إن اليهود أنفسهم يعترفون بالمنكرات التي فعلوها بحق الله وحق أنبيائه ، فيذكرون أن ملكهم يوحاز بن يوتام 735 – 715 ق.م علق قلبه بحب الأوثان حتى إنه ضحى بأولاده على مذابح الآلهة الوثنية ، وأطلق لنفسه عنان الشهوات والشرور ، وأضل مني منسي بن حزقيا الذي حكم خلال الفترة 687 – 642 ق.م قومه عن عبادة الله وأقام معابد وثنية.
ولسنا نستغرب هذا عن بني إسرائيل فتلك أخلاقهم مع موسى عليه السلام تشهد بذلك . كما أن القرآن الكريم يشير إلى أنهم غيروا وبدلوا وقتلوا الأنبياء (لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلاً كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقاً كذبوا وفريقاً يقتلون) ، ويحدثنا التاريخ أنهم قتلوا النبي حزقيال حيث قتله قاضٍ من قضاتهم لأنه نهاه عن منكرات فعلها ، وأن الملك منسى بن (حزقيا) قتل النبي أشعيا بن أموص إذ أمره بنشره على جذع شجرة لأنه نصحه ووعظه ، وأن اليهود قتلوا النبي أرميا رجماً بالحجارة لأنه وبخهم على منكرات فعلوها.
ويسجل التلمود أن سقوط دولة اليهود وتدميرها لم يكن إلا "عندما بلغت ذنوب بني إسرائيل مبلغها وفاقت حدود ما يطيقه الإله العظيم ، وعندما رفضوا أن ينصتوا لكلمات وتحذيرات إرمياه". وبعد تدمير الهيكل وجه النبي إرمياه كلامه إلى نبوخذ ونصر والكلدانيين قائلاً : "لا تظن أنك بقوتك وحدها استطعت أن تتغلب على شعب الله المختار ، إنها ذنوبهم الفاجرة التي ساقتهم إلى هذا العذاب".
وتشير التوراة إلى آثام بني إسرائيل التي استحقوا بسببها سقوط مملكتهم ، فتذكر على لسان أشعيا أحد أنبيائهم "ويل للأمة الخاطئة ، الشعب الثقيل الآثم ، نسل فاعلي الشر ، أولاد مفسدون تركوا الرب ، استهانوا بقدوس إسرائيل ، ارتدوا إلى وراء" ، سفر أشعيا الإصحاح الأول (4) ، وتقول التوراة :" والأرض تدنست تحت سكانها ، لأنهم تعدوا الشرائع ، غيروا الفريضة ، نكثوا العهد الأبدي" سفر أشعيا الإصحاح 24 (5).
وهكذا لم يعد اليهود مؤهلين لحمل أعباء الرسالة وتكاليفها ، ففقدوا حقهم الديني في الأرض المقدسة.
ثالثاً : فضلاً عن فهمنا المسألة في أصلها الشرعي ، فإذا كان الله قد أعطى إبراهيم عليه السلام ونسله هذه الأرض ، فإن بني إسرائيل ليسوا وحدهم نسل إبراهيم ، فالعرب العدنانيون هم من نسله أيضاً ، وهم أبناء إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام ، وإليهم تنتمي قبيلة قريش ، التي ينتسب إليها محمد صلى الله عليه وسلم. وبالتالي فللعرب حقهم في الأرض.
رابعاً : إن القرآن الكريم يوضح مسألة إمامة سيدنا إبراهيم وذريته في شكل لا لبس فيه ، وتأمل قوله تعالى : (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين).
فعندما سأل إبراهيم الله أن تكون الإمامة في ذريته بين الله له أن عهدهم لذريته بالإمامة لا يستحقه ولا يناله الظالمون ، وأي ظلم وكفر وصد عن سبيل الله وإفساد في الأرض أكبر مما فعله بنو إسرائيل ويفعلونه !!
ثانياً : المزاعم التاريخية :
يزعم اليهود أن فلسطين هي أرضهم التاريخية ، وأن تاريخهم وتراثهم قد ارتبط بها ، وأنهم هم الأصل في هذه الأرض وغيرهم ليسوا من أبنائها ، وليسوا أكثر من عابري سبيل ، وأن الأرض لا ترتبط عندهم بمعنى مميز كما ترتبط لدى اليهود ويشيرون إلى فترات حكم داود وسليمان عليهما السلام ودولتي إسرائيل ويهودا .. إلخ.
وابتداء ، فإننا لا نعد اليهود الحاليين امتداداً تاريخياً شرعياً لبني إسرائيل ، وحكم الأنبياء والصالحين لأرض فلسطين ، وصراعهم مع أعدائهم هو جزء من تاريخ أمة التوحيد ، التي تعد أمة الإسلام امتداداً تاريخياً طبيعياً لهم.
وعلى أي حال ، وحتى لو قبلنا فرضاً ، بمناقشة الأمر وفق الافتراضات اليهودية ، فإنه يمكن إجمال ردنا عليهم فيما يلي :
أولاً : سكن الإنسان أرض فلسطين منذ العصور الموغلة في القدم ، أي قبل حوالي مليون عام ، وبنى أبناء فلسطين أقدم مدينة في العام "أريحا" قبل نحو عشرة آلاف سنة أي 8000 قبل الميلاد ، وهاجر الكنعانيون من جزيرة العرب إلى فلسطين حوالي 2500 ق.م ، وكانت هجرتهم واسعة بحيث أصبحوا السكان الأساسيين للبلاد ، وعرفت البلاد باسمهم ، وأنشأوا معظم مدن فلسطين وقراها ، والتي بلغت في الألف الثاني قبل الميلاد حوالي مائتي مدينة وقرية ، ومنها مدن شكيم ( نابلس وبلاطة) ، وبيسان وعسقلان وعكا وحيفا والخليل وأسدود وعاقر وبئر السبع وبيت لحم وغيرها.
ويرى ثقاة المؤرخين أن عامة أهل فلسطين الحاليين وخاصة القرويين هم من أنسال الكنعانيين والشعوب القديمة ، مثل شعوب البحر "الفلسطينيون" ، أو من العرب والمسلمين الذين استقروا في البلاد إثر الفتح الإسلامي لها ، وامتزجوا بأهلها الأصليين ، أي أن جذور الفلسطينيين الحاليين تعود إلى 4500 سنة على الأقل ، وهم لم يغادروها أو يهجروها طوال هذه الفترة إلى أي مكان آخر.
ثانياً : إن قدوم إبراهيم عليه السلام إلى فلسطين كان حوالي سنة 1900 ق.م ، والتوراة تعترف أنها كانت أرضاً عامرة وتسميها باسمها "أرض كنعان" ، حتى إن إبراهيم عليه السلام اشترى من أهلها مكاناً يدفن فيه زوجته سارة ، وهو مغارة المكفيلة ، وهي التي بني عليها المسجد الإبراهيمي ، واستقر بنو يعقوب فيما بعد (واسمه إسرائيل أيضاً) ، في مصر بعد ذلك لأجيال عديدة حتى جاء موسى عليه السلام بتكليف إرسالهم إلى الأرض المقدسة حوالي 1250 ق.م.
وحتى سنة 1000 ق.م لم يتمكن بنو إسرائيل سوى من الاستيطان في أجزاء ضئيلة من فلسطين في الأراضي المرتفعة بالقدس ، وفي السهول الشمالية.
ثالثاً : إن ملك داود وسليمان عليهما السلام استمر حوالي ثمانين عاماً فقط (1004 – 923 ق.م) ، وخلالها تمت السيطرة على معظم أنحاء فلسطين باستثناء المناطق الساحلية التي لم تلامسها المملكة إلا من مكان قريب من يافا.
وبعد وفاة سليمان عليها السلام انقسم اليهود إلى مملكتين :
1- مملكة إسرائيل : في الجزء الشمالي من فلسطين ، وعاصمتها في شكيم ثم ترزة ثم السامرة قرب نابلس ، واستمرت حوالي مائتي عام (923 – 721 ق.م) ، وقد سمتها دائرة المعارف البريطانية ازدراء "المملكة الذيلية" ، لضعفها وقلة شأنها ، وقد قام الآشوريون بقيادة سرجون الثاني بالقضاء على هذه الدولة ونقلوا سكانها اليهود إلى حران والخابور ، وكردستان وفارس ، وأحلوا محلهم جماعات من الآراميين ، ويظهر أن المنفيين الإسرائيليين اندمجوا تماماً في الشعوب المجاورة لهم في المنفى ، فلم يبق بعد ذلك أثر لنسل الأسباط العشرة من بني إسرائيل (يعقوب) ، وهم الذين كانوا يتبعون هذه المملكة.
2-مملكة يهودا: وعاصمتها القدس واستمرت 337 عاماً أي الفترة 923 – 586 ق.م ، ولم تكن تملك سوى أجزاء محدودة من وسط فلسطين ، وقد اعترتها عوامل الضعف ووقعت تحت النفوذ الخارجي فترات طويلة ، ودخل المهاجمون القدس نفسها مرات عديدة ، كما فعل فرعون مصر شيشق أواخر القرن العاشر ق.م ، والفلسطينيون الذين استولوا على قصر الملك يهورام (849 – 842 ق.م) وسبوا بنيه ونساءه ، كما خضعت للنفوذ الآشوري في عهود سرجون الثاني ، وأسر حدون وآشور بانيبال ، .. إلخ ، وأخيراً سقط البابليون بقيادة نبوخذ نصر "بختنصر" هذه المملكة ، وسبى 40 ألفاً من اليهود إلى بابل في العراق ، وهاجر من بقي من اليهود إلى مصر.
وعلى هذا ، فإن ملك بني إسرائيل استمر في أقصى مداه الزمني حوالي أربعة قرون لكن كان الأغلب على أجزاء محدودة من أرض فلسطين ، وكانت مساحة نفوذهم على الأرض ونفوذهم السياسي تتآكل كلما مر الوقت.
رابعاً : عندما دخلت فلسطين تحت الحكم الفارسي 539 – 332 ق.م سمح الإمبراطور قورش الثاني لليهود بالعودة إلى فلسطين من سبيهم البابلي ، فرجعت أقلية منهم بينما بقيت أغلبيتهم في الأرض الجديدة (العراق) بعد أن أعجبتهم فاستقروا فيها. وسمح لليهود بنوع من الحكم الذاتي تحت الهيمنة الفارسية في منطقة القدس وبمساحة لا يتجاوز نصف قطرها 20 كيلو متراً في أي اتجاه ، أي بما لا يزيد عن 4.8% من مساحة فلسطين الحالية ؟!
وتحت الحكم الهلليني الإغريقي 332 – 63 ق.م استمر وضعهم على حاله تقريباً في عصر البطالمة (302 – 198 ق.م) غير أنهم عانوا من حكم السلوقيين (198 – 63 ق.م) الذين حاولوا فرض عبادة الآلهة اليونانية عليهم. وعندما ثار اليهود على الوضع ، سمح لهم السلوقيون بممارسة دينهم ، وتأسس لهم حكم ذاتي في القدس منذ 164 ق.م أخذ يضيق ويتسع ، وتزداد مظاهر استقلاله أو تضعف حسب صراع القوى الكبرى في ذلك الزمان على فلسطين. لكنهم ظلوا تحت نفوذ غيرهم ، ولم يتهيأ لهم الاستقلال السياسي الكامل رغم أنهم شهدوا انتعاشاً وتوسعاً تحت زعيمهم الكسندر جانيوس 103 – 76 ق.م وقد غير الرومان الذين بدأوا حكم فلسطين منذ 63 ق.م من سياستهم تجاه الحكم الذاتي اليهودي منذ السنة السادسة للميلاد ، فبدأوا حكماً مباشراً على القدس ، وباقي فلسطين.
وعندما ثار اليهود على الرومان 66 – 70م أخمد الرومان الثورة بقسوة ، ودمروا الهيكل والقدس. كما قضى الرومان على ثورة أخرى وأخيرة لليهود 132 – 135م فدمروا القدس وحرثوا موقعها ، ومنع اليهود من دخولها ، والسكن فيها ، وسمح للمسيحيين فقط بالإقامة على ألا يكونوا من أصل يهودي ، وأقام الرومان مدينة جديدة فوق خرائب أورشليم (القدس) سموها إيليا كابيتولينا ، ولذلك عرفت القدس فيما بعد باسم إيلياء ، وهو الاسم الأول للإمبراطور الروماني في ذلك الوقت هادريان. واستمر حظر دخول اليهود للقدس مائتي سنة أخرى.
خامساً : منذ القرن الثاني للميلاد وحتى القرن العشرين ، وطوال حوالي 1800سنة لم يشكل اليهود أية مجموعة بشرية أو سياسية ذات شأن في تاريخ فلسطين ، وانقطعت صلتهم بها ، سوى ما حفظوه من عواطف روحية ، لم يكن لها تأثير سوى زيارة بعضهم للقدس ، بإذن وتسامح من المسلمين.
ويدعي اليهود ارتباطهم المقدس بأرض فلسطين ، وأنهم لم يخرجوا منها إلا قسراً، وأنهم لو سمح لهم لعادوا كلهم إليها ، وهذا ينطوي على قدر هائل من المبالغة ، إذ يذكر المؤرخون أن أغلب اليهود استنكفوا عن العودة إلى فلسطين بعد أن سمح لهم الإمبراطور الفارسي قورش بذلك. كما يجمع المؤرخون أن أعداد اليهود في فلسطين لم تزد على ثلث يهود العلم قبل أن يحطم الرومان القدس على يد تيتوس في القرن الأول الميلادي. والآن وبعد أكثر من خمسين عاماً على إنشاء الكيان اليهودي لا يزال أكثر من 60% من يهود العالم يعيشون خارج فلسطين ، ويستنكفون عن الهجرة إليها ، خصوصاً من تلك المناطق التي تتمتع بأوضاع اقتصادية أفضل كالولايات المتحدة وأوروبا الغربية.
سادساً : انقسمت الإمبراطورية الرومانية إلى قسمين شرقي وغربي منذ 1395م، فتكونت الإمبراطورية الرومانية الشرقية وعاصمتها القسطنطينية ، والإمبراطورية الرومانية الغربية وعاصمتها روما ، غير أن الإمبراطورية الشرقية ، التي عرفها العرب بدولة الروم ، والتي عرفت كذلك باسم الدولة البيزنطية ، حافظت على الهيمنة على فلسطين باستثناء فترات ضئيلة حتى جاء الفتح الإسلامي.
سابعاً : فتح المسلمون فلسطين في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب بعد هزيمة الروم في أجنادين واليرموك وغيرها ، ودخلوا القدس في 15هـ / 636م. ومنذ ذلك الزمان اكتسبت فلسطين طابعها الإسلامي ، ودخل أهلها في دين الله أفواجاً ، وتعرب سكانها وتعربت لغتها بامتزاج أبنائها في ظل الحضارة الإسلامية مع القبائل العربية القادمة من الجزيرة ، وظلت متحفظة بشكل عام بطابعها الإسلامي إلى عصرنا هذا.
المفضلات