بقلم د. زينب عبد العزيزأستاذة الحضارة الفرنسية
ليسمح لي الأستاذ شريف الشوباشي -الذي أكن له كل تقدير لدماثة خلقه من تعاملاتي معه كفنانة تشكيلية- أن أوضح عدة نقاط أساسية حول كتابه الجديد، من خلال تجربتي مع ترجمة معاني القرآن الكريم بالفرنسية، ومن خلال متابعتي لموقف الغرب من الإسلام الذي أفردت له أكثر من عشرة مؤلفات..
وإن كان المثل يقول إن لكل حصان كبوة، فمن المؤسف أن نبدأ بقول إن كبوة المطالبة بسقوط سيبويه هي كبوة فادحة، أو إن شئنا الحق فإنها ضربة ناسفة لثوابت الأمة العربية ووجودها! ولا أفهم كيف لم يدرك الأستاذ شوباشي -مع اتساع ثقافته- أن الكتاب برمته يندرج تحت منظومة "اقتلاع الإسلام" التي حددوا لها هذا العقد الأول من الألفية الثالثة لإتمامها، فقد أطلقوا عليه عقد "اقتلاع الشر" الذي هو الإسلام في نظرهم.. وأن الكتاب تكرار ممجوج لمطالب المستشرقين لاقتلاع لغة القرآن، ويزخر بالعديد من التناقضات والمعلومات المبتورة التي تؤدي إلى عرض غير موضوعي للقضية التي هي هنا: حال اللغة العربية وما آلت إليه..
من المعروف أن اللغة العربية من اللغات السامية، وأنها تختلف عن اللغات اللاتينية، وأنها تنعم بمرونة فائقة وذلك لأنها تتضمن إمكانية شاسعة للاشتقاقات. والفرق بين الاصطلاح العربي وأي اصطلاح غربي يكمن في تلك الإمكانية الشاسعة للغة العربية، فالجذر عادة ما يعطي قرابة 80 اشتقاقا وأحيانا يصل إلى 220 أو أكثر! كما أن اللغة العربية تتضمن إضافة إلى ذلك سهولة كبرى في صيغ النحو ومرونة متناهية في القواعد، ترجع إلى نظام خاص لجذور الأفعال ومرونتها، وتنوع لاشتقاقات متعددة، الأمر الذي يسمح بثراء لا مثيل له في المفردات، وبرهافة موضوعية في الفوارق التي لا يمكن ترجمتها الترجمة الدقيقة إلا باللجوء إلى اشتقاق كلمات جديدة في اللغة المترجم إليها.
إن جذور اللغة العربية وهيكل الاشتقاق منها ثرية بصورة كاملة وتامة، حتى أن الجذر الواحد يشتق من مصدره: اسم المصدر والفعل بصيغه المختلفة ودلالات كل صيغة واسم الفاعل والمفعول والصفة الشبيهة.. إلى آخر ما هنالك من تصريف تجعل اللغة العربية تعلو ولا يعلو عليها.
كما يجب أن نأخذ في الاعتبار أن كل واحد من هذه الاشتقاقات يتضمن اختلافا في المعنى أو في الدرجة، وليست مجرد مزايدة في عدد المترادفات.. الأمر الذي يوضح مدى اتساع اللغة العربية ومرونتها ودقتها من جهة، وأهمية مراعاة التشكيل من جهة أخرى، حتى تكون الترجمة دقيقة ولا تخل بالمعنى. فلا يعقل أن نرمي بكل هذا الثراء اللغوي لمجرد محاكاة الغرب أو الانصياع لأوامره!
وكم كانت فجيعتي عندما صدمت بالفرق الشاسع بين اختلاف وعاء اللغتين (العربية والفرنسية)، إذ إن مميزات اللغة العربية تسمح لها بأن تكون أكثر اتساعا بعشرات المرات من اللغة الفرنسية. بل وكم كانت دهشتي عندما صدمت بأن اللغة الفرنسية كثيرا ما لا نجد بها صيغة الفعل، أو الصفة، أو أنها لا تعرف المثنى ولا المؤنث لبعض صيغ التصريف كفعل الأمر وغيرها، وكلها من أساسيات اللغة!
إن اللغة العربية تمتلك العديد من المصطلحات لتحديد الفرق الدقيق بين الحالات المختلفة التي لا مقابل لها في اللغات الأخرى خاصة الفرنسية، الأمر الذي يضع المترجم أمام ثلاثة اختيارات: ترجمة الكلمة بتركيبة تعبيرية أو بجملة تفسيرية، أو الكتابة الصوتية للكلمة، أو البحث عن اشتقاق جديد. والاشتقاق الجديد يمثل بالفعل إحدى المشكلات الكبرى في مجال الترجمة. ومن المعروف أنه لتلافي هذا النقص الشديد للمفردات في اللغة الفرنسية فإنه يتم رسميا اشتقاق حوالي ألفي مصطلح كل عام. وإن دل هذا الجهد الوطني على شيء فإنما يدل على مدى اهتمام أصحاب اللغة الفرنسية بترسيخها وزيادة مفرداتها لجعلها تواكب التقدم العلمي، وليس تقويضها بزعم تبسيطها..
ولا أخال الأستاذ شوباشي يجهل المعارك التي يقودها علماء اللغة في فرنسا للحفاظ على لغتهم وحمايتها من أي تدخلات لكلمات أجنبية، وكم يحاربون إقحام بعض العبارات التي تتسلل عبر ممارسات الحياة اليومية ومختلف وسائل الإعلام.
والفرنسية ليست "طيعة وسهلة ومباشرة" بالبساطة التي يطرحها الأستاذ شوباشي في كتابه، فالمئات -إن لم يكن الآلاف- من الكلمات الفرنسية لها أكثر من معنى أساسي واحد، إضافة إلى المعاني الناجمة عن وضعها في الجملة أو ما يلحق بها من كلمة أو كلمات، فعلى سبيل المثال: كلمة (pied) وتعنى: رجل، وقدم، ووحدة قياس (33 سم)، وأحد أوزان الشعر، ويفهم أي معنى من هذه المعاني الأساسية من سياق الجملة أو الموضوع. وإذا ما أضيفت لها كلمة أو كلمات تكون عبارة واحدة أو تركيبة لغوية فإنها تصل إلى 57 معنى مختلفا!
وكلمة (acte) تعنى: فصل من مسرحية، وعمل، وفعل، وصيغ، وتصرف، وحكم، وقرار، ومرسوم، وعقد، وكلها معان أساسية لنفس الكلمة نطقا وكتابة، بخلاف ما تعطيه من معان وفقا لما يضاف إليها من كلمات لتصل إلى 27 معنى مختلفا!
وكلمة (composition) تعنى: تركيب، وتكوين، ومزج، وخلط، وموسيقى، وموضوع إنشاء، وكلها معان أساسية بخلاف ما يضاف إليها من معان لا تفهم إلا من سياق الحديث ومن معرفة التراكيب اللغوية.
وهو ما يندرج تحت مشكلات ما يسمى بالـ (homonyme) والـ (synonyme) أي المتجانس لفظا والمترادف، فالمتجانس لفظا هنا هي الكلمة التي تحمل نفس الشكل كتابة لكلمة أخرى ولا تحمل نفس المعنى، مثال كلمة: sonتعني صوت، وsonتعني ضمير ملكية للغائب، وsonتعني نخالة القمح (الردة).. بل نفس كلمة sonبمعنى صوت تشير إلى مجال أي حقل صوتي ناجم عن موجة صوتية ما، وإلى أي ذبذبة صوتية من حيث درجة الحدة، وإلى درجة ارتفاع أو انخفاض كثافة الصوت، وإلى مجمل تقنيات التسجيل والنسخ خاصة في مجال السينما والإذاعة والتليفزيون ومنها نشأت وظيفة "مهندس الصوت"، إضافة إلى المعاني التي تكتسبها نفس الكلمة إذا ما دخلت في تركيبة لغوية مثال (tache de son) وتعني النمش والذي يقال له أيضا (tache de rousseur).. وكل هذه الاختلافات في المعنى لا تفهم إلا من سياق الكلام أو من موضع الكلمة في الجملة..
والمترادف هو الكلمة التي تتقارب في المعنى ولا تحمل نفس الشكل كتابة مثال: (rompre-casser-Briser) وتعني: يكسر.
وهناك العديد من القواميس المتخصصة فقط في كلمتي الجناس والمترادفات. ولا أبالغ إن قلت إن هناك في اللغة الفرنسية من الصعوبات اللغوية التي لا يمكن لعقل أن يستوعبها كلها لدرجة أنه توجد قواميس متعددة لهذه الصعوبات ومن أشهرها القاموس المعنون "Pièges et difficultés de la langue française"أي "فخاخ وصعوبات اللغة الفرنسية" الصادر عام 1981 عن دار بورداس، وهي من كبرى دور الموسوعات العلمية اللغوية، ويقع في تسعمائة صفحة.. وهناك العديد من المراجع المتخصصة في كيفية تفادي الأخطاء الإملائية، ولا ننسى الإشارة إلى صعوبات الشكلة أو ما يطلقون عليها الـ accentوهي علامة توضع على بعض الأحرف المتحركة في العديد من الكلمات وتغير تماما من معناها مثال كلمة pêcher وتعني صيد السمك، وpécher وتعني يأثم أو يخطئ، وكل من العلامتين ê وéتفتح الحرف في النطق مثل علامة الفتحة في اللغة العربية وإن كان التفاوت في المعنى شاسعا.. ومن الواضح أنه لولا صعوبة اللغة الفرنسية وتعقيداتها الحقيقية لما أفرد لها العلماء هذا الكم من المراجع البحثية اللغوية لمعاونة أبنائها على إجادتها وليس على مسخها أو طمس معالمها من الوجود مراضاة لأغراض غير أمينة..
كما أن اللغة الفرنسية لها لغتها العامية الدارجة "argot"، بل ولكل مهنة من المهن عاميتها ولا أقول شيئا عن عامية الطلبة في المدارس والجامعات..
وكل ذلك على سبيل المثال لا الحصر، ناهيك من صعوبة الهجاء، والأحرف التي تكتب ولا تنطق، وتصريفات الأفعال العادية والشاذة والاستثناءات..
فكل لغة من لغات العالم لها مميزاتها ومشكلاتها، ولم نر أي مسؤول في أي دولة من دول العالم يفرط في أساسيات لغته وثوابت تراثه بل ودينه مثلما يفعل هذا الكتاب!
أما من ناحية موقف الغرب المسيحي المتعصب من الإسلام، فلقد كانت اللغة العربية ولا تزال هدفا من الأهداف الأساسية لهجوم المستشرقين والمبشرين، وقد بذلوا جهودا مستميتة لإثبات صحة ما يقولونه من فريات حول اللغة العربية من قبيل اتهامها بالقصور والعجز والتعقيد، كما حاولوا محاربتها بتدعيم تعليم اللهجات المحلية أو العامية وإحلالها محل الفصحى، وتشجيع كتابة الأدب والشعر بالعامية، والحث على عمل المسابقات وإنشاء الجوائز والإسهاب في دعمها بالمقالات المؤيدة، وما أكثر الكتب التي صدرت عن هيئات أجنبية أو كنسية وغيرها لتعليم العامية وتدريس هذه اللهجات المحلية في الجامعات على نطاق لافت للنظر بهدف زعزعة الفصحى لغة القرآن الكريم.
ولا يمكن للغرب المسيحي الذي مر بتجربة مغايرة تماما مع نصوصه المقدسة التي لا تكف عن التغيير والتبديل مع كل طبعة تقريبا، ولا نذكر هنا على سبيل المثال إلا محاولات البابا يوحنا بولس الثاني "تبديل وتعديل" سبعين آية من آيات الأناجيل المعتمدة لكي يحقق وحدة الكنائس التي يجاهد من أجلها حتى "يتصدوا للمد الإسلامي" كما يقول (راجع كتاب الجغرافيا السياسية للفاتيكان).. إن مثل هذا الغرب لا يمكنه أن يدرك مدى تمسك المسلمين بالقرآن ولغته التي يتعلمون منها دينهم وتعاليم حياتهم الدنيوية والأخروية، كما أنه لا يمكن أن يدرك ذلك الإجلال الراسخ الذي يخصونه به.
ولا ندري كيف فات أو غاب عن الأستاذ شريف الشوباشي أنه في هذا الكتاب يعيد نفس مطالب المستشرقين المتعصبين، من خلال أسانيد مبتورة أو مغلوطة، ومنها: تكرار التذرع بصعوبة اللغة العربية الأمر الذي أدى إلى تهميشها على الصعيد العالمي، لكنه أغفل ذكر أن منظمة اليونسكو قد أدرجتها في النصف الثاني من القرن العشرين ضمن لغاتها الرسمية التي تتعامل بها أسوة بالإنجليزية والفرنسية؟!
والاستشهاد بأن فيكتور هيجو قد تجرأ على التغيير والتحديث، وأغفل ذكر أنه لم يمس قواعد اللغة الفرنسية وأجروميتها، فمعركة "هرناني" نقلت استلهام قواعد المسرح من قدامى اليونان والرومان إلى أرض الواقع المعاصر.
وتكرار "أن اللغة العربية عائق لتقدم العالم العربي وازدهاره"، وتناسى دور الاستعمار والاستشراق والتبشير في فرض التغريب وعمليات الغرس الثقافي..
أما الإشادة بأن الفرنسيين لا يخطئون في الهجاء، فلعله لم يطالع ما تزخر به الصحف الفرنسية الرسمية من مقالات ساخرة أيام نتائج امتحانات الثانوية العامة (الباك)، بل لعله لم يسمع عن أخطاء فولتير الإملائية الشهيرة والتي لم تكن سببا في يوم من الأيام في اتهام اللغة الفرنسية أو حتى في الانتقاص من مكانة فولتير!
والتقريظ بأن اللغة العربية "تحتل موقعا لا تحسد عليه في مجال النشر" إذ يقع ترتيبها رقم22، متناسيا أن السواد الأعظم من العالم الإسلامي والعربي يعيش فيما حول وتحت حزام الفقر بفضل الاستعمار والتحكم في الاقتصاد والثروات عن طريق البنك الدولي وصندوق النقد الدولي المفروضين على الحكومات.
وتكرار أن هبوط مستوى تعليم اللغة العربية يرجع إلى صعوبتها، متغافلا أن انحطاط مستوى التعليم بالمدارس وتدني مرتبات المدرسين وتكدس الطلبة في الفصول هو السبب الحقيقي الذي يؤدي إلى دوامة الدروس الخصوصية وتبريرها، وهو السبب الحقيقي لتدني المستوى اللغوي..
و الغريب هنا أن الأستاذ شوباشي يعلم ويشير إلى "أن السلطة الفرنسية (كدولة من دول الاستعمار) تفرض لغتها في المدارس وتحارب العربية وتسعى لتقليصها بقدر المستطاع" وإن كان في الواقع ليست السلطة الفرنسية وحدها وإنما كل السلطات الاستعمارية وأولها حاليا الولايات المتحدة الأميركية.. وذلك إضافة إلى اختلاق بعض الموضوعات والرد عليها من باب المزايدة في نقد اللغة العربية واتهاماتها.
والأمر الأكثر مرارة وألما -ولا ندري كيف لم يدركه الأستاذ شوباشي- أن نراه يردد أقوال المستشرقين من أن القرآن قد نزل لقوم بعينهم وفي زمن بعينه، وأن اللغة العربية كما ورثناها لا تلائم العصر، ويعتبر –مثلهم- أن الثبات على الأسس الواضحة والثوابت التراثية الراسخة عبارة عن "تخلف وتحجر"!..
وتكرار أن الجامعات الأميركية والغربية تقوم بتدريس اللهجات العامية لذلك علينا أن نحذو حذوهم ونساهم في اقتلاع لغتنا بأيدينا.. وأن اللغة العربية أصبحت إحدى العقبات في سبيل انطلاق العقل العربي، لذلك نراه يدعو صراحة: "لنقم نحن بثورة في اللغة العربية اليوم بدلا من أن يفرض علينا الأمر الواقع".. أس ما معناه ليكن الهدم بيدنا لا بيد عمرو كما يقول، أم ترى التعليمات قد صدرت بالفعل بذلك الهدم وأن هذا الكتاب وغيره ليس إلا من قبيل التمويه أو من باب العلم والإحاطة؟..
ولا نفهم أي معنى لإقحام فصل بأسره بعنوان " المسيحيون والعربية"؟!
هل أصبحت المسيحية والمسيحيين من المقررات المفروض حشرها في كل شيء أم ما الذي أصابنا؟!
إن ما يخرج به القارئ من محتويات هذا الفصل لا يحسب لهم بل عليهم، وبالتالي يقلل من شأنهم.. فهم "وحدهم" الذين برعوا في العلوم، وهم "وحدهم" الذين قاموا بعمليات الترجمة أيام عصر الظلومات الغربية والتي بفضلها قامت النهضة الأوروبية، وكأنه بذلك يسحب البساط من تحت أقدام علماء المسلمين ليرجع الفضل كله في النهضة الأوروبية إلى النصارى وحدهم، وهم "وحدهم" الذين أدخلوا المطابع بالحروف العربية ثم يدرج أسماء القساوسة والآباء الذين أدخلوها وأسماء الأديرة المختلفة الملل التي تنافست على طباعة كتاب المزامير والأناجيل.. والغريب هنا أن المؤلف لم يدرك أن ذلك الحماس يدخل تحت باب التبشير والتنصير!!
وهم "وحدهم" -وفقا لكتاب الأب لويس شيخو- الذين كانوا يمثلون كافة الشعراء في عصر الجاهلية قبل الإسلام، والغريب أن مارون عبود المسيحي قد انتقد ذلك القول كما يورد الشوباشي في نفس الكتاب، فلم إذن حشر هذه المعلومة غير الصادقة لمجرد الإيحاء، كما زعم الأنبا يوحنا قولتا في كتابه عن المسيحية والألف الثالثة، أن كل منطقة الجزيرة العربية وكل ما يحيط بها من بلدان حتى مصر كانوا مسيحيين؟!
وإقحام أن اللغة العربية "قد وجهت ضربة قاضية إلى كل اللغات التي كانت متداولة في المنطقة وأهمها الآرامية وهي لغة المسيح عليه السلام والقبطية وهي لغة أهل مصر قبل الفتح".. ما معنى كل ذلك الخلط التاريخي- لكي لا نقول التحريف المتعمد للتاريخ بغية الإعلاء من شان المسيحيين في المنطقة؟ فالآرامية بها ملامح كثيرة باللغة العربية، وقد انقسمت إلى ثلاث لهجات في القرن الثامن قبل الميلاد، وبعد فتوحات الإسكندر الأكبر سادت اليونانية، وإن ظلت بعض اللهجات الآرامية حتى عصر الرومان واندثرت، فليس الإسلام هو الذي اقتلعها. أما القبطية فلم تكن في أي وقت من الأوقات لغة أهل مصر بأسرها، فقد كانت هناك اللغة الرسمية للحكام اليونان والرومان ولغات الجاليات الأخرى إضافة إلى لغة السواد الأعظم من المصريين القدماء وهي الديموطيقية بعد تطور الهيروغليفية والهيراطيقية التي تلتها..
ألم يدرك الأستاذ شوباشي أن ذلك الإقحام المبالغ فيه للوجود القبطي يدخل تحت بند الدعاية المغرضة لتنصير منطقة العالم الإسلامي الدائر حاليا وإيهام مغلوط بأن المنطقة بأسرها كانت مسيحية وعليها أن تعود إلى ما كانت عليه كما يقولون ظلما ومغالطة؟!
ما معنى هذا الإقحام الممجوج أو المفتعل للوجود المسيحي في البلدان الإسلامية والعربية؟!..
إن المسيحيين في الشرق الأوسط أقلية يبلغ عددها اثني عشر مليونا، وفقا لإحصائية الفاتيكان الحريص عليهم، أقلية يعيشون وينتمون لكل بلد هم فيه ويساهمون في نهضته وتاريخه وحضارته على أنهم جزء لا يتجزأ من شعبه، فما العيب أو العار أو حتى الخطأ في ذلك؟ ما معنى فرض هذا التميز وهذه السيادة الطاغية الآن؟
لم افتعال حساسيات لا ضرورة لها إلا إشعال الحرائق التي تبرر تدخل القوات الأميركية، كما يطالب البعض.
ويا لها من كبوة يا أستاذ شوباشي، كبوة لا تقل فداحة عن المطالبة باقتلاع اللغة العربية! ولعلمك، كون المسيحيين أقلية في الشرق الأوسط فذلك لا يضيرهم ولا يمس كرامتهم في شيء.. إنهم جزء من هذه الأمة، فما الضرر في هذا الواقع؟ وما كنت أود أن أضيف: ليت الأقليات المسلمة التي تعيش في البلدان المسيحية المتعصبة تنعم بربع أو حتى بعشر ما تتمتع به الأقليات المسيحية في كل شيء! ويؤسفني أن أضيف أن هناك من البلدان الغربية المتعصبة من ترفض دفن موتى المسلمين إذا ما ماتوا على أراضيها!
إن مجرد هذا الفصل المسيحي إضافة إلى باقي المطالب -التي تعنى في نهاية المطاف اقتلاع الإسلام من جذوره، فالقرآن كما يقول المؤلف وكما تقول كافة المراجع الغربية التي تتناول هذا الموضوع هو الذي سمح باستمرار اللغة العربية حتى القرن الواحد والعشرين، وبالتالي فإن اقتلاع اللغة العربية سيؤدي حتما إلى اقتلاع القرآن.. فهل ذلك هو حقيقة ما يسعى إليه الأستاذ شوباشي، رغم التأكيدات المتناقضة المتناثرة بطول الكتاب وعرضه بأنه لا يقصد المساس بالقرآن؟!
وهنا لا يسعنا إلا أن نسأل: هل فكر سيادته فيما سيكون عليه الحال بعد أن يتم تنفيذ مقترحاته من اختلاق لغة عربية قائمة على لهجات عامية متعددة وحذف التشكيل وإلغاء المثنى ونون النسوة وقواعد الأرقام وما إلى ذلك من مقترحات ناسفة للغة العربية، هل سيكون هناك من يمكنه قراءة القرآن وفهمه بعد جيل أو اثنين؟!
إذا ما أخذنا في الاعتبار المناخ العام الحالي، الذي لم يعد بوسع إنسان أن ينكره أو حتى أن يغفله، وكل ما يدور من محاولات لاقتلاع الإسلام وتنصير العالم، لأدركنا فداحة هذا الكتاب.. ويكفي أن نعلم أنه في 4 فبراير 2001 قرر مجلس الكنائس العالمي تحديد هذا العقد (2001-2010) لاقتلاع العنف والشر الذي هو الإسلام، كما يطلقون عليه، ثم قامت اللجنة المركزية لذلك المجلس بإسناد هذه المهمة للولايات المتحدة الأميركية للقيام بها لما تتمتع به من قوة عسكرية متفردة بعد أن أطاحت بالاتحاد السوفيتي، كما أن مجلس الكنائس العالمي يعد لإقامة أكبر مؤتمر دولي في التاريخ تحضره كافة الكنائس المنشقة، وهى أكثر من ثلاثمائة كنيسة وملة، لإقامة أكبر مؤتمر دولي في التاريخ للتبشير والتنصير، في الفترة من 9-16 مايو2005 في ضواحي أثينا باليونان..
وإذا ما أضفنا إلى ذلك كل ما تم فرضه على العالم الإسلامي من إجراءات لتجفيف الإسلام من المنبع كما يقولون، ومنها منع تدريس القرآن في المدارس وتغيير المناهج وإدخال مواد حرفية في المعاهد الأزهرية وعدم بناء مساجد جديدة وهدم ما شيد منها قبل أن تتم إجراءات الترخيص وتحويل غيرها لاستخدامها في أغراض أخرى وتحديث الخطاب الديني بما يتفق وهذه المطالب الظالمة المهينة وكل تلك الإجراءات المشينة لنا ولكرامتنا كمسلمين، لكي لا نقول شيئا عن تلك المؤتمرات والندوات والمقالات التي تندرج تحت نفس المنظومة المتواطئة مع الغرب لأدركنا فداحة ما نحن فيه..
وهنا لا يسعني إلا أن أضيف للأستاذ شريف الشوباشي، وكيل أول وزارة الثقافة ورئيس اللجنة الثقافية بوزارة الخارجية، كان من الأكرم بدلا من تسفيه اللغة العربية واتخاذ ذلك التسفيه حجة لاقتلاعها، أن تكرس كل هذا الجهد المنبت لتدعيم ورفع مستوى اللغة العربية واقتراح رفع مرتبات المدرسين (والميزانية تسمح فهناك من موظفي الدولة من يتقاضون مئات الآلاف من الجنيهات كراتب شهري) وعمل دورة تدريبية للمذيعين والمذيعات وفرض عدم إقحام كلمات أجنبية على أسماء البرامج والإعلانات من قبيل "ويك إند" و "توب تن" أو "مودرن أكادمي" وعلى لافتات المحال العامة، وذلك على سبيل المثال لا الحصر، لعدم السقوط في المستنقع الآسن لخيانة اللغة والدين فارتباطهما لا انفصام فيه..
إن كل ما أتى به هذا الكتاب وما يطالب به يعد -كما تقول في مكان ما به- "بدعة مكروهة ومحاولة شيطانية لتقليد الغرب واقتلاع الدين والثقافة العربية الأصيلة". وما كنت أتصور أن يقبل الأستاذ شوباشي، الذي نكن له جميعا كل تقدير، بأن يكون من يقوم أو ممن يقومون بتنفيذ مطلب القس زويمر، كبير المستشرقين الذي قال من ضمن ما قاله من مطالب في مطلع القرن العشرين: "لن يقطع شجرة الإسلام إلا أيد مسلمة من الداخل"..
عار علينا، وأي عار..;f,m " sdf,di"!
المفضلات