ الثقاتِ في مصنَّفٍ
كالمتعذِّر . وضَبْطُ عَدَدِ المجهولين مستحيل .
فأمَّا من ضُعِّفَ أو قيل فيه أدنى شيء ، فهذا قد ألَّفتُ فيه مختصراً
سمَّيتُه بـ (( المغني )) ، وبَسَطتُ فيه مؤلَّفاً سَمَّيتُه بـ ((الميزان )) .
فصل
ومن الثقات الذين لم يُخْرَجْ لهم في (( الصحيحين )) خَلْقٌ ، منهم :
من صَحَّح لهم الترمذيُّ وابنُ خزيمة ثم : من رَوَى لهم النسائي وابنُ حِبَّان
وغيرُهما ، ثم : ـ مَنْ ـ لم يُضَعِّفْهم أحد واحتَجَّ هؤلاء المصنِّفون بروايتهم .
وقد قيل في بعضهم : فلانٌ ثقة ، فلان صدوق ، فلان لا بأس به ،
فلان ليس به بأس ، فلان محلُّه الصدق ، فلان شيخ ، فلان مستور ، فلان
رَوَى عنه شعبة ، أو : مالك ، أو : يحيى ، وأمثالُ ذلك . كـ: فُلانٌ حسَنُ
الحديث ، فلانٌ صالحُ الحديث ، فلانٌ صدوقٌ إن شاء الله .
فهذه العبارات كلُّها جيَّدة ، ليسَتْ مُضعِّفةً لحالِ الشيخ ، نعم ولا
مُرَقِّيةً لحديِثه إلى درجة الصِّحَّةِ الكاملةِ المتفَقِ عليها ، لكنْ كثيرٌ ممن ذكرنا
مُتَجَاذَبٌ بين الاحتجاجِ به وعَدَمِه .
وقد قيل في جَمَاعاتٍ : ليس بالقويِّ ، واحتُجَّ به . وهذا النَّسائيُّ
قد قال في عِدَّةٍ : ليس بالقويّ ، ويُخرِجُ لهم في (( كتابه )) ، قال : قولُنا :
( ليس بالقوي ) ليس بجَرْحٍ مُفْسِد .
والكلامُ في الرُّواة يَحتاجُ إلى وَرَعٍ تامّ ، وبَراءةٍ من الهوى والمَيْل ،
وخِبرةٍ كاملةٍ بالحديثِ وعِلَلِه ، ورجالِه .
ثم نحن نفتَقِرُ إلى تحرير عباراتِ التعديلِ والجرح وما بين ذلك ، من
العباراتِ المُتَجَاذَبَة .
ثم أهَمُّ من ذلك أن نَعلمَ بالا ستقراءِ التامِّ : عُرْفَ ذلك الإمامِ
الجِهْبِذ ، واصطلاحَه ، ومقاصِدَه ، بعباراتِه الكثيرة .
أما قولُ البخاري : ( سكتوا عنه ) ، فظاهِرُها أنهم ما تعرَّضوا له
بجَرْح ولا تعديل ، وعَلِمنا مقصدَه بها بالا ستقراء : أنها بمعنى تركوه .
وكذا عادَتُه إذا قال : ( فيه نظر ) ، بمعنى أنه متَّهم ، أو ليس بثقة . فهو
عنده أسْوَأُ حالاً من ( الضعيف ) .
وبالا ستقراءِ إذا قال أبو حاتم : ( ليس بالقوي ) ، يُريد بها : أنَّ
هذا الشيخ لم يَبلُغ درَجَة القويِّ الثَّبْت . والبخاريُّ قد يُطلقُ على الشيخ :
( ليس بالقوي ) ، ويريد أنه ضعيف .
ومن ثَمَّ قيل : تجبُ حكايةُ الجرح والتعديل ، فمنهم من نَفَسُهُ حادٌّ في
الجَرْح ، ومنهم من هو معتدِل ،ومنهم من هو متساهل .
فالحادُّ فيهم : يحيى بنُ سعيد ، وابنُ معين ، وأبو حاتم ، وابنُ خِراش ،
وغيرُهم .
والمعتدلُ فيهم : أحمد بن حنبل ، والبخاري ، وأبو زُرْعَة .
والمتساهلُ كالترمذيِّ ، والحاكم ، والدارقطنيِّ في بعض الأوقات .
وقد يكون نَفَسُ الإمام ـ فيما وافَقَ مذهبَه ، أو في حالِ شيخِه ـ
ألطفَ منه فيما كان بخلاف ذلك . والعِصمةُ للأنبياءِ والصديقين وحُكَّام
القِسْط .
ولكنَّ هذا الدين مؤيَّد محفوظ من الله تعالى ، لم يَجتمع علماؤه
على ضلالة ، لا عَمْداً ولا خطأ ، فلا يَجتمِعُ اثنانِ على توثيقِ ضعيف ،
ولا على تضعيفِ ثقة ، وإنما يقعُ اختلافُهم في مراتبِ القُوَّةِ أو مراتبِ
الضعف . والحَاكمُ منهم يَتكلَّمُ بحسبِ اجتهادِهِ وقُوَّةِ مَعارِفِه ، فإن قُدِّرَ
خطؤه في نقده ، فله أجرٌ واحد ، والله الموفق .
وهذا فيما إذا تكلَّموا في نقدِ شيخٍ وَرَدَ شيءٌ في حِفظَه وغَلَطِه ،
فإن كان كلامُهم فيه من جهةِ معتَقَدِه ، فهو على مراتب :
فمنهم : من بِدْعَتُه غليظة .
ومنهم : من بِدْعَتُه دون ذلك .
ومنهم : الداعي إلى بدعتِه .
ومنهم : الكافُّ ، وما بينَ ذلك .
فمتى جَمَع الغِلَظَ والدعوةَ تُجُنِّبَ الأخذُ عنه .
ومتى جِمِع الخِفَّةَ والكفَّ أَخذوا عنه وقَبِلُوه .
فالغِلَظُ كغُلاةِ الخوارج ، والجهميةِ ، والرافضةِ .
والخِفَّةُ كالتشيُّع والإِرجاء .
وأمَّا من استَحلَّ الكذبَ نَصْراً لِرَأْيِه كالخطَّابيَّة فبالأولى رَدُّ حديثهِ .
قال شيخنا ابنُ وَهْب : العقائدُ أَوجبَتْ تكفيرَ البعضِ للبعض ، أو
التبديعَ ، وأَوجبَتْ العَصَبِيَّةَ ، ونشأ من ذلك الطعنُ بالتكفيرِ والتبديع ،
وهو كثير في الطبقة المتوسِّطةِ من المتقدمين .
والذي تَقرَّرَ عندنا : أنه لا تُعتَبرُ المذاهبُ في الرواية ، ولا نُكفِّرُ أهلَ
القِبلة ، إلا بإنكارِ مُتواترٍ من الشريعة ، فإذا اعتَبَرْنَا ذلك ، وانضمَّ إليه
الورَعُ والضبطُ والتقوى فقد حَصَل مُعْتمَدُ الرواية . وهذا مذهبُ
الشافعي رضي الله عنه ، حيث يقول : أَقبَلُ شهادةَ أهلِ الأهواءِ إلا
الخَطَّابيَّةَ من الرَّوَافِض .
قال شيخنا : وهل تُقبَلُ روايةُ المبتدِع فيما يؤيِّدُ به مذهبَه ؟ فمن
رأى رَدَّ الشهادةِ بالتُّهْمَة ،لم يَقبَل . ومن كان داعيةً مُتَجاهِراً ببدعتِه ،
فليُترَك إهانةً له ، وإخماداً لمذهبِه ، اللهم إلا أن يكون عنده أثَرٌ تفرَّدَ به ،
فنُقدَّمُ سَمَاعَهُ منه .
ينبغي أن تُتَفَقَّدَ حالَ الجارح مع من تَكلَّم فيه ، باعتبار الأهواء فإن لاح
لك انحرافُ الجارح ووجدتَ توثيقَ المجروح من جهةٍ أخرى ، فلا تَحفِلْ
بالمنحرِف وبغَمْزِه المبهَم ، وإن لم تجد توثيقَ المغموز فتأَنَّ وترفَّقْ .
قال شيخُنا ابنُ وَهْب رحمه الله : ومن ذلك : الاختلافُ الواقعُ بين
المتصوِّفة وأهلِ العلمِ الظاهرِ ، فقد وَقَع بينهم تنافُرٌ أوجَبَ كلامَ بعضِهم
في بعض .
وهذه غَمْرَةٌ لا يَخلُصُ منها إلا العالمُ الوَافي بشواهد الشريعة .
ولا أَحْصُرُ ذلك في العلم بالفروع ، فإنَّ كثيراً من أحوال المُحِقِّينَ من
الصوفية ، لا يَفِي بتمييزِ حَقِّه من باطِلِه عِلمُ الفروع ، بل لا بُدَّ من معرفةِ
القواعدِ الأصولية ، والتمييزِ بين الواجبِ والجائز ، والمستحيلِ عقلاً
والمستحيلِ عادَةً .
وهو مقامٌ خَطِر ، إذ القادِحُ في مُحِقَّ الصُّوفية ، داخلٌ في حديث
(( من عادَى لي وَلِيّاً فقد بارَزَني بالمُحارَبة )) . والتارِكُ لإنكارِ الباطلِ مما
سَمِعَه من بعضِهم تاركٌ للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
ومن ذلك : الكلامُ بسبب الجهل بمراتب العلوم ، فيُحتاجُ إليه في
المتأخرين أكثَرُ ، فقد انتَشَرَتْ علومٌ للأوائل ، وفيها حَقٌّ كالحسابِ
والهندسةِ والطِّبٌ ، وباطلّ كالقولِ في الطبيعيَّاتِ وكثيرٍ من الإلهيَّاتِ
وأحكامِ النجوم .
فيَحتاجُ القادحُ أن يكون مُميِّزاً بين الحقِّ والباطل ، فلا يُكفِّرَ من
ليس بكافر ، أو يَقبلَ رواية الكافر .
ومنه : الخَلَلُ الواقعُ بسببِ عَدَمِ الوَرَعِ والأَْخْذِ بالتوهُّم والقرائنِ
التي قد تَتخلَّفُ ، قال :salla: : (( الظَّنُّ أكذَبُ الحديث )) فلا بد من العلم
والتقوى في الجَرْح ، فلصُعُوبةِ اجتماع هذه الشرائط المزكِّين ، عَظُمَ خَطَرُ
الجَرْح والتعديل .
هذا والله اعلى واعلم
اعذروني للإطاله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته